الدعاء

اللهم فكما ألهمت بإنشائه وأعنت على إنهائه فاجعله نافعاً في الدنيا وذخيرة صالحة في الأخرى واختم بالسعادة آجالنا وحقق بالزيادة آمالنا واقرن بالعافية غدونا وآصالنا واجعل إلى حصنك مصيرنا ومآلنا وتقبل بفضلك أعمالنا إنك مجيب الدعوات ومفيض الخيرات والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين اللهم لنا جميعا يا رب العالمين .وسبحان الله وبحمده  عدد خلقه وزنة عرشه  ورضا نفسه ومداد كلماته  } أقولها ما حييت وبعد موتي  والي يوم الحساب وارحم  واغفر اللهم لوالديَّ ومن مات من اخوتي واهلي والمؤمنين منذ خَلَقْتَ الخلق الي يوم الحساب آمين وفرِّجِ كربي وردَّ اليَّ عافيتي وارضي عني في الدارين  واعِنِّي علي أن اُنْفِقها في سبيلك يا ربي اللهم فرِّج كربي واكفني همي واكشف البأساء والضراء عني وعنا.. وردَّ إليَّ عافيتي وثبتني علي دينك الحق ولا تُزِغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب اللهم وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وتوفنا مع الأبرار وألِّفْ بين قلوبنا اجمعين.يا عزيز يا غفار ... اللهم واشفني شفاءاً لا يُغَادر سقما واعفو عني وعافني وارحمني وفرج كربي واكفني همي واعتقني مما أصابني من مكروه أنت تعلمه واعتقني من النار وقني عذاب القبر وعذاب جهنم وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال ومن المأثم والمغرم ومن غلبة الدين وقهر الرجال اللهم آمين /اللهم ربي اشرح لي صدري ويسر لي أمري وأحلل عُقَد لساني واغنني بك عمن سواك يارب . والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين آمين.

الأحد، 28 أغسطس 2022

ج1.وج2.الاستذكار أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري

 

ج1.الاستذكار أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما قال أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري رحمة الله عليه الحمد لله رب العالمين الذي لا يبلغ وصف صفاته الواصفون ولا يدرك كنه عظمته المتفكرون ويقر بالعجز عن مبلغ قدرته المعتبرون الذي أحصى كل شي عددا وعلما ولا يحيط خلقه بشيء من علمه إلا بما شاء خضعت له الرقاب وتضعضعت له الصعاب أمره في كل ما أراد ماض وهو بكل ما شاء حاكم قاض إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون يقضي بالحق وهو خير الفاصلين ذو الرحمة والطول وذو القوة والحول الواحد الفرد له الملك وله الحمد ليس له ند ولا ضد ولا له شريك ولا شبيه جل عن التمثيل والتشبيه لا إله إلا هو إليه المصير أحمده كثيرا عدد خلقه وكلماته وملء أرضه وسمواته وأسأله الصلاة على نبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله أجمعين وعلى جميع النبيين والمرسلين وسلم تسليما أما بعد فإن جماعة من أهل العلم وطلبه والعناية به من إخواننا نفعهم الله وإيانا بما علمنا سألونا في مواطن كثيرة مشافهة ومنهم من سألني ذلك من آفاق نائية مكاتبا أن أصرف لهم كتاب التمهيد على أبواب الموطإ ونسقه وأحذف لهم منه تكرار شواهده وطرقه وأصل لهم شرح المسند والمرسل اللذين قصدت إلى شرحهما خاصة في التمهيد بشرح جميع ما في الموطأ من أقاويل الصحابة والتابعين وما لمالك فيه من قوله الذي بنى عليه مذهبه واختاره من أقاويل سلف أهل بلده الذي هم الحجة عنده على من خالفهم وأذكر على كل قول رسمه وذكره فيه ما لسائر فقهاء الأمصار من التنازع في معانيه حتى يتم شرح كتابه الموطإ مستوعبا مستقصى بعون الله إن شاء الله على شرط الإيجاز والاختصار وطرح ما في

الشواهد من التكرار إذ ذلك كله ممهد مبسوط في كتاب التمهيد والحمد لله وأقتصر في هذا الكتاب من الحجة والشاهد على فقر دالة وعيون مبينة ونكت كافية ليكون أقرب إلى حفظ الحافظ وفهم المطالع إن شاء الله وأما أسماء الرجال فقد أفردنا للصحابة رضوان الله عليهم كتابا موعبا وكل من جرى ذكره في مسند الموطإ أو مرسله فقد وقع التعريف به أيضا في التمهيد وما كان من غيرهم فيأتي التعريف بأحوالهم في هذا الكتاب إن شاء الله وإلى الله أرغب في حسن العون على ذلك وعلى كل ما يرضاه من قول وعمل صالح وأضرع إليه في السلامة من الزلل والخطل وأن يجعلني ممن يريد بقوله وفعله كله وجه ورضاه فهو حسبنا فيما أملناه لا شريك له حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن بن يحيى قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن عمر القاضي المالكي ببغداد قال حدثنا عبد الواحد بن العباس الهاشمي قال حدثنا عياش بن عبد الله الرقي قال قال عبد الرحمن بن مهدي ما كتاب بعد كتاب الله أنفع للناس من موطإ مالك بن أنس حدثنا علي بن إبراهيم بن حمويه الشيرازي حدثنا شبابة قال حدثنا الحسن بن رشيق قال حدثنا أحمد بن علي بن الحسن المدني قال حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح قال سمعت هارون بن سعيد الأيلي يقول سمعت الشافعي يقول ما كتاب بعد كتاب الله أنفع من كتاب مالك بن أنس حدثنا عبد الله بن محمد بن يوسف قال حدثنا يحيى بن مالك قال حدثنا محمد بن سليمان بن الشريف قال حدثنا إبراهيم بن إسماعيل قال حدثنا يوسف بن عبد الأعلى قال الشافعي ما في الأرض بعد كتاب الله أكثر صوابا من موطإ مالك بن أنس حدثنا عبد الله بن محمد القاضي قال حدثنا محمد بن أحمد قال حدثنا علي بن الحسن القطان قال حدثنا عبد الله بن محمد القروي قال سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول سمعت الشافعي يقول ما رأيت كتابا ألف في العلم أكثر صوابا من موطإ مالك حدثنا عبد الله بن محمد القاضي حدثنا القاسم بن علي حدثنا إبراهيم بن الحسن السيرافي حدثنا يحيى بن صالح قال سمعت أبي يقول قال بن هب من كتب كتاب الموطإ لمالك فلا عليه ألا يكتب من الحلال والحرام شيئا حدثنا عبد الله بن محمد القاضي حدثنا القاسم بن علي حدثنا إبراهيم بن الحسن قال سمعت يحيى بن عثمان يقول سمعت بن أبي مريم يقول وهو

يقرأ عليه موطأ مالك وكان ابنا أخيه قد رحلا إلى العراق في طلب العلم فقال لو أن ابني أخي مكثا بالعراق عمرهما يكتبان ليلا ونهارا ما أتيا بعلم يشبه موطأ مالك ولا أتيا بسنة مجمع عليها خلاف موطإ مالك حدثنا عبد الله بن محمد القاضي حدثنا إبراهيم بن حماد بن إسحاق قال حدثنا أبو طاهر قال حدثنا صفوان عن عمر بن عبد الواحد صاحب الأوزاعي قال عرضنا على مالك الموطأ إلى أربعين يوما فقال كتاب ألفته في أربعين سنة أخذتموه في أربعين يوما قلما تتفقهون فيه ولم أذكر في كتابي هذا شيئا من معاني النقل وغوائله وعلم طرقه وعلله ولا من فضائل مالك رحمه الله وأخباره إذ ذاك كله مذكور بأتم ذكر وأكمله في كتاب التمهيد والحمد لله وقصدت من روايات الموطإ في كتابي إلى رواية يحيى بن يحيى الأندلسي فجعلت رسوم كتابي هذا على رسوم كتابه ونسق أبوابه للعلة التي ذكرناها في التمهيد على أنه سينظم بهذه الرواية كثير من اختلاف الرواية عن مالك في موطئه على حسب ما يقود إليه القول في ذلك بحول الله وأما الإسناد الذي بيني وبين مالك في رواية يحيى بن يحيى فإن أبا عثمان سعيد بن نصر حدثنا بجميع الموطإ قراءة منه علينا من أصل كتابه قال حدثنا أبو محمد قاسم بن أصبغ وهب بن مسرة قالا حدثنا بن وضاح قال قال حدثنا يحيى بن يحيى عن مالك وحدثنا به أيضا به أبو الفضل أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن البزار قراءة مني عليه عن وهب بن مسرة وبن أبي دليم عن بن وضاح عن يحيى عن مالك وحدثنا به أيضا أبو عمر أحمد بن محمد بن أحمد عن أبي عمر أحمد بن مطرف بن عبد الرحمن وأحمد بن سعيد بن حزم عن عبيد الله بن يحيى عن أبيه يحيى عن مالك وعن وهب بن مسرة أيضا عن بن وضاح عن يحيى عن مالك وأما رواية بن بكير عن مالك فقرأتها على أبي عمر أحمد بن محمد بن أخي عبد الله بن محمد بن عيسى بن رفاعة عن يحيى بن أيوب بن باب حدثنا العلاف عن بن بكير عن مالك وقرأتها أيضا على أبي عمر أحمد بن محمد وأبي القاسم عبد الوارث بن سفيان جميعا عن قاسم بن أصبغ عن مطرف بن عبد الرحمن بن قيس عن يحيى بن عبد الله بن بكير عن مالك وأخبرني بها أيضا أبو القاسم خالد بن سهل الحافظ عن أبي محمد

الحسن بن رشيق عن أحمد بن محمد المؤدب والحسن بن محمد جميعا عن بن بكير وأما رواية بن القاسم للموطإ عن مالك فقرأتها على أبي القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الهمداني عن أبي العباس تميم بن محمد بن تميم عن عيسى بن مسكين عن سحنون بن سعيد عن عبد الرحمن بن القاسم عن مالك وأما رواية القعنبي عبد الله بن مسلمة فقرأتها على أبي محمد عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أسد عن أبي بكر أحمد بن محمد المكي عن علي بن عبد العزيز عن القعنبي عن مالك وعن بكر بن العلاء القاضي القشيري عن أحمد بن موسى النسائي عن القعنبي عن مالك وأما رواية مطرف بن عبد الله الساري عن مالك فحدثني بها أبو عمر أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي قال حدثنا أبي قال حدثنا محمد بن عمر بن لبابة قال حدثنا يحيى بن إبراهيم بن مرين قال حدثنا مطرف عن مالك

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه كتاب وقوت الصلاة باب وقوت الصلاة مالك عن بن شهاب أن عمر بن عبد العزيز أخر الصلاة يوما فدخل عليه عروة بن الزبير فأخبره أن المغيرة بن شعبة أخر الصلاة يوما وهو بالكوفة فدخل عليه أبو مسعود الأنصاري فقال ما هذا يا مغيرة أليس قد علمت أن جبريل نزل فصلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال بهذا أمرت فقال عمر بن عبد العزيز اعلم ما تحدث به يا عروة أو إن جبريل هو الذي أقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقت الصلاة قال عروة كذلك كان بشير بن أبي مسعود الأنصاري يحدث عن أبيه قال عروة ولقد حدثتني عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان

يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن تظهر قال أبو عمر هذا الحديث متصل صحيح مسند عند جماعة أهل العلم بالنقل وقد ذكرنا في كتاب التمهيد أن أن في هذا الموضع كعن وأن السند المعنعن محمول على الاتصال حتى يبين الانقطاع وقد بان في هذا الحديث اتصاله لمجالسة بعض رواته بعضا وقد ذكرنا مشاهدة بن شهاب للقصة عند عمر بن عبد العزيز مع عروة بن الزبير في هذا الحديث من أصحاب بن شهاب معمر بن راشد والليث بن سعد وسفيان بن عيينة وشعيب بن أبي حمزة وبن جريج وقد ذكرنا أحاديثهم ورواياتهم عن بن شهاب كما وصفت لك في كتاب التمهيد وفي روايتهم عن بن شهاب أن الصلاة التي أخرها عمر بن عبد العزيز هي صلاة العصر وأن الصلاة التي أخرها المغيرة هي تلك أيضا وليس في روايتهم لهذا الحديث أكثر من أن جبريل صلى برسول الله صلى الله عليه وسلم خمس صلوات في أوقاتهن على ما في ظاهر حديث مالك أيضا وليس في شيء من رواية هؤلاء عن بن شهاب ما يدل أن جبريل صلى برسول الله مرتين كل صلاة في وقتين فتكون عشر صلوات كما في سائر الآثار المروية في إمامة جبريل وفي حديث معمر وبن جريج عن بن شهاب في الحديث أن الناس صلوا خلف رسول الله حين صلى به جبريل

وقد روي ذلك من غير حديث بن شهاب من وجوه وأما بن أبي ذئب ففي روايته لهذا الحديث عن بن شهاب بإسناده أنه صلى به مرتين في يومين على مثل ما ذكر عن بن شهاب أنه سمع عروة بن الزبير يحدث عمر بن عبد العزيز وقد ذكرت هناك الاختلاف في وقت الإسراء وكيف كان فرض الصلاة حينئذ ولم تختلف الآثار ولا اختلف أهل العلم بالخبر والسير أن الصلاة إنما فرضت على النبي عليه السلام بمكة حين أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم عرج به إلى السماء ثم أتاه جبريل من الغد فصلى به الصلوات لأوقاتها إلا أنهم اختلفوا في هيئتها حين فرضت فروي عن عائشة أنها فرضت ركعتين ركعتين ثم زيد في صلاة الحضر فأكملت أربعا ومن رواة حديثنا هذا من يقول زيد فيها بالمدينة وأقرت صلاة السفر على ركعتين وبذلك قال الشعبي والحسن البصري في رواية وميمون بن مهران ومحمد بن إسحاق وروي عن بن عباس أنها فرضت في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وقال نافع بن جبير بن مطعم وكان أحد علماء قريش بالنسب وأيام العرب والفقه وهو راوية من رواة بن عباس وهو يروي عنه إمامة جبريل بالنبي عليه

السلام أن الصلاة فرضت في أول ما فرضت أربعا إلا المغرب فإنها فرضت ثلاثا والصبح ركعتين وكذلك قال الحسن البصري في رواية وهو قول بن جريج وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أنس بن مالك القشيري ما يدل على ذلك وهو قوله إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة ووضع لا يكون إلا من تمام قبله وفي حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عمر بن الخطاب قال فرضت الصلاة في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وقد ذكرنا هذا الخبر في باب قصر الصلاة وذكرنا علة إسناده وهو حديث حسن فدل هذا كله على أن القصر كان من أربع إلى اثنتين وعلى أن الأصل كان أربعا لا ركعتين والله أعلم فإن قيل إن حديث عائشة صحيح من جهة النقل وهو أصح إسنادا من حديث القشيري وغيره وأصح من حديث بن عباس فالجواب أنا لا حاجة بنا إلى أصل الفرض إلا من طريق القصر ولا وجه لقول من قال إن حديث عائشة يعارضه قول الله تعالى وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلواة النساء وقد أجمع العلماء أنه لا يكون القصر من ركعتين في شيء من السفر في الأمن لأن حديث عائشة قد أوضح أن الصلاة زيد فيها في الحضر ومعلوم أن الفرض فيها كان بمكة والزيادة كانت بالمدينة وأن سورة النساء متأخرة فلم يكن القصر مباحا إلا بعد تمام الفرض وذلك يعود إلى معنى واحد في أن القصر إنما ورد بعد تمام الصلاة أربعا ولا حاجة إلى أصل الفرض اليوم لأن الإجماع منعقد بأن صلاة الحضر تامة غير مقصورة وبالله التوفيق وقد أوضحنا هذا المعنى في حديث مالك عن صالح بن كيسان في باب قصر

الصلاة من هذا الكتاب والحمد لله وقد مضى في التمهيد أيضا اختلافهم فيما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستقبل في صلاته وهو بمكة وذلك على قولين عن السلف مرويين أحدهما أنه كان يستقبل بمكة الكعبة لصلاته على ما كانت عليه صلاة إبراهيم وإسماعيل فلما قدم المدينة استقبل بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ثم وجهه الله إلى الكعبة وهذا أصح القولين عندي لما حدثناه سعيد بن نصر وأحمد بن قاسم وعبد الوارث بن سفيان قالوا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال حدثنا عبد الله بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن بن عباس قال كان أول ما نسخ الله من القرآن القبلة وذلك أن النبي عليه السلام لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله بضعة عشر شهرا وكان عليه السلام يحب قبلة إبراهيم وكان يدعو الله وينظر إليها فأنزل الله قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها إلى قوله فولوا وجوهكم شطره البقرة يعني نحوه فارتاب من ذلك اليهود وقالوا ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها فأنزل الله تعالى قل لله المشرق والمغرب البقرة وقال فأينما تولوا فثم وجه الله البقرة وقال تعالى وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه البقرة قال بن عباس ليميز أهل اليقين من أهل الشك والريبة وقال تعالى وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله البقرة يعني تحويلها على أهل الشك لا على الخاشعين يعني المصدقين بما أنزل الله وحدثنا عبد الرحمن بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا أحمد بن سليمان

الحداد ببغداد قال حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث قال حدثنا أحمد بن محمد قال حدثنا آدم بن أبي إياس قال حدثنا جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله عز وجل وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم البقرة يعلمون أن الكعبة المسجد الحرام كانت قبلة إبراهيم والأنبياء عليهم السلام ولكنهم تركوها عمدا وقوله وإن فريقا منهم ليكتمون الحق البقرة يكتمون صفة محمد عليه السلام ويكتمون أن الكعبة البيت الحرام ثم قال لنبيه عليه السلام فلا تكونن من الممترين البقرة يقول لا تكن في شك يا محمد أن الكعبة قبلتك وكانت قبلة الأنبياء قبلك وبهذا الإسناد عن أبي العالية أن موسى عليه السلام كان يصلي عند الصخرة ويستقبل البيت الحرام وكانت الكعبة قبلته وكانت الصخرة بين يديه فقال اليهود بي بيننا وبينك مسجد صالح النبي عليه السلام فقال له أبو العالية فإني صليت في مسجد صالح وقبلته الكعبة قال الربيع وأخبرني أبو العالية أنه رأى مسجد ذي القرنين وقبلته الكعبة ولم يختلفوا في أنه استقبل في حين قدومه المدينة بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا وقد ذكرنا اختلافهم في تاريخ صرف القبلة هناك أيضا ويأتي ذلك مجودا في موضعه في هذا الكتاب عند قول سعيد بن المسيب وصرفت القبلة قبل بدر بشهرين إن شاء الله حدثنا عبد الله بن محمد بن يوسف قال حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى قال حدثنا أحمد بن زياد الأعرابي قال حدثنا أحمد بن عبد الله العطاردي قال حدثنا يونس بن بكير عن بن إسحاق قال ثم إن جبريل أتى النبي عليه السلام حين افترضت الصلاة عليه فهمز له بعقبه في ناحية الوادي فانفجرت له عين ماء فتوضأ جبريل ومحمد ينظر فوضأ وجهه واستنشق ومضمض ومسح برأسه وأذنيه وغسل يديه إلى المرفقين ورجليه إلى الكعبين ونضح فرجه ثم قام فصلى ركعتين وأربع سجدات

وهذا إنما أخذه بن إسحاق والله أعلم من حديث زيد بن حارثة وهو حديث حدثناه أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا الحسن بن موسى قال حدثنا عبد الله بن لهيعة قال حدثنا عقيل بن خالد عن بن شهاب عن عروة عن أسامة بن زيد عن أبيه زيد بن حارثة أن النبي عليه السلام في أول ما أوحي إليه أتاه جبريل فعلمه الوضوء فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من ماء فنضح بها فرجه ومعنى قوله في أول ما أوحي إليه أي أوحي إليه في الصلاة وهذا يدل على أنه لم يصل صلاة قط بغير طهور ولهذا قال مالك في حديثه عن عبد الرحمن بن القاسم حديث عقد عائشة حين فقدوا الشمس وهم على غير ماء فنزلت آية التيمم ولم يقل فنزلت آية الوضوء وآية الوضوء وإن كانت مدنية فإنما كان سبب نزولها التيمم وسنوضح هذا المعنى في موضعه في هذا الكتاب إن شاء الله ويدل على صحة قول من قال فنزلت آية التيمم ولم يقل نزلت آية الوضوء فرارا من أن تكون صلاته عليه السلام بغير وضوء مع حديث زيد بن حارثة وهو معنى قول بن إسحاق مع ما ثبت عنه عليه السلام من نقل الآحاد العدول في ذلك قوله لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول حدثنا أبو زكريا يحيى بن محمد بن يوسف قال حدثنا أبو يعقوب يوسف بن أحمد بن يوسف بمكة قال حدثنا أبو ذر محمد بن إبراهيم الترمذي قال حدثنا أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي قال حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا أبو عوانة عن سماك بن حرب عن مصعب بن سعد عن عبد الله بن عمر عن النبي عليه السلام قال لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول وذكرنا في التمهيد كيف كان وجه تأخير بني أمية للصلاة وذكرنا الخبر بذلك مسندا وغير مسند من وجوه شتى ونذكر ها هنا طرفا من ذلك بعون الله تعالى

حدثنا خلف بن قاسم الحافظ قال حدثنا عبد الرحمن بن عمر بن راشد بدمشق قال حدثنا أبو زرعة الدمشقي قال حدثنا أبو مسهر قال حدثنا سعيد بن عبد العزيز قال كانوا يؤخرون الصلاة في أيام الوليد بن عبد الملك ويستحلفون الناس أنهم ما صلوا فأتي عبد الله بن أبي زكريا فاستحلف أنه ما صلى فحلف ما صلى وقد كان صلى وأتى مكحول فقيل له فقال فلم جئنا إذا فذكر سنيد حدثنا أبو معاوية عن محمد بن إسماعيل قال رأيت سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وأخر الوليد بن عبد الملك الصلاة فرأيتهما يومئان في وقت الصلاة ثم جلسنا حتى صليا معه وذكر بن أبي شيبة حدثنا حميد بن عبد الرحمن عن حسن بن صالح عن إبراهيم بن مهاجر قال كان الحجاج يؤخر الجمعة فكنت أصلي أنا وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير الظهر ثم نتحدث وهو يخطب ثم نصلي ونجعلها نافلة قال وحدثنا محمد بن عبيد عن الزبرقان قال قلت لشقيق إن الحجاج يميت الجمعة قال تكتم علي قلت نعم قال صلها في بيتك لوقتها ولا تدع الجماعة قال وحدثنا إسماعيل بن عتبة عن بن عون عن محمد بن سيرين قال أطال بعض الأمراء الخطبة فنكأت يدي حتى أدميتها ثم قمت وخرجت وأخذتني السياط فمضيت وقد ذكرنا في التمهيد أن الوليد بن عقبة وزيادا وغيرهما أخروها قبل حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا إسماعيل بن إسحاق وأحمد بن زهير قالا حدثنا الوليد الطيالسي قال حدثنا أبو هاشم الزعفراني عمار بن عمارة قال حدثني صالح بن عبيد عن قبيصة بن وقاص قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون عليكم أمراء من بعدي يؤخرون الصلاة فهي لكم وهي عليهم فصلوا معهم ما صلوا إلى القبلة حدثنا أحمد بن محمد قال حدثنا أحمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جرير قال حدثنا محمد بن سعيد قال حدثنا محمد بن عمر قال حدثنا بن أبي سبرة عن المنذر بن عبد قال ولى عمر بن عبد العزيز بعد صلاة الجمعة فأنكرت حاله في العصر

وقد أوضحنا جهل عمر بن عبد العزيز والمغيرة بن شعبة لنزول جبريل بمواقيت الصلاة في كتاب التمهيد وأنهما إنما جهلا من ذلك نزول جبريل بفرض أوقات الصلوات وكانوا يعتقدون ذلك من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن القرآن ليس فيه آية مفصحة بذلك ترفع الإشكال ولو كانت فيه آية تتلى ما جهلها عمر بن عبد العزيز ولا مثله من العلماء وقد جاز على كثير منهم جهل كثير من السنن الواردة على ألسنة خاصة العلماء ولا أعلم أحدا من الصحابة إلا وقد شذ عنه بين علم الخاصة واردة بنقل الآحاد أشياء حفظها غيره وذلك على من بعدهم أجوز والإحاطة ممتنعة على كل أحد وفي هذا الحديث دليل على أن وقت الصلاة من فرائضها وأنها لا تجزئ قبل وقتها وهذا لا خلاف فيه بين العلماء إلا شيء روي عن أبي موسى الأشعري وعن بعض التابعين وقد انعقد الإجماع على خلافه فلم نر لذكره وجها لأنه لا يصح عندي عنهم وقد صح عن أبي موسى خلافه بما يوافق الجماعة فصار اتفاقا صحيحا والوقت أول فرائض الصلاة لأنه لا يلزم الوضوء لها إلا بعد دخول وقتها والمتوضئ قبل الوقت متبرع مبادر إلى فضل ومتأهب لفرض ومن الدليل أيضا على أن الأوقات أيضا من فرائض الصلوات مع ما ذكرنا من حديث الباب والإجماع قول الله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرءان الفجر إن قرءان الفجر كان مشهودا الإسراء قال مالك أوقات الصلاة في كتاب الله قوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس يعني الظهر والعصر إلى غسق الليل يعني المغرب والعشاء وقرءان الفجر يعني صلاة الفجر وقد قال ذلك قبله جماعة من العلماء بتأويل القرآن منهم بن عباس ومجاهد وعكرمة وغيرهم وروي عن بن عباس أيضا وطائفة أنهم قالوا أوقات الصلوات في كتاب الله تعالى قوله فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون الروم ف حين تمسون المغرب والعشاء وحين تصبحون الصبح وعشيا الروم العصر وحين تظهرون الظهر ثم قال ومن بعد صلاة العشاء النور وهذا كله قد جاء عن السلف وليس فيه ما يقطع به ولا يعتمد عليه لأن التسبيح إذا أطلق عليه فإنما يراد به الذكر قول سبحان الله وهي كلمة تنزيه الله تبارك اسمه عن كل ما نزه عنه نفسه

وكذلك ظاهر قوله أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل الإسراء لو تركنا وظاهر هذا القول لوجبت الصلاة من الزوال عند من جعل دلوكها زوالها إلى غسق الليل فليس في محكم القرآن في أوقات الصلوات شيء واضح يعتمد عليه وأصبح ذلك نزول جبريل عليه السلام بأوقات الصلوات مفسرة وهي في الكتاب مجملة وكذلك الصلاة والزكاة مجملات أوضحها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينها كما أمره الله بقوله وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم النمل فبينها عليه السلام بالقول والعمل فمن بيانه عليه السلام ما نقله الآحاد العدول ومنها ما أجمع عليه السلف والخلف فقطع العذر ومنها ما اختلفوا فيه ونحن ذاكرون ما وصل إلينا علمه من إجماعهم في مواقيت الصلاة وما اختلفوا فيه من ذلك بعون الله لا شريك له أجمع علماء المسلمين أن أول وقت صلاة الظهر زوال الشمس عن كبد السماء ووسط القبلة إذا استوقن ذلك في الأرض بالتفقد والتأمل وذلك ابتداء زيادة الظل بعد تناهي نقصانه في الشتاء والصيف وإن كان الظل مخالفا في الصيف له في الشتاء فإذا تبين زوال الشمس بما ذكرنا أو بغيره فقد دخل وقت الظهر هذا ما لم يختلف فيه العلماء أن زوال الشمس وقت الظهر وذلك تفسير لقوله تعالى أقم الصلوات لدلوك الشمس الإسراء ودلوكها ميلها عند أكثر أهل العلم ومنهم من قال دلوكها غروبها واللغة محتملة للقولين والأول أكثر وكان مالك يستحب لمساجد الجماعات أن يؤخروها بعد الزوال حتى يكون الفيء ذراعا على ما كتب به عمر إلى عماله وذلك عند مالك فيما روى عنه بن القاسم صيفا وشتاء وروى غيره عن مالك أن أحب الأمر إليه في أوقات الصلوات البدار إليها في أوائل أوقاتها إلا الظهر في شدة الحر فإنه يبرد بها قال أبو الفرج قال مالك أول الوقت أفضل في كل صلاة إلا الظهر في شدة الحر

وفي كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري أن صل الظهر إذا زاغت الشمس وسنبين معنى الحديثين عن عمر بعد إن شاء الله واختلفوا في آخر وقت الظهر فقال مالك وأصحابه آخر وقت الظهر إذا كان ظل كل شيء مثله بعد الغدو الذي زالت عليه الشمس وهو أول وقت العصر وبذلك قال بن المبارك وجماعة واستحب مالك لمساجد الجماعات أن يؤخروا العصر بعد هذا المقدار قليلا وهذا كله آخر الوقت المختار وكذلك هو ما دامت الشمس بيضاء نقية لأهل الرفاهية وأما أهل الضرورات ومن لهم الاشتراك في الأوقات فسيأتي ذكر حكمهم في موضعه إن شاء الله وفي الأحاديث الواردة بإمامة جبريل ما يوضح لك أن آخر وقت الظهر هو أول وقت العصر لأنه صلى بالنبي عليهما السلام الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى فيه العصر بالأمس وقال الشافعي وأبو ثور وداود آخر وقت الظهر إذا كان ظل كل شيء مثله إلا أن بين آخر وقت الظهر وأول وقت العصر فاصلة وهي أن يزيد الظل أدنى زيادة على المثل وحجتهم حديث أبي قتادة عن النبي عليه السلام أنه قال ليس التفريط في النوم إنما التفريط في اليقظة على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى وهذا عندهم فيما عدا الصبح للإجماع في الصبح أنها يخرج وقتها بطلوع الشمس فإن لم يدخل وقت الأخرى فلا ومن حجتهم أيضا حديث عبد الله بن عمرو عن النبي عليه السلام أنه قال وقت الظهر ما لم يدخل وقت العصر

وقد ذكرنا حديث أبي قتادة وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص من طرق في كتاب التمهيد وقال الثوري والحسن بن صالح وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ومحمد بن جرير الطبري آخر وقت الظهر إذا كان ظل كل شيء مثله ثم يدخل وقت العصر ولم يذكروا فاصلة إلا أن قولهم ثم يدخل وقت العصر يقتضي الفاصلة وقال أبو حنيفة آخر وقت الظهر إذا كان ظل كل شيء مثليه فخالف الآثار والناس لقوله بالمثلين في آخر وقت الظهر وخالفه أصحابه في ذلك وذكر الطحاوي رواية أخرى عن أبي حنيفة أنه قال آخر وقت الظهر حين يصير ظل كل شيء مثله مثل قول الجماعة ولا يدخل وقت العصر حتى يصير ظل كل شيء مثليه فترك بين الظهر والعصر وقتا مفردا لا يصلح لأحدهما وهذا لم يتابع عليه أيضا وأما أول وقت العصر فقد تبين من قول مالك ما ذكرنا فيه ومن قول الشافعي ومن تابعه على ما وصفناه ومن قول سائر العلماء أيضا في مراعاة الميل من الظل ما قد بيناه وهو كله معنى متقارب وقال أبو حنيفة أول وقت العصر من حين يصير الظل مثلين وهذا خلاف الآثار وخلاف الجمهور وهو قول عند الفقهاء من أصحابه وغيرهم مهجور واختلفوا في آخر وقت العصر فقال مالك آخر وقت العصر أن يكون ظل كل شي مثليه بعد القدر الذي زالت الشمس عليه وهذا عندنا محمول من قوله على الاختيار وما دامت الشمس بيضاء نقية فهو وقت مختار أيضا لصلاة العصر عنده وعند سائر العلماء وأجمع العلماء أن من صلى العصر والشمس بيضاء نقية لم تدخلها صفرة فقد صلاها في وقتها المختار وفي ذلك دليل على أن مراعاة المثلين عندهم استحباب قال بن عبد الحكم عن مالك في آخر وقت العصر أن يكون ظل كل شيء مثليه بعد القدر الذي زالت عليه الشمس

وقال محمد ابنه القامتان في وقت العصر مذكورتان عن النبي عليه السلام وعن بعض الصحابة قال وهو قول مالك وأصحابه وبه نأخذ وفي المدونة قال بن القاسم لم يكن مالك يذكر القامتين في وقت العصر ولكنه كان يقول والشمس بيضاء نقية وقال بن القاسم عن مالك آخر وقت العصر اصفرار الشمس وقال بن وهب عن مالك الظهر والعصر آخر وقتهما غروب الشمس وهذا كله لأهل الضرورات كالحائض والمغمى عليه ومن يعيد في الوقت وقال الثوري إن صلاها ولم تتغير الشمس فقد أجزأه وأحب إلى أن يصليها إذا كان ظله مثله إلى أن يكون ظله مثليه وقال الشافعي أول وقتها في الصيف إذا جاوز ظل كل شيء مثله بشيء ما كان ومن أخر العصر حتى يجاوز ظل كل شيء مثليه في الصيف أو قدر ذلك في الشتاء فقد فاته وقت الاختيار ولا يجوز أن يقال فاته وقت العصر مطلقا كما جاز على الذي أخر الظهر إلى أن جاوز ظل كل شيء مثله قال وإنما قلت ذلك لحديث أبي هريرة عن النبي عليه السلام أنه قال من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر وحجة من ذهب إلى هذا المعنى الأحاديث في إمامة جبريل مع حديث العلاء عن أنس وحديث أبي هريرة هذا وعلى هذا التأويل تستعمل الأحاديث كلها ومذهب مالك يدل أيضا على ذلك وقال أبو يوسف ومحمد وقت العصر إذا كان ظل كل شيء قامته فيزيد على القامة إلى أن تتغير الشمس وقال أبو ثور أول وقتها إذا صار ظل كل شيء مثله بعد الزوال وزاد على الظل زيادة تتبين إلى أن تصفر الشمس وقول أحمد بن حنبل آخر وقت العصر ما لم تصفر الشمس وقال إسحاق بن راهويه آخر وقت العصر أن يدرك المصلي منها ركعة قبل الغروب

وهو قول داود لكل الناس معذور وغير معذور صاحب ضرورة وصاحب رفاهية إلا أن الأفضل غيره وعند إسحاق بن راهويه أيضا أول الوقت وقال الأوزاعي إن ركع ركعة قبل غروبها وركعة بعد غروبها فقد أدركها وحجته حديث أبي هريرة عن النبي عليه السلام من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر واختلفوا في آخر وقت المغرب بعد إجماعهم على أن وقتها غروب الشمس فالظاهر من قول مالك أن وقتها وقت واحد عند مغيب الشمس وبهذا تواترت الروايات عنه إلا أنه قال في الموطأ فإذا غاب الشفق فقد خرج وقت المغرب ودخل وقت العشاء وبهذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وبن حي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود والطبري كل هؤلاء يقولون آخر وقت المغرب مغيب الشفق والشفق عندهم الحمرة وحجتهم في ذلك حديث أبي موسى الأشعري ومثله حديث بريدة الأسلمي أن رسول الله عليه السلام صلاها عند سؤال السائل عن مواقيت الصلوات فلم يرد عليه شيئا وأمر بلالا فأقام الفجر حين انشق الفجر والناس لا يعرف بعضهم بعضا ثم أمره فأقام الظهر حين زالت الشمس ثم أمره فأقام العصر والشمس مرتفعة ثم أمره فأقام المغرب حين وقعت الشمس ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق ثم أخر الفجر من الغد حتى انصرف منها والقائل يقول طلعت الشمس أو كادت ثم أخر الظهر حتى كان قريبا من العصر ثم أخر العصر حتى خرج منها والقائل يقول احمرت الشمس ثم أخر المغرب حتى كان سقوط الشفق ثم أخر العشاء حتى كان ثلث الليل ثم أصبح فدعا السائل فقال له الوقت فيما بين هذين وقد ذكرنا إسناد الحديث وحديث بريدة وغيرهما بهذا المعنى في التمهيد قالوا وهذه الآثار أولى من آثار إمامة جبريل لأنها متأخرة بالمدينة وإمامة جبريل كانت بمكة والآخر من فعله أولى لأنه زيادة على الأولى

واحتجوا بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص وفيه ووقت المغرب ما لم يسقط الشفق وحديث أبي بصرة الغفاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صلى العصر قال لا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد والشاهد النجم وحديث عائشة وأنس بن مالك عن النبي عليه السلام إذا حضرت العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء وكل ذلك يدل على سعة الوقت وقد قرأ فيها بالطور وبالصافات والأعراف وقد ذكرنا الآثار بها كلها في التمهيد وقال الشافعي في وقت المغرب قولين أحدهما أنه ممدود إلى مغيب الشفق كما نزع إليه مالك في الموطأ والآخر وهو المشهور عنه أن وقتها واحد لا وقت لها غيره في الاختيار وذلك حين تجب الشمس قال وذلك بين في إمامة جبريل قال ولو جاز أن تقاس المواقيت لقيل لا تفوت حتى يدخل أول وقت العشاء قبل أن يصلي منها ركعة كما قال في العصر ولكن المواقيت لا تؤخذ قياسا وقال الثوري وقت المغرب إذا غربت الشمس فإن حبسك عذر فأخرتها إلى أن يغيب الشفق في السفر فلا بأس بها وكانوا يكرهون تأخيرها قال أبو عمر المشهور من مذهب مالك ما ذهب إليه الشافعي والثوري في وقت المغرب

والحجة لهم أن كل حديث ذكرناه في التمهيد في إمامة جبريل على تواترها لم تختلف في أن للمغرب وقتا واحدا وقد روي مثل ذلك عن النبي عليه السلام من حديث أبي هريرة وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمرو بن العاص وكلهم صحبة بالمدينة وحكي عنه صلاته بها وأنه لم يصل المغرب في الوقتين لكن في وقت واحد وسائر الصلوات في وقتين على أن مثل هذا يؤخذ عملا لأنه لا يغفل عنه ولا يجوز جهله ولا نسيانه وقد حكى محمد بن خويز منداد البصري المالكي في كتابه في الخلاف أن الأمصار كلها بأسرها لم يزل المسلمون فيها على تعجيل المغرب والمبادرة إليها في حين غروب الشمس ولا نعلم أحدا من المسلمين آخر إقامة المغرب في مسجد جماعة عن وقت غروب الشمس وفي هذا ما يكفي مع العمل بالمدينة في تعجيلها ولو كان وقتها واسعا لعلم المسلمون فيها كعملهم في العشاء الآخرة وسائر الصلوات من أذان واحد من المؤذنين بعد ذلك وغير ذلك مما يحملهم عليه اتساع الوقت وفي هذا كله دليل على أن النبي عليه السلام لم يزل يصليها وقتا واحدا إلى أن مات عليه السلام ولو وسع لهم لاتسعوا لأن شأن العلماء الأخذ بالتوسعة وهذا كله على وقت الاختيار والترغيب في هذه الصلاة فالبدار إلى الوقت المختار وقد زدنا هذا المعنى بيانا في التمهيد وذكرنا الآثار المسندة بهذا المعنى هناك أيضا والحمد لله وأجمعوا على أن وقت العشاء الآخرة للمقيم مغيب الشفق الذي هو الحمرة هذا قول مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأكثر العلماء في الشفق وقال أحمد بن حنبل أما في الحضر فأحب إلي ألا يصلي حتى يذهب البياض وأما في السفر فيجزئه أن يصلي إذا ذهبت الحمرة واختلفوا في آخر وقتها فالمشهور من مذهب مالك في آخر وقت العشاء في السفر والحضر لغير أصحاب الضرورات ثلث الليل ويستحب لأهل مساجد الجماعات ألا يعجلوا بها في أول وقتها إذا كان ذلك غير مضر بالناس وتأخيرها قليلا أفضل عنده

وقد روي عنه ما قدمناه أن أوائل الأوقات أحب إليه في كل صلاة إلا في الظهر في شدة الحر فإنها يبرد بها وأما رواية بن وهب عن مالك قال وقتها من حين يغيب الشفق إلى أن يطلع الفجر فإنما ذلك لمن له الاشتراك من أهل الضرورات وقال أبو حنيفة وأصحابه المستحب في وقتها إلى ثلث الليل ويكره تأخيرها إلى بعد نصف الليل ولا تفوت إلا بطلوع الفجر وقال الشافعي آخر وقتها أن يمضي ثلث الليل فإذا مضى ثلث الليل فلا أراها إلا فائتة يعني وقتها المختار لأنه ممن يقول بالاشتراك لأهل الضرورات وقال أبو ثور وقتها من مغيب الشفق إلى ثلث الليل وقال داود وقتها من مغيب الشفق إلى طلوع الفجر قال أبو عمر في أحاديث إمامة جبريل من رواية بن عباس وجابر ثلث الليل وكذلك في حديث أبي موسى بالمدينة للسائل وفي حديث أبي مسعود الأنصاري وحديث أبي هريرة ساعة من الليل وفي حديث عبد الله بن عمر ونصف الليل وحديث علي مثله وحديث بن عمر مثله وكلها مسندة وقد ذكرتها في كتاب التمهيد بأسانيدها وروى أبو سعيد الخدري وأبو هريرة عن النبي عليه السلام قال لولا أن أشق على أمتي لأخرت العشاء إلى نصف الليل وفي حديث أبي هريرة إلى ثلث الليل وهذا يحتمل الوجهين لأنه يدل على أن الاختيار التعجيل خوف المشقة

وأجمعوا على أن أول وقت صلاة الصبح طلوع الفجر وانصداعه وهو البياض المعترض في الأفق الشرقي في آخر الليل وهو الفجر الثاني الذي ينتشر ويظهر وأن آخر وقتها طلوع الشمس إلا أن بن القاسم روى عن مالك آخر وقتها الإسفار وكذلك حكى عنه بن عبد الحكم أن آخر وقتها الإسفار الأعلى وقال بن وهب آخر وقتها طلوع الشمس وهو قول الثوري والجماعة إلا أن منهم من شرط إدراك ركعة منها قبل الطلوع على حسب ما مضى في العصر قال الشافعي لا تفوت صلاة الصبح حتى تطلع الشمس قبل أن يدرك منها ركعة بسجودها فمن لم تكمل له ركعة قبل طلوع الشمس فقد فاتته وهو قول أبي ثور وأحمد وإسحاق وداود والطبري وأبي عبيد وأما أبو حنيفة وأصحابه فإنهم يفسدون صلاة من طلعت عليه الشمس وهو يصليها وسيأتي ذكر حجتهم والحجة عليهم في حديث زيد بن أسلم وأما قول عروة ولقد حدثتني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن تظهر فمعناه عندهم قبل أن يظهر الظل على الجدار يريد قبل أن يرتفع ظل حجرتها على جدرها وكل شيء علا شيئا فقد ظهر عليه قال الله تعالى فما اسطاعوا أن يظهروه الكهف أي يعلوا عليه وقال النابغة الجعدي بلغنا السماء مجدنا وجدودنا وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا أي مرتقى وعلوا وقيل معناه أن يخرج الظل من قاعة حجرتها وكل شيء خرج أيضا فقد ظهر والحجرة الدار وكل ما أحاط به حائط فهو حجرة

وفي الحديث دليل على قصر بنيانهم وحيطانهم لأن الحديث إنما قصد به تعجيل العصر وذلك إنما يكون مع قصر الحيطان وإنما أراد عروة بذلك ليعلم عمر بن عبد العزيز عن عائشة أن النبي كان يصلي العصر قبل الوقت الذي أخرها إليه عمر وقد ذكرنا في كتاب التمهيد عن الحسن البصري قال كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأنا محتلم فأنال سقفها بيدي وذلك في خلافة عثمان وقال الأوزاعي كان عمر بن عبد العزيز يصلي الظهر في الساعة الثامنة والعصر في الساعة العاشرة حين يدخل حدثني بذلك عاصم بن رجاء بن حيوة قال أبو عمر هذه حاله إذ صار خليفة وحسبك به اجتهادا في خلافته روى الليث بن سعد عن بن شهاب عن عروة عن عائشة أنها قالت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها لم يظهر الفيء من حجرتها ورواه بن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس في حجرتي بيضاء نقية لم يظهر الفيء بعد وفي رواية معمر لهذا الحديث عن بن شهاب قال قال عمر لعروة انظر ما تقول يا عروة أو أن جبريل هو سن وقت الصلاة فقال له عروة كذلك حدثني بشير بن أبي مسعود الأنصاري فما زال عمر يعتلم وقت الصلاة بعلامة حتى فارق الدنيا وقد روي أنه ولى بعد الجمعة فأنكرت حاله في العصر وفيه دليل على قبول خبر الواحد لأن عمر قبل خبر عروة وحده فيما جهل من أمر دينه وهذا منا على التنبيه فإن قبول خبر الواحد مستفيض عند الناس مستعمل لا على سبيل الحجة لأنا لا نقول إن خبر الواحد حجة في قبول خبر الواحد على من أنكره وقد أفردنا للحجة في خبر الواحد كتابا والحمد لله وفيه ما كان عليه العلماء من صحبة الأمراء وكان عمر بن عبد العزيز يصحبه جماعة من العلماء منهم رجاء بن حيوة وبن شهاب وعروة وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وأخلق بالأمير إذا صحب العلماء أن يكون عدلا فاضلا وروى حماد بن زيد عن محمد بن الزبير قال دخلت على عمر بن عبد

العزيز فسألني عن الحسن كما يسأل الرجل عن ولده فقال كيف طعمته وهل رأيته يدخل على عدي بن أرطأة وأين مجلسه منه وهل رأيته يطعم عند عدي قلت نعم وقد أوضحنا هذا المعنى في كتاب جامع العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله كانوا يقولون خير الأمراء من صحب العلماء وشر العلماء من صحب الأمراء إلا من قال بالحق وأمر بالمعروف وأعان الضعيف حديث ثان مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أنه قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن وقت صلاة الصبح قال فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من الغد صلى الصبح حين طلع الفجر ثم صلى الصبح من الغد بعد أن أسفر ثم قال أين السائل عن وقت الصلاة قال ها أنذا يا رسول الله فقال ما بين هذين وقت لم يختلف الرواة عن مالك في إرسال هذا الحديث وقد يتصل معناه من وجوه شتى من حديث جابر وحديث أبي موسى وحديث عبد الله بن عمر وحديث بريدة الأسلمي إلا أن فيها سؤال السائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن مواقيت الصلاة جملة وإجابته فيها كلها على حسب ما ذكرناه من ذلك في التمهيد وفيها كلها في الصبح معنى حديث مالك هذا وقد روي حميد الطويل عن أنس بن مالك أن رجلا سأل النبي عليه السلام عن صلاة الصبح فذكر مثل مرسل عطاء بن يسار هذا سواء وقد ذكرنا حديث حميد من وجوه في التمهيد وبلغني أن سفيان بن عيينة حدث بهذا الحديث عن زيد بن أسلم عن عطاء عن يسار عن أنس بن مالك عن النبي عليه السلام والصحيح في حديث عطاء الإرسال كما رواه مالك وحديث حميد عن أنس متصل صحيح

في هذا الحديث من الفقه تأخير البيان عن وقت السؤال وقت آخر يجب فيه فعل ذلك فأما تأخير البيان عن حين تكليف الفعل والعمل حتى ينقضي وقته فغير جائز عند الجميع وهذا باب طال فيه الكلام بين أهل النظر من أهل الفقه وقد أوضحناه في التمهيد وقد يكون البيان بالفعل فيما سبيله العمل أثبت في النفوس من القول دليل ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس الخبر كالمعاينة رواه بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يروه غيره وفي هذا الحديث أن أول وقت صلاة الصبح طلوع الفجر وأن آخر وقتها ممدود إلى آخر الإسفار على ما مضى في الحديث الذي قبل هذا ولا خلاف بين علماء المسلمين في أن أول وقت صلاة الصبح طلوع الفجر على ما في هذا الحديث وظهوره للعين والفجر هو أول بياض النهار الظاهر في الأفق الشرقي المستطير المنير المنتشر تسميه العرب الخيط الأبيض قال الله عز وجل حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود البقرة يريد بياض النهار من سواد الليل وقال أبو دؤاد الإيادي فلما أضاءت لنا سدفة ولاح من الصبح خيط أنارا وقال آخر قد كاد يبدو أو بدت تباشره وسدف الليل البهيم ساتره وسمته أيضا الصديع ومنه قولهم انصدع الفجر قال بشر بن أبي خازم أو عمرو بن معد يكرب به السرحان مفترشا يديه كأن بياض لبته الصديع

وشبهه الشماخ بمفرق الرأس لمن فرق شعره فقال إذا ما الليل كان الصبح فيه أشق كمفرق الرأس الدهين ويقولون للأمر الواضح هذا كفلق الصبح وتباشير الصبح وكانبلاج الفجر وقد زدنا هذا بيانا في التمهيد وفي قوله صلى الله عليه وسلم ما بين هذين وقت دليل على سعة الوقت في الصبح وفي غيرها من الصلوات على ما قد أوضحنا فيما مضى من الأوقات ونزع بقوله ما بين هذين وقت إلى جعل أول الوقت كآخره في الفضل ومال إلى ذلك بعض أصحاب مالك وقال به أهل الظاهر وخالفهم جمهور العلماء ونزعوا بأشياء قد ذكرتها في التمهيد وعمدتها أن المبادر إلى أداء فرضه في أول الوقت أفضل من المتأني به وطالب الرخصة في السعة فيه بدليل قوله عز وجل فاستبقوا الخيرات البقرة وقوله سابقوا إلى مغفرة من ربكم الحديد وقال عليه السلام أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله وقال عليه السلام أفضل الأعمال الصلاة لأول وقتها وقد ذكرنا الحديث في التمهيد واختلف الفقهاء في الأفضل من صلاة الصبح فذهب الكوفيون وأبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي وأكثر العراقيين إلى أن الإسفار بها أفضل من التغليس في الأزمنة كلها الشتاء والصيف واحتجوا بحديث رافع بن خديج عن النبي عليه السلام أسفروا بالصبح فكلما أسفرتم فهو أعظم للأجر

وقد ذكرنا هذا الحديث وبينا علته على مذهب من علله في التمهيد وذكروا عن علي وبن مسعود أنهما كانا يسفران بالصبح جدا وكان مالك والليث بن سعد والأوزاعي والشافعي يذهبون إلى أن التغليس بصلاة الصبح أفضل وهو قول أحمد بن حنبل وأبي ثور وداود بن علي وأبي جعفر الطبري ومن حجتهم حديث عائشة أن رسول الله عليه السلام كان يصلي فينصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس وذكروا عن أبي بكر وعمر أنهما كانا يغلسان وأنه لما قتل عمر أسفر بها عثمان ولم يختلف المسلمون في فضل البدار إلى المغرب وكذلك سائر الصلوات في القياس عند تعارض الآثار وقد أوضحنا معنى الإسفار في قوله أسفروا بالفجر في التمهيد واختصار ذلك أن الإسفار التبين والتبين بالفجر إذا انكشف واتضح ليلا يصلي في مثله من دخول الوقت ومن ذلك قول العرب أسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفت عنه حديث ثالث مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي الصبح فينصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس

وروى يحيى بن يحيى متلففات بالفاء وتابعة طائفة من رواة الموطإ وأكثر الرواة على متلفعات بالعين والمعنى واحد والمروط أكسية الصوف وقد قيل المرط كساء صوف سداه شعر وفي هذا الحديث التغليس بصلاة الصبح وهو الأفضل عندنا لأنها كانت صلاة رسول الله وأبي بكر وعمر ولفظ حديث عائشة هذا يدل على أنه كان الأغلب من فعله والذي كان يداوم عليه لقولها كان رسول الله يصلي الصبح في وقت كذا أو على صفة كذا يدل على أن ذلك فعله دهره أو اكثر دهره والله أعلم وإلى التغليس بها ذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وعامة فقهاء الحجاز وهو الأفضل عندهم وبه قال داود وذهب الكوفيون إلى الإسفار بها على ما قدمنا ذكره عنهم وهو أفضل عندهم من قول طاوس وإبراهيم وجماعة وقال الطحاوي إنما تتفق معاني آثار هذا الباب بأن يكون دخوله عليه السلام مغلسا ثم يطيل القراءة حتى ينصرف عنها مسفرا وهذا خلاف قول عائشة لأنها حكت أن انصراف النساء كان وهن لا يعرفن من الغلس ولو قرأ عليه السلام بالسور الطوال ما انصرف الناس إلا وهم قد أسفروا بل دخلوا في الإسفار جدا ألا ترى إلى أبي بكر حين قرأ بالبقرة في ركعتي صلاة الصبح فانصرف فقيل له كادت الشمس أن تطلع فقال لو طلعت لما وجدتنا غافلين ورواه بن عيينة وغيره عن بن شهاب عن أنس أنه صلى خلف أبي بكر فذكره وذكر عبد الرزاق عن بن جريج قال قلت لعطاء أي حين أحب إليك أن أصلي الصبح إماما وخلوا قال حين ينفجر الفجر الآخر ثم تطول القراءة والركوع والسجود حتى تنصرف منها وقد تبلج النهار وتتام الناس ولقد بلغني أن عمر بن الخطاب كان يصليها حين ينفجر الفجر الآخر وكان يقرأ في إحدى الركعتين بسورة يوسف وأما قول عطاء الفجر الآخر فهو مأخوذ والله أعلم من حديث مرسل ذكره بن وهب عن بن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن عن محمد بن عبد

الرحمن بن ثوبان أن رسول الله عليه السلام قال هما فجران فأما الذي كأنه ذنب السرحان فإنه لا يحل شيئا ولا يحرم وأما المستطير الذي يأخذ الأفق فبه تحل الصلاة ويحرم الطعام على الصائم وقد غلط بعض من ألف في شرح الموطإ فزعم أن هذا الحديث رواه ثوبان عن النبي عليه السلام وهذا غلط بين أرسله محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان وليس بينه وبين ثوبان مولى رسول الله نسب وروى الإسفار والتنوير بالفجر عن علي وبن مسعود وأصحابهما وسعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز وذكر بن أبي شيبة عن بن مهدي عن معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن جبير بن نفير قال صلى بنا معاوية بغلس فقال أبو الدرداء أسفروا بهذه الصلاة فإنه أفقه لكم وقال إسحاق بن منصور سألت أحمد بن حنبل عن الإسفار ما هو فقال الإسفار أن يتضح الفجر فلا تشك أنه طلع الفجر قال وقال إسحاق بن راهويه هو كما قال أحمد حدثنا أحمد بن محمد قال حدثنا الحسن بن سلمة بن المغل قال حدثنا عبد الله بن الجارود قال حدثنا إسحاق بن منصور الكوسج قال حدثنا أحمد بن حنبل فذكره قال وقال لي إسحاق بن راهويه مثله وبهذا الإسناد مسائل أحمد وإسحاق كلها في هذا الكتاب حديث رابع مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار وعن بسر بن سعيد وعن الأعرج كلهم يحدثونه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر وفي التمهيد ذكر وفاة عطاء بن يسار وبسر والأعرج وسن كل واحد منهم وحاله

وفي كتاب الصحابة ذكر أبي هريرة وروي عن حفص عن ميسرة هذا الحديث عن زيد بن أسلم عن الأعرج وبسر بن سعيد وأبي صالح عن أبي هريرة فجعل مكان عطاء أبا صالح ورواه أبو غسان محمد بن مطرف عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة ولم يذكر عطاء غيره ورواه إسماعيل بن عياش عن زيد بن أسلم عن الأعرج وحده عن أبي هريرة وجوده مالك رحمه الله وكان حافظا متقنا وهو إسناد مجمع على صحته وكلهم رواه عن أبي هريرة والإدراك في هذا الحديث إدراك الوقت لا أن ركعة من الصلاة من أدركها ذلك الوقت أجزته من تمام صلاته وقد ذكرنا في التمهيد من قال في هذا الحديث من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس ثم صلى تمام صلاته بعد غروبها فقد أدرك ومن صلى ركعة من الصبح قبل طلوع الشمس وصلى ما بقي بعد طلوعها فقد أدرك أيضا وهذا إجماع من المسلمين لا يختلفون أن معنى هذا الحديث ما وصفناه وفي هذا أن حديث مالك ليس على ظاهره فإن معناه فقد أدرك إن أتم ما بقي عليه بعد طلوع الشمس وغروبها وهذا الحديث أيضا ورد بلفظه الإباحة في صلاة الصبح وصلاة العصر في ذينك الوقتين وليس هو أيضا على ظاهره في ذلك المعنى بدليل ما ذكرنا من صلاته عليه السلام فيما مضى من كتابنا هذا أنها كانت في العصر والشمس بيضاء نقية وعند القامتين ونحو ذلك على حديث إمامة جبريل في المثلين من ظل كل قائم على ما أوضحناه فيما سلف من هذا الكتاب وكذلك الصلاة في الصبح لم تكن كلها إلا قبل طلوع الشمس أبدا فدل ذلك كله مع حديث مالك عن العلاء عن أنس عن النبي عليه السلام أنه قال في الذي يؤخر صلاة العصر حتى تصفر الشمس وتكون بين قرني الشيطان أنها صلاة المنافقين

على أن هذا الحديث ليس معناه الإباحة وأنه خرج على أصحاب الضرورات كالمغمى عليه يفيق والحائض تطهر والكافر يسلم في ذلك الوقت أنه مدرك للوقت وقد أجمع المسلمون على أن من كان له عذر في ترك الصلاة إلى ذلك الوقت ثم قدر على أدائها كلها فيه لزمته فكذلك يلزمه إذا أدرك منها ركعة بدليل هذه السنة الواردة في ذلك لأنه عليه السلام جعل مدرك ركعة منها في ذلك الوقت مدركا لوقتها كما جعل مدرك الركعة من الصلاة مدركا لحكمها وفضلها وسيأتي هذا المعنى في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله وقد تقدم ما للعلماء من الاختلاف في وقت العصر ووقت الصبح فلا وجه لإعادته وجرى فيه قول من جهل هذا الحديث على عمومه في ذي ضرورة وغيره ومن اقتصر على أصحاب العذر والضرورة فمن كان عنده على الضرورات فمن الضرورات في ذلك السفر وقد اختلف العلماء في معنى هذا الحديث فذهب مالك وأصحابه إلى ظاهره فقالوا من خرج مسافرا وقد بقي عليه من النهار مقدار ركعة بعد أن جاز بيوت القرية أو المصر ولم يكن صلاها صلى العصر ركعتين ولو خرج وقد بقي عليه مقدار ثلاث ركعات ولم يكن صلى الظهر والعصر صلاهما جميعا مقصورتين وهكذا عندهم حكم المغرب والعشاء يراعى فيهما مقدار ركعة من كل واحدة منهما على أصله فمن سافر وقد بقي عليه مقدار ركعة فإنه يقصر تلك الصلاة ولو قدم من سفره في ذلك الوقت أتم وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والثوري إذا خرج من مصره قبل خروج الوقت صلى ركعتين وإن قدم قبل خروج الوقت أتم وهذا نحو قول مالك إلا أنهم لم يحدوا الركعة وقال زفر إن جاوز بيوت القرية أو المصر ولم يبق عليه من الوقت إلا مقدار ركعة فإنه مفرط وعليه أن يصلي العصر أربعا وإن قدم من سفره فدخل مصره ولم يبق عليه إلا ركعة واحدة أتم الصلاة أيضا أخذا له في ذلك بالثقة وقال الحسن بن حي والليث بن سعد والشافعي إذا خرج بعد دخول الوقت أتم لأن الصلاة تجب عندهم بأول الوقت وليست السعة في الوقت بمسقطة عنه ما وجب عليه في أوله

قالوا وإن قدم المسافر قبل خروج الوقت أتم أخذوا في ذلك بالثقة والاحتياط لزوال عليه السفر وأصل الشافعي في القصر أنه رخصة وسنة فمن شاء أتم في السفر عنده ومن شاء قصر ما دام مسافرا وسيأتي بيان ذلك وما للعلماء من التنازع فيه ووجوه أقوالهم في باب قصر الصلاة إن شاء الله وروى بن وهب عن الليث بن سعد في الرجل تزول عليه الشمس وهو يريد سفرا فلم يصل حتى خرج قال يصلي صلاة المقيم لأن الوقت دخل عليه قبل الخروج ولو شاء أن يصلي صلى وأما اختلاف الفقهاء في صلاة الحائض والمغمى عليه ومن جرى مجراهما فقال مالك في المغمى عليه من أغمي عليه في وقت صلاة فلم يفق حتى ذهب وقتها ظهرا كانت أو عصرا قال والظهر والعصر وقتهما إلى مغيب الشمس فلا إعادة عليه قال وكذلك المغرب والعشاء وقتهما الليل كله قال مالك إذا طهرت الحائض قبل الغروب فإن كان قد بقي عليها من النهار قدر ما تصلي خمس ركعات صلت الظهر والعصر وإن لم يكن بقي عليها من النهار قدر ما تصلي خمس ركعات صلت العصر فإذا طهرت قبل الفجر فكان ما بقي عليها من الليل قدر ما تصلي أربع ركعات ثلاثا للمغرب وركعة للعشاء صلت المغرب والعشاء وإن لم يبق عليها إلا مقدار ثلاث ركعات صلت العشاء ذكره بن القاسم وبن وهب وأشهب وبن عبد الحكيم عن مالك قال أشهب وسئل مالك عن النصراني يسلم والمغمى عليه يفيق أهما مثل الحائض تطهر قال نعم يقضي كل واحد منهما ما كان في وقته وما فات وقته لم يقضه قال بن وهب وسألت مالكا عن المرأة تنسى أو تغفل عن صلاة الظهر فلا تصليها حتى تغشاها الحيضة قبل غروب الشمس فقال مالك لا أرى عليها قضاء للظهر ولا للعصر إلا أن تحيض بعد غروب الشمس فإن حاضت بعد غروب الشمس ولم تكن صلت الظهر والعصر رأيت عليها القضاء قال ولو نسيت الظهر والعصر حتى اصفرت الشمس ثم حاضت فليس عليها

قضاء فإن لم تحض حتى غابت الشمس فعليها القضاء قال ولو طهرت قبل غروب الشمس واشتغلت بالغسل مجتهدة غير مفرطة حتى غابت الشمس لم تقض شيئا وروى الوليد بن مزيد عن أبيه عن الأوزاعي معنى قول مالك هذا في الحائض سواء وقال الشافعي إذا طهرت الحائض قبل مغيب الشمس بركعة أعادت الظهر والعصر وكذلك إن طهرت قبل الفجر بركعة أعادت المغرب والعشاء واحتج بقول النبي عليه السلام من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر ولجمعه عليه السلام بين الصلاتين في أسفاره وبعرفة والمزدلفة في وقت إحداهما صلاتي الليل وصلاتي النهار وجعل الوقت لهما معا وقتا واحدا وللشافعي في هذه المسألة أقوال أحدها هذا والثاني مثل قول مالك مراعاة ركعة للعصر وأربع ركعات للظهر وأربع ركعات للمغرب والعشاء وما دون ذلك للعشاء والقول الثالث قاله في المغمى عليه إذا أفاق وقد بقي عليه من النهار مقدار ما يكبر تكبيرة الإحرام أعاد الظهر والعصر وكذلك إن أفاق قبل طلوع الفجر بقدر تكبيرة قضى المغرب والعشاء وكذلك الصبح قبل طلوع الشمس والقول الأول أشهرها عنه وعنده أنه لا تعيد الحائض ولا المغمى عليه إلا ما أدركا وقته وما فات وقته فلا إعادة فيه عليهما ولا على من جرى مجراهما كالكافر يسلم والصبي يحتلم فأقل إدراك يكون لمن لم يدرك إلا مقدار تكبيرة وقال فيمن ذهب عقله فيما لا يكون به عاصيا قضى كل صلاة فاتته على حال زوال عقله وذلك مثل السكران وشارب السم لا السكران عامدا لذهاب العقل قال أبو عمر قوله عليه السلام من أدرك ركعة يقتضي فساد قول من قال من أدرك تكبيرة لأن دليل الخطاب أنه من لم يدرك من الوقت مقدار ركعة فقد فاته ومن فاته فقد سقطت عنه صلاة الوقت إذ كان مثل الحائض والمغمى عليه ومن كان مثلهما وما احتج به بعض أصحاب الشافعي لهذه القولة حيث قال إنما أراد عليه

السلام بذكر الركعة البعض من الصلاة فكأنه قال من أدرك عمل بعض الصلاة في الوقت ومعلوم أن تكبيرة الإحرام بعض الصلاة والدليل على أنه أراد البعض من الصلاة قوله في بعض الأحاديث من أدرك ركعة وفي بعضها من أدرك ركعتين وفي بعضها من أدرك سجدة فدل أنه أراد بعض الصلاة والتكبيرة بعض الصلاة فمن أدركها فكأنه أدرك ركعة من الصلاة قال أبو عمر هذا ينتقض فليس بشيء لأنه ينتقض عليه بذلك ما أصله في الجمعة لأنه لم يختلف في أنه من لم يدرك ركعة بسجدتها من الجمعة لم يدركها وهو ظاهر الخبر لأن قوله من أدرك ركعة من الصبح أو من العصر يريد من وقتهما في معنى قوله من أدرك ركعة من الصلاة وقوله في جماعة أصحابه من لم يدرك ركعة تامة من الجمعة أتمها ظهرا أربعا وهذا يقتضي على سائر أقواله وهو أصحها وهو قول مالك وقال أبو حنيفة وأصحابه وهو قول بن عليه ومن طهرت من الحيض أو بلغ من الصبيان أو أسلم من الكفار لم يكن عليه أن يصلي شيئا مما فات وقته وإنما يقضي ما أدرك وقته بمقدار ركعة فما زاد إلا أنهم لا يقولون باشتراك الأوقات لا في صلاتي الليل ولا في صلاتي النهار وسيأتي ذكر مذهبهم في الجمع بين الصلاتين في السفر في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله وقول حماد بن أبي سليمان في هذا كقول أبي حنيفة ذكر غندر عن شعبة قال سألت حمادا عن المرأة تطهر في وقت العصر قال تصلي العصر فقط وأما المغمى عليه فإن أبا حنيفة وأصحابه ذهبوا فيمن أغمي عليه خمس صلوات فأقل ثم أفاق أنه يقضيها ومن أغمي عليه أكثر من ذلك ثم أفاق أنه لا يقضي شيئا وهو قول الثوري إلا أنه قال أحب إلي أن يقضي وقال الحسن بن حي إذا أغمي عليه خمس صلوات فما دون قضى ذلك كله إذا أفاق وإن أغمي عليه أياما قضى خمس صلوات ينظر حين يفيق فيقضي ما يليه وقال زفر في المغمى عليه يفيق والحائض تطهر والنصراني يسلم والصبي يحتلم إنه لا يجب على أحد منهم قط صلاة إلا بأن يدركوا من وقتهما مقدار الصلاة كلها بكمالها كما لا يجب عليهم من الصيام إلا ما أدركوا وقته بكماله وقول زفر هذا خلاف حديث أبي هريرة من أدرك ركعة من الصبح أو من العصر

وقول أبي ثور في هذا الباب كله كقول مالك سواء وقال أحمد بن حنبل في الحائض تطهر والكافر يسلم والغلام يحتلم مثل ذلك أيضا وقال في المغمى عليه يقضي الصلوات كلها التي كانت في إغمائه وهو قول عبيد الله بن الحسن لا فرق عندهما بين النائم والمغمى عليه في أن كل واحد منهما يقضي ما فاته بالنوم والإغماء وهو قول عطاء بن أبي رباح وروي مثل ذلك عن عمار بن ياسر وعمران بن حصين وروى بن رستم عن محمد بن الحسن أن النائم إذا نام أكثر من يوم وليلة فلا قضاء عليه قال أبو عمر لا أعلم أحدا قال هذا القول من الفقهاء غير محمد بن الحسن في هذه الرواية عنه والمشهور عنه في كتبه غير ذلك كسائر العلماء ورواية بن رستم عنه خلاف السنة فيمن نام أو نسي أنه يقضي وقد أجمعوا أنه من نام خمس صلوات فدون أن يقضي فكذلك في القياس ما زاد على الخمس وكذلك قول من قال في المغمى عليه أنه يقضي خمس صلوات ولا يقضي ما زاد لاحظ له في النظر ولا حجة لهم في حديث عمار لأنه قضى صلاة يوم وليلة إذ أغمي عليه ولم يقل إنه لو أغمي علي أكثر لم أقض ولا فرق في القياس بين خمس وأكثر من خمس وأصح ما في المغمى عليه يفيق أنه لا قضاء عليه لما فات وقته وهو قول بن شهاب والحسن وبن سيرين وربيعة ومالك والشافعي وأبي ثور وهو مذهب عبد الله بن عمر أغمي عليه فلم يقض شيئا فات وقته وهو القياس وسنبين ذلك عند حديث بن عمر إن شاء الله وأما مراعاة مالك للحائض الفراغ من غسلها فإن الشافعي خالفه في ذلك فجعلها إذا طهرت كالجنب وألزمها إذا طهرت قبل خروج وقت الصلاة ولم تشتغل بشيء غير غسلها ففاتها الوقت ما يلزم الجنب من تلك الصلاة وهو قول بن عليه قالا وشغلها بالاغتسال لا يضع عنها ما لزمها بطهرها من فرض الصلاة لأن الصلاة إنما تسقط عنها ما دامت حائضا فإذا طهرت فليست بحائض بل هي كالجنب

وقال الشافعي وبن علية لو أن امرأة حاضت في أول وقت الظهر بمقدار ما تمكنها فيه صلاة الظهر ولم تكن صلت لزمها قضاء تلك الصلاة لأن الصلاة تجب بأول الوقت وليست السعة في الوقت تسقط ما وجب بأوله فإن لم تدرك من أول الوقت إلا مقدار ركعة أو مقدار ما لا تتم فيه الصلاة حتى حاضت لم تلزمها الصلاة وقال بعض أصحاب الشافعي لم يجز أن يجعل أول الوقت ها هنا كآخره فنلزمها بإدراك ركعة الصلاة كلها أو الصلاتين كما فعلنا في آخر وقت لأن البناء في آخر الوقت يتهيأ على الركعة ولا يتهيأ البناء في أول الوقت لأن تقديم ذلك قبل دخول الوقت لا يجوز وأما الوجه الثاني من حديث أبي هريرة هذا فهو جواز من صلى من الصبح ركعة قبل طلوع الشمس وركعة بعدها فإن العلماء اختلفوا في ذلك فقال الكوفيون لا يقضي أحد صلاة عند طلوع الشمس ولا عند قيام الظهيرة ولا عند غروب الشمس إلا عصر يومه خاصة فإنه لا يأمن أن يصليها عند غروب الشمس من يومها لأنه يخرج إلى وقت لا تجوز فيه الصلاة ولا يؤمر بتأخير صلاة إلى ذلك الوقت إلا أنه لو دخل في صلاة العصر فاصفرت الشمس أتمها إذا كانت عصر يومه خاصة ولو دخل في صلاة الفجر فلم يكملها حتى طلعت الشمس بطلت عليه واستقبلها بعد ارتفاع الشمس وحجتهم حديث عقبة بن عامر في النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها وعند استوائها رواه جماعة من أئمة أهل الحديث منهم بن وهب عن موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن عقبة بن عامر الجهني قال ثلاث ساعات كان رسول الله ينهانا أن نصلي فيهن أو نقبر فيهن موتانا حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع وحين يقوم قائم الظهيرة حتى ترتفع الشمس وحين تطفل الشمس حتى تغرب

وجعلوا نهيه عن ذلك عموما كنهيه عن صيام يوم الفطر والأضحى فلا يجوز لأحد أن يقضي فيهما فرضا ولا يتطوع بصيامهما وزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أخر الصلاة إذ نام عنها في الوادي لأنه انتبه عند طلوع الشمس وذكروا عن أبي بكرة وكعب بن عجرة أن كل واحد منهما نام عن صلاة الصبح فلم يصلها وقد انتبه عند طلوع الشمس حتى ارتفعت وقد ذكرنا خبريهما التمهيد وقد اختلف عن أبي بكرة في ذلك ولم يختلف عن كعب بن عجرة فيما علمت وقال مالك والثوري والشافعي والأوزاعي وهو قول عامة العلماء من أهل الحديث والفقه من نام عن صلاة أو نسيها أو فاتته بوجه من وجوه الفوت ثم ذكرها عند طلوع الشمس واستوائها أو غروبها أو بعد الصبح أو العصر صلاها أبدا متى ذكرها على ما ثبت عن النبي عليه السلام من حديث أبي هريرة فيمن أدرك ركعة من الصبح أو العصر قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وقوله عليه السلام من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها وقد ذكرنا الآثار بذلك من طرق في التمهيد وأوضحنا القول فيه من جهة تهذيب الآثار ومعلوم أن النسخ لا يكون إلا فيما يتدافع ويتعارض ولو قال عليه السلام لا صلاة بعد الصبح ولا بعد العصر ولا عند طلوع الشمس ولا عند غروبها ولا استوائها إلا من نسي صلاة أو نام عنها فإنه يصليها في كل وقت لم يكن في ذلك تناقض ولا تدافع فتدبر هذا الأصل وقف عليه ولا فرق بين أن يكون كلامه عليه السلام ذلك كله في وقت واحد أو وقتين وقد تقصينا الاحتجاج على الكوفيين في هذه المسألة في التمهيد ولا وجه لادعائهم على رسول الله أنه إنما أخر الصلاة يوم نومه عن الصبح من أجل انتباهه عند طلوع الشمس لأنه قد ثبت أنهم لم يستيقظوا يومئذ حتى أيقظهم حر الشمس ولا تكون لها حرارة إلا والصلاة تجوز ذلك الوقت وقد ذكرنا الخبر بذلك في التمهيد والحمد لله

حديث خامس مالك عن نافع مولى عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب كتب إلى عماله إن أهم أمركم عندي الصلاة فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع ثم كتب أن صلوا الظهر إذا كان الفيء ذراعا إلى أن يكون ظل أحدكم مثله والعصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية قدر ما يسير الراكب فرسخين أو ثلاثة قبل غروب الشمس والمغرب إذا غربت الشمس والعشاء إذا غاب الشفق إلى ثلث الليل فمن نام فلا نامت عينه فمن نام فلا نامت عينه فمن نام فلا نامت عينه والصبح والنجوم بادية مشتبكة هكذا روى مالك عن نافع أن عمر بن الخطاب كتب إلى عماله ورواه عبيد الله بن عمر عن نافع عن صفية بنت أبي عبيد أن عمر بن الخطاب كتب إلى عماله فذكر مثله بمعناه وفي حديث غير هذا ما كان عليه من الاهتبال بأمور المسلمين إذ ولاه الله أمرهم وإنما خاطب العمال لأن الناس تبع لهم كما جاء في المثل الناس على دين الملك وروي عن النبي عليه السلام أنه قال صنفان من أمتي إذا صلحا صلح الناس هم الأمراء والعلماء ومن استرعاه الله رعية لزمه أن يحوطها بالنصيحة ولا نصيحة تقدم على

النصيحة في الدين لمن لا صلاة له ولا دين لمن لا صلاة له روي عن النبي عليه السلام أنه قال من استرعاه الله رعية فلم يحطها بالنصيحة لم يرح رائحة الجنة وكان عمر لرعيته كالأب الحدب لأنه كان يعلم أن كل راع مسؤول عن رعيته وأما قوله حفظها فحفظها علم ما لا تتم إلا به من وضوئها وسائر أحكامها وأما قوله وحافظ عليها فتحتمل المحافظة على أوقاتها والمسابقة إليها والمحافظة إنما تكون على ما أمر به العبد من أداء فريضة ولا تكون إلا في ذلك أو في معناه من فعل ما أمر به العبد أو ترك ما نهي عنه ومن هنا لا يصلح أن تكون المحافظة من صفات الباري ولا يجوز أن يقال محافظ ومن صفاته حفيظ وحافظ جل وتعالى علوا كبيرا وأما قوله أن صلوا الظهر إذا كان الفيء ذراعا فإنه أراد فيء الإنسان أن يكون ذراعا زائدا على القدر الذي تزول عليه الشمس صيفا وشتاء وذلك ربع قامة ولو كان القائم ذراعا لكان مراد عمر من ذلك ربع ذراع ومعناه على ما قدمناه لمساجد الجماعات لنا يلحق الناس من الاشتغال ولاختلاف أحوالهم فمنهم الخفيف والثقيل في حركاته وقد مضى في حديث بن شهاب في أول الكتاب من معاني الأوقات ما يغني عن القول ها هنا في شيء منها ودخول الشمس صفرة معلومة في الأرض تستغني عن التفسير والفرسخ ثلاثة أميال واختلف في الميل وأصح ما قيل فيه ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع وهذا كله من عمر على التقريب وليس في شيء من ذلك تحديد ولكنه يدل على سعة الوقت وما قدمنا في الأوقات يغني والحمد لله وأما قوله وآخر العشاء ما لم تنم فكلام ليس على ظاهره ومعناه النهي عن النوم قبلها لأنه قد ثبت النهي عن النوم قبلها واشتهر عند العلماء شهرة توجب القطع أن عمر لا يجهل ذلك

ومن تأول على عمر إباحة النوم قبل العشاء فقد جهل ويدلك على ذلك دعاؤه على من نام قبل أن يصلي العشاء وألا تنام عينه فكرر ذلك ثلاثا مؤكدا وأما الصبح فقد قدمنا أنه كان من مذهبه ومذهب أبي بكر التغليس بالصبح ويشهد لذلك قوله والنجوم بادية مشتبكة وهذا على إيضاح الفجر لا على الشك فيه لإجماع المسلمين على أن من صلى وهو شاك في الفجر فلا صلاة له وأما تأويل أصحابنا في حديث عمر هذا إلى عماله أنه أراد مساجد الجماعات فلحديث مالك عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى الأشعري أن صل الظهر إذا زاغت الشمس فهذا على المنفرد لئلا يتضاد خبره أو يكون على الإعلام بأول الوقت ليعلم بذلك رعيته وأهل العلم لا يرون النوم قبل العشاء ولا الحديث بعدها وقد رخص فيه قوم وسيأتي هذا المعنى مجودا في موضعه إن شاء الله وقد ذكر الساجي أبو يحيى قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم الشهيدي قال حدثنا حفص عن أشعث عن كردوس قال خرج بن مسعود وأبو مسعود وحذيفة وأبو موسى من عند الوليد وقد تحدثوا ليلا طويلا فجاؤوا إلى سرة المسجد فتحدثوا حتى طلع الفجر قال أبو عمر هذا معناه عندي أن تكون ضرورة دعتهم إلى هذا في حين شكوى أهل الكوفة بالوليد بن عقبة وابتداء طعنهم على عثمان وقد جاء في الحديث لا سمر بعد العشاء إلا لمصل أو مسافر أو دارس علم وما كان في معنى هذه الثلاثة مما لا بد منه فله حكمها والأصل في هذا حديث أبي المنهال سيار بن سلامة عن أبي برزة الأسلمي قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوخر العشاء التي تدعونها العتمة ويكره النوم قبلها والحديث بعدها رواه عن أبي المنهال شعبة وعوف وغيرهما ومن هذا الباب قول حذيفة جدب لنا عمر السمر بعد العتمة يعني عابه علينا كذلك شرحه أبو عبيدة وغيره

وعن عمر أيضا فيه حديث آخر أنه كان يقول لهم إذا صلى العتمة انصرفوا إلى بيوتكم ذكره أبو عبيدة أيضا وسائر ما في حديث أبي سهيل هو في حديث نافع وحديث نافع أتم وقد مضى فيه القول وأمره لأبي موسى بأن يقرأ في الصبح سورتين طويلتين من المفصل على الاختيار لا على الوجوب ولا واجب في القراءة غير فاتحة الكتاب وغير ذلك مسنون مستحب وفي حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عمر في ذلك قوله أن صل العشاء ما بينك وبين ثلث الليل فإن أخرت فإلى شطر الليل ولا تكن من الغافلين وقد مضى في آخر وقت المختار من الأحاديث المسندة ثلث الليل ونصف الليل وعلى ذلك اختلاف العلماء الذي ذكرنا فمن ذهب إلى ثلث الليل تأول قوله ولا تكن من الغافلين الأعراف فتؤخرها إلى شطر الليل ومن ذهب إلى أن آخر وقتها المختار نصف الليل تأول ولا تكن من الغافلين فتؤخرها بعد شطر الليل أو إلى أن يخرج وقتها ولعله ذهب إلى أن آخر وقتها الذي صلاها فيه رسول الله شطر الليل وأن ما بعد ذلك فوت لقوله عليه السلام ما بين هذين وقت ولست أقول إن من صلاها قبل الفجر صلاها قاضيا بعد خروج وقتها لدلائل منها حديث أبي هريرة إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى ولأنها لو فاتت بانقضاء شطر الليل ما لزمت الحائض تطهر والمغمى عليه يفيق إذا أدركا من وقتها ركعة قبل الفجر كما لا تلزمهما بعد الفجر ولا الصبح بعد طلوع الشمس حديث سادس مالك عن يزيد بن زياد عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل أبا هريرة عن وقت الصلاة فقال أبو هريرة أنا أخبرك صل الظهر إذا كان ظلك مثلك والعصر إذا كان ظلك مثليك والمغرب إذا غربت

الشمس والعشاء ما بينك وبين ثلث الليل وصل الصبح بغبش يعني الغلس وهذا الحديث موقوف من رواية مالك عن أبي هريرة وقد ذكرناه عن أبي هريرة في التمهيد مرفوعا واقتصر فيه على ذكر أواخر الأوقات المستحبة دون أوائلها فكأنه قال له صل الظهر من الزوال إلى أن يكون ظلك مثلك والعصر من ذلك الوقت إلى أن يكون ظلك مثليك وجعل للمغرب وقتا واحدا على ما مضى من اختيار أكثر العلماء وذكر من العشاء أيضا آخر الوقت المستحب وذلك لعلمه بفهم المخاطب عنه ولاشتهار الأمر بذلك والعمل ولقوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل الإسراء وقد تقدم في الأوقات ما فيه شفاء فلا وجه لتكريره هنا ورواية عبيد الله عن أبيه بغبس بالسين ورواية بن وضاح بغبش بالشين المنقوطة وكذلك رواه سحنون عن بن القاسم عن مالك وكذلك رواه أكثر الرواة للموطأ ومعناهما متقارب وهو اختلاط النور بالظلمة حديث سابع مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك أنه قال كنا نصلي العصر ثم يخرج الإنسان إلى بني عمرو بن عوف فيجدهم يصلون العصر وقد ذكرنا من أسنده عن مالك في التمهيد وهذا يدل على معنيين أحدهما تعجيل رسول الله للصلاة في أول وقتها والثاني سعة الوقت وبنو عمرو بن عوف على ثلثي فرسخ من المدينة من رواية حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه مالك عن بن شهاب عن أنس بن مالك أنه قال كنا نصلي العصر ثم يذهب الذاهب إلى قباء فيأتيهم والشمس مرتفعة

وقد ذكرنا في التمهيد أيضا من أسند هذا الحديث عن مالك فقال فيه عن بن شهاب عن أنس بن مالك قال كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر ثم يذهب الذاهب إلى العوالي فيأتيهم والشمس مرتفعة ولم يختلف عن مالك أنه قال فيه إلى قباء ولم يتابعه أحد من أصحاب بن شهاب وسائر أصحاب بن شهاب يقولون فيه ثم يذهب الذاهب إلى العوالي وهو الصواب عند أهل الحديث والمعنى متقارب في ذلك والعوالي مختلفة المسافة فأقربها إلى المدينة ميلان وثلاثة وأبعدها ثمانية ونحوها والمعنى الذي له أدخل مالك هذا الحديث في موطئه تعجيل العصر خلافا لأهل العراق الذين يقولون بتأخيرها فنقل ذلك خلفهم عن سلفهم بالبصرة والكوفة قال الأعمش كان إبراهيم يؤخر العصر وقال أبو قلابة إنما سميت العصر لتعتصر وأما أهل الحجاز فعلى تعجيل العصر سلفهم وخلفهم وقد ذكرنا الآثار عنهم بذلك في التمهيد وفي اختلاف أحوال أهل المدينة والعوالي في صلاة العصر ما يدل على سعة وقتها ما دامت الشمس بيضاء نقية وقد أوردنا من الآثار عند ذكر هذا الحديث في التمهيد ما يوضح ذلك والحمد لله حديث ثامن مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن القاسم بن محمد أنه قال ما أدركت الناس إلا وهم يصلون الظهر بعشي

قال مالك يريد الإبراد بالظهر قال وأهل الأهواء يصلون الظهر عند الزوال بخلاف ما حمل عمر الناس عليه وذكر إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا بن أبي أويس قال قال مالك سمعت أن عمر بن الخطاب قال لأبي محذورة إنك بأرض حارة فأبرد ثم أبرد ثم ابرد ثم نادني وكأني عندك وكان مالك يكره أن تصلي الظهر عند زوال الشمس ولكن بعد ذلك ويقول تلك صلاة الخوارج قال أبو عمر الإبراد يكون في الحر وقد تقدم في معناه ما فيه كفاية وهذا كله استحباب واختيار والأصل في المواقيت ما ذكرناه في سائر هذا الباب والله الموفق سبحانه باب وقت الجمعة مالك عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه أنه قال كنت أرى طنفسه لعقيل بن أبي طالب يوم الجمعة تطرح إلى جدار المسجد الغربي فإذا غشي الطنفسة كلها ظل الجدار خرج عمر بن الخطاب وصلى الجمعة قال مالك والد أبي سهيل ثم نرجع بعد صلاة الجمعة فنقيل قائلة الضحاء روى هذا الحديث عبد الرحمن بن مهدي عن مالك عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه فقال فيه كان لعقيل طنفسه مما يلي الركن الغربي فإذا أدرك الظل الطنفسة خرج عمر بن الخطاب فصلى الجمعة ثم نرجع فنقيل وروى حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن عامر بن أبي عامر أن العباس كانت له طنفسه في أصل جدار المسجد عرضها ذراعان أو ذراعان وثلث وكان طول الجدار ستة عشر ذراعا فإذا نظر إلى الظل قد جاوز الطنفسه أذن المؤذن وإذا أذن نظرنا إلى الطنفسه فإذا الظل قد جاوزها قال أبو عمر جعل مالك الطنفسة لعقيل وجعلها محمد بن إسحاق للعباس والله أعلم

المعنى في طرح الطنفسة لعقيل عند الجدار الغربي من المسجد وكان يجلس عليها ويجتمع إليه وكان نسابة عالما بأيام الناس وأدخل مالك هذا الخبر دليلا على أن عمر بن الخطاب لم يكن يصلي الجمعة إلا بعد الزوال وردا على من حكى عنه وعن أبي بكر أنهما كانا يصليان الجمعة قبل الزوال وإنكارا لقول من قال إنها صلاة عيد فلا بأس أن تصلى قبل الزوال وقد ذكرنا في التمهيد الخبر عن أبي بكر وعمر أنهما كانا يصليان الجمعة قبل الزوال وعن عبد الله بن مسعود أنه كان يصلي الجمعة ضحى حدثنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني قال حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا غندر عن شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة قال كان عبد الله بن مسعود يصلي بنا الجمعة ضحى ويقول إنما عجلت بكم خشية الحر عليكم وحديث حميد عن أنس كنا نبكر الجمعة ونقيل بعدها وحديث سهل بن سعد كنا نبكر بالجمعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نرجع فنتغدى ونقيل وحديث جابر قال كنا نصلي الجمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نرجع فنقيل وذكرنا علل هذه الأخبار وضعف أسانيد بعضها وأنه لم يأت من وجه يحتج به إلى ما يدفعها من الأصول المشهورة ولهذا ومثله أدخل مالك حديث طنفسة عقيل ليوضح أن وقت الجمعة وقت الظهر لأنها مع قصر حيطانهم وعرض الطنفسة لا يغشاها الظل إلا وقد فاء الفيء وتمكن الوقت وبان في الأرض دلوك الشمس وعلى هذا جماعة فقهاء الأمصار الذين تدور الفتوى عليهم كلهم يقول إن الجمعة لا تصلى إلا بعد الزوال إلا أن أحمد بن حنبل قال من صلى قبل الزوال لم أعبه قال أبو بكر بن أثرم قلت لأحمد بن حنبل يا أبا عبد الله ما ترى في صلاة الجمعة قبل الزوال فقال فيها من الاختلاف ما علمت ثم ذكر ما ذكرنا من الآثار عن أبي بكر وعمر وبن مسعود وجابر وسهل بن سعد وأنس وعن مجاهد أنها صلاة عيد

وهي آثار كلها ليست بالقوية ولا نقلها الأئمة ومن جهة النظر لما كانت الجمعة تمنع من الظهر دون غيرها من الصلوات دل على أن وقتها وقت الظهر وقد أجمع المسلمون على أن من صلاها وقت الظهر فقد صلاها في وقتها فدل ذلك على أنها ليست كصلاة العيد لأن العيد لا تصلى بعد الزوال حدثنا أحمد بن عبد الله قال حدثنا الحسن بن إسماعيل قال حدثنا عبد الملك بن بحر قال حدثنا محمد بن إسماعيل الصايغ قال حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق قال صليت خلف علي بن أبي طالب الجمعة بعد ما زالت الشمس قال سنيد حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن سبع عن أبي رزين قال صليت خلف علي بن أبي طالب الجمعة حين زالت الشمس وعلى هذا مذهب الفقهاء كلهم لا تجوز الجمعة عندهم ولا الخطبة لها إلا بعد الزوال إلا أنهم اختلفوا في سعة وقتها وآخره فروى بن القاسم عن مالك قال وقت الجمعة وقت الظهر لا تجب إلا بعد الزوال وتصلى إلى غروب الشمس قال بن القاسم إن صلى من الجمعة ركعة ثم غربت الشمس صلى الركعة الأخرى بعد المغيب وكانت جمعة وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما والحسن بن حي وقت الجمعة وقت الظهر فإن فات وقت الظهر بدخول وقت العصر لم تصل الجمعة وقال أبو حنيفة وأصحابه إن دخل وقت العصر وقد بقي من الجمعة سجدة أو قعدة فسدت الجمعة ويستقبل الظهر وقال الشافعي إذا خرج الوقت قبل أن يسلم أتمها ظهرا يعني إذا زاد الظل عن المثل على ما قدمناه من قوله وأصله في ذلك وهو قول عبد الملك بن عبد العزيز الماجشون وأما قول أبي سهيل عن أبيه ثم نرجع بعد صلاة الجمعة فنقيل قائلة الضحاء فمعلوم أن من صلى بعد زوال الشمس الجمعة لا يرى في ذلك اليوم ضحى فلم يبق إلا ما تأوله أصحابنا أنهم كانوا يهجرون يوم الجمعة فيصلون في الجامع على ما في حديث ثعلبة بن أبي مالك القرظي أنهم كانوا يصلون إلى أن يخرج عمر بن

الخطاب فإذا صلوا الجمعة انصرفوا فاستدركوا راحة القائلة والنوم فيها على ما جرت عادتهم ليستعينوا بذلك على قيام الليل والله أعلم وهذا تأويل حسن غير مدفوع مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن بن أبي سليط أن عثمان بن عفان صلى الجمعة بالمدينة وصلى العصر بملل قال مالك وذلك للتهجير وسرعة السير اختلف فيما بين المدينة وملل فروينا عن بن وضاح أنه قال اثنان وعشرون ميلا ونحوها وقال غيره ثمانية عشر ميلا وهذا كما قاله مالك أنه هجر بالجمعة فصلاها في أول الزوال ثم أسرع السير فصلى العصر بملل ليس في أول وقتها والله أعلم ولكنه صلاها والشمس لم تغرب ولعله صلاها ذلك اليوم لسرعة السير والشمس بيضاء نقية وليس في هذا ما يدل على أن عثمان صلى الجمعة قبل الزوال كما زعم من ظن ذلك واحتج بحديث مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن بن أبي سليط قال كنا نصلي مع عثمان بن عفان الجمعة فننصرف وما للجدر ظل وهذا الخبر الثاني عن عثمان ليس عند القعنبي ولا عند يحيى بن يحيى صاحبنا وهما من آخر من عرض على مالك الموطأ وهذا وإن احتمل ما قال فيحتمل أن يكون عثمان صلى الجمعة في أول الزوال ومعلوم أن الحجاز ليس للقائم فيها كبير ظل عند الزوال وقد ذكر أهل العلم بالتعديل أن الشمس بمكة تزول في حزيران على دون عشر أقدام وهذا أقل ما تزول الشمس عليه في سائر السنة بمكة والمدينة فإذا كان هذا أو فوقه قليلا فأي ظل يكون للجدر حينئذ بالمدينة أو مكة فإذا احتمل الوجهين لم يجز أن يضاف إلى عثمان أنه صلى الجمعة قبل الزوال إلا بيقين ولا يقين مع احتمال التأويل والمعروف عن عثمان في مثل هذا أنه كان متبعا لعمر لا يخالفه وقد ذكرنا عن علي أنه كان يصليها بعد الزوال وهو الذي يصح عن سائر الخلفاء وعليه جماعة العلماء والحمد لله

ومن بكر بالجمعة في أول الزوال لم يؤمن عليه من العامة فساد التأويل الذي لم يجز على الفقهاء روى حبيب كاتب مالك عن مالك عن ربيعة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة عند الزوال حدثنا أحمد بن قاسم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا محمد بن الحسن الصوفي قال حدثنا الهيثم بن خارجة قال حدثنا إسماعيل بن عياش عن عمرو بن مهاجر أن عمر بن عبد العزيز كان يصلي الجمعة حين يفيء الفيء تحت رأس الإنسان ذراعا ونحوه في الساعة السابعة وهذا كله على السعة في وقتها باب من أدرك ركعة من الصلاة مالك عن بن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة هكذا هذا الحديث في الموطأ عند جماعة الرواة وروى عبيد الله بن عبد المجيد أبو علي الحنفي عن مالك عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة ووقتها وهذا أيضا لم يقله عن مالك غيره وهو مجهول لا يحتج به والصواب عن مالك ما في الموطأ وكذلك رواه جماعة رواه بن شهاب كما رواه مالك في الموطأ إلا ما رواه نافع بن يزيد عن يزيد بن الهاد عن عبد الوهاب بن أبي بكر عن بن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة وفضلها وهذا لفظ أيضا لم يقله أحد عن بن شهاب وقد روى هذا الحديث الليث بن سعد عن بن الهاد عن بن شهاب فلم يذكر في الإسناد عبد الوهاب ولا جاء بهذه اللفظة أعني قوله وفضلها

وقد اختلف الفقهاء في معنى هذا الحديث فقالت طائفة منهم أراد بقوله ذلك أنه أدرك وقتها حكي عن داود بن علي وأصحابه قالوا إذا أدرك الرجل من الظهر أو العصر ركعة وقام فصلى الثلاث ركعات فقد أدرك الوقت في جماعة وثوابه على الله تعالى قال أبو عمر هؤلاء قوم قد جعلوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة في معنى قوله من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع فقد أدرك الصبح وليس كما ظنوا لأنهما حديثان لكل واحد منهما معنى على ما بيناه في كتابنا هذا وفي التمهيد أيضا والحمد لله وقال آخرون من أدرك ركعة من الصلاة في جماعة فقد أدرك فضل الجماعة لأن صلاته صلاة جماعة في فضلها وحكمها واستدلوا على ذلك من أصولهم بأنه لا يعيد في جماعة من أدرك ركعة من صلاة الجماعة وقال آخرون معنى الحديث أن مدرك ركعة من الصلاة مدرك لحكمها كله وهو كمن أدرك جميعها فيما يفوته من سهو الإمام وسجوده لسهوه وإن لم يدركه معه وأنه لو أدرك وهو مسافر ركعة من صلاة المقيم لزمه حكم المقيم في الإتمام ونحو هذا من حكم الصلاة وهذا قول مالك وأصحابه والحديث يقتضي عمومه وظاهره أن مدرك ركعة من صلاة الإمام مدرك للفضل والوقت والحكم إن شاء الله وإن لم يدرك الركعة بتمامها فلم يدرك حكم الصلاة وأما الفضل فإن الله يتفضل بما يشاء على من يشاء والفضل فضله يؤتيه من يشاء وإذا كان الذي ينام عن صلاته بالليل يكتب له أجر صلاته والذي ينوي الجهاد فيحبسه العذر يكتب له أجر المجاهد والمريض يكتب له ما كان يعمله صحيحا ومنتظر الصلاة في صلاة فأين مدخل النظر ها هنا وقد وردت آثار عن النبي صلى الله عليه وسلم فيمن توضأ فأحسن وضوءه ثم راح فوجد الناس قد صلوا أنه يعطيه أجر من صلاها وحضرها قد ذكرناها في التمهيد وذكرنا هناك عن أبي هريرة وهو الذي روى حديث من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة أنه قال إذا انتهى إلى القوم وهم قعود في صلاتهم فقد دخل في التضعيف وإذا انتهى إلى القوم وقد سلم الإمام ولم يتفرقوا فقد دخل في التضعيف

قال عطاء بن أبي رباح وكان يقال إذا خرج من بيته وهو ينويهم فقد دخل في التضعيف وعن أبي وائل وشريك من أدرك التشهد فقد أدرك فضلها وقال أبو سلمة وهو رواية هذا الحديث من خرج من بيته قبل أن يسلم الإمام فقد أدرك وهذا كله يؤيد أن الفضل والأجر على قدر النية فلا مدخل للقياس والنظر وما كل مصل يتقبل منه فكيف يضاعف له والله يؤتي فضله من يشاء وفي هذا الحديث دليل على أن من لم يدرك من الصلاة ركعة فلم يدركها ولا له مدخل في حكمها من حصول سهو لم يدركه مع إمامة وانتقال فرضه من ركعتين إلى أربع ونحو هذا إلا أن الفقهاء اختلفوا في معنى هذا الدليل ها هنا فمن ذلك قولهم من أدرك ركعة من الجمعة أضاف إليها أخرى ومن لم يدرك ركعة منها صلى ظهرا هذا قول مالك والشافعي وأصحابهما والثوري والحسن بن حي والأوزاعي وزفر بن الهذيل ومحمد بن الحسن في الأشهر عنه والليث بن سعد وعبد العزيز بن سلمة وبن حنبل وورد ذلك عن علي بن أبي طالب وبن مسعود وبن عمر وعلقمة والأسود والحسن وسعيد بن المسيب وغيره وإبراهيم وبن شهاب وبه قال إسحاق وأبو ثور وقال بن شهاب هي السنة وقال أبو حنيفة وأبو يوسف إذا أحرم في الجمعة قبل سلام الإمام صلى ركعتين روي ذلك عن إبراهيم النخعي والحكم بن عيينة وحماد بن أبي سليمان وهو قول داود وحجتهم قوله عليه السلام ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا قالوا والذي فاته ركعتان لا أربع ومن ذلك أيضا اختلافهم فيمن فاتته الخطبة يوم الجمعة فإن عطاء بن أبي

رباح وطاوسا ومجاهدا ومكحولا قالوا من فاتته الخطبة يوم الجمعة صلى أربعا قالوا لم تقصر الصلاة في يوم الجمعة إلا من أجل الخطبة فمن لم يدركها صلى ظهرا وهذا قول يبطل بقوله عليه السلام من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة حدثني محمد بن عبد الله بن حكيم قال حدثنا محمد بن معاوية القرشي قال حدثنا إسحاق بن أبي حسان الأنماطي قال حدثنا هشام بن عمار قال حدثنا عبد الحميد قال حدثنا الأوزاعي قال سألت الزهري عن رجل فاتته خطبة الإمام يوم الجمعة وأدرك الصلاة فقال حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها وأما مسألة المسافر يدرك ركعة من صلاة المقيم فأيسر الناس في ذلك مالك قال إذا لم يدرك المسافر من صلاة الإمام ركعة صلى ركعتين وإن أدرك منها ركعة تامة بسجدتيها صلى أربعا وهو قول الحسن البصري وإبراهيم النخعي وبن شهاب الزهري وقتادة وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل وأبو ثور إذا دخل المسافر في صلاة المقيم صلى أربعا صلاة مقيم وإن أدركها في التشهد وروي ذلك عن بن عباس وبن عمر وجماعة من التابعين وقال الشافعي إذا أحرم قبل أن يسلم الإمام لزمته صلاة المقيم وفي هذه المسألة قولان شاذان أحدهما لطاوس والشعبي والثاني لإسحاق بن راهويه قد ذكرتهما في التمهيد وأما سجود السهو فقال مالك إذا أدرك مع الإمام ركعة لزمه أن يسجد معه لسهوه وسواء أدرك السهو أو لم يدرك وإن لم يدرك معه ركعة لم يلزمه السجود منه ومذهبه في ذلك أن سجدتي السهو إن كانتا قبل السلام سجدهما معه وإن كانتا بعد السلام لم يسجدهما معه وسجدهما إذا أتم صلاته وهو قول الأوزاعي والليث بن سعد وقال الشافعي والكوفيون وسائر الفقهاء من دخل مع الإمام في بعض صلاته لزمه سهوه وسجد معه

وعن الشافعي أيضا أنه يسجدهما بعد القضاء أيضا وهذا كله في حديث من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها ومن لم يدرك منها ركعة فلم يدركها واستعمال الناس بهذا الحديث واستعمال نصه دليل خطأ به مالك وأصحابه مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر بن الخطاب كان يقول إذا فاتتك الركعة فقد فاتتك السجدة مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت كانا يقولان من أدرك الركعة فقد أدرك السجدة هكذا رواه يحيى بن يحيى وأما القعنبي وبن بكير وأكثر رواه الموطأ فرووه عن مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت كانا يقولان من أدرك الركعة قبل أن يرفع الإمام رأسه فقد أدرك السجدة مالك أنه بلغه أن أبا هريرة كان يقول من أدرك الركعة فقد أدرك السجدة ومن فاته قراءة أم القرآن فقد فاته خير كثير معنى إدراك الركعة ها هنا أن يركع المأموم قبل أن يرفع الإمام رأسه من الركوع هذا قول مالك وأكثر العلماء وفيه اختلاف روي عن أبي هريرة من أدرك القوم ركوعا يعتد بها وهذا قول لا نعلم أن أحدا قال به من فقهاء الأمصار وفيه وفي إسناده نظر وقد روي معناه عن أشهب وروي عن جماعة من التابعين ضد ذلك قالوا إذا أحرم الداخل والناس ركوع أجزأه وإن لم يدرك الركوع وبهذا قال بن أبي ليلى والليث بن سعد وزفر بن الهذيل قالوا إذا كبر قبل أن يرفع الإمام رأسه ركع كيف أمكنه واتبع الإمام وكان بمنزلة التابع واعتد بالركعة وقد روي عن بن أبي ليلى والليث بن سعد وزفر بن الهذيل والحسن بن

زياد أنه إذا كبر بعد رفع الإمام رأسه من الركعة قبل أن يركع اعتد بها وقال الشعبي إذا انتهيت إلى الصف المؤخر ولم يرفعوا رؤوسهم وقد رفع الإمام رأسه فقد أدركت لأن بعضهم أئمة بعض قال جمهور الفقهاء من أدرك الإمام راكعا فكبر وركع وأمكن يديه من ركبتيه قبل أن يرفع الإمام رأسه من الركعة فقد أدرك الركعة ومن لم يدرك ذلك فقد فاتته الركعة ومن فاتته الركعة فقد فاتته السجدة أي لا يعتد بها ويسجدهما هذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم والثوري والأوزاعي وأبي ثور وأحمد وإسحاق وروى ذلك عن علي بن أبي طالب وبن مسعود وزيد بن ثابت وبن عمر وقد ذكرنا الآثار بذلك في التمهيد وبه قال عطاء وإبراهيم وعروة بن الزبير وميمون بن مهران وذكر بن أبي شيبة عن عبد الأعلى عن معمر عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن بن عمر وزيد بن ثابت قالا إذا أدرك القوم ركوعا فإنه تجزئه تكبيرة واحدة وهو قول إبراهيم وعروة وعطاء والحسن وقتادة والحكم وميمون وجماعة إلا أنهم يستحبون أن يكبر تكبيرتين واحدة للإحرام وثانية للركوع وإن كبر واحده لافتتاح الصلاة أجزأه من الركعة وعلى هذا مذهب الفقهاء بالحجاز والعراق والشام وقال بن سيرين وحماد بن أبي سليمان لا يجزئه حتى يكبر تكبيرتين واحدة يفتتح بها وثانية يركع بها والقول الأول أصح من جهة الأثر والنظر لأن التكبير لما عدا الإحرام مسنون يستحب قد أجمعوا أنه لا يضر سقوط التكبيرة منه والتكبيرتين وسنبين هذا الباب ونوضحه في افتتاح الصلاة إن شاء الله وأما قول أبي هريرة من فاتته قراءة أم القرآن فقد فاته خير كثير فإن بن وضاح وجماعة معه قالوا ذلك لموضع التأمين والله أعلم يعنون قوله عليه السلام من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه وسيأتي هذا فيما بعد إن شاء الله عز وجل

باب ما جاء في دلوك الشمس وغسق الليل مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول دلوك الشمس ميلها مالك عن داود بن الحصين قال أخبرني مخبر أن عبد الله بن عباس كان يقول دلوك الشمس إذا فاء الفيء وغسق الليل اجتماع الليل وظلمته قال أبو عمر المخبر ها هنا عكرمة وكذلك رواه الدراوردي عن عكرمة عن بن عباس وكان مالك يكتم اسمه لكلام سعيد بن المسيب فيه وقد صرح به في كتاب الحج وقد ذكرنا في التمهيد السبب الموجب لكلام بن المسيب في عكرمة ومن قال بتفضيل عكرمة والثناء عليه ومات عكرمة عند داود بن الحصين بالمدينة ولم يختلف عن بن عمر في أن دلوك الشمس ميلها روي ذلك عنه من وجوه ثابتة إلا أن الألفاظ مختلفة والمعنى واحد منهم من يروي عنه دلوكها زوالها ومنهم من يقول عنه دلوكها ميلها بعد نصف النهار وكل سواء وهو قول الحسن ومجاهد ورواه مجاهد أيضا عن قيس بن السائب وهو قول أبي جعفر محمد بن علي والضحاك بن مزاحم وعمر بن عبد العزيز وكذلك روي عن الشعبي ومجاهد عن بن عباس دلوكها زوالها وأما عبد الله بن مسعود فلم يختلف عنه أن دلوكها غروبها وهو قول علي بن أبي طالب وأبي وائل وطائفة والوجهان في اللغة معروفان وقال بعض أهل اللغة دلوكها من زوالها إلى غروبها وأما غسق الليل فالأكثر على أنه أراد به صلاة العشاء

وروي عن مجاهد غسق الليل غروب الشمس وقال غيره غسق الليل المغرب والعشاء باب جامع الوقوت مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله ومعناه عند أهل اللغة الذي يصاب بأهله وماله إصابة يطلب فيها وترا فيجتمع عليه غمان غم ذهاب أهله وماله وغم بما يقاسي من طلب الوتر يقول فالذي تفوته صلاة العصر لو وفق لرشده وعرف قدر ما فاته من الخير والفضل كان كالذي أصيب بأهله وماله على ما ذكرنا وقد ذكرنا شواهد هذا على وزنه في التمهيد ومن أحسنها قول الأعرابي كأنما الذئب إذ يعدو على غنمي في الصبح طالب وتر كان فاتارا وهذا عندنا على أن تفوته صلاة العصر بغير عذر حتى تغيب الشمس ولا يدرك منها ركعة قبل الغروب ومن قال إن ذلك إن يؤخرها حتى تصفر الشمس فليس بشيء والدليل على ذلك أن مالكا قال في الموطأ في رواية بن القاسم في هذا الموضع ووقت صلاة الظهر والعصر إلى غروب الشمس وقد يحتمل أن يكون خروج قوله عليه السلام في هذا الحديث على جواب سؤال السائل كأنه قال يا رسول الله ما مثل الذي تفوته صلاة العصر فقال هو كمن وتر أهله وماله فإن كان هذا هكذا فيدخل في معنى العصر حينئذ الصبح والعشاء بطلوع الشمس وطلوع الفجر وقد أوضحنا معنى الحديث وبسطناه في التمهيد فمن تأمله هناك يستغني بذلك

واختلاف العلماء في الصلاة الوسطى على هذين القولين في الصبح والعصر هو الأكثر الذي عليه الجمهور مالك عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب انصرف من صلاة العصر فلقي رجلا لم يشهد العصر فقال عمر ما حبسك عن صلاة العصر فذكر له الرجل عذرا فقال عمر طففت قال مالك ويقال لكل شيء وفاء وتطفيف قال بعض أصحابنا وبعض من تقدمه ممن شرح الموطأ إن الرجل الذي لقيه عمر لم يشهد العصر في هذا الحديث فهو عثمان بن عفان وهو لا يوجد في أثر علمته وإنما عثمان هو الذي جاء وعمر يخطب فقال له عمر أية ساعة هذه وذلك يوم الجمعة وروي ذلك أيضا من طرق ثابتة قد ذكرتها في التمهيد وأما الرجل المذكور في هذا الحديث رجل من الأنصار من بني حديدة حدثنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي قال حدثنا بن أبي ذئب عن أبي حازم التمار عن بن حديدة الأنصاري صاحب النبي عليه السلام قال لقيني عمر بن الخطاب بالزوراء وأنا ذاهب إلى صلاة العصر فسألني أين تذهب فقلت إلى الصلاة فقال طفقت فأسرع قال فذهبت إلى المسجد فصليت ورجعت فوجدت جاريتي قد احتبست علينا من الاستقاء فذهبت إليها برومة فجئت بها والشمس صالحة قال قيل للقعنبي ما رومة قال بئر عثمان بن عفان وأما قول عمر للرجل طففت فمعناه أنك نقصت نفسك حظها من الأجر بتأخرك عن صلاة الجماعة وأظنه لم يقبل عذره المذكور في حديث مالك لأن من حبسه عذر مانع عن عمل صالح يريده فقد قدمنا من الآثار ما يبين به أنه يكتب له مثل أجر عمله

وأما التطفيف في لسان العرب فهو الزيادة على العدل والنقصان منه وذلك ذم لفاعله قال الله تعالى ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون المطففين ومن ذمه الله تعالى استحق عقوبته كما أن من مدحه استحق ثوابه وأما قول مالك لكل شيء وفاء وتطفيف فإنه يعني أن هذه اللفظة تدخل في كل شيء مذموم زيادة ونقصانا وروى أبو حميد الزبيري قال حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن علي قال الصلاة كالكيل فمن وفى وفي له وروى بن عيينة وغيره عن الأعمش عن مالك بن الحارث عن مغيث بن سمي ويل للمطففين قال التطفيف في الصلاة والوضوء والمكيال والميزان حدثنا خلف بن قاسم قال حدثنا عبد الله بن عمر بن إسحاق قال حدثنا أحمد بن محمد بن الحجاج قال حدثنا أحمد بن صالح قال حدثنا سلمة بن شبيب وحبيش بن أصرم ومؤمل قال حدثنا عبد الرزاق عن بكار بن عبد الله عن وهب بن منبه قال ترك من التطفيف وحدثنا خلف بن القاسم بن شعبان قال حدثنا محمد بن محمد بن يزيد قال حدثنا الصلت بن مسعود قال حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال حدثنا بن شبرمة عن سالم بن أبي الجعد عن سلمان قال الصلاة كيل ووزن فمن وفى وفي له ومن نقص نقص له وتلا ويل للمطففين ورواه سفيان الثوري عن شيخ كوفي يكنى أبا نصر عن سالم بن أبي الجعد عن سلمان قال الصلاة مكيال فمن وفى وفي له ومن طفف فقد علمتم ما قيل في المطففين ويغفر الله لمن يشاء ويعذب من يشاء مالك عن يحيى بن سعيد أنه كان يقول إن المصلي ليصلي الصلاة وما فاته وقتها ولما فاته من وقتها أعظم أو أفضل من أهله وماله هكذا هذا الحديث في الموطأ من قول يحيى بن سعيد وهو مروي عن النبي عليه السلام إلا أنها وجوه ضعيفة الإسناد ويردها أيضا أطول الآثار الصحاح

فمن ذلك أن غير مالك طائفة تروي هذا الحديث عن يحيى بن سعيد عن يعلى بن مسلم عن طلق بن حبيب عن النبي عليه السلام وهذا مرسل وطلق بن حبيب ثقة عندهم فيما نقل إلا أنه رأس من رؤوس المرجئة وكان مع ذلك عابدا فاضلا وكان مالك يثني عليه لعبادته ولا يرضى مذهبه وقد روي مسندا إلا أنه حديث يدور على يعقوب بن الوليد وهو متروك الحديث حدثنا أحمد بن القاسم بن عيسى قال حدثنا عبد الله بن محمد بن حنانه قال حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي قال حدثني جدي قال حدثنا يعقوب بن الوليد عن بن أبي ذئب عن عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أحدكم ليصلي الصلاة وما فاته من وقتها أشد عليه من أهله وماله وأما الأصول التي ترد هذا الحديث فمنها حديث نافع عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله فلم يقع التمثيل والتشبيه ها هنا إلا لمن فاته وقت الصلاة كله بدليل قوله من أدرك ركعة من العصر وبدليل قوله حين صلى في طرفي الوقت ما بين هذين وقت وحديث يحيى بن سعيد يدل أن من فاته بعض وقت الصلاة في حكم من فاته الوقت كله في ذهاب أهله وماله وقد حكى بن القاسم عن مالك أنه لم يعجبه قول يحيى بن سعيد المذكور وذلك لما وصفنا والله أعلم وقد يحتمل حديث يحيى بن سعيد وما كان مثله من الحديث المسند فمن فاته أول الوقت أن يكون قد فاته من الفضل ما كان خيرا من أهله وماله لأن الفضائل التي يستحق عليها ثواب الآخرة قليلها أفضل من الدنيا وما فيها لا أنه كمن وتر أهله وماله على ما في حديث بن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها والذي يفيدنا حديث يحيى بن سعيد والحديث المرفوع تفضيل أول الوقت

على آخره لأن من فاته أول الوقت فاته كمن فاته الوقت كله والدليل على تفضيل أول الوقت على آخره حديث أبي عمرو الشيباني عن بن مسعود قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل قال الصلاة لأول وقتها وحديث عبد الملك بن عمير عن أبي خيثمة عن الشفاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أفضل الأعمال الصلاة لأول وقتها وحديث عبد الله بن عمر عن القاسم بن غنام عن بعض أمهاته عن أم فروة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل قال الصلاة في أول وقتها وقد ذكرنا هذه الآثار من طرق في كتاب التمهيد وفي قوله تعالى فاستبقوا الخيرات البقرة ما يكفي مع أنه معلوم في شواهد العقول أنه مزيد وإلى الطاعة أفضل ممن تأخر عنها وإن كان مباحا له التأخير وبالله التوفيق قال مالك من أدرك الوقت وهو في سفر فأخر الصلاة ساهيا أو ناسيا حتى قدم على أهله أنه إن كان قدم على أهله وهو في الوقت فليصل صلاة المقيم وإن كان قد قدم وقد ذهب الوقت فليصل صلاة المسافر لأنه إنما يقضي مثل الذي كان عليه قال مالك وهذا الأمر الذي أدركت عليه الناس وأهل العلم ببلدنا أما قوله ساهيا فهو الذي يسهو فلا يذكر غفلة وشغلا وأما قوله ناسيا فهو الذي يذكر في أول الوقت صلاته ثم ينسى وقد قيل إن السهو والنسيان متداخلان ومعناهما واحد وأما قوله إن كان قدم على أهله وهو في الوقت وقوله إن كان قدم وقد ذهب الوقت فقد تقدم مذهبه وما يراعى من الوقت في ذلك وما كان مثله في صلاتي النهار وصلاتي الليل وفي الآخرة منها عند ذكر قوله عليه السلام من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فلا وجه لتكرار ذلك وأما قوله إنه إنما يقضي مثل الذي كان عليه فإن الحجة في ذلك قوله عليه السلام من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها

فأشار إلى المنسية وهي التي فاتته ووجبت عليه فيقضيها على حسب ما كان يصليها لأنها لزمته بالذكر فصارت واجبة عليه بهيئتها وهذه المسألة يختلف فيها الفقهاء أئمة الفتوى فذهب مالك إلى ما ذكرنا ها هنا وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد والأوزاعي كلهم يقول إذا خرج وقد بقي عليه من الوقت شيء أقله ركعة قصر ومن قدم وقد بقي عليه من الوقت مثل ذلك أتم وقال الشافعي والليث بن سعد والحسن بن حي وزفر إذا خرج بعد دخول الوقت بمقدار ما يصلي فيه تلك الصلاة أو ركعة منها أتم قال أبو عمر قد مضى في آخر الوقت المختار في صلاة العتمة ثلث الليل ونصف الليل في الأحاديث المسندة وقول عمر وغيره ما فيه إيضاح هذا المعنى وبالله التوفيق وكذلك إن قدم المسافر قبل خروج الوقت أتم وقد مضى في هذا مراعاتهم للركعة وللتكبير ومن راعى أول الوقت وتمكن الصلاة فيه ومن راعى آخره واعتبر الركعة منه فأغنى عن إعادته ها هنا وأما اختلافهم فيمن نسي صلاة السفر فلم يذكرها إلا وهو مسافر وهو من هذا المعنى فإن مالكا والثوري وأبا حنيفة وأصحابه قالوا إذا نسي صلاة حضرية فذكرها في السفر صلى أربعا وإن نسيها سفرية وذكرها في الحضر صلى ركعتين وقال الأوزاعي وعبيد الله بن الحسن والشافعي وأحمد بن حنبل يصلي صلاة مقيم في المسألتين معا لأن الأصل أربع فإذا زالت علة السفر لم يجزه إلا أربع ويؤخذ له مع الاختلاف بالثقة ليؤدي فرضه بيقين وقال البصريون وبن علية وطائفة وهو قول الحسن البصري من نسي صلاة في حضر فذكرها في سفر صلاها سفرية ولو نسيها في السفر وذكرها في الحضر صلاها أربعا لأنها وجبت عليه بالذكر لها فيصليها كما من لم ينسها وكما لو نسيها وهو مريض وذكرها صحيحا صلاها قائما كما يقدر ولو نسيها صحيحا فذكرها وهو مريض صلاها قاعدا على حسب طاقته وحاله في الوقت

قال مالك الشفق الحمرة التي في المغرب فإذا ذهبت الحمرة فقد وجبت صلاة العشاء وخرجت من وقت المغرب اختلف العلماء في الشفق فقال مالك والثوري والشافعي وبن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل الشفق الحمرة وهو قول بن عمر وقال أبو حنيفة الشفق البياض وروي ذلك عن أنس بن مالك وأبي هريرة وهو قول عمر بن عبد العزيز وروى الثوري عن مزاحم بن زفر قال كتب إلينا عمر بن عبد العزيز فكان في كتابه ووقت العشاء إذا ذهب البياض وقال أحمد بن حنبل يعجبني أن تصلي إذا ذهب البياض في الحضر و تجب في السفر إذا ذهبت الحمرة واللغة تقضي أن الشفق اسم للبياض والحمرة جميعا والحجة لمن قال إنه الحمرة حديث النعمان بن بشير كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء لسقوط القمر لثالثة وهذا لا محالة قبل ذهاب البياض وروي عن بن عباس في الشفق القولان جميعا وزعم الخليل أنه ارتقب البياض فلم يكد يغيب إلى طلوع الفجر مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر أغمي عليه فذهب عقله فلم يقض الصلاة قال مالك وذلك فيما نرى والله أعلم أن الوقت قد ذهب فأما من أفاق في الوقت فإنه يصلي قال أبو عمر ذهب مالك والشافعي وأصحابهما مذهب بن عمر في الإغماء أنه لا يقضي ما فاته في إغمائه من الصلوات التي أغمي عليه فيها إن خرج وقتها

وقد خالف بن عمر في ذلك عمار وعمران بن حصين ونذكر ذلك ومن ذهب إليه من الفقهاء أئمة الأمصار بعد إن شاء الله وبالله التوفيق وحجة مالك ومن ذهب مذهبه ومذهب بن عمر في ذلك أن القلم مرفوع عن المغمى عليه قياسا على المجنون المتفق عليه لأنه لا يشبه المغمى عليه إلا أصلان أحدهما المجنون الذاهب العقل والآخر النائم ومعلوم أن النوم لذة والإغماء مرض فهي بحال المجنون أشبه والأخرى أن المغمى عليه لا ينتبه بالإنباه بخلاف النائم ولما كان العاجز عن القيام في الصلاة يصلي جالسا ويسقط عنه القيام ثم إن عجز عن الجلوس سقط عنه حتى يبلغ حاله مضطجعا إلى الإيماء فلا يقدر على الإيماء فيسقط عنه ما سوى الإيماء فكذلك إن عجز عن الإيماء بما لحقه من الإغماء يسقط عنه فلا يلزمه إلا ما يراجعه عقله وذهنه في وقته لا ما انقضى وقته هذا ما يوجبه النظر لأنها مسألة ليس فيها حديث مسند وفيها عن بن عمر وعمار بن ياسر اختلاف فابن عمر لم يقض ما خرج وقته وعمار أغمي عليه يوما وليلة فقضى وقد روي عن عمران بن حصين مثل ذلك ذكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن السدي عن رجل يقال له يزيد عن عمار بن ياسر أنه أغمي عليه الظهر والعصر والمغرب والعشاء فأفاق في بعض الليل فقضاهن قال وحدثنا حفص بن غياث عن التيمي عن أبي مجلز عن عمران بن حصين قال يقضي المغمى عليه الصلوات كلها فذهب مالك والشافعي وأصحابه إلى مذهب بن عمر وهو قول طاوس والحسن وبن سيرين والزهري وربيعة والأوزاعي ويحيى بن سعيد الأنصاري وبه قال أبو ثور وكل هؤلاء يجعل وقت الظهر والعصر النهار كله إلى المغرب ووقت المغرب والعشاء الليل كله على ما تقدم من أصولهم في ذلك قال أبو حنيفة وأصحابه إن أغمي عليه يوما وليلة قضى وإن أغمي عليه أكثر لم يقض وجعلوا من أغمي عليه يوما وليلة في حكم النائم ومن أغمي عليه أكثر في حكم المجنون الذي رفع عنه القلم

قالوا وإنما قضى عمار لأنه أغمي عليه يوما وليلة وهو قول إبراهيم النخعي وقتادة والحكم وحماد وإسحاق بن راهويه وقال الحسن بن حي من أغمي عليه خمس صلوات فما دونهن قضي ذلك كله وإن أغمى عليه أياما قضى خمس صلوات ينظر حين يفيق فيقضي ما يليه وقال عبيد الله بن الحسن المغمى عليه كالنائم يقضى كل صلاة في أيام إغمائه وبه قال أحمد بن حنبل وهو قول عطاء بن رباح ورواية محمد بن رستم عن محمد بن الحسن أن النائم إذا كان نومه أكثر من يوم وليلة لم يقض منكرة شاذة خارجة عن الأصول لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر النائم بقضاء ما نام عنه من الصلوات ولم يحد في ذلك حدا ولو كان من شرعه في ذلك حد بعدد أو وقت لذكره والله أعلم واختلف عن الثوري في المغمى عليه قال مرة كقول أبي حنيفة وقال الفريابي عنه إنه كان يعجبه أن يقضي صلاة يوم وليلة كقول الحسن بن حي وروي عن قبيصة عن سفيان فيمن أغمي عليه يومين وليلتين ثم أفاق بعد طلوع الشمس لم يكن عليه قضاء الفجر وإذا أغمي عليه قبل الفجر ثم أفاق بعد ما طلعت الشمس فأحب إلي أن يقضي باب النوم عن الصلاة مالك عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قفل من خيبر أسري حتى إذا كان من آخر الليل عرس وقال لبلال اكلأ لنا الصبح ونام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكلأ بلال ما قدر له ثم استند إلى راحلته وهو مقابل الفجر فغلبته عيناه فلم يستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا

بلال ولا أحد من الركب حتى ضربتهم الشمس ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بلال يا رسول الله أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتادوا فبعثوا رواحلهم واقتادوا شيئا ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأقام الصلاة فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ثم قال حين قضى الصلاة من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها فإن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه وأقم الصلوة لذكرى طه هذا الحديث مرسل في الموطأ عند جميع رواته فيما علمت وقد ذكرت في التمهيد من تابع مالكا عن بن شهاب من أصحابه في إرساله ومن وصله فأسنده وذكرت هناك من روى عن النبي عليه السلام من أصحابه نومه عن الصلاة في سفره فإنه روي عنه من وجوه ذكرتها في حديث زيد بن أسلم من التمهيد وقول بن شهاب عن سعيد بن المسيب في هذا الحديث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قفل من خيبر أسرى أصح من قول من قال إن ذلك كان مرجعه من غزاة حنين وفي حديث بن مسعود أن نومه ذلك كان عام الحديبية وذلك في زمن خيبر وكذلك قال بن إسحاق وأهل السير إن نومه عن الصلاة كان حين قفوله من خيبر والقفول الرجوع من السفر ولا يقال قفل إذا سار مبتدئا قال صاحب العين قفل الجيش قفولا وقفلا إذا رجعوا وقفلتهم أنا هكذا وهو القفول والقفل وخروج الإمام بنفسه في الغزوات من السنن وكذلك إرساله السرايا كل ذلك سنة مسنونة

والسرى سير الليل ومشيه وهو لفظة مؤنثة وسرى وأسرى لغتان قرئ بهما ولا يقال لسير النهار سرى ومنه المثل السائر عند الصباح يحمد القوم السرى والتعريس نزول آخر الليل ولا تسمي العرب نزول أول الليل تعريسا وقوله اكلأ لنا الصبح أي ارقب لنا الصبح واحفظ علينا وقت صلاته وأصل الكلء الحفظ والمنع والرعاية وهي لفظة مهموزة قال الله تعالى قل من يكلؤكم بالليل والنهار الأنبياء أي يحفظكم ومنه قول بن هرمة إن سليمى والله يكلؤها وفي هذا الحديث إباحة المشي على الدواب بالليل وذلك على قدر الاحتمال ولا ينبغي أن يصل المشي عليها ليلا ونهارا وقد أمر عليه السلام بالرفق بها وأن ينجى عليها بنقيها وفيه أمر الرفيق بما خف من الخدمة والعون في السفر وذلك محمول على العرف في مثله وإنما قلنا بالرفيق ولم نقل بالمملوك لأن بلالا كان حرا يومئذ قد كان أبو بكر أعتقه بمكة وكانت خيبر سنة ست من الهجرة وقد أوضحنا في التمهيد معنى نوم النبي عليه السلام عن صلاته في سفره حتى طلعت الشمس مع قوله عليه السلام إن عيني تنامان ولا ينام قلبي والنكتة في ذلك أن الأنبياء عليهم السلام تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم ولذلك كانت رؤيا الأنبياء وحيا وكذلك قال بن عباس رؤيا الأنبياء وحي وتلا افعل ما تؤمر الصافات وقد روي عن النبي عليه السلام أنه قال إنا معشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا وقد ذكرنا الحديث بذلك في التمهيد

وقال تعالى حاكيا عن إبراهيم نبيه عليه السلام أنه قال لابنه إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر الصافات ونومه عليه السلام في سفره من باب قوله إني لأنسى أو أنسى لأسن فخرق نومه ذلك عادته عليه السلام ليسن لأمته ألا ترى إلى قوله في حديث العلاء بن خباب لو شاء الله لأيقظنا ولكنه أراد أن تكون سنة لمن بعدكم وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن عبيدة بن حميد عن يزيد بن أبي زياد عن تميم بن أبي سلمة عن مسروق عن بن عباس قال ما يسرني أن لي الدنيا بما فيها بصلاة النبي عليه السلام الصبح بعد طلوع الشمس وكان مسروق يقول ذلك أيضا قرأت على عبد الوارث أن قاسما حدثهم قال حدثنا أحمد بن زهير حدثنا بن الأصبهاني قال حدثنا عبيدة بن حميد عن يزيد بن أبي زياد عن تميم عن أبي سلمة عن مسروق عن بن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فعرسوا من الليل فلم يستيقظوا حتى طلعت الشمس قال فأمر فأذن ثم صلى ركعتين قال بن عباس فما يسرني بهما الدنيا وما فيها يعني الرخصة قال أبو عمر وذلك عندي والله أعلم لأنه كان سببا إلى أن علم أصحابه المبلغون عنه إلى سائر أمته أن مراد الله من عباده الصلاة وإن كانت مؤقتة أن من لم يصلها في وقتها فإنه يقضيها أبدا متى ما ذكرها ناسيا كان لها أو نائما عنها أو متعمدا لتركها ألا ترى أن حديث مالك في هذا الباب عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها والنسيان في لسان العرب يكون الترك عمدا ويكون ضد الذكر قال الله تعالى نسوا الله فنسيهم التوبة أي تركوا طاعة الله تعالى والإيمان بما جاء به رسوله فتركهم الله من رحمته وهذا مما لا خلاف فيه ولا يجهله من له أقل علم بتأويل القرآن فإن قيل فلم خص النائم والناسي بالذكر في قوله في غير هذا الحديث من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها قيل خص النائم والناسي ليرتفع التوهم والظن فيهما لرفع القلم في سقوط المأثم عنهما بالنوم والنسيان

فأبان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سقوط الإثم عنهما غير مسقط لما لزمهما من فرض الصلاة وأنها واجبة عليهما عند الذكر لها يقضيها كل واحد منهما بعد خروج وقتها إذا ذكرها ولم يحتج إلى ذكر العامد معهما لأن العلة المتوهمة في الناسي والنائم ليست فيه ولا عذر له في ترك فرض قد وجب عليه من صلاته إذا كان ذاكرا له وسوى الله تعالى في حكمه على لسان نبيه بين حكم والصلاة الموقوتة والصيام الموقوت في شهر رمضان بأن كل واحد منهما يقضى بعد خروج وقته فنص على النائم والناسي في الصلاة لما وصفنا ونص على المريض والمسافر في الصوم وأجمعت الأمة ونقلت الكافة فيمن لم يصم رمضان عامدا وهو مؤمن بفرضه وإنما تركه أشرا وبطرا تعمد ذلك ثم تاب عنه أن عليه قضاءه فكذلك من ترك الصلاة عامدا فالعامد والناسي في القضاء للصلاة والصيام سواء وإن اختلفا في الإثم كالجاني على الأموال المتلف لها عامدا وناسيا إلا في الإثم وكان الحكم في هذا الشرع بخلاف رمي الجمار في الحج التي لا تقضى في غير وقتها لعامد ولا لناس فوجوب الدم فيها ينوب عنها وبخلاف الضحايا أيضا لأن الضحايا ليست بواجبة فرضا والصلاة والصيام كلاهما فرض واجب ودين ثابت يؤدى أبدا وإن خرج الوقت المؤجل لهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم دين الله أحق أن يقضى وإذا كان النائم والناسي للصلاة وهما معذوران يقضيانها بعد خروج وقتها كان المتعمد لتركها المأثوم في فعله ذلك أولى بالا يسقط عنه فرض الصلاة وأن يحكم عليه بالإتيان بها لأن التوبة من عصيانه في تعمد تركها هي أداؤها وإقامة تركها مع الندم على ما سلف من تركه لها في وقتها

وقد شذ بعض أهل الظاهر وأقدم على خلاف جمهور علماء المسلمين وسبيل المؤمنين فقال ليس على المتعمد لترك الصلاة في وقتها أن يأتي بها في غير وقتها لأنه غير نائم ولا ناس وإنما قال رسول الله من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها قال والمتعمد غير الناسي والنائم قال وقياسه عليهما غير جائز عندنا كما أن من قتل الصيد ناسيا لا يجزئه عندنا فخالفه في المسألة جمهور العلماء وظن أنه يستتر في ذلك برواية جاءت عن بعض التابعين شذ فيها عن جماعة المسلمين وهو محجوج بهم مأمور باتباعهم فخالف هذا الظاهر عن طريق النظر والاعتبار وشذ عن جماعة علماء الأمصار ولم يأت فيما ذهب إليه من ذلك بدليل يصح في العقول ومن الدليل على أن الصلاة تصلي وتقضى بعد خروج وقتها كالصائم سواء وإن كان إجماع الأمة الذين أمر من شذ منهم بالرجوع إليهم وترك الخروج عن سبيلهم يغني عن الدليل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ولم يخص متعمدا من ناس ونقلت الكافة عنه عليه السلام أن من أدرك ركعة من صلاة العصر قبل الغروب صلى تمام صلاته بعد الغروب وذلك بعد خروج الوقت عند الجميع ولا فرق بين عمل صلاة العصر كلها لمن تعمد أو نسي أو فرط وبين عمل بعضها في نظر ولا اعتبار ودليل آخر وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل هو ولا أصحابه يوم الخندق صلاة الظهر والعصر حتى غربت الشمس لشغله بما نصبه المشركون له من الحرب ولم يكن يومئذ ناسيا ولا نائما ولا كانت بين المسلمين والمشركين يومئذ حرب قائمة ملتحمة وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر في الليل ودليل آخر وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بالمدينة لأصحابه يوم انصرافه من الخندق لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة فخرجوا متبادرين وصلى

بعضهم العصر في طريق بني قريظة خوفا من خروج وقتها المعهود ولم يصلها بعضهم إلا في بني قريظة بعد غروب الشمس فلم يعنف رسول الله عليه السلام إحدى الطائفتين وكلهم غير ناس ولا نائم وقد أخر بعضهم الصلاة حتى خرج وقتها ثم صلاها وقد علم رسول الله ذلك فلم يقل لهم إن الصلاة لا تصلى إلا في وقتها ولا تقضى بعد خروج وقتها ودليل آخر وهو قوله عليه السلام سيكون بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن ميقاتها قالوا أفنصليها معهم قال نعم حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسحاق بن الحسن الحربي قال حدثنا أبو حذيفة يوسف بن مسعود قال حدثنا سفيان الثوري عن منصور عن هلال بن يساف عن أبي المثني الحمصي عن أبي أبي بن امرأة عبادة بن الصامت عن عبادة بن الصامت قال كنا عند النبي عليه السلام فقال إنه سيكون بعدي أمراء تشغلهم أشياء حتى لا يصلوا الصلاة لميقاتها قالوا نصليها معهم يا رسول الله قال نعم قال أبو عمر أبو المثنى الحمصي هو الأملوكي ثقة روى عن عتبة وأبي بن أم حرام وكعب الأحبار وأبو أبي بن أم حرام ربيب عبادة له صحبة وقد سماه وكيع وغيره في هذا الحديث عن الثوري وقد ذكرناه في الكنى وفي هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباح الصلاة بعد خروج ميقاتها ولم يقل إن الصلاة لا تصلى إلا في وقتها والأحاديث في تأخير الأمراء الصلاة حتى يخرج وقتها كثيرة جدا وقد كان الأمراء من بني أمية أو أكثرهم يصلون الجمعة عند الغروب وقد قال عليه السلام التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى

وقد أعلمهم أن وقت الظهر في الحضر ما لم يخرج وقت العصر روي ذلك عنه من وجوه صحاح قد ذكرت بعضها في صدر هذا الكتاب في المواقيت حدثنا عبد الله بن محمد بن أسد قال حدثنا حمزة بن محمد بن علي حدثنا أحمد بن شعيب النسائي قال حدثنا سويد بن نصر قال حدثنا عبد الله يعني بن المبارك عن سليمان بن المغيرة عن ثابت عن عبد الله بن رباح عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يحين وقت الأخرى فقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعل هذا مفرطا والمفرط ليس بمعذور وليس كالنائم ولا الناسي عند الجميع من جهة العذر وقد أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته على ما كان من تفريطه وقد روي في حديث أبي قتادة هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وإذا كان الغد فليصلها لميقاتها وهذا أبعد وأوضح في أداء المفرط الصلاة عند الذكر وبعد الذكر وحديث أبي قتادة هذا صحيح الإسناد إلا أن هذا المعنى قد عارضه حديث عمران بن الحصين في نوم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الصبح في سفره وفيه قالوا يا رسول الله ألا نصليها من الغد قال لا إن الله لا ينهاكم عن الربا ثم يقبله منكم وروي من حديث أبي هريرة عن النبي عليه السلام وقد روى عبد الرحمن بن علقمة الثقفي وهو مذكور في الصحابة قال قدم وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوا يسألونه فشغلوه فلم يصل يومئذ الظهر إلا مع العصر وأقل ما في هذا أنه أخرها عن وقتها الذي كان يصليها فيه بشغل اشتغل به وعبد الرحمن بن علقمة من ثقات التابعين وقد أجمع العلماء على أن تارك الصلاة عامدا حتى يخرج وقتها عاص لله وذكر بعضهم أنها كبيرة من الكبائر وليس ذلك مذكورا عند الجمهور في الكبائر وأجمعوا على أن على العاصي أن يتوب من ذنبه بالندم عليه واعتقاد ترك

العودة إليه قال الله تعالى وتوبوا إلى الله جميعا آية المؤمنون لعلكم تفلحون النور ومن لزمه حق لله أو لعباده لزمه الخروج منه وقد شبه عليه السلام حق الله تعالى بحقوق الآدميين وقال دين الله أحق أن يقضى والعجب من هذا الظاهري في نقضه أصله وأصل أصحابه فيما وجب من الفرائض بإجماع أنه لا يسقط إلا بإجماع مثله أو سنة ثابتة لا تنازع في قبولها والصلوات المكتوبات واجبات بإجماع ثم جاء من الاختلاف بشذوذ خارج عن أقوال علماء الأمصار وأتبعه دون سند روي في ذلك وأسقط به الفريضة المجتمع على وجوبها ونقض أصله ونسي نفسه والله أسأله التوفيق لما يرضاه والعصمة مما به ابتلاه وقد ذكر أبو الحسن بن المغلس في كتابه الموضح على مذهب أهل الظاهر قال فإذا كان الإنسان في مصر في حش أو موضع نجس أو كان مربوطا على خشبة ولم تمكنه الطهارة ولا قدر عليها لم تجب عليه الصلاة حتى يقدر على الوضوء فإن قدر على الطهارة تطهر وصلى متى ما قدر على الوضوء والتيمم قال أبو عمر هذا غير ناس ولا نائم وقد أوجب أهل الظاهر عليه الصلاة بعد خروج الوقت ولم يذكر بن المغلس خلافا بين أهل الظاهر في ذلك وهذا الظاهري يقول لا يصلي أحد الصلاة بعد خروج وقتها إلا النائم والناسي لأنهما خصا بذلك ونص عليهما فإن قال هذا معذور كما أن النائم والناسي معذوران وقد جمعهما العذر قيل له قد تركت ما أصلت في نفي القياس واعتبار المعاني وألا يتعدى النص مع أن العقول تشهد أن غير المعذور أولى بإلزام القضاء من المعذور وقد ذكر أبو عبد الله أحمد بن محمد الداودي البغدادي في كتابه المترجم بجامع مذهب أبي سليمان داود بن علي بن خلف الأصبهاني في باب صوم الحائض وصلاتها من كتاب الطهارة قال كل ما تركت الحائض من صلاتها حتى يخرج وقتها فعليها إعادتها قال ولو تركت الصلاة حتى يخرج وقتها وتريثت عن الإتيان بها حتى حاضت أعادت تلك الصلاة بعينها إذا طهرت

فهذا قول داود وهذا قول أهل الظاهر فما أرى هذا الظاهري إلا قد خرج عن جماعة العلماء من السلف والخلف وخالف جميع فرق الفقهاء وشذ عنهم ولا يكون إماما في العلم من أخذ بالشاذ من العلم وقد أوهم في كتابه أن له سلفا من الصحابة والتابعين تجاهلا منه أو جهلا فذكر عن بن مسعود ومسروق وعمر بن عبد العزيز في قوله تعالى أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا مريم قالوا أخروها عن مواقيتها قالوا ولو تركوها لكانوا بتركها كفارا وهؤلاء يقولون بكفر تارك الصلاة عمدا ولا يقولون بقتله إذا كان مقرى بها فكيف يحتج بهم على أن من قضى الصلاة فقد تاب من تضييعها قال الله تعالى وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى طه ولا تصح لمضيع الصلاة توبة إلا بأدائها كما لا تصح التوبة من دين الآدمي إلا بأدائه ومن قضى صلاة فرط فيها فقد تاب وعمل صالحا والله لا يضيع أجر من أحسن عملا وذكر عن سليمان أنه قال الصلاة مكيال فمن وفى وفي له ومن طفف فقد علمتم ما قال الله تعالى في المطففين وهذا لا حجة فيه لأن الظاهر من معناه أن المطفف قد يكون الذي لم يكمل صلاته بركوعها وسجودها وحدودها وإن صلاها في وقتها وذكر عن بن عمر أنه قال لا صلاة لمن لم يصل الصلاة لوقتها وكذلك نقول لا صلاة له كاملة كما لا صلاة لجار المسجد ولا إيمان لمن لا أمانة له ومن قضى الصلاة فقد صلاها وتاب من سيئ عمله في تركها وكل ما ذكر في هذا المعنى فغير صحيح ولا له في شيء منه حجة لأن ظاهره خلاف ما تأوله والله أسأله العصمة والتوفيق وأما فزع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان فزعا منه وإشفاقا وحزنا على ما فاته من صلاته في وقتها بالنوم الغالب عليه وحرصا على بلوغ الغاية من طاعة ربه ونحو ذلك كما فزع حين قام إلى صلاة الكسوف فزعا يجر رداءه وكان فزع أصحابه في انتباههم لأنهم لم يعرفوا حكم من نام عن صلاته في رفع المأثم عنه وإباحة القضاء له ولذلك قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله قبض أرواحنا ولو شاء لردها إلينا في حين غير هذا

ويجوز أن يكون فزعهم لما رأوه من فزعه حين انتباهه إشفاقا وفزعا كفزعهم حين صلى بهم عبد الرحمن بن عوف الصبح ورسول الله صلى الله عليه وسلم مشتغل بطهوره ثم أتى فأدرك معهم ركعة فلما سمعوا تكبيرة فزعوا فلما قضى صلاته قال أحسنتم ولم يكن فزعه عليه السلام من عدو خافه كما زعم بعض من تكلم في معاني الموطأ وفي هذا الحديث تخصيص قوله عليه السلام رفع القلم عن النائم حتى يستيقظ وبيان أنه إنما رفع عنه الإثم في تأخير الصلاة لما يغلبه من النوم ولم يرفع عنه وجوب الإتيان بها إذا انتبه وذكرها وكذلك الناسي وفي قوله عليه السلام حتى يستيقظ في النائم وفي الساهي فليصلها إذا ذكرها بيان ما قلنا وبالله توفيقنا وأما قول بلال أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك يعني من النوم فصنف من الاحتجاج لطيف يقول إذا كنت في منزلتك من الله قد غلبتك عينك وقبضت نفسك فأنا أحرى بذلك وقد روى بن شهاب عن علي بن حسين قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على علي بن أبي طالب وفاطمة وهما نائمان فقال ألا تصلون ألا تصلون فقال علي يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله فإذا أراد أن يبعثها بعثها فأنصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ وكان الإنسان أكثر شيء جدلا الكهف

وفي قول علي إنما أنفسنا بيد الله وقول بلال أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك مع قوله عليه السلام إن الله قبض أرواحنا وقوله عليه السلام في حديث أبي جحيفة إنكم كنتم أمواتا فرد الله إليكم أرواحكم مع قوله تعالى الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها الزمر دليل واضح على أن الروح والنفس شيء واحد وقد أثبتنا بما بينا في النفس والروح عن السلف ومن بعدهم بما فيه شفاء في مرسل زيد بن أسلم من التمهيد والحمد لله وأما قوله فبعثوا رواحلهم واقتادوا شيئا فإنه أراد أثاروا جمالهم واقتادوا سيرا قليلا والإبل إذا كان عليها الأوقار فهي الرواحل واختلف العلماء في معنى اقتيادهم وخروجهم من ذلك الوادي فقال أهل الحجاز إنما كان ذلك لأن الوقت قد كان خرج فلم يخف فوتا آخر وتشاءم بالموضع الذي نابهم فيه فقال هذا واد به شيطان كما قال تعالى حاكيا عن موسى عليه السلام وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره الكهف وقد روى معمر عن الزهري في هذا الحديث عن بن المسيب قال فاقتادوا رواحلهم وارتحلوا عن المكان الذي أصابتهم فيه الغفلة وذكر وكيع عن جعفر بن برقان عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم نام عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس فقال لأصحابه تزحزحوا عن المكان الذي أصابتكم فيه الغفلة فصلى ثم قال وأقم الصلاة لذكرى وذلك كله نحو مما أشرنا إليه وليس من باب الطيرة وإنما هو من باب الكراهة وأما أهل العراق فزعموا أن تأخير رسول الله صلى الله عليه وسلم لتلك الصلاة حتى خرج من الوادي إنما كان لأنه انتبه في حين طلوع الشمس قالوا ومن سنته ألا يصلي عند طلوع الشمس ولا غروبها ومن حجتهم ما أنبأنا سعيد بن نصر وأحمد بن قاسم وعبد الوارث بن سفيان قالوا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني قال حدثنا بندار محمد بن بشار قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا شعبة عن جامع بن شداد قال سمعت عبد الرحمن بن علقمة قال سمعت بن مسعود يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من يكلأنا الليلة فقال بلال أنا فناموا حتى طلعت الشمس فقال افعلوا كما كنتم تفعلون ففعلنا قال كذلك فافعلوا ثم نام أو نسي واحتجوا بقوله عليه السلام إذا بدا حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تبرز وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب

وبالآثار التي رواها الصنابحي وغيره في النهي عن الصلاة في حين طلوع الشمس وحين غروبها وحملوا ذلك على الفرائض وعلى النوافل وقالوا لما كان يوم الفطر والأضحى لا يؤدى فيهما صيام رمضان ولا نفل لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامهما فكذلك هذه الأوقات لا تصلى فيها فريضة ولا نافلة لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها وهذا يرد قوله عليه السلام من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر وروى أبو رافع عن أبي هريرة أن النبي عليه السلام أنه قال إذا أدركت ركعة من صلاة الفجر قبل طلوع الشمس فصل إليها أخرى وقد ذكرناه بإسناده في التمهيد وهذه إباحة منه لصلاة الفريضة في حين طلوع الشمس وحين غروبها فدل ذلك على أن نهيه المذكور عن الصلاة في حين طلوع الشمس وحين غروبها لم يكن عن الفرائض وإنما أراد به التطوع والنافلة وأما قوله فأمر بلالا فأقام الصلاة فيحتمل أنه لم يأمره بالأذان وإنما أمره بالإقامة فقط وهذا مذهب مالك في الموطأ في الصلاة الفائتة أنها تقام بغير أذان وأنه لا يؤذن لصلاة فريضة إلا في وقتها ويحتمل أن يكون أمره فأقام الصلاة بما تقام به من الأذان والإقامة وقد روي عن النبي عليه السلام أنه حين نام عن صلاة الفجر في سفره أمر بلالا فأذن وأقام وفي بعضها أنه أمره فأقام ولم يذكر أذانا واختلف الفقهاء في الأذان والإقامة للصلوات الفوائت فقال مالك والأوزاعي والشافعي من فاتته صلاة أو صلوات حتى خرج وقتها أقام لكل صلاة إقامة إقامة ولم يؤذن وقال الثوري ليس عليه في الفوائت أذان ولا إقامة وقال أبو حنيفة من فاتته صلاة واحدة صلاها بأذان وإقامة فإن لم يفعل فصلاته تامة وقال محمد بن الحسن إذا فاتته صلوات فإن صلاهن بإقامة إقامة كما فعل

النبي عليه السلام يوم الخندق فحسن وإن أذن وأقام لكل صلاة فحسن ولم يذكر خلافا بينه وبين أصحابه في ذلك وقال أحمد بن حنبل وأبو ثور وداود يؤذن ويقيم لكل صلاة فاتته على ما روي عن النبي عليه السلام حين نام في سفره عن صلاة الفجر قال أبو عمر كأنهم ذهبوا إلى أن ما ذكر الصحابة والرواة في أحاديث نوم النبي عليه السلام عن صلاة الفجر في سفره من الأذان مع الإقامة حجة على من لم يذكر إلا ما ذكرنا من احتمال لفظ الإقامة في التأويل وقد ذكرنا الأحاديث بذلك في التمهيد من طرق كثيرة عن جماعة من الصحابة منها ما أنبأناه سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا أبو أسامة عن هشام عن الحسن عن عمران بن حصين قال سرينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عرس بنا من آخر الليل قال فاستيقظنا وقد طلعت الشمس قال فجعل الرجل يثور إلى طهوره دهشا فازعا فقال النبي عليه السلام ارتحلوا قال فارتحلنا حتى إذا ارتفعت الشمس نزلنا فقضينا من حوائجنا ثم أمر بلالا فأذن فصلينا ركعتين ثم أمر بلالا فأقام فصلى بنا النبي عليه السلام قال فقلنا يا رسول الله أفنقضيها لميقاتها من الغد فقال لا ينهاكم الله عن الربا ويأخذه منكم ومن حجة من قال إن الفائتة يقام لها ولا يؤذن حديث أبي سعيد الخدري وحديث بن مسعود عن يوم الخندق فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حبس يومئذ عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء إلى هوي من الليل ثم أقام لكل صلاة ولم يذكر أذانا حدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا إبراهيم بن عبد الرحمن حدثنا عمار بن عبد الجبار الخرساني قال حدثنا بن أبي ذئب وحدثنا أحمد بن عبد الله قال حدثنا الميمون بن حمزة الخشني حدثنا الطحاوي حدثنا المزني حدثنا الشافعي حدثنا بن أبي بديل عن بن أبي ذئب عن المقبري عن أبي سعيد الخدري عن أبيه قال حبسنا يوم الخندق عن الصلاة حتى كان هوي من الليل حتى كفينا وذلك قوله وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا الأحزاب فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأقام فصلى الظهر كما كان يصليها في وقتها ثم أقام العصر فصلاها كذلك ثم أقام المغرب فصلاها ثم أقام

العشاء فصلاها كذلك وذلك قبل أن ينزل في صلاة الخوف فإن خفتم فرجالا أو ركبانا البقرة معنى حديثهما سواء وحدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا أحمد بن محمد السري حدثنا أبو نعيم حدثنا عبد الوارث حدثنا هشام بن عبد الله عن أبي الزبير عن نافع بن جبير عن مطعم عن أبي عبيدة عن بن مسعود قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فحبسنا عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء قال فأمر رسول الله بلالا فأقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ثم أقام فصلى المغرب ثم أقام فصلى العشاء ثم قال ما على الأرض عصابة يذكرون الله غيركم قال أبو عمر يعني الصلاة في ذلك الوقت وهذان الحديثان حجة في أن الفوائت يقام لها ولا يؤذن واستدل بعض من يقول بأنها يؤذن لها ويقام بما في هذين الحديثين من قوله ثم أقام للعشاء فصلاها والعشاء مفعولة في وقتها ليست بفائتة ولا بد لها من الأذان فدل ذلك على أن قوله ثم أقام فصلى العشاء إنما أراد إقامتها بما تقام به على سنتها من الأذان والإقامة قال فكذلك سائر ما ذكر معها من الصلوات قال أبو عمر قد يحتمل أن تكون العشاء صليت في تلك الليلة بعد نصف الليل لقوله في الحديث هوي من الليل وذلك بعد خروج وقتها فكان حكمها في ذلك حكم صلاة المغرب بعد مغيب الشفق على ما في الأحاديث المسندة وإذا احتمل ذلك فهي فائتة حكمها حكم غيرها مما ذكر من الصلاة معها وصح بظاهر هذين الحديثين أن الفوائت يقام لها ولا يؤذن وبالله التوفيق وأما صلاة ركعتي الفجر لمن نام عن صلاة الفجر ولم ينتبه لها إلا بعد طلوع الشمس فإن مالكا قال يبدأ بالمكتوبة ولم يعرف ما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركعتي الفجر يومئذ وذكر أبو قرة موسى بن طارق في سماعه من مالك قال قال مالك فيمن نام عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس إنه لا يركع ركعتي الفجر ولا يبدأ بشيء قبل الفريضة قال وقال مالك لم يبلغنا أن النبي عليه السلام صلى ركعتي الفجر حين نام عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس

قال بن وهب سئل مالك هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نام عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس ركع ركعتي الفجر قال ما علمت قال أبو عمر ليس في شيء من رواية مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركع ركعتي الفجر في ذلك وإنما صار في ذلك إلى ما روى وعلى مذهبه في ذلك جمهور أصحابه إلا أشهب وعلي بن زياد فإنهما قالا يركع ركعتي الفجر قبل أن يصلي الصبح قالا قد بلغنا ذلك عن النبي عليه السلام أنه صلاهما يومئذ وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما والثوري والحسن بن صالح يركع ركعتي الفجر إن شاء ولا ينبغي له أن يدعهما وإليه ذهب أحمد وإسحاق وأبو ثور وداود لما روي في ذلك من حديث عمران بن حصين وغيره وقد ذكرنا ذلك في باب مرسل زيد بن أسلم من التمهيد وقد كان يجب على أصل مالك أن يركعهما قبل أن يصلي الصبح لأن قوله من أتى مسجدا قد صلي فيه لا بأس أن يتطوع قبل المكتوبة إذا كان في سعة من الوقت ومعلوم أن من انتبه بعد طلوع الشمس لا يخاف من فوت الوقت أكثر مما هو فيه وكذلك قال أبو حنيفة والشافعي وداود يتطوع إذا كان في الوقت سعة وقال الثوري أبدأ بالمكتوبة ثم تطوع بما شئت وهو قول الحسن بن حي وقال الليث بن سعد كل واجب من صلاة فريضة أو صلاة نذر أو صيام يبدأ به قبل النفل رواه بن وهب عنه وقد روى عنه بن وهب خلاف ذلك قال بن وهب سمعت الليث يقول في الذي يدرك الإمام في قيام رمضان ولم يصل العشاء أنه يصلي معهم بصلاتهم فإذا فرغ صلى العشاء قال وإن علم أنهم في القيام قبل أن يدخل في المسجد فوجد مكانا طاهرا فليصل العشاء ثم يدخل معهم في القيام وأما قوله في الحديث من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها فإن الله يقول وأقم الصلاة لذكرى فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها من وجوه قد ذكرناها في التمهيد وفي بعضها فذلك وقتها واحتج القائلون بأن من ذكر صلاة وهو في صلاة فسدت عليه صلاته التي هو فيها حتى يصلي التي ذكر قبلها من أصحابنا وغيرهم بقوله هذا فليصلها إذا ذكرها قالوا فهو مأمور بإقام الصلاة المذكورة في حين الذكر فصار ذلك وقتا لها

فإذا ذكرها وهو في صلاة فكأنها مع صلاة الوقت صلاتان من يوم واحد اجتمعتا عليه في وقت واحد فالواجب أن يبدأ بالأولى منهما فلذلك فسدت عليه التي هو فيها كما لو صلى العصر قبل صلاة الظهر من ذلك اليوم وفسادها من جهة الترتيب إلا أن ذلك عند مالك وأصحابه ومن يقول بقولهم لا تجب إلا مع الذكر وحصول الوقت بالترتيب وقلة العدد وذلك صلاة يوم فما دون فإذا خرج الوقت سقط الترتيب وكذلك سقط الترتيب مع كثرة العدد لما في ذلك من المشقة وما لا يطاق عليه ويفحش القياس فيه لأنه لو ذكر صلاة عام فرط فيها أو ذكر صلاة بين وقتها وبين صلاة وقته عام قبح بالمفتى أن يأمره بصلاة عام ونحوه قبل أن يصلي صلاة وقته واحتج بعضهم في وجوب الترتيب بحديث أبي جمعة واسمه حبيب بن سباع وله صحبة قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب يوم الأحزاب فلما سلم قال هل علم أحد منكم أني صليت العصر قالوا لا يا رسول الله قال فصلى العصر ثم صلى المغرب وهذا حديث لا يعرف إلا عن بن لهيعة عن مجهولين لا تقوم بهم حجة وقال الشافعي وداود بن علي وأبو جعفر الطبري لا يلزم الترتيب في شيء من ذلك وقالوا فيمن ذكر صلاة وهو في صلاة غيرها وحده أو وراء إمام يتمادى في صلاته فإذا أتمها صلى التي ذكر ولم يعد الأخرى بعدها وليس الترتيب عند هؤلاء بواجب فيما قل ولا فيما كثر إلا في صلاة اليوم بعينه وحجتهم أن الترتيب إنما يجب في اليوم وأوقاته كما يجب ترتيب أيام رمضان في رمضان لا في غيره فإذا خرج الوقت سقط الترتيب ألا ترى أن رمضان تجب الرتبة فيه والنسق لوقته فإذا انقضى سقطت الرتبة ولم يجب على الذي لم يصمه في وقته لمرض أو سفر إلا عدة من أيام أخر وكذلك من عليه أيام من شهر رمضان فلم يصمها حتى دخل عليه رمضان آخر أنه يصومه ثم يصوم الأيام من الأول بعده ولا يعيده وهذا إجماع من علماء المسلمين وإنما اختلفوا في الإطعام مع قضاء الأيام لمن فرط وهو قادر على الصيام

فأما داود ومن نفى القياس فإنهم احتجوا في سقوط الترتيب بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ركعتي الفجر يومئذ وهو ذاكر للصبح قالوا فقد صلى صلاة سنة وهو ذاكر فيها لصلاة فريضة فلم تفسد عليه فأحرى ألا تفسد عليه صلاة فريضة إذا ذكر فيها أخرى قبلها وهذا عندي احتجاج فاسد غير لازم من وجوه منها أن لا ترتيب بين السنن والفرائض ومنها أنه لم يذكر في ركعتي الفجر صلاة قبلها وإنما كان ذاكرا فيها صلاة بعدها وهذا لا خفاء فيه لمن أنصف نفسه ولا معنى لقول النبي عليه السلام فليصلها إذا ذكرها فإن الله تعالى يقول وأقم الصلاة لذكرى عند من لا يرى الترتيب إلا إيجاب الصلاة على كل من نام عنها أو تركها أو نسيها إذا ذكرها وأنه لازم لكل من ذكر صلاة لم يصلها أن يصليها إذا ذكرها وأن النائم عنها والناس لها إذا ذكرها في حكم من ذكرها في وقتها وليس في ذلك عندهم إيجاب ترتيب وقد أجمع علماء المسلمين أن من ذكر صلوات كثيرة كصلاة شهر أو أكثر أو ما زاد على صلاة يوم وليلة لم يلزمه ترتيب ذلك مع صلاة وقته فكذلك القليل من الصلوات في القياس والنظر وبالله التوفيق وسيأتي من هذا المعنى زيادة مسائل عن العلماء يزيد الناظر فيها بيانا وعلما عند ذكر حديث مالك إن شاء الله وأما معنى قوله تعالى وأقم الصلاة لذكرى فإن أكثر أهل العلم قالوا معناه أن يصلي الصلاة إذا ذكرها هذا قول إبراهيم والشعبي وأبي العالية وجماعة من العلماء بتأويل القرآن وقد قرئت للذكرى على هذا المعنى وكان بن شهاب يقرؤها كذلك وقال مجاهد وأقم الصلاة لذكرى أن يذكر فيها قال فإذا صلى عبد ذكر ربه مالك عن زيد بن أسلم أنه قال عرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بطريق مكة ووكل بلالا أن يوقظهم للصلاة فرقد بلال ورقدوا حتى استيقظوا وقد

طلعت عليهم الشمس فاستيقظ القوم وقد فزعوا فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يركبوا حتى يخرجوا من ذلك الوادي وقال إن هذا واد به شيطان فركبوا حتى خرجوا من ذلك الوادي ثم أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزلوا وأن يتوضؤوا وأمر بلالا أن ينادي بالصلاة أو يقيم فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس ثم انصرف إليهم وقد رأى من فزعهم فقال يا أيها الناس إن الله قبض أرواحنا ولو شاء لردها إلينا في حين غير هذا فإذا رقد أحدكم عن الصلاة أو نسيها ثم فزع إليها فليصلها كما كان يصليها في وقتها ثم التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر فقال إن الشيطان أتى بلالا وهو قائم يصلي فأضجعه فلم يزل يهدئه كما يهدأ الصبي حتى نام ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأخبر بلال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فقال أبو بكر أشهد أنك رسول الله وقد ذكرنا هذا الحديث متصلا مسندا من وجوه كثيرة في التمهيد بمعان متقاربة وفيها ما يدل على أن نومه عليه السلام كان منه مرة واحدة ويحتمل أن يكون مرتين لأن في حديث بن مسعود أنا أوقظكم وقد يمكن أن رسول الله لم يجبه إلى ذلك وأمر بلالا أن يوقظهم لأن في أكثر الأحاديث أن بلالا كان موكلا بذلك على ما في حديثي مالك وفي بعض الأحاديث أن ذلك النوم كان منه عليه السلام زمن الحديبية وفي بعضها زمن خيبر وفي بعضها بطريق مكة ويشبه أن يكون كل واحدا لأن عمرة الحديبية كانت زمن خيبر وهو طريق مكة لمن شاء ويجوز أن يكون غير ذلك والله أعلم وأما قول عطاء بن يسار إن ذلك كان في غزوة تبوك فليس بشيء وأحسبه وهما والله أعلم وقد ذكرنا الآثار بذلك في التمهيد وقد مضى معنى التعريس وكثير من معاني ألفاظ هذا الحديث فيما تقدم من القول في الحديث الذي قبله وقوله في هذا الحديث فاستيقظ رسول الله وقد فزعوا تفسيره قوله فيه ثم

انصرف إليهم وقد رأى من فزعهم فقال يا أيها الناس إن الله قبض أرواحنا ولو شاء لردها إلينا في حين غير هذا وهذا القول منه لما رأى من فزعهم دليل على أن فزعهم لم يكن من أجل عدو يخشونه ولو كان فزعهم من العدو كما زعم بعض أصحابنا ممن فسر الموطأ أن فزعهم كان من خوف العدو لما قال لهم هذا القول والوجه عندي في فزعهم أنه كان وجلا وإشفاقا على ما قدمناه ذكره ولم يكونوا علموا سقوط المأثم عن النائم وعدوه تفريطا فلذلك قال لهم عليه السلام ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة وقد ذكرنا الخبر بذلك فيما مضى من هذا الباب وقد تقدم خروجهم من هذا الوادي وما ذهب إليه أهل الحجاز وأهل العراق في ذلك وفي حديث بن شهاب فاقتادوا رواحلهم وفي حديث زيد بن أسلم فركبوا حتى خرجوا من ذلك الوادي وهذا يحتمل أن يكون بعضهم اقتاد راحلته وبعضهم ركب على ما فهموا من أمره بذلك كله لأن في حديث بن شهاب فاقتادوا وفي حديث زيد بن أسلم فركبوا وليس في ذلك تعارض ولا تدافع وممكن أن يجري من القول ذلك كله وفي رواية بن جريج عن عطاء بن أبي رباح في حديث نوم النبي عليه السلام عن صلاة الصبح في السفر قال فركع ركعتين في معرسه ثم سار ساعة ثم صلى الصبح قال بن جريج فقلت لعطاء بن أبي رباح أي سفر كان قال لا أدري قال أبو عمر في سيره عليه السلام بعد أن ركع ركعتي الفجر أوضح دليل على أن خروجه من ذلك الوادي وتركه للصلاة كان لبعض ما وصفنا في الحديث قبل هذا لا لأنه انتبه حين بدا حاجب الشمس كما زعم أهل الكوفة لأنه معلوم أن الوقت الذي تحل فيه صلاة النافلة والصلاة المسنونة أحرى أن تحل فيه صلاة الفريضة واختلف القائلون بقول الحجازيين فقال بعضهم من نام عن الصلاة في سفره ثم انتبه بعد خروج الوقت لزمه الزوال عن ذلك الموضع وإذا كان واديا خرج عنه لقوله عليه السلام اركبوا واخرجوا من هذا الوادي إن الشيطان هدأ بلالا كما يهدأ الصبي

قال فكل موضع يصيب المسافرين فيه مثل ما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في ذلك الموضع من النوم عن الصلاة حتى يخرج وقتها فينبغي الخروج منه وإقامة الصلاة في غيره لأنه موضع مشؤوم ملعون كما روي عن علي قال نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أصلي بأرض بابل فأنها ملعونة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى وادي ثمود أمر الناس فأسرعوا وقال هذا واد ملعون وقد روي أنه أمر بالعجين الذي عجن بماء ذلك الوادي فطرح وقال آخرون منهم أما ذلك الوادي وحده إن علم وعرض فيه مثل ذلك العارض فواجب الخروج منه على ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما سائر المواضع فلا وذلك الموضع وحده مخصوص بذلك لأن الله تعالى قال وأقم الصلاة لذكرى وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ولم يخص الله ولا رسوله موضعا من المواضع إلا ما جاء في ذلك الوادي خاصة وقال آخرون كل من انتبه من نوم أو ذكر بعد نسيان أو ترك صلاة عمدا ثم ثاب إلى أدائها فواجب على كل واحد منهم أن يقيم صلاته تلك بأعلى ما يمكنه في كل موضع ذكرها فيه واديا كان أو غير واد وذلك أن الموضع الطاهر في واد تؤدى الصلاة فيه وسواء ذلك الوادي وغيره لأن قوله عليه السلام إن هذا واد به شيطان خصوص له لا يشركه فيه غيره لأنه كان يعلم من حضور الشياطين بالمواضع ما لا يعلم غيره ولعل ذلك الوادي لم يحضره ذلك الشيطان إلا في ذلك الوقت وذكر إسماعيل في المبسوط عن الحكم بن محمد عن محمد بن مسلم قال ليس على من نام عن الصلاة في واد أن يؤخرها حتى يخرج من ذلك الوادي لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن هذا واد به شيطان ولا يعلم الناس من ذلك الوادي ولا من غيره ما يعلم من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن الله يقول وأقم الصلاة لذكرى قال أبو عمر الذي عليه العمل عندي وفيه الحجة لمن اعتصم به قوله عليه السلام جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ولم يخص واديا من غيره في هذا الحديث

وفي قوله عليه السلام جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ما يبيح الصلاة في المقبرة والمزبلة والحمام وقارعة الطريق وبطون الأودية إذا سلم كل ذلك من النجاسة لأن قوله ذلك ناسخ لكل ما خالفه ولا يجوز أن ينسخ بغيره لأن ذلك من فضائله عليه السلام وفضائله لا يجوز عليها النسخ لأنها لم تزل تترى به حتى مات ولم يبتز شيئا منها بل كان يزادا فيها ألا ترى أنه كان عبدا غير نبي ثم نبأه الله ثم أرسله فصار رسولا نبيا ثم غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ووعده أن يبعثه المقام المحمود الذي يبين به فضله عن سائر الأنبياء قبله وفي كل ما قلنا من ذلك جاءت الآثار عنه عليه السلام قال كنت عبدا قبل أن أكون نبيا وكنت نبيا قبل أن أكون رسولا ومما يوضح ما قلنا أنه صلى الله عليه وسلم قد أخبر الله عنه في أول أمره أنه قال وما أدري ما يفعل بي ولا بكم الأحقاف وقال لا يقل أحدكم إني خير من يونس بن متى وقال له رجل ما خير البرية فقال ذلك إبراهيم ثم شك في نفسه وفي موسى عليه السلام فلم يدر من تنشق الأرض عنه قبل

وقال له رجل أنت الكريم بن الكرماء فقال ذلك يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ثم لما غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأخبر أنه يبعث المقام المحمود قال أنا سيد ولد آدم ولا فخر فلذلك قلنا إن فضائله لا يجوز عليها النسخ ولا التبديل ولا النقص ألا ترى إلى قوله عليه السلام أوتيت خمسا وقد روي ستا وروى فيه ثلاثا وأربعا وهي تنتهي إلى أكثر من سبع قال فيهن لم يؤتهن أحد قبلي بعثت إلى الأحمر والأسود ونصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت أمتي خير الأمم وأحلت لي الغنائم لم تحل لأحد قبلي وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأتيت الشفاعة وبعثت بجوامع الكلم وبينا أنا نائم أوتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت بين يدي وزويت لي مشارق الأرض ومغاربها وأعطيت الكوثر وهو خير كثير وعذب ولي حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد نجوم السماء من شرب منه لم يظمأ بعدها أبدا وختم بي النبيون فهذه كلها فضائل خص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم منها قوله جعلت لي الأرض مسجدا وتربتها طهورا وهذه الخصال رواية جماعة من الصحابة وبعضهم يذكر ما لم يذكره غيره وهي صحاح ورويت في آثار شتى

فلذلك قلنا إن قوله صلى الله عليه وسلم جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ناسخ للصلاة في ذلك الوادي وغيره وفي كل موضع من الأرض طاهر وقد ذكرنا في التمهيد اختلاف الفقهاء في الصلاة في المقبرة والحمام وأتينا بالحجة من طريق الآثار والاعتبار على من قال إنها مقبرة المشركين في باب مرسل زيد بن أسلم من التمهيد والحمد لله ولما لم يجز أن يقال في نهيه عن الصلاة في المزبلة والمجزرة والمقبرة والحمام ومحجة الطريق ومعاطن الإبل مزبلة كذا ولا مجزرة كذا ولا حمام كذا فكذلك لا يجوز أن يقال مقبرة كذا ولا أن يقال مقبرة المشركين فلا حجة ولا دليل وأقام الدليل على أن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بناه في مقبرة المشركين وقد أوضحنا هذا الحديث بما فيه كفاية في باب مرسل زيد بن أسلم من التمهيد وأما قوله في مرسل حديث زيد هنا ثم أمر بلالا أن يؤذن أو يقيم فهكذا رواه مالك على الشك وقد مضى ما للعلماء من التنازع والأقوال في الأذان للفوائت من الصلوات في الحديث قبل هذا ومضى المعنى في النفس والروح فلا معنى لإعادة ذلك هنا وأما قوله فإذا رقد أحدكم عن الصلاة أو نسيها ثم فزع إليها فليصلها إذا ذكرها كما كان يصليها في وقتها فقد مضى ما لمالك وأصحابه والكوفيين في تأويل ذلك وتقدم أيضا قولهم في استنباطهم من قوله عليه السلام فليصلها إذا ذكرها وجوب ترتيب الصلوات الفوائت إذا كانت صلاة يوم وليلة وقول الشافعي ومن تابعة في إسقاط وجوب الترتيب في ذلك وتأويل الحديث عندهم وما ذهب إليه كل فريق منهم ووجوه أقوالهم وتلخيص مذاهبهم كل هذا في هذا الباب مجود والحمد لله فلا معنى لإعادة شيء من ذلك هنا والله الموفق للصواب

باب النهي عن الصلاة بالهاجرة مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن شدة الحر من فيح جهنم فإذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة وقال اشتكت النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين في كل عام نفس في الشتاء ونفس في الصيف قال أبو عمر قد أسند مالك هذا الحديث بتمام معناه في الموطأ برواية له عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان عن أبي سلمة وعن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه ألفاظ حديث زيد هذا كله ومعانيه وأسنده أيضا مختصرا عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكرنا في التمهيد من رواه من التابعين عن أبي هريرة ومن رواه مع أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة وهو حديث عند أهل السنة والعلم بالحديث صحيح لا مقال فيه لأحد وأما قوله إن شدة الحر من فيح جهنم فالفيح سطوع الحر في شدة القيظ كذلك قال صاحب العين وغيره من أهل العلم بلسان العرب وأما إضافة ذلك إلى جهنم أعاذنا الله منها فمجاز لا حقيقة كما تقول العرب في الشمس إذا اشتد حرها هذه نار تريد كالنار

وكذلك يقال فلان نار يريد أنه يفعل كفعل النار مجازا واستعارة ومعلوم أن نار جهنم تفضل نار بني آدم سبعين جزءا أو تسعة وستين جزءا وفي هذا ما يوضح لك أن ذلك مجاز أو لغة معروفة في لسان العرب ومن قال قولهم ومنه أحرق الحزن قلبي وأحرق فلان فؤادي بقوله كذا ومن هذا المعنى قيل الحر من فيح جهنم والله أعلم وأما قوله فإذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة فمعنى الإبراد بها تأخيرها عن أول وقتها حتى يزول سموم الهاجرة لأن الوقت فيه سعة والحمد لله على ما مضى في كتابنا هذا واضحا واختلف العلماء في شيء من هذا المعنى فذكر إسماعيل بن إسحاق وأبو الفرج عمرو بن محمد أن مذهب مالك في الظهر وحدها أن يبرد بها وتؤخر في شدة الحر وسائر الصلوات تصلى في أوائل أوقاتها قال أبو الفرج أختار لك لجميع الصلوات أول أوقاتها إلا الظهر في شدة الحر لقوله عليه الصلاة والسلام إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة وأما بن القاسم فحكى عن مالك أن الظهر تصلى إذا فاء الفيء ذراعا في الشتاء والصيف للجماعة والمنفرد على ما كتب به عمر إلى عماله وقال بن عبد الحكم وغيره من أصحابنا إن معنى كتاب عمر مساجد الجماعات وأما المنفرد فأول الوقت أولى به وهو في سعة من الوقت كله وإلى هذا مال فقهاء المالكيين من البغداديين ولم يلتفتوا إلى رواية بن القاسم وقد مضى في الأوقات ما يكفي في صدر هذا الكتاب والحمد لله وقال الليث بن سعد يصلى الصلوات كلها الظهر وغيرها في أول الوقت في الشتاء والصيف وهو أفضل وكذلك قال الشافعي إلا أنه استثنى فقال إلا أن يكون إمام جماعة ينتاب من المواضع البعيدة فإنه يبرد بالظهر وقد روي عنه أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإبراد كان بالمدينة لشدة حر الحجارة ولأنه لم يكن بالمدينة مسجد غير مسجده فكان ينتاب من بعد فيتأذون بشدة الحر فأمرهم بالإبراد لما في الوقت من السعة وقال العراقيون تصلى الظهر في الشتاء والصيف في أول الوقت واستثنى أبو

حنيفة شدة الحر فقال يؤخر في ذلك حتى يبرد والاختلاف في هذا متقارب جدا وقال الأثرم قلت لأحمد بن حنبل أي الأوقات أعجب إليك في الصلوات كلها قال أولها إلا في صلاتين في العشاء الآخرة والظهر في شدة الحر قال وأما في الشتاء فيعجل بها قال أبو عمر أما الأحاديث عن عمر في كتابه إلى عماله ففيها إذا زاغت الشمس وفيها إذا فاء الفيء ذراعا وقد مضى القول فيها في موضعها من صدر هذا الكتاب وقد احتج من لم ير الإبراد بالظهر بحديث خباب بن الأرت قال شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء فلم يشكنا يقول فلم يعذرنا وقد ذكرنا هذا الحديث بإسناده وعلته في التمهيد وتأول من رأى الإبراد في قول خباب هذا فلم يشكنا ولم يحوجنا إلى الشكوى لأنه رخص لنا في الإبراد وذكر أبو الفرج أن أحمد بن يحيى ثعلب فسر قوله فلم يشكنا على هذا المعنى حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد حدثنا محمد بن معاوية حدثنا أحمد بن شعيب حدثنا عبيد الله بن سعيد حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم أخبرنا خالد بن دينار أبو خلدة قال سمعت أنس بن مالك قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان الحر أبرد وإذا كان البرد عجل حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا محمد بن بكر بن عبد الرزاق حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عبيدة بن حميد عن أبي مالك الأشجعي عن كثير بن مدرك عن الأسود بن يزيد أن عبد الله بن مسعود قال كان قدر صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر في الصيف ثلاثة أقدام إلى خمسة وفي الشتاء خمسة أقدام إلى سبعة وحدثنا عبد الله بن محمد حدثنا حمزة بن محمد حدثنا أحمد بن شعيب قال حدثنا أبو عبد الرحمن الأذرمي قال حدثنا عبيدة بن حميد فذكره بإسناده

وهذا كله يدل على سعة الوقت والحمد لله وقد تقدم قول القاسم بن محمد ما أدركت الناس إلا وهم يصلون الظهر بعشي وذكرنا هناك قول عمر لأبي محذورة وهو معه بمكة إنك في بلدة حارة فأبرد ثم أبرد ثم أبرد وقال مالك إن أهل الأهواء لا يبردون يعني الخوارج وأما قوله اشتكت النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضا فإن أهل العلم اختلفوا في ذلك فحمله بعضهم على الحقيقة وحمله منهم جماعة على المجاز فالذين حملوه على الحقيقة قالوا أنطقها الله الذي أنطق كل شيء وفهم عنها كما فهم عن الأيدي والأرجل والجلود وأخبر عن شهادتها ونطقها وعن النمل بقولها وعن الجبال بتسبيحها واحتجوا بقوله تعالى يا جبال أوبي معه سبأ أي سبحي معه وبقوله يسبحن بالعشي والإشراق ص وبقوله وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم الإسراء وبقوله وتقول هل من مزيد ق وبقوله سمعوا لها تغيظا وزفيرا الفرقان وبقوله قالتا أتينا طائعين فصلت فلما كان مثل هذا وهو في القرآن كثير حملوا بكاء السماء والأرض وانفطار السماء وانشقاق الأرض وهبوط الحجارة من خشية الله كل ذلك وما كان مثله على الحقيقة وكذلك إرادة الجدار الانقضاض واحتجوا على صحة ما ذهبوا إليه من الحقيقة في ذلك بقوله تعالى يقص الحق الأنعام

وبقوله والحق أقول ص وأما الذين حملوا ذلك كله وما كان مثله على المجاز قالوا أما قوله سمعوا لها تغيظا وزفيرا تكاد تميز من الغيظ فهذا تعظيم من الله تعالى لشأنها قالوا وقول النبي عليه السلام اشتكت النار إلى ربها من باب قول عنتزة وشكا إلي بعبرة وتحمحم وقول الآخر شكا إلي جملي طول السرى صبرا جميلا فكلانا مبتلى وكقول الحارثي يريد الرمح صدر أبي براء ويرغب عن دماء بني عقيل وقال غيره رب قوم غبروا من عيشهم في نعيم وسرور وغدق سكت الدهر زمانا عنهم ثم أبكاهم دما حين نطق وقال غيره وعظتك أجداث صمت ونعتك أزمنة جفت وتكلمت عن أوجه تبلى وعن صور سبت وأرتك قبرك في القبور وأنت حي لم تمت وهذا كثير في أشعارهم وقد ذكرنا كثيرا منها في التمهيد وقالوا هذا كله على المجاز والتمثيل والمعنى في ذلك أنها لو كانت ممن تنطق لكان نطقها هذا وفعلها وذكروا قول حسان بن ثابت حيث يقول لو أن اللوم ينسب كان عبدا قبيح الوجه أعور من ثقيف وسئل أبو العباس أحمد بن يزيد النحوي عن قول الملك إن هذا أخي له تسع

وتسعون نعجة ولى نعجة واحدة ص وهم الملائكة لا أزواج لهم فقال نحن طول النهار نفعل هذا فنقول ضرب زيد عمرا وإنما هذا تقدير كأن المعنى إذا وقع هذا فكيف الحكم فيه وذكروا قول عدي بن زيد العبادي للنعمان بن المنذر أتدري ما تقول هذه الشجرة أيها الملك قال وما تقول قال تقول رب ركب قد أناخوا حولنا يشربون الخمر بالماء الزلال ثم أضحوا لعب الدهر بهم وكذاك الدهر حال بعد حال وأحسن ما قيل في معنى هذا الحديث ما ورد عن الحسن البصري قال أبو عمر القول الأول يعضده عموم الخطاب وظاهر الكتاب وهو أولى بالصواب والله أعلم وأحسن ما قيل في هذا المعنى ما فسره الحسن البصري قال اشتكت النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضا فخفف عني قال فخفف عنها وجعل لها كل عام نفسين فما كان من برد يهلك شيئا فهو من زمهريرها وما كان من سموم يهلك شيئا فهو من حرها فقوله من زمهرير يهلك شيئا وحر يهلك شيئا يفسر ما أشكل من ذلك لكل ذي فهم ومعلوم أن نفسها في الشتاء غير الشتاء ونفسها في الصيف غير الصيف لقوله نفس في الشتاء ونفس في الصيف وقول الحسن من زمهريرها وحرها موجود في الأحاديث المسندة الصحاح حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا عبد الله بن إدريس عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتكت النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضا فجعل لها نفسا في الشتاء ونفسا في الصيف فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها وشدة ما تجدون في الصيف من الحر من سمومها والشدة والشدائد هو معنى قول الحسن والله أعلم

وفي هذا الحديث دليل على أن الجنة والنار مخلوقتان بعد وهو قول جماعة أهل السنة أهل الفقه والحديث وحجتهم من الآثار في ذلك حديث أنس عن النبي عليه السلام أنه قال لجبريل عليه السلام لم أر ميكائيل ضاحكا قط فقال ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار وقد ذكرناه بإسناده في التمهيد وحديث أبي هريرة عن النبي عليه السلام قال لما خلق الله الجنة دعا جبريل فأرسله إليها فقال انظر إلى الجنة وإلى ما أعددت لأهلها الحديث بطوله ذكرناه بإسناده وتمامه في التمهيد وأحاديث سواه في معناه والحمد لله قال أبو عمر هذا آخر ما عمله مالك رحمه الله في الأوقات وقدم باب الوقوت على باب العمل في الوضوء ليدل على أن أول فرض الصلاة دخول وقتها وأن الوضوء لا يلزم لها إلا بعد دخول وقتها ولكنه مباح عمله قبل وسقط ليحيى بن يحيى باب النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر من موضعه الذي هو فيه في الموطأ عند جماعة رواته وهو عندهم قبل هذا الباب وبعد باب النوم عن الصلاة فلما سقط له ها هنا استدركه فوضعه في آخر كتاب الصلاة بعد باب العمل في الدعاء وليس له هناك مدخل فرأينا أن نضعه في كتابنا هذا هنا لما ذكرناه وبالله توفيقنا باب النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر هكذا ترجمه هذا الباب في الموطأ عند جماعة الرواة وكانت حقيقته أن يقال فيه باب النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها ثم يذكر النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله الصنابحي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان فإذا ارتفعت فارقها ثم إذا استوت قارنها فإذا زالت فارقها فإذا دنت للغروب قارنها فإذا غربت فارقها ونهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في تلك الساعات

تابع يحيى على قوله في هذا الحديث عن عبد الله الصنابحي جمهور الرواة منهم القعنبي وغيره قال فيه مطرف عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي عبد الله الصنابحي وتابعه إسحاق بن عيسى الطباع وطائفة وهو الصواب وهو أبو عبد الله الصنابحي واسمه عبد الرحمن بن عسيلة وقد ذكرنا في التمهيد خبره وأنه من كبار التابعين لا صحبة له وروينا عنه أنه قال لم يكن بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خمس ليال توفي وأنا بالجحفة فقدمت وأصحابه متوافدون وعن بن وهب عن عمرو بن الحارث عن يزيد بن أبي حبيب عن الحسن عن الصنابحي قال خرجنا من اليمن مهاجرين فقدمنا الجحفة فأقبل راكب فقلت الخبر فقال دفنا رسول الله منذ خمس ليال واضطرب بن معين في حديث الصنابحي هذا فمرة قال يشبه أن تكون له صحبة ومرة قال أحاديثه مرسلة ليس له صحبة وهذا هو الصحيح وقد أوضحنا هذا المعنى عند ذكر هذا الحديث وأحاديث الصنابحي التي في الموطأ مشهورة جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق شتى من حديث أهل الشام وممن رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن عبسة وأبو أمامة الباهلي وعقبة بن عامر ومرة بن كعب البهزي وقد ذكرناها بطرقها في التمهيد وأما قوله عليه السلام إن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان وفي بعض الروايات تطلع بين قرني الشيطان وقد ذكرنا الآثار بذلك كله في التمهيد فإن للعلماء في ذلك قولين أحدهما أن ذلك اللفظ على الحقيقة فإنها تطلع وتغرب على قرن الشيطان وعلى رأس الشيطان وبين قرني شيطان على ظاهر الحديث حقيقة لا مجازا من غير تكييف لأنه لا يكيف ما لا يرى وحجة من قال هذا القول حديث عكرمة عن بن عباس أنه قال له أرايت ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في أمية بن أبي الصلت آمن شعره وكفر قلبه قال هو حق فما أنكرتم من شعره قالوا أنكرنا قوله والشمس تطلع كل آخر ليلة حمراء يصبح لونها يتورد ليست بطالعة لهم في رسلها إلا معذبة وإلا تجلد

فما بال الشمس تجلد فقال والذي نفسي بيده ما طلعت الشمس قط حتى ينخسها سبعون ألف ملك فيقولون لها اطلعي اطلعي فتقول لا أطلع على قوم يعبدونني من دون الله فيأتيها ملك عن الله يأمرها بالطلوع فتشتعل لضياء بني آدم فيأتيها شيطان يريد أن يصدها عن الطلوع فتطلع بين قرنيه فيحرقه الله عنها وما غربت الشمس قط إلا خرت ساجدة فيأتيها شيطان يريد أن يصدها عن السجود فتغرب بين عينيه فيحرقه الله تحتها وذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما طلعت إلا بين قرني شيطان ولا غربت إلا بين قرني شيطان وقد ذكرنا إسناد حديث عكرمة هذا في التمهيد وقال آخرون معنى هذا الحديث عندنا على المجاز واتساع الكلام وأنه أريد بقرن الشيطان هنا أمة تعبد الشمس وتسجد لها وتصلي في حين غروبها وطلوعها تقصد بذلك الشمس من دون الله وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره التشبه بالكفار في شيء من أمورهم ويحب مخالفتهم فنهى عن الصلاة في هذه الأوقات لذلك وهذا التأويل جائز في لغة العرب معروف في لسانها لأن الأمة تسمى عندهم قرنا والأمم قرونا قال الله تعالى وكم أهلكنا قبلهم من قرن مريم وقرونا بين ذلك كثيرا الفرقان وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الناس قرني وجائز أن يضاف القرن إلى الشيطان لطاعتهم له وقد سمى الله الكفار حزب الشيطان ومن حجة من تأول هذا التأويل في هذا الحديث من طريق الآثار حديث عمرو بن عبسة السلمي وقد ذكرناه من طرق كثيرة في التمهيد وفيه فإذا طلعت الشمس فأقصر عن الصلاة فإنها تطلع على قرن الشيطان ويصلي لها الكفار

وبعضهم يقول فيه وحينئذ يسجد لها الكفار وبعضهم يقول فيه وهي ساعة صلاة الكفار وفيه فإذا اعتدل النهار فأقصر فإنها ساعة تسجر فيها جهنم وحديث أبي أمامه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث عمرو بن عبسة وكلها بأحسن سياقة في التمهيد وأجمع العلماء على أن نهية عليه السلام عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها صحيح غير منسوخ وأنه لم يعارضه شيء إلا اختلفوا في تأويله ومعناه فقال علماء الحجاز مالك والشافعي وغيرهما معناه المنع من صلاة النافلة دون الفريضة ودون الصلاة على الجنازة وهذه جملة قولهم وقال أهل العراق والكوفيون وغيرهم كل صلاة نافلة أو فريضة أو على جنازة فلا تصلي عند طلوع الشمس ولا عند غروبها ولا عند استوائها لأن الحديث لم يخص نافلة من فريضة إلا عصر يومه لقوله عليه السلام من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر ولهم حجج قد ذكرناها في صدر هذا الكتاب وقد مضى الرد عليهم فيما ذهبوا إليه من ذلك فيما تقدم من هذا الكتاب وقد ردوا ظاهر الحديث إذ قالوا ببعضه ودفعوا بتأويلهم بعضه لأن الحديث جمع الصبح والعصر وهم قالوا عصر يومه دون صبح يومه وزعموا أن مدرك ركعة من العصر يخرج إلى وقت تباح فيه الصلاة وهو بعد المغرب ومدرك ركعة من الصبح يخرج من الثانية إلى الوقت المنهي عنه وهو الطلوع وهذا الحكم لا برهان لصاحبه فيه ولا حجة له فيه لأن من ذكرنا قد صلى ركعة من العصر والمغرب وفي قوله عليه السلام من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها مع قوله عليه السلام من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر أوضح دليل على أن نهيه عليه السلام كان عن الصلاة عند الطلوع وعند الغروب لم يقصد به إلى الفريضة وإنما قصد به إلى ما عدا الفرائض من الصلوات

وعلى هذا التأويل تكون الأحاديث مستعملة كلها في هذا الباب فلا يرد بعضها ببعض لأن علينا في الكل الاستعمال ما وجدنا إلى ذلك سبيلا ولا يقطع بنسخ شيء من القرآن إلا بدليل لا معارض له أو إجماع وأما اختلاف العلماء في الصلاة عند الاستواء فإن مالكا وأصحابه لا بأس بالصلاة عندهم نصف النهار إذا استوت الشمس في وسط السماء لا في يوم جمعة ولا غيره ولا أعرف هذا النهي وما أدركت أهل الفضل إلا وهم يسجدون ويصلون نصف النهار وهذا ما حكى عنه بن القاسم وغيره أنه لم يعرف النهي في ذلك وفي موطئه الذي قرئ عليه إلى أن مات النهي عن الصلاة إذا استوت الشمس في حديث الصنابحي لقوله فيه فإذا استوت قارنها ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في تلك الساعات وقد روي عن مالك أنه قال لا أكره التطوع نصف النهار ولا أحبه ويدل قوله هذا على أنه لم يصح عنده حديث زيد بن أسلم هذا عن عطاء بن يسار عن الصنابحي في ذلك والله أعلم وما أدري ما هذا وهو يوجب العمل بمراسيل الثقات ورجال هذا الحديث ثقات وأحسبه مال في ذلك إلى حديثه عن بن شهاب عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي أنهم كانوا في زمن عمر بن الخطاب يصلون يوم الجمعة حتى يخرج عمر بن الخطاب ومعلوم أن خروج عمر كان بعد الزوال بدليل حديث طنفسة عقيل وقد مضى ذلك في صدر الكتاب فإذا كان خروج عمر بعد الزوال وكانت صلاتهم إلى خروجه فقد كانوا يصلون وقت استواء الشمس وإلى هذا ذهب مالك لأنه عمل معمول به في المدينة لا ينكره منكر ومثل هذا العمل عنده أقوى من خبر الواحد فلذلك صار إليه وعول عليه ويوم الجمعة وغير الجمعة عنده سواء لأن الفرق بينهما لم يصح عنده في أثر ولا نظر وممن رخص أيضا في الصلاة نصف النهار الحسن البصري وطاوس ورواية عن الأوزاعي وقد روي عن طاوس تخصيص يوم الجمعة وقال أبو يوسف والشافعي وأصحابه لا بأس بالتطوع نصف النهار يوم الجمعة خاصة وهي أيضا رواية عن الأوزاعي وأهل الشام وحجة الشافعي ومن قال بقوله ما رواه الشافعي عن إبراهيم بن محمد عن إسحاق بن عبد الله عن سعيد بن سعيد المقبري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

نهى عن الصلاة نصف النهار إلى أن تزول الشمس إلا يوم الجمعة قال أبو عمر إبراهيم بن محمد هذا هو بن أبي يحيى وإسحاق هذا هو بن أبي فروة وهما متروكان ليس فيما ينقلانه ويرويانه حجة ولكن الشافعي احتج مع حديث بن أبي يحيى بحديث مالك عن بن شهاب عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي المذكور وقال النهي عن الصلاة عند استواء الشمس صحيح إلا أنه خص منه يوم الجمعة بما روي من العمل المستفيض في المدينة في زمان عمر وغيره من الصلاة يوم الجمعة حتى يخرج عمر وبما رواه بن أبي يحيى وغيره مما يعضده العمل المذكور قال والعمل في مثل ذلك لا يكون إلا توقيفا وإن كان حديث بن أبي يحيى ضعيفا فإنه تقويه صحة العمل به قال أبو عمر قد روى إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن السائب بن يزيد قال كان عمر إذا خرج يعني يوم الجمعة ترك الناس الصلاة وجلسوا ومعلوم أن خروج عمر إنما كان بعد الزوال لأنه بخروج الإمام يندفع الأذان وكذلك في حديث بن شهاب عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي وأذن المؤذنون وقد روى مجاهد عن أبي الخليل عن أبي قتادة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة تكره نصف النهار إلا يوم الجمعة فإن جهنم تسجر إلا يوم الجمعة ومنهم من أوقفه على أبي قتادة ومثله لا يكون رأيا وقد ذكرنا هذين الحديثين بإسنادهما في التمهيد وروى سفيان بن عيينة عن بن طاوس عن أبيه قال يوم الجمعة صلاة كله وكان عطاء بن أبي رباح يكره الصلاة نصف النهار في الصيف ولا يكره ذلك في الشتاء وقال بن سيرين تكره الصلاة في ثلاث ساعات وتحرم في ساعتين تكره بعد العصر وبعد الصبح ونصف النهار في شدة الحر وتحرم حين تطلع الشمس حتى يستوي طلوعها وحين تصفر حتى يستوي غروبها وذكره عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن بن سيرين وعن بن جريج عن عطاء وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن والثوري والحسن بن حي وعبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل لا يجوز التطوع نصف النهار في شتاء ولا صيف لحديث الصنابحي وحديث عمرو بن عبسة ومن ذكرنا معهما في ذلك

ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه أن تصلي فريضة فائتة ولا نافلة ولا صلاة سنة ولا على جنازة لا عند طلوع الشمس ولا عند غروبها ولا عند استوائها إلا ما ذكرنا عنهم في عصر يومه من أجل حديث الصنابحي وما كان مثله وقد مضى في هذا الباب وغيره من هذا الكتاب في ذلك ما يغني عن رده ها هنا ولا خلاف عن مالك وأصحابه أن الصلاة على الجنائز ودفنها نصف النهار جائز وذكر بن القاسم عن مالك قال لا بأس على الصلاة على الجنائز بعد العصر ما لم تصفر الشمس فإذا اصفرت لم يصل على الجنائز إلا أن يخاف عليها فيصلى عليها حينئذ قال ولا بأس بالصلاة على الجنازة بعد الصبح ما لم يسفر فإذا أسفر فلا تصلوا عليها إلا أن تخافوا عليها وذكر بن عبد الحكم عن مالك أن الصلاة على الجنائز جائزة في ساعات الليل والنهار وعند طلوع الشمس وغروبها واستوائها وقال الثوري لا يصلى على الجنازة إلا في مواقيت الصلاة وتكره الصلاة عليها نصف النهار وبعد العصر حتى تغيب الشمس وبعد الصبح حتى تطلع الشمس وقال الليث بن سعد لا يصلى على الجنازة في الساعات التي تكره فيها الصلاة وقال الأوزاعي يصلى عليها ما دام في ميقات العصر فإذا ذهب عنهم ميقات العصر لم يصلوا عليها حتى تغرب الشمس وقال الشافعي يصلى على الجنائز في كل وقت والنهي عن الصلاة في تلك الساعات إنما هو عن النوافل المبتدأة والتطوع وأما عن صلاة فريضة أو سنة فلا لحديث قيس في ركعتي الفجر وحديث أم سلمة في قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعتين اللتين تصليان بعد الظهر بعد العصر مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا بدا حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تبرز وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب

هذا الحديث مرسل في الموطأ عند جماعة رواته وقد ذكرنا في التمهيد من رواه عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في غير الموطأ فأخطأ فيه ولم يتابع عليه والحديث صحيح لهشام بن عروة عن أبيه عن بن عمر لا عن عائشة حدثنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال حدثنا عمرو بن علي قال حدثنا يحيى بن سعيد قال حدثنا هشام بن عروة قال أخبرني أبي قال أخبرني بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طلع حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تشرق وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغرب قال أبو عمر الكلام في الحديث الذي قبل هذا يغني عن الكلام في هذا لأن المعنى فيهما سواء الحجازيون على ما ذكرنا من تلخيص مذاهبهم والكوفيون على أصلهم المذكور عنهم مالك عن العلاء بن عبد الرحمن قال دخلنا على أنس بن مالك بعد الظهر فقام يصلي العصر فلما فرغ من صلاته ذكرنا تعجيل الصلاة أو ذكرها فقال سمت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول تلك صلاة المنافقين تلك صلاة المنافقين تلك صلاة المنافقين يجلس أحدهم حتى إذا اصفرت الشمس وكانت بين قرني الشيطان أو على قرن الشيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قيلا هذا الحديث يدل على أن الناس كانوا يتوسعون فيما وسع الله عليهم من سعة الوقت فقوم يصلون في أول الوقت وقوم يصلون في وسطه وقوم في آخره وقد مضى في صدر هذا الكتاب أن آخر وقت الظهر عند طائفة العلماء منهم مالك وغيره هو أول وقت العصر بلا فصل وأن من أهل العلم من يجعل بينهما فصلا وإن قل منهم الشافعي وفي هذا الحديث دليل على استحباب أنس بن مالك تعجيل العصر وتفضيل أول الوقت فيها

وأما قوله في صلاة المنافقين إنها كانت عند اصفرار الشمس فذلك ذم منه لمن آخر صلاته ذاكر إلى ذلك الوقت وتحذير من التشبه بأفعال المنافقين الذين كانوا لا يأتون الصلاة إلا كسالى وقد كان من أمراء بني أمية من لا يصلي إلا ذلك الوقت وبعده ولذلك قال حذيفة بن اليمان رحمه الله قال كان المنافقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرون النفاق وأنتم تجهرون به وفي حديث أنس هذا دليل على أن قوله عليه السلام من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر إنما ذلك لأصحاب الضرورات كما قال مالك ومن تابعه لا لأن لأحد أن يتعمد فيضع صلاته ذلك الوقت وقد مضى في أول هذا الكتاب في هذا المعنى ما يغني عن إعادته ها هنا وما أعلم حديثا أبين من الرد على إسحاق وداود في قولهما في حديث أبي هريرة عن النبي عليه السلام من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر الحديث إن ذلك لكل أحد من أصحاب الضرورات وغيرهم من حديث أنس هذا من رواية يعلى بن عبد الرحمن وقد ذكرناه من طرق في التمهيد بألفاظ مختلفة ومعنى واحد وفيها عن العلاء أن الذي صلى معه الظهر يومئذ خالد بن عبد الله بن أسيد القشيري بالبصرة ثم دخل بأثر ذلك على أنس بن مالك فوجده يصلي العصر وقد حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا إبراهيم بن حمزة قال حدثنا عبد العزيز بن محمد عن عمرو بن يحيى المازني عن خالد بن خلاد قال صلينا مع عمر بن عبد العزيز الظهر يوما ثم دخلنا على أنس بن مالك فوجدناه قائما يصلي العصر فقلنا إنما انصرفنا الآن من الظهر مع عمر فقال إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي هذه الصلاة هكذا فلا أتركها أبدا مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يتحر أحدكم فيصلي عند طلوع الشمس ولا عند غروبها قال أبو عمر يحتمل قوله لا يتحر أحدكم وجهين

أحدهما ألا يترك أحد صلاته ذاكرا لها إلى حين طلوع الشمس أو غروبها وهذا عمل الفرائض والثاني أن يكون المقصود بذلك إلى التطوع وليس يقال لمن نام فلم ينتبه أو نسي فلم يذكر إلا في ذلك الوقت أنه تحراه وقصده والنهي إنما توجه في هذا الحديث إلى من تحرى ذلك وليس النائم والناسي بمتحر لذلك فلا حجة على مالك والشافعي في هذا الحديث لإجازتهم للنائم والناسي أن يصليا فرضهما في ذلك الوقت كما زعم الكوفيون ولا خلاف بين المسلمين أن صلاة التطوع كلها غير جائز أن يصلى شيء منها عند طلوع الشمس ولا عند غروبها وإنما اختلفوا في الصلوات المكتوبات والمفروضات على الكفاية والمسنونات وقد مضى في ذلك كله ما يكفي والحمد لله مالك عن محمد بن يحيى بن حبان عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس قال أبو عمر روي عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وعن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس من حديث عمر بن الخطاب وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وسعد بن أبي وقاص ومعاذ بن عفراء وغيرهم وهي أحاديث صحاح لا مدفع فيها إلا أن العلماء اختلفوا في تأويلها وفي خصوصها وعمومها واختلف العلماء في هذا الباب اختلافا كثيرا لاختلاف الآثار فيه فقال منهم قائلون لا بأس بالتطوع بعد الصبح وبعد العصر لأن النهي إنما قصد به إلى ترك الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها وذكروا مثل حديث الصنابحي وشبهه قالوا فالنهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر هذا معناه لإجماع المسلمين على الصلاة على الجنائز بعد الصبح وبعد العصر إذا لم يكن عند طلوع الشمس ولا عند غروبها

قالوا وإنما خرج النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر على قطع الذريعة لأنه لو أبيحت الصلاة النافلة بعد الصبح وبعد العصر لم يؤمن التمادي فيها إلى حين طلوع الشمس وغروبها هذا مذهب عبد الله بن عمر وقال به جماعة ذكر عبد الرزاق عن بن جريج عن نافع أنه سمع بن عمر يقول أما أنا فلا أنهى أحدا يصلي من ليل أو نهار أي ساعة شاء غير ألا يتحرى طلوع الشمس ولا غروبها وهو قول عطاء وطاوس وعمرو بن دينار وبن جريج وروي عن بن مسعود نحوه ومذهب عائشة في ذلك كمذهب بن عمر وروى بن وهب عن بن طاوس عن أبيه عن عائشة قالت أوهم بن عمر إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة أن يتحرى بها طلوع الشمس وغروبها أخبرنا عبد الله بن أسد وعبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا إبراهيم بن جامع قال حدثنا علي بن عبد العزيز قال حدثنا عفان بن مسلم ومحمد بن أبي نعيم قال حدثنا بن وهب عن خالد فذكره ومن حجة من قال بهذا القول حديث علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تصلوا بعد العصر إلا أن تكون الشمس بيضاء نقية وقد ذكرناه بإسناده في التمهيد وهو مذهب زيد بن خالد الجهني أيضا لأنه رآه عمر بن الخطاب يركع بعد العصر ركعتين فمشى إليه وضربه بالدرة فقال له يا أمير المؤمنين اضرب فوالله لا أدعهما بعد أن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليهما فقال له عمر يا زيد لولا أني أخشى أن يتخذهما الناس سلما إلى الصلاة حتى الليل لم أضرب فيهما وقد ذكرنا هذا الخبر وسائر أخبار هذا الباب في التمهيد وقد قيل إن النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر إنما هو إعلام بألا يتطوع بعدهما ولم يقصد الوقت بالنهي كما قصد الشروق والغروب بالنهي عن الصلاة فيهما ألا ترى أنه جائز لمن جاء المسجد بعد صلاة العصر وهو لم يصل العصر أن

يتطوع بركعتين وبأكثر قبل أن يصلي العصر ثم يصلي العصر والشمس بيضاء نقية ولا يجوز ذلك في تلك الساعة لمن قد صلى العصر والصبح وقال آخرون أما الصلاة بعد الصبح إذا كانت نافلة أو سنة ولم تكن قضاء فرض فلا تجوز لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب الشمس نهيا مطلقا إلا أنه موقوف على كل ما عدا الفرض من الصلاة لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس أو من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك يعني الوقت وممن قال بهذا مالك بن أنس وأصحابه وإليه ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه قال أحمد وإسحاق لا يصلى بعد العصر إلا صلاة فائتة أو صلاة على جنازة ومذهب مالك في ذلك هو مذهب عمر بن الخطاب وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة وهم رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وعن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس وهم أعلم بما رووا وحسبك بضرب عمر على ذلك بالدرة ولا يكون ذلك إلا عن بصيرة وكذلك بن عباس روى الحديث في ذلك عن عمر عن النبي عليه السلام قال به علي ظاهره وعمومه حدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا أحمد حدثنا عفان حدثنا همام حدثنا قتادة عن أبي العالية عن بن عباس قال حدثني رجال مرضيون منهم عمر وأرضاهم عندي عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس وهذا الحديث هو أثبت الأحاديث رواه عن قتادة جماعة منهم شعبة وسعيد بن أبي عروبة وهشام الدستوائي وأبان العطار وهمام بن يحيى ومنصور بن زاذان ولم يختلفوا فيه وإليه ذهب بن عباس أنه سأله عن الركعتين بعد العصر فنهاه عنهما فقال لا أدعهما فقال بن عباس وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم الأحزاب

وقال الشافعي إنما المعنى في نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر التطوع المبتدأ أو النافلة وأما الصلوات المفروضات والمسنونات وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواظب عليه من النوافل فلا واحتج أيضا بحديث قيس حدثني يحيى بن سعيد الأنصاري رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتي الفجر بعد السلام من الصبح فسكت عنه إذ أخبره أنهما ركعتا الفجر وقد روي من حديث هشام بن سعد مثل ذلك واحتج أيضا بحديث أم سلمة وعائشة في الركعتين اللتين قضاهما رسول الله وأنه قال يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أي ساعة شاء من ليل أو نهار وأما أبو ثور فقال لا يصلي أحد تطوعا بعد الفجر إلى أن تطلع الشمس إلى أن تزول ولا بعد العصر إلى أن تغرب الشمس إلا صلاة فائتة من الفرائض أو صلاة على جنازة أو على أثر طواف أو صلاة لبعض الآيات أو ما يلزم من الصلوات واحتج بكثير من آثار هذا الباب فيها حديث جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم يا بني عبد مناف الحديث وقال آخرون أما التطوع بعد العصر فجائز لحديث عائشة ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد العصر في بيتي قط وأما التطوع بعد الصبح فلا لأن الآثار غير ثابتة في ذلك وحديث عائشة صحيح والأصل ألا يعمل من عمل البر إلا بدليل لا معارض له وقد تعارضت الآثار في الصلاة بعد العصر فواجب الرجوع إلى قوله وافعلوا الخير الحج والصلاة فعل خير فلا يمنع من فعلها إلا بما لا تعارض له هذا قول داود بن علي وقال آخرون لا يصلى عند طلوع الشمس ولا بعد الصبح ولا بعد العصر ولا عند الغروب ولا عند الاستواء شيء من الصلوات كلها إلا عصر اليوم فهذا قول أبي حنيفة وأصحابه على ما قدمنا عنهم وقال مالك من طاف بالبيت بعد العصر أخر ركعتي الطواف حتى تغرب

الشمس وكذلك من طاف بعد الصبح لم يركعهما حتى تطلع الشمس وقال أبو حنيفة يركعهما إلا عند طلوع الشمس وغروبها واستوائها وبعض أصحاب مالك يرى الركوع للطواف بعد الصبح ولا يراه بعد العصر وهذا لا وجه له في النظر ولا يصح به أثر وحكم سجود التلاوة بعد الصبح والعصر عند الفقهاء كحكم الصلاة على أصولهم التي ذكرنا عنهم وأما السلف من الصحابة والتابعين فروينا عن بن عباس وبن عمر وبن الزبير والحسن والحسين وعطاء وطاوس ومجاهد والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير أنهم كانوا يطوفون بعد العصر وبعضهم بعد الصبح أيضا ويصلون بإثر فراغهم من طوافهم ركعتين في ذلك الوقت وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب كان يقول لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها فإن الشيطان يطلع قرناه مع طلوع الشمس ويغربان مع غروبها وكان يضرب الناس على تلك الصلاة قد تقدم في الحديث المسند قبل هذا معنى لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها وقد تقدم قبل ذلك معنى قرن الشيطان ومعنى ضرب عمر على الصلاة بعد العصر وإذا كان يضربهم على الصلاة بعد العصر فأحرى أن يضربهم على الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها وقد بان مذهبه ومذهب ابنه في ذلك بما أوردناه قبل هذا والحمد لله مالك عن بن شهاب عن السائب بن يزيد أنه رأى عمر بن الخطاب يضرب المنكدر في الصلاة بعد العصر

في هذا الحديث ما كان عليه عمر من تفقده أمر من استرعاه الله أمره وكذلك يلزم الأئمة والسلاطين الاهتبال بأمر الدين والقيام بأمر المسلمين وصلاح دنياهم بما أباح الله لهم روينا عن الحسن البصرى أنه قال ما ورد علينا قط كتاب عمر بن عبد العزيز إلا بإحياء سنة أو إماتة بدعة أو ورد مظلمة فهؤلاء هم الأئمة الذين هم لله في الأرض حجة باب النهي عن دخول المسجد بريح الثوم وتغطية الفم في الصلاة مالك عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أكل من هذه الشجرة فلا يقرب مساجدنا يؤذينا بريح الثوم قد ذكرنا هذا الحديث متصلا مسندا في التمهيد من طرق شتى روى يحيى وجماعة مساجدنا وروت طائفة مسجدنا والمعنى واحد و مساجدنا أعم وإن كان الواحد من الجنس في معنى الجماعة و مساجدنا تفسير مسجدنا وفي بعض الآثار المسندة فلا يقربنا ولا يصلين معنا وفي بعضها فلا يغشانا في مساجدنا ولا يأتينا يمسح جبهته وفي حديث جابر بن عبد الله عن النبي عليه السلام قال من أكل الثوم أو البصل أو الكراث فلا يقربنا في مساجدنا فإن الملائكة تتأذى بما يتأذى به الآدميون وفي بعض الموطآت مالك عن بن شهاب عن سليمان بن يسار قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأكل الثوم ولا الكراث ولا البصل من أجل أن الملائكة تأتيه ومن أجل أنه يكلم جبريل عليه السلام رواه في الموطأ عبد الله بن يوسف التنيسي عن مالك ورواه إسماعيل بن أبي أويس عنه وفي هذا الحديث من الفقه إباحة الثوم لسائر الناس لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما

امتنع من أكل الثوم والبصل لعلة ليست موجودة في غيره فصار ذلك خصوصا وفي حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم من أكله فلا يقرب هذا المسجد لأن قوله من أكل من هذه الشجرة دليل على إباحة أكلها لا على تحريمها كما زعم بعض أهل الظاهر الذين يوجبون إتيان الجماعة فرضا ويمنعون من أكل الثوم والبصل ومن أكله لا يدخل المسجد لصلاة وفي ذلك دليل على أن شهود الجماعة ليس بفريضة خلافا أيضا لأهل الظاهر الذين يوجبونها ويحرمون أكل الثوم من أجل شهودها وقد ذكرنا من أكل الثوم من السلف في التمهيد على حسب ما بلغنا واختلف العلماء في معان من هذا الحديث فقال بعضهم إنما خرج النهي على مسجد النبي عليه السلام من أجل جبريل ونزوله فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وقال الجمهور حكم مسجد النبي وسائر المساجد سواء قال أبو عمر وملائكة الوحي وغيرها سواء لأنه قد أخبر أنه يتأذى منه بنو آدم وقال يؤذينا بريح الثوم ولا يحل إذا لجليس ولا لمسلم حيث كان وقد ذكرنا في التمهيد حديث عمر قال أيها الناس إنكم تأكلون من شجرتين خبيثتين البصل والثوم ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل أمر به فأخرج إلى البقيع ففي هذا الحديث أن الناس كانوا يأكلون الثوم والبصل وأنهم لم ينهوا عن أكلهما ولكنهم أبعدوا من المسجد من أجلهما وفي حديث المغيرة بن شعبة وغيره فلا يقربنا حتى يذهب ريحهما وذلك كله إباحة لأكلهما وللتأخر عن المسجد من أجل ذلك وفي حديث عمر أيضا ما يدل أن كل ما يتأذى به كالمجذوم وغيره يبعد عن المسجد وقد شاهدت شيخنا أبا عمر الإشبيلي أحمد بن عبد الملك بن هاشم أفتى في رجل شكاه جيرانه وأثبتوا عليه أنه يؤذيهم في المسجد بلسانه ويده بأن يخرج عن المسجد ويبعد عنه فقلت له وما هذا وقد كان في أدبه بالسوط ما يردعه فقال الاقتداء بحديث النبي عليه السلام أولى ونزع بحديث عمر المذكور وروى بن وهب عن مالك أنه سئل عن آكل الثوم يوم الجمعة فقال بئس ما صنع حين آكل الثوم وهو ممن يجب عليه حضور الجمعة

وقال عنه بن القاسم الكراث كالثوم إذا وجد من ريحها ما يؤذيه وفي كون الخضر بالمدينة وإجماع أهلها على أنه لا زكاة فيها دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأخذ منها الزكاة ولو أخذ منها الزكاة ما خفي عليهم فكانت الخضرة مما عفي عنه من الأموال كما عفي عن سائر العروض التي ليست للتجارة وسيأتي هذا المعنى في هذا الكتاب عند قوله عليه السلام فيما سقت السماء العشر إن شاء الله مالك عن عبد الرحمن بن المجبر أنه كان يرى سالم بن عبد الله إذا رأى الإنسان يغطي فاه وهو يصلي جبذ الثوب عن فيه جبذا شديدا حتى ينزعه عن فيه عبد الرحمن المجبر هو عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب وإنما قيل لابنه عبد الرحمن المجبر لأنه سقط فتكسر فجبر فقيل له المجبر وقد قيل إنه كان يقال له المكسر فقالت حفصة بل هو المجبر وقيل إنما قيل له المجبر لأن أباه توفي وهو في بطن أمه فسمته حفصة المجبر لعل الله يجبره وقال فيه الزبير بن بكار المجبر وسائر الناس يقولون بتحريك الجيم وتشديد الباء وكان بن معين يضعف عبد الرحمن المجبر هذا وليس قوله بشيء لأنه لا يحفظ له حديث منكر أتى به وأما تغطية الفم والأنف في الصلاة فمكروه لمن أكل ثوما وإنما أصل الكراهية فيه لأنهم كانوا يتلثمون ويصلون على تلك الحال فنهوا عن ذلك ذكر بن وهب قال أخبرني الوليد بن المغيرة أن وهب بن عبد الله المعاوي حدثه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضعن أحدكم ثوبه على أنفه وهو في الصلاة فإن ذلك خطم الشيطان

قال بن وهب وكره أن يغطي الإنسان أنفه في الصلاة وقال بن عبد الحكم لا يغطي أنفه في الصلاة وقال بن الجهم معنى ذلك ليباشر الأرض بأنفه عند سجوده كما يباشرها بجبهته وكره التلتم في الصلاة عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وعكرمة وطاوس وإبراهيم والحسن وروي عن علي وقال حميد بن عبد الرحمن الرقاشي قال حدثنا بكر بن عامر قال كان إبراهيم والشعبي يكرهان أن يغطي الرجل فاه في الصلاة

كتاب الطهارة باب العمل في الوضوء مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أنه قال لعبد الله بن زيد بن عاصم وهو جد عمرو بن يحيى المازني وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ فقال عبد الله بن زيد بن عاصم نعم فدعا بوضوء فأفرغ على يده فغسل يديه مرتين مرتين ثم تمضمض واستنثر ثلاثا ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل يديه مرتين مرتين إلى المرفقين ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه ثم غسل رجليه هكذا في الموطأ عند جميع رواته فيما علمت في إسناد هذا الحديث وهو جد عمرو بن يحيى في جده عبد الله بن زيد بن عاصم ولم يقل أحد من رواة هذا الحديث عن عمرو بن يحيى في عبد الله بن زيد بن

عاصم وهو جد عمرو بن يحيى ألا مالك ولم يتابعه أحد على ذلك وهو عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي حسن المازني الأنصاري لا خلاف في ذلك ولجده أبي حسن صحبة فيما ذكر بعضهم على ما ذكرنا في كتاب الصحابة وعسى أن يكون جده لأمه وقد ذكرنا طرق هذا الحديث في التمهيد واختلاف رواته في سياقته وألفاظه وليس عند القعنبي في الموطأ وذكره سحنون في المدونة بألفاظ لا تعرف لمالك في إسناده ولا متنه وقد أوضحنا معنى ذلك كله في التمهيد والحمد لله فأما ما في هذا الحديث من المعاني فأول ذلك غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء مرتين فجملة قول مالك في ذلك أنه كره أن يدخل أحد يديه في وضوئه قبل أن يغسلهما إذا كان محدثا وإن كانت يده طاهرة لم يضر ذلك وضوءه هذا هو المشهور عنه والمعروف من مذهبه فيما روى عنه بن القاسم وبن وهب وأشهب وغيرهم إلا ما ذكره بن وهب عن بن القاسم عن مالك في الذي يستيقظ فيدخل يده في الإناء أنه لا بأس بذلك وذكر عن بن وهب وأصبغ أنهما كرها ذلك وقال بن وهب ليس على المتوضئ غسل يده إذا كانت طاهرة وكانت بحضرة الوضوء وسنورد ما للعلماء في هذا المعنى مستوعبا في باب وضوء النائم إن شاء الله وأما قوله ثم مضمض واستنثر ثلاثا فالثلاث في ذلك في سائر الأعضاء أكمل الوضوء وأتمه وما زاد فهو اعتداء ما لم تكن الزيادة لتمام نقصان وهذا لا خلاف فيه والمضمضة معروفة وليس إدخال الإصبع ودلك الأسنان بها من المضمضة فمن شاء فعل ومن شاء لم يفعل وحسب المتمضمض أخذ الماء من اليد بفيه وتحريكه متمضمضا به وطرحه عنه فإن فعل ذلك ثلاثا فقد بلغ غاية الكمال وأما الاستنثار فهو دفع الماء من الأنف والاستنشاق أخذه بريح الأنف وهما كلمتان مرويتان في الآثار المرفوعة وغيرها متداخلتان في المعنى وأهل العلم يعبرون بالواحدة عن الأخرى

وقد ذكرنا الآثار الواردة بهما في التمهيد فأما اختلاف العلماء في حكمهما فإن مالكا والشافعي وأصحابهما يقولون المضمضة والاستنثار سنة لا فريضة لا في الوضوء ولا في الجنابة وهذا قول الأوزاعي والليث بن سعد وبه قال محمد بن جرير الطبري وروي ذلك عن الحسن البصري وبن شهاب والحكم بن عتيبة ويحيى بن سعيد وقتادة فمن توضأ ولم يأت بهما ولا عملهما في وضوئه وصلى فلا إعادة عليه عند واحد من هؤلاء العلماء وحجة من لم يوجبهما أن الله لم يذكرهما في كتابه ولا أوجبهما رسوله ولا اتفق الجميع على إيجابهما والفرائض لا تثبت إلا من هذه الوجوه وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري هما فرض في الجنابة وسنة في الوضوء فإن تركهما في غسله من الجنابة وصلى أعاد كمن ترك لمعة ومن تركهما في وضوئه فلا شي عليه والحجة لهم قوله عليه السلام تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وأنقوا البشر وفي الأنف ما فيه من الشعر وأنه لا يوصل إلى غسل الأسنان والشفتين إلا بالمضمضة وقد قال عليه السلام العينان تزنيان والفرج يزني ونحو ذلك إلى أشياء نزعوا بها تركت ذكرها وقال بن أبي ليلى وحماد بن أبي سليمان هما فرض في الغسل والوضوء جميعا وهو قول إسحاق بن راهويه وروي عن عطاء والزهري مثل ذلك أيضا وروي عنهما مثل قول مالك والشافعي

وكذلك اختلف أصحاب دواد فمنهم من قال هما فرض في الغسل والوضوء جميعا ومنهم من قال إن المضمضة سنة والاستنشاق فرض وكذلك اختلف عن أحمد بن حنبل على هذين القولين المذكورين عن داود وأصحابه ولم يختلف قول أبي ثور وأبي عبيد أن المضمضة سنة والاستنشاق واجب قالا من ترك الاستنشاق وصلى أعاد ومن ترك المضمضة لم يعد وكذلك القول عند أحمد بن حنبل في رواية وعند أصحاب داود أيضا مثله واحتج من أوجبهما في الوضوء وفي غسل الجنابة أن الله تعالى قال ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا النساء كما قال في الوضوء فاغسلوا وجوهكم المائدة فما وجب في الواحد من الغسل وجب في الآخر ولم يحفظ أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ترك المضمضة والاستنشاق في وضوئه ولا غسله للجنابة وهو المبين عن الله عز وجل مراده وقد بين أن مراد الله بقوله فاغسلوا وجوهكم المضمضة والاستنشاق مع غسل سائر الوجه وحجة من فرق بين المضمضة والاستنشاق أن النبي عليه السلام فعل المضمضة ولم يأمر بها وأفعاله مندوب إليها ليست بواجبة إلا بدليل وفعل عليه السلام الاستنثار وأمر به وأمره على الوجوب إلا أن يستبين غير ذلك من مراده وهذا على أصلهم في ذلك ولكل واحد منهم اعتلالات وترجيحات يطول ذكرها وأما غسل الوجه ثلاثة على ما في حديث عبد الله بن زيد هذا فهو الكمال والغسلة الواحدة إذا أوعبت تجزئ بإجماع من العلماء لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توضأ مرة مرة ومرتين وثلاثة وهذا أكثر ما فعل من ذلك عليه السلام وتلقت الجماعة ذلك من فعله على الإباحة والتخيير في الثنتين والثلاث إلا أن ثبت أن شيئا من ذلك نسخ لغيره فقف على إجماعهم فيه قال بن القاسم عن مالك ليس في ذلك توقيت قال الله تعالى فاغسلوا وجوهكم ولم يوقت

وذكر عنه بن عبد الحكم قال لا أحب الاقتصار على اثنتين وإن عمتا والوجه مأخوذ من المواجهة وهو من منابت شعر الرأس إلى العارض والذقن والأذنين وما أقبل من اللحيين واختلف في البياض الذي بين الأذنين والعارض فروى بن وهب عن مالك قال ليس ما خلف الصدغ الذي من وراء شعر اللحية إلى الأذن من الوجه وزعم عبد الوهاب أن مذهبه محمول في ذلك على أن غسل الوجه إلى العارض فرض وغسل ما بين العارض إلى الأذن سنة وقال الشافعي يغسل المتوضئ وجهه من منابت شعر لحيته إلى أصول أذنيه ومنتهى اللحية إلى ما أقبل من وجهه وذقنه قال فإن كان أمرد غسل بشرة وجهه كلها فإن نبتت لحيته وعارضاه أفاض على لحيته وعارضيه وإن لم يصل الماء إلى بشرة وجهه التي تحت الشعر أجزأه إذا كان شعره كثيرا قال أبو عمر قد أجمعوا أن ليس على المتيمم أن يمسح ما تحت عارضيه فقضى إجماعهم في ذلك على مراد الله منه لأن الله أمر المتيمم بمسح وجهه كما أمر المتوضئ بغسله وقال أحمد بن حنبل غسل الوجه من منابت شعر الرأس إلى ما انحدر من اللحيين والذقن وإلى أصول الأذنين ويتعاهد البياض الذي بين العارض والأذن وقال أبو حنيفة وأصحابه البياض الذي بين العذار والأذن من الوجه وغسله واجب قال أبو عمر في اختلاف العلماء بالمدينة وغيرها قديما فيما أقبل من الأذنين هل هو من الرأس أو من الوجه ما يوضح أن البياض الذي بين الأذنين والعارض من الوجه وسأذكر اختلاف العلماء في الأذنين في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله قرأت على محمد بن عبد الله بن حكم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا الفضل بن الحباب القاضي بالبصرة قال حدثنا أبو الوليد الطيالسي قال حدثنا قيس بن الربيع عن جابر بن هرمز قال سمعت عليا يقول ابلغ بالوضوء مقاص الشعر واختلف في تخليل اللحية والذقنه فذهب مالك والشافعي والثوري والأوزاعي أن تخليل اللحية ليس بواجب في الوضوء وقال مالك وأكثر أصحابه وطائفة من أهل المدينة ولا في غسل الجنابة

وذكر بن عبد الحكم عن مالك أن الجنب يخلل لحيته ويستحب ذلك له وليس ذلك على المتوضئ قال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلل أصول شعره في غسله من الجنابة وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري والأوزاعي والليث بن سعيد وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وداود والطبري ومن قال بقوله تخليل اللحية في غسل الجنابة واجب وهذا على من احتاج إلى ذلك لكثرة شعره ليصل الماء إلى بشرته وأظن مالكا ومن قال بقوله ذهبوا إلى أن الشعر لا يمنع من وصول الماء وذكر بن عبد الحكم عن مالك قال ويحرك اللحية في الوضوء إن كانت كثيرة ولا يخللها قال وأما في الغسل فليحركها وإن صغرت وتخليلها أحب إلينا وذكر بن القاسم عن مالك قال يحرك المتوضى ء ظاهر لحيته من غير أن يدخل يده فيها قال وهي مثل أصابع الرجل يعني أنها لا تخلل وقال بن عبد الحكم تخليل اللحية واجب في الوضوء والغسل وروى أبو فروة موسى بن طارق قال سمعت مالكا يذكر تخليل اللحية فيقول يكفيها ما مسها من الماء مع غسل الوجه ويحتج في ذلك بحديث عبد الله بن زيد لم يذكر فيه تخليل اللحية وقال الأوزاعي ليس تحريك اللحية وتخليل العارضين بواجب وقال بن خواز بنداذ اتفق الفقهاء على أن تخليل اللحية ليس بواجب في الوضوء إلا شيئا روي عن سعيد بن جبير قال أبو عمر الذي روي عن سعيد بن جبير قوله ما بال الرجل يغسل لحيته قبل أن تنبت فإذا نبتت لم يغسلها وما بال الأمرد يغسل ذقنه ولا يغسله ذو اللحية وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خلل لحيته في وضوئه من وجوه كلها ضعيفة وأما الصحابة والتابعون فروي عن جماعة منهم تخليل اللحية وأكثرهم لم يفرقوا بين الوضوء والجنابة وروي عن جماعة منهم الرخصة في ترك تخليل اللحية وإيجاب غسل ما تحت اللحية مع الاختلاف فيه دون دليل قاطع فيه لا يصح ومن احتاط فخلل لم يعب قال الطحاوي التيمم واجب فيه مسح اللحية ثم سقط بعد هذا عندهم جميعهم فكذلك الوضوء

وأما ما انسدل من اللحية فذكر عن سحنون عن بن القاسم قال سمعت مالكا يسأل هل سمعت بعض أهل العلم يقول إن اللحية من الوجه الماء قال قال نعم قال وتخليلها في الوضوء ليس من أمر الناس وعاب ذلك على من فعله قيل لسحنون أرأيت من غسل وجهه ولم يمر الماء على لحيته قال هو بمنزلة من لم يمسح رأسه وعليه الإعادة واختلف قول الشافعي فيما انسدل من شعر اللحية فقال مرة أحب إلى أن يمر الماء على ما سقط من اللحية على الوجه فإن لم يفعل ففيها قولان يجزئه في أحدهما ولا يجزئه في الآخر لأنه لا يجعل ما سقط من منابت شعر الوجه من الوجه يعني بقوله ما سقط ما انسدل قال أبو عمر من جعل غسل ما انسدل من اللحية واجبا جعلها وجها والله قد أمر بغسل الوجه أمرا مطلقا لم يخص صاحب لحية من أمرد فكل ما وقع عليه اسم وجه فواجب غسله لأن الوجه مأخوذ من المواجهة وغير ممتنع أن تسمي اللحية وجها فوجب غسلها لعموم الظاهر ومن لم يوجب غسل ما انسدل من اللحية ذهب إلى أن الأصل المأمور بغسله بشرة الوجه وإنما وجب غسل اللحية لأنها ظهرت فوق البشرة حائلة دونها وصارت البشرة باطنا وصار الظاهر هو شعر اللحية فوجب غسلها بدلا من البشرة وما انسدل من اللحية ليس لحية فما يلزم غسله فيكون غسل اللحية بدلا منه كما أن جلد الرأس مأمور بغسله أو مسحه فلما نبت الشعر ناب مسح الشعر عن مسح جلدة الرأس لأنه ظاهر فهو بدل منه وما انسدل من الرأس وسقط فليس تحته بشرة يلزم مسحها ومعلوم أن الرأس المأمور بمسحه ما علا ونبت فيه الشعر وما سقط من شعره وانسدل فليس برأس وكذلك ما انسدل من اللحية ليس بوجه والله أعلم ولأصحاب مالك أيضا في هذه المسألة قولان كأصحاب الشافعي سواء والله أعلم وأما غسل اليدين فقد جاء في حديث عبد الله بن زيد هذا أن رسول الله غسلهما مرتين مرتين إلى المرفقين وجاء عن عثمان وعلي في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه غسلهما ثلاثا ثلاثا وهو أكمل الوضوء وأتمه

وروى بن عباس أنه توضأ مرة مرة وهو أقل ما يجزئ إذا كانت سابغة وقد مضى القول في هذا المعنى وقد أجمعوا على أن الأفضل أن يغسل اليمنى قبل اليسرى وأجمعوا على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك كان يتوضأ وكان عليه السلام يحب التيامن في أمره كما في طهوره وغسله وغير ذلك من أموره وكذلك أجمعوا أن من غسل يسرى يديه قبل اليمنى أنه لا إعادة عليه وروينا عن علي وبن مسعود أنهما قالا لا نبالي بأي ذلك بدأنا قال معن بن عيسى سألت عبد العزيز بن أبي سلمة عن إجالة الخاتم عند الوضوء قال إن كان ضيقا فأجله وإن كان واسعا فأقره قال وقال مالك ليس عليه ذلك وقال محمد بن عبد الحكم كقول محمد بن أبي سلمة وأما إدخال المرفقين في الغسل فعلى ذلك أكثر العلماء وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وأصحابه إلا زفر فإنه اختلف عنه في ذلك فروى عنه أنه يجب غسل المرافق مع الذراعين وروى عنه أنه لا يجب ذلك وبه قال الطبري وبعض أصحاب مالك المتأخرين وبعض أصحاب داود فمن أوجب غسلها حمل قوله وأيديكم إلى المرافق المائدة على أن إلى ها هنا بمعنى الواو أو بمعنى مع فتقدير قوله ذلك عندهم وأيديكم والمرافق أو مع المرافق واحتج بعضهم بقوله تعالى من أنصاري إلى الله الصف أي مع الله وقوله ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم النساء أي مع أموالكم وأنكر بعض أهل اللغة أن تكون إلى بمعنى الواو وبمعنى مع وقال لو كان كذلك لوجب غسل اليدين من أطراف الأصابع إلى أصل الكتف وقال لا يجوز أن تخرج إلى عن معناها وذلك أنها بمعنى الغاية أبدا وقال جائز أن تكون إلى ها هنا بمعنى الغاية وتدخل المرافق في الغسل

لأن الثاني إذا كان من الأول كان ما بعد إلى داخلا فيما قبله فدخلت المرافق في الغسل لأنها من اليدين ولم يدخل الليل في الصيام بقوله ثم أتموا الصيام إلى الليل البقرة لأن الليل ليس من النهار كأنه يقول ما كان من الجنس دخل الحد منه في المحدود وما لم يكن من الجنس لم يدخل في المحدود منه حدة ومن لم يوجب غسلها حمل إلى على الغاية كقوله ثم أتموا الصيام إلى الليل وليس بشيء مما قدمنا من الحجة لقول الجمهور الذين لا يجوز عليهم جهل التأويل ولا تحريفه لأن القائلين بسقوط إدخال المرفقين في غسل الذراعين قليل وقولهم في ذلك كالشذوذ ومن غسل المرفقين مع الذراعين فقد أدى فرضة بيقين واليقين في أداء الفرائض واجب وأما المسح بالرأس فقد أجمعوا أن من مسح برأسه كله فقد أحسن وعمل أكمل ما يلزمه على أنهم قد أجمعوا على أن اليسير لا يقصد إلى إسقاطه متجاوز عنه لا يضر المتوضئ وجمهورهم يقول بمسح الرأس مسحة واحدة موعبة كاملة لا يزيد عليها إلا الشافعي فإنه قال من توضأ ثلاثا مسح رأسه ثلاثا على ظاهر الحديث في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا وفي بعض الروايات عن عثمان في صفة وضوء رسول الله ثم يمسح رأسه ثلاثا وأكثرها على مرة واحدة وروى مسح الرأس ثلاثا عن أنس بن مالك وسعيد بن جبير وعطاء وغيرهم وكان بن سيرين يقول يمسح رأسه مرتين وكان مالك يقول في مسح الرأس يبدأ بمقدم رأسه ثم يذهب بيديه إلى مؤخرة ثم يردهما إلى مقدمه على حديث عبد الله بن زيد قال وهو أبلغ ما سمعت في مسح الرأس وهو قول الشافعي في أن حديث عبد الله بن زيد أحسن ما جاء في مسح الرأس وروي عن بن عمر أنه كان يبدأ من وسط رأسه ويدير ويعيد إلى حيث بدأ وفي حديث عبد الله بن زيد بدأ بمقدم رأسه وهو الذي ينبغي أن يمتثل ويحمل عليه

وروى معاوية والمقدام بن معدي عن النبي عليه السلام ثم يمسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر فقد توهم بعض الناس أنه بدأ بمؤخر رأسه لقوله فأقبل بهما وتوهم غيره أنه بدأ من وسط رأسه فأقبل بيديه وأدبر وهذه كلها ظنون وفي قوله بدأ بمقدم رأسه ما يرفع الإشكال لمن امتثل نفسه لأنه مفسر لقوله فأقبل بهما وأدبر وهو كلام يحتمل أن يكون على التقديم والتأخير كأنه قال فأدبر بهما وأقبل والواو لا توجب رتبة ولا تعقيبا وإذا احتمل الكلام التأويل كان قوله بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه يوضح ما أشكل من ذلك وهذا كله معنى قول مالك وأما قول الحسن بن حي يبدأ من مؤخر رأسه فإنه قد روي في حديث الربيع بنت معوذ بن عفراء أنها وصفت وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت ومسح رأسه مرتين بدأ بمؤخر رأسه ثم بمقدمه وبأذنيه ظهورهما وبطونهما وقد ذكرنا علة إسناده في التمهيد وأجمع العلماء أن من عم رأسه بالمسح فقد أدى ما عليه وأتى بأكمل شيء فيه وسواء بدأ بمقدم رأسه أو بوسطه أو بمؤخره وإن كان لم يفعل ما استحب منه واختلف الفقهاء فيمن مسح بعض رأسه فقال مالك الفرض مسح جميع الرأس فإن ترك شيئا منه كان كمن ترك غسل شيء من وجهه هذا هو المعروف من مذهب مالك وهو مذهب بن علية قال بن علية قد أمر الله تعالى بمسح الرأس في الوضوء كما أمر بمسح الوجه في التيمم وأمر بغسله في الوضوء وقد أجمعوا أنه لا يجوز غسل بعض الوجه في الوضوء ولا مسح بعضه في التيمم وقد أجمعوا على أن الرأس يمسح كله ولم يقل أحد إن مسح بعضه سنة وبعضه فريضة فدل على أن مسحه كله فريضة واحتج إسماعيل وغيره من أصحابنا على وجوب العموم في مسح الرأس بقوله تعالى وليطوفوا بالبيت العتيق الحج وقد أجمعوا أنه لا يجوز الطواف ببعضه فكذلك مسح الرأس والمعنى في قوله وامسحوا برؤوسكم أي امسحوا رؤوسكم ومن مسح بعض رأسه فلم يمسح رأسه

واختلف أصحاب مالك في ذلك فقال أشهب يجوز مسح بعض الرأس وذكر أبو الفرج قال اختلف متأخروا أصحابنا في ذلك فقال بعضهم لا بد أن يمسح كل الرأس أو أكثره وإذا مسح أكثره أجزأه قال وقال آخرون إذا مسح الثلث فصاعدا أجزأه قال وهذا أشبه القولين عندي وأولاهما من قبل أن الثلث فما فوقه قد جعله مالك في حيز الكثير في غير موضع من كتبه ومذهبه وزعم الأبهري أنه لم يقل أحد من أصحاب مالك ما ذكره أبو الفرج عنهم فإن المعروف لمحمد بن مسلمة ومن قال بقوله أن الممسوح من الرأس إن كان المتروك الأقل جاز على أصل مالك في أن الثلث عنده قدر يسير في كثير من مسائله قال أبو عمر ما ذكره أبو الفرج والأبهري عن محمد بن مسلمة كلاهما خارج عن أصول مالك في الثلث فمرة يجعله حدا في اليسير ومرة في الكثير وأما الشافعي فقال الفرض مسح بعض الرأس وقال احتمل قوله عز وجل وامسحوا برؤوسكم مسح بعض الرأس ومسح جميعه فدلت السنة على أن يجزئ وقال في موضع آخر من كتابه فإن قيل مسح الوجه في التيمم يدل على عموم غسله فلا بد أن يأتي بالمسح على جميع موضع الغسل منه ومسح الرأس أصل فهذا فرق ما بينهما قال أبو عمر السنة التي ذكر الشافعي أنها دلت على أن مسح بعض الرأس يجزئ هي مسحه بناصيته عليه السلام والناصية مقدم الرأس فقط جاء ذلك في آثار كثيرة منها ما أخبرناه عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا أبي قال حدثنا إسماعيل بن علية عن أيوب عن محمد بن سيرين عن عمرو بن وهب قال كنا عند المغيرة بن شعبة فقال مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم بناصيته

وقد روى بكر المزني عن الحسن عن بن المغيرة عن أبيه عن النبي عليه السلام مثله ومن حديث أنس عن النبي عليه السلام مثله ذكرهما أبو داود وقد ذكرتهما بإسنادهما في التمهيد وقال أبو حنيفة وأصحابه إن مسح المتوضئ بعض رأسه أجزأه ويبدأ بمقدم رأسه إلى مؤخره واختلف أصحاب داود فقال بعضهم مسح الرأس كله واجب فرضا كقول مالك وقال بعضهم المسح ليس شأنه الاستيعاب في لسان العرب والبعض يجزئ وقال الثوري والأوزاعي والليث بن سعد يجزئ مسح بعض الرأس ويمسح المقدم وهو قول داود وأحمد وقد قدمنا عن جميعهم أن مسح جميع الرأس أحب إليهم وكان بن عمر وسلمة بن الأكوع يمسحان مقدم رؤوسهما وعن جماعة من التابعين إجازة مسح بعض الرأس ذكر ذلك عنه بن أبي شيبة وعبد الرزاق وقال أبو حنيفة إن مسح رأسه أو بعضه بثلاثة أصابع فيما زاد أجزأه وإن مسح بأقل من ذلك لم يجزه وقال الثوري والشافعي إن مسح بإصبع واحد أجزأه وإن مسح بأقل من ذلك لم يجزئه واتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة على أن الرأس يجزئ مسحه إلا بماء جديد يأخذه له المتوضئ كما يأخذه لسائر الأعضاء ومن مسح رأسه بما فضل من البلل في يديه من غسل ذراعيه لم يجزه وقال الأوزاعي وجماعة من التابعين يجزئه وذكر بن حبيب عن بن الماجشون أنه قال إذا نفذ الماء عنه مسح رأسه ببلل لحيته واختاره بن حبيب والمرأة عند جميع الفقهاء في مسح رأسها كالرجل سواء كل مما أصله وأما غسل الرجلين ففي حديث عبد الله بن زيد هذا ثم غسل رجليه ولم يجر وفي حديث عثمان وعلي إذ وصفا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات عنهما ثم غسل رجليه ثلاثا وفي بعضها ثم غسل رجليه حتى أنقاهما وفي بعضها ثم غسل رجليه فقط

وأجمع العلماء أن غسلة واحدة في الرجلين وسائر أعضاء الوضوء تجزئ إذا كانت سابغة وإذا أجزأت المرة الواحدة في الوجه والذراعين فأحرى أن تجزئ في الرجلين لأنهما عند بعض العلماء ممسوحتان وهما في التيمم مع الرأس يسقطان والقول عند العلماء في دخول الكعبين في غسل الرجلين كهو في المرفقين مع الذراعين كل على أصله وسنبين ما في ذلك كله للعلماء في هذا الباب عند قوله عليه السلام ويل للأعقاب من النار إن شاء الله ويأتي ذكر الأذنين وحكمهما في بابهما من هذا الكتاب بحول الله وعونه مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينثر ومن استجمر فليوتر مالك عن بن شهاب عن أبي إدريس الخولاني عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من توضأ فليستنثر ومن استجمر فليوتر عند بعض شيوخنا في حديث أبي الزناد فليجعل في أنفه ماء وبعضهم ليس عنده ماء والمعنى قائم

وأما قوله ثم لينثر وفي حديث بن شهاب فليستنثر فإنه يقال نثر واستنثر بمعنى واحد وهو دفع ما استنشقه من الماء بريح الأنف وليس في الموطأ حديث هنا بلفظ الاستنشاق ولا يكون الاستنثار إلا بعد الاستنشاق ولفظ الاستنشاق موجود في حديث أبي هريرة وفي حديث أبي رزين العقيلي ويؤخذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمضمض واستنشق من حديث عثمان وعلي وعائشة وغيرهم ففي حديث أبي هريرة من رواية معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام قال إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخره من الماء ثم لينثر وفي حديث أبي رزين العقيلي واسمه لقيط بن صبرة قال قلت يا رسول الله أخبرني عن الوضوء قال أسبغ الوضوء وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما وفي حديث سلمة بن قيس قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استنشقت فانثر وإذا استجمرت فأوتر وأما الاستنثار ففي حديث أبي هريرة ما في الموطأ بإسنادين وروى بن أبي ذئب عن قارظ بن شيبة عن أبي غطفان أنه سمع بن عباس يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم استنثروا مرتين بالغتين أو ثلاثا وقد ذكرنا أسانيد هذه الأحاديث كلها في التمهيد وقد جمعها الزهري في حديث عثمان فجود حدثنا محمد بن إبراهيم حدثنا محمد بن معاوية حدثنا أحمد بن شعيب قال حدثنا أحمد بن محمد بن المغيرة حدثنا عثمان عن شعيب عن الزهري أخبرني عطاء بن يزيد الليثي عن حمران أن عثمان بن عفان دعا بوضوء فأفرغ على

يديه من إنائه فغلسها ثلاث مرات ثم أدخل يمينه في الوضوء فمضمض واستنشق واستنثر وذكر تمام الحديث واختلف العلماء فيمن ترك الاستنشاق والاستنثار في وضوئه ناسيا أو عامدا أعاد الوضوء وبه قال أبو ثور وأبو عبيد في الاستنثار خاصة دون المضمضة وهو قول داود في الاستنثار خاصة وكان أبو حنيفة وأصحابه والثوري يذهبون إلى إيجاب المضمضة والاستنشاق في الجنابة دون الوضوء وكان حماد بن أبي سليمان وبن أبي ليلى وطائفة يوجبونهما في الوضوء والجنابة معا وأما مالك والشافعي والأوزاعي وأكثر أهل العلم فإنهم ذهبوا إلى أنه لا فرض في الوضوء واجب إلا ما ذكر الله في القرآن وذلك غسل الوجه واليدين إلى المرفقين ومسح الرأس وغسل الرجلين وقد أوضحنا معاني أقوالهم وعيون احتجاج كل واحد منهم فيما تقدم من هذا الباب والحمد لله وأما قوله ومن استجمر فليوتر فمعنى الاستجمار إزالة الأذى من المخرج بالأحجار والجمار عند العرب الحجارة الصغار وقد ذكرنا تصريف هذه اللفظة في اللغة وشواهد الشعر على ذلك في التمهيد والاستجمار هو الاستنجاء وهو إزالة النجو من المخرج بالماء أو بالأحجار واختلف الفقهاء في ذلك هل هو فرض واجب أو سنة مسنونة فذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابهما إلى أن ذلك ليس بواجب فرضا وأنه سنة لا ينبغي تركها وتاركها مسيء فإن صلى كذلك فلا إعادة عليه إلا أن مالكا يستحب له الإعادة في الوقت وعلى ذلك أصحابه وأبو حنيفة يراعي أن يكون ما خرج عن في المخرج مقدار الدرهم على أصله وسيأتي ذكره في موضعه وقال الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو ثور وداود والطبري الاستنجاء واجب ولا تجزئ صلاة من صلى دون أن يستنجي بالأحجار أو بالماء والمخرج مخصوص بالأحجار عند الجميع ويجوز عند مالك وأبي حنيفة الاستنجاء بأقل من ثلاثة أحجار إذا ذهب النجو لأن الوتر يقع على الواحد فما فوقه من الوتر عندهم مستحب وليس بواجب

وقد روي من حديث أبي هريرة عن النبي عليه السلام من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج وقد ذكرناه بإسناده في التمهيد وقال الشافعي لا يجوز أن يقتصر على أقل من ثلاثة أحجار وهو قول أحمد بن حنبل وإلى هذا ذهب أبو الفرج المالكي وحجة من قال بهذا القول حديث سلمان الفارسي أنه قال له رجل إن صاحبكم ليعلمكم حتى الخراءة قال أجل نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول أو نستنجي بأيماننا أو نكتفي بأقل من ثلاثة أحجار وحديث أبي هريرة عن النبي عليه السلام أنه كان يأمر بثلاثة أحجار وينهي عن الروث والرمة وهما حديثان ثابتان بإجماع من أهل النقل وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي كل ما قام مقام الأحجار من سائر الأشياء الطاهرة فجائز الاستنجاء به ما لم يكن مأكولا وقال مالك وأبو حنيفة إن استنجى بعظم أجزأه وبئس ما صنع وقال الشافعي لا يجزئ لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال الطبري كل طاهر ونجس أزال النجو أجزأ وقال داود وأهل الظاهر لا يجوز الاستنجاء بغير الأحجار الطاهرة ولا فرق عند مالك وأبي حنيفة في مخرج البول والغائط بين المعتادات وغيره المعتادات أن الأحجار تجزئ فيها وهو المشهور من قول الشافعي وقد روي عن الشافعي أنه لا يجزئ فيما عدا الغائط والبول إلا الماء وكذلك ما عدا المخرج وما حوله مما يمكن التحفظ منه فإنه لا يجزئ فيه الأحجار ولا يجزئ فيه إلا الماء وسيأتي حكم المذي في موضعه إن شاء الله

وحكى بن خواز بنداذ عن مالك وأصحابه أن ما حول المخرج مما لا بد منه في الأغلب والعادة لا يجزئ فيه إلا الماء ولم أر عن مالك هذا القياس وقالت طائفة من أصحابنا إن الأحجار تجزئ في مثل ذلك لأن ما لا يمكنه التحفظ منه مثل الشعر وما يقرب منه حكمه حكم المخرج واختلف أصحاب الشافعي أيضا فمنهم من قال تجزئ فيه الأحجار ومنهم من أبى ذلك وأما أبو حنيفة وأصحابه فعلى أصلهم أن النجاسة تزول بكل ما أزال عينها وأذهبها ماء كان أو غيره وقدر الدرهم عندهم معفو عنه أصلا وقال داود النجاسة بأي وجه زالت أجزأ ولا تحد بقدر الدرهم قال مالك تجوز الصلاة بغير الاستنجاء والاستنجاء بالحجارة حسن والماء أحب إليه ويغسل ما هنالك بالماء من لم يستنج لما يستقبل وقال الأوزاعي تجوز ثلاثة أحجار والماء أطهر ومن جعل من العلماء الاستنجاء واجبا جعل الوتر فيه واجبا وسائر أهل العلم يستحبون فيه الوتر وسيأتي ذكر الاستنجاء بالماء عند قول سعيد بن المسيب قال يحيى سمعت مالكا يقول في الرجل يتمضمض ويستنثر من غرفة واحدة إنه لا بأس بذلك قال أبو عمرو في حديث عبد الله بن زيد بن عاصم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمضمض واستنشق واستنثر من كف واحدة حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا محمد بن بكر حدثنا أبو داود حدثنا مسدد قال حدثنا خالد بن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه عن عبد الله بن زيد بن عاصم بهذا الحديث قال فمضمض واستنشق من كف واحدة ففعل ذلك ثلاث مرات وذكر نحو حديث مالك وهو أمر لا أعلم فيه خلافا أنه من شاء فعله ومن أهل العلم من يستحسنه ومنهم من يستحب أن يستنشق من غير الماء الذي تمضمض منه وكل قد روي مالك أنه بلغه أن عبد الرحمن بن أبي بكر قد دخل على عائشة

زوج النبي يوم مات سعد بن أبي وقاص فدعا بوضوء فقالت له عائشة يا عبد الرحمن أسبغ الوضوء فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ويل للأعقاب من النار هذا الحديث يروى متصلا مسندا عن النبي عليه السلام من وجوه شتى من حديث عائشة ومن حديث أبي هريرة ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ومن حديث عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي وقد ذكرتها كلها في التمهيد والحمد لله وحديث عبد الله بن عمرو وأبي هريرة وعبد الله بن الحارث بن جزء لا علة في شيء من أسانيدها ولا مقال وفيه من الفقه غسل الرجلين وفي ذلك تفسير لقوله تعالى وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين المائدة فرويت بخفض وأرجلكم ونصبها وفي هذا الحديث دليل على أن المراد بذلك غسل الأرجل لا مسحها لأن المسح ليس شأنه استيعاب الممسوح فدل على أن من جر الأرجل عطفها على اللفظ لا على المعنى والمعنى فيهما الغسل على التقديم والتأخير كأنه قال فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برؤوسكم والقراءتان صحيحتان مستفيضتان ومعلوم أن الغسل مخالف للمسح وغير جائز أن تبطل إحدى القراءتين بالأخرى فلم يبق إلا أن يكون المعنى الغسل أو العطف على اللفظ وكذلك قال أشهب عن مالك أنه سئل عن قراءة من قرأ وأرجلكم بالخفض فقال هو الغسل وهذا التأويل تعضده سنة رسول الله المجتمع عليها بأنه كان يغسل رجليه في وضوئه مرة ومرتين وثلاثا وجاء أمره في ذلك موافقا لفعله فقال ويل للعراقيب من النار ويل للعراقيب وبطون الأقدام من النار وقد ذكرنا الألفاظ بهذه الآثار مسندة في التمهيد

وقد وجدنا العرب تخفض بالجوار والإتباع على اللفظ بخلاف المعنى والمراد عندها المعنى كما قال امرؤ القيس كبير أناس في بجاد مزمل فخفض بالجوار وإنما المزمل الرجل والإعراب فيه الرفع وكذلك قوله أيضا صفيف شواء أو قدير معجل وكان الوجه أن يقول أو قديرا معجلا ولكنه خفض للإتباع وكما قال زهير لعب الزمان بها وغيرها بعدي سوافي المور والقطر قال أبو حاتم كان الوجه والقطر بالرفع ولكنه جره بالجوار على المور كما قالت العرب هذا جحر ضب خرب ومن هذا قراءة أبي عمرو يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس الرحمن بالجر لأن النحاس هو الدخان وقراءة يحيى بن وثاب ذو القوة المتين بالخفض ومن هذا أيضا قول النابغة لم يبق غير طريد غير منفلت أو موثق في حبال القد مسلوب فخفض

ومثله قوله الآخر فهل أنت إن ماتت أتانك راحل إلى آل بسطام بن قيس فخاطب بكسر الباء ومنه أيضا قول الشاعر حي دارا أعلامها بالجناب مثل ما لاح في الأديم الكتاب فجر الكتاب بالجوار ل لأديم وموضعه الرفع ب لاح وقد يكون الكتاب مخفوضا ردا على ما بدلا من ما وقد يراد بالمسح الغسل من قول العرب تمسحت للصلاة والمراد الغسل وعلى هذا التأويل الذي ذكرنا في إيجاب غسل الرجلين جمهور العلماء وجماعة فقهاء الآثار وإنما روي مسح الرجلين عن بعض الصحابة والتابعين وتعلق به بعض المتأخرين ولو كان مسح الرجلين يجزئ ما أتى الوعيد بالنار على من لم يغسل عقبيه وعرقوبيه أو فاته شيء من بطون قدميه لأنه معلوم أنه لا يعذب بالنار إلا على ترك الواجب وقد أجمع المسلمون أن من غسل قدميه فقد أدى الواجب عليه من قال منهم بالمسح ومن قال بالغسل فاليقين ما أجمعوا عليه واختلاف العلماء في دخول الكعبين في غسل الرجلين كما ذكرنا في دخول المرفقين في الذراعين وجملة مذهب مالك وتلخيص مذهبه في ذلك أن المرفقين إن بقي شيء منهما مع القطع غسل قال وأما الكعبان إذا قطعت الرجل على السنة في سرقة أو خرابة فهما باقيان في القطع ولا بد من غسلهما مع الرجلين والكعبان هما الناتئان في طرق الساق وعلى هذا مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وداود في الكعبين وقال الطحاوي للناس في الكعبين ثلاثة أقوال فالذي يذهب إليه محمد بن الحسن أن في القدم كعبا وفي الساق كعبا ففي كل رجل كعبان

قال وغيره يقول في كل قدم كعب وموضعه ظهر القدم مما يلي الساق قال وآخرون يقولون الكعب هو الدائر بمغرز الساق وهو مجتمع العروق من ظهر القدم على العراقيب قال والعرب تقول الكعبان هما العرقوبان قال أبو عمر احتج بعض من قال في الكعبين بقولنا بحديث النعمان بن بشير قال أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال أقيموا صفوفكم قال فلقد رأيت الرجل يلزق كعبه بكعب صاحبه والعرقوب هو مجمع مفصل الساق والقدم والعقب هو مؤخر الرجل تحت العرقوب وقال مالك ليس على أحد تخليل الأصابع من رجليه في الوضوء ولا في الغسل ولا خير في الجفاء والغلو رواه بن وهب وغيره عنه قال بن وهب تخليل أصابع رجليه في الوضوء مرغب فيه ولا بد من ذلك في أصابع اليدين وإن لم يخلل أصابع رجليه فلا بد من إيصال الماء إليها وقال بن القاسم عن مالك فيمن توضأ في نهر فحرك رجليه في الماء إنه لا يجزئه حتى يغسلهما بيديه قال بن القاسم وإن قدر على غسل إحداهما بالأخرى أجزأ قال أبو عمر يلزم من قال إن الغسل لا يكون إلا بمرور اليدين أن يقول لا يجزئه غسل إحداهما بالأخرى وقد روي عن النبي عليه السلام أنه كان إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره وهذا عندنا محمول على الكمال وقد روي عن بن وهب قال لما حدثت مالكا بحديث المستورد بن شداد عن النبي عليه السلام أنه كان يخلل أصابع رجليه رأيته يتعهد ذلك في وضوئه مالك عن يحيى بن محمد بن طحلاء عن عثمان بن عبد الرحمن أن

أباه حدثه أنه سمع عمر بن الخطاب يتوضأ بالماء وضوءا لما تحت إزاره يريد الاستنجاء يحيى بن محمد بن طحلاء مديني مولى لبني ليث وروي عنه وعن أخيه يعقوب بن محمد بن طحلاء الحديث ويحيى قليل الحديث جدا وأما عثمان بن عبد الرحمن فمديني أيضا قرشي تيمي وهو عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله يجتمع مع طلحة في عبيد الله أدخل مالك هذا الحديث في الموطأ ردا على من قال عن عمر إنه كان لا يستنجي بالماء وإنما كان استنجاؤه هو وسائر المهاجرين بالأحجار وذكر قول سعيد بن المسيب في الاستنجاء بالماء إنما ذلك وضوء النساء وقول حذيفة لو استنجيت بالماء لم تزل يدي في نتن ذكر أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن همام عن حذيفة أنه سئل عن الاستنجاء بالماء فقال إذا لا تزال يدي في نتن وهو مذهب معروف عن المهاجرين وأما الأنصار فمشهور عنهم أنهم كانوا يتوضؤون بالماء ومنهم من كان يجمع بين الطهارتين فيستنجي بالأحجار ثم يتبع آثار الأحجار الماء قال الشعبي لما نزلت فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين التوبة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أهل قباء ما هذا الثناء الذي أثنى الله عليكم قالوا ما منا أحد إلا وهو يستنجي في الخلاء بالماء وعن محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام مثل هذا المعنى سواء في أهل قباء وزاد إنا لنجده مكتوبا عندنا في التوراة الاستنجاء بالماء ولا خلاف أن قوله تعالى يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين نزلت في أهل قباء لاستنجائهم بالماء وذكر فيه أبو داود حديثا مسندا ذكرناه في التمهيد وروت معاذة العدوية عن عائشة قالت مرن أزواجكن أن يغسلوا أثر الغائط والبول بالماء فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله

والماء عند فقهاء الأمصار أطهر وأطيب وكلهم يجيز الاستنجاء بالأحجار على ما مضى في هذا الكتاب عنهم والحمد لله قال يحيى سئل مالك عن رجل توضأ فنسي فغسل وجهه قبل أن يتمضمض أو غسل ذراعيه قبل أن يغسل وجهه فقال أما الذي غسل وجهه قبل أن يتمضمض فليمضمض ولا يعد غسل وجهه وأما الذي غسل ذراعيه قبل وجهه فليغسل وجهه ثم ليعد غسل ذراعيه حتى يكون غسلهما بعد وجهه إذا كان ذلك في مكانه أو بحضرة ذلك قوله هذا يدل على أن الترتيب عنده لا يراعى في المسنون مع المفروض وإنما يراعي في المفروض من الوضوء إلا أن مراعاته لذلك ما دام في مكانه فإن بعد شيئا استأنف الوضوء ولو صلى لم يعد صلاته وكذلك ذكر بن عبد الحكم وبن القاسم وسائر أصحابه عند إلا علي بن زياد فإنه حكى عن مالك أنه قال من نكس وضوءه يعيد الوضوء والصلاة ثم رجع فقال لا إعادة عليه في الصلاة وحكى بن حبيب عن بن القاسم من نكس من مفروض وضوئه شيئا أصلح وضوءه بالحضرة فأخر ما قدم وغسل ما بعده وإن كان قد تطاول غسل ما نسي وحده قال بن حبيب لا يعجبني ذلك لأنه إذا فعل ذلك فقد أخر من الوضوء ما ينبغي أن يقدم والصواب غسل ما بعده إلى تمام الوضوء قال وكذلك قال لي بن الماجشون ومطرف وجملة قول مالك في هذه المسألة أنه يستحب لمن نكس وضوءه ولم يصل أن يستأنف الوضوء على نسق الآية ثم يصلي فإن صلى ثم ذكر ذلك لم نأمره بإعادة الصلاة لكنه يستحب له استئناف الوضوء على النسق لما يستقبل ولا يرى ذلك واجبا عليه وقال المتأخرون من المالكيين ترتيب الوضوء عند مالك سنة لا ينبغي تركها ولا يفسدون صلاة من صلى بوضوء منكوس وبمثل قول مالك قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي والليث بن سعد والمزني صاحب الشافعي وداود بن علي كلهم يقولون من غسل ذراعيه أو رجليه قبل أن يغسل وجهه أو قدم غسل رجليه قبل غسل يديه أو مسح رأسه قبل غسل وجهه عامدا أو غير عامد فذلك يجزيه إذا أراد بذلك الوضوء الصلاة وحجتهم أن الواو لا توجب التعقيب ولا تعطي رتبة عند جماعة البصريين من

النحويين وقالوا في قول العرب أعط زيدا وعمرا دينارا دينارا إن ذلك إنما يوجب الجمع بينهما في العطاء ولا يوجب تقدمة زيد على عمرو في العطاء قالوا فقوله تعالى فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين المائدة إنما يوجب ذلك الجمع بين الأعضاء المذكورة في الغسل ولا يوجب النسق وقد قال الله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله البقرة فبدأ بالحج قبل العمرة وجائز عند الجميع أن يعتمر الرجل قبل أن يحج وكذلك قوله تعالى وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة البقرة وجائز لمن وجب عليه إخراج زكاته في حين صلاة أن يبدأ بإخراج الزكاة ثم يصلي الصلاة في وقتها عند الجميع وكذلك قوله تعالى فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله النساء لا يختلف العلماء أنه جائز لمن وجب عليه في قتل الخطأ إخراج الدية وتحرير الرقبة أن يخرج الدية ويسلمها قبل أن يحرر الرقبة وهذا منسوق بالواو وهذا كثير في القرآن فدل ذلك أن الواو لا توجب رتبة قالوا ولسنا ننكر إذا صحب الواو بيان يوجب التقدمة أن ذلك كله لموضع البيان كما ورد البيان بالإجماع في قوله أركعوا واسجدوا الحج وقوله عليه السلام في الصفا والمروة نبدأ بما بدأ الله به وإنما قلنا إن حق الواو في اللغة التسوية لا غير حتى يأتي البيان بغير ذلك فنحفظه قالوا ولو كانت الواو توجب الرتبة ما احتاج النبي عليه السلام أن يبين الابتداء بالصفا وإنما بين ذلك إعلاما لمراد الله من الواو بذلك الموضع ولم يختلف في أنه ينبغي أن يبدأ بما بدأ الله به وإنما التنازع فيمن لم يفعل ما دل عليه وقد روي عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود أنهما قالا لا نبالي بأي أعضائنا بدأنا في الوضوء إذا أتممت وضوئي وهم أهل اللسان ولم يبن لهم من الآية إلا معنى الجمع لا معنى الترتيب

وقد قال الله تعالى يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين آل عمران ومعلوم أن السجود بعد الركوع وإنما أراد الجمع لا الرتبة وليس وضوءه عليه السلام على نسق الآية أبدا بيانا لمراد الله من آية الوضوء كبيانه لركعات الصلوات لأن آية الوضوء بينة مستغنية عن البيان والصلوات مجملة مفتقرة إليه هذه جملة ما احتج به كثير من القائلين بقول مالك والكوفيين في مسألة تنكيس الوضوء وقال الشافعي وسائر أصحابه إلا المزني وأحمد بن حنبل وأبو عبيد القاسم بن سلام وإسحاق بن راهويه وأبو ثور كلهم يقول من نكس وضوءه عامدا أو ناسيا لم يجزئه ولا تجزئه صلاة حتى يكون وضوءه على نسق الآية وإلى هذا ذهب أبو مصعب صاحب مالك وذكره عن أهل المدينة ومعلوم أن مالكا منهم وإمام فيهم قال أبو مصعب من قدم في الوضوء يديه على وجهه ولم يتوضأ على ترتيب الآية فعليه الإعادة لما صلى بذلك الوضوء واحتج القائلون بهذا القول من الشافعيين وغيرهم بأن قالوا الواو توجب الرتبة والجمع جميعا وذكروا ذلك عن الكسائي والفراء وهشام بن معاوية قالوا وذلك زيادة في فائدة الخطاب في قول القائل أعط زيدا وعمرا قالوا ولو كانت الواو توجب الرتبة أحيانا كما قال اركعوا واسجدوا ولا توجبها أحيانا كما قال واسجدي واركعي لكان في فعل رسول الله بيان لمراد الله تعالى من ذلك لأنه لم يتوضأ قط منذ افترض الله عليه الوضوء للصلاة إلا على نسق الآية فصار ذلك فرضا كما كان بيانه لعدد ركعات الصلوات ومقادير الزكوات فرضا وضعفوا الحديث المذكور عن علي وبن مسعود وقالوا هذا منقطع لا يصح لأن حديث علي انفرد به عبد الله بن عمرو الجملي ولم يسمع من علي وحديث بن مسعود إنما يرويه مجاهد عن بن مسعود ومجاهد لم يسمع من بن مسعود والمنقطع من الحديث لا تجب به حجة قالوا على أن حديث بن مسعود ليس فيه من صحيح النقل إلا قوله ما أبالي باليمنى بدأت أو باليسرى وهذا ما لا تنازع فيه إلا ما في الابتداء باليمنى من الاستحباب رجاء البركة ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب التيامن في أمره كله قالوا وقد روي عن علي أنه قال أنتم تقرون الوصية قبل الدين وقضى رسول

الله صلى الله عليه وسلم أن الدين قبل الوصية وهو مشهور ثابت عن علي قالوا فهذا علي قد أوجبت عنده أو التي هي في أكثر أحوالها بمعنى الواو القبل والبعد فالواو عنده أحرى بهذا وقد قال بن عباس ما ندمت على شيء لم أكن عملت به ما ندمت على المشي إلى بيت الله ألا أكون مشيت لأني سمعت الله تعالى يقول يأتوك رجالا وعلى كل ضامر الحج قيد أبا لرجال فهذا بن عباس قد صرح بأن الواو توجب عنده القبل والبعد والترتيب وعن عون بن عبد الله في قوله تعالى ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها الكهف قال ضج والله القوم من الصغائر قبل الكبائر فهذا أيضا مثل ما تقدم عن بن عباس وقد ذكرنا الخبرين عنهما بأسانيدهما في التمهيد قالوا وحروف العطف كلها قد أجمعوا على أنها توجب الرتبة إلا الواو فإنهم اختلفوا فيها فالواجب أن يكون حكمها حكم أخواتها من حروف العطف وأما قوله تعالى يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين فجائز أن تكون عبادتها في شريعتها السجود قبل الركوع وإن صح أن ذلك ليس كذلك فالوجه فيه أن الله تعالى أمرها بالقنوت وهو الطاعة ثم السجود وهو الصلاة بعينها كما قال تعالى وأدبار السجود ق يريد أدبار الصلوات ثم قال واركعي مع الراكعين آل عمران أي اشكري مع الشاكرين ومنه قوله تعالى وخر راكعا وأناب ص أي سجد شكرا لله وكذلك قال بن عباس إنها سجدة شكر قالوا وقد قال الله تعالى اركعوا واسجدوا الحج فأجمعوا أن السجود بعد الركوع واحتجوا أيضا بقوله عليه السلام نبدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا وقال إن الصفا والمروة من شعائر الله البقرة قالوا ومن الدليل على الترتيب في أعضاء الوضوء دخول المسح بين الغسلين لأنه

لو قدم ذكر الرجلين وأخر المسح لما فهم المراد من تقديم المسح فأدخل المسح بين الغسلين ليعلم أنه قدم على الرجلين ليثبت ترتيب الرأس قبل الرجلين ولولا ذلك لقال فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برؤوسكم ولما احتاج أن يأتي بلفظ ملتبس محتاج إلى التأويل لولا فائدة الترتيب في ذلك ألا ترى أن تقديم الرأس ليس من جعل الرجلين ممسوحتين فالفائدة وجوب الترتيب ولهذا وردت الآية بدخول المسح بين الغسلين والله أعلم قالوا وليس الصلاة والزكاة في التقدمة من هذا الباب في شيء لأنهما فرضان مختلفان أحدهما في بدن والاخر في بدن وقد يجب أحدهما على من لا يجب عليه الآخر وكذلك الدية والرقبة شيئان لا يحتاج فيهما إلى الرتبة وأما الطهارة ففرض واحد مرتبط بعضه ببعض كالركوع والسجود وكالصفا والمروة اللذين أمرنا فيهما بالترتيب قالوا والفرق بين جمع زيد وعمرو في العطاء وبين أعضاء الوضوء أنه ممكن أن يجمع بين زيد وعمرو في عطية وليس ذلك ممكنا في أعضاء الوضوء إلا على الرتبة فالواجب ألا يقدم بعضها على بعض لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك قط ولو جاز لفعله لأنه كان إذا خير بين أمرين أتاهما وربما اختار أيسرهما فلما لم يفعل ذلك دل على أن الرتبة في الوضوء كهي في الركوع والسجود المجتمع عليهما والله أعلم ورجحوا قولهم بالاحتياط الواجب في أداء الفرائض قالوا لأن من توضأ على النسق وصلى كانت صلاته تامة بإجماع هذا جملة ما احتج به أصحاب الشافعي لهذه المسألة ولهم إدخالات واعتراضات وعليهم مثلها يطول الكتاب بذكرها ولا معنى للإتيان بها والله أعلم باب وضوء النائم إذا قام إلى الصلاة مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده ولم يختلف الرواة لهذا الحديث عن مالك في الموطأ وغيره في قوله فليغسل يده ولم يقل مرة ولا مرتين ولا ثلاثا وهي رواية الأعرج عن أبي هريرة وقد ذكرنا في التمهيد من تابعه على ذلك من أصحاب أبي هريرة ومن قال فيه مرتين ومن قال فيه ثلاثا كل ذلك بالأسانيد الصحاح ورواه سفيان بن عيينة عن أبي الزناد بإسناده فقال فيه ثلاثا فقط وجعله على حديثه عن بن شهاب الزهري في ذلك وفي هذا الحديث من الفقه إيجاب الوضوء من النوم لقوله فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه وهو أمر مجتمع عليه في النائم المضطجع إذا غلب عليه النوم واستثقل نوما مالك عن زيد بن أسلم أن عمر بن الخطاب قال إذا نام أحدكم مضطجعا فليتوضأ مالك عن زيد بن أسلم أن تفسير هذه الآية يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين المائدة أن ذلك إذا قمتم من المضاجع يعني النوم واختلف العلماء فيما يوجب الوضوء من النوم فقال مالك من نام مضطجعا أو ساجدا فليتوضأ ومن نام جالسا فلا وضوء عليه إلا أن يطول نومه وهو قول الزهري وربيعة والأوزاعي في رواية الوليد بن مسلم عنه قال من نام قليلا لم ينتقض وضوؤه فإن تطاول ذلك توضأ وبه قال أحمد بن حنبل وروى الوليد بن مسلم عن الأوزاعي أنه سأل بن شهاب الزهري عن الرجل

ينام جالسا حتى استثقل قال إذا استثقل نوما فإنا نرى أن يتوضأ وأما إن كان نومه غرارا ينام ويستيقظ ولا يغلبه النوم فإن المسلمين قد كان ينالهم ذلك ثم لا يقطعون صلاتهم ولا يتوضؤون منه قال الوليد سمعت أبا عمرو الأوزاعي يقول إذا استثقل نوما توضأ وروى محمد بن خالد عن الأوزاعي قال لا وضوء من النوم وإن توضأ ففضل أحدثه وإن ترك فلا حرج ولم يذكر عنه الفصل بين أحوال النائم وسئل الشعبي عن النوم فقال إن كان غرارا لم ينقض الطهارة قال أبو عمر الغرار القليل من النوم قال جرير ما بال نومك بالفراش غرارا لو كان قلبك يستطيع لطارا وقال أبو حنيفة وأصحابه لا وضوء إلا على من نام مضطجعا أو متوركا وقال أبو يوسف إن تعمد النوم في السجود فعليه الوضوء وقال الثوري والحسن بن حي لا وضوء إلا على من اضطجع وهو قول حماد بن أبي سليمان والحكم بن عتيبة وإبراهيم النخعي وهو ظاهر قول عمر لأنه خصص المضطجع فوجب أن يكون ما عداه بخلافه وروى أبو خالد الدالاني واسمه يزيد عن قتادة عن أبي العالية عن بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنما الوضوء على من نام مضطجعا وهو عند أهل الحديث منكر لم يروه مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم غير أبي خالد الدالاني عن قتادة بإسناده وقال الليث بن سعد إذا اتضع للنوم جالسا فعليه الوضوء ولا وضوء على القائم والجالس وإذا غلبه النوم توضأ وقال الشافعي على كل نائم الوضوء إلا الجالس وحده فكل من زال عن حد الاستواء ونام فعليه الوضوء وسواء نام قاعدا أو ساجدا أو قائما أو راكعا أو مضطجعا

وهو قول الطبري وداود بن علي وروي عن علي وبن مسعود وبن عمر أنهم قالوا من نام جالسا فلا وضوء عليه وروي عن بن عمر أنه قال وجب الوضوء على كل نائم خفق برأسه خفقات وروي عنه خفقة أو خفقتين والخبر عنه بإسناده في التمهيد وقال الحسن وسعيد بن المسيب إذا خالط النوم قلب أحدكم واستغرق نوما فليتوضأ وروي ذلك أيضا عن بن عباس وأبي هريرة وأنس بن مالك وبه قال إسحاق وأبو عبيد وهو معنى قول مالك وروينا عن أبي عبيدة أنه قال كنت أفتي أن من نام جالسا لا وضوء عليه حتى خرج إلى جنبي يوم الجمعة رجل فنام فخرجت منه ريح فقلت له قم فتوضأ فقال لم أنم فقلت بلى وقد خرجت منك ريح تنقض الوضوء فجعل يحلف أنه ما كان ذلك منه وقال لي بل منك خرجت فتركت ما كنت أعتقد في نوم الجالس وراعيت غلبة النوم ومخالطته للقلب وكان عبد الله بن المبارك يقول إن نام جالسا أو ساجدا في صلاته فلا وضوء عليه وإن نام ساجدا في غير الصلاة فعليه الوضوء وكذلك إن تعمد النوم جالسا وهو في صلاة فعليه الوضوء وروي عن أبي موسى الأشعري ما يدل على أن النوم ليس عنده بحدث على أي حال كان حتى يحدث النائم حدثا غير النوم لأنه كان ينام ويوكل من يحرسه وروي عن عبيدة نحو ذلك وهو يشبه ما نزع إليه أصحاب مالك إلا أنهم يوجبون الوضوء مع الاستثقال من أجل ما يداخله من الشك وروي عن سعيد بن المسيب أنه كان ينام مرارا مضطجعا ينتظر الصلاة ثم يصلي وقال المزني صاحب الشافعي النوم حدث كسائر الأحداث قليله وكثيره يوجب الوضوء وحجته حديث صفوان بن عسال المرادي قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأمرنا ألا ننزع خفافنا من غائط أو بول أو نوم ولا ننزعها إلا من جنابة وقد ذكرناه بإسناده في التمهيد

قال ففي هذا الحديث التسوية بين الغائط والبول والنوم مع القياس على ما أجمعوا عليه في أن غلبة النوم وتمكنه حدث يوجب الوضوء فوجب أن يكون قليلة حدثا كما أن كثيرة عند الجمهور حدث وليس فيما ذكرنا عن الأشعري وعبيدة ما يخرق الإجماع وقد بينا ذلك في التمهيد وكذلك بينا الحجة على المزني هنالك أيضا واحتج من ذهب إلى فعل الأشعري وقول عبيدة بحديث يروى عن النبي عليه السلام من حديث علي وحديث معاوية أنه قال العينان وكاء السه فإذا نامت العينان استطلق الوكاء وقد احتج بهذا الحديث أصحابنا لمالك أيضا وهما حديثان ضعيفان لا حجة فيهما من جهة النقل وقد ذكرتهما في التمهيد وأصح ما في هذا الباب من جهة الإسناد حديث بن عمر قال شغل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العشاء ليلة فأخرها حتى رقدنا في المسجد ثم استيقظنا ثم رقدنا ثم استيقظنا ثم خرج علينا فقال ليس أحد ينتظر الصلاة غيركم ومثله حديث أنس قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رؤوسهم ثم يصلون ولا يتوضؤون وقد ذكرنا هذين الحديثين مع سائر الأحاديث الواردة في النوم عن النبي عليه السلام في التمهيد وكذلك عن الصحابة والتابعين وكلها تدل على أن من نام جالسا لا شيء عليه ومثله حديث مالك عن نافع عن بن عمر أنه كان ينام جالسا ثم يصلي ولا يتوضأ قال أبو عمر في قوله عليه السلام فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده ما يدل على نوم الليل وشبهه

ومعلوم منه في الأغلب الاضطجاع والاستثقال فعلى هذا خرج الحديث والله أعلم وأما قوله في الحديث فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه فإن أكثر أهل العلم ذهبوا إلى أن ذلك ندب لا إيجاب وسنة لا فرض وكان مالك يستحب لكل من كان على غير وضوء سواء قام من نوم أو غيره أن يغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه وروى أشهب عنه في ذلك تأكيدا واستحبابا وروى بن وهب وبن نافع عن مالك في المتوضئ يخرج منه ريح لحدثان وضوئه ويده طاهرة قال يغسل يده قبل أن يدخلها في الإناء أحب إلي قال بن وهب وقد كان قبل ذلك يقول إن كانت يده طاهرة فلا بأس أن يدخلها في الوضوء قبل أن يغسلها ثم قال أحب إلي أن يغسل يده إذا أحدث قبل أن يدخلها في وضوئه وإن كانت طاهرة وذكر بن عبد الحكم عنه قال من استيقظ من نومه أو مس فرجه أو كان جنبا أو امرأة حائضا فأدخل أحدهم يده في وضوئه فليس ذلك يضره كان الماء قليلا أو كثيرا إلا أن يكون في يده نجاسة قال ولا يدخل أحدهم يده في وضوء قبل أن يغسلها قال أبو عمر الفقهاء على هذا كلهم يستحبون ذلك ويأمرون به فإن أدخل أحد يده بعد قيامه من نومه في وضوئه قبل أن يغسلها ويده نظيفة لا نجاسة فيها فلا شيء عليه ولا يضر ذلك وضوءه وقد ذكرنا في التمهيد عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يتوضؤون من المطاهر وفي ذلك ما يدلك على أن إدخال اليد السالمة من الأذى في إناء الوضوء لا يضره ذلك وقد كان الحسن البصري فيما روى عنه أشعث الحمراني يقول إذا استيقظ أحدكم من النوم فغمس يده في الإناء قبل أن يغسلها أهراق ذلك الماء وإلى هذا ذهب أهل الظاهر فلم يجيزوا الوضوء به لأنه عندهم ماء منهي عن استعماله لأن عندهم المنهي عنه لا معنى له إلا هذا كأنه قال فلا يدخل يده فإن فعل لم يتوضأ بذلك الماء

وإلى هذا المعنى ذهب بعض أصحاب داود ومحصل مذهب داود عند أكثر أصحابه أن فاعل ذلك عاص إذا كان بالنهي عالما والماء طاهر والوضوء به جائز ما لم تظهر فيه نجاسة وروى هشام عن الحسن قال من استيقظ من نومه فغمس يده في وضوئه فلا يهرقه وعلى هذا جماعة الفقهاء واختلف أيضا عن الحسن البصري في الفرق بين نوم الليل والنهار في ذلك فروي عنه أنه كان يسوي بين نوم الليل والنهار في غسل اليد وروي عنه أنه كان لا يجعل نوم النهار مثل نوم الليل ويقول لا بأس إذا استيقظ من نوم النهار أن يغمس يده في وضوئه وإلى هذا ذهب أحمد بن حنبل وقد ذكرنا الإسنادين والروايتين عن الحسن في التمهيد وذكر أبو بكر الأثرم قال سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن الرجل يستيقظ من نومه فيغمس يده في الإناء قبل أن يغسلها فقال أما بالنهار فليس به عندي بأس وأما إذا قام من النوم بالليل فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها قيل لأحمد فما يصنع بذلك قال إن صب الماء وأبدله فهو أحسن وأسهل قال أبو عمر إنما خرج ذكر المبيت على الأغلب ونوم النهار في معنى نوم الليل في القياس لأنه نوم كله وفي قولهم بت أراعي النجوم دليل على أن المبيت غير النوم وأنه يكون بنوم وبغير نوم واحتج بعض أصحاب الشافعي لمذهبه في الفرق بين ورود الماء على النجاسة وبين ورودها عليه بحديث أبي هريرة هذا قال ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خاف على النائم المستيقظ من نومه أن تكون في يده نجاسة أمره بطرح الماء من الإناء على يده ليغسلها ولم يأمر بإدخال يده في الإناء ليغسلها فيه بل نهاه عن ذلك فدلنا ذلك مع نهيه عن البول في الماء الذائم وحديث ولوغ الكلب في الإناء وأمره

بالصب على بول الأعرابي على أن النجاسة إذا وردت على الماء أفسدته وإذا ورد الماء عليها طهرها إلا أن تغلب عليه لأنها لو أفسدته مع وروده عليها لم تصح طهارة أبدا في شيء من الأشياء وشرطوا أن يكون ورود الماء على النجاسة صبا مهراقا قال أبو عمر هذا خلاف أصلهم أن الشك لا يوجب شيئا وأن كل شيء على أصل حاله حتى يتبين خلافه وينبغي أن تكون اليد على طهارتها حتى تتبين فيها النجاسة وهذا عين الفقه وعليه الفقهاء لأن غسل اليد ها هنا هو عندهم ندب واستحسان واحتياط لا علة كما زعم من قال إن ذلك كان منه عليه السلام لأنهم كانوا يستنجون بالأحجار فيبقى للأذى هناك آثار فربما جالت اليد فأصابت ذلك الأذى فندبوا إلى غسل اليد قبل إدخالها في الإناء لذلك وقد يجوز أن يكون الأصل في مخرج النهي ما ذكر ثم ثبت الندب في ذلك لمن استنجى بالماء قياسا على المحدث النائم وينتقض على الشافعي أصله في ورود الماء على النجاسة وورودها عليه باعتبار القلتين لأن النجاسة عنده لو ورد الماء عليها فيما دون القلتين أفسدته إلا أن تكون غسلا وصبا مهراقا وسيأتي القول في حكم الماء في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله وأما معنى قول الله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة المائدة فقال زيد بن أسلم وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي إن ذلك القيام من النوم وروي عن عمر وعلي ما يدل على أن الآية عني بها تجديد الوضوء لكل صلاة فيكون على هذا الوضوء لمن قام إلى الصلاة وهو محدث واجبا وعلى غير محدث ندبا وفضلا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة إلا يوما واحدا عام الفتح وكان جماعة من الصحابة يفعلون ذلك وقد ذكرنا الآثار بذلك كله في التمهيد

وروي عن بن عباس وسعد بن أبي وقاص وأبي موسى الأشعري وجابر بن عبد الله وعبيدة السلماني وأبي العالية الرياحي وسعيد بن المسيب والأسود بن يزيد والحسن البصري وإبراهيم النخعي والسري أيضا أن الآية عني بها حال القيام إلى الصلاة على غير الطهر وهذا أمر مجتمع عليه لا خلاف بين الفقهاء فيه والحمد لله وروى سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن النبي عليه السلام كان يتوضأ لكل صلاة فلما كان يوم الفتح صلى خمس صلوات بوضوء واحد فقال له عمر يا رسول الله فعلت شيئا لم تكن تفعله فقال عمدا فعلته يا عمر أي ليعلم الناس ذلك ومن الدليل أن الأمر بالوضوء على من وجب عليه القيام إلى الصلاة في قوله عز وجل إذا قمتم إلى الصلاة الآية ليس بواجب إلا إن كان محدثا على غير وضوء ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يجمع بين الصلاتين في أسفاره ولا يتوضأ إلا للأولى منهما وكذلك فعل بعرفة والمزدلفة في جمعة بين الصلاتين بهما ومن الدليل على ذلك أيضا ما روي في الآثار الصحاح أنه صلى الله عليه وسلم أكل كتفا مستها النار وطعاما مسته النار وقام إلى الصلاة ولم يتوضأ وإنما ذكرنا هذا لأنا قد أوضحنا اختلاف العلماء في الوضوء مما غيرت النار في موضعه من هذا الكتاب وأتينا بالآثار المروية في إيجاب الوضوء على من أكل ما غيرته النار من الطعام وبالله التوفيق

وكان بن عمر يتوضأ لكل صلاة فقيل له في ذلك فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من توضأ على طهر كتبت له عشر حسنات وهذا كله يدلك على معنى الفرض وموضع الفضل وهذا أمر مجمع عليه فسقط القول فيه وفي هذا الحديث من الفقه أيضا الفرق بين ورود النجاسة على الماء وبين ورود الماء عليها لأن النبي عليه السلام نهي القائم إلى وضوئه من نومه أن يغمس يده في الإناء لئلا يكون فيها من النجاسة ما يفسد الماء عليه وأمره بصب الماء على يده وغسلها ببعض ماء الإناء الذي نهاه أن يغمس يده فيه فدل على أن الماء يطهر النجاسة بأن يصب عليها حتى تزول بقليل الماء زالت أو كثيرة على حسب المعهود عند الناس من تطهير الأنجاس ولم تعتبر في ذلك قلة ولا كثرة ولا مقدار كما قال عليه السلام في الماء الذي ترد عليه النجاسة وهذا بين لمن وفق وبالله التوفيق قال مالك الأمر عندنا أن لا يتوضأ من رعاف ولا من دم ولا من قيح يسيل من الجسد ولا يتوضأ إلا من حدث يخرج من ذكر أو من دبر أو نوم أما قوله الأمر عندنا إلى آخر كلامه فإنه لم يرد الأمر المجتمع عليه لأن الخلاف موجود بالمدينة في الرعاف وكلامه هذا ليس على ظاهره عند جميع أصحابه لأنهم لا يختلفون في الملامسة مع اللذة والقبلة مع اللذة أن ذلك يوجب الوضوء وكذلك مس الذكر وسيأتي ذكر ذلك في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله وأما الدم السائل والفصد والحجامة فجمهور أهل المدينة على أن لا وضوء في شيء من ذلك وبه قال الشافعي وهو الحق لأن الوضوء المجتمع عليه لا يجب أن ينتقض إلا بسنة أو إجماع وإنما أوجب العراقيون الوضوء في ذلك قياسا على المستحاضة لقول النبي عليه السلام إنما ذلك عرق وليس بالحيضة ثم أمرها بالوضوء لكل صلاة

والكلام عليهم يأتي عند ذكرنا حديث المستحاضة إن شاء الله وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي الفصد والحجامة والرعاف وكل نجس يخرج من الجسد من أي موضع يوجب الوضوء وقال الأوزاعي إذا كان دما عبيطا فعليه الوضوء وإن كان مثل دم اللحم فلا وضوء فيه وأما قوله ولا يتوضأ إلا من حدث يخرج من قبل أو دبر أو نوم فإنه أراد ما كان من الأحداث معتادا وهو البول والرجيع ففيهما وردت الكناية لقوله تعالى أو جاء أحد منكم من الغائط النساء والمائدة ولا وضوء عنده في الدم الخارج من الدبر ولا في الدود إلا أن يخرج معهما شيء من الأذى لأن ذلك ليس من معنى ما قصد بذكر المجيء من الغائط وذكر بن عبد الحكم عن مالك قال من خرج من دبره دود أو دم فلا وضوء عليه وقال سحنون من خرج من دبر دود فعليه الوضوء لأنها لا تسلم من بلة وقال الشافعي كل ما خرج من السبيلين الذكر والدبر من دود أو حصاة أو دم أو غير ذلك ففيه الوضوء لإجماعهم على أن المذي والودي فيهما الوضوء وليسا من المعتادات التي يقصد الغائط لهما وكذلك ما يخرجه الدواء ليس معتادا وفيه الوضوء بإجماع وقد أجمعوا على أن الريح الخارجة من الدبر حدث يوجب الوضوء واجتمعوا على أن الجشاء ليس فيه وضوء بإجماع وقد أجمعوا على أن الريح الخارجة من الدبر حدث فدل ذلك على مراعاة المخرجين فقط وبقولي الشافعي في ذلك كله يقول بن عبد الحكم قال الشافعي والدود والدم إذا خرجا من غير المخرج فلا وضوء في شيء منهما ووافق أبو حنيفة وأصحابه في الدود وخالفوه في الدم على ما قدمنا عنهم وعن الأوزاعي في الدود روايتان إحداهما كقول الشافعي والأخرى كقول مالك

والقيح والدم عند مالك سواء وقد رخص في القيح بعض العلماء وأما النوم فقد مضى حكمه فيما تقدم ويأتي ذكر القلس والرعاف في موضعه إن شاء الله باب الطهور للوضوء مالك عن صفوان بن سليم عن سعيد بن سلمة من آل بني الأزرق عن المغيرة بن أبي بردة وهو من بني عبد الدار أنه سمع أبا هريرة يقول جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ من ماء البحر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الطهور ماؤه الحل ميتته اختلف العلماء في هذا الإسناد فقال محمد بن عيسى الترمذي سألت البخاري عنه فقال حديث صحيح فقلت له إن هشيما يقول فيه المغيرة بن أبي برزة فقال وهم فيه إنما هو المغيرة بن بردة وهشيم إنما وهم في الإسناد وهو في المقطعات أحفظ وقال غير البخاري سعيد بن سلمة رجل مجهول لم يرو عنه غير صفوان بن سليم وحده قال ولم يرو عن المغيرة بن أبي بردة غير سعيد بن سلمة قال أبو عمر قد روى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري رواه عنه سفيان بن عيينة وغيره ذكر بن أبي عمرو الحميدي والمخزومي عن بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن رجل من أهل المغرب يقال له المغيرة بن أبي عبد الله بن أبي بردة أن ناسا من بني مدلج أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله إنا نركب البحر وساق الحديث بمعنى حديث مالك قد ذكرناه في التمهيد وهو مرسل لا يصح فيه الاتصال

ويحيى بن سعيد أحفظ من صفوان بن سليم وأثبت من سعيد بن سلمة وليس إسناد هذا الحديث مما تقوم به حجة عند أهل العلم بالنقل لأن فيه رجلين غير معروفين بحمل العلم في رواية صفوان بن سليم وفي رواية يحيى بن سعيد نحو ذلك في المغيرة بن أبي بردة وقد روي هذا الحديث أيضا عن النبي عليه السلام من حديث الفراسي رجل من بني فراس من بني مدلج بإسناد ليس بالقائم أيضا في حديث الليث بن سعد وقد ذكرناه في التمهيد والفراسي مذكور في الصحابة غير معروف قال أبو عمر المغيرة بن أبي بردة كان مع موسى بن نصير في مغازيه بالمغرب وكان موسى يؤمره على الجيوش هنالك وفتح في المغرب فتوحات وهذا إسناد وإن لم يخرجه أصحاب الصحاح فإن فقهاء الأمصار وجماعة من أهل الحديث متفقون على أن ماء البحر طهور بل هو أصل عندهم في طهارة المياه الغالبة على النجاسات المستهلكة لها وهذا يدلك على أنه حديث صحيح المعنى يتلقى بالقبول والعمل الذي هو أقوى من الإسناد المنفرد واختلف رواة الموطأ فبعضهم يقول من آل بني الأزرق كما قال يحيى وبعضهم يقول من آل الأزرق وكذلك قال القعنبي وبعضهم يقول من آل بن الأزرق وكذلك قال بن القاسم وبن بكير وهذا كله غير متضاد وقد جاء عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص كراهية الوضوء بماء البحر وليس في أحد حجة مع خلاف السنة وقد روى قتادة عن موسى بن سلمة الهذلي قال سألت بن عباس عن الوضوء بماء البحر فقال هما البحران يريد قول الله تعالى هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج الفرقان لا تبال بأيهما توضأت وهذا إجماع من علماء الأمصار الذين تدور عليهم وعلى أتباعهم الفتوى وكذلك عندهم كل ماء مستبحر كثير غير متغير بما يقع فيه من الأنجاس وهذا موضع القول في الماء واختلاف ما فيه للعلماء فأما الكوفيون فالنجاسة تفسد عندهم قليل الماء وكثيره إذا حلت فيه إلا الماء المستبحر الذي لا يقدر آدمي على تحريك جميعه قياسا على البحر الذي قال فيه رسول الله هو الطهور ماؤه الحل ميتته

وأما مالك فاختلف عنه في ذلك فروى المصريون عنه خلاف رواية أهل المدينة فأما رواية أصحابه المصريين عنه فإن بن القاسم روى عن مالك في الجنب يغتسل في حوض من الحياض التي تسقى فيها الدواب ولم يكن غسل ما به من الأذى إن قد أفسد الماء وكذلك جوابه في إناء الوضوء يقع فيه مثل الإبر من البول إنه يفسده وروي عن مالك في الجنب يغتسل في الماء الدائم الكثير مثل الحياض التي تكون بين مكة والمدينة ولم يكن غسل ما به من الأذى إن ذلك لا يفسد الماء وهذا مذهب بن القاسم وأشهب وبن عبد الحكم كلهم يقول إن الماء القليل يفسده قليل النجاسة وإن الماء الكثير لا يفسده إلا ما غلب عليه من النجاسة أو غيرها فغيره عن حاله في لونه وطعمه وريحه ولم يحدوا حدا بين القليل والكثير ونحو هذا قال الشافعي إلا أنه حد في ذلك حدا لحديث القلتين فقال ما كان دون القلتين فحلت فيه نجاسة أفسدته وإن لم تظهر فيه وإذا بلغ الماء قلتين لم يفسده ما يحل فيه من النجاسة إلا أن تظهر فيه فتغير منه لونا أو طعما أو ريحا وحجته فيما ذهب إليه من ذلك حديث عبد الله بن عمر عن النبي عليه السلام أنه قال إذا كان الماء قلتين لم تلحقه نجاسة ولم يحمل خبثا وبعض رواته يقولون إذا كان الماء قلتين أو ثلاثا وقد ذكرنا أسانيد هذا الحديث والعلة فيه في التمهيد واحتج الشافعي بأن الماء القليل تلحقه النجاسة إذا حلت فيه وإن لم يظهر فيه شيء منها بحديث ولوغ الكلب في الإناء وبحديث إذا قام أحدكم من نومه وبنحو ذلك من الأحاديث والقلتان عنده وعند أصحابه نحو خمس مئة رطل على ما قدرهما بعض رواه هذا الحديث

واعتمد فيه على قول بن جريج وهو أحد أئمة الحديث والفقه والتفسير قال فيه قلتان من قلال هجر وقد تكلم إسماعيل في هذا الحديث ورده بكثير من القول في كتاب أحكام القرآن وقد رد الشافعيون عليه قوله في ذلك بضروب من الرد وممن نقض ذلك منهم أبو يحيى في كتاب أحكام القرآن ومذهب إسماعيل في الماء هو مذهب أهل المدينة من أصحاب مالك وغيرهم وهو خلاف مذهب البصريين من أصحاب مالك في الماء ولو ذهب إسماعيل في ذلك مذهب المصريين المالكيين ما احتاج إلى رد حديث القلتين ولا إلى الإكثار في ذلك وروى أهل المدينة عن مالك ذكر ذلك أبو مصعب وأحمد بن المعذل وغيرهما أن الماء لا تفسده النجاسة التي تحل فيه قليلا كان أو كثيرا في بئر أو مستنقع أو إناء إلا أن تظهر فيه وتغيره وإن لم يكن ذلك فهو طاهر على أصله وهو قول بن وهب من أصحاب مالك المصريين وإلى هذا مال إسماعيل وأبو الفرج والأبهري وسائر المالكيين البغداديين وبه قالوا وله احتجوا وإليه ذهبوا وذكر بن وهب عن بن لهيعة عن خالد بن أبي عمران أنه سأل القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله عن الماء الراكد الذي لا يجري تموت فيه الدابة أيشرب منه أو تغسل منه الثياب فقالا انظر بعينك فإن رأيته لا يغيره ما وقع فيه فنرجوا ألا يكون به بأس قال وأخبرني يونس عن بن شهاب كل ماء فيه فضل عما يصيبه من الأذى حتى لا يغير ذلك لونه ولا طعمه ولا ريحه فهو طاهر يتوضأ به قال وأخبرني عبد الجبار بن عمر عن ربيعة قال إذا وقعت الميتة في البئر فلم تغير طعمها ولا ريحها فلا بأس أن يتوضأ منها وإن رئي فيها الميتة قال وإن تغيرت نزع منها قدر ما يذهب الرائحة عنها وإلى هذا ذهب بن وهب وروى هذا عن بن عباس وبن مسعود وبن المسيب على اختلاف عنهم وسعيد بن جبير وهو قول الأوزاعي والليث بن سعد والحسن بن صالح وإليه ذهب داود بن علي ومن اتبعه وهو مذهب أهل البصرة وهو الصحيح عندنا في النظر وثابت الأثر وقد ذكرنا الآثار بذلك في التمهيد

حديث أبي هريرة وأنس في صب رسول الله الذنوب على بول الإعرابي إذ بال في المسجد ومنها حديث بن عباس عن النبي عليه السلام أنه قال الماء لا ينجسه شيء ومنها حديث أبي سعيد الخدري عن النبي عليه السلام أنه سئل عن بئر بضاعة فقيل له إنه يطرح فيها لحوم الكلاب والعذرة وأوساخ الناس فقال الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب عليه فغيره وهذا إجماع لا خلاف فيه إذا تغير بما غلب عليه من نجس أو طاهر أنه غير مطهر وقال سهل بن سعد الساعدي سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من بئر بضاعة بيدي وقد ذكرنا آثار هذا الباب المسندة وغيرها من أقاويل الصحابة والتابعين في باب إسحاق بن أبي طلحة من التمهيد وذكرنا هناك الحجة لأهل المدينة على الشافعي والكوفيين بما فيه كفاية والحمد لله وقد حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو علي عبد الصمد بن أبي سكينة الحلبي بحلب قال حدثنا عبد العزيز بن أبى حازم عن أبيه عن سهل بن سعد الساعدي قال قالوا يا رسول الله إنك تتوضأ من بئر بضاعة وفيها ما ينجي الناس والمحايض والجنب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الماء لا ينجسه شيء وهذا اللفظ غريب في حديث سعد ومحفوظ من حديث أبي سعيد الخدري لم يأت به في حديث سهل غير بن أبي حازم والله أعلم

وقال قاسم هذا من أحسن شيء روي في بئر بضاعة وأما قوله عليه السلام الحل ميتته فإن العلماء اختلفوا معنى ذلك على ما جرى به القول عنهم وثبت مفسرا عنهم من مذاهبهم في كتاب الصيد إن شاء الله إذ ذلك أولى به مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن حميدة بنت أبي عبيدة بن فروة عن خالتها كبشة بنت كعب بن مالك وكانت تحت بن أبي قتادة الأنصاري أنها أخبرتها أن أبا قتادة دخل عليها فسكبت له وضوءا فجاءت هرة لتشرب منه فأصغى لها الإناء حتى شربت قالت كبشة فرآني انظر إليه فقال أتعجبين يا ابنة أخي قالت فقلت نعم فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات قال مالك لا بأس به إلا أن يرى على فمها نجاسة هكذا قال يحيى حميدة بنت أبي عبيدة بن فروة ولم يتابعه أحد على قوله ذلك وهو غلط منه وأما سائر رواة الموطأ فيقولون حميدة بنت عبيدة بن رفاعة إلا أن زيد بن الحباب قال فيه عن مالك حميدة بنت عبيدة بن رافع والصواب رفاعة بن رافع الأنصاري وقد ذكرناه في كتابنا في الصحابة بما يجب من ذكره هناك وانفرد يحيى أيضا بقوله عن خالتها كبشة وسائر رواة الموطأ يقولون عن كبشة ولا يذكرون خالتها واختلف في رفع الحاء ونصبها من حميدة فبعضهم يقول حميدة وبعضهم يقول حميدة وهو الأكثر

وتكنى حميدة أم يحيى وهي امرأة إسحاق بن عبد الله بن طلحة كذلك ذكر يحيى القطان في هذا الحديث عن مالك وقد ذكرناه بإسناده ومتنه في التمهيد وكذلك قال فيه بن المبارك عن مالك إلا أنه قال كبشة امرأة أبي قتادة وهذا وهم وإنما هي امرأة بن أبي قتادة في هذا الحديث إباحة اتخاذ الهر لانتفاع به ومعلوم أن ما جاز الانتفاع به جاز شراؤه وبيعه إلا ما خص بدليل وهو الكلب الذي نهي عن ثمنه وفيه أن الهر ليس ينجس ما شرب منه وأن سؤره طاهر وهذا قول مالك والشافعي وأصحابهما والأوزاعي وأبي يوسف القاضي والحسن بن صالح بن حي فإن ظهرت في فمه نجاسة في الماء الذي شرب منه فالجواب فيه ما مضى في الحديث الذي قبل هذا عن العلماء على أصولهم في الماء وفيه دليل على أن ما أبيح لنا اتخاذه فسؤره طاهر لأنه من الطوافين علينا ومعنى الطوافين علينا الذين يداخلوننا ويخالطوننا ومنه قوله تعالى في الأطفال طوافون عليكم بعضكم على بعض النور ولذلك قال بن عباس في الهر إنها من متاع البيت وقد ذكرنا الخبر عنه بذلك في التمهيد وطهارة الهر دالة على أنه ليس في حي نجاسة إلا ما قام الدليل على نجاسة عينه بالتحريم وهو الخنزير وحده وأن النجاسة إنما هي في الميتات والأبوال والعذرات وإذا لم يكن في حي نجاسة بدليل ما وصفنا دل ذلك على أن الكلب ليس بنجس وأنه لا نجاسة في عينه لأنه من الطوافين علينا وما أبيح لنا اتخاذه للصيد والزرع والماشية فيقاسه الهر وإذا صح هذا صح أن الأمر بغسل الإناء من ولوغه سبعا عبادة لا لنجاسة وسيأتي القول في هذا المعنى عند حديث الكلب إن شاء الله وقد روي عن عائشة عن النبي عليه السلام أنه كان تمر به الهرة فيصغي لها الإناء فتشرب منه ثم يتوضأ بفضلها وهو حديث لا بأس به وكذلك حديث أبي قتادة هذا لا بأس بإسناده أيضا

وممن روينا عنه أن الهر ليس بنجس ولا بأس بفضل سؤره للوضوء والشرب العباس بن عبد المطلب وعلي وبن عباس وبن عمر وعائشة وأبو قتادة والحسن والحسين وعلقمة وإبراهيم وعكرمة وعمار بن ياسر واختلف في ذلك عن أبي هريرة والحسن البصري فروى عطاء عن أبي هريرة أن الهر كالكلب يغسل منه الإناء سبعا وروى أبو صالح ذكوان عن أبي هريرة قال السنور من أهل البيت وروى أشعث عن الحسن أنه كان لا يرى بأسا بسؤر السنور وروى يونس عن الحسن أنه قال يغسل الإناء من ولوغه وهذا يحتمل أن يكون رأى في فمه نجاسة ليصح مخرج الروايتين عنه ولا نعلم أحدا من أصحاب رسول الله روى عنه في الهر أنه لا يتوضأ بسؤره إلا أبا هريرة على اختلاف عنه وأما التابعون فروينا عن عطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين أنهم أمروا بإراقة ما ولغ فيه الهر وغسل الإناء منه وسائر التابعين بالحجاز والعراق يقولون في الهر إنه طاهر لا بأس بالوضوء من سؤره وروى الوليد بن مسلم قال أخبرني سعيد عن قتادة عن بن المسيب والحسن أنهما كرها الوضوء بفضل الهر قال الوليد فذكرت ذلك لأبي عمرو الأوزاعي ومالك بن أنس فقالا توضأ فلا بأس به وإن وجدت غيره وقال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي الذي صار إليه جل أهل الفتوى من أهل الأمصار من أهل الأثر والرأي جميعا إنه لا بأس بسؤر السنور اتباعا للحديث الذي رويناه يعني عن أبي قتادة عن النبي عليه السلام قال وممن ذهب إلى ذلك مالك في أهل المدينة والليث في أهل مصر والأوزاعي في أهل الشام وسفيان الثوري فيمن وافق من أهل العراق وكذلك قول الشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وأبي ثور وإسحاق وأبي عبيدة قال وكان النعمان يكره سؤره وقال أن توضأ به أجزأه وخالفه أصحابه وقالوا لا بأس به قال أبو عمر ما حكاه المروزي عن أصحاب أبي حنيفة فليس كما حكاه عندنا وإنما خالفه من أصحابه أبو يوسف وحده وأما محمد بن الحسن وزفر بن الهذيل

والحسن بن زياد وغيرهم فإنهم يقولون بقول أبي حنيفة وأكثرهم يروون أنه لا يجزئ الوضوء بفضل الهر ويحتجون لذلك ويروى عن أبي هريرة وبن عمر أنهما كرها الوضوء بسؤر الهر وهو قول بن أبي ليلى وقد اختلف أيضا عن الثوري في سؤر الهر وذكر في جامعه أنه يكره سؤر ما لا يؤكل لحمه وهو ممن يكره أكل الهر وذكره المروزي قال حدثنا عمرو بن زرارة قال حدثنا أبو النضر قال حدثني الأشجعي عن سفيان قال لا بأس بفضل السنور ولا أعلم لمن كره سؤره حجة من أنه لم يبلغه حديث أبي قتادة أو لم يصح عنده وبلغه حديث أبي هريرة في الكلب فقاس الهر على الكلب ومن حجتهم أيضا ما رواه قرة بن خالد عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام أنه قال طهور الإناء إذا ولغ فيه الهر أن يغسل مرة أو مرتين شك قرة وهذا الحديث لم يرفعه إلا قرة وحده وقرة ثقة ثبت إلا أنه خالفه فيه غيره فرووه عن بن سيرين عن أبى هريرة قوله وفي هذا الحديث ما يدل أن أبا قتادة مذهبه أن الماء اليسير تفسده النجاسة وإن لم تظهر فيه لأنه احتج على المرأة التي تعجبت من إصغائه الإناء للهر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنها ليست بنجس فلو كانت عند تنجس ما أصغى لها الإناء لأنها كانت تفسده ومعلوم أن شرب الهر لا يظهر منه في الإناء ما يغيره وقد مضى القول في الماء وما في حكمه عند حلول النجاسة فيه كثيرا أو قليلا عند العلماء في الحديث قبل هذا والحمد لله ومعنى إصغاء أبي قتادة للهرة الإناء لتشرب منه امتثال ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ذي كبد رطبة أجر

ولما كانت الهرة وهي سبع يفترس ويأكل الميتة أنه ليس بنجس دل ذلك أن كل حي لا نجاسة فيه ما دام حيا حاشى الخنزير المحرم العين فإنه قد اختلف فيه فقيل إنه إذا ماس الماء أفسده وهو حي وقيل إنه لا يفسده على حديث في عمر السباع وظاهر قوله عليه السلام الماء لا ينجسه شيء يعني إلا ما غلب عليه وظهر فيه من النجاسة بدليل الإجماع على ذلك وإلى هذا يذهب أكثر أصحابنا وبه نقول وكذلك الطير كله ما أكل منه الجيف وما لم يأكل لا بأس بسؤره إلا أن تكون في فمه نجاسة تغير الماء اعتبارا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهر وقد روي عن بن عمر أن الكلاب كانت تقبل وتدبر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يغسل شيء من أثرها وهذا يدل على أنه ليس في حي نجاسة وإنما النجاسة في الميت وفيما ثبت معرفته عند الناس من النجاسات المجتمع عليها والتي قامت الدلائل بنجاستها كالبول والغائط وسائر ما يخرج من المخرجين والخمر وقد يكون من الميتة ما ليس بنجس وهو كل شيء ليس له دم سائل مثل بنات وردان والزنبور والعقرب والجعلان والصرار والخنفساء ومض أشبه ذلك والأصل فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم يطرحه ومنهم من يرويه فليمقله والمعنى سواء وقد ذكرنا الخبر بذلك في التمهيد ومعلوم أن الذباب مع ضعف خلقه إذا غمس في الماء والطعام مات فيه

قال إبراهيم النخعي ما ليس له نفس سائله فليس بنجس يعني بالنفس الدم وقد رخص قوم في أكل دود التين وما في الطعام من السوس وفراخ النحل واستجازوا ذلك لعدم النجاسة فيه وكره أكل ذلك جماعة من أهل العلم وقالوا لا يؤكل شيء من ذلك لأنه ليس له حلق ولا لبة فيذكى ولا من صيد الماء فيحل بغير التذكية واحتجوا بحديث النبي عليه السلام في حديث الذباب فليغمسه ثم ليطرحه وقالوا لو كان مباحا لم يأمر بطرحه وأما القملة والبرغوث فأكثر أصحابنا يقولون لا يؤكل طعام ماتا فيه أو أحدهما لأنهما نجسان وهما من الحيوان الذي عيشه من دم الحيوان وكان سليمان بن سالم القاضي الكندي من أصحاب سحنون يقول إن ماتت القملة في الماء طرح ولم يشرب وإن وقعت في الدقيق ولم تخرج في الغربال لم يؤكل الخبز وإن ماتت في شيء جامد طرحت كالفأرة قال غيره من أصحابنا أما البراغيث فهي كالذباب وكلاهما متناول للدم ويعيش منه وأما القملة فهي من الإنسان كدمه والدم ما لم يكن مسفوحا لا يقطع بتحريمه وإن كره قال أبو عمر الذي أقول إن ما لا دم له ولا دم فيه وإن كان يعيش من الدم فالأصل فيه حديث الذباب وأما ما ظهر فيه الدم فهو نجس يعتبر فيه ما أوضحنا من أصول العلماء في الماء وفي قليل الدم وكثيره وأما الماء فقليل النجاسة يفسده وليس كالماء الذي جعله الله طهورا مطهرا طاهرا وبالله التوفيق مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن عمر بن الخطاب خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضا فقال عمرو بن العاص لصاحب الحوض يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع

فقال عمر بن الخطاب يا صاحب الحوض لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا وهذا يدل على أن الماء إذا لم تظهر فيه نجاسة فهو طاهر ويدل على أن الحيوان لا نجاسة فيه ويدل على أن السؤال فيما لا يحتاج إليه يجب إنكاره والاحتجاج عليه وقال غيره إنما رد عمر على عمرو قوله أنه في سعة من ترك السؤال وقالوا إنما نهى عمر صاحب الحوض عن الخبر لأنه لو أخبره بورودها وولوغها ضاق عليه وذكروا ما رواه بن علية وغيره عن بن عون قال قلت للقاسم بن محمد أرأيت الغدير يلغ فيه الكلب ويشرب منه الحمار قال ينتظر أحدنا إذا انتهى إلى الغدير حتى يسأل أي كلب ولغ فيه وأي حمار شرب منه أي ليس علينا أن نسأل عن ذلك قال أبو عمر المعروف من عمر في احتياطه للدين أنه لو كان ولوغ السباع والحمر والكلاب يفسد ماء الغدير لسأل عنه ولكنه رأى ذلك لا يضر والله أعلم مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول إن كان الرجال والنساء في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتوضؤون جميعا في هذا الحديث دليل واضح على إبطال قول من قال لا يتوضأ بفضل المرأة لأنه معلوم إذا اغترفا جميعا من إناء واحد كما جاء من غير رواية مالك وقد رواه هشام بن عمار عن مالك كذلك فكل واحد منهما متوضئ بفضل صاحبه وقد صح عن عائشة أنها قالت كنت أتوضأ أنا ورسول الله من إناء واحد من الجنابة

والأصل في الماء الطهارة لأن الله قد جعله طهورا فهو كذلك حتى يجمع المسلمون أنه نجس بما دخله والمؤمن لا نجاسة فيه والنجاسة فيه أعراض داخلة والمرأة في ذلك كالرجل إذا سلما مما يعرض من النجاسات وللعلماء في هذه المسألة خمسة أقوال أحدها الكراهية لأن يتطهر الرجل بفضل المرأة والثاني أن تتطهر المرأة بفضل وضوء الرجل والثالث أنهما إذا شرعا جميعا في التطهر فلا بأس به وإذا خلت المرأة بالطهور فلا خير في أن يتطهر بفضل طهورها والرابع أنه لا بأس أن يتطهر كل واحد منهما بفضل طهور صاحبه ما لم يكن الرجل جنبا والمرأة حائضا أو جنبا وهو قول بن عمر والذي عليه جماعة فقهاء الأمصار أنه لا بأس بفضل وضوء المرأة وسؤرها حائضا كانت أو جنبا خلت به أو شرعا معا إلا أحمد بن حنبل فإنه قال إذا خلت المرأة بالطهور فلا يتوضأ منه الرجل إنما الذي رخص فيه أن يتوضأ جميعا وذكر حديث الحكم بن عمرو الغفاري حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا أحمد بن زهير حدثنا أبي حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثنا شعبة قال حدثنا عاصم الأحول عن أبي حاجب عن الحكم الغفاري أن النبي عليه السلام نهى أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة لا يدري فضل سؤرها أو فضل طهورها قال أبو عمر الآثار في الكراهية في هذا الباب مضطربة لا تقوم بها حجة والآثار الصحاح هي الواردة بالإباحة مثل حديث بن عمر هذا ومثل حديث جابر وحديث عائشة وغيرهم كلهم يقول إن الرجال كانوا يتطهرون مع النساء جميعا من إناء واحد وأن عائشة كانت تفعل ذلك وميمونه وغيرهما من أزواجه صلى الله عليه وسلم وعلى ذلك جماعة أئمة الفتوى وقد روي عن بن عباس أنه سئل عن فضل وضوء المرأة فقال هن ألطف بنانا وأطيب ريحا وهذا منه جواب بجواز فضلها على كل حال

وهذا قول زيد بن ثابت وجمهور الصحابة والتابعين إلا أن بن عمر كره فضل الجنب والحائض وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله باب ما لا يجب منه الوضوء مالك عن محمد بن عمارة عن محمد بن إبراهيم عن أم ولد لإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أنها سألت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إني امرأة أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر قالت أم سلمة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يطهره ما بعده القول في طول الذيل للمرأة وأن ذلك من سنتها يأتي عند قوله عليه السلام ترخيه شبرا ولا تزيد على الذراع في كتاب الجامع في حديث مالك عن أبي بكر بن نافع إن شاء الله اختلف الفقهاء في طهارة الذيل للمرأة وأن ذلك سنتها على المعنى المذكور في هذا الحديث فقال مالك معناه في القشب اليابس والقذر الجاف الذي لا يتعلق منه بالثوب شيء فإذا كان هكذا كان ما بعده من المواضع الطاهرة تطهيرا للثوب وهذا عنده ليس تطهيرا للنجاسة لأن النجاسة عنده لا يظهرها إلا الماء وإنما هو تنظيف وهو قول الشافعي وزفر وأحمد بن حنبل كل هؤلاء لا يطهر النجاسة عندهم إلا الغسل بالماء وقال الأثرم سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن حديث أم سلمة يطهره ما بعده فقال ليس هذا عندي على أنه أصابه بول فمر بعده على الأرض فطهره ولكنه يمر بالمكان يتقذره فيمر بمكان أطيب منه فيطهره وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد كل ما أزال عين النجاسة فقد طهرها والماء وغيره في ذلك سواء

قالوا ولو زالت بالشمس أو بغيرها حتى لا تدرك معها ولا يرى ولا يعلم موضعها فذلك تطهير لها وهو قول داود وقد كان يلزم داود أن يقوده أصله فيقول إن النجاسة المجتمع عليها لا تزول إلا بإجماع على زوالها ولا إجماع إلا مع القائلين بأنها لا يزيلها إلا الماء الذي خصه الله بأن جعله طهورا وقد أمر رسول الله بغسل النجاسات بالماء لا بغير وبذلك أمر أسماء فقال لها في إزالة دم الحيض من ثوبها حتيه واقرصيه بالماء وإذا ورد التوقيف والنص على الماء لم يجز خلافه وللكوفيين آثار يحتجون بها منها حديث موسى بن عبد الله بن يزيد عن امرأة من بني عبد الأشهل قالت قلت يا رسول الله إن لنا طريقا إلى المسجد منتنة فكيف نفعل إذا مطرنا أو تطهرنا قال أليس بعدها طريق أطيب منها قلت بلى فقال فهذه بهذه وقد ذكرناه من طرق في التمهيد وهو محتمل للتأويل أيضا ومن حجتهم أيضا قوله عليه السلام إذا وطى ء أحدكم بخفيه أو نعليه في الأذى فالتراب لها طهور وهو حديث مضطرب الإسناد لا يثبت اختلاف فيه على الأوزاعي وعلى سعيد بن أبي سعيد اختلافا لا يسقط به الاحتجاج واحتجوا أيضا بقول عبد الله بن مسعود كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نتوضأ من موطئ وهذا أيضا يحتمل التأويل واحتجوا بالإجماع على أن الخمر إذا تخللت من ذاتها طهرت وطابت ومعلوم أن طرقها لم يغسل بماء وهذا أيضا يحتمل التأويل

وعلى الكوفيين للحجازين حجاج يطول ذكره واعتراضات بعضهم في ذلك على بعض لا سبيل إلى إيرادها في مثل هذا الكتاب مالك أنه رأى ربيعة بن عبد الرحمن يقلس مرارا وهو في المسجد فلا ينصرف ولا يتوضأ حتى يصلي قال يحيى وسئل مالك عن رجل قلس طعاما هل عليه وضوء فقال ليس عليه وضوء وليتمضمض من ذلك وليغسل فاه قال يحيى وسئل مالك هل في القيء وضوء قال لا ولكن ليتمضمض من ذلك وليغسل فاه وليس عليه وضوء وقد تقدم من قول مالك أنه قال لا وضوء إلا مما يخرج من ذكر أو دبر أو نوم يعني ثقيلا وقد تقدم القول في هذا المعنى وما فيه لمالك وسائر العلماء إلا القيء والقلس فنذكره هنا بما فيه من التنازع أما مالك والشافعي وأصحابهما فلا وضوء في القيء والقلس عند واحد منهم وقال أبو حنيفة ومحمد في القيء والقلس كله الوضوء إذا ملأ الفم إلا البلغم وقال أبو يوسف وفي البلغم أيضا إذا ملأ الفم وقال الثوري والحسن بن حي وزفر في قليل القلس والقيء وكثيره الوضوء إذا ظهر على اللسان وقال الأوزاعي لا وضوء فيما يخرج من الجوف إلى الفم من الماء إلا الطعام فإن في قليله الوضوء وهو قول بن شهاب في القيء الوضوء وحجة من أوجب الوضوء في القيء حديث ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ قال وأنا صببت له وضوءه وهذا حديث لا يثبت عند أهل العلم بالحديث ولا في معناه ما يوجب حكما لأنه يحتمل أن يكون وضوءه ها هنا غسل فمه ومضمضته وهو أصل لفظ الوضوء في اللغة وهو مأخوذ من الوضاءة والنظر يوجب أن الوضوء المجتمع عليه لا ينتقض إلا بسنة ثابتة لا مدفع فيها أو إجماع ممن تجب الحجة بهم

ولم يأمر الله تعالى بإيجاب الوضوء من القيء ولا ثبت به سنة عن رسوله ولا اتفق الجميع عليه مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر حنط ابنا لسعيد بن زيد وحمله ثم دخل المسجد فصلى ولم يتوضأ وإنما أدخل مالك هذا الحديث إنكارا لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال من غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ وهو حديث يرويه بن أبي ذئب عن صالح مولى التوءمة عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام وقد جاء من غير هذا الوجه أيضا وإعلاما أن العمل عندهم بخلافه ولم يختلف قوله أنه لا وضوء على من حمل ميتا واختلف قوله في الغسل من غسل الميت وسيأتي ذكر ذلك في الجنائز إن شاء الله ومعنى الحديث المذكور عن أبي هريرة والله أعلم أن من حمل ميتا فليكن على وضوء لئلا تفوته الصلاة عليه وقد حمله وشيعه لا أن حمله حدث يوجب الوضوء فهذا تأويله والله أعلم باب ترك الوضوء مما مست النار مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ أشبع مالك هذا الباب في موطئه وقواه لقوة الخلاف بين السلف بالمدينة وغيرها فيه فذكر حديثين مسندين حديث بن عباس وحديث سويد بن النعمان أن النبي عليه السلام أكل السويق ولم يزد على أن تمضمض وصلى وذكر عن أبي بكر وعمر وعلي وعثمان وبن عباس وعامر بن ربيعة

وأبي بن كعب وأبي طلحة الأنصاريين أنهم كانوا لا يرون على من أكل شيئا مسته النار وضوءا وأنهم كانوا يأكلون ذلك ولا يحدثون قبل الصلاة وبعد أكلهم ما مست النار وضوءا ودل ذلك من فعله على عمله باختلاف الآثار المسندة في هذا الباب فأعلم الناظر في موطئه أن عمل الخلفاء الراشدين بترك الوضوء مما مست النار دليل على أنه منسوخ وأن الآثار الواردة بذلك ناسخة للآثار الموجبة له وقد جاء هذا المعنى عن مالك أيضا وروى محمد بن الحسن أنه سمع مالكا يقول إذا جاء عن النبي عليه السلام حديثان مختلفان وبلغنا أن أبا بكر وعمر عملا بأحد الحديثين وتركا الآخر كان في ذلك دلالة على أن الحق فيما عملا به وقد ذكرت في التمهيد حديث الأوزاعي قال كان مكحول يتوضأ مما مست النار حتى لقي عطاء بن أبي رباح فأخبره عن جابر أن أبا بكر الصديق أكل ذراعا أو كتفا ثم صلى ولم يتوضأ فترك مكحول الوضوء فقيل له أتركت الوضوء فقال لأن يقع أبو بكر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرنا حديث حماد بن زيد قال سمعت أيوب يقول لعثمان البتي إذا سمعت أبدا خلافا عن النبي عليه السلام وبلغت فانظر ما كان عليه أبو بكر وعمر فشد به يديك قال حماد بن زيد سمعت خالدا الحذاء يقول كانوا يرون أن الناسخ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان عليه أبو بكر وعمر وذكرنا حديث الليث عن يحيى بن سعيد قال كان أبو بكر وعمر أتبع الناس لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا عبد الرحمن بن يحيى قال حدثنا أحمد بن سعيد قال حدثنا محمد بن زبان قال حدثنا زكريا بن يحيى كاتب العمري قال حدثني المفضل بن فضالة عن عياش بن عباس القتباني أنه كتب إلى يحيى بن سعيد الأنصاري يسأله هل يتوضأ مما مست النار فكتب إليه هذا مما يختلف فيه وقد بلغنا عن أبي بكر وعمر أنهما أكلا مما مسته النار ثم صليا ولم يتوضآ وقد حدثنا خلف بن القاسم قال حدثنا بن أبي العقب بدمشق قال حدثنا أبو زرعة قال حدثنا علي بن عياش قال حدثنا بن أحمد عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار

وأما الآثار الموجبة للوضوء على من أكل شيئا مسته النار فكثيرة منها حديث بن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سفيان بن المغيرة بن الأخنس أنه دخل على أم حبيبة فسقته سويقا ثم قام يصلي فقالت توضأ يا بن أخي فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول توضؤوا مما مست النار رواه معمر ويونس وبن جريج وغيرهم عن بن شهاب ومنها حديث بن أبي ذئب عن بن شهاب عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه زيد بن ثابت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم توضؤوا مما غيرت النار ورواه أبو عاصم وغيره عن بن أبي ذئب وكانت عائشة تقول كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم الوضوء مما مست النار وهذا كان مذهب بن شهاب كان الناسخ هو الأمر بالوضوء مما مست النار ويقول لو كان غير ذلك ما خفي على أم المؤمنين عائشة وأم حبيبة وجاء عن أبي هريرة في هذا الباب نحو مذهب بن شهاب لأن أبا هريرة روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أكل كتف شاة فمضمض وغسل يديه ثم صلى وروي عنه توضؤوا مما مست النار وكان أبو هريرة يتوضأ مما مست النار وممن روي عنه إيجاب الوضوء مما مست النار زيد بن ثابت وعبد الله بن عمر على اختلاف عنه وأنس بن مالك على اختلاف عنه وبه قال خارجة بن زيد بن ثابت وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وابنه عبد الملك ومحمد بن المنكدر وعمر بن عبد العزيز وبن شهاب فهؤلاء كلهم مدنيون وقال به من أهل العراق أبو قلابة والحسن البصري ويحيى بن يعمر وأبو مجلز لاحق بن حميد وكل هؤلاء بصريون ولا أعلم كوفيا قال به حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد قال حدثنا أحمد بن سليمان ببغداد قال أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال حدثنا عبد الرزاق عن معمر قال كان يتوضأ مما غيرت النار فقال له بن جريج أنت شهابي يا أبا عروة وروى عفان عن همام عن قتادة قال قال لي سليمان بن هشام إن هذا

يعني الزهري لا يدعنا نأكل شيئا إلا أمرنا أن نتوضأ يعني مما مست النار فقلت إني سألت عنه سعيد بن المسيب فقال لي إذا أكلته فهو طيب ليس عليك فيه وضوء فإذا خرج فهو خبيث عليك فيه الوضوء وقد ذكرنا الآثار عن هؤلاء كلهم في التمهيد وذكرنا في حديث بن وهب عن يونس قال قال لي بن شهاب أطعني وتوضأ مما غيرت النار فقلت لا أطيعك وأدع سعيد بن المسيب ورواه الليث عن يونس مثله حدثنا خلف بن قاسم قال حدثنا أبو الميمون عبد الرحمن بن عمر بدمشق قال حدثنا أبو زرعة قال حدثنا علي بن عياش قال حدثنا شعيب بن أبي حمزة قال مشيت بين الزهري ومحمد بن المنكدر في الوضوء مما مست النار وكان الزهري يراه وبن المنكدر لا يراه فاحتج الزهري بأحاديث فلم أزل أختلف بينهما حتى رجع بن المنكدر إلى قول الزهري وقال عبد الرزاق كان معمر يتوضأ غيرت النار فقال بن جريج أنت شهابي يا أبا عروة قال عبد الرزاق وكان بن شهاب يتوضأ مما مست النار وقد قيل لابن شهاب الوضوء مما مست النار كان في أول الإسلام فقال أعيا الفقهاء أن يعرفوا الناسخ والمنسوخ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان منسوخا ما خفي على أم المؤمنين ونحو هذا حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا هارون بن معروف قال حدثنا حمزة عن رجاء بن أبي سلمة عن أبي رزين قال سمعت الزهري يقول أعيا الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا ناسخ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنسوخه وروى أبو عاصم عن بن أبي ذئب عن بن شهاب عن عبد الملك بن أبي بكر عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه زيد بن ثابت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم توضؤوا مما غيرت النار قال أبو عمر ذهب بعض من تكلم في تفسير غريب حديث النبي عليه السلام إلى أن قوله عليه السلام توضؤوا مما غيرت النار عني به غسل اليدين لأن الوضوء مأخوذ من الوضاءة وهي النظافة فكأنه قال طهروا أيديكم من غمر ما مسته النار ومن دسم ما مسته النار

قال أبو عمر هذا لا معنى له عند أهل العلم ولو كان كما ظنه هذا القائل لكان دسم ما لم تغيره النار وودكه وغمره لا يتنظف منه ولا تغسل منه اليد وهذا يدلك على ضعف تأويله وسوء نظره وقله علمه بما جاء عن السلف من التنازع في إيجاب الوضوء مما مست النار على ما ذكرنا عنهم في هذا الكتاب وقد أوردنا في التمهيد عند ذكر حديث مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن بن عباس هذا المذكور ها هنا زيادات في هذا المعنى من جهة الأثر والنظر لم أر أن لذكرها وجها هنا فمن أراد الوقوف عليها تأملها هناك ولما اختلفت الآثار في هذا الباب استدل الفقهاء بما وصفنا من أفعال الخلفاء الراشدين من أنهم علموا الناسخ فعملوا به وتركوا المنسوخ وليس فيما روي عن عائشة وأم حبيبة حجة على عمل الخلفاء قال أبو عمر وقد روي عن أم سلمة في ذلك خلاف ما روي عنهما مما يوافق عمل الخلفاء وقد ذكرنا ذلك عنهما في التمهيد ومن جهة النظر فإن الأصل ألا ينتقض وضوء مجتمع عليه إلا بحديث مجتمع عليه أو بدليل من كتاب أو سنة لا معارض له أخبرنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا بشر بن حماد حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن سفيان قال حدثني بن عون عن عبد الله بن شداد قال قال أبو هريرة الوضوء مما غيرت النار فقال مروان كيف يسأل أحد عن هذا وهنا أزواج النبي عليه السلام فأرسلني إلى أم سلمة فقالت جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد توضأ وضوءه للصلاة فناولته لحما أو كتفا ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ وممن قال بإسقاط الوضوء مما مست النار أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وبن عباس وبن مسعود وعامر بن ربيعة وأبي بن كعب وأبو الدرداء وأبو أمامة وعلى ذلك جماعة فقهاء الأمصار مالك وأصحابه والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن حي وبن أبي ليلى والشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وداود بن علي ومحمد بن جرير الطبري إلا أن أحمد وإسحاق وطائفة من أهل الحديث يقولون من أكل شيئا من لحم الجزور خاصة فقد وجب عليه الوضوء

وليس ذلك عليه الوضوء في شيء مسته النار غير لحم الجزور وقال أحمد بن حنبل فيه حديثان صحيحان حديث البراء وحديث جابر بن سمرة يعني عن النبي عليه السلام وقد ذكرت الحديثين في التمهيد وممن قال بقول أحمد بن حنبل في إيجاب الوضوء من لحم الجزور إسحاق وأبو ثور ويحيى بن يحيى النيسابوري وأبو خيثمة زهير بن حرب وهو قول محمد بن إسحاق وأما مالك والشافعي وأبو حنيفة والثوري والليث بن سعد والأوزاعي فكلهم لا يرون في شيء مسته النار وضوءا لحم جزور كان أو غيره لأن أكثر الأحاديث فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل خبزا ولحما وأكل كتفا ونحو هذا ولم يخص لحم إبل من غير لحم إبل وفي حديث سويد بن النعمان إباحة اتخاذ الزاد في السفر وفي ذلك رد على الصوفية الذي يقولون لا ندخر بعد فإن غدا له رزق جديد وفي قول الله تعالى للحاج وتزودوا البقرة ما يغني ويكفي قال أهل التفسير السويق الكعك وفيه ما يلزم من المؤاساة عند نزول الحاجة وأن للسلطان أن يأخذ الناس ببيع فضول ما بأيديهم من الطعام بثمنه إذا اشتدت الحاجة إليه وما كان منه نزرا اجتهد فيه بلا بدل ونحو هذا لأن المسلم أخو المسلم عليه أن ينصره ويواسيه ولا يجوز له ما استطاع ولا يحل له أن يعلم أن جاره طاو إلى جنبه وهو شبعان ولا يرمقه بما يمسك مهجته وقد أوضحنا هذا المعنى في موضعه من هذا الكتاب وقوله في السويق فأمر به فثري يعني أنه بل بالماء لما كان لحقه من اليبس والقدم وفي حديث عمر دليل على أنه كان معه غيره وفي ذلك إباحة اتخاذ الطعام والدعاء إليه للسلطان وغيره وأما حديث أنس حيث قال له أبي بن كعب وأبو طلحة أعراقية فقد زعم بعضهم أن عبد الرحمن بن يزيد الأنصاري الذي روى عن أنس هذا الحديث مجهول وذكر أن حديثه ذلك منكر لأن أبي بن كعب توفي سنة عشرين في خلافة عمر ولم

تكن العراق يومئذ ممن يضاف إليها مذهب لأنه لم يكن يومئذ إلا أصحاب محمد الذين افتتحوها ومن صحبهم في ذلك وهو مذهب بالمدينة عند أهل العلم أشهر وأكثر منه بالعراق وهذا كله تحامل من قائله لأن عبد الرحمن بن يزيد هذا هو عندهم عبد الرحمن بن يزيد بن عقبة بن كريم الأنصاري يعرف بالصدق وإن لم يكن مشهورا بحمل العلم فإنه قد روى عنه رجال كبار موسى بن عقبة وبكير بن الأشج وعمرو بن يحيى وأسامة بن زيد الليث وقد روى عنه ثلاثة وقد قيل رجلان فليس بمجهول وأبي بن كعب قد اختلف في وفاته فقيل توفي في خلافة عمر وقيل توفي في خلافة عثمان على حسب ما ذكرنا من ذلك في بابه من كتابنا في الصحابة ومعنى قوله أعراقية أي بالعراق استفدت هذا العلم ولو صح هذا دل على أن ذلك مذهب غير معروف بالمدينة إلا أن هذا المذهب بالمدينة عن زيد بن ثابت وبن عمر وعائشة وغيرهم معروف محفوظ في المصنفات وكذلك أبو طلحة معروف عنه ذلك أيضا وقد ذكرنا في التمهيد حديث همام عن مطرف الوراق عن الحسن عن أنس بن مالك عن أبي طلحة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم توضؤوا مما غيرت النار وذكرنا قول همام قيل لمطرف وأنا عنده عمن أخذ الحسن الوضوء مما مست النار فقال أخذه الحسن عن أنس وأخذه أنس عن أبي طلحة وأخذه أبو طلحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الحديث يعارض حديث عبد الرحمن بن زيد هذا وليس في هذا الباب شيء يعتمد عليه أصح مما قدمنا ذكره من عمل الخلفاء الراشدين وجمهور علماء المسلمين بترك الوضوء مما مست النار وأن ذلك عندهم على العمل بالناسخ وترك المنسوخ وبالله التوفيق باب جامع الوضوء مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الاستطابة فقال أو لا يجد أحدكم ثلاثة أحجار

هكذا هذا الحديث عنه جماعة رواة الموطأ إلا بن القاسم في رواية سحنون رواه عن مالك عن هشام عن أبيه عن أبي هريرة ورواه بعض رواة بن بكير عن بن بكير عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن أبي هريرة وهذا خطأ وغلط ممن رواه عن مالك هكذا أو عن هشام أيضا أو عروة وإنما الاختلاف فيه عن هشام بن عروة فطائفة ترويه عن هشام بن عروة عن عمرو بن خزيمة المزني عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الاستطابة ثلاثة أحجار ليس فيها رجيع ولا رمة منهم أبو أمامة وعبدة بن سليمان وزائدة بن نمير ورواه بن عيينة عن هشام بن عروة واختلف فيه عن بن عيينة فرواه عبد الرزاق عن بن عيينة عن هشام بن عروة عن أبي وجزة عن خزيمة بن ثابت عن النبي عليه السلام ورواه إبراهيم بن المنذر عن بن عيينة عن هشام بن عروة عن أبي وجرة عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن أبيه عن النبي عليه السلام ورواه الحميدي عن بن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه عن النبي عليه السلام مرسلا كما رواه مالك وكذلك رواه بن جريج عن هشام عن أبيه مرسلا كرواية مالك سواء ورواه معمر عن هشام بن عروة عن رجل من مزينة عن أبيه عن النبي عليه السلام والاختلاف فيه على هشام كثير قد تقصيناه في التمهيد وهما حديثان عند هشام قد أوضحنا عللهما فمن أراد الوقوف على ذلك من جهة النقل تأمله في التمهيد وأما غير هشام فرواه أبو حازم عن مسلم بن قرظ عن عروة عن عائشة عن النبي عليه السلام وقد ذكرنا الأسانيد بذلك في التمهيد

وأما ذكر أبي هريرة فلا مدخل له عند أهل العلم بالإسناد في هذا الحديث لا من حديث مالك ولا من حديث عروة وقد ثبت عن أبي هريرة من رواية أبي صالح وغيره عنه عن النبي عليه السلام أنه أمر بثلاثة أحجار ونهي عن الروث والرمة وأما الاستطابة فهي إزالة الأذى عن المخرج بالحجارة أو بالماء يقال فيه استطاب الرجل وأطاب إذا استنجى ويقال رجل مطيب إذا فعل ذلك قال الشاعر يا رخما قاظ على مصلوب يعجل كف الخارئ المطيب قاظ نام عليه في اليوم الصائف والاستطابة والاستنجاء والاستجمار أسماء لمعنى واحد وقد مضى معنى الاستجمار وما في ذلك لفقهاء الأمصار من الأحكام والمعاني فيما تقدم والحمد لله وقد ذكرنا الإسناد في الثلاثة الأحجار في التمهيد في باب هشام من حديث عائشة وحديث خزيمة بن ثابت وحديث أبي هريرة وأبي أيوب الأنصاري وحديث السائب بن خلاد وحديث سلمان الفارسي كلها عن النبي عليه السلام في الأمر بثلاثة أحجار في الاستنجاء وذكرنا من أوجبها من العلماء من حمل ذلك على الندب في العدد إذا زال الأذى فيما تقدم من هذا الكتاب والحمد لله مالك عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء

الله بكم لاحقون وددت أني قد رأيت إخواننا فقالوا يا رسول الله ألسنا بإخوانك قال بل أنتم أصحابي وأخواننا الذين لم يأتوا بعد وأنا فرطهم على الحوض فقالوا يا رسول الله كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك قال أرأيت لو كان لرجل خيل غر محجلة في خيل دهم بهم ألا يعرف خيله قالوا بلى يا رسول الله قال فإنهم يأتون يوم القيامة غرا محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض فلا يذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال أناديهم ألا هلم ألا هلم ألا هلم فيقال إنهم بدلوا بعدك فأقول فسحقا فسحقا فسحقا في هذا الحديث من الفقه إباحة الخروج إلى المقابر وزيارة القبور وهذا مجتمع عليه للرجال مختلف فيه للنساء وقد ثبت عن النبي عليه السلام أنه قال نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجرا فإنها تذكر الآخرة

وزار عليه السلام قبر أمه يوم الفتح في ألف مقنع وزارت عائشة قبر أخيها عبد الرحمن وزار بن عمر قبر أخيه عاصم ولا خلاف في إباحة زيارة القبور للرجال وكراهيتها للنساء واحتج بحديث بن عباس قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور والمتخذين عليهما المساجد والسرج وروي عن أبي هريرة مثله وقد ذكرنا الآثار بأسانيدها في التمهيد عند قوله عليه السلام كنت نهيتكم عن زيارة القبور وسيأتي ذلك وكشف معناه في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله وأما قوله عليه السلام السلام عليكم فقد روي ذلك من وجوه عنه عليه السلام أنه كان إذا مر على القبور قال السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون غفر الله العظيم لنا ولكم وفي بعضها السلام عليكم دار قوم مؤمنين أنتم لنا فرط وإنا بكم لاحقون اللهم لا تحرمنا أجورهم ولا تفتنا بعدهم وقد ذكرنا الآثار بذلك في التمهيد وقد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم البقيع فسلم على الموتى ودعا لهم وقال صخر بن أبي سمية رأيت عبد الله بن عمر قدم من سفر فقام على باب عائشة فقال السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبه وقال أبو هريرة من دخل المقابر واستغفر لأهل القبور وترحم عليهم كان كمن شهد جنائزهم وقال الحسن من دخل المقابر فقال اللهم رب الأجساد البالية والعظام النخرة خرجت من الدنيا وهي بك مؤمنة فأدخل عليها روحا منك وسلاما مني كتب له بعددهم حسنات

وأظن قوله وسلاما مني مأخوذ من قوله عليه السلام السلام عليكم وروي عن علي أنه أشرف على المقبرة فقال يا أهل القبور أخبرونا عنا بخبركم أما خبركم قبلنا فالنساء قد تزوجن والمال قد قسم والمساكن قد سكنها قوم غيركم ثم قال أما والله لو نطقوا لقالوا لم نر زادا خيرا من التقوى وجاء عن عمر رحمه الله أنه مر على بقيع الغرقد فقال السلام عليكم يا أهل القبور أخبار ما عندنا أن نساءكم قد تزوجن ودوركم قد سكنت وأموالكم قد قسمت فأجابه هاتف يا عمر بن الخطاب أخبار ما عندنا أن ما قدمنا وجدنا وما أنفقنا فقد ربحنا وما خلفنا فقد خسرناه وهذا من عمر وعلي على سبيل الاعتبار وما يذكر إلا أولو الألباب أخبرنا أبو عبد الله عبيد بن محمد قراءة مني عليه سنة تسعين وثلاثمائة في ربيع الأول قال أملت علينا فاطمة بنت الريان المستملي في دارها بمصر في شوال سنة اثنتين وأربعين وثلاث مئة قالت حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي قال حدثنا بشر بن بكير عن الأوزاعي عن عطاء عن عبيد بن عمير عن بن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من أحد مر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام أخبرنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا عبدة بن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن ميناء أو عن ميناس قال خرج علينا رجل في يوم فيه دفء فأتى الجبان فصلى ركعتين ثم أتى قبرا فاتكأ عليه فسمع صوتا ارتفع عني لا تؤذيني أنتم تعملون ونحن نعلم ولا نعمل لأن تكون لي مثل ركعتيك أحب إلي من الدنيا وما فيها وروينا عن ثابت البناني قال بينما أنا بالمقابر إذا أنا بهاتف يهتف من ورائي يقول يا ثابت لا يغرنك سكوتها فكم من مغموم فيها والتفت فلم أر أحدا وروى بن أبي ذئب عن عامر بن سعد أنه كان إذا خرج إلى قبور الشهداء يقول لأصحابه ألا تسلمون على الشهداء فيردون عليكم وروى يوسف بن الماجشون عن محمد بن المنكدر أنه دخل على جابر بن عبد الله وهو يموت فقال أقرئ رسول الله عني السلام وروى بن وهب عن عطاء بن أبي خالد قال حدثتني خالتي وكانت من العوابد وكانت كثيرا ما تركب إلى الشهداء قالت صليت يوما على قبر حمزة بن

عبد المطلب فلما قمت قلت السلام عليكم فسمعت أذناي رد السلام يخرج من تحت الأرض أعرفه كما أعرف أن الله خلقني وما في الوادي داع ولا مجيب قالت فاقشعرت له كل شعرة مني وهذا المعنى في الأخبار كثير جدا وليس كتابنا هذا موضعا لإيرادها وفيما ذكرنا منها دليل على المراد من الاعتبار بها والفكرة في المصير إليها وقد احتج بهذا الحديث في السلام على القبور من زعم أن الأرواح على أبنية القبور وكان بن وضاح يذهب إلى هذا ويحتج بحكايات فيه عن نفسه وعمن قبله من العلماء قد ذكرتها في غير هذا الموضع وأما قوله عليه السلام وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ففي معناه قولان أحدهما أن الاستثناء مردود على معنى قوله دار قوم مؤمنين أي وإنا إن شاء الله بكم لاحقون في حال الإيمان لأن الفتنة لا يأمنها مؤمن وعاقل ألا ترى قول إبراهيم واجنبني وبني أن نعبد الأصنام إبراهيم وقول يوسف توفني مسلما وألحقني بالصالحين يوسف وكذلك كان نبينا صلى الله عليه وسلم يقول اللهم أقبضني إليك غير مفتون والوجه الآخر أنه قد يكون الاستثناء في الواجبات التي لا بد من وقوعها ليس على سبيل الشك ولكنها لغة للعرب

ألا ترى إلى قول الله عز وجل لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين الفتح والشك لا سبيل إلى إضافته إلى الله تعالى عن ذلك علام الغيوب وقوله وددت أني قد رأيت إخواننا ففيه دليل على أن أهل الدين والإيمان كلهم إخوة في دينهم قال الله تعالى إنما المؤمنون إخوة الحجرات وقد قرئت فأصلحوا بين أخويكم و بين أخوانكم فأما الأصحاب فمن صحبك وصحبته وجائز أن يسمى الشيخ صاحبا للتلميذ والتلميذ صاحبا للشيخ والصاحب القرين المماشي المصاحب وهؤلاء كلهم صحابة وأصحاب وأما قوله إخواننا الذين لم يأتوا بعد فروى أبو عمرة الأنصاري عن النبي عليه السلام أنه قيل له يا رسول الله أرأيت من آمن بك ولم يرك وصدقك ولم يرك فقال عليه السلام أولئك إخواننا أولئك معنا طوبى لهم طوبى لهم وروى أبو قتادة عن أنس عن أبي أمامة أن النبي عليه السلام قال طوبى لمن رآني فآمن بي وطوبى سبع مرات لمن لم يرني وآمن بي وروى أبو سعيد الخدري عن النبي عليه السلام أنه قال أنتم أصحابي وإخواني الذين آمنوا بي ولم يروني ومن حديث أبي سعيد أيضا أن النبي عليه السلام قال إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري في الأفق من المشرق والمغرب لتفاضل بينهم قالوا يا رسول الله تلك منازل الأنبياء قال بلى والذي نفسي بيده ورجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين وعن أبي هريرة عن النبي عليه السلام نحوه ومن حديث بن أبي أوفى قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقعد وجاءه عمر فقال يا عمر إني لمشتاق إلى إخواني قال عمر ألسنا إخوانك يا رسول الله قال لا ولكنكم أصحابي وإخواني قوم آمنوا بي ولم يروني وعن بن عباس أنه قال لجلسائه يوما أي الناس أعجب إيمانا قالوا

الملائكة قال وكيف لا تؤمن الملائكة والأمر فوقهم يرونه قالوا الأنبياء قال وكيف لا يؤمن الأنبياء والأمر ينزل عليهم غدوة وعشية قالوا فنحن قال وكيف لا تؤمنون وأنتم ترون من رسول الله ما ترون ثم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعجب الناس إيمانا قوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني أولئك إخواني حقا وروى أبو صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أشد أمتي حبا لي ناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بما له وأهله كذا رواه سهيل عن أبيه عن أبي هريرة وأخرجه مسلم وذكر بن أبي شيبة عن أبي خالد الأحمر عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن أبي صالح عن رجل من بني أسد عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من أشد أمتي حبا لي قوم يأتون من بعدي يود أحدهم لو يعطي أهله وماله ويراني وعن بن عمر قال كنت جالسا عند النبي عليه السلام فقال أتدرون أي الخلق أفضل إيمانا قلنا الملائكة قال وحق لهم بل غيرهم قلنا الأنبياء قال حق لهم بل غيرهم قلنا الشهداء قال هم كذلك وحق لهم بل غيرهم ثم قال عليه السلام أفضل الخلق إيمانا قوم في أصلاب الرجال يؤمنون بي ولم يروني ويجدون ورقا فيعملون بما فيه فهم أفضل الخلق إيمانا وروي هذا من حديث عمر وهو أصح أخبرنا سهيل بن إبراهيم إجازة قال حدثنا محمد بن فطيس حدثنا يزيد بن سنان حدثنا أبو عامر العقدي حدثنا محمد بن مطرف عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر فذكره بمعناه سواء قال سفيان بن عيينة تفسير هذا الحديث وما كان مثله في كتاب الله وهو قوله وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله آل عمران ومن حديث أبي جمعة وكانت له صحبة قال قلنا يا رسول الله هل أحد خير منا قال قوم يجيئون من بعدكم فيجدون كتابا بين لوحين يؤمنون بما فيه ويؤمنون بي ولم يروني ويصدقون بما جئت به ويعملون به فهم خير منكم فقد أخبر عليه السلام أن في آخر أمته من هو خير من بعض من صحبه وهذا الحديث رواه حمزة بن ربيعة عن مرزوق عن نافع عن صالح بن جبير عن أبي جمعة وكلهم ثقات

ومن حديث أبي عبد الرحمن الجهني قال بينا نحن عند رسول الله عليه السلام إذا طلع راكبان فلما رآهما قال كنديان مذحجيان حتى أتياه فإذا رجلان من مذحج فدنا أحدهما إليه ليبايعه فلما أخذ بيده قال يا رسول الله أرأيت من رآك فصدقك وآمن بك واتبعك ماذا له قال طوبى له فمسح على يده وانصرف ثم قام الآخر حتى أخذ بيده ليبايعه فقال يا رسول الله أرأيت من آمن بك وصدقك واتبعك ولم يرك قال طوبى له طوبى له ثم مسح على يده وانصرف ومن حديث طلحة بن عبيد الله قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أشرفنا على حرة واقم وتدلينا منها فإذا قبور بمحنية فقلنا يا رسول الله هذه قبور إخواننا فقال هذه قبور أصحابنا ثم مشينا حتى أتينا قبور الشهداء فقال رسول الله هذه قبور إخواننا وقد ذكرنا أسانيد هذه الأحاديث كلها وغيرها في معناها في كتاب التمهيد وهي أحاديث كلها حسان ورواتها معروفون وليست على عمومها كما أن قوله عليه السلام خير الناس قرني ليس على العموم فهذه أحرى ألا تكون على العموم وبالله التوفيق وقد قال عليه السلام في قبور الشهداء قبور إخواننا ومعلوم أن الشهداء معه وهو شهيد عليهم لا يقاس بهم من سواهم إلا أن هذه الأحاديث وما كان مثلها نحو قوله عليه السلام أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره وقوله عليه السلام خير الناس من طال عمره وحسن عمله وقوله عليه السلام ليس أحد عند الله أفضل من مؤمن يعمر في الإسلام للتهليل والتسبيح والتكبير يعارضها قوله عليه السلام خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم

وفي قوله تعالى والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار التوبة وقوله والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم الواقعة الآية ثم قال و وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود الواقعة الآية ما فيه كفاية وهداية وتهذيب آثار هذا الباب أن يحمل قوله قرني عليه الجملة فقرنه عليه السلام جملة خير من القرن الذي يليه وأما على الخصوص والتفضيل فعلى ما قال عمر في قوله كنتم خير أمة آل عمران إنما كانوا كذلك بما وصفهم الله تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر فمن فعل فعلهم فهو منهم وقد ذكر الله أحوال الناس في القيامة على ثلاثة أصناف أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة وهم أصحاب اليمين في سدر مخضود الآية وأصحاب المشأمة وهم أصحاب الشمال في سموم وحميم الواقعة والسابقون السابقون في جنات النعيم الآية الواقعة فسوى بين أصحاب اليمين وبين السابقين والذي يصح عندي والله أعلم في قوله خير الناس قرني أنه خرج على العموم ومعناه الخصوص بالدلائل الواضحة في أن قرنه والله أعلم فيه الكفار والفجار كما كان فيه الأخيار والأشرار وكان فيه المنافقون والفساق والزناة والسراق كما كان فيه الصديقون والشهداء والفضلاء والعلماء فالمعنى على هذا كله عندنا أن قوله عليه السلام خير الناس قرني أي خير الناس في قرني كما قال تعالى الحج أشهر معلومات البقرة أي في أشهر معلومات فيكون خير الناس في قرنه أهل بدر والحديبية ومن شهد لهم بالجنة خير الناس إن شاء الله ويعضد هذا التأويل قوله عليه السلام خير الناس من طال عمره وحسن عمله عد من سبق له من الله الحسنى وأصحابه وبالله التوفيق وأما قوله وأنا فرطهم على الحوض فالفرط المتقدم الماشي من أمام إلى الماء هذا قول أبي عبيدة وغيره وقال بن وهب أنا فرطهم أنا إمامهم وهم ورائي يتبعونني واستشهد أبو عبيدة وغيره على قوله هذا بقول الشاعر

فأثار فارطهم غطاطا جثما أصواتها كتراطن الفرس وقال القطامي فاستعجلونا وكانوا من صحابتنا كما تعجل فراط لوراد وقال لبيد فوردنا قبل فراط القطا إن من وردي تغليس النهل قال أبو عمر الفارط ها هنا السابق إلى الماء والنهل الشربة الأولى وفي حديث أنس أن النبي عليه السلام وضع ابنه إبراهيم وهو يجود بنفسه فقال لولا أنه موعد صدق ووعد جامع وأن الماضي فرط الباقي وذكر الحديث وقال إبراهيم بن هرمة القرشي ذهب الذين أحبهم فرطا وبقيت كالمغمور في خلف من كل مطوي على حنق متكلف يكفى لا يكفى وقال غيره ومنهل وردته التقاطا لم ألق إذ وردته فراطا إلا القطا أوابدا غطاطا الأوابد الطير التي لا تبرح شتاء ولا صيفا من بلدانها والقواطع التي تقطع من بلد إلى بلد في زمن بعد زمن والأوابد أيضا الإبل إذا توحش منها شيء والأوابد أيضا الدواهي يقال منه جاء فلان بآبدة وقال الخليل الغطاط طير يشبه القطا

وروى عن النبي عليه السلام أنه قال أنا فرطكم على الحوض جماعة منهم بن مسعود وجابر بن سمرة والصنابح بن الأعسر الأحمسي وجندب وسهل بن سعد وأما قوله فليذادن فمعناه فليبعدن وليطردن وقال زهير ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم وقال الراجز يا أخوي نهنها وذودا إني أرى حوضكما مورودا وأما رواية يحيى فلا يذادن على النهي فقيل إنه قد تابعه على ذلك بن نافع ومطرف وقد خرج بعض شيوخنا معنى حسنا لرواية يحيى ومن تابعه أن يكون على النهي أي لا يفعل أحد فعلا يطرد به عن حوضي لكن قوله أناديهم ألا هلم خبر لا يجوز عليه النسخ ولا بد أن يكون والله أعلم ومما يشبه رواية يحيى ويشهد له حديث سهل بن سعد عن النبي عليه السلام قال أنا فرطكم أعلى الحوض من ورد شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا فلا يردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم وهذا في معنى رواية يحيى وقد ذكرنا إسناد هذا الحديث في التمهيد وأما قوله فإنهم يأتون يوم القيامة غرا محجلين من الوضوء ففيه دليل على أن الأمم أتباع الأنبياء لا يتوضؤون مثل وضوئنا على الوجه واليدين والرجلين لأن الغرة في الوجه والتحجيل في اليدين والرجلين هذا ما لا مدفع فيه على هذا الحديث إلا أن يتأول متأول أن وضوء سائر الأمم

لا يكسبها غرة ولا تحجيلا وأن هذه الأمة بورك لها في وضوئها بما أعطيت من ذلك شرفا لها ولنبينا عليه السلام كسائر فضائلها على سائر الأمم كما فضل نبيها بالمقام المحمود وغيره على سائر الأنبياء والله أعلم وقد يجوز أن يكون الأنبياء يتوضؤون فيكتسبون بذلك الغرة والتحجيل ولا يتوضأ أتباعهم ذلك الوضوء كما خص نبينا عليه السلام بأشياء دون أمته منها نكاح ما فوق الأربع والموهوبة بغير صداق والوصال وغير ذلك فيكون من فضائل هذه الأمة أن تشبه الأنبياء كما جاء عن موسى عليه السلام أنه قال يا رب أجد أمة كلهم كالأنبياء فاجعلهم أمتي فقال تلك أمة أحمد في حديث فيه طول وقد روى سالم بن عبد الله بن عمر عن كعب الأحبار أنه سمع رجلا يحدث أنه رأى في المنام أن الناس جمعوا للحساب ثم دعي الأنبياء مع كل نبي أمته وأنه رأى لكل نبي نورين يمشي بينهما ولمن اتبعه من أمته نور واحد يمشي به حتى دعي محمد عليه السلام فإذا شعر رأسه ووجه نور كله يراه كل من نظر إليه وإذا لمن اتبعه من أمته نوران كنور الأنبياء فقال كعب وهو لا يشعر أنها رؤيا من حدثك بهذا الحديث وما علمك به فأخبره أنها رؤيا فناشده كعب الله الذي لا إله إلا هو لقد رأيت ما تقول في منامك فقال نعم والله لقد رأيت ذلك فقال كعب والذي نفسي بيده أو قال والذي بعث محمدا بالحق إن هذه لصفة أحمد وأمته وصفة الأنبياء في كتاب الله لكان ما قرأته في التوراة وإسناد هذا الخبر في التمهيد وقد قيل إن سائر الأمم كانوا يتوضؤون والله أعلم وهذا لا أعرفه من وجه صحيح وأما قوله عليه السلام إذا توضأ ثلاثا ثلاثا هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي فلم يأت من وجه ثابت ولا له إسناد يحتج به لأنه حديث يدور على زيد بن الحواري العمي والد عبد الرحيم بن زيد هو انفرد به وهو ضعيف جدا عند أهل العلم بالنقل وقد اختلف عليه فيه أيضا فمرة يجعله من حديث أبي بن كعب ومرة يجعله من حديث بن عمر وقد ذكرنا ذلك من طرق في التمهيد وهو أيضا منكر لأن فيه لما توضأ ثلاثا ثلاثا قال هذا وضوئي ووضوء خليل الله إبراهيم ووضوء الأنبياء قبلي

وقد توضأ عليه السلام مرة مرة ومرتين مرتين ومحال أن يقصر عن ثلاث لو كانت وضوء إبراهيم والأنبياء قبله وقد أمر أن يتبع ملة إبراهيم وقد روى عبد الله بن بسر عن النبي عليه السلام أنه قال أمتي يوم القيامة غر من السجود ومحجلون من الوضوء ومن حديث أبي هريرة قال قال رسول الله عليه السلام تردون علي غرا محجلين من الوضوء سيمى أمتي ليس لأحد غيرها ومن حديث أبي ذر وأبي الدرداء قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه أول من يؤذن له في السجود يوم القيامة وأول من يؤذن له برفع رأسه فانظر بين يدي فأعرف أمتي بين الأمم وأنظر عن يميني فأعرف أمتي بين الأمم وأنظر عن شمالي فأعرف أمتي بين الأمم فقال رجل يا رسول الله كيف تعرف أمتك من بين الأمم ما بين نوح إلى أمتك قال غر محجلون من آثار الوضوء ولا يكون من الأمم كذلك أحد غيرهم ومن حديث بن مسعود أنهم قالوا يا رسول الله كيف تعرف من لم تر من أمتك قال غر محجلون بلق من الوضوء وقد ذكرنا أسانيد هذه الأحاديث في التمهيد وكلها تدل على صحة ما ذكرنا من أن هذه الأمة مخصوصة بالغرة والتحجيل من سائر الأمم والله أعلم وأما قوله فسحقا فمعناه فبعدا والسحق والبعد والإسحاق والإبعاد والتسحيق والتبعيد سواء وكذلك النأي والبعد لفظتان بمعنى واحد إلا أن سحقا وبعدا هكذا إنما يجيء بمعنى الدعاء على الإنسان كما نقول أبعده الله وقاتله الله وسحقه الله ومحقه الله أيضا ومن هذا قوله تعالى في مكان سحيق الحج يعني من مكان بعيد

وكل من أحدث في الدين ما لا يرضاه الله ولم يأذن به فهو من المطرودين عن الحوض والمبعدين والله أعلم وأشدهم طردا من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم مثل الخوارج على اختلاف فرقها والروافض على تباين ضلالها والمعتزلة على أصناف أهوائها وجميع أهل الزيغ والبدع فهؤلاء كلهم مبدلون وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم وتطميس الحق وقتل أهله وإذلالهم كلهم مبدل يظهر على يديه من تغيير سنن الإسلام أمر عظيم فالناس على دين الملوك ورحم الله بن المبارك فإنه القائل وهل بدل الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها وروي عن النبي عليه السلام أنه قال صنفان من أمتي إذا صلحا صلح الناس الأمراء والعلماء وروي عن إبراهيم النخعي أنه قال من أراد الله فأخطأ أقل فسادا مما جاهر بترك الحق المعلنين بالكبائر المستخفين بها كل هؤلاء يخاف عليهم أن يكونوا عنوا بهذا الخبر وقد قال بن القاسم قد يكون من غير أهل الأهواء من هو شر من أهل الأهواء وصدق بن القاسم ولا يعتبر أعظم مما وصفنا عن أئمة الفسق والظلم ولكنه لا يخلد في النار إلا كافر جاحد ليس في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ويغفر الله لمن يشاء ويعذب من يشاء ولا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء والله المستعان مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن حمران مولى عثمان بن عفان أن عثمان بن عفان جلس على المقاعد فجاء المؤذن فآذنه بصلاة

العصر فدعا بماء فتوضأ ثم قال والله لأحدثنكم حديثا لولا أنه في كتاب الله ما حدثتكموه ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من امرئ يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يصلي الصلاة إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى حتى يصليها قال مالك أراه يريد هذه الآية وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من اليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين هود حمران مولى عثمان بن عفان هو حمران بن أبان بن النمر بن قاسط بن عم صهيب وقد ذكرنا نسبه عند ذكر هذا الحديث من التمهيد وكان من سبي عين التمر وهو أول سبي قدم المدينة في زمان أبي بكر الصديق وسباه خالد بن الوليد وقد ذكرنا خبر حمران مستوعبا في التمهيد وكان أحد العلماء الجلة روى عنه كبار التابعين بالحجاز والعراق وقد ذكرناهم في التمهيد وهكذا هذا الحديث في الموطأ عند جماعة رواته ليس فيه صفة الوضوء ثلاثا ولا اثنتين وقد رواه جماعة عن هشام بن عروة بإسناده هذا فذكروا فيه صفة الوضوء والمضمضة والاستنثار وغسل الوجه واليدين ثلاثا واختلفوا في ألفاظه والمعنى واحد فمنهم شعبة وأبو أسامة وبن عيينة ورواه عن عروة أيضا جماعة ذكروا فيه أن النبي عليه السلام توضأ ثلاثا منهم أبو الزناد وأبو الأسود وعبد الله بن أبي بكرة حدثنا سفيان بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن حمران قال توضأ عثمان بن عفان ثلاثا ثلاثا قال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من رجل يتوضأ فيحسن الوضوء ثم يصلي إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى حتى يصليها المقاعد مصاطب حول المسجد كان يقعد عليها عثمان وقيل بل كانت حجارة بقرب دار عثمان يقعد بها مع الناس

وإنما كان الخلفاء يحتاجون إلى الإذن بالصلاة مع الأذان لما كانوا فيه من الشغل بأمور المسلمين وفي هذا الحديث من الفقه تقديم كتاب الله ومعانيه في طلب الحجة ورواية من روى لولا أنه في كتاب الله هو يحيى معناه لولا أن تصديقه في كتاب الله والله أعلم وتأول مالك ذلك على الآية التي ذكر قوله تعالى إن الحسنات يذهبن السيئات وقد روي عن عروة في ذلك أنه قال معنى قوله تعالى إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى الآية وقال بكلا الوجهين جماعة العلماء ورواية بن بكير وطائفة لولا أنه في كتاب الله وروايته أيضا محتملة للوجهين جميعا وفي هذا الحديث أيضا أن الصلاة تكفر الذنوب وهو تاويل قوله إن الحسنات يذهبن السيئات على ما نزع به مالك والقول في ذلك عندي كالقول في قوله عليه السلام الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر لأن الكبائر لا يمحوها إلا التوبة منها وقد افترضها تعالى على كل مذنب بقول وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون النور والفرائض أيضا لا تؤدى إلا بقصد وإرادة ونية صادقة وقد أوضحنا هذا المعنى في التمهيد وذكرنا هناك حديث بن عباس عن النبي عليه السلام أنه قال لم أر شيئا أحسن طلبا ولا أحسن إدراكا من حسنة حديثة لذنب قديم ثم قرأ إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله الصنابحي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا توضأ العبد المؤمن فتمضمض خرجت الخطايا من فيه

وإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه حتى تخرج من تحت أظفار يديه فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه فإذا غسل رجليه خرجت الخطايا من رجليه حتى تخرج من تحت أظفار رجليه قال ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة له قال أبو عيسى الترمذي سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن حديث مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله الصنابحي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا توضأ العبد المؤمن فتمضمض خرجت الخطايا من فيه الحديث فقال لي وهم مالك في قوله عبد الله الصنابحي وإنما هو أبو عبد الله وأسمه عبد الرحمن بن عسيلة ولم يسمع من النبي عليه السلام والحديث مرسل قال أبو عمر هو كما قال البخاري وقد بينا ذلك فيما مضى من هذا الكتاب بواضح من القول والحجة وقد روي حديث الصنابحي هذا مسندا من وجوه من حديث عمرو بن عبسة وغيره وقد ذكرنا ذلك في التمهيد وجاء في هذا الحديث فرض الوضوء وسنته مجيئا واحدا في حط الخطايا وتكفير الذنوب فدل ذلك على أن من شر المؤمن وما ينبغي له أن يأتي بما ذكرنا في هذا الحديث من المضمضة والاستنثار وغسل الوجه واليدين والرجلين ومسح الرأس وإنما اختلفوا في مسح الرجلين وغسلهما وقد أوضحنا ذلك فيما مضى وليس في الموطأ ذكر المضمضة في حديث مرفوع غير هذا وغير حديث عبد الله بن زيد بن عاصم ولا في الموطأ حديث مرفوع فيه ذكر الأذنين إلا حديث الصنابحي هذا وقد استدل بعض أهل العلم على أن الأذنين من الرأس وأنهما يمسحان بماء واحد مع الرأس بحديث الصنابحي هذا لقوله فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من أذنيه فنذكر أقاويل العلماء في ذلك ها هنا قال مالك وأصحابه الأذنان من الرأس إلا أنه يستأنف لهما ماء جديد سوى الماء الذي مسح به الرأس

وقال الشافعي كقول مالك يستأنف للأذنين الماء ولا يمسحان مع الرأس إلا أنه قال هما سنة على حيالهما لا من الوجه ولا من الرأس كالمضمضة والاستنثار وقول أبي ثور في ذلك كقول الشافعي سواء وقول أحمد بن حنبل في ذلك كقول مالك سواء أن الأذنين من الرأس وأنه يستأنف لهما ماء جديد وأحتج مالك والشافعي بأن عبد الله بن عمر كان يأخذ لأذنيه ماء غير الماء الذي مسح به رأسه واحتج أصحاب الشافعي بإجماع القائلين بعموم مسح الرأس إلا أنه لا إعادة على من صلى ولم يمسح أذنيه وبإجماع العلماء على أن الحاج لا يحلق ما عليهما من الشعر وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري الأذنان من الرأس يمسحان مع الرأس بماء واحد وروي عن جماعة من السلف من الصحابة والتابعين مثل هذا القول وحجة من قال به حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عباس عن النبي عليه السلام أنه كذلك فعل وهو موجود أيضا في حديث عبيد الله الخولاني عن بن عباس عن علي في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حديث طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده عن النبي عليه السلام ومن حجتهم حديث الصنابحي هذا قوله عليه السلام فإذا مسح رأسه خرجت الخطايا من أذنيه كما قال في الوجه من أشفار عينيه وفي اليدين من تحت أظفاره ومعلوم أن العمل في ذلك بماء واحد وقال بن شهاب الزهري الأذنان من الوجه لأنهما مما يواجهك ولا ينبت عليهما شعر الرأس وما لا ينبت عليه شعر الرأس فهو من الوجه إذ كان فوق الذقن ولم يكن قفا وقد أمر الله بغسل الوجه أمرا مطلقا وكل ما واجهك فهو وجه ومن حجته أيضا قوله عليه السلام في سجوده سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره فأضاف السمع إلى الوجه وقال الشعبي ما أقبل منهما فمن الوجه وظاهرهما من الرأس فيغسل ما أقبل منهما مع الوجه ويمسح ما أدبر منهما مع الرأس وهو قول الحسن بن حي وإسحاق بن راهويه

وحكي هذا القول عن الشافعي والمشهور عنه ما تقدم ذكره وقد روي عن أحمد بن حنبل مثل قول الشعبي وإسحاق في ذلك وقال داود إن مسح أذنيه فحسن وإن لم يمسح فلا شيء عليه وأما سائر أهل العلم فيكرهون للمتوضئ ترك مسح أذنيه ويجعلونه تارك سنة من سنن النبي عليه السلام ولا يوجبون عليه إعادة صلاة صلاها كذلك إلا إسحاق بن راهويه فإنه قال إن ترك مسح أذنيه أو غسلهما عمدا لم يجز وقال أحمد إن تركهما عمدا أحببت أن يعيد وقد كان بعض أصحاب مالك يقول من ترك سنة من سنن الوضوء أو الصلاة أعاد أبدا وهذا عند العلماء قول ضعيف وليس لقائله سلف ولا له حظ من النظر ولو كان هذا لم يعرف الفرض من السنة وقال بعضهم من ترك مسح أذنيه فقد ترك مسح بعض رأسه وهو ممن يقول الفرض مسح بعض الرأس وأنه يجزئ المتوضئ مسح بعضه وقوله هذا كله ليس على أصل مالك ولا مذهبه الذي إليه يعتزي وقد مضى القول في مسح الرأس فيما تقدم من هذا الكتاب قال أبو عمر المعنى الذي يجب الوقوف على حقيقته في الأذنين أن الرأس قد رأينا له حكمين فما واجه منه كان حكمه الغسل وما علا منه وما كان موضعا لنبات الشعر كان حكمه المسح واختلاف الفقهاء في الأذنين إنما هو هل حكمهما المسح كحكم الرأس أو حكمهما الغسل كالوجه أولهما من كل واحد منهما حكم أو هما من الرأس فيمسحان معه بماء واحد فلما قال عليه السلام في حديث الصنابحي هذا فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من أذنيه ولم يقل إذا غسل وجهه خرجت الخطايا من أذنيه علمنا أن الأذنين من الرأس فهذا يشهد لقول من رأى مسحهما مع الرأس وقد زدنا هذا المعنى بيانا في التمهيد والحمد لله وقد استدل بعض من لم ير الوضوء بالماء المستعمل بحديث الصنابحي هذا وما كان مثله وقال خروج الخطايا مع الماء يوجب التنزه عنه وسماه بعضهم ماء الذنوب وهذا عندي لا وجه له لأن الذنوب لا أشخاص لها تمازج الماء فتفسده وإنما معنى قوله خرجت الخطايا مع الماء إعلام منه بأن الوضوء للصلاة عمل يكفر الله

به السيئات عن عباده المؤمنين رحمة منه بهم وتفضلا عليهم ترغيبا في ذلك واختلف الفقهاء في الوضوء بالماء المستعمل وهو الذي قد توضئ به مرة فقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما لا يتوضأ به ومن توضأ به أعاد لأنه ليس بماء مطلق وعلى من لم يجد غيره التيمم لأنه ليس بواجد ماء ومن حجتهم على الذين أجازوا الوضوء به عند عدم غيره لما كان مع الماء القراح غير المستعمل كلا ماء كان عند عدمه أيضا كلا ماء ووجب التيمم وقال بقولهم في ذلك أصبغ بن الفرج وهو قول الأوزاعي وقد روى ذلك أيضا عن مالك أنه يجوز التيمم لمن وجد الماء المستعمل واحتج بعضهم بقوله عليه السلام لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه من الجنابة ومعلوم أن الماء الدائم الكثير المستعمل فيه من الجنابة لا يمنع أحدا من الغسل فيه إلا لأنه يكون مستعملا وقد أدى به فرض وهو دائم غير جار وأما مالك فقال لا يتوضأ به إذا غيره من الماء ولا خير فيه ثم قال إذا لم يجد غيره توضأ به ولم يتيمم لأنه ماء طاهر ولم يغيره شيء وقال أبو ثور وداود الوضوء بالماء المستعمل جائز لأنه ماء طاهر لا ينضاف إليه شيء فواجب أن يكون مطهرا كما هو طاهر لأنه إذا لم يكن في أعضاء المتوضئ به نجاسة فهو ماء طاهر بإجماع ومن حجتهم أن الماء قد يستعمل في العضو الواحد لا يسلم منه أحد فكذلك استعماله في عضو بعد عضو وإلى هذا مذهب أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي واختلف عن الثوري في هذه المسألة فالمشهور عنه أنه لا يجوز الوضوء بالماء المستعمل وأظنه أنه حكي عنه أنه قال هو ماء الذنوب وقد روي عنه خلاف ذلك وذلك أنه قال فيمن نسي مسح رأسه فقال يأخذ من بلل لحيته فيمسح به رأسه وهذا استعمال منه بالماء المستعمل وقد روي عن علي وبن عمر وأبي أمامة وعطاء بن أبي رباح والحسن

البصري وإبراهيم النخعي ومكحول وبن شهاب أنهم قالوا فيمن نسي مسح رأسه فوجد في لحيته بللا إنه يجزئه أن يمسح بذلك البلل رأسه وقال بذلك بعض أصحاب مالك فهؤلاء على هذا يجيزون الوضوء بالماء المستعمل والله أعلم وأما مالك والشافعي وأبو حنيفة ومن قال بقولهم فلا يجوز عندهم لمن نسي مسح رأسه ووجد في لحيته بللا أن يمسح رأسه بذلك البلل ولو فعل لم يجزه عندهم وكان كمن لم يمسح وأما اختلافهم في رمي الجمار بما قد رمي به فسيأتي موضعه إن شاء الله وقد أوضحنا أن الطهارة للصلاة والمشي إليها وعملها لا يكفر إلا الصغائر دون الكبائر بضروب من الحجج الواضحة من جهة الآثار والاعتبار في هذا الموضع من كتاب التمهيد والحمد لله فمن ذلك حديث أبي هريرة وحديث عمران بن حصين وحديث بن مسعود وحديث سلمان الفارسي كلها عن النبي عليه السلام أنه قال الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما من الخطايا والذنوب ما اجتنبت الكبائر أو ما لم تغش الكبائر وفي حديث سلمان ما لم تصب المقتلة وما اجتنبت المقتلة على حسب اختلاف ألفاظ المحدثين وهذه الآثار كلها بأسانيدها في التمهيد والحمد لله مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل يديه خرجت من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو مع أخر قطر الماء فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب

روى هذا الحديث بن وهب عن مالك فذكر فيه الرجلين كما ذكر اليدين ولم يذكر الرجلين في هذا الحديث عن مالك غيره وفي رواية يحيى عن مالك وطائفة بطشتهما على التثنية وكذلك في رواية بن وهب بطشتهما رجلاه وفي ذلك ما لا يخفي من الوهم وأما قوله العبد المسلم أو المؤمن فهو شك من المحدث من مالك أو غيره وأما قوله مع الماء أو مع آخر قطر الماء فهو شك من المحدث أيضا ولا يجوز أن يكون ذلك من النبي عليه السلام وإنما حمل المحدث على ذلك التحري لألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم وقد أوضحنا في كتاب العلم اختلاف العلماء في الإتيان بألفاظ الحديث دون معناه وبمعناه دون ألفاظه والمؤمن والمسلم عندنا واحد لقوله تعالى فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين الذاريات وقد تنازع العلماء في هذا المعنى وستراه في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله وفي هذا الحديث تكفير الخطايا بالوضوء وأن أعمال البر تكفر الذنوب بها وهو معنى قول الله تعالى إن الحسنات يذهبن السيئات وقد مضى ذلك قبل هذا والحمد لله مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك أنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحانت صلاة العصر فالتمس الناس وضوءا فلم يجدوه فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء في إناء فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الإناء يده ثم أمر الناس يتوضؤون منه قال أنس فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه فتوضأ الناس حتى توضؤوا من عند آخرهم جاء في هذا الحديث تسمية الماء وضوءا ألا ترى إلى قوله فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء في إناء والوضوء بفتح الواو هو الماء والوضوء بالضم المصدر

والعرب تسمي الشيء باسم ما يؤول إليه وما قرب منه وفي هذا الحديث إباحة الوضوء للجماعة من إناء يغترفون منه في حين واحد ولم يراعوا هل أصاب أحدهم مقدار مد فما زاد من الماء كما قال من ذهب إلى أن الوضوء لا يجوز بأقل من مد ولا الغسل بأقل من صاع وهذا المعنى مبين في موضعه من هذا الكتاب والحمد لله وفيه العلم العظيم من أعلام نبوته عليه السلام وهو نبع الماء من بين أصابعه وكم له من مثل ذلك صلى الله عليه وسلم والذي أعطي عليه السلام من هذه الآية المعجزة أوضح في آيات الأنبياء وبراهينهم مما أعطى موسى عليه السلام إذ ضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا وذلك أن من الحجارة ما يشاهد انفجار الماء منها كما قال تعالى وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار البقرة ولم يشاهد قط أحد من بني آدم يخرج من بين أصابعه الماء غير نبينا عليه السلام وقد عرض له هذا مرارا مرة بالمدينة ومرة بالحديبية قبل بيعته المعروفة ببيعة الرضوان فتوضأ من الماء الذي نبع من بين أصابعه جميع من حضر في ذلك اليوم وهم ألف وأربعمائة وقد قيل ألف وخمسمائة وقد ذكرنا في التمهيد هذا الحديث من طرق وما كان في معناه من أعلام لنبوته وآياته ومعجزاته عليه السلام وأما حديث مالك عن نعيم بن عبد الله المجمر أنه سمع أبا هريرة يقول من توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج عامدا إلى المسجد الحديث ففيه الترغيب في أسباغ الوضوء والمشيء إلى الصلاة وترك الإسراع إليها لمن سمع الإقامة والإخبار بفضل ذلك كله وكان بن عمر يسرع المشي إذا سمع الإقامة وخالف في ذلك أبا هريرة وسيأتي القول في معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تأتوها وأنتم تسعون في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه سئل عن الوضوء من الغائط بالماء فقال سعيد إنما ذلك وضوء النساء

هذا مذهب المهاجرين في الاستنجاء بالأحجار والاقتصار عليها وبن المسيب من أبنائهم وفقهائهم وقد ذكرنا هذا المعنى مجودا فيما مضى وليس في عيب سعيد بن المسيب الاستنجاء بالماء ما يسقط فضله لثناء الله على أهل قباء وقد ثبت عن النبي عليه السلام الاستنجاء بالماء وإنما الاستجمار رخصة وتوسعة في طهارة المخرج وقد أوضحنا من ذلك ما أغنى عن تكريره ها هنا والله الموفق للصواب أخبرنا أحمد بن قاسم حدثنا قاسم بن أصبغ أخبرنا الحارث بن أبي أسامة حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن معاذة عن عائشة أنها قالت لنسوة عندها مرن أزواجكن أن يغسلوا عنهم أثر الغائط والبول فإني أستحييهم وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات كذلك قال مالك إذا شرب الكلب وسائر رواة هذا الحديث عن أبي الزناد وغيره على كثرة طرقه عن أبي هريرة كلهم يقول إذا ولغ لا أعلم أحدا يقول إذا شرب غير مالك والله أعلم ورواه عن أبي هريرة جماعة منهم الأعرج وأبو صالح وأبو رزين وثابت الأحنف وهمام بن منبه وعبد الرحمن والد السدي وعبيد بن حنين وثابت بن عياض وأبو سلمة بن عبد الرحمن كلهم بمعنى حديث مالك هذا لم يذكروا فيه التراب لا في أول الغسالات ولا في آخرها

ورواه بن سيرين عن أبي هريرة واختلف عليه في ذلك فمن رواته من قال فيه أولاهن بالتراب ومنهم من قال السابعة بالتراب وبذلك كان الحسن يفتي ولا أعلم أحدا أفتى بذلك غيره وممن كان يفتي بغسل الإناء سبعا من ولوغ الكلب بدون شيء من التراب من السلف والصحابة والتابعين بن عباس وأبو هريرة وعروة بن الزبير ومحمد بن سيرين وطاوس وعمرو بن دينار وأما الفقهاء أئمة الأمصار فاختلفوا في معنى هذا الحديث اختلافا كثيرا فجملة مذهب مالك عند أصحابه اليوم أن الكلب طاهر وأن الإناء يغسل منه سبعا عبادة ولا يهرق شيء مما ولغ فيه غير الماء وحده ليسارة مئونته وأن من توضأ به إذا لم يجد غيره أجزأه وأنه لا يجوز التيمم لمن كان معه ماء ولغ فيه كلب وأنه لم يدر ما حقيقة هذا الحديث واحتج بأنه يؤكل صيده فكيف يكره لعابه وقال مع هذا كله لا خير فيما ولغ فيه كلب ولا يتوضأ به أحب إلي هذا كله روى بن القاسم عنه وقد روى عنه بن وهب أنه لا يتوضأ بماء ولغ فيه كلب ضاريا كان الكلب أو غير ضار ويغسل الإناء منه سبعا وقد كان مالك في أول أمره يفرق بين كلب البادية وغيره في ذلك ثم رجع إلى ما ذكرت لك فتحصيل مذهب مالك أن التعبد إنما ورد في غسل الإناء الطاهر من ولوغ الكلب خاصة من بين سائر الطاهرات وشبهه أصحابنا بأعضاء الوضوء الطاهرة تغسل عبادة وقال الشافعي وأصحابه الكلب نجس وإنما وردت العبادة في غسل نجاسته سبعا تعبدا فهذا موضع الخصوص عنده لا أنه طاهر خص بالغسل عبادة واحتج هو وأصحابه بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في غير ما حديث إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فأريقوه ثم اغسلوه سبع مرات قالوا فأمر بإراقة الماء كما أمر بطرح الفأرة التي وقعت في السمن واحتجوا بالإجماع على أنه لا يجوز أن يغسل الإناء بذلك الماء ولو كان طاهرا لجاز غسله به

وقالوا لو كان عبادة في غسل طاهر لوردت الغسلات فيه على جهة الفضل كالوضوء وقد أجمعوا أن جميع الغسلات واجب فدل على أنه ليس كأعضاء الوضوء قالوا ولو كان عبادة في غسل الإناء الطاهر لوجب غسله عند الولوغ أريد استعمال الإناء أم لا وقد أجمعوا أنه لا يلزم غسله إلا عند الاستعمال فدل على أنه لنجاسة لا لطهارة لأنه لا يحل لنا استعمال الأنجاس والكلام لهم وعليهم يطول ذكره وقد تقصيناه في غير هذا الكتاب وقال أبو حنيفة وأصحابه الكلب نجس ويغسل الإناء من ولوغه مرتين أو ثلاثا كسائر النجاسات من غير حد فردوا الأحاديث في ذلك وما صنعوا شيئا واحتج الطحاوي بأن أبا هريرة هذا هو الذي روى الحديث وعلم مخرجه وكان يفتي بغسل الإناء من ولوغه مرتين أو ثلاثا فدل ذلك على أنه لم يصح عنه أو قد علم ما نسخه وهذا عند الشافعي غير لازم لأن الحجة في السنة لا فيما خالفها ولم يصل إلينا قول أبي هريرة إلا من جهة أخبار الآحاد كما وصل إلينا المسند من جهة أخبار الآحاد العدول فالحجة في المسند وإذا جاز للكوفيين أن يقولوا لو صح الحديث عند أبي هريرة ما خالفه جاز لخصمائهم أن يقولوا لا يجوز أن يقبل عن أبي هريرة خلاف ما رواه وشهد به على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رواه عنه الثقات الجماهير لأن في تركه ما رواه وشهد به على رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن يحكى عنه ما ينسخه جرحه ونقيصة وحاش للصحابة من ذلك فهم أطوع الناس لله ولرسوله وقد روي عن أبي هريرة أنه أفتى بغسل الإناء سبعا من ولوغ الكلب وهذا أولى من رواية من روى عنه أنه خالف ما رواه بغير حجة سوى الظن الذي لا يغني من الحق شيئا وما أعلم للكوفيين سلفا في ذلك إلا ما ذكره معمر قال سألت الزهري عن الكلب يلغ في الإناء قال يغسل ثلاث مرات وقال عبد الرزاق عن بن جريج سألت عطاء كم يغسل الإناء الذي يلغ فيه الكلب قال سبعا وخمسا وثلاثا كل ذلك قد سمعت وقال الثوري والليث بن سعد في غسل الإناء من ولوغ الكلب كقول أبي

حنيفة يغسل حتى يغلب على القلب أن النجاسة قد زالت من غير حد وقال الأوزاعي سؤر الكلب في الإناء نجس وفي المستنقع غير نجس قال ويغسل الثوب من لعابه ويغسل ما أصاب الصيد من لعابه وقال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور والطبري سؤر الكلب نجس ويغسل الإناء منه سبعا أولاهن بالتراب وهو قول أهل الظاهر وقال داود سؤر الكلب طاهر وغسل الإناء منه سبعا فرض إذا ولغ فيه وما في الإناء من طعام وشراب أو ماء فهو طاهر يؤكل الطعام ويتوضأ بذلك الماء ويغسل سبعا لولوغه فيه وروى بن القاسم عن مالك أنه لا يغسل الإناء من ولوغ الكلب إلا إذا ولغ في الماء وأما إن كان فيه طعام فيؤكل كل الطعام ولا يغسل الإناء وروى بن وهب عنه أنه يؤكل الطعام ويغسل الإناء سبعا ولا يراق الماء وحده وتحصيل مذهبه عند أصحابه أن غسل الإناء من ولوغ الكلب استحباب وكذلك يستحب لمن وجد غيره ألا يتوضأ به وفي التمهيد زيادات عن مالك في هذا الباب وكذلك عن الشافعي وغيرهما وذكرنا هناك طرفا من احتجاجاتهم إذ لا يمكن تقصي اعتراضاتهم وبالله التوفيق حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا محمد بن وضاح حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم قال حدثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي وعبد الرحمن بن نمر أنهما سمعا بن شهاب الزهري يقول في إناء قوم ولغ فيه كلب فلم يجدوا ماء غيره قال يتوضأ به قال الوليد فذكرته لسفيان فقال هذا والله الفقه يقول الله تعالى فلم تجدوا ماء وهذا ماء وفي النفس منه شيء فأرى أن يتوضأ به ويتيمم قال الوليد والوجه في هذا أن يتيمم ويصلي ثم يتوضأ بذلك الماء ويصلي خوفا من أن يكون من أهل الماء فلا تجزئه الصلاة بالتيمم ثم إذا وجد ماء غيره غسل أعضاءه وما مس ذلك الماء من ثيابه قال الوليد وقلت لمالك بن أنس والأوزاعي في كلب ولغ في إناء ماء فقالا لا يتوضأ به

فقلت لهما إني لم أجد غيره فقالا لي توضأ به إذا لم تجد غيره قلت لهما أيغسل الإناء من ولوغ الكلب المعلم سبعا كما يغسل من غير المعلم قالا نعم مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال استقيموا ولن تحصوا واعملوا وخير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن يتصل معنى هذا الحديث ولفظه مسندا من حديث ثوبان ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي عليه السلام وقد ذكرتها بطرقها في التمهيد وقد رواه سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن رجل يقال له إسماعيل بن أوسط شامي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اعملوا وخير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن قال أبو عمر هو شامي كما قال وهو إسماعيل بن أوسط بن إسماعيل البجلي معدود في الشاميين قليل الحديث يروي عن أبي كبشة عن أبيه وروى عنه المسعودي وغيره وقد روى سفيان بن عيينة أيضا عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن ثوبان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم استقيموا ولن تحصوا واعملوا وخير أعمالكم الوضوء ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن والذي عندي في تأويل هذا الحديث أن قوله استقيموا يعني على الطريقة النهجة التي نهجت لكم وسددوا وقاربوا فإنكم لن تطيقوا الإحاطة في أعمال البر كلها ولا بد للمخلوقين من ملال وتقصير في الأعمال فإن فإن قاربتم ورفقتم بأنفسكم كنتم أجدر أن تبلغوا ما يراد منكم وقد ذكرنا في التمهيد بإسناد عن الحسن في قول الله عز وجل علم أن لن تحصوه المزمل قال لن تطيقوه

باب ما جاء في المسح بالرأس والأذنين مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يأخذ الماء بإصبعيه لأذنيه وقد تقدم في هذا الكتاب عن الصنابحي عن النبي عليه السلام عند قوله فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من أذنيه حكم الأذنين في المسح وغيره وما للعلماء في ذلك من التنازع وكشف مذاهبهم في ذلك ومعاني أقوالهم فلا معنى لتكريره هنا وكذلك مضى القول مستوعبا في مسح الرأس عند قوله عليه السلام في حديث عبد الله بن زيد بن عاصم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ بمقدم رأسه الحديث وتقصينا مذاهب العلماء في مسح الرأس هناك بما يجب من الذكر فيه والحمد لله مالك أنه بلغه أن جابر بن عبد الله الأنصاري سئل عن المسح على العمامة فقال لا حتى يمسح الشعر بالماء وهذا الحديث رواه عبد الرحمن بن إسحاق عن أبي عبيدة عن محمد بن عمار بن ياسر قال سألت جابر بن عبد الله عن المسح على العمامة فقال أمس الشعر بالماء لا أعلم أنه يتصل بغير هذا الإسناد رواه عبد الرحمن بن إسحاق عن يزيد بن زريع وبشر بن الفضل وغيرهما مالك عن هشام بن عروة أن أبا عروة بن الزبير كان ينزع العمامة ويمسح رأسه بالماء مالك عن نافع أنه رأى صفية بنت أبي عبيد امرأة عبد الله بن عمر تنزع خمارها وتمسح على رأسها بالماء ونافع يومئذ صغير وفي هذا الحديث جواز شهادة الصغير إذا أداها كبيرا وفي معناها جواز شهادة الفاسق إذا أداها تائبا صالحا وشهادة الكافر إذا أداها مسلما

وأما المسح على الرأس فقد تقدم القول فيه مستوعبا في حديث عمرو بن يحيى المازني من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم وأما المسح على العمامة فاختلف أهل العلم في ذلك واختلفت فيه الآثار فروي عن النبي عليه السلام أنه مسح على عمامته من حديث عمرو بن أمية الضمري وحديث بلال وحديث المغيرة بن شعبة وحديث أنس وكلها معلومة وقد خرج البخاري في الصحيح عنده عن عمرو بن أمية الضمري وقد ذكرنا إسناده والعلة فيه ببيان واضح في كتاب الأجوبة عن المسائل المستغربة من كتاب البخاري فمن أراد الوقوف على ذلك تأمله هناك والحمد لله وروي عن جماعة من السلف من الصحابة والتابعين ذكرهم المصنفون بن أبي شيبة وعبد الرزاق وبن المنذر أنهم أجازوا المسح على العمامة وبه قال الأوزاعي وأبو عبيد القاسم بن سلام وأحمد وإسحاق وأبو ثور للآثار الواردة في ذلك وقياسا على الخفين ولأن الرأس والرجلين عندهم ممسوحان ساقطان في التيمم واختلاف هؤلاء فيمن مسح على العمامة ثم نزعها كاختلافهم فيمن مسح على الخفين ثم نزعهما واختلفوا إذا انحل كور منها أو كوران بما لم أر لذكره وجها ها هنا وقالت طائفة من هؤلاء يجوز مسح المرأة على الخمار ورووا عن أم سلمة زوج النبي عليه السلام أنها كانت تمسح على خمارها وأما الذين لم يروا المسح على العمامة ولا على الخمار فعروة بن الزبير والقاسم بن محمد والشعبي والنخعي وحماد بن أبي سليمان وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وأصحابهم وفي الموطأ سئل مالك عن المسح على العمامة وعلى الخمار فقال لا ينبغي أن يمسح الرجل ولا المرأة على عمامة ولا خمار وليمسحا على رؤوسهما والحجة لمالك ومن قال بقوله ظاهر قوله تعالى وامسحوا برؤوسكم المائدة ومن مسح على العمامة فلم يمسح برأسه وقد أجمعوا أنه لا يجوز مسح الوجه في التيمم على حائل دونه فكذلك الرأس

والخطاب في قوله فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه النساء كالخطاب في قوله وامسحوا برؤوسكم ولا وجه لما اعتلوا به من أن الرأس والرجلين ممسوحان وأنه لما اتفقوا على المسح على الخفين فكذلك العمامة لأن الرجلين عند الجمهور مغسولتان ولا يجزئ المسح عليهما دون حائل وقد قام الدليل على وجوب الغسل لهما فلا معنى للاعتبار بغير ذلك فإن قيل إن الرأس والرجلين يسقطان في التيمم فدل على أنهما ممسوحان قيل له وقد يسقط بدن الجنب كله في التيمم ولا يعتبر بذلك فسقط ما اعتلوا به وقد بينا وجه القول في مسح القدمين وغسلهما ورجحنا الغسل واحتججنا له في غير هذا الموضع بما يغني عن إعادته ها هنا فإن قيل فهب أن الرجلين مغسولتان هلا كان المسح على العمامة قياسا عليهما في الخفين قيل له قد أجمعوا على أن المسح على الخفين مأخوذ من طرق الأثر لا من طريق القياس ولو كان من طريق القياس لوجب القول بالمسح على القفازين وعلى كل ما غيب الذراعين من غير علة ولا ضرورة فدل على أن المسح على الخفين خصوص لا يقاس عليه ما كان في معناه ولما لم يجز أن يقاس الذراعان وهما مغسولان على الرجلين المغسولتين إذا كان كل واحد منهما مغيبا فيما يستره مما يصلح لباسه فأحرى ألا يقاس العضو المستور بالعمامة وهو ممسوح على عضو مغسول إذ كان كل واحد منهما مغيبا وهذا ما لا ينكره أحد من العلماء القائلين بالقياس وبالله التوفيق وفي هذا الباب وسئل مالك عن رجل توضأ فنسي أن يمسح برأسه حتى جف وضوءه فقال أرى أن يمسح برأسه وإن كان قد صلى أن يعيد الصلاة هذا يدل من قوله على أن الفور لا يجب عنده إلا مع الذكر وأن النسيان يسقط وجوبه ولذلك أوجب على العامد لترك مسح رأسه مؤخرا لذلك أو لشيء من مفروض وضوئه استئناف الوضوء من أوله ولم يره على الناسي

باب المسح على الخفين مالك عن بن شهاب عن عباد بن زياد وهو من ولد المغيرة بن شعبة عن أبيه عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب لحاجته في غزوة تبوك قال المغيرة فذهبت معه بماء فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكبت عليه الماء فغسل وجهه ثم ذهب يخرج يديه من كمي جبته فلم يستطع من ضيق كمي الجبة فأخرجهما من تحت الجبة فغسل يديه ومسح برأسه ومسح على الخفين فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الرحمن بن عوف يؤمهم وقد صلى بهم ركعة فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة التي بقيت عليهم ففزع الناس فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أحسنتم قال أبو عمر حديث مالك عن بن شهاب عن عباد بن زياد في المسح على الخفين قد ذكرنا في التمهيد علة إسناده وما وقع لمالك وبعض الرواة عنه من الوهم فيه وذكرنا هناك طرقه عن المغيرة من حديث بن شهاب وغيره بما فيه شفاء لذلك المعنى والحمد لله وذكرنا هناك أيضا من روى المسح على الخفين من الصحابة عن النبي عليه السلام كما رواه المغيرة ومن أفتى به وعمل به منهم رضي الله عنهم ومن التابعين وجماعة فقهاء المسلمين وأنهم الكافة والجماعة والعامة التي لا يحصى عددها وصحبنا منهم أعدادا فوصلت الرواية إلينا بذلك عنهم فمن أراد الوقوف على ذلك نظر إليه هناك وفي حديث مالك هذا من العلم ضروب منها خروج الإمام بنفسه في الغزو لجهاد العدو وكانت تلك غزوة تبوك آخر غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وذلك في سنة تسع من الهجرة وهي الغزوة المعروفة بغزوة العسرة قال بن إسحاق خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك فصالحه أهل أيلة وكتبت لهم كتابا

وذكر خليفة بن خياط عن المدائني كان خروجه إليها في رجب ولم يختلفوا أن ذلك في سنة تسع وفيه أدب الخلاء والبعد عن الناس عند حاجة الإنسان وفيه على ظاهر حديث مالك وأكثر الروايات ترك الاستنجاء بالماء مع وجود الماء لأنه لم يذكر أنه استنجى بالماء وإنما ذكر أنه صب عليه فغسل وجهه ويديه ومسح برأسه وعلى الخفين وفي غير حديث مالك فتبرز ثم جاء فصببت على يديه من الإداوة فغسل كفيه وتوضأ وفي حديث الشعبي عن عروة بن المغيرة عن أبيه فخرج لحاجته ثم أقبل حتى جئته بالإداوة وفي الآثار كلها أن الإداوة كانت مع المغيرة وليس في شيء منها أنه ناولها رسول الله فذهب بها ثم لما انصرف ردها إليه وأمره أن يصب منها عليه ولو كان ذلك فيها أو في شيء منها بان بذلك أنه استنجى بالماء ولكن لم يذكر ذلك في شيء من الآثار فلذلك استنبط من تقدم من أصحابنا من هذا الحديث أنه جائز الاستجمار بالأحجار مع وجود الماء وقال بن جريج وغيره في هذا الحديث فتبرز لحاجته قبل الغائط فحملت معه إداوة وقال معمر فتخلف وتخلفنا معه بإداوة واستدل بهذا وما كان مثله من كره الأحجار مع وجود الماء من العلماء فإن صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنجى بالماء يومئذ من نقل من يقبل نقله وإلا فالاستدلال من حديث مالك وما كان مثله صحيح بأن في هذا الحديث ترك الاستنجاء بالماء والعدول عنه إلى الأحجار مع وجود الماء وأي الأمرين كان فإن الفقهاء اليوم مجمعون على أن الاستنجاء بالماء أطهر وأطيب وأن الأحجار رخصة وتوسعة وأن الاستنجاء بها جائز في السفر والحضر وقد مضى القول في أحكام الاستنجاء فيما مضى من هذا الكتاب وفيه لبس الضيق من الثياب بل ينبغي أن نقول وذلك في الغزو مستحب لماء في ذلك من التأهب والانشمار والتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في لباسه مثل ذلك في السفر وليس به بأس عندنا في الحضر لأنه لم يوقف على أن ذلك لا يكون إلا في السفر

وفيه أن العمل الذي لا طول فيه جائز بين أثناء الوضوء لمن اضطر إليه ولا يلزم مع ذلك استئناف الوضوء وذلك إذا كان ذلك من أسباب الوضوء كاستقاء الماء وغسل الإناء ونزع الخف وما أشبه ذلك فإن أخذ المتوضئ في غير عمل الوضوء وطال تركه للوضوء استأنفه من أوله ولا ينبغي لأحد أن يدخل على نفسه شغلا وهو يتوضأ حتى يفرغ من وضوئه وإذا كان العمل اليسير في الصلاة لا يقطعها فهو أحرى ألا يقطع الوضوء وفيه أن الرجل الفاضل والعالم والسلطان جائز أن يخدم ويعان على حوائجه وإن كان أعوانه في ذلك أحرارا ليسوا بغلمان رق وفيه الوضوء بما لا تدخل فيه اليد من الآنية فإذا كان كذلك حسن الصب حينئذ منه على المتوضئ وفيه انه إذا خيف فوت وقت الصلاة أو فوت الوقت المختار منها لم ينتظر الإمام وإن كان فاضلا جدا وقد احتج الشافعي بأن أول الوقت أفضل بهذا الحديث وقال معلوم أن النبي عليه السلام لم يكن ليشتغل عن الصلاة حتى يخرج وقتها كلها وقال لو أخرت الصلاة لشيء من الأشياء عن أول وقتها لأخرت لإمامته عليه السلام وفضل الصلاة معه إذ قدموا عبد الرحمن بن عوف في السفر وفيه جواز أن يقدم الناس في مساجدهم إماما لأنفسهم بغير إذن الوالي وأن ذلك ليس كالجمعة التي هي إلى الولادة ولا يفتات عليهم فيها إلا أن يعطلوها أو تنزل نازلة ضرورة وفيه جواز ائتمام الوالي في عمله برجل من رعيته وفيه بيان لقول النبي عليه السلام لا يؤمن أحدكم في سلطانه إلا بإذنه يعني بدليل هذا الحديث إلا لفضل في الوقت وخوف فوته وفي معنى ذلك ما كان أشد ضرورة من ذلك أو مثله

وفيه جواز صلاة الفاضل خلف المفضول وفيه أنه رسول الله حين صلى مع بن عوف ركعة جلس معه في الأولى ثم قضى ما فاته من الأخرى فكان فعله هذا كقوله إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ذلك في فعلهم ذلك أحسنتم دليل أنه ينبغي أن يحمد ويشكر كل من برز إلى أداء فرضه وعمل ما يجب عليه عمله وفيه فضل لعبد الرحمن إذ قدمه جماعة الصحابة لأنفسهم في صلاتهم بدلا من نبيهم عليه السلام وفيه الحكم الجليل الذي فرق بين أهل السنة وأهل البدع وهو المسح على الخفين لا ينكره إلا مبتدع خارج عن جماعة المسلمين فأهل الفقه والأثر لا خلاف بينهم في ذلك بالحجاز والعراق والشام وسائر البلدان إلا قوما ابتدعوا فأنكروا المسح على الخفين وقالوا إنه خلاف القرآن وعمل القرآن نسخه ومعاذ الله أن يخالف رسول الله كتاب الله الذي جاء به قال الله تعالى وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم النحل وقال فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما النساء والقائلون بالمسح على الخفين هم الجم الغفير والعدد الكثير الذين لا يجوز عليهم الغلط ولا التشاغر ولا التواطؤ وهم جمهور الصحابة والتابعين وهم فقهاء المسلمين وقد روي عن مالك إنكار المسح على الخفين في السفر والحضر وهي رواية أنكرها أكثر القائلين بقوله والروايات عنه بإجازة المسح على الخفين في الحضر والسفر أكثر وأشهر وعلى ذلك بنى موطأه وهو مذهبه عند كل من سلك اليوم سبيله لا ينكره منهم أحد والحمد لله

وروى شعبة والثوري وبن عيينة وأبو معاوية وغيرهم عن الأعمش عن إبراهيم عن همام بن الحارث قال رأيت جريرا بال وتوضأ من مطهرة ومسح على خفيه فقيل له أتفعل هذا فقال وما يمنعني أن أفعل وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله قال إبراهيم فكانوا يعني أصحاب عبد الله وغيرهم يعجبهم هذا الحديث ويستبشرون به لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة وقد ذكرنا هذا الخبر عن جرير وعن إبراهيم من طرق في التمهيد أخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا داود قال حدثنا علي بن الحسين الدرهمي قال حدثنا أبو داود عن بكير بن عامر عن أبي زرعة عن عمرو بن جرير أن جريرا بال ثم توضأ ومسح على الخفين فقيل له في ذلك فقال أما ينبغي أن أمسح وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح قالوا إنما كان ذلك قبل نزول المائدة قال ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة قال أبو عمر قال أهل السير كان إسلام جرير في آخر سنة عشر وقيل في أول سنة عشر وقيل في أول سنة إحدى عشرة وفيها مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تأول جماعة من العلماء قول الله عز وجل وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين المائدة أنه أراد إذا كانا في الخفين نحو أربعين من الصحابة وقد روي عن الحسن البصري أنه قال أدركت سبعين رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحون على الخفين وعمل بالمسح على الخفين أبو بكر وعمر وعثمان وعلى وسائر أهل بدر وأهل الحديبية وغيرهم من المهاجرين والأنصار وقد ذكرنا كثيرا منهم في التمهيد ولم يرو عن أحد من الصحابة إنكار المسح على الخفين إلا عن بن عباس وعائشة وأبى هريرة فأما بن عباس وأبو هريرة فقد جاء عنهما بالأسانيد الصحاح خلاف ذلك وموافقة لسائر الصحابة ذكر أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن إدريس عن فطر قال قلت لعطاء إن عكرمة يقول قال بن عباس سبق الكتاب الخفين قال عطاء كذب عكرمة أنا رأيت بن عباس يمسح عليهما

وروى أبو زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة أنه كان يمسح على خفيه وذكر الأثرم قال سمعت أحمد بن حنبل وقيل له ما تقول فيما روي عن أبي هريرة وأبي أيوب وعائشة في إنكار المسح على الخفين فقال إنما روي عن أبي أيوب أنه قال حبب إلي الغسل فإن ذهب ذاهب إلى قول أبي أيوب الأنصاري حبب إلي الغسل لم أعبه قال إلا أن يترك رجل المسح ولا يراه كما صنع أهل البدع فهذا لا يصلى خلفه ثم قال نحن لا نذهب إلى قول أبي أيوب ونرى المسح أفضل ثم قال ومن تأول تأويلا سائغا لا يخالف فيه السلف صلينا خلفه وإن كنا نرى غيره ثم قال لو أن رجلا لم ير الوضوء من الدم ونحن نراه كنا لا نصلي خلفه إذا كنا لا نصلي خلف سعيد بن المسيب ومالك ومن سهل في الوضوء من الدم قال أبو عمر لا أعلم أحدا من الصحابة جاء عنه إنكار المسح على الخفين ممن لا يختلف عليه فيه إلا عائشة وكذلك لا أعلم أحدا من فقهاء المسلمين روي عنه إنكار ذلك إلا مالكا والروايات الصحاح عنه بخلاف ذلك موطؤه يشهد للمسح على الخفين في الحضر والسفر وعلى ذلك جميع أصحابه وجماعة أهل السنة وإن كان من أصحابنا من يستحب الغسل ويفضله على المسح من غير إنكار للمسح على معنى ما روي عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال أحب إلي الغسل وقد ذكرنا في التمهيد حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن عن بن عمر أنه كان يقول لا يحيكن في صدر أحدكم المسح على الخفين وإن جاء من الغائط لأني كنت من أشد الناس في المسح وذكر بن أبي شيبة حدثنا هشيم عن مغيرة عن إبراهيم قال مسح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخفين فمن ترك ذلك رغبة عنه فإنما هو من الشيطان حدثنا محمد بن زكريا حدثنا أحمد بن شعيب حدثنا أحمد بن خالد حدثنا مروان بن عبد الملك حدثنا أبو حاتم حدثنا الأصمعي حدثنا المعتمر بن سليمان قال كان أبي لا يختلف عليه في شيء من الدين إلا أخذ بأشده إلا المسح على الخفين فإنه كان يقول هو السنة واتباعها الأفضل وقد زدنا هذا المعنى بيانا في التمهيد واختلف الفقهاء في المسح في السفر فروي عن مالك ثلاث روايات في ذلك

إحداها وفي أشدها نكارة إنكاره المسح في السفر والحضر والثانية كراهية المسح في الحضر وإباحته في السفر والثالثة إباحة المسح في السفر والحضر وعلى ذلك فقهاء الأمصار بالحجاز والعراق والشام والمشرق والمغرب وقد روي عن النبي عليه السلام أحاديث في المسح في الحضر كلها معلولة قد ذكرناها في التمهيد وأحسنها ما حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بن وضاح قال حدثنا أبو الطاهر أحمد بن عمر بن السرح قال حدثنا عبد الله بن نافع عن داود بن قيس عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أسامة بن زيد أن النبي عليه السلام دخل دار رجل فتوضأ ومسح على خفيه قال بن وضاح فقلت لأبي علي عبد العزيز بن عمران بن مقلاص أمسح رسول الله على خفيه في الحضر قال نعم ثم حدثني بهذا الحديث عن الشافعي عن عبد الله بن نافع بإسناده مثله قال بن نافع وقال لي أبو مصعب دار حمل بالمدينة قال وقال لي زيد بن بشر عن بن وهب قد مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر قال أبو عمر وقد ذكرنا حديث أسامة بن زيد هذا من طرق في التمهيد كلها من طريق عبد الله بن نافع وأن مالكا انفرد به بالإسناد المذكور وذكرنا هناك أيضا أن عيسى بن يونس انفرد به عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة بقوله كنت أمشي مع النبي عليه السلام بالمدينة فأتى سباطه قوم فبال قائما ثم توضأ ومسح على خفيه ولم يقل فيه أحد بالمدينة غير عيسى بن يونس وهو ثقة فاضل إلا أنه خولف في ذلك عن الأعمش وسائر من رواه عن الأعمش لا يقول فيه بالمدينة قال بن وضاح السباطة المزبلة والمزابل لا تكون إلا في الحضر والله أعلم

قال أبو عمر قول بن وضاح المزابل لا تكون إلا في الحضر تحكم منه وممكن أن تكون في البادية في الحضر ومن مر بالبادية من المسافرين لم يمتنع عليه البول عليها وأظن بن وضاح إنما قصد بقوله الاحتجاج لرواية عيسى بن يونس أن ذلك كان بالمدينة فجاء بلفظ غير مهذب والله أعلم قال أبو عمر احتج بعض من لم ير المسح في الحضر من أصحابنا بحديث شريح بن هانئ أنه سأل عائشة أم المؤمنين عن المسح على الخفين فقالت له سل عليا فإنه كان يغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في الحديث أكثر من جهل عائشة المسح على الخفين وليس من جهل شيئا كمن علمه وقد سأل شريح بن هانئ عليا كما أمرته عائشة فأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في المسح على الخفين ثلاثة أيام للمسافر ويوم وليلة للمقيم وهو حديث ثابت صحيح نقله أئمة حفاظ حدثنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا بكر بن حماد حدثنا مسدد حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة عن الحكم عن القاسم بن محمد عن شريح بن هانئ قال سألت عائشة عن المسح على الخفين فقالت سل علي بن أبي طالب فإنه كان يغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوم وليلة للمقيم رفعه كما رفعة شعبة وأبو خالد الدالاني عن الحكم وأبو معاوية عن الأعمش عن الحكم وكذلك رواه مرفوعا عن المقدام بن شريح عن أبيه ومن رفعه أحفظ وأثبت ممن وقفه وأحتج بعض أصحابنا للمسح في السفر دون الحضر بأنها رخصة لمشقة السفر

قياسا على الفطر والقصر وهذا ليس بشيء لأن القياس والنظر لا يعرج عليه مع صحة الأثر واختلف العلماء في توقيت المسح على الخفين فقال مالك وأصحابه والليث بن سعد لا وقت للمسح على الخفين ومن لبس خفيه وهو طاهر يمسح ما بدا له في الحضر والسفر المقيم والمسافر في ذلك سواء وروي مثل ذلك عن عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص وعقبة بن عامر وعبد الله بن عمر والحسن البصري وقد ذكرنا الأسانيد عنهم في التمهيد وروي في المسح بلا توقيت عن النبي عليه السلام حديث أبي بن عمارة وهو حديث لا يثبت وليس له إسناد قائم وقال أبو حنيفة وأصحابه وسفيان الثوري والأوزاعي والحسن بن حي والشافعي وأحمد بن حنبل وداود والطبري للمقيم يوم وليلة وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وقد روي عن مالك التوقيت في المسح في رسالته إلى بعض الخلفاء وأنكر ذلك أصحابه وروي التوقيت عن النبي عليه السلام من وجوه كثيرة من حديث علي بن أبي طالب وخزيمة بن ثابت وصفوان بن عسال وأبي بكرة وغيرهم وروي عن عمر بن الخطاب التوقيت في المسح على الخفين من طرق قد ذكرتها في التمهيد أكثرها من حديث أهل العراق وبأسانيد حسان وثبت ذلك عن علي وبن مسعود وبن عباس وسعد بن أبي وقاص على اختلاف عنه وعمار بن ياسر وحذيفة وأبي مسعود الأنصاري والمغيرة بن شعبة وغيرهم وعليه جمهور التابعين وأكثر الفقهاء وهو الاحتياط عندي لأن المسح ثبت بالتواتر واتفق عليه جماعة أهل السنة واطمأنت النفس إلى ذلك فلما قال أكثرهم إنه لا يجوز المسح للمقيم أكثر من يوم وليلة خمس صلوات ولا يجوز للمسافر أكثر من خمس عشرة صلاة ثلاثة أيام ولياليها وجب على العالم أن يؤدي صلاته بيقين واليقين الغسل حتى يجمعوا على المسح ويتفق جمهورهم على ذلك ويكون الخارج عنهم في ذلك شاذا كما شذ عن جماعتهم من لم ير المسح ذكر أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا حاتم بن إسماعيل بن عبد الرحمن بن حرملة

قال قال لي سعيد بن المسيب إذا أدخلت رجليك في الخفين وهما طاهران وأنت مقيم كفاك إلى مثلها من الغد وللمسافر ثلاث ليال واختلف الفقهاء أيضا في الخف المخرق والمسح عليه فقال مالك وأصحابه يمسح عليه إذا كان الخرق يسيرا ولم تظهر منه القدم فإن ظهرت منه القدم لم يمسح عليه وقال بن خويز منداد معناه أن يكون الخرق لا يمنع الانتفاع به ومن لبسه يكون مثله يمشي فيه وينتفع به وبنحو قول مالك في ذلك قال الثوري والليث بن سعد والشافعي على اختلاف عنهم في ذلك وقد روي عن الثوري إجازة المسح على الخف المخرق وإن تفاحش خرقه قال بعضهم عنه ما دام يسمى خفا قال وقد كان خفاف المهاجرين والأنصار لا تسلم من الخرق وروي عن الشافعي فيه تشديد قال في الكتاب المصري إذا كان الخرق في مقدم الرجل فلا يجوز أن يمسح عليه إذا بدا منه شيء وقال الأوزاعي يمسح على الخف وعلى ما ظهر من القدم وهو قول الطبري وأصله جواز المسح إذا كان ما ظهر منه يغطيه الجورب وإن ظهر شيء من القدم لم يمسح وهذا على أصله في إجازة المسح على الجوربين إذا كانا ثخينين وهو قول الثوري وأبي يوسف ومحمد ولا يجوز المسح على الجوربين عند أبي حنيفة والشافعي إلا أن يكونا مجلدين وهو أحد قولي مالك ولمالك قول آخر لا يجوز المسح على الجوربين وإن كانا مجلدين واختلفوا فيمن نزع خفيه بعد أن مسح عليهما فقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما إذا كان ذلك غسل قدميه وقال مالك والليث مثل ذلك إلا أنهما قالا إن غسلهما مكانه أجزأه وإن أخر غسلهما استأنف الوضوء

وقال الحسن بن حي إذا خلع نعليه أعاد الوضوء من أوله ولم يفرق بين تراخي الغسل وغيره وقال بن أبي ليلى وداود إذا نزع خفيه بعد المسح صلى كما هو وليس عليه غسل رجليه ولا استئناف الوضوء قياسا على مسح شعر الرأس وقال بكل قول من هذه الأقوال جماعة من فقهاء التابعين وروي عن الأوزاعي في هذه روايتان إحداهما يعيد الوضوء والأخرى أنه يغسل رجليه خاصة وعن إبراهيم النخعي في ذلك ثلاث روايات إحداها أنه لا شيء عليه مثل قول بن أبي ليلى وهو قول الحسن البصري والثانية أن يعيد الوضوء والثالثة أن يغسل قدميه فوجه قول بن أبي ليلى ومن قال بقوله أن نزع الخف ليس بحدث وقد كان على طهارة تجب له الصلاة بها ثم اختلفوا فلا يزيل اختلافهم طهارته وشبهه بعضهم بالمسح على الرأس ثم حلقه ومن قال يغسل قدميه حجته أن العلة الموجبة للمسح مغيب القدمين في الخفين فإذا ظهرتا عاد الحكم إلى أصله فوجب غسله ومن قال بغسلهما مكانه وابتدأ الوضوء راعى تبعيض الوضوء وهذا المعنى راعى من رأى استئناف الوضوء والله أعلم وفي التمهيد مسائل من هذا الباب وآثار كثيرة ليس موضع ذكرها هذا الكتاب وأما حديث مالك في تأخير المسح على الخفين حين بال في السوق وتوضأ فمحمول عند أصحابنا أنه نسي لا أنه تعمد تبعيض وضوئه وهو محتمل لذلك وليس في حديث أنس موضع للقول غير المسح في الحضر والباب كله يدل عليه مالك عن نافع وعبد الله بن دينار أنهما أخبراه أن عبد الله بن عمر قدم الكوفة على سعد بن أبي وقاص وهو أميرها فرآه عبد الله بن عمر يمسح على

الخفين فأنكر ذلك عليه فقال له سعد سل أباك إذا قدمت عليه فقدم عبد الله فنسي أن يسأل عمر عن ذلك حتى قدم سعد فقال أسألت أباك فقال لا فسأله عبد الله فقال عمر إذا أدخلت رجليك في الخفين وهما طاهرتان فامسح عليهما قال عبد الله وإن جاء أحدنا من الغائط فقال عمر نعم وإن جاء أحدكم من الغائط وذكرنا هذا الحديث من طرق عن عبد الله بن دينار وأبي الزبير وأبي سلمة عن عبد الرحمن كلهم عن بن عمر بهذا المعنى وإنكار بن عمر على سعد إنما كان المسح في الحضر لأنه جهل مسح الخفين في الحضر وهو بين في حديث مالك وفي رواية بن جريج عن نافع في هذا الخبر وهو مقيم بالكوفة وهو ظاهر حديث مالك وهذا يقتضي المسح للمقيم فمن أراد رواية هذا الخبر باختلاف ألفاظه واتفاق معانيه نظره في التمهيد وأما قول عمر وشرطه فيه إذا أدخلت رجليك في الخفين وهما طاهرتان فقد ثبت ذلك عن النبي عليه السلام من حديث الشعبي عن عروة بن المغيرة بن شعبة عن أبيه عن النبي عليه السلام رواه عن الشعبي يونس بن أبي إسحاق وذكره بن أبي زائدة ومجالد بن سعيد وغيرهم قال الشعبي شهد لي عروة على أبيه كذلك وشهد أبوه عن النبي عليه السلام وقد ذكرت ذلك كله في التمهيد بالطرق والأسانيد وأجمع العلماء على أنه لا يجوز أن يمسح على الخفين إلا من لبسهما على طهارة إلا أنهم اختلفوا في هذا المعنى فيمن قدم في وضوئه غسل رجليه ولبس خفيه ثم أتم وضوءه هل يمسح عليهما أم لا وهذا إنما يصح على قول من أجاز تقديم أعضاء الوضوء بعضها على بعض ولم يوجب النسق ولا الترتيب فيها وهي مسألة قد ذكرناها فيما تقدم من كتابنا هذا وأما هذه المسألة فقال أبو حنيفة وأصحابه من غسل رجليه ولبس خفيه ثم أكمل وضوءه أجزأه أن يمسح عليهما وقال مالك والشافعي لا يجزئه إلا أن يكون لبس خفيه بعد أن أكمل الوضوء وقال الطحاوي محتجا للكوفيين يجوز أن يقال إن رجليه طاهرتان إذا غسلهما

ولم يكمل الطهارة قبل ذلك كما يقال صلى ركعتين وإن لم يتم صلاته وقال غيره منهم إنما يراعى الحدث والحدث لا يرد إلا على طهارة كاملة فهو كمن يقدم رجليه وحجة أصحابنا أن من لبس خفيه قبل كمال طهارته فكأنه مسحهما قبل غسل رجليه لأن في حديث المغيرة إذا أدخلت رجليك في الخفين وأنت طاهر فامسح عليهما ولا يكون طاهرا إلا بكمال الطهارة وكذلك في حديث أبى بكرة إذا تطهر فلبس خفيه مسح عليهما وهذا يقتضي أن يكون لبسه خفيه بعد تقدم طهارته على الكمال وأما أصحاب الشافعي فيبطلون الطهارة على غير الترتيب وليس عندهم على طهارة من فعل ذلك فكيف يمسح وقد تقدم القول في ذلك لهم وعليهم ومن هذه المسألة تفرع الجواب فيمن لبس أحد خفيه بعد غسل إحدى رجليه وقبل أن يغسل الأخرى فقال مالك لا يمسح على خفيه من فعل ذلك لأنه قد لبس الخف الآخر قبل تمام طهارته وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق وقال أبو حنيفة والثوري والمزني والطبري وداود يجوز له أن يمسح وهو قول طائفة من أصحابنا منهم مطرف وقد أجمعوا أنه لو نزع الخف الأول بعد لبسه جاز له المسح وفي هذا الباب سئل مالك عن رجل توضأ وعليه خفاه وسها عن المسح عليهما حتى جف وضوءه وصلى قال ليمسح على خفيه وليعد الصلاة ولا يعد الوضوء هذا لأن تبعيض الوضوء عنده سهوا لا يضره ولو تعمد ذلك ابتدأ الوضوء وهذا أصل قد تكرر القول فيه باب العمل في المسح على الخفين مالك عن هشام بن عروة أنه رأى أباه يمسح على الخفين قال وكان

لا يزيد إذا مسح على الخفين على أن يمسح ظهورهما ولا يمسح بطونهما مالك أنه سأل بن شهاب عن المسح على الخفين كيف هو فأدخل بن شهاب إحدى يديه تحت الخف والأخرى فوقه ثم أمرهما قال مالك وقول بن شهاب أحب ما سمعت إلي في ذلك ولم يختلف قول مالك أن المسح على الخفين على حسب ما وصف بن شهاب إلا أنه لا يرى الإعادة على من اقتصر على مسح ظهور الخفين إلا في الوقت ومن فعل ذلك وذكر في الوقت مسح أعلاهما وأسفلهما ثم أعاد تلك الصلاة في الوقت وهو قول بن القاسم وجمهور أصحاب مالك إلا بن نافع فإنه رأى الإعادة على من فعل ذلك في الوقت وبعده وكلهم يقول فمن مسح بطونهما دون ظهورهما يعنون أسفلهما دون أعلاهما أعاد أبدا إلا أشهب فإنه لم ير الإعادة من ذلك أيضا إلا في الوقت وقد روي عن بعض أصحاب الشافعي أنه أجاز أن يمسح على باطن الخف دون ظهره وأما الشافعي فقد نص أنه لا يجوز المسح على أسفل الخف ويجزئه على ظهره فقط ويستحب ألا يقصر أحد عن ظهور الخفين وبطونهما معا كقول مالك وبن شهاب وهو قول عبد الله بن عمر ذكر عبد الرزاق عن بن جريج عن نافع عن بن عمر أنه كان يمسح ظهور خفيه وبطونهما ورواه الثوري عن بن جريج ورواه بن وهب عن أسامة بن زيد عن نافع عن بن عمر أنه كان يمسح أعلاهما وأسفلهما وذكر الزبيدي عن الزهري قال إنما هما بمنزلة رجليك ما لم تخلعهما والحجة لمالك والشافعي في مسح ظهور الخفين وبطونهما معا حديث المغيرة بن شعبة عن النبي عليه السلام أنه كان يمسح أعلى الخف وأسفله

رواه ثور بن زيد عن رجاء بن حيوة عن كاتب المغيرة عن المغيرة ولم يسمعه ثور من رجاء وقد بينا علته في التمهيد وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري يمسح ظاهر الخفين دون بطونهما وبه قال أحمد وإسحاق وداود وهو قول علي بن أبي طالب وقيس بن سعد بن عبادة وعروة بن الزبير والحسن البصري وعطاء بن أبي وضاح وجماعة والحجة لهم ما ذكر أبو داود قال حدثنا محمد بن العلاء قال حدثنا حفص بن غياث عن الأعمش عن أبى إسحاق عن عبد خير عن علي قال لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه وروى بن أبي الزناد عن أبيه عن عروة بن الزبير عن المغيرة بن شعبة قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح ظهري الخفين وهذان الحديثان يدلان على بطلان قول أشهب ومن تابعه أنه يجوز الاقتصار بالمسح على باطن الخف ومن جهة النظر ظاهر الخف في حكم الخف وباطنه في حكم النعل ولا يجوز المسح على النعلين وأيضا فإن المحرم لا فدية عليه في النعلين يلبسها ولا فيما له أسفل ولا ظهر له من الخف ولو كان لخف المحرم ظهر قدم ولم يكن له أسفل لزمته الفدية فدل على أن المراعي في الخف ما يستر ظهور القدمين وهو المراعي في المسح والله أعلم باب ما جاء في الرعاف مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا رعف انصرف فتوضأ ثم رجع فبنى ولم يتكلم

مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عباس كان يرعف فيخرج فيغسل الدم عنه ثم يرجع فيبني على ما قد صلى مالك عن يزيد بن عبد الله بن قسيط الليثي أنه رأى سعيد بن المسيب رعف وهو يصلي فأتى حجرة أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فأتي بوضوء فتوضأ ثم رجع فبنى على ما قد صلى في هذا الباب وجوه من الفقه اختلف العلماء قديما وحديثا منها الرعاف هل هو حدث يوجب الوضوء للصلاة أم لا ومنها بناء الراعف على ما قد صلى ومنها بناء المحدث أي حدث كان إذا نزل بالمصلي بعد أن صلى بعض صلاته فانصرف فتوضأ هل يبني على ما صلى أم لا ونحن نورد في هذا الباب ما في ذلك للعلماء مختصرا كافيا بعون الله فأول ذلك قوله عن بن عمر إنه لما رعف انصرف فتوضأ حمله أصحابنا على أنه غسل الدم ولم يتكلم وبنى على ما صلى قالوا وغسل الدم يسمى وضوءا لأنه مشتق من الوضاءة وهي النظافة قالوا فإذا احتمل ذلك لم يكن لمن ادعى على بن عمر أنه توضأ للصلاة في دعواه ذلك حجة لاحتماله الوجهين وكذلك تأولوا حديث سعيد بن المسيب لأنه قد ذكر الشافعي وغيره عنه أنه رعف فمسحه بصوفة ثم صلى ولم يتوضأ قالوا ويوضح ذلك فعل بن عباس أنه غسل الدم عنه وصلى وحمل أفعالهم على الاتفاق منهم أولى وخالف أهل العراق في هذا التأويل فقالوا إن الوضوء إذا أطلق ولم يقيد بغسل دم وغيره فهو الوضوء المعلوم للصلاة وهو الظاهر من إطلاق اللفظ مع أنه معروف من مذهب بن عمر ومذهب أبيه عمر إيجاب الوضوء من الرعاف وأنه كان عندهما حدثا من الأحداث الناقضة للوضوء إذا كان الرعاف

ظاهرا سائلا وكذلك كل دم سال من الجسد وظهر فذكر بن أبي شيبة قال حدثنا هشيم قال أخبرنا بن أبي ليلى عن نافع عن بن عمر قال من رعف في صلاته فلينصرف وليتوضأ فإن لم يتكلم بنى على صلاته وإن تكلم استأنف الصلاة وذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن بن عمر قال إذا رعف الرجل في الصلاة أو ذرعه القيء أو وجد مذيا فإنه ينصرف فيتوضأ ثم عن نافع عن بن عمر قال من رعف في صلاته فلينصرف وليتوضأ ثم يرجع فيتم ما بقي على ما مضى ما لم يتكلم وقال الزهري الرعاف والقيء سواء يتوضأ منهما ويبني ما لم تتكلم وذكر عبد الرزاق عن بن جريج عن عبد الحميد بن جبير أنه سمع سعيد بن المسيب يقول إن رعفت في الصلاة فاسدد منخريك وصل كما أنت فإن خرج من الدم شيء فتوضأ وأتم على ما مضى ما لم تتكلم قال أبو عمر ذكر بن عمر للمذي المجتمع على أن فيه الوضوء مع القيء والرعاف يوضح مذهبه فيما ذكرنا وروي مثل ذلك عن علي وبن مسعود وعلقمة والأسود وعامر الشعبي وعروة بن الزبير وإبراهيم النخعي والحكم بن عتيبة وحماد بن أبي سليمان كلهم يرى الرعاف وكل دم سائل من الجسد حدثا يوجب الوضوء للصلاة وبذلك قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي وعبيد الله بن الحسن والأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه في الرعاف والفصادة والحجامة وكل نجس خارج من الجسد يرونه حدثا ينقض الطهارة ويوجبها على من أراد الصلاة فإن كان الدم يسيرا غير سائل ولا خارج فإنه لا ينقض الوضوء عند جميعهم ولا أعلم أحدا أوجب الوضوء من يسير الدم إلا مجاهدا وحده والله أعلم وقد احتج أحمد بن حنبل في ذلك بأن عبد الله بن عمر عصر بثرة فخرج منها دم ففتله بيده ثم صلى ولم يتوضأ قال أبو عمر قد ذكرنا الخبر عن بن عمر وعن بن أبي أوفى بالإسناد عنهما في التمهيد وفي الموطأ عن سعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله في الدم اليسير الخارج من الأنف إذا غلبه بالفتل حتى لا يقطر ولا يسيل نحو ذلك ومعلوم من مذهب سالم أنه كمذهب أبيه في الرعاف

وذكر بن أبي شيبة حدثنا معمر بن سليمان عن عبيد الله بن عمر قال رأيت سالم بن عبد الله صلى ركعة من صلاة الغداة ثم رعف فخرج فتوضأ ثم جاء فبنى على ما صلى واحتج من رأى الدم السائل من الجسد ينقض الوضوء بحديث مرفوع من حديث عائشة لا يثبته أهل الحديث ولا عندهم له إسناد تجب به حجة واحتجوا أيضا بقول النبي عليه السلام للمستحاضة إنما ذلك عرق وليست بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة فإذا ذهبت فاغتسلي وصلي وتوضئي لكل صلاة قالوا فأوجب عليه السلام الوضوء على المستحاضة من دم العرق والسائل فكذلك كل دم يسيل من الجسد قال أبو عمر قوله في المستحاضة وتوضئي لكل صلاة لفظ قد اختلف فيه رواة ذلك الحديث وسنذكره في باب المستحاضة إن شاء الله وأما مذهب أهل المدينة فقال مالك الأمر عندنا أنه لا يتوضأ من رعاف ولا قيء ولا قيح ولا دم يسيل من الجسد ولا يتوضأ إلا من حدث يخرج من ذكر أو دبر أو نوم هذا قوله في موطئه وعليه جماعة أصحابه وكذلك الدم عنده يخرج من الدبر لا وضوء فيه ولا وضوء عنده إلا في المعتادات من الخارج من المخرجين على ما تقدم عنه في بابه من هذا الكتاب وإليه ذهب داود وقول الشافعي في الرعاف والحجامة والفصد وسائر الدماء الخارجة من الجسد كقول مالك سواء إلا ما يخرج من المخرجين القبل والدبر فإنه عنده حدث ينقض الوضوء وسواء كان الخارج من المخرجين ماء أو حصاة أو دودا أو بولا أو رجيعا على ما تقدم أيضا من مذهبه في موضعه في هذا الكتاب ومن حجته في ذلك أن دم العرق في المستحاضة إنما وجب فيه الوضوء لأنه

خرج من المخرج وكل ما خرج من سبيل البول والغائط ففيه الوضوء قال ولا يجوز قياس سائر الجسد على المخرجين لأنهما مخصوصان في الاستنجاء بالأحجار وبأنهما سبيلا الأحداث المجتمع عليها ليس سائر الجسد يشبههما وممن كان لا يرى في الدماء الخارجة من غير المخرجين وضوءا طاوس ويحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة بن أبي عبد الرحمن وأبو الزناد وبه قال أبو ثور وقال يحيى بن سعيد ما أعلم على الراعف وضوءا قال وهذا الذي عليه الناس والحجة لأهل المدينة ولمن قال بقولهم إن الوضوء المجتمع عليه لا يجب أن يحكم بنقضه إلا بحجة من كتاب أو سنة لا معارض لمثلها أو بالإجماع من الأمة وذلك معدوم فيما وصفنا والله أعلم وأما بناء الراعف على ما قد صلى ما لم يتكلم فقد ثبت ذلك عن عمر وعلي وبن عمر وروي عن أبي بكر أيضا ولا مخالف لهم في ذلك من الصحابة إلا المسور بن مخرمة وحده وروي أيضا البناء للراعف على ما صلى ما لم يتكلم عن جماعة التابعين بالحجاز والعراق والشام ولا أعلم بينهم في ذلك اختلافا إلا الحسن البصري فإنه ذهب في ذلك مذهب المسور بن مخرمة إلا أنه لا يبني من استدبر القبلة في الرعاف وغيره وهو أحد قولي الشافعي واستحب ذلك إبراهيم النخعي وبن سيرين ذكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع قال حدثنا الربيع عن الحسن قال إذا استدبر القبلة استقبل وإن التفت عن يمينه أو شماله مضى في صلاته قال وكيع وحدثنا سفيان عن حماد عن إبراهيم قال أحب إلي في الرعاف إذا استدبر القبلة أن يستقبل قال بن أبي شيبة حدثنا هشيم قال حدثنا منصور عن بن سيرين قال أجمعوا على أنه إذا تكلم استأنف قال وأنا أحب أن يتكلم ويستأنف وقال مالك من رعف في صلاته قبل أن يعقد منها ركعة تامة بسجدتيها فإنه ينصرف فيغسل الدم عنه ويرجع فيبتدئ الإقامة والتكبير والقراءة ومن أصابه الرعاف في وسط صلاته أو بعد أن يرجع منها ركعة بسجدتيها انصرف فغسل الدم عنه وبنى على ما صلى حيث شاء إلا الجمعة فإنه لا يتمها إلا في الجامع

قال مالك ولولا خلاف من مضى لكان أحب إلي للراعف أن يتكلم ويبتدئ الصلاة من أولها قال مالك ولا يبنى أحد في القيء ولا في شيء من الأحداث ولا يبنى إلا الراعف وحده وعلى هذا جمهور أصحاب مالك ومنهم من يرى أن يبنى الراعف على ما مضى قليلا كان أو كثيرا وعن الشافعي في الراعف روايتان إحداهما يبني والأخرى لا يبني وأما البناء في سائر الأحداث فقال أبو حنيفة وأصحابه كل حدث سبق المصلي في صلاته بولا كان أو غائطا أو رعافا أوريحا فإنه ينصرف ويتوضأ ويبنى على ما قد صلى وهو قول بن أبي ليلى وبه قال داود يبني في كل حدث بعد أن يتوضأ وليس الرعاف ولا القيء عنده حدثا وهو قول الشافعي في القديم ثم رجع عنه في الكتاب المصري وقال أبو حنيفة وأصحابه من أحدث في ركوعه أو سجوده يعيد ما أحدث فيه ولا يعتد به وكذلك قال مالك في الرعاف إذا رعف قبل تمام الركعة بسجدتيها لم يعتد بها ولم يبن عليها وقال الثوري إذا كان حدثه من رعاف أو قيء توضأ وبنى وإن كان حدثه من بول أو ريح أو ضحك في الصلاة أعاد الوضوء والصلاة وهو قول إبراهيم في رواية وقال الزهري يبني في الرعاف والقيء خاصة بعد أن يتوضأ ولا يبني في سائر الأحداث وليس الضحك في الصلاة حدثا عند الحجازيين وقال الأوزاعي إن كان حدثه من قيء أو ريح توضأ أو استقبل وإن كان من رعاف توضأ وبنى وكذلك الدم كله عنده مثل الرعاف وقال بن شبرمة من أحدث انتقض وضوءه فإن كان إماما قدم رجلا فصلى بقية صلاته فإن لم يفعل وصلى كل رجل ما عليه أجزأه والإمام يتوضأ ويستقبل قال أبو عمر قد أجمع العلماء على أن الراعف إذا تكلم لم يبن فقضى إجماعهم بذلك على أن المحدث أحرى ألا يبني لأن الحدث إن لم يكن كالكلام في مباينته للصلاة كان أشد منه الكلام

وهذا أوضح لمن أراد الله هداه قال أبو عمر روى الكوفيون عن علي وعن سلمان الفارسي فيمن احدث في صلاته من بول أو ريح أو قيء أو رعاف أو غائط أن يتوضأ ويبني إلا أن أكثر الأحاديث عن علي ليس فيها إلا ذكر القيء والرعاف لا غير ولا يصح عنه البناء إلا في القيء والرعاف وهو قول بن شهاب قال أبو عمر واحتج بعض أصحابنا وأصحاب الشافعي في هذا الباب بحديث شعبة عن قتادة عن أبي المليح عن أبيه عن النبي عليه السلام قال لا يقبل الله صدقة من غلول ولا صلاة بغير طهور وبحديث معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا هو أحدث حتى يتوضأ وقد نوزعوا في تأويل ذلك وبالله التوفيق باب العمل في الرعاف مالك عن عبد الرحمن بن حرملة الأسلمي أنه قال رأيت سعيد بن المسيب يرعف فيخرج منه الدم حتى تختضب أصابعه من الدم الذي يخرج من أنفه ثم يصلي ولا يتوضأ مالك عن عبد الرحمن بن المجبر أنه رأى سالم بن عبد الله يخرج من أنفه الدم حتى تختضب أصابعه ثم يفتله ثم يصلي ولا يتوضأ قد مضى في الباب قبل هذا ما يغني عن تكراره فيه ولا أعلم أحدا من العلماء أوجب الوضوء للصلاة من قليل الدم يخرج من الجسد رعافا كان أو غيره إلا ما قدمت لك عن مجاهد

والذين يوجبون الوضوء منه كلهم يراعي فيه أن يغلبه فلا يقدر على فتله لسيلانه وظهوره على ما تقدم وقد مضى مذهب مالك وغيره في هذا الباب والله الموفق للصواب والأصل عندي فيه أنه الوضوء المجتمع عليه لا ينتقض بما فيه تنازع واختلاف إلا أن تصح سنة بذلك يجب التسليم لها ووجه تبويب مالك لهذا الباب بعد الذي قبله أنه أعلم الخلاف في الباب الأول وجعل هذا الباب يبين لك ما عليه العمل عندهم في الدم الخارج من الجسد إلا أنه لا وضوء فيه وأنه لو كان حدثا لاستوى قليله وكثيره كسائر الأحداث وهذا هو الحق وبالله التوفيق باب العمل فيمن غلبه الدم من جرح أو رعاف مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن المسور بن مخرمة أخبره أنه دخل على عمر بن الخطاب من الليلة التي طعن فيها فأيقظ عمر لصلاة الصبح فقال عمر نعم ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة فصلى عمر وجرحه يثعب دما ومعنى يثعب ينفجر وانثعب انفجر وثعب الماء فجره قاله صاحب العين وحديث عمر هذا هو أصل هذا الباب عند العلماء فيمن لا يرقأ دمه ولا ينقطع رعافه أنه لا بد له من الصلاة في وقتها إذا أيقين أنه لا ينقطع قبل خروج الوقت وليس حال من وصفنا حاله بأكثر من سلس البول والمذي لأن البول والمذي متفق على أن خروجهما في الصحة حدث وكذلك اختلفوا في البول والمذي الخارجين لعلة مرض أو فساد هل يوجب خروجهما الوضوء كخروجهما في الصحة وسنذكر هذا في بابه في هذا الكتاب إن شاء الله وفائدة حديث عمر عند أصحابنا أنه صلى وجرحه لا يرقأ ولم يذكر وضوءا وقد نزعوا فيما نزعوا فيه من ذلك وأجمعوا أنه لا يمنع ذلك من أراد الصلاة على كل حال

وذكر عبد الرزاق عن معمر عن هشام بن عروة قال كانت لي دمامل فسألت أبي عنها فقال إذا كانت ترقأ فاغسلهما وتوضأ وإن كانت لا ترقأ فتوضأ وصل وإن خرج منها شيء فإن عمر قد صلى وجرحه يثعب دما وحديث عمر رواه مالك في الموطأ عن هشام بن عروة عن أبيه أن المسور بن مخرمة أخبره أنه دخل على عمر بن الخطاب من الليلة التي طعن فيها فأيقظ عمر لصلاة الصبح فقال عمر نعم ولا حظ في الإسلام لمن تركع الصلاة فصلى عمر وجرحه يثعب دما ورواه سفيان الثوري عن هشام بن عروة عن أبيه قال حدثني سليمان بن يسار أن المسور بن مخرمة أخبره قال دخلت أنا وبن عباس على عمر حين طعن فقلنا الصلاة فقال أما إنه لا حظ لأحد في الإسلام أضاع الصلاة فصلى وجرحه يثعب دما ذكره عبد الرزاق ووكيع عن الثوري وذكر بن وهب قال أخبرني يونس بن يزيد عن بن شهاب أن سليمان بن يسار أخبره أن المسور بن مخرمة أخبره عن عمر بن الخطاب إذ طعن أنه دخل هو وبن عباس من الغد فأفزعوه للصلاة ففزع وقال نعم لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة فصلى والجرح يثعب دما وروى معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن بن عباس قال لما طعن عمر احتملته أنا ونفر من الأنصار حتى أدخلناه منزله فلم يزل في غشية واحدة حتى أسفر الصبح فقال رجل إنكم لن تفزعوه بشيء إلا بالصلاة قال فقلنا الصلاة يا أمير المؤمنين قال ففتح عينيه ثم قال أصلى الناس قلنا نعم قال أما إنه لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة فصلى وجرحه يثعب دما وأما قول عمر لا حظ في الإسلام فالحظ النصيب يقول لا نصيب في الإسلام وقوله يحتمل وجهين أحدهما خروجه من الإسلام بذلك والآخر أنه لا كبير حظ له في الإسلام كما قيل لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ولا إيمان لمن لا أمانة له وليس المسكين بالطواف ونحو هذا وهو كلام خرج على ترك عمل الصلاة لا على جحودها وأجمع المسلمون أن جاحد فرض الصلاة كافر حلال دمه كسائر الكفار بالله وملائكته وكتبه ورسله ولا له دين يفر عليه دمه واختلف في تارك الصلاة وهو قادر عليها غير جاحد بفرضها فثبت عن عمر قوله لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة وثبت عن بن مسعود أنه قال ما تارك الصلاة بمسلم وروي عن النبي عليه السلام أنه قال العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر وآثار كثيرة مذكورة في التمهيد بنحو ذلك وقال مالك وأصحابه إذا أبى من الصلاة وقال لا أصلي ضربت عنقه وهو معنى قول الشافعي وقال الشافعي يقول له الإمام صل فإن قال لا أصلي سئل عن العلة التي من أجلها ترك الصلاة فإن ادعى علة بجسده لا يطيق من أجلها القيام والركوع والسجود قيل له صل كيف أطقت فإن قال لا أصلي وحضر وقتها فلم يصل وأبي حتى خرج وقتها قتله الإمام ذكره الطبري عن الربيع عن الشافعي وذكر المزني قال الشافعي يقال لمن ترك الصلاة حتى خرج وقتها بلا عذر إن صليت وإلا استتبناك فإن تبت وإلا قتلناك كما من يكفر يقال له إن آمنت وإلا قتلناك وقد قيل يستتاب ثلاثا فإن صلى فبها وإلا قتل وذلك حسن قال المزني وقد قال في المرتد إن لم يتب قتل ولا ينتظر به ثلاثا لقوله

عليه السلام من بدل دينه فاضربوا عنقه وقد جعل تارك الصلاة بلا عذر كتارك الإيمان فله حكمه في قياس قوله لأنه عنده مثله فلا ينتظر به ثلاثا وقال أبو حنيفة وأصحابه يعاقب ويضرب ويحبس أبدا حتى يصلي وبه قال داود وذكر الطبري بإسناد له عن الزهري قال إذا ترك الرجل الصلاة فإن كان إنما تركها لأنه ابتدع دينا غير الإسلام قتل وإن كان إنما هو فاسق فإنه يضرب ضربا مبرحا ويسجن حتى يرجع قال والذي يفطر رمضان كذلك قال الطبري وهو قولنا وإليه يذهب جماعة أهل الأمة من أهل الحجاز والعراق مع شهادة النظر له بالصحة وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وطائفة تارك الصلاة وهو مقر بها إذا أبى أن يصليها كافر خارج بذلك من الإسلام فيستتاب فإن تاب وصلى وإلا قتل ولم يرثه ورثته وكان ماله فيئا وقد ذكرنا وجوه هذه الأقوال كلها والاعتلال لها من القرآن والسنة والآثار في التمهيد عند قوله عليه السلام في حديث زيد بن أسلم وحديث بسر بن محجن ما لك لم تصل معنا ألست برجل مسلم فمن أراد الوقوف على ذلك قابله هناك إن شاء الله وفي حديث مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال ما ترون فيمن غلبه الدم من رعاف فلم ينقطع عنه قال مالك قال يحيى بن سعيد ثم قال سعيد بن المسيب أرى أن يومئ برأسه إيماء سؤال العالم وطرحه العلم على تلاميذه وجلسائه وأما قول سعيد أرى أن يومئ برأسه إيماء فذلك لما كان في ترك الإيماء من تلوث ثيابه في ركوعه وسجوده وأنه لا يسلم من كانت تلك حاله من تنجيس موضع سجوده ونجاسه ثيابه

فإذا جاز لمن في الطين المحيط والماء أن يصلي إيماء من أجل الطين فالدم أولى بذلك ولا أعلم مالكا اختلف في قوله في الراعف الذي لا ينقطع رعافه أنه لا يصلي إلا إيماء واختلف قوله في الصلاة في الطين والماء الغالب وفي الصلاة في الطين حديث مرفوع من حديث يعلى بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى مضيق ومعه أصحابه والسماء من فوقهم والبلة من أسفلهم وحضرت الصلاة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤذن وأقام وتقدمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم على راحلته وهم على رواحلهم يومئ إيماء فجعل السجود أخفض من الركوع وقد ذكرناه بإسناده في التمهيد وعن أنس بن مالك وجابر بن زيد وطاوس وعمارة بن غزية أنهم صلوا في الماء والطين بالإيماء والدم أحرى بذلك والله أعلم ذكر بن وهب عن يونس عن بن شهاب قال إذا غلبه الرعاف فلم يقدر على القيام والركوع والسجود أومأ برأسه إيماء باب الوضوء من المذي مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن سليمان بن يسار عن المقداد بن الأسود أن علي بن أبي طالب أمره أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل إذا دنا من أهله فخرج منه المذي ماذا عليه قال علي فإن عندي ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أستحي أن أسأله قال المقداد فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال إذا وجد ذلك أحدكم فلينضح فرجه بالماء وليتوضأ وضوءه للصلاة قال أبو عمر حديث مالك عن أبي النضر عن سليمان بن يسار عن المقداد لم يسمعه سليمان من المقداد ولا من علي لأنه لم يدركهما وقد ذكرنا مولده ووفاته ووفاة المقداد في التمهيد

وإنما روى سليمان بن يسار هذا الخبر عن بن عباس عن علي ذكره بن وهب عن مخرمة بن بكير عن أبيه عن سليمان بن يسار عن بن عباس قال قال علي أرسلت المقداد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن المذي الحديث مذكور في التمهيد ورواه سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء عن بن عباس أنه سمع عليا بالكوفة فذكر الحديث وقد خولف في ذلك عمرو بن دينار على حسب ما ذكرناه في التمهيد وسماع سليمان بن يسار من بن عباس صحيح والحديث ثابت عند أهل العلم صحيح له طرق شتى عن علي وعن المقداد وعن عمار أيضا كلها صحاح حسان أحسنها ما ذكره عبد الرزاق عن بن جريج قال قلت لعطاء أريت إن وجدت المذي أكنت ماسحه مسحا قال لا المذي أشد من البول يغسل غسلا ثم أقبل يحدثنا قال أخبرني عايش بن أنس أخو بني سعد بن ليث قال تذاكر علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر والمقداد بن الأسود المذي فقال علي إني رجل مذاء فاسألوا عن ذلك النبي عليه السلام فإني أستحي أن أسأله عن ذلك لمكان ابنته مني ولولا مكان ابنته لسألته قال عايش فسأله أحد الرجلين عمار أو المقداد قال عطاء قد سماه عايش فنسيته فقال النبي عليه السلام ذلكم المذي إذا وجده أحد منكم فليغسل ذلك منه ثم ليتوضأ فيحسن وضوءه ثم لينضح فرجه قال بن جريج فسألت عطاء عن قول النبي عليه السلام يغسل ذلك منه قلت حيث المذي يغسل منه أم ذكره كله فقال بل حيث المذي منه فقط فقلت لعطاء أرأيت إن وجدت مذيا فغسلت ذكري كله أأنضح مع ذلك فرجي منه قال لا حسبك قال أبو عمر في رواية يحيى عن مالك في هذا الحديث فلينضح فرجه وليتوضأ وضوءه للصلاة وفي رواية بن بكير والقعنبي وبن وهب وسائرهم فليغسل فرجه وليتوضأ وضوءه للصلاة وهذا هو الصحيح وقد رواه عبد الرزاق عن مالك كما رواه يحيى قال فلينضح فرجه

ولو صحت رواية يحيى ومن تابعة كانت مجملة تفسرها رواية غيره لأن النضح في لسان العرب يكون مرة الغسل ومرة الرش وقد ذكرنا شواهد ذلك في غير هذا الموضع ولا يختلفون أن صاحب المذي عليه الغسل لا الرش وإنما اختلفوا فيما يغسل منه الذكر كله فقالت طائفة يغسل منه الذكر كله وقيل لا يغسل منه إلا المخرج كالبول وقد قال عمر فليغسل ذكره مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال إني لأجده ينحدر مني مثل الخريزة فإذا وجد ذلك أحدكم فليغسل ذكره وليتوضأ وضوءه للصلاة يعني المذي واختلف عن بن عباس في ذلك فروى عنه عكرمة وغيره اغسل ذكرك وما أصابك ثم توضأ وضوءك للصلاة وقال عكرمة هي ثلاثة المني والودي والمذي فأما الودي فإنه الذي يكون مع البول وبعده ففيه غسل الفرج والوضوء للصلاة وأما المذي فهو إذا لاعب الرجل امرأته ففيه غسل الفرج والوضوء للصلاة وأما المني فهو الماء الذي تكون فيه الشهوة الكبرى ومنه يكون الولد ففيه الغسل قال أبو عمر يحتمل قوله ففيه غسل الفرج أن يكون الذكر كله ويحتمل أن تكون الحشفة وقد روى عبد الرزاق عن الثوري عن منصور عن مجاهد عن بن عباس في المذي والودي والمني حق الغسل ومن المذي والودي الوضوء يغسل حشفته ويتوضأ وعن الثوري عن زياد بن الفياض قال سمعت سعيد بن جبير يقول في المذي يغسل حشفته

وعن هشيم عن أبي حمزة عن بن عباس في المذي قال اغسل ذكرك وما أصابك وتوضأ وضوءك للصلاة قال أبو عمر أما لفظ المذي عند أهل اللغة ففي الغريب المصنف عن الأموي قال مذيت وأمذيت وهو المذي والمني والودي مشددات قال أبو عبيدة وغيره يخفف المذي والودي قال والصواب عندنا أن المني وحده بالتشديد والآخران بالتخفيف وفي الجمهرة قال والمذي الماء الذي يخرج عند الإنعاظ وليس كالذي يوجب الغسل قال بن دريد ربما قيل المذي مشددا ولم يذكر الودي وفي بعض نسخ العين ودي مشدد وفي بعضهما مخفف وقال مالك المذي عندنا أشد من الودي لأن الفرج يغسل عندنا من المذي والودي عندنا بمنزلة البول وقال مالك وليس على الرجل أن يغسل أنثييه من المذي إلا أن يظن أنهما أصابهما منه شيء قال مالك والودي يكون من الجمام يأتي بأثر البول أبيض خاثرا قال والمذي تكون معه شهوة وهو رقيق إلى الصفرة يكون عند ملاعبة الرجل أهله وعند حدوث الشهوة قال أبو عمر قد جعل مالك المذي أشد من البول وقال لأن الفرج يغسل منه ومعلوم أن البول يغسل منه المخرج والحشفة فإذا كان المذي أشد منه فلا وجه لذلك إلا أن يغسل منه الذكر كله ووجه يحتمله أيضا قد اختلف الفقهاء فيه وهو أنه لا مدخل للأحجار في المذي وأنه لا يستنجى منه بالأحجار كما يصنع بالبول والغائط ولا بد له من الغسل بالماء وهو عندي معنى قول مالك لأن الفرج يغسل من المذي والأصل في النجاسات عنده أنه لا يطهرها إلا الماء وحده إلا ما خص به البول والغائط من الأحجار وذلك لتواترهما ولأنهما ينوبان الإنسان كثيرا فخفف في أمرهما والله أعلم واختلف أصحابنا فيما يغسل من أجل المذي من الذكر

فقال بعضهم يغسل مخرجه كالبول وقال بعضهم يغسل الذكر كله عبادة إلا المخرج فإنه للنجاسة وقد اختلف في ذلك السلف قديما كما ذكرت لك وقال الشافعي لا يجوز الاستنجاء من الدم الخارج من الدبر ولا من المذي كما لا يجوز للمستحاضة أن تستنجي بغير الماء وأبو حنيفة على اصله في جواز إزالة النجاسات بكل ما أزالها ومن الحجة في غسل جميع الذكر من المذي ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم يغسل ذكره ويتوضأ وحمله على عموم الفائدة أولى حدثنا سعيد بن نصر حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا بن وضاح حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع وأبو معاوية وهشيم عن الأعمش عن منذر بن يعلى الثوري عن أبي يعلى عن محمد بن الحنفية عن علي قال كنت رجلا مذاء فكنت أستحي أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته فأمرت المقداد فسأله فقال يغسل ذكره ويتوضأ وليس في شيء من أحاديث المذي ذكر للاستنجاء على كثرتها واختلاف طرقها باب الرخصة في ترك الوضوء من المذي مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه سمعه ورجل يسأله فقال إني لأجد البلل وأنا أصلي أفأنصرف فقال له سعيد لو سال على فخذي ما انصرفت حتى أقضي صلاتي مالك عن الصلت بن زبيد أنه قال سألت سليمان بن يسار عن البلل أجده فقال انضح ما تحت ثوبك بالماء واله عنه وترجمته في هذا الباب بالرخصة في ترك الوضوء من المذي ليست من الباب في شيء لأنه لا رخصة عند أحد من علماء المسلمين في المذي الخارج على الصحة كلهم يوجب الوضوء منه وهي سنة مجمع عليها لا خلاف والحمد لله فيها

حدثنا عبد الوارث بن سفيان وسعيد بن نصر قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بن وضاح حدثنا أبو بكر بن شيبة حدثنا هشيم بن بشر عن يزيد بن أبي زياد قال حدثنا عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المذي فقال فيه الوضوء وفي المني الغسل ولما صح الإجماع في وجوب الوضوء من المذي لم يبق إلا أن تكون الرخصة في خروجه من فساد وعلة فإذا كان خروج كذلك فلا وضوء فيه عند مالك ولا عند سلفه وعلماء أهل بلده لأن ما لا يرقأ ولا ينقطع فلا وجه للوضوء منه ومعنى قول سعيد بن المسيب أنه يلزم من فحش سلس بوله أو مذيه ولم يرقأ دم جرحه أو دمله أن يغسله من ثوبه ولا يدخل في صلاته حتى يغسل ما فحش منه وكثر فإذا دخل في الصلاة لم يقطعها ولو سال على فخذه فأراد سعيد بقوله ذلك أن كثرة المذي وفحشه في البدن والثوب لا يمنع المصلي من تمام صلاته وليس كذلك ابتداءه لأنه يؤمر بغسل الكثير الفحش منه قبل دخوله في الصلاة ولا يؤمر بقطعها وفي رواية بن القاسم عن مالك في هذا الحديث عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال يحيى بن سعيد وأخبرني من كان عند سعيد أنه قال للرجل فإذا انصرفت إلى أهلك فاغسل ثوبك قال يحيى وأما أنا فلم أسمعه منه وهذه الزيادة رواها يحيى بن مسكين وغيره عن بن القاسم وهي توضح لك ما فسرنا وبالله توفيقنا ذكر بن وهب عن الليث بن سعد أن كثير بن فرقد حدثه أن عبد الرحمن الأعرج حدثه أن عمر بن الخطاب قال إني لأجد المذي ينحدر مني مثل الجمان أو اللؤلؤ فما التفت إليه ولا أباليه وهذا يدل أن عمر استنكحه أمر المذي وغلب عليه وسلس منه كما يسلس البول فقال فيه القول وهذا خلاف القول الذي حكى عنه أسلم مولاه في حال الصحة على ما في الموطأ

وذكر بن أبي ذئب في موطئه عن أخيه المغيرة بن عبد الرحمن أنه قال كان يخرج مني المذي قال فربما توضأت المرتين والثلاث فأتيت ربيعة بن أبي عبد الرحمن فسألته فقال والله ما أدري ائت القاسم بن محمد فسله عسى أن تجد عنده علما قال فجئت القاسم فسألته فقال إنما ذلك من الشيطان فاله عنه فلهوت عنه فانقطع عني وهذا الباب فيمن كان خروج المذي منه لعلة وفساد لا لصحة وشهوة وهو الذي يسميه أصحابنا المستنكح وهو صاحب السلس الذي لا ينقطع مذيه أو بوله لعلة نزلت به من كبر أو برد أو غير ذلك وقد أجمع العلماء على أنه لا يسقط ذلك عنه فرض الصلاة وأن عليه أن يصليها في وقتها على حالته تلك إذ لا يستطيع غيرها واختلفوا في إيجاب الوضوء عليه للصلاة مع حاله تلك فذهب مالك أنه لا يجب له الوضوء لكل صلاة ولكنه يستحب له ذلك اعتبارا بالمستحاضة والوضوء عنده لها استحباب أيضا وحجته قوله تعالى أو جاء أحد منكم من الغائط النساء والمائدة وذلك لما كان معتادا معروفا قصد الغائط من أجله ولأن دم المستحاضة دم عرق ولا يوجب ذلك عنده وضوءا وقد مضى في باب الأحداث وجه قوله ويأتي القول في المستحاضة في موضعه إن شاء الله وقال الشافعي يتوضأ لكل صلاة وقال الأوزاعي يجمع بين الظهر والعصر بوضوء واحد وقال الثوري والأوزاعي والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما الوضوء على المستحاضة واجب لكل صلاة رووا في ذلك آثارا سنذكرها أو بعضها في بابها إن شاء الله وقالوا تؤدى صلاتها على تلك الحال فكذلك وضوءها وكذلك قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أدبرت الحيضة فاغتسلي وتوضئي لكل صلاة

وسنوضح ذلك في باب المستحاضة إن شاء الله باب الوضوء من مس الفرج مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه سمع عروة بن الزبير يقول دخلت على مروان بن الحكم فتذاكرنا ما يكون منه الوضوء فقال مروان ومن مس الذكر الوضوء فقال عروة ما علمت هذا فقال مروان بن الحكم أخبرتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ قد ذكرنا بسرة والاختلاف في نسبها في كتاب الصحابة وفي التمهيد أيضا وذكرنا في التمهيد ما وقع عندي في نسخة عبيد الله بن يحيى عن أبيه من الوهم في إسناد هذا الحديث وذكرنا الاختلاف فيه على عروة وعلى هشام وعلى بن شهاب وذكرنا ما يصح من ذلك في حديث بسرة وأنه لا يصح فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما في الموطأ من رواية مالك عن عبد الله بن أبي بكر سمع عروة سمع مروان سمع بسرة سمعت النبي عليه السلام وقد وهم فيه بن وهب فذكره في موطئه قال أخبرني مالك وبن لهيعة وعمرو بن الحارث عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عروة بن الزبير عن بسرة وهذا خطأ على مالك وقد أوضحنا علل ذلك في التمهيد ونذكر ها هنا عيونا كافية إن شاء الله حدثنا خلف بن القاسم قال حدثنا محمد بن زكريا بن يحيى بن المقدسي

ببيت المقدس قال حدثنا مضر بن محمد قال سألت يحيى بن معين أي حديث يصح في مس الذكر فقال يحيى لولا حديث جاء عن عبد الله بن أبي بكر لقلت لا يصح فيه شيء فإن مالكا يقول حدثنا عبد الله بن أبي بكر قال حدثنا عروة قال حدثنا مروان قال حدثتني بسرة فهذا يحيى بن معين موضعه من هذا الشأن الموضع المعلوم وقد صحح حديث بسرة من رواية مالك وكان يقول بالوضوء من مس الذكر لذلك ومن قال في حديث بسرة إنه عن حرسي جاهل متعسف لا يدري وذلك أنه اعتل بعلة لو تدبرها أمسك عنها ذكر سفيان بن عيينة قال حدثني عبد الله بن أبي بكر قال تذاكر أبي وعروة ما يتوضأ منه فقال عروة في مس الذكر الوضوء فقال أبي إن هذا لشيء ما سمعته فقال عروة بلى أخبرني مروان بن الحكم قال أخبرتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من مس ذكره فليتوضأ فقلت إني أشتهي أن ترسل وأنا شاهد رجلا أو قال حرسيا إلى بسرة فأرسل فجاء الرسول من عندها بذلك وحديث شعيب عن الزهري قال أخبرني عبد الله بن أبي بكر أنه سمع عروة بن الزبير يقول ذكر مروان في إمارته على المدينة أنه يتوضأ من مس الذكر إذا أفضى إليه الرجل بيده فأنكرت ذلك وقلت لا وضوء على من مسه فقال مروان أخبرتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالوضوء من مس الذكر قال عروة فلم أزل أماري مروان حتى دعا رجلا من حرسه فأرسله إلى بسرة فسألها فأخبرته بمثل الذي حدثني به عنها مروان وهذان الحديثان قد ذكرتهما في التمهيد بأسانيدهما وفيهما سماع عروة من مروان وسماع مروان من بسرة وإرسال من أرسلا إلى بسرة حرسيا كان أو شرطيا لا يقدح فيما صح من سماع مروان له من بسرة بل يزيدة قوة وهذا ما لا خفاء به على من له أدنى علم ومعرفة فهذا هو الصحيح في حديث بسرة وعروة عن مروان عن بسرة سماعا وكل من خالف ذلك فقد أخطأ فيه والاختلاف فيه كثير على هشام وعلى بن شهاب والصحيح فيه ما ذكره بن معين وغيره على ما وصفت لك والرواية الصحيحة عن بن شهاب مثل رواية مالك قد تقدمت من حديث بن عيينة عن بن شهاب

وكذلك رواه عقيل بن خالد عن بن شهاب وكذلك رواه الليث عن عبد الرحمن بن خالد عن بن شهاب عن عبد الله بن أبي بكر أنه سمع عروة يحدث عن مروان أن بسرة أخبرته وفي رواية بن شهاب هذا الحديث عن عبد الله بن أبي بكر ما يدخل في رواية الكبار عن الصغار وبالله التوفيق وقد كان أحمد بن حنبل يصحح حديث بسرة في مس الذكر أيضا ويفتي به ويقول وحديث أم حبيبة أيضا في مس الذكر لا أدفعه ذكر أبو علي سعيد بن السكن الحافظ قال كان أحمد بن حنبل يذهب إلى حديث بسرة ويختاره قال وصحح حديث أم حبيبة أيضا قال بن السكن ولا أعلم في حديث أم حبيبة علة إلا أنه قيل إن مكحولا لم يسمعه من عتبة بن أبي سفيان قال أبو عمر حديث أم حبيبة حدثنا عبد الوارث بن سفيان وسعيد بن نضر قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا المعلى بن المنصور قال حدثنا الهيثم بن حميد قال حدثنا يعلى عن مكحول عن عتبة بن أبي سفيان عن أم حبيبة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من مس ذكره فليتوضأ وذكر أبو زرعة قال كان أحمد بن حنبل يعجبه حديث أم حبيبة في مس الذكر ويقول هو حسن الإسناد فهذا إماما أهل الحديث قد قضيا بتصحيح حديث بسرة فصححاه ثم قال إنه ناسخ لحديث طلق بن علي لأن طلق بن علي قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبني المسجد ثم رجع إلى بلاد قومه وإسلام بسرة بنت صفوان إنما كان عام الفتح وحفظها متأخر عن تاريخ حديث طلق بن علي وقد صحح بن السكن في هذا الباب أيضا حديث أبي هريرة حدثنا خلف بن قاسم قال حدثنا سعيد بن عثمان بن السكن ومحمد بن إبراهيم بن إسحاق السراج قال حدثنا علي بن محمد بن سليمان البزاز قال حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني قال حدثنا أصبغ بن الفرج قال حدثنا عبد الرحمن بن القاسم قال حدثني نافع بن أبي نعيم ويزيد بن عبد الملك بن المغيرة عن

سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أفضى بيده إلى فرجه ليس دونه حجاب فقد وجب عليه الوضوء قال بن السكن هذا الحديث من أجود ما روي في هذا الباب لرواية بن القاسم صاحب مالك عن نافع بن أبي نعيم وأما يزيد فضعيف والله أعلم قال أبو عمر كان حديث أبي هريرة هذا لا يعرف إلا بيزيد بن عبد الملك هذا حتى رواه أصبغ بن الفرج عن بن القاسم عن نافع بن أبي نعيم وزيد بن عبد الملك النوفلي جميعا عن بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة وأصبغ وبن القاسم ثقتان فقيهان فصح الحديث بنقل العدل على ما ذكر بن السكن إلا أن أحمد بن حنبل كان لا يرضي نافع بن أبي نعيم القارئ وخالفه بن معين فيه فقال هو ثقة وقال أحمد بن حنبل هو ضعيف منكر الحديث وروى سحنون هذا الحديث عن بن القاسم فلم يذكر فيه نافع بن أبي نعيم وأما الصحابة القائلون بإيجاب الوضوء من مس الذكر فعمر بن الخطاب وبن عمر وأبو هريرة على اختلاف عنه والبراء بن عازب وزيد بن خالد الجهني وجابر بن عبد الله وسعد بن أبي وقاص في رواية أهل المدينة عنه ومن التابعين سعيد بن المسيب في رواية عبد الرحمن بن حرملة عنه رواه بن أبي ذئب وحاتم بن إسماعيل عن عبد الرحمن بن حرملة عن سعيد بن المسيب أن الوضوء واجب على من مس ذكره وروى بن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يرى في مس الذكر شيئا ومعمر عن قتادة عن سعيد بن المسيب أنه كان يراه كبعض جسد ولا يتوضأ منه وهذا أصح عندي من حديث عبد الرحمن بن حرملة لأنه ليس بالحافظ وقتادة حافظ وقد تابعه الحارث بن عبد الرحمن وكان عطاء بن أبي رباح وطاوس وعروة بن الزبير وسليمان بن يسار وأبان بن عثمان وبن شهاب ومجاهد ومحكول وجابر بن زيد والشعبي والحسن وعكرمة وجماعة أهل الشام والمغرب وأكثر أهل الحديث يرون الوضوء من مس الذكر

وبه قال الأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق وداود والطبري وفي الموطأ الحديث عن سعد وبن عمر وعروة وأما سائر الصحابة والتابعين ففي كتاب عبد الرزاق وأبي بكر بن أبي شيبة وقال الليث ومن مس بين أليتيه فعليه الوضوء وقال الشافعي من مس دبره فعليه الوضوء لأنه فرج وهو قول عطاء والزهري وميمون بن مهران والرجال والنساء في ذلك عنده سواء واضطرب قول مالك في إيجاب الوضوء منه واختلف مذهبه فيه والذي تقرر عليه المذهب عند أهل المغرب من أصحابه أنه من مس ذكره أمره بالوضوء ما لم يصل فإن صلى أمره بالإعادة في الوقت فإن خرج الوقت فلا إعادة عليه واختلف أصحابه وأتباعه على أربعة أقوال فمنهم من لم ير على من مس ذكره وضوءا ولا على من صلى بعد أن مسه إعادة صلاته في وقت ولا غيره وممن ذهب إلى هذا سحنون والعتقي ورأى الإعادة في الوقت بن القاسم وأشهب ورواية عن بن وهب ومنهم من رأى الوضوء عليه واجبا ورأى الإعادة على من صلى بعد أن مسه الوقت وبعده منهم أصبغ بن الفرج وعيسى بن دينار وهو مذهب بن عمر لأنه أعاد منه صلاة الصبح بعد طلوع الشمس وهو قول الشافعي وأما إسماعيل بن إسحاق وأصحابه البغداديين المالكيون كابن بكير وبن المنتاب وأبي الفرج والأبهري فإنهم اعتبروا في مسه وجود اللذة كملامس النساء عندهم فإن التذ الذي لمس ذكره وجب عليه الوضوء وإن صلى وقد مسه قبل أن يتوضأ أعاد الصلاة أبدا وإن خرج الوقت وإن لم يلتذ بمسه فلا شيء عليه وهذا قول رابع ومن ذهب إلى هذا سوى بين باطن الكف وظاهرها واختلفوا فيمن مسه ناسيا وعلى ثوب خفيف أو مسه بذراعه أو بظاهر كفه أو قصد إلى مسه بشيء من أعضائه سوى يده فمنهم من يرى في ذلك كله الوضوء ومنهم من لم ير عليه في ذلك شيئا وتحصيل المذهب عند المالكيين من أهل المغرب أن من مس ذكره بباطن الكف أو الراحة أو بباطن الأصابع دون حائل انتقض وضوءه ومن مس ذكره بخلاف ذلك لم ينتقض وضوءه

وقد روى بن وهب عن مالك في ذلك روايتين أحسنهما أنه بباطن كفه انتقض وضوؤه ففرق في ذلك بين العمد والنسيان وليس هذا حكم الأحداث وهذا قول الليث بن سعد وداود بن علي لأن الحديث ورد فيمن مس ذكره أو مس فرجه ولا يكون ماسا إلا من قصد إلى اللمس لأن الفاعل حقيقة هو من قصد إلى الفعل أراده مس ذكره ناسيا أو على ثوب وأن كان خفيفا فلا شيء عليه وإن أفضى إليه وقال الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز والشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق خطؤه وعمده سواء كسائر الأحداث قال أبو عمر لا يصح في مس الذكر لمن صحح فيه الأثر إلا الإعادة في الوقت وبعده لمن مس دون حائل بين يده وبينه مالك عن نافع عن سالم بن عبد الله أنه قال كنت مع عبد الله بن عمر في سفر فرأيته بعد أن طلعت الشمس توضأ ثم صلى قال فقلت له إن هذه الصلاة ما كنت تصليها قال إني بعد أن توضأت لصلاة الصبح مسست فرجي ثم نسيت أن أتوضأ فتوضأت وعدت لصلاتي وروى بن جريج عن بن شهاب عن سالم عن بن عمر أنه صلى بهم بطريق مكة العصر قال فركبنا فسرنا ما قدر لنا أن نسير ثم أناخ بن عمر فتوضأ فصلى العصر وحده فسلم فقلت له صليت معنا العصر أفنسيت قال لم أنس ولكن مسست ذكري قبل أن أصلي فلما ذكرت ذلك توضأت وعدت لصلاتي وقد روي عن عمر بن الخطاب في هذا قول ابنه عبد الله بن عمر حدثنا قاسم ومحمد بن عبد الله بن حكم قالا حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب القاضي قال حدثنا أبو الوليد الطيالسي قال حدثنا نافع بن عمر الجمحي عن بن مليكة عن عمر بن الخطاب أنه صلى بالناس فأهوى بيده فأصاب فرجه فأشار إليهم كما أنتم فخرج فتوضأ ثم رجع إليهم قال أبو عمر أما أهل العراق فجمهور علمائهم على أن لا وضوء في مس الذكر وعلى ذلك مضى أسلافهم بالكوفة والبصرة وورد ذلك عن علي وبن مسعود وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وعبد

الله بن عباس وأبي الدرداء وعمران بن حصين لم يختلف عن هؤلاء في ذلك واختلف فيه عن أبي هريرة وسعد بن أبي وقاص فروي عنهما القولان جميعا وبإسقاط الوضوء منه قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن وسفيان الثوري وشريك والحسن بن حي وأبو حنيفة وأصحابه وعبيد الله بن الحسن ذكر عبد الرزاق عن الثوري قال دعاني وبن جريج بعض أمرائهم فسألنا عن مس الذكر فقال بن جريج يتوضأ من مس الذكر وقلت أنا لا وضوء من مس الذكر فلما اختلفنا قلت لابن جريج أرأيت لو أن رجلا وضع يده في مني قال يغسل يده قلت فأيما أنجس المني أم الذكر قال المني فقلت فكيف هذا قال ما ألقاها على لسانك إلا شيطان قال أبو عمر يقول الثوري إذا لم يجب الوضوء من مس المني فأحرى ألا يجب من مس الذكر وإذا لم يجب من النجس فأحرى ألا يجب من الطاهر وإنما ساغت المناظرة في هذه المسألة لاختلاف الآثار فيها عن النبي عليه السلام واختلاف أصحابه رحمهم الله ومن بعدهم في ذلك ولو كان فيها أثر لا معارض له ولا مطعن لسلم الجميع له وقال به ومن ذهب مذهب العراقيين في مس الذكر من أهل الحديث ضعف الأحاديث الواردة عن النبي عليه السلام في إيجاب الوضوء فيه وعللها ولم يقبل شيئا منها وقد حكى أبو زرعة عن بن معين أنه قال أي إسناد رواية مالك في حديث بسرة لولا أن قاتل طلحة في الطريق قال أبو عمر الحديث المسقط للوضوء من مس الذكر أحسن أسانيده ما رواه مسدد وغيره عن ملازم بن عمرو عن عبد الله بن زيد عن قيس بن طلق بن علي قال قدمنا على النبي عليه السلام فجاءه رجل كأنه بدوي فقال يا رسول الله ما ترى في مس الرجل ذكره بعد ما يتوضأ فقال وهل هو إلا بضعة منه ورواه أيوب قاضي اليمامة عن قيس بن طلق عن أبيه عن النبي عليه السلام

ورواه هشام بن حسان وشعبة والثوري وبن عيينة وجرير الرازي عن محمد بن جابر اليمامي عن قيس بن طلق عن أبيه مثله وهذا حديث انفرد به أهل اليمامة وقد ذكرنا أسانيدها في التمهيد وقد استدل جماعة من العلماء على أنه منسوخ بحديث بسرة وما كان مثله بأن إيجاب الوضوء منه مأخوذ من جهة الشرع لا ينفي العقل التعبد به ولا يوجبه لاجتماعه مع سائر الأعضاء فمحال أن يتقدم الشرع بتخصيص إيجاب الوضوء منه من بين سائر الأعضاء ثم قال إنما هو بضعة منك وقد كان خصها بحكم شرعه وجائز أن يجب منه الوضوء بعد ذلك القول شرعا حادثا لأنه يحدث من أمره لعباده ما يشاء وفي مس الذكر من معناه مسائل كثيرة تنازع العلماء فيها قد ذكرناها في التمهيد باب الوضوء من قبله الرجل امرأته مالك عن بن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر أنه كان يقول قبله الرجل امرأته وجسها بيده من الملامسة فمن قبل امرأته أو جسها بيده فعليه الوضوء مالك أنه بلغه أن عبد الله بن مسعود كان يقول من قبلة الرجل امرأته الوضوء مالك عن بن شهاب مثل ذلك قال أبو عمر هذا الباب يقتضي القول في القبلة وسائر الملامسة وفي الملامسة معان ومسائل أحدها هل الملامسة الجماع أو ما دون الجماع مما يجانس الجماع مثل القبلة وشبهها ثم هل هي اللمس باليد خاصة أو بسائر البدن وهل اللذة من شرطها أم لا وكل ذلك قد تنازع فيه العلماء ونحن نذكر فيه من ذلك ما حضرنا على شرط الاختصار والبيان والله المستعان

اختلف العلماء من الصحابة فمن بعدهم في معنى الملامسة التي أوجب الله تعالى فيها الوضوء لمن أراد الصلاة بقوله تعالى أو لامستم النساء المائدة فروي عن عمر بن الخطاب بإسناد ثابت من أسانيد أهل المدينة أنه كان يقبل امرأته ويصلي قبل أن يتوضأ ذكره عبد الرزاق عن بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم عن عبد الله بن عمر أن عاتكة ابنة زيد قبلت عمر بن الخطاب وهو صائم فلم ينهها قال وهو يريد المضي إلى الصلاة ثم صلى ولم يتوضأ وهذا الحديث رواه مالك عن يحيى بن سعيد أن عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل امرأة عمر بن الخطاب كانت تقبل رأس عمر بن الخطاب وهو صائم فلا ينهاها ولم يذكر وضوءا ولا صلاة ولم يقم إسناده وحذف من متنه ما لم يذهب إليه وسنذكر بعد في هذا الباب من لم ير في القبلة وضوءا ومن ذهب إلى معنى قوله تعالى أو لامستم النساء هو الجماع نفسه لا غيره إن شاء الله ذكر مالك حديث عمر هذا في باب الرخصة في القبلة للصائم رواه بن جريج عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب خرج إلى الصلاة فقبلته امرأته فصلى ولم يتوضأ وروى الدراوردي عن بن أخي بن شهاب عن سالم عن أبيه عن بن عمر أنه قال القبلة من اللمم يتوضأ منها وهذا عندهم خطأ لأن أصحاب بن شهاب يجعلونه عن بن عمر لا عن عمر وذكر إسماعيل بن إسحاق أن مذهب عمر بن الخطاب في الجنب لا يتيمم فدل على أنه كان يرى الملامسة ما دون الجماع كما ذهب بن مسعود فإن صح عن عمر ما ذكر إسماعيل ثبت الخلاف في القبلة عن عمر والله أعلم وأما بن مسعود فلم يختلف عنه أن اللمس ما دون الجماع وأن الوضوء واجب على من قبل امرأته كمذهب بن عمر سواء وهو ثابت عن بن عمر من وجوه من حديث سالم نافع عنه وحديث بن مسعود رواه الأعمش عن إبراهيم عن أبي عبيدة بن عبد الله بن

مسعود عن أبيه قال يتوضأ الرجل من المباشرة ومن اللمس بيده ومن القبلة إذا قبل امرأته وكان يقول في هذه الآية أو لامستم النساء قال هو الغمز ذكره وكيع عن الأعمش إلا أنهم يقولون لم يسمع أبو عبيدة من أبيه وممن رأى في القبلة الوضوء من التابعين عبيدة السلماني وكان يقول الملامسة باليد منها الوضوء ورأى الوضوء في القبلة عامر الشعبي وسفيان وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي ومكحول الدمشقي وبن شهاب الزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة بن عبد الرحمن ومالك بن أنس وأصحابه ذكر بن وهب عن مالك والليث بن سعد وعبد العزيز بن أبي سلمة قبلة الرجل امرأته الوضوء وهو قول جمهور أهل المدينة والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ذكر بن قتيبة عن وكيع عن عبد العزيز بن أبي سلمة قال سألت الزهري عن القبلة فقال كان العلماء يقولون فيها الوضوء قال حدثنا غندر عن شعبة عن الحكم وحماد قالا إذا قبل أو لمس فعليه الوضوء ولم يشترط بن عمر وبن مسعود وعبيدة ولا أحد من هؤلاء في القبلة ولا في اللمسة وجود لذة ذهب الشافعي إلى أن من لمس امرأة بيده مفضيا إليها ليس بين يده وجسمها ستر ولا حجاب قل أو كثر فعليه الوضوء والتذ أو لم يلتذ لشهوة كان لمسه لها أو لغير شهوة على ظاهر حديث بن عمر وبن مسعود وعبيدة السلماني ومن قال بقولهم في أن معنى الملامسة اللمس باليد ولأنه لمس من في لمسها ولمس مثلها شهوة فسواء وقعت اللذة أو لم تقع قال وهو ظاهر قوله تعالى أو لامستم النساء ولم يقل لشهوة أو لغير شهوة قال ولا معنى للذة من فوق الثوب ولا من تحته قالوا وإنما المعنى في القبلة الفعل لا الشهوة قالوا وكل من لم يفض في ملامسته إلى البشرة بملامس لأنه إنما لمس الثوب

وإلى هذا ذهب أبو عبد الله بن نصر المروزي واختاره واحتج بالإجماع في إيجاب الغسل وهي الطهارة الكبرى على المستكرهة والنائمة إذا جاور الختان الختان وإن لم تقع لذة قال أبو عمر الذي ذهب إليه مالك وأصحابه في اشتراط اللذة ووجود الشهوة عند الملامسة أصح إن شاء الله لأن الصحابة لم يأت عنهم في معنى الملامسة إلا قولان أحدهما الجماع نفسه والآخر ما دون الجماع من دواعي الجماع وما يشبهه ومعلوم في قول القائلين هو ما دون الجماع أنهم أرادوا ما ليس بجماع ولم يريدوا اللطمة ولا قبلة الرجل ابنته رحمة ولا اللمس لغير اللذة ولما لم يجز أن يقال إن اللمس أريد به اللطم وما شاكله لم يبق إلا أن يكون اللمس ما وقع فيه اللذة والشهوة لأنه لا خلاف فيمن لطم امرأته أو داوى جرحها ولا في المرأة ترضع أولادها أنه لا وضوء على واحد من هؤلاء فكذلك من قصد إلى اللمس ولم يلتذ في حكمهم ذكر بن أبي شيبة عن معاوية عن إبراهيم قال إذا قبل لشهوة نقض الوضوء قال حدثنا جرير عن مغيرة عن حماد قال إذا قبل الرجل امرأته وهي لا تريد ذلك فإنما يجب الوضوء عليه وليس عليها وضوء وإن قبلته فإنما يجب الوضوء عليها ولا يجب عليه وإن وجد شهوة وجب عليه الوضوء وإن قبلها وهي لا تريد فوجدت شهوة وجب عليها الوضوء وهذا معنى قول مالك سواء وذكر عبد الرزاق عن الثوري عن محل الضبي عن إبراهيم قال إذا قبل الرجل لشهوة أو لمس لشهوة فعليه الوضوء فهؤلاء اشترطوا اللذة حتى في القبلة ويحتمل أن يكون ذكر الشهوة في القبلة ورد للفرق بين قبلة الزوجة والأمة وبين قبلة الأم والابنة والله أعلم هذا كله قول مالك وأصحابه والحسن بن حي إلا أنهم من اشترط اللذة في القبلة فأكثرهم يوجبون الوضوء من قبلة الرجل من يحل له وطؤها ومن لا يحل التذ بذلك أو لم يلتذ إلا أن تكون القبلة رحمة كقبلة الرجل الطفلة من بناته

وأما الذين ذهبوا إلى أن اللمس هو الجماع نفسه وأن الله كنى عنه بذلك كما كنى عنه بالرفث والمباشرة والمسيس ونحو ذلك فمنهم عبد الله بن مسعود ومسروق بن الأجدع والحسن البصري وعطاء بن أبي رباح وطاوس اليماني ذكر عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أن عبيد بن عمير وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح اختلفوا في الملامسة فقال سعيد وعطاء هو اللمس والغمز وقال عبيد بن عمير هو النكاح فخرج عليهم عبد الله بن عباس وهم كذلك فسألوه وأخبروه بما قالوا فقال أخطأ الموليان وأصاب العربي هو الجماع ولكن الله يعف ويكني وقد ذكرنا هذا المعنى عن بن عباس من وجوه كثيرة في التمهيد ولا خلاف عنه فيه ومحفوظ عنه قوله ما أبالي أقبلت امرأتي أو شممت ريحانا وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري وسائر الكوفيين إلا بن حي ورووا عن علي بن أبي طالب مثل ذلك واختلفوا في ذلك عن الأوزاعي فذكر عنه الطحاوي والطبري أن لمس الرجل امرأته لا وضوء فيه على كل حال وذكر عنه المروزي قوله في هذا الباب كقول الشافعي وروى الوليد بن مسلم عن الأوزاعي في الذي يقبل امرأته إن جاء يسألني فقلت يتوضأ فإن لم يتوضأ لم أعب عليه وقال الرجل يدخل رجليه في ثياب امرأته فيمس فرجها وهو على وضوء لم أر عليه وضوءا وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد من مس فرجه أو فرج غيره أو قبل أو باشر أو لمس لشهوة أو لغير شهوة فلا وضوء عليه إلا أن يخرج منه مذي وحجة من ذهب إلى هذا الأثر المرفوع حدثناه أبو محمد إسماعيل بن عبد الرحمن قال حدثنا محمد بن العباس الحلبي حدثنا محمد بن عبد الله الطائي بحمص حدثنا العباس بن الوليد بن مزيد حدثنا شعيب بن شابور حدثنا سعيد بن بشير عن منصور بن زاذان عن الزهري عن أبي سلمة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبلها ثم يخرج إلى الصلاة ولا يتوضأ وذكر بن أبي شيبة قال حدثنا وكيع عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت

عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قبل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ فقلت من هي إلا أنت فضحكت وهذا الحديث عندهم معلول فمنهم من قال لم يسمع حبيب من عروة ومنهم من قال ليس هو عروة بن الزبير وضعفوا هذا الحديث ودفعوه وصححه الكوفيون وثبتوه لروايه الثقات أئمة الحديث له وحبيب بن أبي ثابت لا ينكر لقاؤه عروة لروايته عمن هو أكبر من عروة وأجل وأقدم موتا وهو إمام من أئمة العلماء الجلة وروي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي عليه السلام قبل وهو صائم وقال إن القبلة لا تنقض الوضوء وهذا عند الحجازيين خطأ وإنما هو لا تنقض الصوم وذكر بن أبي شيبة قال حدثنا وكيع عن سفيان عن أبي روق عن إبراهيم التيمي عن عائشة أن النبي عليه السلام قبل ثم صلى ولم يتوضأ وذكر عبد الرزاق عن الثوري مثله وهو مرسل لا خلاف فيه لأنه لم يسمع إبراهيم التيمي عن عائشة ولم يروه أيضا غير أبي روق وليس فيما انفرد به حجة وقال الكوفيون أبو روق ثقة ولم يذكره أحد بجرحه ومراسل الثقات عندهم حجة وإبراهيم التيمي أحد العباد الفضلاء وذكر عبد الرزاق عن الأوزاعي قال أخبرني عمرو بن شعيب عن امرأة أسماها سمعت عائشة تقول كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ثم يخرج إلى الصلاة فيقبلني ثم يمضي إلى الصلاة فما يحدث وضوءا وهذه المرأة التي روى عمرو بن شعيب عنها هذا الحديث مجهولة قيل هي زينب السهمية ولا تعرف أيضا وذكر عبد الرزاق عن إبراهيم بن محمد عن معبد بن نباتة عن محمد بن عمرو عن عروة عن عائشة قالت قبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صلى ولم يحدث وضوءا

وذكر الزعفراني عن الشافعي قال لو ثبت حديث معبد بن نباتة في القبلة لم أر فيها شيئا ولا في اللمس ولا أدري كيف معبد بن نباتة هذا فإن كان ثقة فالحجة فيما روي عن النبي عليه السلام قال أبو عمر هو مجهول لا حجة فيما رواه عندنا وإبراهيم بن أبي يحيى عند أهل الحديث ضعيف متروك الحديث والحجة لنا على من لم ير الملامسة إلا الجماع أن إطلاق الملامسة زلا تعرف العرب منه إلا اللمس باليد وقد بينا وجه اعتبار اللذة في ذلك قال الله تعالى فلمسوه بأيديهم الأنعام وقال عليه السلام اليدان تزنيان وزناهما اللمس ومنه بيع الملامسة وهو لمس الثوب باليد تقول العرب لمست الثوب والحائط ونحو هذا وقرئت الآية أو لامستم النساء وذلك يفيد اللمس باليد وحمل الظاهر والعموم على التصريح أولى من حمله على الكناية وقد روى عبد الله بن عمير عن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل قال أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن رجل أتى امرأة لا تحل له فأصاب منها ما يصيب الرجل من امرأته إلا الجماع فقال النبي عليه السلام يتوضأ وضوءا حسنا فأمره بالوضوء لما نال منها ما دون الجماع وهذا هو المذهب لأن بن أبي ليلى لم يلق معاذا ولا أدركه ولا رآه وسيأتي من القول في لمس ذوات المحارم ذكر عند ذكر أبي قتادة في حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامة ابنة ابنته زينب في الصلاة وهو يبطل ما ذهب إليه الشافعي في أحد قوليه في لمس ذوات المحارم واستدلال بعموم الظاهر ولأنهن من جنس ما يقصد باللمس للذة كالزوجات والأجنبيات ولا معنى لهذا الاعتبار إذا صحت بخلافه الآثار وفي حديث عائشة إذ قالت فقدت رسول الله فالتمسته فوقعت يدي على

ظاهر قدمه وهو يصلي دليل على أن كل لمس لا يتولد معه لذة فليس من معنى الآية في الملامسة وقد جعل جمهور السلف القبلة من الملامسة وهي بغير اليد فدل على أن الملامسة وإن كانت في الأغلب في اليد فإن المعنى فيها التقاء البشرتين فبأي عضو وقعت ومعها شهوة فيلتذ وهذا تحصيل مذهب مالك عند جماعة أصحابه واللامس والملموس عند مالك وأصحابه سواء التذ أو من التذ منهما والشعر من أبعاض الملموس سواء عندهم مع وقوع اللذة وخالفنا الشافعي في الشعر وللشافعي في الملموس قولان أحدهما أن لا وضوء عليه لحديث عائشة المذكور وهو قول داود قال لأن الله لم يقل أو لمسكم النساء والقول الآخر عليه الوضوء كقول مالك وأصحابه لأنه ملتذ بلمس يوجب الوضوء وهما متلامسان والمعنى فيهما وجود اللذة وأصحابنا يوجبون الوضوء على من لمس مع الحائل إذا كان رقيقا وكانت اللذة موجودة مع اللمس وجمهور العلماء يخالفونهم في ذلك وهو الحق عندي لأن اللذة إذا تعرت من اللمس لم توجب وضوءا بإجماع وكذا اللمس إذا تعرى من اللذة لم يوجب وضوءا عند أصحابنا ومن لمس الثوب والتذ فقد التذ بغير مباشرة ولا مماسة ولا ملامسة وبالله التوفيق باب العمل في غسل الجنابة مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين أن

رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ بغسل يديه ثم توضأ كما يتوضأ للصلاة ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه ثم يفيض الماء على جلده كله وروى القاسم بن محمد وجميع بن عمير والأسود بن يزيد عن عائشة عن النبي عليه السلام في صفة غسل الجنابة مثل ذلك بمعناه وهذا الحديث في وصف الاغتسال من الجنابة من أحسن ما روي في ذلك وفيه فرض وسنة فأما السنة فالوضوء قبل الاغتسال وثبت ذلك عن النبي عليه السلام من وجوه كثيرة من حديث عائشة وحديث ميمونة وغيرهما فإن لم يتوضأ المغتسل للجنابة قبل الغسل ولكنه عم جسده ورأسه ويديه وجميع بدنه بالغسل بالماء وأسبغ ذلك فقد أدى ما عليه إذا قصد الغسل ونواه لأن الله تعالى إنما افترض على الجنب الغسل دون الوضوء بقوله ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا النساء وقوله وإن كنتم جنبا فاطهروا المائدة وهذا إجماع من العلماء لا خلاف بينهم فيه والحمد لله إلا أنهم مجمعون أيضا على استحباب الوضوء قبل الغسل للجنب تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه الأسوة الحسنة ولأنه أعون على الغسل وأما الوضوء بعد الغسل فلا وجه له عند أهل العلم وقد روى أبو إسحاق السبيعي عن الأسود بن يزيد عن عائشة قالت كان النبي علي السلام لا يتوضأ بعد الغسل وفي رواية أيوب لحديث مالك هذا عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة فيخلل أصول شعره مرتين أو ثلاثا ثم يفرغ الماء على سائر جسده وأيوب ثقة حافظ قال أيوب فقلت لهشام فغسل رجليه بعد ذلك فقال وضوءه للصلاة وهذا يدل على أن أعضاء الوضوء لا يعيد المغتسل غسلها في غسله لأنه قد غسلها في وضوئه والابتداء بالوضوء في غسل الجنابة يقتضي تقديم أعضاء الوضوء في الغسل سنة مسنونة في تقديم تلك الأعضاء خاصة لأنه ليس في الغسل رتبة وليس ذلك من

باب السنة التي هي غير الفرض ولذلك لم يحتج أن يعيد تلك الأعضاء بنية الجنابة لأنه بذلك غسلها وقدم الغسل لها على سائر البدن وقد أجمع العلماء على أن الوضوء لا يعاد بعد الغسل من أوجب منهم المضمضة والاستنشاق ومن لم يوجبها فدل على ما وصفنا والحمد لله وقد ذكرنا في التمهيد حديث عائشة وحديث ميمونة من طرق والمعنى فيها كلها متقارب وفي قول عائشة يدخل أصابعه في الماء فيخلل أصول شعره ما يقتضي تخليل شعر الرأس وشعر اللحية واختلف قول مالك في تخليل الجنب لحيته في غسله فروى بن القاسم عنه أنه ليس ذلك عليه وروى أشهب أن عليه أن يخلل لحيته من الجنابة وذكر بن عبد الحكم عن مالك قال هو أحب إلينا وكذلك اختلاف الفقهاء في تخليل الجنب لحيته في غسله على هذين القولين وحديث عائشة يشهد بصحة قول من رأى التخليل في ذلك لأنه بيان منه عليه السلام لقوله تعالى وإن كنتم جنبا فاطهروا المائدة وأما قوله ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات فالعدد في ذلك استحباب وما أسبغ وعم وبالغ في ذلك أجزأه ذكر عبد الرزاق عن معمر عن أبي إسحاق عن رجل يقال له عاصم أن رهطا أتوا عمر بن الخطاب فسألوه عن الغسل من الجنابة فقال أما الغسل فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اغسل رأسك ثلاث مرات وادلكه ثم أفض الماء على جلدك وأما قوله ثم يفيض الماء على جلده كله فقد اختلف العلماء في الجنب يغتسل فيصب الماء على جلده ويعمه بذلك ولا يتدلك فالمشهور من مذهب مالك أنه لا يجزئه ذلك حتى يتدلك لأن الله تعالى أمر الجنب بالاغتسال كما أمر المتوضئ بغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ولم يكن بد للمتوضئ من إمرار يديه بالماء على وجهه ويديه إلى المرفقين فكذلك جميع جسد الجنب ورأسه في حكم وجه المتوضئ ويديه وهذا قول المزني واختياره وقال أبو الفرج المالكي وهذا هو المعقول من لفظ الاغتسال في اللغة ومن لم يمر يديه فلم يفعل غير صب الماء ولا يسميه أهل اللسان العربي غاسلا بل يسمونه صابا للماء ومنغمسا فيه

ثم قال ويخرج هذا عندي والله أعلم أنه لما كان المعتاد من المنغمس في الماء وصابه عليه أنهما لا يكادان يسلمان من أن ينكب الماء عن المواضع المأمور بها وجب لذلك عليهما أن يمرا أيديهما على أبدانهما قال فأما إن طال مكث الإنسان في ماء أو والى صبه عليه من غير أن يمر يديه على بدنه فإنه ينوب ذلك عن إمرار يديه ثم قال وإلى هذا المعنى ذهب مالك هذا كله قول أبي الفرج وقد عاد إلى جواز الغسل للمنغمس في الماء إذا بالغ ولم يتدلك ونقض ما تقدم له وخالف ظاهر قول مالك وأصحابه إلا أن على ذلك جماعة الفقهاء وجمهور العلماء وقد روي عن ميمون بن مهران كقول مالك سواء في ذلك وروي نحوه عن أبي العالية واختلف فيه عن الحسن وعطاء سئل مالك عن الجنب يفيض عليه الماء قال لا بل يغتسل غسلا وقال أبو العالية يجزئ الجنب من غسل الجنابة أن يغوص غوصة غير أنه يمر يديه على جلده وذكر دحيم عن كثير بن هشام عن جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران قال إذا اغتسلت من الجنابة فاغسل جلدك وكل شيء تناله يدك وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما والثوري والأوزاعي يجزئ الجنب إذا انغمس في الماء ولم يتدلك وبه قال أحمد بن حنبل وأبو ثور وداود وإسحاق والطبري ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم وهو قول عامر الشعبي وإبراهيم النخعي وبن شهاب الزهري وحماد بن أبي سليمان وعلي بن حسين ومحمد بن علي وروى مروان بن محمد الطاطري وهو من ثقات التابعين عن مالك بن أنس مثل ذلك وقد ذكرناه بإسناده في التمهيد واختلف عن الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح في هذه المسألة على القولين جميعا وقد ذكرنا في التمهيد عنهما مع جماعة من التابعين غيرهما أنهم قالوا إذا انغمس الرجل في نهر انغماسة أجزأه

ومن حجتهم أن كل من صب عليه الماء فقد اغتسل لقول العرب غمستني السماء قال أبو عمر أمر الله تعالى المتوضئ بغسل جسده كله وبين ذلك رسول الله باغتساله ونقلت كافة العلماء مثل ما تواترت به أخبار الآحاد العدول بأن فعل رسول الله في غسله وجهه ويديه في وضوئه كان بإمرار كفيه على وجهه ويديه إلى مرفقيه وأن غسله من الجنابة كان بعد وضوئه بإفاضة الماء على جلده كله ولم يذكروا تدلكا ولا عركا بيديه وأمر رسول الله بغسل النجاسات من الثياب فمرة قال لأسماء في دم الحيض اقرصيه واعركيه ومرة أمر في بول الغلام بأن يصب عليه الماء وأن يتبع لبول الماء دون عرك ولا مرور بيد فدل هذا كله على أن الغسل في لسان العرب يكون مرة بالعرك ومرة بالصب والإفاضة كل ذلك يسمى غسلا في اللغة العربية وقد حكي عن بعض العرب غسلتني السماء يعني بما انصب عليه من الماء وإذا كان هذا على ما وصفنا فغير نكير أن يكون الله تعبد عباده في الوضوء بأن يمروا بالماء أكفهم على وجوههم وأيديهم إلى المرافق ويكون ذلك غسلا وأن يفيضوا الماء على أنفسهم في غسل الجنابة والحيض ويكون ذلك غسلا موافقا للسنة غير خارج من اللغة وأن يكون كل واحد من الأمرين أصلا في نفسه لا يجب رد أحدهما إلى صاحبه لأن الأصول لا يرد بعضها إلى بعض قياسا وهذا ما لا خلاف بين الأمة فيه وإنما ترد الفروع قياسا على الأصول وبالله التوفيق وقد وصفت عائشة وميمونة غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجنابة ولم تذكرا تدلكا وكذلك الحديث الذي ذكر عن عمر بن الخطاب قوله ثم أفض الماء على جلدك ولم يذكر تدلكا وذكر عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن زيد بن أسلم قال سمعت علي بن الحسين يقول ما مس الماء منك وأنت جنب فقد طهر ذلك المكان

وقال أبو عمر إذا نوى بصب الماء وانغماسه فيه غسل الجنابة واختلف الفقهاء في الوضوء وفي الغسل من الجنابة بغير نية فقال ربيعة والليث والشافعي وأحمد وأبو ثور وإسحاق وأبو عبيدة وداود والطبري لا تجزئ الطهارة للصلاة والغسل من الجنابة ولا التيمم إلا بنية وحجتهم في ذلك قوله تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين البينة والإخلاص النية في التقرب إليه والقصد إلى أداء ما افترض وقال صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى وهذا يقتضي أن يكون كل عمل بغير نية لا يجزئ وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري أما كل طهارة بماء كالوضوء والغسل من الجنابة فإنها تجزئ بغير نية ولا يجزئ التيمم إلا بنية وقال الأوزاعي والحسن بن حي يجزئ الوضوء والغسل والتيمم بغير نية له واختلف عن زفر فروي عنه لا يجزئ بغير نية كقول أبي حنيفة والثوري وروي عنه أنه يجزئه كقول الحسن بن حي والأوزاعي وروى بن المبارك والفريابي وعبد الرزاق عن الثوري قال إذا علمت الرجل التيمم لم يجزك إلا أن تكون نويته وإن علمته الوضوء أجزاك وإن لم تنوه وروى أبو المغيرة عبد القدوس عن الأوزاعي أنه سئل عن رجل علم آخر التيمم وهو لا ينوي التيمم لنفسه فحضرت الصلاة فقال يصلي بتيممه ذلك كما لو توضأ وهو لا ينوي الصلاة كان طاهرا وحجة من أسقط وجوب النية في الطهارة بالماء أن ذلك ليس منه فرض ونافلة فيحتاج المتوضئ فيه إلى نية قالوا وإنما يحتاج إلى النية فيما فيه من الأعمال فرض ونفل ليفرق بالنية بين الفريضة والنفل وأما الوضوء فهو فرض للنافلة وللفريضة ولا يصنعه أحد إلا لذلك فاستغنى عن النية

قالوا وأما التيمم فهو بدل من الوضوء فلا بد فيه من النية ومن جمع في ذلك بين التيمم والوضوء فحجته في ذلك واحدة ومن حجتهم أيضا الإجماع على إزالة النجاسات من الأبدان والثياب بغير نية وهي طهارة واجبة فرضا عندهم قالوا وكذلك الوضوء قال أبو عمر الصحيح في هذا الباب قول من قال لا تجزئ طهارة للصلاة إلا بنية لها وقصد إليها لأن المفترضات لا تؤدى إلا بقصد وإرادة ولا يسمى الفاعل فاعلا حقيقة إلا بقصد منه إلى الفعل ومحال أن يتأدى عن المرء ما لم يقصد إلى أدائه وينويه بفعله لأنه لا تكون قربه إلا من متقرب بها قد انطوى ضميره عليها وهو الإخلاص الذي أمر الله به عباده وبالله التوفيق واختلف الفقهاء فيمن اغتسل للجمعة وهو جنب ولم يذكر فقالت طائفة تجزئه لأنه اغتسل للصلاة واستباحها وليس عليه مراعاة الحدث ونحوه كما ليس عليه أن يراعي حدث البول والغائط والريح وغير ذلك من الأحداث وإنما عليه أن يتوضأ للصلاة فكذلك الغسل للصلاة يوم الجمعة يجزئه من الجنابة وممن قال بهذا من أصحاب مالك بن وهب وأشهب وبن نافع وبن كنانة ومطرف وعبد الملك ومحمد بن مسلمة وإليه ذهب المزني من أصحاب الشافعي وقال آخرون لا يجزئ الجنب غسل يوم الجمعة من غسل الجنابة إذا كان ناسيا لجنابته في حين الغسل ولم يقصد إلى ذلك لأن الغسل للجمعة سنة والاغتسال من الجنابة فرض ومحال أن تجزئ سنة عن فرض كما لا تجزئ ركعتا الفجر عن صلاة الصبح ولا أربع ركعات قبل الظهر عن صلاة الظهر وهو قول بن القاسم وبن عبد الحكم عن مالك ولم يختلف أصحاب مالك فيمن اغتسل للجنابة لا ينوي الجمعة أنه غير مغتسل للجمعة ولا يجزئه من غسل الجمعة إلا ما ذكره محمد بن عبد الحكم وأبو إسحاق البرقي عن أشهب أنه قال يجزئه غسل الجنابة من غسل الجمعة وقال عبد العزيز بن أبي سلمة والثوري والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه والليث بن سعد والطبري من اغتسل للجنابة يوم الجمعة أجزأه غسل الجنابة من غسل الجمعة والجنابة جميعا

وأجمعوا في الجنب ينوي بغسله الجنابة والجمعة أنه يجزئه عنهما إلا شيئا روي عن مالك قال به أهل الظاهر أنه لا يجزئ عن واحد منهما إذا خلط النية فيهما قياسا على من خلط الفرض بالنافلة في الصلاة وهذا لا يصح لأهل الظاهر لدفعهم القياس وقول من قال بهذا تعسف وشذوذ من القول ولا سلف لقائله ولا وجه له وذكر أبو بكر الأثرم قال قلت لأحمد بن حنبل رجل اغتسل يوم الجمعة من جنابة ونوى مع ذلك غسل الجمعة فقال أرجو أن يجزئه منهما جميعا قلت له يروى عن مالك أنه قال لا يجزئه عن واحد منهما فأنكره قال أبو بكر حدثنا أحمد بن أبي شعيب قال حدثنا موسى بن أعين عن ليث عن نافع عن بن عمر أنه كان يغتسل للجمعة والجنابة غسلا واحدا حدثنا أحمد بن عبد الله قال حدثني أبي قال حدثنا عبد الله بن يونس حدثنا بقي حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا جرير عن ليث عن نافع عن بن عمر أنه كان يغتسل للجمعة والجنابة غسلا واحدا ولا مخالف له علمت من الصحابة مالك عن بن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من إناء هو الفرق من الجنابة وقد ذكرنا في التمهيد من وافق مالكا على لفظه في هذا الحديث ومن زاد فيه من رواته وليس في حديث مالك هذا إلا الاقتصار على ما يكفي من الماء من غير تحديد وأن الإسراف فيه مذموم وذلك رد على الإباضية ومن ذهب مذهبهم في الإكثار من الماء وهو مذهب ظهر قديما وسئل عنه بعض الصحابة والتابعين فلذلك سيق هذا الحديث ومثله

وقد ذكرنا من آثار هذا الباب في التمهيد كثيرا يدل على ما وصفنا والحمد لله وجملة الآثار المنقولة في هذا عن النبي عليه السلام يدل على أن لا توقيت فيما يكفي من الماء في الغسل والطهارة ولذلك ما استحب السلف ذكر المقدار من غير كيل روى عبد الرزاق عن بن جريج قال سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير يقول صاع للغسل من غير أن يكال قال وأخبرنا بن جريج قال قلت لعطاء كم بلغك أنه يكفي الجنب قال صاع من ماء من غير أن يكال وقد روى القعنبي عن سليمان بن بلال عن عبد الرحمن بن عطاء أنه سمع سعيد بن المسيب سأله رجل من أهل العراق عما يكفي الإنسان في غسل الجنابة فقال لي سعيد إن لي تورا يسع مدين من ماء أو نحوهما وأغتسل به فيكفيني وتفضل فيه فضلة فقال الرجل والله إني لأستنثر بمدين من ماء فقال سعيد بن المسيب فما تأمرني إن كان الشيطان يلعب بك فقال له الرجل فإن لم يكفني فإني رجل كما ترى عظيم فقال له سعيد ثلاثة أمداد فقال إن ثلاثة أمداد قليل قال له فصاع قال عبد الرحمن وقال لي سعيد إن لي ركوة أو قدحا ما تسع إلا نصف المد أو نحوه وإني لأتوضأ منه وربما فضل فضل قال عبد الرحمن فذكرت هذا الحديث الذي سمعت من سعيد بن المسيب لسليمان بن يسار فقال وأنا يكفيني مثل ذلك قال عبد الرحمن فذكرت ذلك لأبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر فقال أبو عبيدة هكذا سمعنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي التمهيد زيادات في هذا المعنى عن جماعة من العلماء ولا خلاف بينهم في هذا الباب والحمد لله وأما الفرق فبتحريك الراء وقد روي عن يحيى وغيره بإسكان الراء

قال الخليل بن أحمد الفرق مكيال وقال بن وهب الفرق مكيال من خشب كان بن شهاب يقول إنه يسع خمسة أقساط بأقساط بني أمية وقد فسر محمد بن عيسى الأعشى الفرق بثلاثة أصوع قال وهي خمسة أقساط قال وفي الخمسة أقساط اثنا عشر مدا بمد النبي عليه السلام قال بن مزين قال لي عيسى بن دينار قال لي بن القاسم وسفيان بن عيينة الفرق يحمل ثلاثة أصوع وقال أبو داود سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن الفرق فقال ثلاثة أصوع وهذا كله قريب بعضه من بعض وقد روي عن مجاهد ما يخالف ذلك روى موسى الجهني عن مجاهد أنه أتى بقدح حزرته بثمانية أرطال فقال حدثتني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بمثل هذا قال أبو عمر غسل الأعضاء في الوضوء وسائر الجسم في الغسل إنما يكون بمباشرة الماء لذلك وما أمر الله بغسله فلا يجزئ فيه المسح فمن قدر أن يتوضأ بمد أو أقل ويغتسل بصاع أو دون بعد أن يسبغ ويعم فذلك حسن جائز عند جماعة العلماء بالحجاز والعراق ولا يخالف في ذلك إلا ضال مبتدع وبالله التوفيق وأما فعل بن عمر في نضحه الماء في عينيه إذ كان يغتسل من الجنابة فشيء لم يتابع عليه لأن الذي عليه غسل ما ظهر لا ما بطن وله رحمه الله أشياء شذ فيها حمله الورع عليها وفي أكثر الموطآت سئل مالك عن نضح بن عمر الماء في عينيه فقال ليس على ذلك الأمر عندنا وليس هذا عند يحيى وأما قول عائشة إذ سئلت عن غسل المرأة من الجنابة فقالت لتحفن على رأسها ثلاث حفنات من الماء ولتضغث رأسها بيديها

فذلك إنكار منها قول من رأى أن تنقض المرأة ضفائر رأسها عند غسلها لأن الذي عليها بل شعرها وإيصال الماء إلى أصوله وإسباغ ذلك وعمومه وقد أنكرت على عبد الله بن عمرو بن العاص أمره النساء أن ينقضن رؤوسهن عند الغسل وقالت ما كنت أزيد أن أغرف على رأسي ثلاث غرفات مع رسول الله رواه أيوب بن أبي الزبير عن محمد بن عمير عن عائشة أنه بلغها عن عبد الله بن عمرو وفي حديث أم سلمة يا رسول الله أأنقض رأسي عند الغسل فقال يكفيك أن تصبي على رأسك ثلاث مرات وقال سعيد لكل صبة عصرة وقال مالك اغتسال المرأة من الحيض والجنابة سواء ولا تنقض رأسها باب واجب الغسل إذا التقى الختانان مالك عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل هذا حديث صحيح عن عثمان بأن الغسل يوجبه التقاء الختانين وهو يدفع حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن عطاء بن يسار أخبره أن زيد بن خالد الجهني أخبره أنه سأل عثمان بن عفان قال قلت أرأيت إذا جامع الرجل امرأته ولم يمن قال عثمان يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وسأل عن ذلك عليا والزبير وطلحة وأبي بن كعب فأمروه بذلك وهذا حديث منكر لا يعرف من مذهب عثمان ولا من مذهب علي ولا من مذهب المهاجرين انفرد به يحيى بن أبي كثير ولم يتابع عليه

وهو ثقة إلا أنه جاء بما شذ فيه وأنكر عليه ونكارته أنه محال أن يكون عثمان سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يسقط الغسل من التقاء الختانين ثم يفتي بإيجاب الغسل منه ولا أعلم أحدا قال بأن الغسل من التقاء الختانين منسوخ بل قال الجمهور إن الوضوء منه منسوخ بالغسل ومن قال بالوضوء منه أجازه وأجاز الغسل فلم ينكره ذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال كان عمر وعثمان وعائشة والمهاجرون الأولون يقولون إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل وقد تدبرت حديث عثمان الذي انفرد به يحيى بن أبي كثير فليس فيه تصريح بمجاوزة الختان الختان وإنما فيه جامع ولم يمس وقد تكون مجامعة ولا يمس فيها الختان الختان لأنه لفظ مأخوذ من الاجتماع يكنى به عن الوطء وإذا كان كذلك فلا خلاف حينئذ فيما قال عثمان إنه يتوضأ وجائز أن يسمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يكون معارضا لإيجاب الغسل بشرط التقاء الختانين قال أبو بكر الأثرم قلت لأحمد بن حنبل حديث حسين المعلم عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عطاء بن يسار عن زيد بن خالد قال سألت عنه خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان وعليا وطلحة والزبير وأبي بن كعب فقالوا الماء من الماء أفيه علة تدفعه بها قال نعم ما يروى من خلافه عنهم قلت عن علي وعثمان وأبي بن كعب قال نعم وقال أحمد بن حنبل الذي أرى إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل قيل إنه قد كنت تقول غير هذا قال ما أعلمني قلت غير هذا قط قيل له قد بلغنا ذلك عنك قال الله المستعان وقال يعقوب بن شيبة سمعت علي بن المديني وذكر هذا الحديث فقال إسناد حسن ولكنه حديث شاذ غير معروف قال علي وقد روي عن عثمان وعلي وأبي بن كعب بأسانيد جياد أنهم أفتوا بخلافه قال يعقوب بن شيبة هو حديث منسوخ كانت هذه الفتوى في أول الإسلام ثم جاءت السنة بعد ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل

قال أبو عمر قول يعقوب بن شيبة هذا مأخوذ مما حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر حدثنا أبو داود حدثنا أحمد بن صالح حدثنا بن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن بن شهاب قال حدثني بعض من أرضى أن سهل بن سعد أخبره أن أبي بن كعب أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جعل ذلك رخصة في أول الإسلام ثم أمر بالغسل ونهى عن ذلك قال أبو داود يعني الماء من الماء قال موسى بن هارون وقد روى أبو حازم هذا الحديث عن سهل بن سعد وأظن بن شهاب منه سمعه لأنه لم يسمعه من سهل بن سعد وقد سمع من سهل أحاديث فإن كان بن شهاب سمعه من أبي حازم فإنه ثقة رضا قال أبو عمر حديث أبي حازم في ذلك ذكره أبو داود أيضا قال حدثنا محمد بن مهران الرازي قال حدثنا مبشر الحلبي عن محمد بن مطرف أبي غسان عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال حدثني أبي بن كعب أن الفتيا التي كانوا يفتون الماء من الماء كانت رخصة رخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام ثم أمر بالاغتسال بعد وذكر بن أبي شيبة قال حدثنا سهل بن يوسف قال حدثنا شعبة عن سيف بن وهب عن أبي حرب بن أبي الأسود عن عميرة بن يثربي عن أبي بن كعب قال إذا التقى ملتقاهما فقد وجب الغسل وذكره البخاري في تاريخه قال حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا سهل بن يوسف بإسناده مثله في باب عميرة بن يثربي وفي حديث سيف بن وهب وأما حديث الأعمش عن ذكوان بن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري عن النبي عليه السلام قال إذا أعجل أحدكم أو أقحط فلا يغتسل فليس فيه حجة لأنه يحتمل أن يكون جوابا لمن أعجل أو أقحط عن بلوغ التقاء الختانين

وكذلك حديث بن شهاب عن أبي سلمة عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الماء من الماء رواه بن وهب عن عمرو بن الحارث عن بن شهاب ورواه جماعة من أصحاب بن شهاب كذلك قال وكان أبو سلمة يفعل ذلك لا حجة فيه أيضا لأن قوله الماء من الماء لا يدفع أن يكون الماء من التقاء الختانين ولا خلاف أن الماء وهو الاغتسال يكون من الماء الذي هو الإنزال لأن من أوجب الغسل من التقاء الختانين يوجبه من الماء من الماء والتقاء الختانين زيادة حكم وقد قيل معنى الماء من الماء في الاحتلام لا في اليقظة لأنه لا يجب الماء في الاحتلام إلا مع إنزال الماء وهذا مجتمع عليه فيمن رأى أنه يجامع ولا ينزل أنه لا غسل عليه وإنما الغسل في الاحتلام على من أنزل الماء هذا ما لم يختلف فيه العلماء وقد روى شريك عن أبي الجحاف واسمه داود بن أبي عوف عن عكرمة عن بن عباس قال إنما الماء من الماء في الاحتلام وإنما الرواية في التقاء الختانين عن المهاجرين من الصحابة فذكر بن أبي شيبة قال حدثنا بن علية عن شعبة عن أبي عون عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه سمع من عمرو أو عن أخيه سمعه من عمرو وقال إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل قال حدثنا بن أبي عيينة عن بن طاوس عن أبيه قال سمعت بن عباس يقول أما أنا فإذا خالطت أهلي اغتسلت قال حدثنا أسامة بن عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر قال إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل وذكر عبد الرزاق عن الثوري عن جابر عن الشعبي قال حدثني الحارث عن علي وعلقمة عن عبد الله ومسروق عن عائشة قالوا إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل وعن معمر عن عبد الله بن محمد بن عقيل أن عليا قال كما يجب منه الحد كذلك يجب منه الغسل وعن محمد بن مسلم عن عمرو بن دينار عن أبي جعفر محمد بن علي بن

حسين أن عليا وأبا بكر وعمر قالوا ما أوجب الحدين الجلد والرجم أوجب الغسل وعن بن جريج وعبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر قال إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل وهو عند مالك عن نافع عن بن عمر وعن الثوري عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن بن مسعود سئل عن ذلك فقال إذا بلغت ذلك اغتسلت قال سفيان والجماعة على الغسل ذكر أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو بكر بن عياش عن عاصم عن زر عن علي قال إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل قال وحدثنا وكيع عن حنظلة الجمحي عن سالم عن بن عمر قال قال عمر إذا خالط الرجل أهله فقد وجب الغسل قال وحدثنا وكيع عن مسعر عن معبد بن خالد عن علي وعن غالب بن أبي الهذيل عن إبراهيم عن علي قال إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل وكيف يصح عن علي حديث عطاء بن يسار عن زيد بن خالد مع تواتر الطرق بخلاف ذلك وأما أبو بكر وعمر فلم يختلف عنهما في ذلك حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا بن أبي إدريس عن الشيباني عن بكير بن الأخنس عن سعيد بن المسيب قال قال عمر لا أوتي برجل فعله يعني جامع ولم يغتسل وهو لم ينزل إلا نهكته عقوبة قال وحدثنا حفص عن حجاج عن أبي بكر قال أجمع المهاجرون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي أن ما أوجب الحد من الجلد والرجم أوجب الغسل وذكر عبد الرزاق أخبرنا مجاهد عن أبيه قال اختلف المهاجرون والأنصار فيما يوجب الغسل فقال الأنصار الماء من الماء وقال المهاجرون إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل فحكموا بينهم علي بن أبي طالب واختصموا إليه فقال علي أرأيتم لو أبصرتم رجلا يدخل ويخرج أيجب عليه الحد قالوا نعم قال أفيوجب الحد ولا يوجب صاعا من ماء فقضى للمهاجرين فبلغ ذلك

عائشة فقالت ربما فعلنا ذلك أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فقمنا واغتسلنا وهذا أيضا يعارض حديث عطاء بن يسار عن زيد بن خالد قال حدثنا بن علية عن أيوب عن عكرمة قال يوجب الحد والرجم ولا يوجب إناء من ماء وهو قول شريح وأبي هريرة وإليه انصرف أبي وزيد بن ثابت والنعمان بن بشير وسهل بن سعد وبن عباس وعليه عامة الصحابة والتابعين وجمهور فقهاء الأمصار مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنه قال سألت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ما يوجب الغسل فقالت هل تدري ما مثلك يا أبا سلمة مثل الفروج يسمع الديكة تصرخ فيصرخ معها إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل ففيه دليل على أن أبا سلمة كان عندها ممن يقول بذلك وأنه قلد فيه من لا علم له به فعاتبته بذلك لأنه كان أعلم الناس بذلك لأنه كان أعلم الناس بذلك المعنى لمكانها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تقدم عن أبي سلمة روايته عن عطاء وعن أبي سعيد أنه كان يفعل ذلك ولذلك قرعته عنه بما ذكر مالك في حديثه والله أعلم وأما حديث مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن أبا موسى الأشعري أتى عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها لقد شق علي اختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أمر إني لأعظم أن أستقبلك به فقالت ما هو ما كنت سائلا عنه أمك فسلني عنه فقال الرجل يصيب أهله يكسل ولا ينزل فقالت إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل فقال أبو موسى الأشعري لا أسأل عن هذا أحدا بعدك أبدا

فإنه وإن لم يكن مسندا في ظاهرة فإنه يدخل في المسند بالمعنى والنظر لأنه محال أن ترى عائشة نفسها حجة على غيرها من الصحابة في حين تنازعهم واختلافهم في هذه المسألة النازلة بينهم ومحال أن يسلم أبو موسى لعائشة قولها من رأيها في مسألة قد خالفها فيها من الصحابة غيرها برأيه لأن كل واحد منهم ليس بحجة على صاحبة عند التنازع في الرأي فلم يبق إلا أن تسليم أبي موسى لها كان لعلمه أن ما احتجت به كان عن رسول الله ومع ما ذكرنا من هذا الاستدلال فقد روي حديثها هذا عنها مسندا عن النبي عليه السلام فمن ذلك ما رواه أبو قرة موسى بن طارق عن مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن أبي موسى عن عائشة عن النبي عليه السلام قال إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل وروى علي بن زيد عن بن المسيب قال نازع أبو موسى ناسا من الأنصار فقالوا الماء من الماء قال سعيد فانطلقت أنا وأبو موسى حتى دخلنا على عائشة فقال لها أبو موسى الذي تنازعوا فيه فقالت عائشة عندي الشفاء من ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس بين الشعب الأربع وألصق الختان بالختان فقد وجب الغسل وروى حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن عبد الله بن رباح عن عبد العزيز بن النعمان عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقى الختانان اغتسل وروى القاسم بن محمد وعطاء بن أبي رباح وأم كلثوم بنت أبي بكر كلهم عن عائشة قالت كنت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نفعله فنغتسل وقد ذكرنا أسانيد هذه الأحاديث عن عائشة كلها في التمهيد وهي مرفوعة مسندة فدل على صحة التأويل المذكور وبالله التوفيق وروى مثل ذلك جماعة من الصحابة أيضا فمن ذلك حديث شعبة وسعيد وأبان وهمام وحماد بن سلمة وهشام وكلهم عن قتادة عن الحسن عن رافع

عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام قال إذا قعد بين شعبها الأربع وألزق الختان بالختان فقد وجب الغسل وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقى الختانان وتوارت الحشفة فقد وجب الغسل وقد ذكرنا أسانيدها في التمهيد وعلى هذا مذاهب أهل العلم وبه الفتوى في جميع الأمصار فيما علمت وممن قال بذلك من الفقهاء مالك وأصحابه وسفيان الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه والليث بن سعد والحسن بن حي والشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وأبو عبيد والطبري واختلف أصحاب داود في هذه المسألة فمنهم من قال في هذه المسألة بما عليه الفقهاء والجمهور على ما وصفنا من إيجاب الغسل بالتقاء الختانين ومنهم من قال لا غسل إلا بإنزال الماء الدافق وجعل في الإكسال الوضوء واحتج من ذهب إلى هذا بما رواه يحيى القطان وغيره عن هشام بن عروة قال أخبرني أبو أيوب الأنصاري قال أخبرني أبي بن كعب أنه قال يا رسول الله إذا جامع الرجل امرأته فلم ينزل قال يغسل ما مس المرأة ثم يتوضأ ويصلي وهذا الحديث قد صح عن أبي بن كعب وصح بما قدمنا أنه منسوخ وأن الفتيا بذلك كانت في أول الإسلام ثم أمروا بالغسل فلا حجة في هذا عند أحد يعرف ما يقول وفي حديث مالك ما يدل على أن أبي بن كعب كان يفتي بما حدث به عنه أبو أيوب حتى صح عنده بعد ما ذكره عنه سهل بن سعد فنزع عن ذلك ورجع عنه مالك عن يحيى بن سعيد عن عبد الله بن كعب مولى

عثمان بن عفان أن محمود بن لبيد الأنصاري سأل زيد بن ثابت عن الرجل يصيب أهله ثم يكسل ولا ينزل فقال زيد يغتسل فقال له محمود إن أبي بن كعب كان لا يرى الغسل فقال له زيد بن ثابت إن أبي بن كعب نزع عن ذلك قبل أن يموت وفي رجوع أبي بن كعب عن القول بما سمعه من النبي عليه السلام ورواه عنه ما يدل على أنه كان منسوخا ولولا ذلك ما رجع عنه لأن ما لم ينسخ من الكتاب والسنة لا يجوز تركه ولا الرجوع عنه لأحد صح عنده حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا مطلب بن شعيب قال حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني الليث قال حدثنا عقيل عن بن شهاب عن سهل بن سعد قال حدثني أبي بن كعب أن الفتيا التي كانوا يفتون بها قولهم إن الماء من الماء رخصة كان رسول الله رخص بها في أول الإسلام ثم أمرنا بالغسل بعد وقد تقدم أن بن شهاب لم يسمعه من سهل بن سعد وإنما رواه عن أبي حازم عن سهل بن سعد وهو حديث صحيح ثابت بنقل العدول والثقات له فإن قيل إن رافع بن خديج وأبا سعيد الخدري وعبد الله بن عباس وأبا مسعود وسعد بن أبي وقاص كانوا يقولون الماء من الماء قيل لقائل ذلك قد قلنا إن الماء من الماء يحتمل أن يكون معناه الاحتلام وإن لم ينزل في احتلامه فلا يضره ما رأى من جماعه وقد روى عن بن عباس وسعد بن أبي وقاص وبن مسعود إيجاب الغسل من التقاء الختانين على خلاف ما حكى هذا القائل عنهم ولا حجة في قول أحد مع السنة وقد ثبت عن النبي عليه السلام ما قدمنا ذكره في هذا الباب مما فيه كفاية ومقنع وحجة قاطعة عند ذوي الألباب ولهذه المسألة أيضا حظ من النظر وذلك أن الصلاة لا تجب أن تؤدي إلا بطهارة متيقنة وقد أجمعوا على أنه من اغتسل من الإكسال فقد أدى صلاته بطهارة مجتمع

عليها والصلاة يجب أن يحتاط لها وكيف وفي ثبوت السنة بصحيح الأثر ما يغني عن كل نظر وبالله التوفيق باب وضوء الجنب إذا أراد أن ينام أو يطعم قبل أن يغتسل مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أنه قال ذكر عمر بن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يصيبه جنابة من الليل فقال له رسول الله توضأ واغسل ذكرك ثم نم وهذا من التقديم والتأخير أراد اغسل ذكرك وكذلك رواه سفيان الثوري وشعبة عن عبد الله بن دينار عن بن عمر فقالا فيه يغسل ذكره ويتوضأ وقد رواه عن مالك جماعة كذلك في غير الموطإ ولم يختلف رواة الموطإ أنه كما رواه يحيى توضأ واغسل ذكرك ثم نم ورواية بن جريج لهذا الحديث عن نافع كرواية الثوري وشعبة عن بن عيينة عن عبد الله بن دينار في المعنى قال فيه إن عمر استفتى النبي عليه السلام فقال أينام أحدنا وهو جنب قال نعم ليتوضأ ولم يذكر غسل الذكر في الوضوء لا قبل ولا بعد لقول عائشة إذا أصاب أحدكم المرأة ثم أراد أن ينام فلا ينم حتى يتوضأ وضوءه

للصلاة ليبين أن الوضوء الذي أمر به النبي عليه السلام عمر بن الخطاب هو الوضوء للصلاة ثم أتبعه بفعل بن عمر أنه كان لا يغسل رجليه إذا توضأ وهو جنب للأكل أو للنوم ولم يعجب مالكا فعل بن عمر وأظنه أدخله إعلاما أن ذلك الوضوء ليس بلازم وما أعلم أحدا من أهل العلم أوجبه فرضا إلا طائفة من أهل الظاهر وأما سائر الفقهاء بالأمصار فلا يوجبونه وأكثرهم يأمرون به ويستحبونه وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وجماعة الصحابة والتابعين قال مالك لا ينام الجنب حتى يتوضأ وضوءه للصلاة قال وله أن يعاود أهله ويأكل قبل أن يتوضأ إلا أن يكون في يده قذر فيغسلها قال وأما الحائض فتنام قبل أن تتوضأ وقول الشافعي في هذا كله نحو قول مالك وقال الليث بن سعد لا ينام الجنب حتى يتوضأ رجلا كان أو امرأة وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري لا بأس أن ينام الجنب على غير وضوء وأحب إليهم أن يتوضأ قال فإذا أراد أن يأكل مضمض وغسل يديه وهو قول الحسن بن حي وقال الأوزاعي الحائض والجنب إذا أرادا أن يأكلا أو يناما غسلا أيديهما وقال سعيد بن المسيب إن شاء الجنب نام قبل أن يتوضأ قال أبو عمر وقد ذكرنا الآثار المرفوعة عن عمر وعائشة عن النبي عليه السلام في وضوء الجنب عند النوم ولم تختلف عنهما الآثار في ذلك إلا من رواية من أخطأ في الحديث عند أهل العلم به على ما بيناه في التمهيد واختلفت الرواية المرفوعة عن عائشة في وضوء الجنب عند النوم وأحسن الأسانيد عن عائشة في ذلك ما رواه بن المبارك وغيره عن يونس عن الزهري عن أبي سلمة عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وإذا أراد أن يأكل ويشرب غسل يديه ثم يأكل ويشرب

وقد ذكرنا الاختلاف عنه في هذا الحديث وذكرنا طرق حديث عائشة وطرق حديث بن عمر عن عمر بذلك في التمهيد ورواه الحكم عن إبراهيم عن الحسن عن عائشة أن النبي عليه السلام كان إذا أراد أن يأكل أو ينام وهو جنب توضأ وذكر أحمد بن زهير عن أحمد بن حنبل عن يحيى القطان قال ترك شعبة حديث الحكم في الجنب إذا أراد أن يأكل وأما حجة من ذهب من الكوفيين وغيرهم إلى أن الجنب لا بأس أن ينام قبل أن يتوضأ فحديث ذكره أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد بن سلمة قال حدثنا عطاء الخرساني عن يحيى بن يعمر عن عمار بن ياسر أن النبي عليه السلام رخص للجنب إذا أكل أو شرب أو نام أن يتوضأ وقالوا معناه ألا يتوضأ لأنه في ذلك رخصة وهذا محتمل للتأويل لا حجة فيه قال أبو داود وبين يحيى بن يعمر وعمار بن ياسر فيه رجل وروى سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن الأسود عن عائشة أن النبي عليه السلام كان ينام وهو جنب ولا يمس ماء قال سفيان وهذا الحديث خطأ ونحن نقول به وقد أوضحنا قول سفيان هذا في التمهيد وقد عارض حديث بن عمر وحديث عائشة في هذا الباب بحديث سعيد بن الحويرث عن بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء فأتى بطعام فقالوا ألا نأتيك بطهر فقال لا أصلي فأتطهر وبعضهم يقول فيه ألا تتوضأ فقال ما أردت الصلاة فأتوضأ ثم تناول عرقا فأكل منه ولم يمس ماء وهو حديث صحيح رواه أيوب وحماد بن زيد وسفيان بن عيينة وبن جريج عن عمرو بن دينار سمع سعيد بن الحويرث سمع بن عباس وقد سمعه بن جريج من سعيد بن الحويرث وطرقه في التمهيد قالوا ففي هذا الحديث أن الوضوء لا يكون إلا لمن أراد الصلاة وذلك رفع الوضوء عند النوم وعند الأكل والله أعلم

باب إعادة الجنب الصلاة وغسله إذا صلى ولم يذكر وغسله ثوبه مالك عن إسماعيل بن حكيم أن عطاء بن يسار أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر في صلاة من الصلوات ثم أشار بيديه أن امكثوا فذهب ثم رجع على جلده أثر الماء قد ذكرنا عطاء بن يسار وأخويه بما يجب من ذكر المولد والوفاة والحال واللقاء في التمهيد وهذا حديث منقطع وقد روي متصلا مسندا من حديث أبي هريرة وحديث أبي بكرة وقد ذكرت طرقها في التمهيد وفي بعضها أنه كبر كما في حديث مالك وفي بعضها أنه قام في مصلاه وفي بعضها أنه لما انصرف كبر وفي رواية الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة لهذا الحديث فقال لهم مكانكم وفي حديث أبي بكرة فأومأ رسول الله بيده أن مكانكم وكلامه وإشارته في ذلك سواء لأنه كان في غير صلاة أخبرنا عبد الله بن محمد حدثنا عبد الحميد بن أحمد حدثنا الخضر بن داود حدثنا أبو بكر الأثرم قال سألت أحمد بن حنبل عن حديث أبي بكرة أن النبي عليه السلام أشار أن امكثوا فذهب ثم رجع وعلى جلده أثر الغسل فصلى بهم ما وجهه قال وجهه قال وجهه أنه ذهب فاغتسل قيل له كان جنبا قال نعم ثم قال يرويه بعض الناس أنه كبر وبعضهم يقول لم يكبر قيل له فلو فعل هذا إنسان اليوم أكنت تذهب إليه قال نعم قال أبو عمر من ذكر أنه كبر زاد زيادة حافظ يجب قبولها وفي حديث مالك وغيره أنه كبر على ما قد أوردناه في التمهيد ومن روى أو اعتقد أنه لم يكبر فقد أراح نفسه من الكلام في هذا الباب وإنما القول والتوجيه فيه على من روى أنه كبر ثم قال لهم وأشار إليهم أن امكثوا وقد ظن بعض شيوخنا أن في إشارته إليهم أن امكثوا دليلا على أنه إذا انصرف إليهم بنى بهم لأنه لم يتكلم وهذا جهل وغلط فاحش ولا يجوز عند أحد من

العلماء أن يبني أحد على ما صنع من صلاته غير طاهر ولا يخلو أمره عليه السلام إذا رجع من أحد ثلاثة أوجه إما أن يكون بنى على التكبيرة التي كبرها وهو جنب وبنى القوم معهم على تكبيرهم فإن كان هذا فهو منسوخ بالسنة والإجماع أما السنة فقوله عليه السلام لا يقبل الله صلاة بغير طهور فكيف يبني على ما صلى وهو غير طاهر وتكبيرة الإحرام ركن من أركان الصلاة فكيف يجتزئ بها وقد عملها على غير طهارة هذا لا يظنه ذو لب ولا يقوله أحد لأن علماء المسلمين مجمعون على أن الإمام وغيره من المصلين لا يبني أحد منهم على شيء عمله في صلاته وهو على غير طهارة وإنما اختلفوا في بناء المحدث على ما قد صلى وهو طاهر قبل حدثه وقد بينا ذلك فيما مضى من هذا الكتاب في باب بناء الراعف والحمد لله والوجه الآخر أن يكون عليه السلام حين انصرف بعد غسله استأنف صلاته واستأنفها أصحابه معه بإحرام جديد وأبطلوا إحرامهم وإن كانوا قد أحرموا معه وكان لهم أن يعتدوا به لو استخلف من يتم بهم فإن كان هذا فليس في الحديث معنى يشكل حينئذ على مذهب من روى أنه كبر ثم أشار إليهم أن امكثوا ثم انصرف وأما من روى أنه لم يكبر أولا وكبر لما انصرف فليس في روايته شيء يحتاج إلى قول غير انتظار الإمام إذا كان في الوقت سعة وهذا أمر مجتمع على جوازه ولا مدخل أيضا للقول فيه والوجه الثالث أن يكون النبي عليه السلام كبر محرما مستأنفا لصلاته وبنى القوم خلفه على ما مضى من إحرامهم فهذا وإن كان فيه النكتة المجيزة لصلاة القوم خلف الإمام الجنب لاستجزائهم بإحرامهم فإنه لا يصح ولا يخرج على مذهب مالك لأنه حينئذ يكون إحرام القوم قبل إحرام إمامهم وهذا غير جائز عند مالك وجمهور الفقهاء وإنما أجازه الشافعي في أحد قوليه والصحيح عن الشافعي ما ذكره البويطي وغيره عنه أن إحرام المأموم لا يصح

إلا بعد تكبيرة إمامه في إحرامه ومن كبر قبل إمامه فلا صلاة له لا يحتمل الحديث غير هذه الأوجه ولا يخلوا من أحدها وليس في شيء منها ما يدل على جواز صلاة المأموم الطاهر خلف الإمام الجنب على مذهب مالك فتدبره تجده كذلك إن شاء الله وأما الشافعي فيصح الاستدلال بهذا الحديث على أصله في أن صلاة القوم عنده غير مرتبطة بصلاة إمامهم لأن الإمام قد تبطل صلاته وتصح صلاة من خلفه وقد تبطل صلاة المأموم وتصح صلاة الإمام بوجوه أيضا كثيرة فلذلك لم تكن صلاتهما مرتبطة ولذلك لم يضرهم عنده اختلاف نياتهم ونيته في صلاة واحدة لأن كلا يصلي بنفسه ولا يحتمل فرضا عن صاحبه ولذلك أجاز في أحد قوليه إحرام المأمومين قبل إمامهم وإن كان لا يستحب لهم ذلك لأنه مستحيل أن يدخلوا في صلاة إمامهم ولم يدخل فيها بعد ولأصحابه دلائل واحتجاجات للقولين ليس كتابنا هذا موضعا لذكرها وجملة قول مالك وأصحابه في إمام أحرم بقوم فذكر أنه جنب أو على غير وضوء أنه يخرج ويقدم رجلا فإن خرج ولم يقدم أحدا قدموا لأنفسهم من يتم بهم الصلاة فإن لم يفعلوا وصلوا أفرادا أجزأتهم صلاتهم فإن انتظروه ولم يقدموا أحدا لم تفسد صلاتهم وروى يحيى بن يحيى عن بن نافع قال إذا انصرف الإمام ولم يقدم وأشار إليهم امكثوا كان حقا عليهم ألا يقدموا أحدا حتى يرجع فيتم بهم قال أبو عمر قوله فيتم بهم لا يصح في الجنب وغير المتوضئ وإنما يصح فيمن أحدث وأما من لم يكن على طهارة فإنه يبتدئ بهم لا يتم وقد أوضحنا هذا بما يغني عن تكراره وقد جعل قوم منهم الشافعي وداود بن علي هذا الحديث أصلا في ترك الاستخلاف لمن أحدث في صلاته فقال الشافعي الاختيار عندي إذا أحدث الإمام حدثا لا تجوز معه الصلاة من رعاف أو انتقاض وضوء أو غيره أن يصلي القوم فرادى ولا يقدموا أحدا فإن قدموا أو قدم الإمام رجلا فأتم بهم ما بقي من صلاتهم أجزأتهم صلاتهم قال وكذلك لو أحدث الإمام الثاني والثالث والرابع قال ولو أن إماما كبر وقرأ وركع أو لم يركع حتى ذكر أنه على غير طهارة فكان خروجه أو غسله قريبا فلا بأس أن يقف الناس في صلاتهم حتى يتوضأ

ويرجع فيستأنف ويتمون لأنفسهم كما فعل رسول الله عليه السلام حين ذكر أنه جنب فانتظره القوم فاستأنف لنفسه لأنه لا يعتد بتكبيرة كبرها وهو جنب ويتم القوم لأنفسهم لأنهم لو أتموا لأنفسهم حين خرج عنهم إمامهم أجزأتهم صلاتهم قال وإن كان خروج الإمام يتباعد أو طهارته تثقل صلوا لأنفسهم قال وسواء أشار إليهم أن ينتظروه أو كلمهم لأنهم في غير صلاة فإن انتظروه وكان قريبا فحسن وإن خالفوه فصلوا لأنفسهم فرادى أو قدموا غيره أجزأتهم صلاتهم قال والاختيار عندي للمأمومين إذا فسدت على الإمام صلاته أن يبنوا فرادى ولا ينتظروه وليس أحد كرسول الله صلى الله عليه وسلم قال الشافعي ولو أن إماما صلى ركعة ثم ذكر أنه جنب فخرج واغتسل وانتظره القوم فرجع فبنى على الركعة فسدت عليه وعليهم صلاتهم لأنهم يأتمون به عالمين أن صلاته فاسدة وليس له أن يبني على ركعة صلاها جنبا قال ولو علم بعضهم ولم يعلم بعض فسدت صلاة من علم ذلك منهم قال أبو عمر احتج من أجاز انتظار القوم للإمام إذا أحدث بحديث هذا الباب وفيه ما ذكرنا من الاختلاف في تكبيره عليه السلام واحتج أيضا بما حدثنا محمد بن عبد الله بن حكم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب قال حدثنا أبو داود الطيالسي قال حدثنا نافع بن عمر عن بن أبي مليكة أن عمر بن الخطاب صلى بالناس فأهوى بيده فأصاب فرجه فأشار إليهم كما أنتم فخرج فتوضأ ثم رجع فأعاد قال أبو عمر كذا قال فأعاد وفيه نظر وقد تقدم في مس الذكر في بابه ما يكفي وكذلك في بناء الراعف والمحدث وقال داود إذا أحدث الإمام في صلاته صلى القوم أفرادا وأما أهل الكوفة وأكثر أهل المدينة فقائلون بالاستخلاف لمن نابه شيء في صلاته فإن جهل الإمام ولم يستخلف تقدمهم واحد منهم بإذنهم أو بغير إذنهم وأتم بهم وذلك عندهم عمل مستفيض إلا أن أبا حنيفة إنما يرى الاستخلاف لمن أحرم وهو طاهر ثم أحدث ولا يرى لإمام جنب أو على غير وضوء إذا ذكر ذلك في صلاته أن يستخلف وليس في هذه المسألة عندي موضع للاستخلاف لأن القوم عندهم في غير صلاة هم وإمامهم

قال أبو عمر لا تتبين لي حجة من كره الاستخلاف استدلالا بحديث هذا الباب لأن رسول الله ليس في الاستخلاف كغيره إذ لا عوض منه مع سعة الوقت ولا يجوز لأحد أن يتقدم بين يديه إلا بإذنه وقد قال لهم مكانكم فلزمهم أن ينتظروه وهذا إذا صح أنه تركهم في صلاة وقد قيل إنه لم يكن كبر وقد قال بعض من روى أنه كبر إنهم استأنفوا معه فلو صح هذا بطلت النكتة التي منها نزع من كره الاستخلاف وقد أجمع المسلمون على الاستخلاف فيمن يقيم لهم أمر دينهم ودنياهم والصلاة أعظم الدين وفي حديث سهل بن سعد دليل على جواز الاستخلاف لتأخر أبي بكر وتقدم النبي عليه السلام في تلك الصلاة وحسبك بما مضى عليه عمل الناس وسيأتي القول في حديث سهل بن سعد في بابه من هذا الكتاب إن شاء الله ذكر مالك حديث عمر بن الخطاب حين صلى وهو جنب ثم ذكر فاغتسل وغسل ثوبه وأعاد صلاته من أربعة طرق عن هشام بن عروة منها طريقان وطريق عن إسماعيل بن أبي حكيم وطريق عن يحيى بن سعيد وليس في شيء منها أن القوم الذين صلوا خلفه أعادوا وفي جميعها غسل المني من ثوبه واغتساله وإعادته صلاته ولا في شيء منها أنه صلى بالناس إلا في حديث يحيى بن سعيد وهو أحسنها ومعلوم أنه كان إمامهم مالك عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار أن عمر بن الخطاب صلى بالناس الصبح ثم غدا إلى أرضه بالجرف فوجد في ثوبه احتلاما فقال لما إنا أصبنا الودك لانت العروق فاغتسل وغسل الاحتلام من ثوبه وعاد لصلاته وفي حديثه عن إسماعيل بن أبي حكيم عن سليمان بن يسار أن عمر بن الخطاب غدا إلى أرضه بالجرف فوجد في ثوبه احتلاما فقال لقد

ابتليت بالاحتلام منذ وليت أمر الناس فاغتسل وغسل ما رأى في ثوبه من الاحتلام ثم صلى بعد أن طلعت الشمس وليس في حديثي سليمان بن يسار أنه غسل من ثوبه ما رأى فيه الاحتلام ونضح ما لم ير وذلك في حديثي هشام بن عروة ففي غسل عمر الاحتلام من ثوبه دليل على نجاسته لأنه لم يكن ليشتغل مع شغل السفر بشيء طاهر ولم يختلف العلماء فيما عدا المني من كل ما يخرج من الذكر أنه نجس وفي إجماعهم على ذلك ما يدل على نجاسة المني المختلف فيه ولو لم تكن له علة جامعة بين ذلك إلا خروجه مع البول والمذي والودي مخرجا واحدا لكفى وأما الرواية المرفوعة فيه فروى عمرو بن ميمون بن مهران عن سليمان بن يسار عن عائشة قالت كنت أغسله من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى همام بن الحارث والأسود عن عائشة كنت أفركه من ثوب رسول الله وحديث همام بن الحارث والأسود أثبت من جهة الإسناد ولا حجة في غسله لأنه جائز غسل المني وفركه عند من رآه طاهرا كما يجوز غسل الطين الطري وفركه إذا يبس وأما اختلاف السلف والخلف في نجاسة المني فروي عن عمر بن الخطاب وجابر بن سمرة أنهم غسلوه من ثيابهم وأمروا بغسله ومثله عن بن عمر وعائشة اختلاف عنهما وروينا عن جبير بن نفير أنه أرسل إلى عائشة يسألها عن المني في الثوب فقالت إن شئت فاغسله وإن شئت فاحككه وروي عن سعيد بن المسيب أنه أمر بغسله وروي عنه أنه قال إذا صلى فيه لم يعد وقال مالك غسل الاحتلام من الثوب أمر واجب مجتمع عليه عندنا

وعن الأوزاعي نحوه ولا يجزئ عند مالك وأصحابه في المني ولا في سائر النجاسات إلا الغسل بالماء ولا يجزئ فيه عنده الفرك وأنكره ولم يعرفه وأما أبو حنيفة وأصحابه فالمني عندهم نجس ويجزئ فيه الفرك على أصلهم في النجاسة أنه يطهرها كل ما أزال عينها من الماء وغير الماء وقال الثوري يفرك فإن لم يفركه أجزته صلاته وقال الحسن بن حي لا تعاد الصلاة من المني في الثوب وإن كثر وتعاد من المني في الجسد وإن قل وكان يفتي مع ذلك بفركه من الثوب إذا كان يابسا وبغسله إذا كان رطبا وقال الليث بن سعد هو نجس ويعيد منه في الوقت ولا يعيد بعده ويفركه من ثوبه بالتراب قبل أن يصلي وقال الشافعي المني طاهر ويفركه من ثوبه إذا كان يابسا وإن لم يفركه فلا بأس به وأما النجاسات فلا يطهرها عنده إلا الغسل بالماء كقول مالك سواء والمني عند أبي ثور وأحمد وإسحاق وداود طاهر كقول الشافعي ويستحبون غسله رطبا وفركه يابسا وهو قول سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عباس كان سعد يفرك المني من ثوبه وقال بن عباس هو كالنجاسة أمطه عنك بإذخرة وامسحه بخرقة وكذلك التابعون مختلفون بالحجاز والعراق على هذين القولين منهم من يرى فركه ومنهم من لا يرى إلا غسله ويطول الكتاب بذكرهم وأما قول عمر رحمه الله أغسل ما أرى وأنضح ما لم أر فالنضح لا محالة ها هنا الرش بدليل قوله أغسل ما رأيت فجعل النضح غير الغسل وهو الظاهر في النضح وإن كان قد يعبر في مواضع بالنضح عن الغسل على حسب ما يفهمه السامع ولا خلاف بين العلماء أن النضح في حديث عمر هذا معناه الرش وهو عند أهل العلم طهارة ما شك فيه كأنهم جعلوه دفعا للوسوسة ندب بعضهم إلى ذلك وأباه بعضهم وقال لا يزيده النضح إلا شرا

وفي رواية أخرى لا يزيده النضح إلا قذرا والأصل في الثوب الطهارة وكذلك الأرض وجسد المؤمن حتى يصح حلول النجاسة في شيء من ذلك فمن استيقن حلول المني في ثوبه غسل موضعه منه إذا اعتقد نجاسته كغسله سائر النجاسات على ما قد بينا وإن لم يعرف موضعه غسله كله فإن شك هل أصاب ثوبه شيء منه أم لا نضحه بالماء على ما وصفنا وعلى هذا مذهب الفقهاء لما ذكرنا روى معمر عن الزهري عن طلحة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة أنه كان يقول في الجنابة تصيب الثوب إن رأيت أثره فاغسله وإن خفي عليك فاغسل الثوب كله وإن شككت فلم تدر أصاب الثوب أم لا فانضحه وروي نحو ذلك عن بن عمر وسعيد بن المسيب وأنس بن مالك وبن سيرين والشعبي وجماعة من التابعين وقال عيسى بن دينار من صلى بثوب مشكوك في نجاسته أعاد في الوقت وقال بن نافع لا إعادة عليه وهو الصواب لما قدمنا في كل شيء طاهر أنه على طهارته حتى يصح حلول النجاسة فيه وأما قول عمر لقد ابتليت بالاحتلام منذ وليت أمر الناس فذلك والله أعلم باشتغاله بأمور المسلمين ليلا ونهارا عن النساء وأما قوله لعمرو بن العاص حين قال له دع ثوبك يغسل فقال لو فعلتها لكانت سنة فإنما كان ذلك لعلمه بمكانه من قلوب المؤمنين ولاشتهار قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي وأنهم كانوا يمتثلون أفعالهم فخشي التضييق على من ليس له إلا ثوب واحد وكان رحمه الله يؤثر التقلل من الدنيا والزهد فيها وفي إعادة عمر صلاته وحده دون الذين صلوا خلفه دليل على صحة ما ذهب إليه الحجازيون أنه لا يعيد من صلى خلف الجنب وغير المتوضئ إذا لم يعلموا حاله

وأما اختلاف العلماء في القوم يصلون خلف إمام ناس لجنابته فقال مالك وأصحابه والثوري والأوزاعي والشافعي وأصحابه لا إعادة عليهم وروي عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعليه أكثر العلماء وحسبك بحديث عمر فإنه صلى بجماعة من الصحابة صلاة الصبح ثم غدا إلى أرضه بالجرف فوجد في ثوبه احتلاما فغسله واغتسل وأعاد صلاته وحده ولم يأمرهم بإعادة الصلاة وهذا في جماعتهم من غير نكير من واحد منهم وقد روي عنه أنه أفتى بذلك وروى شعبة عن الحكم عن إبراهيم قال قال عمر في جنب صلى بقوم قال يعيد ولا يعيدون قال شعبة وقال حماد أعجب إلي أن يعيدوا وذكر أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو خالد الأحمر عن حجاج عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي في الجنب يصلي بالقوم قال يعيد ولا يعيدون روى أحمد بن حنبل قال حدثنا هشيم عن خالد بن سلمة قال أخبرني محمد بن عمرو بن المصطلق أن عثمان بن عفان صلى بالناس صلاة الفجر فلما أصبح وارتفع النهار فإذا هو بأثر الجنابة فقال كبرت والله كبرت والله فأعاد الصلاة ولم يأمرهم أن يعيدوا ذكره أبو بكر الأثرم عن أحمد بن حنبل قال وسمعت أحمد يقول يعيد ولا يعيدون قال سألت سليمان بن حرب عن ذلك فقال إذا صح لنا عن عمر شيء اتبعناه ولم نعده نعم يعيد ولا يعيدون وذكر عن الحسن وإبراهيم وسعيد بن جبير مثله وهو قول إسحاق وأبى ثور وداود إلا أن الأثرم حكى عن أحمد قال إذا صلى إمام بقوم وهو على غير وضوء ثم ذكر قبل أن يتم فإنه يعيد ويعيدون ويبتدئون الصلاة فإن لم يذكر حتى يفرغ من صلاته أعاد وحده ولم يعيدوا كأنه استعمل حديث النبي عليه السلام وحديث عمر وقال أبو حنيفة عليهم الإعادة لأن صلاتهم مرتبطة بصلاة إمامهم فإذا لم تكن له صلاة لم تكن لهم وهو قول الشعبي وحماد بن أبي سليمان وروي عن علي مثله

ذكره عبد الرزاق عن إبراهيم بن زيد عن عمرو بن دينار عن أبي جعفر محمد بن علي بن حسين عن علي رضي الله عنه وهو غير متصل واختلف مالك والشافعي والمسألة بحالها في الإمام يتمادى في صلاته ذاكرا لجنابته أو ذاكرا أنه على غير وضوء أو مبتدئا صلاته كذلك وهو مع ذلك معروف بالإسلام فقال مالك وأصحابه إذا عرف الإمام بأنه على غير طهارة وتمادى في صلاته بطلت صلاة من خلفه لأنه أفسدها عليهم وقال الشافعي صلاة القوم جائزة تامة ولا إعادة عليهم إذا لم يعلموا حال إمامهم لأنهم لم يكلفوا علم ما غاب عنهم وقد صلوا خلف رجل مسلم في علمهم وهو قول أكثر القائلين بأن الإعادة على من صلى خلف إمام جنب ناس لجنابته وإليه ذهب بن نافع صاحب مالك ومن حجتهم أنه لا فرق بين عمد الإمام ونسيانه لأنهم لم يكلفوا علم الغيب في حاله وإنما تفسد صلاتهم إذا علموا بأن إمامهم على غير طهارة فتمادوا خلفه فيكونون حينئذ المفسدين على أنفسهم وأما هو فغير مفسد بما لا يظهر من حاله إليهم لكن حاله في نفسه تختلف فيأثم في عمده إن تمادى بهم ولا إثم عليه إن لم يعلم ذلك وسها عنه وأما قول مالك فيمن رأى في ثوبه احتلاما لا يدري متى كان ولا يذكر شيئا رآه في منامه إنه يغتسل ويعيد ما صلى من أحدث نوم نامه ولم يعد ما كان قبله فهذا من قول مالك يرد قول يرون على من شك في حدثه بعد أن أيقن بالوضوء إعادة الوضوء قال وذلك أنه صلى بطهارة مشكوك فيها وخالفه أكثر العلماء في ذلك فلم يروا الشك عملا ولا دفعوا به اليقين في الأصل وكان بن خواز منداذ يقول قول مالك فيمن شك في الحدث وهو على طهارة إن عليه الوضوء استحباب واستحسان وكان عبد الملك بن حبيب يقول الوضوء عليه واجب ويقول في هذه المسألة يلزمه أن يعيد ما صلى من أول نوم نامه في ذلك الثوب إذا كان عليه لا يلبس معه غيره

باب غسل المرأة إذا رأت في المنام مثل ما يرى الرجل مالك عن بن شهاب عن عروة بن الزبير أن أم سليم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة ترى في المنام مثل ما يرى الرجل أتغتسل فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم فلتغتسل فقالت لها عائشة أف لك وهل ترى ذلك المرأة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم تربت يمينك ومن أين يكون الشبه قال أبو عمر قد ذكرنا من وصل حديث بن شهاب في هذا الباب ومن تابع مالكا على إرساله في كتاب التمهيد ومن وصله أيضا من أصحاب مالك على خلاف الموطإ ومن وصله عن بن شهاب من أصحابه فإنما رواه عنه عن عروة عن عائشة وكذلك رواه مسافع عن عروة عن عائشة وأما حديث هشام بن عروة فمتصل مسند رواه مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت جاءت أم سليم امرأة أبي طلحة

الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت فقال نعم إذا رأت الماء وكذلك رواه سائر من رواه عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة لا عن عروة عن عائشة وهو الصحيح عندهم لعروة عن زينب عن أمها لا عن عائشة والله أعلم وفي هذا الحديث والذي قبله إيجاب الغسل على النساء إذا احتلمن ورأين الماء حكمهن في ذلك حكم الرجال في الاحتلام إذا كان معه الإنزال وهذا ما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء والحمد لله وأكثر أصحاب بن شهاب يقولون في هذا الحديث نعم إذا وجدت الماء وكذلك في حديث أم سلمة وأنس في قصة أم سليم وكذلك روته خولة بنت حكيم عن النبي عليه السلام والعلماء على ذلك مجمعون فيمن وجد الماء الدافق من الرجال والنساء وقد أوضحنا في التمهيد هذا المعنى وقد روي هذا المعنى ملخصا من أخبار الآحاد العدول مرفوعا رواه عبد الله بن عمر عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاما قال يغتسل وعن الرجل يرى أنه قد احتلم ولا يجد البلل قال لا غسل عليه فقالت أم سليم المرأة ترى ذلك أعليها الغسل قال نعم إنما النساء شقائق الرجال وروى قتادة عن أنس أن أم سليم سألت رسول الله عن المرأة ترى في المنام ما يرى الرجل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأت ذلك فأنزلت فعليها الغسل فقالت أم سلمة أيكون هذا يا رسول الله قال نعم ماء الرجل غليظ أبيض وماء المرأة رقيق أصفر فأيهما سبق أو علا أشبهه الولد حدثنا سعيد بن نصر حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا محمد حدثنا أبو بكر حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا سعيد بن عروبة عن قتادة عن أنس

وهذا واضح لا إشكال فيه ولا مدخل للقول وقد ذكرنا أسانيد هذه الأحاديث في التمهيد وفي هذا الحديث ما كان عليه نساء ذلك الزمان من الاهتبال والاهتمام بأمر دينهن والسؤال عنه وهذا يلزم كل مؤمن ومؤمنة إذا جهل شيئا من أمر دينه أن يسأل عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم شفاء العي السؤال وقالت عائشة رحم الله نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يسألن عن أمر دينهن وكانت أم سليم من فواضل نساء الأنصار وفيه أيضا دليل على أن النساء ليس كلهن يحتلمن ولهذا أنكرت عائشة وأم سلمة سؤال أم سليم وقد يعدم الاحتلام في بعض الرجال فالنساء أحرى أن يعدم ذلك فيهن وقد قيل إن إنكار عائشة لذلك إنما كان لصغر سنها وكونها مع زوجها لأنها لم تحض إلا عنده ولم تفقده فقدا طويلا إلا بموته عليه السلام فلذلك لم تعرف في حياته الاحتلام لأن الاحتلام لا يعرفه النساء ولا أكثر الرجال إلا عند عدم الجماع بعد المعرفة به فإذا فقد النساء أزواجهن احتلمن والوجه الأول عندي أصح وأولى والله أعلم لأن أم سلمة فقدت زوجها وكانت كبيرة عالمة بذلك وأنكرت منه ما أنكرت عائشة رحمها الله فدل ذلك على أن من النساء من لا تنزل الماء في غير الجماع الذي يكون حقيقة في اليقظة والله أعلم وفيه جواز الإنكار والدعاء بالسوء على من اعترض فيما لا علم له به وفيه أن الشبه يكون من سبق الماء وعلوه وغلبته والله أعلم على ما مضى في الآثار التي ذكرنا ومثلها ما ذكره بن وهب قال أخبرنا بن أبي ذئب عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أم سليم امرأة أبي طلحة قالت يا رسول الله هل على المرأة ترى زوجها في المنام يقع عليها غسل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم إذا رأت بللا فقالت أم سلمة يا رسول الله وتفعل ذلك المرأة

فقال ترب جبينك وأنى يكون شبه الخؤولة إلا من ذلك أي النطفتين سبقت إلى الرحم غلبت على الشبه قال أبو عمر كذا قال جبينك والمعروف تربت يمينك وتربت يداك والله أعلم وقد أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ببغداد قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثنا أبي قال حدثنا يزيد بن هارون وحجاج بن محمد قالا أخبرنا بن أبي ذئب عن المقبري عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أم سلمة أن أم سليم قال حجاج امرأة أبي طلحة قالت يا رسول الله المرأة ترى زوجها في المنام يقع عليها أعليها غسل قال نعم إذا رأت بللا فقالت أم سلمة أو تفعل ذلك المرأة فقالت تربت يمينك أنى يأتي شبه الخؤولة إلا من ذلك أي النطفتين سبقت إلى الرحم غلبت على الشبه وقال حجاج في حديثه ترب جبينك وروى أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أم سلمة عن أمها مثل حديث مالك عن هشام بن عروة المذكور في هذا الباب إلا أنه قال فقالت أم سلمة وغطت وجهها أو تحتلم المرأة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم تربت يداك فبم يشبهها ولدها وقد روى ثوبان مولى النبي عن النبي عليه السلام ما يخالف الحديث المذكور في الشبه رواه معاوية بن سلام عن أخيه زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام الحبشي يقول حدثني أبو أسماء الرحبي أن ثوبان مولى النبي عليه السلام حدثه أن حبرا من أحبار اليهود قال لرسول الله أسألك عن الولد فقال رسول الله ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله فقال اليهودي أشهد أنك نبي ثم انصرف وذكر تمام الحديث وأما قوله في الحديث أف لك فيجر ويرفع وينصب بتنوين وغير تنوين ذكر ذلك أبو عبيدة وغيره وقال هو ما غلظ من الكلام وقبح وقال غيره معنى هذه اللفظة أنه يقال جوابا لما يستثقل من الكلام وما يضجر منه وقالوا الأف والتف بمعنى قالوا والأف وسخ الأذن والتف وسخ الأظفار وأما قوله تربت يداك و تربت يمينك ففيه قولان

أحدهما أن يكون استغنت يداك أو يمينك كأنه يعرض لها بالجهل لما أنكرت ما لا ينبغي أن ينكر وأنها كانت تحتاج أن تسأل عن ذلك فخاطبها بضد المعنى تنبيها وتأنيبا كما قيل في قوله تعالى ذق إنك أنت العزيز الكريم الدخان وكما تقول لمن كف عن السؤال فيما جهله أما أنت فاستغنيت أن تسأل عن مثل هذا أي لو أنصفت نفسك ونصحت لها لسألت وقال غيره هو كما يقال للشاعر إذا أجاد قاتله الله وأخزاه لقد أجاد ويله مسعر حرب وقال ويل أمه وهو يريد مدحه وهذا كله عند من قال هذا القول فرارا من الدعاء على عائشة تصريحا وأن ذلك غير ممكن من النبي عليه السلام عندهم وأنكر أكثر أهل العلم باللغة والمعاني أن تكون هذه اللفظة بمعنى الاستغناء وقالوا لو كانت بمعنى الاستغناء لقال أتربت يمينك لأن الفعل منه رباعي يقال أترب الرجل إذا استغنى وترب إذا افتقر وقالوا معنى قوله تربت يمينك أي افتقرت من العلم بما سألت عنه أم سليم ونحو هذا قال أبو عمر أما قوله تربت يمينك فمعلوم من دعاء العرب بعضهم على بعض مثل قاتله الله وهوت أمه وثكلته أمه وعقرا حلقا ولليدين والفم ونحو هذا والشبه والشبه مثل المثل والمثل والقتب والقتب باب جامع غسل الجنابة مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول لا بأس أن يغتسل بفضل المرأة ما لم تكن حائضا أو جنبا قال أبو عمر هذا معنى قد اختلفت فيه الآثار واختلفت فيه أيضا فقهاء الأمصار قال الوليد بن مسلم سمعت الأوزاعي يقول لا بأس بفضل وضوء المرأة إلا أن تكون حائضا أو جنبا قال الوليد وقال مالك والليث بن سعد يتوضأ به إذا لم يجد غيره ولا يتيمم وفي هذه المسألة للسلف خمسة أقوال

أحدها قول بن عمر هذا وبه قال الأوزاعي وروي ذلك عن الحسن والشعبي رواه هشيم وغيره عن يونس عن الحسن وقال إسماعيل بن أبي خالد سألت الشعبي عن فضل وضوء الحائض والجنب فنهى أن يتوضأ به والثاني الكراهية أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة وأن تتوضأ المرأة بفضل الرجل رواه داود بن عبد الله الأودي عن حميد بن عبد الرحمن الحميري قال لقيت رجلا صحب النبي عليه السلام ما صحبه أبو هريرة أربع سنين فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغتسل الرجل بفضل المرأة ولا تغتسل المرأة بفضله هكذا رواه أبو خيثمة زهير بن معاوية عن داود بن عبد الله الأودي عن حميد بن عبد الرحمن الحميري ورواه أبو عوانة عن داود الأودي عن حميد بن عبد الرحمن الحميري عن أبي هريرة فأخطأ فيه وروى عبد العزيز بن المختار عن عاصم الأحول عن عبد الله بن سرجس أن النبي عليه السلام نهى أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة والمرأة بفضل الرجل ولكن ليشرعا جميعا وقد روى سليمان التيمي عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي عليه السلام نهى أن يغتسل الرجل والمرأة من إناء واحد والوجه الثالث الكراهية أن يتوضأ الرجل بفاضل طهور المرأة والترخيص في أن تتطهر المرأة بفضل طهور الرجل ورواه شعبة عن عاصم الأحول عن عبد الله بن سرجس عن النبي عليه السلام ورواه سليمان التيمي عن أبي حاجب عن رجل من أصحاب النبي عن النبي عليه السلام ورواه شعبة عن عاصم الأحول وهو عاصم بن سليمان عن أبي حاجب عن الحكم الغفاري عن النبي عليه السلام واسم أبي حاجب سوادة بن عاصم وهو قول الحسن وسعيد بن المسيب رواه قتادة عنهما وروى الوليد بن مسلم قال أخبرني سالم أنه سمع الحسن يقول أكره الوضوء بفضل المرأة حائضا كانت أو غير حائض

والقول الرابع أنهما إذا شرعا جميعا في التطهر فلا بأس به وإذا خلت المرأة بالطهور فلا خير في أن يتوضأ بفضل طهورها روي ذلك عن جويرية زوج النبي عليه السلام ورواه الشيباني عن عكرمة ورواه الأوزاعي عن عطاء وهو قول أحمد بن حنبل قال الأثرم قلت لأبي عبد الله يعني أحمد بن حنبل فضل وضوء المرأة فقال إذا خلت به تتوضأ منه إنما الذي رخص فيه أن يتوضأ معا جميعا وذكر حديث الحكم بن عمرو الغفاري فقال هو يرجع إلى أن الكراهة إذا خلت به المرأة قيل له فالمرأة تتوضأ بفضل الرجل قال أما الرجل فلا بأس به إنما كرهت المرأة وجاء عن عطاء أنه قال لا يصلح للرجل أن يغتسل بماء اغتسلت به المرأة إلا أن يشرعا فيه جميعا ذكره دحيم عن محمد بن شعيب عن الأوزاعي ومعاوية بن سلام عن عطاء وذكره عبيد الله بن موسى عن زكريا عن الشعبي قال لا يغتسل الرجلان جميعا إذا أجنبا والرجل والمرأة يغتسلان جميعا وهذا غريب عجيب والقول الخامس أنه لا بأس أن يتطهر كل واحد منهما بفضل طهور صاحبه شرعا جميعا أو خلا كل واحد منهما به وعلى هذا القول فقهاء الأمصار وجمهور العلماء والآثار في معناه متواترة فمنها حديث بن عباس أن امرأة من نساء النبي عليه السلام اغتسلت من الجنابة رأى رسول الله أن يغتسل من فضلها فأخبرته أنها اغتسلت منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الماء لا ينجسه شيء وروى عكرمة عن بن عباس من طرق كثيرة ومنهم من يجعله عن بن عباس

عن ميمونة ومنهم من قال فيه بعض أزواج النبي عليه السلام وروى بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء جابر بن زيد عن بن عباس أن ميمونة أخبرته أنها كانت تغتسل هي والنبي عليه السلام من إناء واحد هو الفرق من الجنابة ولحديث عائشة طرق متواترة منهم من يقول فيه يشرعان فيه جميعا ومنهم من يقول فيه وهما جنبان وروي أيضا حديث عائشة من طرق سعيد بن المسيب وعكرمة ومعاذة العدوية كلهم عن عائشة بمعنى واحد وروى أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أم سلمة مثله قالت كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد من الجنابة وروي من حديث علي بن أبي طالب وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل هو وبعض نسائه من إناء واحد وروي عن أم صبية الجهنية وهي خولة بنت قيس أنها قالت اختلفت يدي ويد رسول الله صلى الله عليه وسلم في إناء واحد ومن حديث أم هانئ قالت اغتسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وميمونة من إناء واحد وقال بن عمر كان الرجال والنساء يتوضؤون من إناء واحد في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال بن عباس لا بأس أن تتوضأ بفضلها وتتوضأ بفضلك وكان يقول هن ألطف بنانا وأطيب ريحا وقال الزهري تتوضأ بفضلها كما تتوضأ بفضلك وقال مالك لا بأس بذلك حائضا كانت أو جنبا وقال الشافعي لا بأس أن يتوضأ بفضل الحائض والجنب لأن النبي عليه السلام اغتسل هو وعائشة من إناء واحد فكل واحد منهما مغتسل بفضل وضوء صاحبه وليست الحيضة في اليد وليس المؤمن بنجس وإنما هو متعبد بأن يمس الماء في بعض حالاته دون بعض قال أبو عمر في حديث عائشة وميمونة من نقل الحفاظ ذكر الجنابة وهو قاطع لقول من قال لا يغتسل بفضل الحائض والجنب وهو قول الحجازيين والعراقيين

وأما حديث مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يعرق في الثوب وهو جنب ثم يصلي فيه وبه عن بن عمر أن جواريه كن يغسلن رجليه ويعطينه الخمرة وهن حيض فلا خلاف بين العلماء في طهارة عرق الجنب وعرق الحائض قال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن ليس بنجس وقالت عائشة قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ناوليني الخمرة فقلت إني حائض فقال إن حيضتك ليست في يدك فدل هذا على أن كل عضو منها ليس فيه نجاسة فهو طاهر وقد أجمعوا على جواز نكاح الكتابية وان لا غسل على زوجها منها إلا كما هو عليه من المسلمة ومعلوم أنه لا يؤمن عليه عرقها معه وإذا لم يكن عرق الكافرة نجسا فعرق الجنب أحرى بذلك وإنما النجاسة على ما قدمنا ذكره من الأثفال الخارج من السبيلين والميتات وأما البصاق والعرق فظاهر عن الجميع نقلا وعملا إلا ما روي عن سلمان لا وجه له ولا يصح عنده

وقد ثبت عن النبي عليه السلام أنه كان يبصق في ثوبه وهو يصلي وأمر المصلي أن يبصق في ثوبه أو تحت قدميه ولا يبصق قبالة وجهه إذا صلى والأمر في هذا أوضح من أن يحتاج فيه إلى أكثر من هذا لأن العلماء مجمعون عليه والحمد لله وهذا المعنى يقتضي قول مالك في الجنب يدخل إصبعه في الماء ليعلم حره من برده وقد مضى ذكر الماء وحكم قليله في ورود النجاسة عليه ووروده عليها فلا وجه لإعادته وتكريره فأما قول مالك في رجل له نسوة أنه لا بأس أن يطأ الرجل جاريته قبل أن يغتسل ويكره أن يطأ الرجل المرأة الحرة في يوم الأخرى فوجه ذلك أن الجواري لا قسم لهن عليه فله أن يطأ جميعهن في اليوم والليلة وقد روي عن النبي عليه السلام أنه طاف على نسائه في غسل واحد وهذا معناه في حين قدومه من سفر أو نحوه في وقت ليس لواحدة منهن يوم معين معلوم فجمعن حينئذ ثم دار بالقسم عليهن بعد والله أعلم لأنهن كن حرائر وسنته عليه السلام فيهن العدل في القسم بينهن وألا يمس الواحدة في يوم الأخرى وهذا قول جماعة الفقهاء وهو مروي عن بن عباس وعطاء وروي عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر في الجنب إذا أراد أن يعود توضأ وضوءه للصلاة قال أحمد بن حنبل إن توضأ فهو أعجب إلي فإن لم يفعل فأرجو ألا يكون به بأس وكذلك قال إسحاق إلا أنه قال لا بد من غسل الفرج إن أراد أن يعود

باب التيمم ذكر فيه عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة حديثها في خروجها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره إذ انقطع العقد لها فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ملتمسا له مع الناس وهم على غير ماء ولا ماء معهم وحضرت الصلاة وهم على تلك الحالة فنزلت آية التيمم ساقه مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا ألا ترى ما صنعت عائشة أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء قالت عائشة فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام فقال حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء وقالت عائشة فعاتبني أبو بكر فقال ما شاء الله أن يقول وجعل يطعن بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح على غير ماء فأنزل الله تبارك وتعالى آية التيمم فتيمموا فقال أسيد بن حضير ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر قالت فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته قال أبو عمر هذا الحديث عندي أصح حديث روي في التيمم والله أعلم

والسفر المذكور فيه كان في غزوة المريسيع إلى بني المصطلق بن خزاعة في سنة ست من الهجرة وقيل سنة خمس في هذا الحديث من الفقه خروج النساء في الأسفار مع أزواجهن جهاد كان السفر أو غيره لأنه إذا جاز جاز خروجهن مع ذوي المحارم والأزواج إلى الجهاد مع الخوف عليهن وعلى من معهن من الرجال في الإيغال في أرض العدو فأحرى أن يخرجن إلى غير الجهاد من الحج والعمرة وسائر الأسفار المباحة وخروجهن إلى الجهاد مع ذوي المحارم والأزواج إنما يصح والله أعلم في العسكر الكبير الذي الأغلب منه الأمن عليهن وقد ذكرت في التمهيد حديث أنس أن النبي عليه السلام كان يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار يسقين الماء ويداوين الجرحى وحديث الربيع بنت معوذ بن عفراء أنه قيل لها هل كنتن تخرجن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو قالت نعم كنا نخرج معه نسقي الجرحى ونداويهم وهذا كله مقيد بقوله عليه السلام لا تسافر المرأة مسيرة يوم وليلة إلا مع زوجها أو ذي محرم منها ومقيد أيضا بحديث عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يسافر أقرع بين نسائه فأيهن خرج سهمها خرج بها وسيأتي القول في هذا المعنى في موضعه إن شاء الله

وقد ذكرنا في التمهيد أيضا اختلاف ألفاظ الرواة لهذا الحديث عن عائشة في العقد لمن كان في الموضع الذي سقط فيه ومن سماه عقد ومن سماه قلادة وكل ذلك من نقل الثقات ولا يقدح شيء من ذلك في المعنى المقصود إليه من الحديث وليس في الموطإ حديث مرفوع في التيمم غير هذا وهو أصل التيمم إلا أنه ليس فيه رتبة التيمم وكيفيته وقد نقلت آثار عن النبي عليه السلام مختلفة في كيفية التيمم هل هو ضربة أو ضربتان وهل يبلغ به المرفقان أم لا وهل الرواية في التيمم إلى الآباط عن عمار منسوخة أم لا وكل ذلك مبسوط في التمهيد ويأتي فيه ها هنا ما يغني ويكفي إن شاء الله وأجمع العلماء بالأمصار بالمشرق والمغرب فيما علمت أن التيمم بالصعيد عند عدم الماء طهور كل مسلم مريض أو مسافر وسواء كان جنبا أو على غير وضوء ولا يختلفون في ذلك وكان عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود يقولان إن الجنب لا يطهره إلا الماء وأنه لا يستبيح بالتيمم الصلاة أبدا بقوله تعالى وإن كنتم جنبا فاطهروا المائدة وقوله ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا النساء وخفيت عليهما السنة في ذلك ولم يصل إليهما من ذلك إلا قول عمار وكان عمر حاضرا ذلك معه فأنسي قصد عمار وارتاب في ذلك بحضوره معه ونسيانه لذلك فلم يقنع بقوله فذهب هو وبن مسعود إلى أن الجنب لم يدخل في المراد بقوله وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا المائدة وكانا يذهبان إلى أن الملامسة ما دون الجماع وقد ذكرنا اختلاف العلماء في معنى الملامسة فيما مضى والحمد لله وروى أبو معاوية عن الأعمش عن أبي وائل عن بن مسعود قال لا يتيمم الجنب وإن لم يجد الماء شهرا ولم يتعلق أحد من فقهاء الأمصار من قال إن الملامسة الجماع ومن قال إنها ما دون الجماع بقول عمر وبن مسعود في ذلك ولا ذهب إليه لما روي عن النبي عليه السلام من حديث عمار وحديث عمران بن حصين وحديث أبي ذر أنه عليه السلام أمر الجنب بالتيمم إذا لم يجد الماء ولو غاب عن الماء شهرا

وقد ذكرنا الآثار بذلك في التمهيد وقد غلط بعض الناس في هذا المعنى عن بن مسعود فزعم أنه كان يرى الجنب إذا تيمم ثم وجد الماء لم يغتسل ولا وضوء عليه حتى يحدث وهذا لا يقوله أحد من علماء المسلمين ولا روى عن أحد من السلف ولا الخلف فيما علمت إلا عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ولا يعرف عنه والمحفوظ عن بن مسعود ما وصفنا عنه وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر وغيره التراب كافيك ما لم تجد الماء ولو أقمت عشر سنين لا تجده فإذا وجدت الماء فاغتسل وفي بعض الروايات فأمسه بشرتك دليل واضح على أن الجنب إذا وجد الماء لزمه استعماله وأن تيممه ليس بطهارة كاملة وإنما هو استباحة للصلاة ثم هو على حاله جنب عند وجود الماء وقد أمليت في هذه المسألة ما فيه كفاية في باب أفردته لها والحمد لله واختلف الفقهاء في الذي يدخل عليه وقت الصلاة ويخشى خروجه وهو لا يجد الماء ولا يستطيع الوصول إليه ولا إلى صعيد يتيمم به فقال بن القاسم في المحبوس إذا لم يجد ماء ولم يقدر على الصعيد صلى كما هو وأعاد إذا قدر على الماء أو على الصعيد وقال أشهب في المتهدم عليهم والمحبوس والمربوط ومن صلب في خشبة ولم يمت وحان وقت الصلاة عليه إنه لا صلاة على واحد من هؤلاء حتى يقدروا على الماء أو على الصعيد فإن قدروا على ذلك توضؤوا أو تيمموا وصلوا

وقال بن القاسم في هؤلاء وفي كل من معه عقله إنهم يصلون على حسب ما يقدرون ثم يعيدون إذا قدروا على الطهارة بالماء أو بالصعيد عند عدم الماء وروى معن بن عيسى عن مالك فيمن كتفه الوالي وحبسه عن الصلاة حتى خرج وقتها إنه لا إعادة عليه وإلى هذه الرواية والله أعلم ذهب بن خواز منذاد لأنه قال في الصحيح من مذهب مالك أن كل من لم يقدر على الماء ولا الصعيد حتى خرج الوقت أنه لا يصلي ولا إعادة عليه قال ورواه المدنيون عن مالك وهو الصحيح من مذهبه قال أبو عمر لا أدري كيف أقدم على أن جعل هذا الصحيح من مذهب مالك مع خلافه جمهور السلف وعامة الفقهاء وجماعة المالكيين وأظنه ذهب إلى ظاهر حديث مالك في هذا في قوله وليسوا على ماء وليس معهم ماء فنام رسول الله حتى أصبح وهذا لا حجة فيه لأنه لم يذكر أنهم لم يصلوا بل فيه نزلت آية التيمم وفي حديث عمر أنهم تيمموا يومئذ إلى المناكب في حين نزول الآية وقد روى هشام بن عروة في هذا الحديث أنهم صلوا بغير وضوء إلا أنه لم يذكر إعادة ويحتمل أن تكون الإعادة مأخوذة من حديث عمار كأنهم إذ نزلت التيمم توضؤوا وأعادوا ما كانوا قد صلوا بغير وضوء وعلى هذا ترتبت الآثار وعلى هذين القولين فقهاء الأمصار وأما قول بن خواز منداذ في سقوط الصلاة عمن معه عقله لعدم الطهارة فقول ضعيف مهجور شاذ مرغوب عنه وقال بن القاسم كيف تسقط الصلاة عمن معه عقله لعدم الطهارة لم يغم عليه ولم يجن وعلى هذا سائر العلماء فيمن لم يصل إلى الصعيد ولا الماء فإذا زال المانع له توضأ أو تيمم وصلى وذكر بن حبيب قال سألت مطرفا وبن الماجشون وأصبغ بن الفرج عن الخائف تحضره الصلاة وهو على دابته على غير وضوء ولا يجد إلى النزول للوضوء والتيمم سبيلا فقال بعضهم يصلي كما هو على دابته إيماء فإذا أمن توضأ إن وجد الماء أو تيمم إن لم يجد الماء وأعاد الصلاة في الوقت وبعد الوقت وقال لي أصبغ بن الفرج لا يصلي وإن خرج الوقت حتى يجد السبيل إلى الطهور بالماء أو الصعيد عند عدم الماء

قال ولا يجوز لأحد أن يصلي بغير طهور قال عبد الملك بن حبيب وهذا أحب إلي قال وكذلك الأسير المغلول لا يجد السبيل إلى الوضوء والمريض المثبت الذي لا يجد من يناوله الماء ولا يستطيع التيمم هما مثل الذي وصفنا من الخائف وكذلك قال أصبغ بن الفرج في هؤلاء الثلاثة قال وهو أحسن ذلك عندي وأقواه وأما الشافعي فعنه في هذا روايتان إحداهما لا يصلي حتى يجد طهارة والأخرى يصلي كما هو ويعيد الصلاة وهو المشهور عنه قال المزني وإذا كان محبوسا لا يقدر على طهارة بماء أو تراب نظيف صلى وأعاد إذا قدر وقال أبو حنيفة في المحبوس في المصر إذا لم يجد ماء ولا ترابا نظيفا لم يصل فإذا وجد ذلك صلى وقال أبو يوسف ومحمد والثوري والشافعي والطبري يصلي ويعيد كقول بن القاسم وقال أبو ثور القياس ألا يصلي من لا يجد الماء ولا قدر عليه ولا على الصعيد وإن خرج الوقت فإذا قدر على ذلك صلى بالطهارة تلك الصلاة ثم رجع فقال بقول الشافعي ومن تابعه في هذا الباب وقد قال أبو ثور أيضا إن القياس فيمن لم يقدر على الطهارة أن يصلي كما هو ولا يعيد كمن لا يقدر على الثوب وصلى عريانا الصلاة لازمة له يصلي على ما يقدر ويؤدي ما عليه بقدر طاقته وعند أبي يوسف وأبي حنيفة ومحمد والشافعي إن وجد المحبوس في المصر ترابا نظيفا صلى في قولهم وأعاد وقال زفر لا يتيمم ولا يصلي وإن وجد ترابا نظيفا على أصله لأنه لا يتيمم أحد في الحضر وقال بن القاسم لو تيمم من لا يجد الماء في المصر على التراب النظيف أو على وجه الأرض لم تكن عليه إعادة إذا وجد الماء بعد الوقت قال أبو عمر ها هنا مسألة أخرى في تيمم الذي يخشى فوت الوقت وهو في الحضر نذكرها بعد إن شاء الله

قال أبو عمر أما الذين ذهبوا إلى ألا يصلي حتى يجد الطهارة فحجتهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقبل الله صلاة بغير طهور وليس فرض الوقت بأوكد من هذا كما أنه لا يقبلها قبل وقتها وأما الذين ذهبوا إلى أن يصلي كما هو ويعيد فاحتاطوا للصلاة في الوقت على حسب الاستطاعة لاحتمال قوله بغير طهور لمن قدر عليه ولم يكونوا على يقين من هذا التأويل فرأوا الإعادة واجبة مع وجود الطهارة قال أبو عمر في حديث مالك هذا عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قولها فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح على غير ماء ولم يكن يومئذ طهارة غير الماء وحينئذ نزلت آية التيمم دليل على أن من عدم الماء لم يصل حتى يمكنه والله أعلم وقد يحتمل قولها حتى أصبح قارب الصباح أو طلع الفجر ولم تطلع الشمس حتى نزلت آية التيمم والله أعلم وقد ذكرنا في التمهيد في هذا الموضع الأحاديث عن النبي عليه السلام أنه قال لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول وقوله عليه السلام لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ بالأسانيد الصحاح والحمد لله وقوله في حديث مالك وليسوا على ماء وليس معهم ماء دليل واضح على أن الوضوء بالماء قد كان لازما لهم قبل نزول آية التيمم وهي آية الوضوء وأنهم لم يكونوا يصلون إلا بوضوء قبل نزول الآية ألا ترى قوله فأنزل الله آية التيمم وهي آية الوضوء المذكورة في تفسير المائدة أو الآية التي في سورة النساء ليس التيمم مذكورا في غير هاتين الآيتين وهما مدنيتان

وليست الآية بالكلمة أو الكلمتين وإنما هي الكلام المجتمع الدال على الإعجاز الجامع لمعنى يستفاد القائم بنفسه ومعلوم أن غسل الجنابة لم يفترض قبل الوضوء فكما انه معلوم عند جميع أهل السير أن النبي صلى الله عليه وسلم افترضت عليه الصلاة بمكة والغسل من الجنابة وأنه لم يصل قط بمكة إلا بوضوء مثل وضوئه بالمدينة ومثل وضوئنا اليوم وهذا ما لا يجهله عالم ولا يدفعه إلا معاند وفيما ذكرنا دليل على أن آية الوضوء إنما نزلت ليكون فرضها المتقدم متلوا في التنزيل ولها نظائر ليس هذا موضع ذكرها وفي قوله في حديث مالك فنزلت آية التيمم ولم يقل فنزلت آية الوضوء ما يدلك أن الذي طرأ عليهم من العلم في ذلك الوقت حكم التيمم لا حكم الوضوء بالماء والله أعلم ومن فضل الله ونعمته على عباده أن نص على حكم الوضوء وهيئته بالماء ثم أخبر بحكم التيمم عند عدم الماء فقال أسيد بن الحضير ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر وفي قوله وليس معهم ماء دليل على أنه غير واجب حمل الماء للوضوء وأنه جائز سلوك كل طريق مباح سلوكها وإن عدم الماء في بعضها وأما التيمم فمعناه في اللغة القصد مجملا ومعناه في الشريعة القصد إلى الصعيد خاصة للطهارة للصلاة عند عدم الماء فيضرب عليه بباطن كفيه ثم يمسح بهما وجهه ويديه وقد ذكرنا شواهد الشعر واللغة على لفظ التيمم في التمهيد وأما الصعيد فقيل وجه الأرض وقيل بل التراب خاصة والطيب طاهر لا خلاف في ذلك وأما اختلاف العلماء في الصعيد فقال مالك وأصحابه الصعيد وجه الأرض ويجوز التيمم عندهم على الحصباء والجبل والرمل والتراب وكل ما كان وجه الأرض وقال أبو حنيفة وزفر يجوز أن يتيمم بالنورة والحجر والزرنيخ والجص والطين والرخام وكل ما كان من الأرض وقال الأوزاعي يجوز التيمم على الرمل

وقال الثوري وأحمد بن حنبل يجوز التيمم بغبار الثوب واللبد ولا يجوز عند مالك وقال بن خويز منداد يجوز التيمم عندنا على الحشيش إذا كان ذلك وجه الأرض واختلفت الرواية عن مالك في التيمم على الثلج فأجازه مرة وكرهه أخرى ومنع منه ومن الحجة لمذهب مالك في هذا الباب قوله تعالى صعيدا زلقا الكهف وصعيدا جرزا الكهف والجرز الأرض الغليظة التي لا تنبت شيئا وقوله عليه السلام جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فكل موضع جازت الصلاة فيه من الأرض جائز التيمم به وقال عليه السلام يحشر الناس يوم القيامة على صعيد واحد أي أرض واحدة وقال الشافعي وأبو يوسف الصعيد التراب ولا يجزئ عندهم التيمم بغير التراب وقال الشافعي لا يقع الصعيد إلا على تراب غبار أو نحوه فأما الصخرة الغليظة والرقيقة والكثيب الغليظ فلا يقع عليه اسم صعيد وقال أبو ثور لا تيمم إلا على تراب أو رمل قال أبو عمر أجمع العلماء على أن التيمم بالتراب جائز واختلفوا فيما عداه من الأرض

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلت لي الأرض مسجدا وجعلت تربتها لي طهورا وروى هذا جماعة من حفاظ العلماء عن الصحابة عن النبي عليه السلام وهو يغضي على رواية من روى جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ويفسرها والله أعلم ذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا محمد بن فضيل عن أبي مالك الأشجعي عن ربعي بن خراش عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلنا على الأنبياء بثلاث جعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا وذكر تمام الحديث قال حدثنا يحيى بن أبي بكير عن زهير بن محمد عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن محمد بن الحنفية أنه سمع علي بن أبي طالب يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء نصرت بالرعب وأعطيت مفاتيح الأرض وسميت أحمد وجعل لي التراب طهورا وجعلت أمتي خير الأمم والآثار بهذا كثيرة وهي تفسر المجمل والله أعلم وقال بن عباس أطيب الصعيد أرض الحرث وذكر عبد الرزاق عن الثوري عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه قال سئل بن عباس أي الصعيد أفضل فقال الحرث وفي قول بن عباس هذا ما يدل على أن الصعيد يكون غير أرض الحرث وجماعة الفقهاء على إجازة التيمم بالسباخ إلا إسحاق بن راهويه فإنه قال لا تيمم بتراب السبخة وروي عن بن عباس فيمن أدركه التيمم وهو في طين قال يأخذ من الطين فيطلي به بعض جسده فإذا جف تيمم به واختلف الفقهاء في كيفية التيمم فقال مالك والشافعي وأصحابهما والثوري وبن أبي سلمة والليث ضربتان ضربة للوجه يمسح بها وجهه وضربة لليدين يمسحهما إلى المرفقين يمسح اليمنى باليسرى واليسرى باليمنى إلا أن بلوغ المرفقين عند مالك ليس

بفرض وإنما الفرض عنده إلى الكوعين والاختيار عنده إلى المرفقين وأما سائر من ذكرنا معه من الفقهاء فإنهم يرون بلوغ المرفقين بالتيمم فرضا واجبا وممن روي عنه التيمم إلى المرفقين عبد الله بن عمر والشعبي والحسن البصري وسالم بن عبد الله بن عمر وقال الأوزاعي التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى الكوعين وهما الرسغان وروي ذلك عن علي بن أبي طالب وقد روي عن الأوزاعي وهو أشهر عنه أن التيمم ضربة واحدة يمسح بها وجهه ويديه إلى الكوعين وهو قول عطاء والشعبي في رواية وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي والطبري وهذا أثبت ما يروى في حديث عمار ورواه أبو وائل شقيق بن سلمة عن أبي موسى عن عمار فقال فيه ضربة واحدة لوجهه وكفيه ولم يختلف في حديث أبي وائل هذا ورواه سفيان الثوري وأبو معاوية وجماعة عن الأعمش عن أبي وائل ولم يختلفوا فيه وسائر أسانيد حديث عمار مختلف فيها وقال مالك إن مسح وجهه ويديه بضربة واحدة أجزأه وإن مسح يديه إلى الكوعين أجزأه وأحب إلي أن يعيد في الوقت والاختيار عند مالك ضربتان وبلوغ المرفقين وحجة من رأى التيمم إلى الكوعين ما ثبت عن النبي عليه السلام من حديث عمار وغيره أنه قال في التيمم ضربة للوجه والكفين وفي بعض الآثار عن عمارة ضربة للوجه وضربة للكفين وحديثه هذا غير حديثه عند نزول آية التيمم وقد بينا ذلك في التمهيد قال الله تعالى فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه النساء والمائدة ولم يقل إلى المرفقين كما قال في الوضوء وقال تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما المائدة وأجمعوا أن القطع إلى الكوعين وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والليث بن سعد والشافعي لا تجزيه إلا

ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين وبه قال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم وإليه ذهب إسماعيل بن إسحاق القاضي وقد رويت بذلك آثار عن النبي عليه السلام من حديث عمار أيضا وغيره وقد ذكرنا ذلك في التمهيد حدثنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا أحمد بن زهير حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا إبان بن يزيد قال سئل قتادة عن التيمم في السفر فقال كان بن عمر يقول إلى المرفقين وكان الحسن يقول إلى المرفقين وكان إبراهيم يقول إلى المرفقين قال وحدثني محدث عن الشعبي عن عبد الرحمن بن أبزى عن عمار بن ياسر عن النبي عليه السلام قال إلى المرفقين قال أبو عمر أحاديث عمار في التيمم كثيرة الاضطراب وإن كان رواتها ثقات ولما اختلفت الآثار في كيفية التيمم وتعارضت كان الواجب في ذلك الرجوع إلى ظاهر القرآن وهو يدل على ضربتين ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين قياسا على الوضوء واتباعا لفعل عمر رحمه الله ولما كان غسل الوجه بالماء غير غسل اليدين فكذلك يجب أن تكون الضربة في التيمم للوجه غير الضربة لليدين قياسا ونظرا والله أعلم إلا أن يصح عن النبي عليه السلام خلاف ذلك فيسلم له وقال بن أبي ليلى والحسن بن حي التيمم ضربتان يمسح بكل ضربة منهما وجهه وذراعيه ومرفقيه وما أعلم أحدا قال ذلك غيرهما والله أعلم وقال بن شهاب الزهري يبلغ بالتيمم الآباط ولم يقل ذلك غيره فيما علمت والله أعلم إلا ما في حديث عمار حين نزول آية التيمم وهو حديث رواه بن شهاب من رواية مالك وغيره عنه عن عبيد الله بن عتبة عن أبيه عن عمار بن ياسر ومن أصحاب بن شهاب من يرويه عن بن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن بن عباس فذكر نحو حديث عائشة أنها حبست الناس وليس معهم ماء فأنزل الله على رسوله رخصة التيمم بالصعيد الطيب فقام المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسحوا بأيديهم الأرض ورفعوها ولم يقبضوا من التراب شيئا فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب من بطون أيديهم إلى الآباط

وقد ذكرنا طرق هذا الحديث في التمهيد واختلافهم في إسناده وألفاظه إلا أنهم لم يختلفوا عن بن شهاب في هذا الحديث أن التيمم إلى المناكب وهو حجة لابن شهاب فيما ذهب من ذلك إليه مع أن اللغة تقضي أن اليدين من المناكب إلا أن الحديث بذلك ليس فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بذلك والآثار عن النبي عليه السلام أنه أمر بالتيمم إلى المرفقين وإلى الكوعين كثيرة وقد يحتمل أن يكون من تيمم عند نزول الآية إلى المناكب أخذ بظاهر الكلام وما تقتضيه اللغة من عموم لفظ الأيدي ثم أحكمت الأمور بعد بفعل النبي عليه السلام وأمره بالتيمم إلى المرفقين وروي عنه إلى الكوعين كما روي ضربة واحدة وضربتان وكل ذلك صحيح عنه وصار من ذلك الفقهاء كل إلى ما رواه وما أداه إليه اجتهاده ونظره وأجمع العلماء على أن الطهارة بالتيمم لا ترفع الجنابة ولا الحدث إذا وجد الماء إلا شيء روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن رواه بن جريج وعبد الحميد بن جبير بن شيبة عنه ورواه بن أبي ذئب عن عبد الرحمن بن حرملة عنه أنه قال في الجنب المتيمم يجد الماء إنه على طهارة ولا يحتاج إلى غسل ولا وضوء حتى يحدث وأما سائر العلماء الذين هم الحجة على من خالف جميعهم فقالوا في الجنب إذا تيمم ثم وجد الماء إنه يلزمه الغسل لما يستقبل حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا محمد بن بكر حدثنا أبو داود حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن أيوب عن أبي قلابة عن رجل من بني عامر أنه سمع أبا ذر يقول كنت أعزب عن الماء ومعي أهلي فتصيبني الجنابة فأصلي بغير طهور فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا أبا ذر إن الصعيد طيب طهور وإن لم تجد الماء عشر سنين فإذا وجدت الماء فأمسسه جلدك ورواه سفيان الثوري وغيره عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن عمرو بن بجدان عن أبي ذر أنه سمعه يقول قال لي رسول الله إن الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجده فليمسسه بشرته وقد روي عن أبي سلمة فيمن تيمم وصلى ثم يجد الماء في الوقت أنه يتوضأ ويعيد الصلاة

وهذا تناقض وقلة روية ولم يكن أبو سلمة عندهم يفقه كفقه أصحابه التابعين بالمدينة حدثنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا أحمد بن زهير حدثنا مؤمل بن إهاب قال حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال كان أبو سلمة يباري بن عباس فحرم بذلك علما كثيرا وأجمع الجمهور من الفقهاء أن من طلب الماء فلم يجده وتيمم وصلى ثم وجد الماء في الوقت وقد كان اجتهد في الطلب فلم يجد الماء ولا نسيه في رحله أن صلاته ماضية إلا أنهم منهم من يستحب له أن يعيد صلاته بعد وضوئه أو بعد غسله ما دام في الوقت وأجمع العلماء أن من تيمم بعد أن طلب الماء فلم يجده ثم وجد الماء قبل دخوله في الصلاة أن تيممه باطل لا يجزيه أن يصلي به وأنه قد عاد بحاله قبل التيمم واختلفوا إذا وجد الماء بعد دخوله في الصلاة فقال مالك والشافعي وأصحابهما إلا المزني وبه قال داود بن علي والطبري يتمادى في صلاته وتجزيه فإذا فرغ توضأ للصلاة الأخرى بذلك الماء لأنه إذا وجد الماء ولم يكن في الصلاة وجب عليه الوضوء به للصلاة فإذا كان في الصلاة لم يقطعها لرؤيته الماء وهو فيها قالوا لأنه لم تثبت في ذلك سنة توجب عليه قطع صلاته بعد دخوله فيها ولا إجماع يجب التسليم له قالوا وليس قول من قال إن رؤية الماء حدث من الأحداث بشيء لأن ذلك لو كان كذلك لكان الجنب إذا تيمم ثم وجد الماء يعود كالمحدث لا يلزمه إلا الوضوء وكان الذي يطرأ عليه الماء وهو في الصلاة بالتيمم عند الكوفيين يقطعها ثم يتوضأ ويبني كالمحدث عندهم وهم لا يقولون بذلك ولا غيرهم فصح أن رؤية الماء ليست بحدث ولا كالحدث ومن حجتهم أيضا أن من وجب عليه الصوم في ظهار أو قتل فصام منه أكثره ثم وجد الرقبة أنه لا يلغي صومه ولا يعود إلى الرقبة فكذلك من دخل في الصلاة بالتيمم لا يقطعها ولا يعود إلى الوضوء بالماء وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي وجماعة أهل العراق من أهل الرأي والحديث منهم أحمد بن حنبل وإليه ذهب المزني صاحب الشافعي وبه قال بن علية من طرأ عليه الماء وهو في الصلاة أو وجده أو علمه

في رحله وهو في الصلاة قطع وخرج إلى استعماله في الوضوء أو الغسل ثم استقبل صلاته ولم يجز له أن يتمادى في صلاته متيمما وقد وجد الماء وحجتهم أن التيمم لما بطل بوجود الماء قبل الدخول في الصلاة وصار المتيمم في حكم من ليس على طهارة لوجود الماء قبل دخوله في الصلاة فكذلك إذا دخل في الصلاة لأنه لما لم يجز له أن يبتدئ صلاته بالتيمم مع وجود الماء فكذلك لا يجب له التمادي فيها ولا عمل شيء منها بالتيمم وهو واجد للماء وإذا بطل بعض الصلاة بطل جميعها واحتجوا بالإجماع في المعتدة بالشهور ولا يبقى عليها إلا أقلها ثم تحيض أنها تستقبل عدتها بالحيض والذي يطرأ عليه الماء وهو في الصلاة ولم يبق عليه منها إلا أقلها كذلك وللفريقين ضروب من الاحتجاج والإدخال والمعارضة تركت ذلك لأن الذي ذكرت كاف وبالله التوفيق وفي هذا الحديث التيمم في السفر وهو أمر مجمع عليه واختلف العلماء في التيمم في الحضر عند عدم الماء فذهب مالك وأصحابه على اضطراب منهم في ذلك إلى أن التيمم في السفر والحضر سواء إذا عدم الماء أو تعذر استعماله لمرض أو خوف شديد أو خوف خروج الوقت وهذا قول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن وحجتهم أن ذكر الله تعالى المرضى والمسافرين في شرط التيمم خرج على الأغلب ممن لا يجد الماء وأما الحاضرون فالأغلب عليهم وجود الماء فلذلك لم ينص عليهم فإذا لم يجد الحاضر الماء أو منعه منه مانع لا يقدر على دفعه وجب عليه التيمم للصلاة في وقتها لأن التيمم إنما ورد لإدراك وقت الصلاة وخوف فوته محافظة على الوقت فكل من لم يجد الماء وخاف فوت وقت الصلاة كان له أن يتيمم إن كان مريضا أو مسافرا بالنص وإن كان حاضرا صحيحا فبالمعنى والله أعلم وقال الشافعي لا يجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم إلا أن يخاف الهلاك على نفسه وبه قال الطبري وقال أبو يوسف وزفر لا يجوز التيمم في الحضر ولا لمرض ولا لخوف خروج الوقت

وقال الشافعي والليث بن سعد والطبري إذا عدم في الحضر الماء وخاف فوات الوقت جاز له التيمم وإن كان صحيحا كما جاز للمريض والمسافر إلا أنه يعيد إذا وجد الماء وحجة الشافعي وهؤلاء أن الله تعالى جعل التيمم رخصة للمريض والمسافر كالفطر وقصر الصلاة ولم يبح التيمم إلا بشرط المرض والسفر لقول الله تعالى وإن كنتم مرضى أو على سفر النساء فلا دخول للحاضر ولا للصحيح المقيم في ذلك لخروجهما من شرط الله تعالى في ذلك والكلام بين الفرق في هذه المسألة يطول وفيما أومأنا إليه كفاية والحمد لله قال أبو عمر التيمم للمريض والمسافر إذا لم يجد الماء بالكتاب والسنة والإجماع إلا ما ذكرت لك في تيمم الجنب فإذا وجد المريض والمسافر الماء حرم عليهما التيمم إلا أن يخاف المريض ذهاب نفسه وتلف مهجته في استعماله الماء فيجوز له حينئذ التيمم مع وجود الماء بالسنة لا بالكتاب إلا أن يتأول ولا تقتلوا أنفسكم النساء والسنة في ذلك ما أجازه النبي عليه السلام في حديث جابر من التيمم للمجروح وكان مسافرا صحيحا بقوله قتلوه قتلهم الله وقد روي من حديث بن عباس أيضا ذكر أبو داود وذكر حديث عمرو بن العاص في خوف شدة البرد والمريض أحرى بجواز ذلك قياسا ونظرا واتباعا لمعنى الكتاب والله أعلم وقال عطاء لا يتيمم المريض إذا وجد الماء ولا غير المريض لأن الله تعالى قال وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا النساء المائدة فلم يبح التيمم إلا عند عدم الماء وفقده ولولا الأثر الذي ذكرنا وقول جمهور العلماء لكان قول عطاء صحيحا والله أعلم

واختلف الفقهاء في التيمم هل تصلى به صلوات كالوضوء بالماء أم هو لازم لكل صلاة فقال مالك لا يصلي صلاتين بتيمم واحد ولا يصلي نافلة ومكتوبة بتيمم واحد إلا أن تكون نافلة بعد المكتوبة قال فإن صلى ركعتي الفجر بتيمم الفجر أعاد التيمم لصلاة الفجر وقال الشافعي يتيمم لكل صلاة فرض ويصلي الفرض والنافلة وصلاة الجنائز بتيمم واحد ولا يجمع بين صلاتي فرض بتيمم واحد في سفر ولا حضر وهو قول بن عباس وقال شريك يتيمم لكل صلاة نافلة وفريضة ومن حجة من رأى التيمم لكل صلاة فرضا واجبا أن الله أوجب على كل قائم إلى الصلاة طلب الماء وأوجب عند عدمه التيمم وعلى المتيمم عند دخول وقت صلاة أخرى مثل ما عليه في الأولى وليست الطهارة بالصعيد كالطهارة بالماء لأنها طهارة ضرورة لاستباحة الصلاة قبل خروج الوقت وليست بطهارة كاملة بدليل بطلانها بوجود الماء قبل الصلاة وأن الجنب يعود جنبا بعدها إذا وجد الماء وكذلك أمر كل من استباح بها الصلاة أن يطلب الماء للصلاة الأخرى فإذا طلب الماء ولم يجده لزمه التيمم بظاهر قوله فلم تجدوا ماء فتيمموا قالوا ولما أجمعوا أنه لا تيمم قبل دخول الوقت دل على أنه يلزمه التيمم لكل صلاة لئلا يكون تيممه قبل الوقت وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والليث بن سعد والحسن بن حي وداود يصلي ما شاء بتيمم واحد ما لم يحدث لأنه طاهر ما لم يجد الماء وليس عليه طلب الماء إذا يئس منه والكلام في هذه المسألة بين المختلفين كثير جدا لم أر لذكره وجها ولم يختلف قول مالك وأصحابه فيمن تيمم للصلاة فصلاها فلما سلم منها ذكر صلاة نسيها أنه تيمم لها واختلفوا فيمن صلى صلاتي فرض بتيمم واحد فروى يحيى عن بن القاسم فيمن صلى صلوات كثيرة بتيمم واحد أنه يعيد ما زاد على واحدة في الوقت واستحب له أن يعيد أبدا

وروى أبو زيد بن أبي الغمر عنه أنه يعيد أبدا وقال أصبغ بن الفرج أن جمع بين صلاتين بتيمم واحد نظر فإن كانتا مشتركتين في الوقت أعاد الآخرة في الوقت وإن كانتا غير مشتركتين في الوقت أعاد الثانية أبدا وذكر بن عبدوس أن بن نافع روى عن مالك في الذي يجمع بين الصلاتين أنه يتيمم لكل صلاة وقال أبو الفرج في ذاكر الصلوات إن قضاهن بتيمم واحد فلا شيء عليه وقد ذكرنا اختلاف قول مالك وأصحابه في هذه المسألة في كتاب جمعناه في اختلافهم قال أبو عمر قد اقتضى ما كتبنا في هذا الباب القول في معاني ما ذكره مالك في موطئه في التيمم وذلك ثلاثة أبواب إلا قوله سئل مالك عن رجل تيمم أيؤم أصحابه وهم متوضئون فقال يؤمهم غيره أحب إلي ولو أمهم هو لم أر بذلك بأسا ثم قال في ذلك الباب من قام إلى الصلاة فلم يجد ماء فعمل بما أمره الله به من التيمم فقد أطاع الله وليس الذي وجد الماء بأطهر منه ولا أتم صلاة لأنهما أمرا جميعا فكل عمل بما أمره الله به وهذا من قول مالك يقضي بأنه لا بأس أن يؤم المتيمم المتوضئ وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف والشافعي وزفر والثوري وقال الأوزاعي ومحمد بن الحسن والحسن بن حي لا يؤم متيمم متوضأ ومن حجة هؤلاء أن شأن الإمامة الكمال ومعلوم أن الطهارة بالصعيد طهارة ضرورة كما قلنا بدليل الإجماع على أن الجنب إذا صلى بالتيمم ثم وجد الماء لزمه الغسل وأن المتيمم غير الجنب يلزمه الوضوء إذا وجد الماء فأشبهت القاعد المريض يؤم قائما والأمي يؤم قارئا وقال محمد بن الحسن إنما تيمم بن عمر بالمدينة لأنه كان في آخر الوقت ولو كان في سعة من الوقت ما تيمم وهو بطرف المدينة ينظر إلى الماء ولكنه خاف خروج الوقت فتيمم

باب ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض مالك عن زيد بن أسلم أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما يحل لي من امرأتي وهي حائض فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لتشد عليها إزارها ثم شأنك بأعلاها مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت مضطجعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوب واحد وأنها قد وثبت وثبة شديدة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك لعلك نفست يعني الحيضة فقالت نعم قال شدي على نفسك إزارك ثم عودي إلى مضجعك في حديث ربيعة من الأحكام جواز نوم الشريف مع أهله في ثوب واحد وسرير واحد وفيه أنه عليه السلام لم يكن يعلم من الغيب إلا ما أعلمه الله ومعنى قوله نفست أي أصبت بالدم والنفس اسم من أسماء الدم قال إبراهيم النخعي كل ما ليس له نفس سائلة يموت في الماء لا يفسده يعني بها دما سائلا وقد ذكرنا معاني هذين الحديثين متصلة بالأسانيد القوية في كتاب التمهيد وتدل ترجمة هذا الباب والحديث فيه على أن الحائض لا يقرب منها ما تحت الإزار ولا يحل منها إلا ما فوقه

وهو تفسير لقوله تعالى ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض البقرة فبين عليه السلام كيف اعتزالهن ومعنى قوله ولا تقربوهن حتى يطهرن البقرة أنه أراد الجماع لا المؤاكلة ولا المشاربة ولا المجالسة ولا المضاجعة في ثوب واحد ونحو هذا كله وأنه أراد الجماع نفسه وجعل المئزر قطعا للذريعة وتنبيها على الحال والله أعلم مالك عن نافع أن عبيد بن عبد الله بن عمر أرسل إلى عائشة يسألها هل يباشر الرجل امرأته وهي حائض فقالت لتشد إزارها على أسفلها ثم يباشرها إن شاء قال أبو عمر لا أجد بعد السنة أقعد بهذا المعنى من عائشة فكانت تفتي بمعنى ما وعت عن النبي عليه السلام في ذلك وقد ذكرنا في التمهيد حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن اليهود كانت إذا حاضت منهم امرأة أخرجوها ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيت فسئل رسول الله عن ذلك فأنزل الله تعالى ويسألونك عن المحيض قل هو أذى البقرة فقال رسول الله جامعوهن في البيوت واصنعوا كل شيء إلا النكاح فبان في هذا الحديث المعنى الذي فيه نزلت الآية ومراد الله بها على لسان نبيه عليه السلام وأما قول الفقهاء في مباشرة الحائض وما يستباح منها فقال مالك والأوزاعي والشافعي وأبو حنيفة وأبو يوسف له منها ما فوق الأزار وهو قول سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد وحجتهم ظواهر الآثار عن عائشة وميمونة وأم سلمة عن النبي عليه السلام أنه كان يأمر إحداهن أن تشد إزارها ثم يباشرها

وقال سفيان الثوري ومحمد بن الحسن وبعض أصحاب الشافعي يجتنب موضع الدم وممن روي عنه هذا المعنى بن عباس ومسروق بن الأجدع وإبراهيم النخعي وعكرمة وهو قول داود بن علي ومن حجتهم حديث ثابت عن أنس عن النبي عليه السلام قوله اصنعوا كل شيء ما خلا النكاح وفي رواية بعض رواته ما خلا الجماع وحديث الأعمش عن ثابت بن عبيد عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ناوليني الخمرة من المسجد قلت إني حائض قال إن حيضتك ليست في يدك رواه أبو إسحاق السبيعي عن البهزي عن عائشة وقد ذكرنا هذه الأحاديث بأسانيدها في التمهيد وفيها دليل على أن كل عضو منها ليست فيه الحيضة فهو في الطهارة بمعنى أنه يبقى على ما كان ذلك العضو عليه قبل الحيضة ودل على أن الحيض لا حكم له في غير موضعه الذي أمرنا بالاجتناب له من أجله وروى أيوب عن أبي معشر عن إبراهيم عن مسروق قال سألت عائشة ما يحل لي من امرأتي وهي حائض قالت كل شيء إلا الفرج وروى الليث عن حكيم بن الأشج عن أبي مرة مولى عقيل عن حكيم بن عقال سألت عائشة ما يحل لي من امرأتي إذا حاضت قالت ما عدا فرجها وإذا ترتبت هذه الآثار مع حديث زيد بن أسلم في هذا الباب وحديث ربيعة والأحاديث عن أزواج النبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرهن أن تشد كل واحدة منهن عليها إزارها إذا حاضت ثم يباشرها لم تتدافع وكان بعضها يعضد بعضا على ما تأولنا من قطع الذريعة في شد الإزار لئلا يتطرق إلى الموضع المحظور والله أعلم وقد ذكر أبو داود في السنن حديثا مسندا عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها وهي حائض اكشفي عن فخذيك فكشفت فوضع خده وصدره على فخذي وحنيت عليه حتى دفئ وكان قد أوجعه البرد

وهذا يبين لك ما قلناه وبالله توفيقنا واختلف الفقهاء في الذي يأتي امرأته وهي حائض فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم يستغفر الله ولا يعود ولا شيء عليه من غرم وهو قول ربيعة ويحيى بن سعيد وبه قال داود وروي عن محمد بن الحسن أنه قال يتصدق بنصف دينار لحديث خصيف عن مقسم عن بن عباس عن النبي عليه السلام فإذا وقع على أهله وهي حائض فليتصدق بنصف دينار وقال أحمد بن حنبل يتصدق بدينار أو بنصف دينار وقال أحمد ما أحسن حديث عبد الحميد بن عبد الرحمن عن مقسم عن بن عباس عن النبي عليه السلام في الذي يأتي امرأته وهي حائض يتصدق بدينار أو بنصف دينار ورواه الثوري وشعبة وغيرهما عن الحكم بن عتبة عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وقال أبو داود هي الرواية الصحيحة وربما لم يرفعه شعبة وقال الطبري استحب له أن يتصدق بدينار أو بنصف دينار فإن لم يفعل فلا شيء عليه وهو قول الشافعي ببغداد ثم رجع عنه بمصر وقالت فرقة من أهل الحديث إن وطى ء في الدم فعليه دينار وإن وطى ء في انقطاع الدم فعليه نصف دينار لحديث علي بن الحكم البناني عن أبي الحسن الجزري عن مقسم عن بن عباس عن النبي عليه السلام بذلك كذلك رواه بن جريج عن علي بن الحكم عن مقسم عن بن عباس وقال الأوزاعي من وطى ء امرأته وهي حائض يتصدق بخمسي دينار ورواه عن يزيد بن أبي مالك عن عبد الحميد عن عبد الرحمن عن النبي عليه السلام قال أبو عمر حجة من لم يوجب عليه إلا الاستغفار والتوبة اضطراب هذا

الحديث عن بن عباس مرسلاوالذمم على البراءة لا يجب أن يثبت فيها شيء لمسكين ولا غيره إلا بدليل لا مدفع فيه وذلك معدوم في هذه المسألة واختلف الفقهاء أيضا في وطء الحائض بعد الطهر فقال مالك وأكثر أهل المدينة إذا انقطع عنها الدم لم يجز وطؤها حتى تغتسل وبه قال الشافعي والطبري ومحمد بن مسلمة وقال أبو يوسف وأبو حنيفة ومحمد إن انقطع دمها بعد مضي عشرة أيام كان له أن يطأها قبل الغسل فإن كان انقطاعه قبل العشرة لم يجز حتى تغتسل أو يدخل عليها وقت صلاة قال أبو عمر هذا الحكم لا وجه له وقد حكموا للحائض بعد انقطاع دمها بحكم الحائض في العدة وقالوا لزوجها عليها الرجعة ما لم تغتسل فعلى قياس قولهم هذا لا يجب أن توطأ حتى تغتسل وهو الصواب مع موافقة أهل الحجاز في ذلك وذكر مالك أنه بلغه أن سالم بن عبد الله وسليمان بن يسار سئلا عن الحائض هل يصيبها زوجها إذا رأت الطهر قبل أن تغتسل فقالا لا حتى تغتسل فإن قيل أن في قوله تعالى ولا تقربوهن حتى يطهرن البقرة دليلا على أنهن إذا طهرن من المحيض حل ما حرم منهن من أجل المحيض لأن حتى غاية فما بعدها بخلافها فالجواب أن في قوله تعالى فإذا تطهرن دليلا على تحريم الوطء بعد الطهر حتى يتطهرن بالماء لأن تطهرن تفعلن من قوله تعالى وإن كنتم جنبا فاطهروا المائدة ويريد الاغتسال بالماء وقد يقع التحريم بالشيء ولا يزول بزواله لعلة أخرى دليل ذلك قوله تعالى في المبتوتة فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره البقرة وليس بنكاح الزوج تحل له حتى يطلقها الزوج وتعتد منه ومن ذلك قوله عليه السلام ولا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض حيضة

ومعلوم أنها لا توطأ نفساء ولا حائض حتى تطهر ولم تكن حتى هنا بمبيحة لما قام الدليل على حظره وفي المسألة اعتراضات يطول ذكرها باب طهر الحائض مالك عن علقمة بن أبي علقمة عن أمه مولاة عائشة أم المؤمنين أنها قالت كان النساء يبعثن إلى عائشة أم المؤمنين بالدرجة فيها الكرسف فيه الصفرة من دم الحيضة يسألنها عن الصلاة فتقول لهن لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء تريد بذلك الطهر من الحيضة عن عبد الله بن أبي بكر عن عمته عن ابنة زيد بن ثابت أنه بلغها أن نساء كن يدعون بالمصابيح من جوف الليل ينظرن إلى الطهر فكانت تعيب ذلك عليهن وتقول ما كان النساء يصنعن هذا وفي حديث عائشة هذا ما كان نساء السلف عليه من الاهتبال بأمر الدين وسؤال من يطمع بوجود علم ما أشكل عليهن عنده قالت عائشة رحم الله نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يسألن عن أمر دينهن قال أبو عمر وهكذا المؤمن مهتبل بأمر دينه فهو رأس ماله كما قال الحسن رأس مال المؤمن دينه لا يخلفه في الرحال ولا يأتمن عليه الرجال وأما قوله الدرجة فمن رواه هكذا فهو على تأنيث الدرج وكان الأخفش يرويه الدرجة ويقول هي جمع درج مثل خرجه خرج وترسه وترس وأما الكرسف فالقطن والصفرة بقية دم الحيض واختلف قول مالك في الصفرة والكدرة ففي المدونة لابن القاسم عنه أنه قال في المرأة ترى الصفرة والكدرة في أيام حيضتها وفي غير أيام حيضتها قال مالك ذلك حيض وإن لم تر مع ذلك دما

وذكر بن عبدوس في المجموعة لعلي بن زياد عن مالك قال ما رأت المرأة من الصفرة والكدرة في أيام الحيض أو في أيام الاستطهار فهو كالدم وما رأته بعد ذلك فهو استحاضة وهذا قول صحيح إلا أن الأول أشهر عنه وقد اختلف علماء المدينة على هذين القولين وأما قول الشافعي والليث بن سعد وعبيد الله بن الحسين فهو أن الصفرة والكدرة حيض في أيام الحيض وهو قول أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف لا تكون الكدرة حيضا إلا بأثر الدم وهو قول داود أن الصفرة والكدرة لا تعد حيضا إلا بعد الحيض لا قبله لأن الأمة قد اختلفت فيهما قبل الحيض وبعده فما اختلفوا فيه من ذلك قبل لم يثبت إذ لا دليل عليه وأما اختلافهم فيهما بعد فلن يزول ما أجمعوا عليه إلا بالإجماع وهو النقاء بالجفوف والقصة البيضاء واحتج بحديث أم عطية كنا لا نعد الصفرة ولا الكدرة بعد الغسل شيئا قال تريد بعد الطهر وأما ما اتصل منها بالحيض فهو من الحيض قال أبو عمر القياس أن الصفرة والكدرة قبل الحيض وبعده سواء كما أن الحيض في كل زمان سواء وما احتج به داود لا معنى له واختلف أصحاب الشافعي وأصحاب أبي حنيفة في ذلك أيضا فمرة قالوا الصفرة والكدرة حيض في أيامها المعهودة ومرة قالوا ليس ذلك بحيض على جميع الأحوال ولم يختلف قول مالك وأصحابه أنها حيض في أيام الحيض وأما قول عائشة لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء فإنها تريد لا تعجلن بالاغتسال إذا رأيتن الصفرة لأنها بقية من الحيضة حتى ترين القصة البيضاء وهو الماء الأبيض الذي يدفعه الرحم عند انقطاع الحيض يشبه لبياضه بالقص وهو الجص ومنه الحديث نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تقصيص القبور ويروى عن تجصيص القبور يريد تلبيسها بالجص واختلف أصحاب مالك عنه في علامة الطهر ففي المدونة قال مالك إذا كانت المرأة ممن ترى القصة البيضاء فلا تصلي حتى تراها إلا أن يطول ذلك بها وقال بن حبيب تطهر بالجفوف وإن كانت ممن ترى القصة البيضاء قال والجفوف أبرأ للرحم من القصة البيضاء فمن كان طهرها القصة البيضاء فرأت الجفوف فقد طهرت قال ولا تطهر التي طهرها الجفوف برؤيتها القصة البيضاء حتى ترى الجفوف قال وذلك أن أول الحيض دم ثم صفرة ثم كدرة ثم يكون نقاء كالقصة ثم ينقطع فإذا انقطع قبل هذه المنازل فقد برئت الرحم من الحيض قال والجفوف أبرأ وأوعب وليس بعد الجفوف انتظار شيء وأما قول ابنة زيد بن ثابت فإنما أنكرت على النساء افتقادهن أحوالهن في غير أوقات الصلوات وما قاربها لأن جوف الليل ليس بوقت للصلاة وإنما على النساء افتقاد أحوالهن للصلاة في أوقات الصلوات فإن كن قد طهرن تأهبن بالغسل لما عليهن من الصلاة وفي هذا الباب سئل مالك عن الحائض تطهر فلا تجد ماء أتتيمم قال نعم فإن مثلها مثل الجنب إذا لم يجد الماء تيمم وهذا إجماع كما قال مالك لا خلاف فيه والحمد لله ه باب جامع الحيضة مالك أنه بلغه أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت في المرأة الحامل ترى الدم أنها تدع الصلاة

وهذه مسألة اختلف العلماء فيها قديما وحديثا بالمدينة وغيرها واختلف فيها عن عائشة أيضا وعن سعيد بن المسيب وعن بن شهاب ذكر مالك أنه سأل بن شهاب عن المرأة الحامل ترى الدم قال تكف عن الصلاة قال مالك وذلك الأمر عندنا ولم يختلف عن يحيى بن سعيد وربيعة أن الحامل إذا رأت دما فهو حيض تكف من أجله عن الصلاة وهو قول مالك وأصحابه والليث بن سعد والشافعي في أحد قوليه وهو قول قتادة وبه قال عبد الرحمن بن مهدي وإسحاق بن راهويه وأبو جعفر الطبري وذكر حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد قال لا يختلف عندنا عن عائشة أنها كانت تقول في الحامل ترى الدم إنها تمسك عن الصلاة حتى تطهر وقد روى عن بن عباس أن الحامل تحيض والله أعلم واختلف عن مالك هل تستطهر أم لا فروى عنه بن القاسم وعلي بن زياد أنها لا تستطهر وإليه ذهب المغيرة وعبد الملك وأبو مصعب والزهري وروى عنه أشهب ومطرف وبن عبد الحكم أنها تستطهر بثلاثة أيام وهو قول أصبغ وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي وعبد الله بن الحسن العنبري والحسن بن صالح بن يحيى ليس ما تراه الحامل على حملها من الدم والصفرة والكدرة حيضا وإنما هو استحاضة لا يمنعها من الصلاة وبه قال داود بن علي وهو قول مكحول الدمشقي والحسن البصري ورواية عن بن شهاب الزهري ومحمد بن المنكدر وجابر بن زيد وعكرمة وعطاء بن أبي رباح والشعبي وإبراهيم النخعي وحماد وبه قال أحمد بن حنبل وأبو عبيد وأبو ثور ذكر دحيم قال حدثنا الوليد بن مسلم عن سعيد بن عبد العزيز أنه سمع الزهري يقول الحامل لا تحيض فلتغتسل ولتصل قال ولا يكون حيض على حمل وحدثنا الوليد قال حدثنا أبو عمرو الأوزاعي عن الزهري مثل ذلك

وقد روي عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار أن الحامل تحيض ذكره دحيم قال حدثنا الليث عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال الحامل إذا رأت الدم لم تصل قال وحدثنا الوليد قال وحدثنا الليث عن ربيعة قال الحامل إذا رأت الدم لم تصل لا قبل خروج الولد ولا بعده والحجة لكلا القولين من جهة النظر تكاد أن تتوارى وكلهم يمنع الحامل من الصلاة إذا كانت في الطلق وضربة المخاض لأنه عندهم دم نفاس ولأصحاب مالك في الحامل ترى الدم اضطراب من أقوالهم ورواياتهم عن مالك قد ذكرناها في كتاب اختلاف قول مالك وأصحابه وأصح ما في مذهب مالك عند أولي الفهم من أصحابنا رواية أشهب أن الحامل والحائل إذا رأتا الدم سواء في الاستطهار وسائر أحكام الحيض وإليه ذهب عبد الملك بن حبيب قال وأول الحمل وآخره في ذلك سواء وهو الصحيح من مذهب مالك والشافعي والله أعلم وروى أبو زيد عن عبد الملك بن الماجشون في الحامل ترى الدم تقعد أيام حيضها ثم تغتسل وتصلي ولا تستطهر قال ولقد قال أكثر الناس إن الحامل إذا رأت الدم لم تمسك عن الصلاة لأن الحامل عندهم لا تحيض وروى عن المغيرة المخزومي أنه قال الحامل وغيرها سواء وهو قول أصبغ رواه أبو زيد عنه وذكر بن عبدوس عن سحنون أنه أنكر رواية مطرف عن مالك في الحامل التي أيامها في الشهور وقال ليس هذا مذهب مالك ولا غيره وهو خطأ ولا تكون امرأة نفساء إلا بعد الولادة قال أبو عمر رواية مطرف هذه وقوله بها قول ضعيف يزدريه أهل العلم واختلف أهل التأويل في معنى قوله تعالى وما تغيض الأرحام وما تزداد الرعد فقال جماعة منهم ما تغيض الأرحام ما تنقص من التسعة الأشهر وما تزداد عليها وممن روي ذلك عنه بن عباس والحسن ومجاهد وسعيد بن جبير

والضحاك بن مزاحم وعطية العوفي فهؤلاء ومن تابعهم قالوا معنى الآية نقصان الحمل عن التسعة الأشهر وقال آخرون بل هو خروج الدم وظهوره من الحائل واستمساكه وزيادته على التسعة الأشهر روي ذلك أيضا عن جماعة منهم عكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير والشعبي وسنذكر اختلاف الفقهاء في مدة الحمل لأنهم اختلفوا في أكثرها ولم يختلفوا في أقلها أنه ستة أشهر في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله وأما حديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت كنت أرجل رأس رسول الله وأنا حائض ففيه تفسير لقوله تعالى فاعتزلوا النساء في المحيض البقرة لأن اعتزالهن كان يحتمل ألا يقربن ولا يجتمع معهن ويحتمل أن يكون اعتزال الوطء خاصة فأتت السنة بما قدمنا في حديث أنس من أنه أراد الجماع على حسب ما وصفنا وبمثل ذلك معنى ترجيل عائشة وهي حائض لرأسه عليه السلام وذكرنا في التمهيد من قال عن مالك في هذا الحديث عن عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدني إلي رأسه وأنا في حجرتي وهو معتكف فأرجله وأنا حائض وذكرنا معاني الاعتكاف وحكم المباشرة فيها والحمد لله وفي ترجيل عائشة لرأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حائض دليل على طهارة الحائض وأنه ليس منها شيء نجس غير موضع الحيض ولذلك قال لها عليه السلام إن حيضتك ليست في يدك حين سألها أن تناوله الخمرة فقالت إني حائض وفيه ترجيل الشعر وفي ترجيله لشعره عليه السلام وسواكه وأخذه من

شاربه ونحو ذلك ما يدل على أنه ليس من السنة ولا الشريعة ما خالف النظافة وحسن الهيئة في اللباس والزينة التي من شكل الرجال للرجال ومن شكل النساء للنساء ويدل على أن قوله عليها السلام البذاذة من الإيمان أراد به اطراح الشهوة في الملبس والإسراف فيه الداعي إلى التبختر والبطر ليصح معاني الآثار ولا تتضاد ومن معنى هذا الحديث حديث عبد الله بن مغفل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الترجل إلا غبا يريد عند الحاجة لئلا يكون ثائر الرأس شعثه كأنه شيطان كما جاء عنه عليه السلام وقد ذكرنا الآثار المرفوعة في معاني هذا الباب وشواهد بما وصفنا في مواضع من التمهيد والحمد لله وأما حديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن فاطمة بنت المنذر بن الزبير عن أسماء بنت أبي بكر الصديق أنها قالت سألت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت أرأيت إحدانا إذا أصاب ثوبها الدم من الحيضة كيف تصنع فيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصاب ثوب إحداكن الدم من الحيضة فلتقرصه ثم لتنضحه بالماء ثم لتصل فيه فقوله فيه عن أبيه غلط لأن أصحاب هشام بن عروة كلهم يقول فيه عن فاطمة بنت المنذر وهي امرأته ولم يرو عنها أبوه شيئا وإنما هشام يروي عنها هذا الحديث وغيره وأما قوله فلتقرصه يعني تعركه وتحته وتزيله بظفرها ثم تجمع عليه أصابعها فتغسل موضعه بالماء

وقوله ولتنضحه يريد ولتغسله والنضح الغسل وهو المعروف في اللسان العربي أنه قد يراد بالنضح الغسل بالماء وهذا الحديث أصل في غسل النجاسات من الثياب لأن الدم نجس إذا كان مسفوحا ومعنى المسفوح الجاري الكثير ولا خلاف أن الدم المسفوح رجس نجس وأن القليل من الدم الذي لا يكون جاريا مسفوحا متجاوز عنه وليس الدم كسائر النجاسات التي قليلها رجس مثل كثيرها وقد ذكرت في التمهيد عن أبي طوالة عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر قال أدركت فقهاءنا يقولون ما أذهبه الحك من الدم فلا يضر وأما أخرجه الفتل مما يخرج من الأنف فلا يضر وقال مجاهد لم يكن أبو هريرة يرى بالقطرة والقطرتين من الدم بأسا في الصلاة وتنخم بن أبي أوفى دما في الصلاة وعصر بن عمر بثرة فخرج منها شيء من دم أو قيح فمسحه بيده وصلى ولم يتوضأ وذكر بن المبارك عن المبارك بن فضالة عن الحسن أن النبي عليه السلام كان يقتل القملة في الصلاة ومعلوم أن في قتل القملة دما يسيرا وقد ذكرنا هذه الآثار بأسانيدها في التمهيد وقد تقدم في فتل سالم لما خرج من أنفه من الرعاف وفي هذا المعنى كفاية وأجمع العلماء على غسل النجاسات كلها من الثياب والبدن وألا يصلى بشيء منها في الأرض ولا في الثياب وأما العذرات وأبوال ما لا يؤكل لحمه فقليل ذلك وكثيره رجس وكثيره رجس نجس عند الجمهور من السلف وعليه فقهاء الأمصار واختلفوا هل غسل النجاسات على ما وصفنا فرض أو سنة فقال منهم قائلون غسلها فرض واجب ولا تجزئ صلاة من صلى بثوب نجس عالما كان بذلك أو ساهيا عنه واحتجوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بغسل الأنجاس من الثياب والأرض والبدن فمن ذلك حديث هذا الباب وهو حديث أسماء في غسل دم الحيض من الثوب ولم تخص منه مقدار درهم من غيره

ومنها أمره بصب الماء على بول الصبي إذا بال في حجره ومنها أمره بصب الذنوب من الماء على بول الأعرابي إذ بال في المسجد ومنها أنه قال عليه السلام أكثر عذاب القبر في البول واحتجوا بإجماع الجمهور الذين هم الحجة على من شذ عنهم ولا يعد خلافهم خلافا عليهم أن من صلى عامدا بالنجاسة يعلمها في بدنه أو ثوبه أو على الأرض التي صلى عليها وهو قادر على إزاحتها واجتنابها وغسلها ولم يفعل وكانت كثيرة أن صلاته باطلة وعليه إعادتها كمن لم يصلها فدل هذا على ما وصفنا من أمر رسول الله بغسل النجاسات وغسلها له من ثوبه على أن غسل النجاسة فرض واجب وإذا كان فرضا غسلها لم يسقط فرض غسلها على من نسيه وصلى بثوب نجس لأن الفرائض لا يسقطها النسيان كما لو نسي مسح رأسه أو غير ذلك من فرائض وضوئه أو صلاته وممن ذهب إلى هذا في غسل النجاسة قليلها وكثيرها إلا ما وصفنا من الدم اليسير نحو دم البراغيث ولما كان مثله الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو ثور وإليه مال أبو الفرج المالكي وهو مذهب الكوفيين إلا أنهم راعوا ما زاد على مقدار الدرهم قياسا على المخرج في الاستنجاء وقد روي عن بن عباس ما يدل على أن غسل النجاسة فرض مأخوذ من قوله تعالى وثيابك فطهر المدثر كما قال بن سيرين ويأتي ذلك بعد احتجاجا لما ذهب إليه أبو الفرج إن شاء الله تعالى وقال آخرون غسل النجاسة سنة واجبة مؤكدة وليس بفريضة قالوا والدليل على ذلك أن كتاب الله تعالى ليس فيه ما يوجب غسل الثياب

وتأولوا قوله تعالى وثيابك فطهر على ما تأوله عليه جمهور السلف من أنها طهارة القلب وطهارة الجيب ونزاهة النفس عن الدنايا والآثام والذنوب وذكروا قول سعيد بن جبير اقرأ علي آية بغسل الثياب ذكره أبو بكر قال حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان عن أبي شيخ عن سعيد بن جبير قال اقرأ على آية بغسل الثياب قالوا وقول بن سيرين إنه أراد بذلك تطهير الثياب شذوذ لم يقله غيره وقد أشبعنا هذا المعنى بأقاويل المفسرين من السلف ومن تابعهم من الفقهاء في التمهيد بالآثار والنظر والاعتبار والحمد لله وتقصينا هناك أقاويل الفقهاء فيمن صلى بثوب نجس أو على ثوب نجس أو على موضع نجس أو كانت في بدنه نجاسة أو تيمم على موضع نجس فمن أراد ذلك تأمله هناك ومن الحجة لمن جعل غسل النجاسة سنة حديث حماد بن سلمة عن أبي نعامة السعدي عن أبي نضرة عن أبى سعيد الخدري قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره فلما رأى ذلك القوم خلعوا نعالهم فلما قضى رسول الله صلاته قال ما حملكم على إلقائكم نعالكم فقالوا رأيناك ألقيت نعالك فألقينا نعالنا فقال رسول الله إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا وقد ذكرناه في التمهيد مسندا ومرسلا من وجوه وذكرنا هناك بمثل ذلك حديث بن مسعود أيضا ذكره بن أبي شيبة عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي عن زهير بن معاوية عن أبي حمزة عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال خلع النبي عليه السلام نعليه وهو يصلي فخلع من خلفه فقال ما حملكم على خلع نعالكم قالوا يا رسول الله إنك خلعت فخلعنا فقال إن جبريل أخبرني أن في إحداهما قذرا فإنما خلعتهما لذلك فلا تخلعوا نعالكم ولما بنى عليه السلام على ما صلى بالنجاسة ولم يقطع صلاته لذلك علمنا أن غسلها لم يكن واجبا ولو كان واجبا فرضا لم تكن صلاة من صلى بها جائزة ولما تمادى في صلاته إذ رآها وعلمها في نعليه

وقد روي عن بن عمر وسعيد بن المسيب وسالم وعطاء وطاوس ومجاهد والشعبي والزهري يحيى بن سعيد الأنصاري في الذي يصلي بالثوب فيه نجاسة وهو لا يعلم ثم علم أنه لا إعادة عليه وبه قال إسحاق واحتج بحديث أبي سعيد المذكور ومالك رحمه الله مذهبه في هذه المسألة نحو مذهب هؤلاء لأنه لا يرى الإعادة إلا في الوقت والإعادة في الوقت استحباب لاستدراك فضل السنة في الوقت ولا يستدرك فضل السنة بعد الوقت لإجماع العلماء على أن من صلى وحده في الوقت ووجد قوما يصلون جماعة بعد الوقت قد فاتتهم تلك الصلاة بنوم أو عذر أنه لا يصلي معهم وكلهم يأمره لو كان في الوقت أن يعيد الظهر والعشاء هذا ما لم يختلفوا فيه وقد اختلفوا فيما عدا هاتين الصلاتين على ما نذكره في بابه من هذا الكتاب إن شاء الله ومن ها هنا قال أصحابنا مذهب مالك في غسل النجاسات أنه سنة لا فرض وجملة قول مالك في هذا الباب أن إزالة النجاسة من الثياب والأبدان واجبة بالسنة وليست بوجوب فرض وعلى ذلك جماعة أصحابه إلا أبا الفرج فإن غسلها عنده فرض واجب قالوا ومن صلى بثوب نجس أعاد في الوقت فإن خرج الوقت فلا إعادة عليه وحجة أبي الفرج ومن قال قوله من المالكيين وهو قول الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وقد تقدم إلى القول به الحسن ومحمد بن سيرين عالما أهل البصرة وروي عن بن عباس معنى ذلك ذكر محمد بن المثنى ومحمد بن يسار قالا حدثنا يحيى بن سعيد عن بن جريج عن عطاء عن بن عباس في قوله وثيابك فطهر قال في كلام العرب أنقها إنها القلب وقال بن المثنى في حديثه أنق الثياب فالحجة لهم ظاهر قوله تعالى وثيابك فطهر والثياب غير القلوب عند العرب وهي لغة القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم في غسل الدماء والأنجاس من الأبدان والثياب والنعال وقد ذكرنا الآثار بذلك في موضعه من التمهيد وإجماع العلماء على أن من صلى وثوبه الذي يستر عورته قد امتلأ بولا أو عذرة أو دما وهو عامد فلا صلاة له وعليه الإعادة في الوقت وبعده وهذا كله دليل عندهم على أن غسل النجاسات فرض واجب وبالله التوفيق

وقال مالك لا تعاد الصلاة من يسير الدم في وقت ولا غيره وتعاد من يسير البول والغائط والمذي والمني قال مالك ومن رأى في ثوبه دما يسيرا وهو في الصلاة مضى وفي الدم الكثير ينزعه ويستأنف الصلاة فإن رآه بعد فراغه أعاد ما دام في الوقت وكذلك البول والرجيع والمذي والمني وخرء الطير التي تأكل الجيف يعيد ما كان في الوقت من صلى ومن لم يعلم بالنجاسة إلا بعد الوقت لم يعد ومن تعمد الصلاة بالنجاسة أعاد أبدا هذا تحصيل مذهب مالك عند جماعة أصحابه إلا أشهب فإنه لا يعيد المتعمد عنده أيضا إلا في الوقت وقد شذ في قوله ذلك عن الجمهور من السلف والخلف وروي عن الليث بن سعد في ذلك كمذهب مالك وقال الشافعي قليل الدم والبول والعذرة والخمر وكثير ذلك سواء تعاد منه الصلاة أبدا والإعادة واجبة لا يسقطها خروج الوقت واختلف قول مالك في دم الحيض فمرة جعله كسائر الدماء وهو الأشهر عنه ومرة كالبول وهو قول بن وهب إلا ما كان نحو دم البراغيث وما يتعافاه الناس ويتجاوزونه لقلته فإنه لا يفسد الثوب ولا تعاد منه الصلاة وقول أحمد بن حنبل وأبي ثور في ذلك مثل قول الشافعي إلا أنهما يخالفانه في الدم خاصة فلا يريان غسله حتى يتفاحش وهو قول الطبري إلا أن الطبري قال إن كانت النجاسة قدر الدرهم أعاد الصلاة أبدا ولم يحد أولئك حدا وكلهم يروي غسل النجاسة فرضا وقول أبي يوسف وأبي حنيفة في هذا الباب كقول الطبري في مراعاة قدر الدرهم من النجاسة أنه معفو عنه حتى يكون أكثر فتجب منه الإعادة أبدا ويجب حينئذ غسله فرضا وقال محمد بن الحسن إن كانت النجاسة ربع الثوب فما دون جازت الصلاة به وقال أبو يوسف وأبو حنيفة في الدم والعذرة والبول ونحوها إن صلى وفي ثوبه من ذلك مقدار الدرهم جازت صلاته وكذلك الروث عن أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد في الروث حتى يكون كثيرا فاحشا وقال أبو حنيفة وأبو يوسف في بول ما يؤكل لحمه حتى يكون كثيرا فاحشا

وذهب محمد بن الحسن إلى أن بول ما يؤكل لحمه طاهر كقول مالك وقال الشافعي بول ما يؤكل لحمه نجس وليس هذا موضع الاحتجاج لأقوالهم في نجاسة بول الإبل وما يؤكل لحمه وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى وقال زفر في البول قليله وكثيره يفسد الصلاة وفي الدم حتى يكون أكثر من قدر الدرهم وقال الحسن بن حي في الدم في الثوب يعيد إذا كان مقدار الدرهم وإن كان أقل من ذلك لم يعد وكان يقول إن كان في الجسد أعاد وإن كان أقل من الدرهم وقال في البول والغائط يفسد الصلاة القليل والكثير منه إن كان في الثوب وقال الثوري يغسل الروث والدم ولم يعرف قدر الدرهم وقال الأوزاعي في البول إذا لم يجد ماء يغسله به تيمم وصلى ولا إعادة عليه إذا وجد الماء وقد روي عن الأوزاعي أنه إذا وجد الماء في الوقت أعاد وقال في القيء يصيب الثوب ولا يعلم به حتى يصلي مضت صلاته وقال إنما جاءت الإعادة في الرجيع وكذلك في دم الحيض لا يعيد وقال في البول يعيد في الوقت فإذا مضى الوقت فلا إعادة عليه وقال الليث في البول والروث والدم وروث الدابة ودم الحيض والمني يعيد فات الوقت أو لم يفت وقال في يسير الدم في الثوب لا يعيد في الوقت ولا بعده قال وسمعت الناس لا يرون في يسير الدم يصلى به وهو في الثوب بأسا ويرون أن تعاد الصلاة في الوقت من الدم الكثير قال والقيح مثل الدم قال أبو عمر هذا عن الليث أصح مما تقدم عنه رواه بن وهب وغيره عنه وقوله هذا حسن جدا وقد أوردنا أقاويل الفقهاء والسلف في هذا الباب والله الموفق للصواب

باب المستحاضة مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت قالت فاطمة بنت أبي حبيش يا رسول الله إني لا أطهر أفأدع الصلاة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ذلك عرق وليست بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة فإذا ذهب قدرها فاغسلي الدم عنك وصلي ولم يختلف رواه مالك في إسناده ولفظه ورواه محمد بن كناسة عن هشام عن أبيه عن عائشة قال سفيان وتفسيره إذا رأت الدم بعد ما تغسل الدم فقط وقد رواه حماد بن زيد عن هشام بإسناده فجود لفظه قال فإذا أدبرت الحيضة فاغسلي عنك أثر الدم وتوضئي فقيل لحماد فالغسل قال ومن يشك أن في ذلك غسلا واحدا بعد الحيضة وقال حماد قال أيوب أرأيت لو خرج من جنبها دم أتغتسل وقال فيه أبو حنيفة عن هشام بإسناده فإذا أدبرت فاغتسلي لطهرك وقال فيه أبو معاوية عن هشام بإسناده وإذا أدبرت فاغسلي قال هشام قال أبي ثم تتوضأ لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت وكان بن عيينة يقول فيه عن هشام مرة فإذا أدبرت فاغتسلي وصلي ومرة قال اغسلي عنك الدم وصلي ومرة قال كذا أو كذا وقال فيه حماد بن سلمة عن هشام بإسناده فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وتطهري وصلي

قال حماد قال هشام كان عروة يقول الغسل الأول ثم الطهر لكل صلاة وقال فيه يحيى بن هاشم عن هشام بن عروة بإسناده فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وتوضئي لكل صلاة وصلي وقد ذكرنا أسانيد هذه الأحاديث ومتونها في التمهيد وذكرنا الاختلاف على الزهري فيه في قصة أم حبيبة بنت جحش واستحاضتها وكلهم يقول في حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة إن النبي عليه السلام قال لفاطمة بنت أبي حبيش إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وهذا نص ثابت عنه عليه السلام في أن الحيض يمنع من الصلاة وهذا إجماع من علماء المسلمين نقلته الكافة كما نقلته الآحاد العدول ولا مخالف فيه إلا طوائف من الخوارج يرون على الحائض الصلاة وأما علماء السلف والخلف وأهل الفتوى بالأمصار فكلهم على أن الحائض لا تصلي ولا تقضي الصلاة أيام حيضها إلا أن من السلف من كان يرى للحائض ويأمرها أن تتوضأ عند وقت الصلاة وتذكر الله وتستقبل القبلة ذاكرة لله جالسة وروى خالد عن عقبة بن عامر ومكحول قال مكحول كان ذلك من هدي نساء المسلمين في أيام حيضهن ذكر عبد الرزاق قال قال معمر بلغني أن الحائض كانت تؤمر بذلك عند وقت كل صلاة وبن جريج عن عطاء قال لم يبلغني ذلك وأنه لحسن قال أبو عمر هو أمر متروك عند جماعة الفقهاء بل يكرهونه ذكر دحيم قال حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري عن سليمان التيمي قال سئل أبو قلابة عن الحائض إذا حضرت الصلاة أتتوضأ وتذكر الله فقال أبو قلابة قد سألنا عنه فلم نجد له أصلا قال دحيم وحدثنا الوليد بن مسلم قال سألت سعيد بن عبد العزيز عن الحائض أنها إذا كان وقت صلاة مكتوبة توضأت واستقبلت القبلة فذكرت الله في غير صلاة ولا ركوع ولا سجود قال ما نعرف هذا ولكنا نكرهه وقال معمر قلت لابن طاوس أكان أبوك يأمر الحائض عند وقت كل صلاة بطهر وذكر قال لا وعلى هذا القول جماعة الفقهاء وعامة العلماء اليوم في الأمصار قال دحيم وحدثنا سعيد بن منصور قال حدثنا حماد بن زيد عن يزيد

الرشك عن معاذة عن عائشة أن امرأة سألتها أتقضي المرأة صلاة أيام حيضتها قالت أحرورية أنت كانت إحدانا على عهد رسول الله تحيض فلا تؤمر بقضاء الصلاة وذكر عبد الرزاق عن معمر عن عاصم الأحول عن معاذة العدوية قالت سألت عائشة فقلت ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة فقالت أحرورية أنت قلت لست بحرورية ولكني أسأل قالت قد كان يصيبنا ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة وروى قتادة وأبو قلابة عن معاذة العدوية عن عائشة مثله رواه شعبة وسعيد وغيرهما عن قتادة وحماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة وذكر عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن معاذة عن عائشة مثله وذكر بن جريج عن عطاء قال قلت أتقضي الحائض الصلاة قال لا ذلك بدعة وعن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة مثله سواء وعن معمر عن الزهري قال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة قلت عمن قال اجتمع الناس عليه وليس في كل شيء تجد الإسناد وعن الثوري عن رجل عن إبراهيم عن عائشة قالت كنا عند رسول الله فلم يأمر امرأة منا أن تقضي الصلاة وقال دحيم وحدثنا يعلى بن عبيد عن عبيدة عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت كنا نحيض على عهد النبي عليه السلام فما يأمر امرأة منا برد الصلاة وقال عجلان أبو غالب سألت بن عباس عن النفساء والحائض هل تقضيان

الصلاة إذا طهرتا قال هؤلاء نساء النبي عليه السلام لو فعلن ذلك أمرنا نساءنا به وروينا عن حذيفة أنه قال ليكونن قوم في آخر هذه الأمة يكذبون أولاهم ويلعنونهم ويقولون جلدوا في الخمر وليس ذلك في كتاب الله ورجموا وليس ذلك في كتاب الله ومنعوا الحائض الصلاة وليس ذلك في كتاب الله وهذا كله قد قال به قوم من غالية الخوارج على أنهم اختلفوا فيه أيضا وكلهم أهل زيغ وضلال أما أهل السنة والحق فلا يختلفون في شيء من ذلك والحمد لله وفي حديث مالك عن هشام بن عروة في هذا الباب دليل على أن المستحاضة لا يلزمها غير ذلك الغسل لأن رسول الله لم يأمرها بغيره ولو لزمها غيره لأمرها به وفي ذلك رد لقول من رأى عليها الغسل لكل صلاة ولقول من رأى عليها أن تجمع بين صلاتي النهار بغسل واحد وصلاتي الليل بغسل واحد وتغتسل للصبح لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمرها بشيء من ذلك كله في حديث هشام هذا ولا صح ذلك عنه في غيره وحديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة هذا أصح ما روي في هذا الباب وهو يدفع الغسل الذي وصفنا وفيه رد لقول من قال بالاستطهار يوما ويومين وثلاثة وأقل وأكثر لأنه أمرها إذا علمت أن حيضتها قد أدبرت وذهبت أن تغتسل وتصلي ولم يأمرها أن تترك الصلاة ثلاثة أيام لانتظار حيض يجيء أو لا يجيء والاحتياط إنما يجب في عمل الصلاة لا في تركها ولا يخلو قوله عليه السلام في الحيضة إذا ذهب قدرها أن يكون أراد انقضاء أيام حيضتها لمن تعرف الحيضة وأيامها أو يكون أراد انفصال دم الحيض من دم الاستحاضة لمن تميزه فأي ذلك كان فقد أمرها عند ذهاب حيضتها أن تغتسل وتصلي ولم يأمرها باستطهار وقال أيضا من نفى الاستطهار السنة تنفي الاستطهار لأن أيام دمها جائز أن تكون استحاضة وجائز أن تكون حيضا والصلاة فرض بيقين فلا يجوز أن تدعها حتى تستيقن أنها حائض وذكروا أن مالكا وغيره من العلماء قالوا لأن تصلي المستحاضة وليس عليها ذلك خير من أن تدع الصلاة وهي واجبة عليها لأن الواجب الاحتياط للصلاة فلا تترك إلا بيقين لا بالشك فيه وقال بعض أصحابنا في هذا الحديث دليل على صحة الاستطهار لقوله عليه

السلام للمستحاضة فإذا ذهب قدرها يعني الحيض لأن قدر الحيض قد يزيد مرة وينقص أخرى فلهذا رأى مالك الاستطهار لأن الحائض يجب ألا تصلي حتى تستيقن زواله والأصل في الدم الظاهر من الرحم أنه حيض ولهذا أجمع الفقهاء على أن يأمروا المبتدأة بالدم بترك الصلاة في أول ما ترى الدم وكان أقصى الحيض عند مالك خمسة عشر يوما فكان يقول في المبتدأة وفي التي أيامها معروفة فيزيد حيضها إنهما تقعدان إلى كمال خمسة عشر يوما فإذا زاد فهو استحاضة ثم رجع في التي لها أيام معروفة أن تستطهر بثلاثة أيام على عادتها ما لم تجاوز خمسة عشر يوما احتياطيا للصلاة ثم تغتسل بعد ذلك وتصلي وكذلك تستطهر المبتدأة على أيام لداتها بثلاثة أيام ما لم تجاوز خمسة عشر يوما ثم تغتسل أيضا وتصلي لأن ما زاد على ذلك دم استحاضة وهو عرق كما قال عليه السلام لا يمنع من الصلاة ولا استطهار عند مالك إلا لهاتين المرأتين في هذين الموضعين وجعل الاستطهار ثلاثة أيام ليستبين فيها انفصال دم الحيض من دم الاستحاضة استدلالا بحديث المصراة إذ حد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام في انفصال اللبن لبن التصرية من اللبن الطارئ واحتجوا بحديث رواه حرام بن عثمان عن ابني جابر عن جابر أن أسماء بنت مرشد الحارثية كانت تستحاض فسألت النبي عليه السلام عن ذلك فقال لها النبي عليه السلام اقعدي أيامك التي كنت تقعدين ثم استطهري بثلاث ثم اغتسلي وصلي ورواه إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا إبراهيم بن حمزة قال حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن حرام بن عثمان عن محمد وعبد الرحمن ابني جابر بن عبد الله عن أبيهما عن أسماء بنت مرشد كانت تستحاض فذكر معنى ما ذكرنا وهذا حديث لا يوجد إلا بهذا الإسناد وحرام بن عثمان المدني متروك الحديث مجتمع على طرحه لضعفه ونكاره

حديثه حتى لقد قال الشافعي الحديث عن حرام بن عثمان حرام وقال بشر بن عمر سألت مالك بن أنس عن حرام بن عثمان فقال ليس ثقة وقد مضى اختلاف قول مالك وأصحابه في الحامل ترى الدم هل تستطهر أم لا في صدر هذا الباب وأما قوله فإذا أدبرت الحيضة فاغسلي عنك الدم وصلي فقد تقدم من رواية الثوري ومحمد بن زيد وحماد بن سلمة وغيرهم ما يفسر ذلك وهو أن تغتسل عند إدبار الحيضة وإقبال استحاضتها كما تغتسل الحائض عند رؤية طهرها لأن المستحاضة طاهر ودمها دم عرق كدم الجرح السائل والخراج وذلك لا يوجب طهارة إذ لا يمنع من صلاة وهذا إنما يكون في امرأة تعرف دم حيضتها من دم استحاضتها وليس في حديث مالك هذا ذكر الوضوء لكل صلاة المستحاضة وقد ذكرناه في هذا الحديث عنده فلذلك كان مالك يستحبه لها ولا يوجبه عليها كما لا يوجبه على من سلس بوله فلم ينقطع عنه وممن أوجب الوضوء لكل صلاة على المستحاضة سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والليث بن سعد والشافعي وأصحابه والأوزاعي وهؤلاء كلهم ومالك معهم لا يرون على المستحاضة غسلا غير مرة واحدة عند إدبار حيضتها وإقبال استحاضتها ثم تغسل عنها الدم وتصلي ولا تتوضأ إلا عند الحدث عند مالك وهو قول عكرمة وأيوب السختياني وكذلك التي تقعد أيامها المعروفة ثم تستطهر عند مالك أو لا تستطهر عند غيره وتغتسل أيضا عند انقضاء أيامها واستطهارها ولا شيء عليها إلا أن تحدث حدثا يوجب الغسل أو الوضوء عند مالك ومن قال بقوله وأما عند الشافعي وأبي حنيفة والثوري فتتوضأ لكل صلاة على حسب ما ذكرنا عنهم فيما سلف من كتابنا في سلس البول وذلك واجب عليها عندهم وذهبت طائفة إلى أن الغسل لكل صلاة واجب عليها لأحاديث رووها بذلك قد ذكرناها في التمهيد قالوا لأنه لا يأتي عليها وقت صلاة إلا وهي فيه شاكة هل هي حائض أو طاهر مستحاضة أو هل طهرت في ذلك الوقت بانقطاع دم حيضتها أم لا فواجب عليها الغسل للصلاة قالوا ولو شاء الله لابتلاها بأشد من هذا

ورووا هذا عن علي وبن عباس وبن الزبير وسعيد بن جبير وقد ذكرنا الأسانيد عنهم بذلك في التمهيد وذكر مالك في الموطأ عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة أنها رأت زينب بنت جحش التي كانت تحت عبد الرحمن بن عوف وكانت تستحاض فكانت تغتسل وتصلي هكذا رواه يحيى وغيره عن مالك في الموطأ وهو وهم من مالك لأنه لم تكن قط زينب بنت جحش تحت عبد الرحمن بن عوف وإنما كانت تحت زيد بن حارثة ثم كانت تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما التي كانت تحت عبد الرحمن أم حبيبة بنت جحش وكن ثلاث أخوات زينب كما ذكرنا وأم حبيبة تحت عبد الرحمن بن عوف وحمنة بنت جحش تحت طلحة بن عبيد الله وقد قيل إنهن ثلاثتهن استحضن وقد قيل إنهن لم يستحض منهن إلا أم حبيبة وحمنة والله أعلم وروى الليث بن سعد عن هشام عن عروة عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة أن أم حبيبة بنت جحش كانت تستحاض فكانت تغتسل وتصلي وكذلك رواه يحيى بن سعيد عن عروة وعمرة عن زينب بنت أبي سلمة أن أم حبيبة وذكر الحديث وقد أسند حديث أم حبيبة هذا الزهري فرواه عن عروة عن عائشة أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت فأمرها رسول الله أن تغتسل لكل صلاة فإن قيل لم يرفعه إلا محمد بن إسحاق عن الزهري وأما سائر أصحاب الزهري فإنهم يقولون فيه عنه عن عروة عن عائشة أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنما هو عرق وليس بالحيضة وأمرها أن تغتسل وتصلي فكانت تغتسل لكل صلاة قيل لما أمرها رسول الله أن تغتسل لكل صلاة فهمت عنه فكانت تغتسل لكل صلاة على أن قوله تغتسل وتصلي يقتضي ألا تصلي حتى تغتسل وقد ذكرنا طرق حديث الزهري هذا في التمهيد واختلاف أصحابه عليه فيه وقال آخرون يجب عليها أن تغتسل للظهر والعصر غسلا واحدا وللمغرب والعشاء غسلا واحدا وتؤخر الظهر فتصليها في آخر وقتها وتقدم العصر في أول

وقتها وكذلك تفعل بالمغرب والعشاء وتغتسل للصبح غسلا واحدا ورووا بذلك آثارا قد ذكرتها في التمهيد وروي عن علي وبن عباس أيضا مثل ذلك وقد ذكرت الرواية عنهما في التمهيد وهو قول إبراهيم النخعي وعبد الله بن شداد وفرقة وقال آخرون تغتسل كل يوم مرة في أي وقت شاءت من النهار ورواه معقل بن يسار عن علي قال إذا انقضى حيضها اغتسلت كل يوم واتخذت صوفة فيها سمن أو زيت وقال آخرون تغتسل من طهر إلى طهر رواه مالك عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن أن القعقاع بن حكيم وزيد بن أسلم أرسلاه إلى سعيد بن المسيب يسأله كيف تغتسل المستحاضة فقال تغتسل من طهر إلى طهر وتتوضأ لكل صلاة فإن غلبها الدم استثفرت وكان مالك يقول ما أرى الذي حدثني به من طهر إلى طهر إلا قد وهم قال أبو عمر ليس ذلك بوهم لأنه صحيح عن سعيد معروف عنه من مذهبه في المستحاضة تغتسل كل يوم مرة من طهر إلى طهر وكذلك رواه بن عيينة عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن قال سألت سعيد بن المسيب عن المستحاضة فقال تغتسل من طهر إلى طهر وتتوضأ لكل صلاة فإن غلبها الدم استثفرت بثوب وصلت قال سمي فأرسلوني عمن يذكر ذلك فحصبني وكذلك الثوري عن سمي عن سعيد مثله من طهر إلى طهر وكذلك رواه وكيع عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب مثله من طهر إلى طهر وهو قول عطاء بن أبي رباح وسالم والحسن البصري

وروي مثل ذلك عن بن عمر وأنس بن مالك ورواية عن عائشة وقد روي عن سعيد بن المسيب في ذلك مثل قول مالك وسائر الفقهاء أنها لا تغتسل إلا من طهر إلى طهر على ما وصفنا من انقضاء أيام دمها إذا كانت تميز دم استحاضتها وعلى هذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة الكوفي وأصحابهم وروى سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن القعقاع بن حكيم قال سألت سعيد بن المسيب عن المستحاضة فقال ما بقي من الناس أحد أعلم بهذا مني إذا أقبلت الحيضة فلتدع الصلاة وإذا أدبرت الحيضة فلتغتسل وتصلي وذكره بن أبي شيبة قال حدثنا محمد بن فضيل عن يحيى بن سعيد عن القعقاع بن حكيم قال سألت سعيد بن المسيب عن المستحاضة فقال ما أعلم بهذا مني إذا أقبلت الحيضة فلتدع الصلاة وإذا أدبرت فلتغتسل ولتغسل عنها الدم ولتتوضأ لكل صلاة قال أبو عمر يحتمل أن تكون هذه الرواية عن سعيد في امرأة ميزت إقبال دم حيضتها وإدباره وإقبال دم استحاضتها تكون رواية مالك عن سمي في امرأة أطبق عليها الدم فلم تميزه والله أعلم ومن ذكر في هذا الخبر وما كان مثله وتتوضأ لكل صلاة فقد زاد زيادة صحيحة جاءت بها الآثار المرفوعة وقد ذكرناها في التمهيد والفقهاء بالحجاز والعراق مجمعون على أن المستحاضة تؤمر بالوضوء لكل صلاة منهم من رأى ذلك عليها واجبا ومنهم من استحبه وقد ذكرنا ذلك والحمد لله وأما الغسل لكل صلاة فقد مضى القول فيه مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال ليس على المستحاضة إلا أن تغتسل غسلا واحدا ثم تتوضأ بعد ذلك لكل صلاة قال مالك الأمر عندنا في المستحاضة على حديث هشام بن عروة عن أبيه وهو أحب ما سمعت إلي في ذلك وأما حديث مالك عن نافع عن سليمان بن يسار عن أم سلمة

زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن امرأة كانت تهراق الدماء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتت لها أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لتنظر إلى عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر فإذا خلفت ذلك فلتغتسل ثم لتستثفر بثوب ثم لتصلي فقد ذكرنا في التمهيد اختلاف الناس في هذا الحديث في إسناد ألفاظه فمن ذلك أن الليث بن سعد رواه عن نافع فأدخل بين سليمان بن يسار وأم سلمة رجلا لم يسمه وكذلك رواه أنس بن عياض عن عبد الله بن عمر عن نافع عن سليمان عن رجل من الأنصار عن أم سلمة وقال فيه أيوب السختياني إن المرأة التي استفتت لها أم سلمة عن استحاضتها هي فاطمة بنت أبي حبيش المذكورة في حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة على ما رواه مالك وغيره عن هشام في هذا الباب حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل بن يوسف قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا سفيان قال حدثنا أيوب السختياني عن سليمان بن يسار أنه سمعه يحدث عن أم سلمة قالت كانت فاطمة بنت أبي حبيش تستحاض فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنه ليس بالحيضة ولكنه عرق وأمرها أن تدع الصلاة قدر إقرائها أو قدر حيضتها ثم تغتسل فإن غلبها الدم استثفرت بثوب وصلت وقد مضى القول في حديث هشام بن عروة ونذكرها هنا ما يوجب القول في حديث نافع هذا لأنه عندنا حديث آخر وذلك أن حديث هشام في امرأة عرفت إقبال حيضتها من إدبارها فأجابها رسول الله على ذلك وحديث نافع في امرأة كانت لها أيام معروفة فزادها الدم

وأطبق عليها ولم تميز أقبال دم الحيضة من إدباره وانقطاعه وإقبال دم الاستحاضة فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تترك الصلاة قدر أيامها التي كانت تحيضهن من الشهر ثم تغتسل ولم تذكر لها أيضا استطهارا والقول في الاستطهار هنا كالقول الذي مضى في حديث هشام سواء وقال أحمد بن حنبل في الحيض ثلاثة أحاديث اثنان ليس في نفسي منهما شيء أحدهما حديث هشام عن عروة عن أبيه عن عائشة في قصة فاطمة بنت أبي حبيش والثاني حديث نافع عن سليمان بن يسار عن أم سلمة وأما الثالث الذي في قلبي منه شيء فحديث حمنة بنت جحش رواه عبد الله بن محمد بن عقيل عن إبراهيم بن محمد بن طلحة عن عمه عمران بن طلحة عن أمه حمنة بنت جحش وقد ذكرناه في التمهيد فجعل أحمد حديث نافع عن سليمان بن يسار غير حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وقال مع أحمد جماعة غيره فلذلك قلنا إنهما حديثان في معنيين مختلفين على ما وصفنا وأما حديث مالك عن سليمان بن يسار فمعناه عند أهل العلم أنها كانت امرأة لا ينقطع دمها ولا ينفصل ولا ترى منه طهرا وقد زادها على ذلك على أيام كانت لها معروفة وتمادى بها فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك لتعلم هل حكم ذلك الدم كحكم دم الحيض إذا كانت عندها وعند غيرها عادة دم الحيض أنه ينقطع فأجابها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرها إذا انقضت أيامها أو عدد أيامها أن تغتسل وتستثفر وتصلي وأجمع العلماء على أن للدماء الظاهرة من الأرحام ثلاثة أحكام أحدها دم الحيض يمنع الصلاة وتسقط الصلاة مع وجوده من غير إعادة لها على ما قدمناه عن جماعة العلماء والثاني دم النفاس عند الولادة وحكمه في الصلاة كحكم دم الحيض بإجماع وقد اختلف العلماء في مقداره كما اختلفوا في مقدار الحيض وسنبين ذلك كله إن شاء الله

والدم الثالث دم ليس بعادة ولا طبع للنساء ولا خلقه معروفه منهن وإنما هو عرق انقطع وسال دمه فهذا حكمه أن تكون المرأة في الأيام التي ينوبها فيها طاهرة ولا يمنعها من صلاة ولا صوم ولا يوقف على دم العرق من غيره إلا بمعرفة ما زاد على هذا الحيض بإجماع أو ما نقص عنه باختلاف وقد اختلف العلماء في ذلك فأما فقهاء أهل المدينة فيقولون إن الحيض لا يكون أكثر من خمسة عشر يوما وجائز عندهم أن يكون خمسة عشر يوما فما دون وما زاد على خمسة عشر يوما فلا يكون حيضا وإنما هو استحاضة وهو دم العرق المنقطع وهذا مذهب مالك وأصحابه في الجملة وقد روي عن مالك أنه لا وقت لقليل الحيض ولا لكثيره إلا ما يوجد في النساء وأكثر ما بلغه أنه وجد في النساء خمسة عشر يوما والدفعة عنده من الدم حيض تمنع من الصلاة ولكن الدفعة وما كان مثلها لا تحسب قرءا في العدة هذا مذهب بن القاسم وأكثر المصريين والمدنيين عنه وقال بن الماجشون عنه أقل الحيض خمسة أيام وأقل الطهر خمسة أيام وهو قول بن الماجشون قال أبو عمر أما أقل الطهر فقد اضطرب فيه قول مالك وأصحابه فروى بن القاسم عنه عشرة أيام وروى عنه أيضا أقل الطهر ثمانية أيام وهو قول سجنون وقال عبد الملك بن الماجشون عبد الملك قال أقل الطهر خمسة أيام ورواه عن مالك وإلى هذه الرواية مال بعض البغداديين من المالكيين وقال محمد بن مسلمة أقل الطهر خمسة عشر يوما وهو اختيار أكثر البغداديين من المالكيين وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما والثوري وهو الصحيح لأن الله قد جعل عدة ذات الأقراء ثلاثة قروء وجعل عدة من لا تحيض من كبر أو صغر ثلاثة أشهر فكان كل قرء عوضا من شهر والشهر يجمع الطهر والحيض فإذا قل الحيض كثر الطهر وإذا كثر الحيض قل الطهر فلما كان أكثر الحيض خمسة عشر يوما وجب أن يكون أقل الطهر خمسة عشر يوما ليكمل في الشهر الواحد حيض وطهر وهو المتعارف في الأغلب من كثرة النساء وجبلتهن مع دلائل القرآن والسنة على ذلك كما ذكرنا

وقال بن أبي عمران عن يحيى بن أكثم أقل الطهر تسعة عشر يوما واحتج بأن الشهر جعل عدل كل حيضة وطهر في العدة والحيض في العادة أقل من الطهر فلم يجز أن يكون الحيض خمسة عشر يوما ووجب أن يكون عشرة أيام لأن الناس في أكثر الحيض على هذين القولين فلما لم تصح الخمسة عشر لأن العادة في الحيض أن يكون أقل من الطهر صحت العشرة الأيام وإذا صحت العشرة حيضا كان ما بقي طهرا وهو تسعة عشر يوما لأن الشهر قد يكون تسعة وعشرين وأما اختلافهم مجملا في أقل الحيض وأكثره فكان مالك لا يوقت في قليل الحيض ولا في كثيره وقال أقله دفقة من دم غير أنها لا تعتد بها من طلاق ثم قال أكثره الحيض خمسة عشر يوما فيما بلغنا وقال محمد بن مسلمة أكثره خمسة عشر يوما وأقله ثلاثة أيام وقال الشافعي أقله يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوما وقد روي عنه مثل قول مالك أن ذلك مردود إلى عرف النساء وقال الطبري أقله يوم وأكثره خمسة عشر يوما فإن تمادى بها الدم خمسة عشر يوما وزادها قضت صلاة أربعة عشر يوما وروي عن سعيد بن جبير إذا زاد على ثلاثة عشر يوما فهو استحاضة وقال أحمد بن حنبل أقصى ما سمعنا سبعة عشر يوما وكان نساء الماجشون يحضن سبعة عشر يوما وبه قال بن نافع صاحب مالك وقال أبو ثور مثل قول الشافعي أقله يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوما وبه قال أحمد بن حنبل وهو قول عطاء بن أبي رباح وقال الأوزاعي أقل الحيض يوم قال وعندنا امرأة تحيض غدوة وتطهر عشية وقال أبو حنيفة وأصحابه أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيام قال أبو عمر ما نقص عند هؤلاء عن ثلاثة أيام فهو استحاضة لا يمنع من الصلاة إلا عند ظهوره لأنه لا يعلم مبلغ مدته

ثم على المرأة قضاء صلاة تلك الأوقات إن كانت أقل من ثلاثة أيام وكذلك ما زاد على عشرة أيام عند الكوفيين وعند الحجازيين على خمسة عشر يوما فهو استحاضة على ما قدمنا وأما الشافعي والأوزاعي فما كان أقل من يوم أو يوم وليلة فهو استحاضة وهو قول الطبري واعتبروا في أقل الطهر ما ذكرنا عنهم خمسة عشر يوما فجعلوا ما دونها كدم متصل وعند محمد بن مسلمة في هذا شيء من خلاف ليس بنا حاجة إلى ذكره فهذه أصولهم فقف عليها في مقدار الطهر والحيض فلا غنى عنها في المسألة الواردة في الحيضة المنقطعة وفي العدة فمن قاد أصله فيها كان أسعد بالصواب والمسألة امرأة حاضت يوما أو يومين ثم طهرت يوما أو يومين فتمادى بها الأمر أياما فأما مالك وأصحابه فقالوا تجمع أيام الدم بعضها إلى بعض وتلغي أيام الطهر وتغتسل عند كل يوم ترى فيه الطهر أول ما تراه وتصلي ما دامت طاهرة وتكف عن الصلاة في أيام الدم وتحصي ذلك فإذا اجتمع لها من الدم خمسة عشر يوما اغتسلت وصلت وعلمنا أنها حيضة انقطعت وإن زادت على خمسة عشر يوما فهي مستحاضة هذه رواية أهل المدينة عن مالك وهو قول الشافعي في رواية الربيع وغيره عنه وقال الطحاوي قد أجمعوا أنه لو انقطع ساعة أو نحوها أنه كدم متصل فكذلك اليوم واليومان لأنه لا يعتد به من طلاق وليس الثلاث عنده كاليومين وهو قول محمد بن مسلمة وروى بن القاسم والمصريون عنه أنها تضم أيام الدم بعضها إلى بعض فإن دام ذلك بها أيام عادتها استطهرت بثلاثة أيام على أيام حيضتها وإن رأت في أيام الاستطهار طهرا ألغته أيضا حتى تحصل لها ثلاثة أيام من الدم للاستطهار وتصلي وتصوم ويأتيها زوجها وتكون ما جمعته من الدم حيضة واحدة ولا تعتد بشيء من أيام الطهر في عدة من طلاق وتغتسل كل يوم من أيام طهرها عند انقطاع الدم لأنها لا تدري لعل الدم لا يرجع إليها وقال محمد بن مسلمة إذا كان طهرها يوما وحيضتها يوما فطهرها أقل الطهر وحيضتها أقل الحيض ولكنه يقطع طهرها وحيضها فكأنها قد حاضت

خمسة عشر يوما متوالية وطهرت خمسة عشر يوما متوالية فحال الحيضة لا يضرها واجتماع الأيام وافتراقها سواء ولا تكون هذه مستحاضة فقال محمد بن مسلمة في هذه المسألة بتلفيق الطهر إلى الطهر ولم يقله غيره وسائر أصحاب مالك إنما يقولون بتلفيق الدم إلى الدم فقط وقال أبو الفرج ليس بنكير أن تحيض يوما وتطهر يوما وتنقطع الحيضة عليها كما لا ينكر أن يتأخر حيضها عن وقته لأن تأخر بعضه عن اتصاله كتأخره كله فمن أجل ذلك كانت عندنا بالقليل حائضا ولم يكن القليل حيضة لأن الحيضة لا تكون إلا بأن يمضي لها وقت حيض تام وطهر تام أقله فيما روي عن عبد الملك خمسة أيام قال ولو أن قلة الدم تخرجه من أن تكون حيضا لأخرجت من أن تكون دم استحاضة لأن دم العرق هو استحاضة دون دم العرق الكثير الزائد على ما يعرف قال أبو عمر راعى عبد الملك وأحمد بن المعذل في هذه المسألة ما أصلاه في أن أقل الطهر خمسة أيام وراعى محمد بن مسلمة خمسة عشر يوما وجعل كل واحد منهم ما يأتي من الدم قبل تمام الطهر مضافا إلى الدم الأول إلا أن يكون بعد تمام مدة أكثر الحيض فيكون حينئذ عرقا ولا تترك فيه الصلاة وكذلك يلزم كل من أصل في أقل الطهر وأقل الحيض أصلا بعدة معلومة أن يكون ما خرج عنها في النقصان والزيادة استحاضة وقد جعل بن مسلمة أقل الحيض ثلاثة أيام وهو قول الكوفيين في أقل الحيض فيجب أن يكون ما دونه عنده دم عرق واستحاضة وأما مذهب بن القاسم وروايته وغيره من المصريين عن مالك فعلى ما احتج له أبو الفرج لأنه جعل اليسير حيضا يمنع من الصلاة ولم يجعله حيضة يعتد بها من طلاق وهو المشهور من أصل قول مالك وغيره يقول ما لا يعتد به من عدة الطلاق فليس بحيض وإنما هو استحاضة لا يمنع من الصلاة وقد احتج أصحابنا عليهم في غير موضع والكلام في الحيض والاستحاضة ومقدار الحيض والنفاس بين المختلفين كثير جدا طويل وقد ذكرنا مذاهبهم وأصول أقوالهم وأضربنا عن الاعتلال لهم بما ذكروه لأنفسهم لما فيه من التطويل والتشغيب ولأن الحيض ومقداره والنفاس ومدته

مأخوذ أصلهما من العادة والعرف والآراء والاجتهاد فلذلك كثر بينهم فيه الاختلاف والتشغيب وفيما لوحنا به ما يبين لك المراد منه إن شاء الله وقد أوضحنا القول وبسطناه في حكم الحيض والاستحاضة ومهدناه في باب نافع وباب هشام بن عروة من التمهيد والحمد لله قال أبو عمر وأما مسألة تقطع الطهر والحيض فهي لمن تدبرها ناقضة لما أصلوه في أقل الحيض والطهر وأكثرهما فتدبرها تجدها كذلك إن شاء الله وأما قوله إن المستحاضة إذا صلت آن لزوجها أن يصيبها وكذلك النفساء إذا بلغت أقصى ما يمسك النساء الدم فإن رأت الدم بعد ذلك فإنه يصيبها زوجها لأنها بمنزلة المتسحاضة قال أبو عمر أما وطء المستحاضة فمختلف فيه بالمدينة وغيرها ذكر عبد الرزاق عن معمر عن أيوب قال سئل سليمان بن يسار أيصيب المستحاضة زوجها فقال إنما سمعت بالرخصة في الصلاة قال معمر وسألت الزهري أيصيب المستحاضة زوجها قال إنما سمعنا بالصلاة وعن الثوري عن منصور قال لا تصوم ولا يأتيها زوجها ولا تمس المصحف وروي عن عائشة أنه لا يأتيها زوجها وبه قال بن علية وذكر عن شريك عن منصور عن إبراهيم قال المستحاضة تصوم وتصلي ولا يأتيها زوجها وعن حماد بن زيد عن حفص بن سليمان عن الحسن مثله وعن عبد الواحد بن سالم عن حريث عن الشعبي مثله وهو قول الحكم وبن سيرين وحجة من ذهب هذا المذهب أن الله تعالى قد سمى الحيض أذى وأمر باعتزال النساء من أجله وهو دم خارج من الفرج وأجمعوا على نجاسته وغسل الثوب منه فكل دم يجب غسله ويحكم بنجاسته فحكمه حكم دم الحيض في تحريم الوطء إذا وجد في موضع الوطء وذكر إسماعيل بن إسحاق قال أخبرنا مصعب قال سمعت المغيرة بن عبد الرحمن وكان من أعلى أصحاب مالك يقول قولنا في المستحاضة إذا استمر بها الدم بعد انقضاء أيام حيضتها أنا لا ندري هل ذلك انتقال من دم حيضها إلى أيام

أكثر منها أم ذلك استحاضة فنأمرها أن تغتسل إذا مضت أيام حيضها وتصلي وتصوم ولا يغشاها زوجها احتياطا حتى ينظر إلى ما يصير إليه حالها بعد ذلك فإن كانت حيضتها انتقلت من أيام إلى أكثر منها عملت فيما تستقبل على الأيام التي انتقلت إليها ولم يضرها ما كانت احتاطت من الصلاة والصيام وإن كان ذلك الدم الذي استمر بها استحاضة كانت قد احتاطت للصلاة والصوم قال أبو مصعب هذا قولنا وبه نقضي وقال جمهور الفقهاء المستحاضة تصوم وتصلي وتطوف بالبيت وتقرأ القرآن ويأتيها زوجها وممن روي عنه إجازة وطء المستحاضة عبد الله بن عباس وسعيد بن المسيب والحسن على اختلاف عنه وسعيد بن جبير وعكرمة وعطاء بن أبي رباح وهو قول عطاء والليث بن سعد والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما والثوري والأوزاعي وإسحاق وأبي ثور وكان أحمد بن حنبل يقول أحب إلي ألا يطأها إلا أن يطول ذلك وذكر بن المبارك عن الأجلح عن عكرمة عن بن عباس قال في المستحاضة لا بأس أن يجامعها زوجها وذكر عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن شروس أنه سمع من عكرمة مثله وزاد وإن سال الدم على عقبيها وعبد الرزاق عن الثوري عن سمي عن بن المسيب وعن الثوري عن يونس عن الحسن قال في المستحاضة تصوم وتصلي ويجامعها زوجها وعن الثوري عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير أنه سأله عن المستحاضة أتجامع فقال الصلاة أعظم من الجماع وذكر بن وهب عن عمرو بن الحارث عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه قال المستحاضة تصوم وتصلي ويطؤها زوجها قال بن وهب وقال مالك أمر أهل الفقه والعلم على ذلك وإن كان دمها كثيرا وقال مالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ذلك عرق وليس بالحيضة فإذا لم تكن حيضة فما يمنعه أن يصيبها وهي تصلي وتصوم قال أبو عمر حكم الله تعالى في دم الاستحاضة أنه لا يمنع الصلاة وتعبد فيه

بعبادة غير عبادة الحيض لذلك وجب ألا يحكم له بحكم الحيض إلا أن يجمعوا على شيء فيكون موقوفا على ذلك وإنما أجمعوا على غسله كسائر الدماء وأما قول مالك وكذلك النفساء إذا بلغت أقصى ما يمسك النساء الدم فإن العلماء قد اختلفوا قديما وحديثا في مدة دم النفاس الممسك للنساء عن الصلاة والصوم فكان مالك يقول أقصى ذلك شهران ثم رجع فقال يسأل عن ذلك النساء وأصحابه على أن أقصى مدة النفاس شهران ستون يوما وبه قال عبيد الله بن الحسن وهو قول الشافعي وأبي ثور وقال الأوزاعي تجلس كامرأة من نسائها فإن لم يكن لها نساء كأمهاتها وأخواتها فأربعون يوما وروي ذلك عن عطاء وقتادة على اختلاف عن عطاء وقال أكثر أهل العلم أقصى مدة النفاس أربعون يوما وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس وعثمان بن أبي العاصي وأنس بن مالك وعائذ بن عمر والمزني وأم سلمة زوج النبي عليه السلام وهؤلاء كلهم صحابة لا مخالف لهم فيه وبه قال سفيان الثوري والليث بن سعد وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد القاسم بن سلام وداود وقد حكي عن الليث بن سعد أن من الناس من يقول سبعون يوما وروي عن الحسن أنه قال لا يكاد النفاس يجاوز أربعين يوما فإن جاوز خمسين يوما فهي مستحاضة وحكى الأوزاعي عن أهل دمشق أن أجل النفاس من الغلام ثلاثون يوما ومن الجارية أربعون يوما وروي عن الضحاك قول شاذ أيضا أن النفساء تنتظر سبع ليال وأربع عشرة ليلة ثم تغتسل وتصلي وهذا لا وجه له وأما أقل النفاس فقال مالك إذا ولدت المرأة ولم تر دما اغتسلت وصلت وهو قول الأوزاعي والشافعي وأبي عبيد ومحمد بن الحسن وأبي ثور ولم يحد الثوري وأحمد وإسحاق في أقل النفاس حدا وروي عن الحسن البصري عشرين يوما وعن أبي حنيفة خمسة وعشرين يوما وعن أبي يوسف أحد عشر يوما

قال أبو عمر التحديد في ضعيف لأنه لا يصح إلا بتوقيف وليس في مسألة أكثر النفاس موضع للاتباع والتقليد إلا من قال بالأربعين فإنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مخالف لهم منهم وسائر الأقوال جاءت عن غيرهم ولا يجوز عندنا الخلاف عليهم بغيرهم لأن إجماع الصحابة حجة على من بعدهم والنفس تسكن إليهم فأين المهرب عنهم دون سنة ولا أصل وبالله التوفيق باب ما جاء في بول الصبي مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي فبال على ثوبه فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فأتبعه إياه مالك عن بن شهاب عن عبيد بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسه في حجره فبال على ثوبه فدعا رسول الله بماء فنضحه ولم يغسله قوله في هذا الحديث ولم يغسله يريد ولم يفركه ويقرصه بالماء وقال بعض شيوخنا قوله في هذا الحديث ولم يغسله ليس في الحديث وزعم أن آخر الحديث فنضحه ولا يتبين عندي ما قاله لصحة رواية مالك هذه وقد قال فيها ولم يغسله نسقا واحدا

وكذلك رواية بن جريج عن بن شهاب في هذا الحديث قال فيه ولم يغسله كما قال مالك ورواه عبد الرزاق عن بن عيينة وبن جريج كذلك أيضا وذكره بن أبي شيبة عن بن عيينة عن الزهري بإسناده قال فيه فدعا بماء فرشه ولم يزد وقال فيه معمر فنضحه ولم يزد وهذان الحديثان معناهما واحد وهو صب الماء على البول لأن قوله في حديث هشام فأتبعه إياه وقوله في حديث بن شهاب فنضحه سواء والنضح في هذا الموضع صب الماء وهو معروف في اللسان العربي بدليل قوله عليه السلام إني لأعرف قرية ينضح البحر بناحيتها أو قال بحائطها أو سورها لو جاءهم رسولي ما رموه بسهم ولا حجر وفي حديث آخر إني لأعلم أرضا يقال لها عمان ينضح بناحيتها البحر بها حي من المغرب لو أتاهم رسولي ما رموه بسهم ولا حجر وقد يكون النضح أيضا في اللسان العربي الرش هذا وذاك معروفان في اللسان ففي هذين الحديثين ما يدل على صب الماء على بول الصبي من غير عرك ولا فرك وقد يسمى الصب غسلا بدليل قول العرب غسلتني السماء وقد أمر عليه السلام بصب الذنوب من الماء على بول الأعرابي فدل على أن كل ما يزيل النجاسة ويذهبها فقد طهر موضعها بعرك وبغير عرك لأن الماء إذا غلب على النجاسة ولم يظهر منها فيه شيء وغمرها طهرها وكان الحكم له لا لها وقد مضى هذا المعنى محررا فبما تقدم من كتابنا هذا والحمد لله وقد أجمع المسلمون على أن بول كل صبي يأكل الطعام ولا يرضع نجس كبول أبيه واختلفوا في بول الصبي والصبية إذا كانا يرضعان لا يأكلان الطعام فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما بول الصبي والصبية كبول الرجل مرضعين كانا أو غير مرضعين

وقال الأوزاعي لا بأس ببول الصبي ما دام يشرب اللبن ولا يأكل الطعام وهو قول عبد الله بن وهب صاحب مالك وقال الشافعي بول الصبي الذي لم يأكل الطعام ليس بنجس حتى يأكل الطعام ولا يتبين لي فرق ما بين الصبية وبينه ولو غسل كان أحب إلي وقال الطبري بول الصبية يغسل غسلا وبول الصبي يتبع ماء وهو قول الحسن البصري وذكر عبد الرزاق عن معمر وبن جريج عن بن شهاب قال مضت السنة بأن يرش بول الصبي ويغسل بول الجارية ولفظ بن جريج مكان يرش ينضح وذكر بن أبي شيبة عن محمد بن بكر عن جريج عن بن شهاب قال مضت السنة بأن يرش بول من لم يأكل الطعام ومضت السنة بغسل بول من أكل الطعام من الصبيان ولم يفرق بين الغلام والجارية في هذه الرواية قال أبو عمر هذا أصح ما قيل في هذا الباب على معنى ما فيه من الآثار الصحاح وتفسير ذلك ما رواه الحسن البصري عن أمه عن أم سلمة قالت بول الغلام يصب عليه الماء صبا وبول الجارية يغسل طعمت أو لم تطعم وعن عائشة مثله وكان الحسن يفتي به لصحته عنده وروى حميد الطويل عن الحسن أنه قال في بول الصبية يغسل غسلا وبول الصبي يتبع بالماء وهذا أولى ما قيل به في هذا الباب والله الموفق وقد روى قتادة عن أبي حرب بن أبي الأسود عن أبيه عن علي عن النبي عليه السلام أنه قال يغسل بول الجارية وينضح على بول الغلام قال قتادة ما لم يطعما الطعام فإذا طعما الطعام غسلا

وقد أجمع المسلمون أنه لا فرق بين بول الرجل والمرأة ففي القياس كذلك بول الغلام والجارية وقد رويت بالتفرقة بينهما في أن بول الصبي لا يغسل وبول الجارية يغسل آثار ليست بالقوية قد ذكرتها في التمهيد وعلى ما اخترنا في هذا تتفق معاني الآثار ولا تختلف وهو الذي عليه المدار والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل باب ما جاء في البول قائما وغيره مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال دخل أعرابي المسجد فكشف عن فرجه ليبول فصاح الناس به حتى علا الصوت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اتركوه فتركوه فبال ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء فصب على ذلك المكان وعن عبد الله بن دينار أنه قال رأيت عبد الله بن عمر يبول قائما لم يذكر مالك في حديثه عن يحيى بن سعيد أن الأعرابي بال قائما وترجم الباب في البول قائما وهذا الحديث رواه يحيى بن سعيد عن أنس سمعه منه عن النبي عليه السلام كذلك رواه يزيد بن هارون وعبد الله بن المبارك وعبدة بن سليمان عن يحيى بن سعيد قال سمعت أنس بن مالك يحدث بذلك وقد رواه عن أنس أيضا ثابت البناني وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة وقد ذكرنا طرقه في التمهيد حدثنا أحمد بن قاسم قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا يحيى بن سعيد قال سمعت

أنس بن مالك يقول دخل أعرابي المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيه فأتى النبي عليه السلام فقضى حاجته فلما قام بال في ناحية المسجد فصاح به الناس فكفهم رسول الله حتى فرغ من بوله ثم دعا بدلو من ماء فصبه على بول الأعرابي وقد رواه أبو هريرة عن النبي عليه السلام كما رواه أنس من حديث بن شهاب عن سعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة وهو حديث ثابت لا مطعن فيه لأحد ولا يختلف أهل الحديث في صحة إسناده وقد ذكرته في التمهيد وفيه من الفقه أن الماء إذا غلب على النجاسة ولم يظهر فيه شيء منها فقد طهرها وأنها لا تضره ممازجته لها إذا غلب عليها وسواء كان قليلا أو كثيرا وقد جعله الله تعالى طهورا وأنزله علينا ليطهرنا به وقال رسول الله عليه السلام الماء لا ينجسه شيء يعني إلا ما غلب عليه من النجاسة فغيره ومعلوم أنه لا يطهر نجاسة حتى يمازجها فإن غلب عليها ولم يظهر فيه شيء منها فالحكم له وإن غلبته النجاسة فالحكم لها إذا ظهر في الماء شيء منها هذا ما يوجبه ظاهر هذا الحديث وهو من أصح ما يروى في الماء عن النبي عليه السلام وإلى هذا المذهب ذهب جمهور أهل المدينة منهم سعيد بن المسيب وسالم والقاسم وبن شهاب وربيعة وأبو الزناد وهو قول مالك في رواية أهل المدينة عنه وقول أصحابه المدنيين وقد ذكرنا ما لابن القاسم وغيره من المصريين عن مالك في ذلك وما لسائر العلماء في الماء من المذاهب فيما تقدم والحمد لله وحديث هذا الباب لا يقدر أصحاب الشافعي ولا أصحاب أبي حنيفة على دفعه وهو ينقض ما أصلوه في الماء إلا أن أصحاب الشافعي فزعوا لما لزمتهم الحجة به إلى التفرقة بين ورود الماء على النجاسة وورودها عليه فراعوا في ورودها عليه مقدار القلتين وهو عندهم خمسمائة رطل ولم يراعوا في وروده عليها ذلك المقدار لحديث أسماء في غسل ثوبها من دم الحيض وحديث أبي هريرة في غسل اليد قبل إدخالها في الإناء ونحوهما

وقد مضى القول عليهم في ذلك فيما تقدم من هذا الكتاب والله الموفق للصواب ومن حجتهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن البول في الماء الدائم وأمر بصب الماء على بول الأعرابي ونهى أن يدخل من يستيقظ من نومه يده في الإناء ومعلوم أن غسلها من ماء الإناء مخالط لما في اليد من النجاسة وهذا وما كان مثله كثير دلل على الفرق بين ورود النجاسة على الماء وبين وروده عليها وقد فرق المسلمون كافة بين غسل النجاسات من الثياب والأبدان وغيرها فلم يراعوا في ذلك مقدارا وبين ورود النجاسات من العذرات والميتات في الآبار والأواني والغدر الصغار قالوا فدل ذلك على ما ذكرنا من الاعتبار وأما مذهب جمهور أهل المدينة وهو قول أهل البصرة وغيرهم فإنهم لا يعتبرون في قليل الماء ولا كثيره إلا ما غيره وقد مضى القول في ذلك واضحا والحمد لله ذكر بن أبي شيبة حدثنا إسماعيل بن علية عن داود بن أبي هند قال سألت سعيد بن المسيب عن الحياض والغدر يلغ فيها الكلاب فقال أنزل الله الماء طهورا فلا ينجسه شيء وعن القاسم والحسن وعكرمة مثله وأما البول قائما فليس فيه عند مالك حديث مسند وله فيه عن بن عمر ما ذكره وقد اختلف في البول قائما فأرفع ما في ذلك ما حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا محمد قال حدثنا أبو بكر حدثنا وكيع حدثنا الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال عليها قائما وذكر أبو بكر عن بن إدريس عن الأعمش وحميد عن أبي ظبيان قال رأيت عليا بال قائما

وذكرنا الأسانيد عن أبي هريرة وبن عمر وسعد بن عبادة وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب والشعبي ومحمد بن سيرين وعروة بن الزبير ويزيد بن الأصم والحكم أنهم بالوا قياما ثم ذكرنا في باب من كره البول قائما إنكار عائشة أن يكون رسول الله بال قائما وعن عمر قال ما بلت قائما منذ أسلمت وعن بن مسعود وبن بريدة والشعبي أنهم قالوا من الجفاء أن يبول قائما وعن الحسن أنه كره البول قائما وعن مجاهد قال ما بال رسول الله قائما إلا مرة في كثيب أعجبه قال أبو عمر من أجاز البول قائما فإنما أجازه خوف ما يحدثه البائل جالسا في الأغلب من الصوت الخارج عنه إذا لم يمكنه التباعد عمن يسمعه ويحتاج مع ذلك أن يرتاد لبوله موضعا دمثا لئلا يطير إليه شيء من بوله فهذا وجه البول قائما وبنحو هذا قال عمر بن الخطاب البول قائما أحصر للدبر وقد جاء عن النبي عليه السلام أنه كان إذا بال قائما لم يبعد عن الناس ولا أبعدهم عن نفسه بل أمر حذيفة بالقرب منه إذ بال قائما وروى أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق سفيان عن حذيفة قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهى إلى سباطة قوم فبال قائما فتنحيت فقال ادن فدنوت حتى قمت عند عقبيه وروي عنه من مراسيل عطاء وعبيد بن عمير أنه بال جالسا فدنا منه رجل فقال تنح فإن كل بائلة تفيخ ويروى تفيش وقال إسحاق بن راهويه لا ينبغي لأحد أن يتقرب من الرجل وهو يتغوط أو يبول جالسا لقول النبي عليه السلام تنح وروي عن النبي عليه السلام من حديث المغيرة بن شعبة أنه كان إذا تبرز تباعد وبعضهم يقول فيه إذا ذهب أبعد في المذهب وفي حديث جابر حتى لا يراه أحد وفي حديث يعلى بن مرة استبعد وتوارى

وروى عبد الرحمن بن أبي قراد أنه سمع عن النبي عليه السلام مثله وروي عنه عليه السلام من حديث أبي موسى أنه قال إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله يعني موضعا دمثا أو ذا صبب ونحوه مما يكون أنزه له من الأذى وأما قول مالك أنه سئل عن غسل الفرج من البول والغائط هل جاء فيه أثر فقال بلغني أن بعض من مضى كانوا يتوضؤون من الغائط وأنا أحب غسل الفرج من البول فإنه عنى بقوله والله أعلم أن بعض من مضى كانوا يتوضؤون من البول وهو عمر بن الخطاب لأن من روايته أنه كان يتوضأ بالماء وضوءا لما تحت إزاره وقد مضى في كتابنا هذا في قصة أهل قباء وسائر الأمصار أنهم كانوا يتوضؤون من الغائط والبول بالماء ما يكفي وقد مضى في حديث المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستنجي بالماء من وجوه شتى ولا خلاف بين العلماء في جواز الاستنجاء من الغائط بالماء فلا معنى للكلام في ذلك باب ما جاء في السواك مالك عن بن شهاب عن بن السباق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في جمعة من الجمع يا معشر المسلمين إن هذا يوم جعله الله عيدا فاغتسلوا ومن كان عنده طيب فلا يضره أن يمس منه وعليكم بالسواك وعن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك

وعن بن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة أنه قال لولا أن يشق على أمته لأمرهم بالسواك مع كل وضوء قال أبو عمر قول أبي هريرة في رواية عبد الرحمن عنه لولا أن يشق على أمته تفسيره ما رواه الأعرج وغيره عنه بأن ذلك إنما علمه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لروايته له عنه عليه السلام والأحاديث عن النبي عليه السلام أنه قال لولا أن أشق على أمتي كثيرا جدا منهم من يقول فيها مع كل وضوء ومنهم من يقول فيها مع كل صلاة وقد ذكرنا كثيرا منها في التمهيد وذكرنا هناك الاختلاف عن بن شهاب في إسناد حديثه الأول في هذا الباب عن بن السباق عن النبي عليه السلام قوله يا معشر المسلمين الحديث وأما قوله فاغتسلوا ففيه الأمر بالغسل للجمعة وذلك عندنا محمول على الندب والفضل بدليل قول عائشة كان الناس عمال أنفسهم وكانوا يشهدون الجمعة بهيئاتهم فقيل لهم لو اغتسلتم لئلا يؤذي بعضهم بعضا بريحه وأمروا مع ذلك بأخذ الطيب والمس منه لمن قدر عليه وروى الشافعي وغيره عن سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة قالت كان الناس عمال أنفسهم فكانوا يروحون بهيئاتهم يوم الجمعة فقيل لهم لو اغتسلتم وروى سفيان بن عيينة أيضا عن عمرو بن دينار عن الزهري قال جاء عثمان بن عفان وعمر يخطب يوم الجمعة فقال عمر ما بال رجال يستأخرون إلى هذه الساعة فقال عثمان ما كان إلا الوضوء فقال عمر الوضوء أيضا وفي حديث عمر بن الخطاب حين قال له عثمان يوم الجمعة ما زدت أن سمعت النداء على أن توضأت فقال عمر الوضوء أيضا وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل ولم يأمره بالانصراف للغسل ولا بإعادة الصلاة ولا قال له

إن الصلاة في الجمعة لا تجزيك بغير غسل ولا رأى ذلك عثمان واجبا عليه دليل واضح على أن غسل الجمعة ليس من فرائض الجمعة وسيأتي حديث عمر هذا من رواية مالك في غسل الجمعة إن شاء الله وأبين من هذا في هذا المعنى حديث سمرة وحديث أبي سعيد الخدري كلاهما عن النبي عليه السلام أنه قال من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل وقد ذكرنا حديث أبي سعيد وحديث سمرة بن جندب كلاهما عن النبي عليه السلام بأسانيدهما وذكرنا من روى من الصحابة مثل حديثهما بإسناده أيضا في التمهيد والحمد لله فبان بذلك أن الغسل لصلاة الجمعة سنة وفضيلة لا فريضة وأبو سعيد هذا الذي روى عن النبي عليه السلام غسل الجمعة واجب على كل محتلم قد روى ومن اغتسل فالغسل أفضل وهذا كله يدل على أن أمره بالاغتسال للجمعة ندب وفضل وسنة لا واجب فرضا وسيأتي هذا المعنى واضحا أيضا في باب غسل الجمعة إن شاء الله وفي هذا الحديث أيضا الغسل للعيدين لقوله عليه السلام إن هذا يوم جعله الله عيدا فاغتسلوا والقول في غسل العيدين كالقول في غسل الجمعة إلا أن غسل الجمعة عند بعض أهل العلم آكد في السنة وفيه أخذ الطيب ومسه لمن قدر عليه يوم الجمعة وفي العيدين وذلك مندوب إليه حسن مرغب فيه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف خروجه برائحة الطيب إذا خرج إلى الصلاة وإذا مشى وقد قيل إن رائحته كانت تلك بلا طيب صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك إسحاق بن راهويه وقد قال عليه السلام لا تردوا الطيب فإن طيب الريح خفيف المحمل

وقد قال عليه السلام حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة وقد كان أبو هريرة يوجب الطيب وجوب سنة وأدب والله أعلم وحدثنا سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس قال سمعت أبا هريرة يوجب الطيب يوم الجمعة فسألت بن عباس عنه فقال لا أعلمه قال سفيان وأخبرني بن جريج عن عطاء عن بن عباس قال من أتى الجمعة فليمس طيبا إن كان لأهله غير مؤثم من تركه قال أبو عمر إن كان أبو هريرة يوجب الغسل ويوجب الطيب ما كان في قوله حجة إذ كان الجمهور يخالفونه فيما تأول من ذلك وروى الوليد بن مسلم عن موسى بن صهيب قال كانوا يقولون الطيب يغني من الغسل يوم الجمعة وفيه الترغيب في السواك والآثار في السواك كثيرة جدا وكان سواك القوم الأراك والبشام وكل ما يجلو الأسنان ولا يؤذيها ويطيب نكهة الفم فجائز الاستنان به وقال بن عباس ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالسواك حتى ظننا أنه سينزل عليه فيه وقالت عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل علي أول ما يبدأ بالسواك وسمعته يقول السواك مطهرة للفم مرضاة للرب وكان ربما استاك في الليلة مرارا والعلماء كلهم يندبون إليه ويستحبونه ويحثون عليه وليس بواجب عندهم قال الشافعي لو كان واجبا لأمرهم به شق أو لم يشق وهذا الحديث يحمله أهل العلم على أن ذلك كان منه عليه السلام وهو يخطب على المنبر

وإذا كان ذلك كذلك كان فيه دليل على ان للخطيب أن يأتي في خطبته بكل ما يحتاج إليه في فصول الأعياد وفضل رمضان والترغيب في صيامه وقيامه وما كان مثل ذلك مما بالناس من حاجة إلى معرفته وفيه دليل على ان من حلف أن يوم الجمعة يوم عيد فقد بر ولم يحنث وقد ذكرنا في التمهيد حديث سليمان بن بلال عن عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن بن عباس قال الغسل يوم الجمعة ليس بواجب ومن اغتسل فهو خير وأطهر ثم قال إن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسون الصوف وكان المسجد ضيقا متقارب السقف فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة في يوم صائف شديد الحر ومنبره صغير إنما هو ثلاث درجات فخطب الناس فعرقوا في الصوف فصار يؤذي بعضهم بعضا حتى بلغت أرواحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر فقال يا أيها الناس إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا وليمس أحدكم أطيب ما يجد من طيبه أو دهنه

كتاب الصلاة باب ما جاء في النداء للصلاة مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أراد أن يتخذ خشبتين يضرب بهما ليجتمع الناس للصلاة فأري عبد الله بن زيد الأنصاري ثم من بني الحارث بن الخزرج خشبتين في النوم فقال إن هاتين لنحو مما يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل ألا تؤذنون للصلاة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استيقظ فذكر له ذلك فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأذان قال أبو عمر روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة عبد الله بن زيد ورؤياه في بدء الأذان جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة ومعان متقاربة قد ذكرت منها في التمهيد ما فيه بلاغ وشفاء على أنا لم نقتصر منها إلا على أحسنها وهي متواترة الطرق من نقل أهل المدينة وأهل الكوفة ولا أعلم فيها ذكر الخشبتين إلا في مرسل يحيى بن سعيد هذا وفي حديث أبي جابر البياضي عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن زيد ذكره عبد الرزاق عن إبراهيم بن أبي يحيى عن أبي جابر البياضي وإبراهيم وأبو جابر متروكان وأما سائر الآثار فإنما فيها أنه أراد أن يتخذ بوقا كبوق اليهود وفي بعضها

شبور كشبور النصارى وفي أكثرها الناقوس كناقوس النصارى حتى رأى عبد الله بن زيد رؤياه في الأذان ورأى عمر بن الخطاب مثل ذلك فلما حكى عبد الله بن زيد لرسول الله الأذان الذي علمه في المنام قال له ألقه على بلال فإنه أندى منك صوتا وقد ذكرنا الآثار بذلك كله في التمهيد وفي ذلك أوضح الدلائل على أن الرؤيا من الوحي والنبوة وحسبك بذلك فضلا لها وشرفا ولو لم تكن من الوحي ما جعلها عليه السلام شرعة ومنهاجا لدينه والله أعلم والآثار المروية في الأذان وإن اختلفت الألفاظ فيها فهي متفقة كلها في أن أصل أمره وبدء شأنه كان عن رؤيا عبد الله بن زيد وقد رآه عمر أيضا وأجمع المسلمون على أن رسول الله عليه السلام أذن له بالصلاة حياته كلها في كل مكتوبة وأنه ندب المسلمين إلى الأذان وسنة لهم وقد اختلف العلماء في وجوبه على الجماعات والمنفردين على حسب ما نذكره في هذا الباب وفيما بعده من هذا الكتاب والأحاديث عن أبي محذورة في الأذان أيضا مختلفة في التكبير في أوله وفي الترجيع وعلى حسب اختلاف الروايات في ذلك عن بلال وأبي محذورة اختلف الفقهاء واختلف كل فريق منهم ببلده أيضا إلا أن الأذان مما يصح الاحتجاج فيه بالعمل المتواتر في ذلك في كل بلد ولذلك قال الجلة من المتأخرين بالتخيير والإباحة في كل وجه نقل منه وأما اختلاف أئمة الأمصار في كيفية الأذان والإقامة فذهب مالك والشافعي وأصحابهما إلى أن الأذان مثنى مثنى والإقامة مرة مرة إلا أن الشافعي يقول في أول التكبير الله أكبر أربع مرات وذلك محفوظ من رواية الثقات في حديث أبي محذورة وفي حديث عبد الله بن زيد قال وهي زيادة يجب قبولها

وزعم الشافعي أن أذان أهل مكة لم يزل في آل أبي محذورة كذلك إلى وقته وعصره قال أصحابه وكذلك هو حتى الآن عندهم وذهب مالك وأصحابه إلى أن التكبير في أول الأذان مرتين وقد روي ذلك من وجوه صحاح في أذان أبي محذورة وفي أذان عبد الله بن زيد والعمل عندهم بالمدينة على ذلك في آل سعد القرظ إلى زمانهم واتفق مالك والشافعي على الترجيع في الأذان وذلك رجوع المؤذن إذا قال أشهد أن لا إله إلا الله مرتين أشهد أن محمدا رسول الله مرتين رجع فمد صوته جهرة بالشهادتين مرتين ولا خلاف بين مالك والشافعي في الأذان إلا في التكبير في أوله فإن مالكا يقوله مرتين الله أكبر الله أكبر والشافعي يقوله أربع مرات ولا خلاف بينهما في الإقامة إلا في قوله قد قامت الصلاة فإن مالكا يقولها مرة والشافعي يقولها مرتين وأكثر العلماء على ما قال الشافعي وبه جاءت الآثار وأما الليث بن سعد فمذهبه في الأذان والإقامة كمذهب مالك سواء لا يخالفه في شيء من ذلك وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي وعبيد الله بن الحسن الأذان والإقامة جميعا مثنى مثنى والتكبير عندهم في أول الأذان وأول الإقامة الله أكبر أربع مرات قالوا كلهم ولا ترجيع في الأذان وإنما يقول أشهد أن لا إله إلا الله مرتين أشهد أن محمدا رسول الله مرتين ثم لا يرجع إلى الشهادة بعد ذلك ولا يمد صوته وحجتهم في ذلك حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى قال حدثنا أصحاب محمد عليه السلام أن عبد الله بن زيد جاء إلى النبي عليه السلام فقال يا رسول الله رأيت في المنام كأن رجلا قام وعليه بردان أخضران على جذم حائط فأذن مثنى مثنى وأقام مثنى مثنى وقعد قعدة بينهما قال فسمع بذلك بلال فقام فأذن مثنى وقعد قعدة وأقام مثنى يشفعون الأذان والإقامة وهو قول جماعة التابعين والفقهاء بالعراق

قال أبو إسحاق السبيعي كان أصحاب علي وعبد الله يشفعون الأذان والإقامة فهذا أذان الكوفيين متوارث عندهم به العمل قرنا بعد قرن أيضا كما توارث الحجازيون في الأذان زمنا بعد زمن على ما وصفنا وأما البصريون فأذانهم ترجيع التكبير مثل المكيين ثم الشهادة بأن لا إله إلا الله مرة واحدة وبأشهد أن محمدا رسول الله مرة ثم حي على الصلاة مرة ثم حي على الفلاح مرة ثم يرجع المؤذن فيمد صوته ويقول أشهد أن لا إله إلا الله الأذان كله مرتين مرتين إلى آخره أخبرنا احمد بن عبد الله بن محمد بن علي قال حدثنا أبي قال حدثنا أحمد بن خالد قال حدثنا علي بن عبد العزيز قال حدثنا حجاج بن منهال قال حدثنا يزيد بن إبراهيم أنه سمع الحسن وبن سيرين يصفان الأذان الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة حي على الفلاح يسمع بذلك من حوله ثم يرجع فيمد صوته ويجعل إصبعيه في أذنيه فيقول أشهد أن لا إله إلا الله مرتين أشهد أن محمدا رسول الله مرتين حي على الصلاة مرتين حي على الفلاح مرتين الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله وأما أحمد بن حنبل فذكر عنه أبو بكر الأثرم أنه سمعه يقول أنا أذهب في الأذان إلى حديث محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن محمد بن عبد الله بن زيد عن أبيه ثم وصفه أبو عبد الله فكبر أربعا وتشهد مرتين مرتين لم يرجع قال أحمد والإقامة الله اكبر مرتين وسائرها مرة مرة إلا قوله قد قامت الصلاة فإنها مرتين قال أبو بكر وسمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل يقول من أقام مثنى مثنى لم أعنفه وليس به بأس قيل لأبي عبد الله حديث أبي محذورة صحيح فقال أما أنا فلا أدفعه قيل له أفليس حديث أبي محذورة بعد حديث عبد الله بن زيد فقال أليس قد رجع النبي عليه السلام إلى المدينة فأقر بلالا على أذان عبد الله بن زيد قال أبو عمر ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي ومحمد بن جرير إلى إجازة القول بكل ما روي عن رسول الله في ذلك وحملوه على

الإباحة والتخيير وقالوا كل ذلك جائز لأنه قد ثبت عن النبي عليه السلام جواز ذلك وعمل به أصحابه فمن شاء قال الله أكبر الله أكبر مرتين في أول الأذان ومن شاء قال ذلك أربعا ومن شاء رجع في أذانه ومن شاء لم يرجع ومن شاء ثنى الإقامة ومن شاء أفردها إلا قوله قد قامت الصلاة فإن ذلك مرتان مرتان على كل حال ذكر بن أبي شيبة قال حدثنا بن علية عن يونس عن الحسن قال الإقامة مرة مرة فإذا قال قد قامت الصلاة قال مرتين ومن حجة من قال قد قامت الصلاة مرتين حديث أيوب عن أبي قلابة عن أنس قال أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة يعني قوله قد قامت الصلاة فإنه يثنيه وحديث شعبة عن أبي جعفر المؤذن عن أبي المثنى أنه سمع بن عمر يقول كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مثنى مثنى والإقامة مرة مرة إلا قوله قد قامت الصلاة فأنه كان يقوله المؤذن مرتين واختلف العلماء في وجوب الأذان فأما مالك وأصحابه فإن الأذان عندهم إنما يجب في مساجد الجماعات حيث يجتمع الناس وقد نص ذلك في موطئه واختلف المتأخرون من أصحابه على قولين أحدهما أنه سنة مؤكدة واجبة على الكفاية في المصر وما جرى مجرى المصر من القرى وقال بعضهم هو فرض على الكفاية وكذلك اختلف أصحاب الشافعي وذكر الطبري عن مالك قال إن ترك أهل مصر الأذان عامدين أعادوا الصلاة ولا أعلم خلافا في وجوب الأذان جملة على أهل الأمصار لأنه من العلامة الدالة المفرقة بين دار الإسلام ودار الكفر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية يقول لهم إذا سمعتم الأذان فأمسكوا

وكفوا وإن لم تسمعوا الأذان فأغيروا أو قال فشنوا الغارة وقال عطاء ومجاهد والأوزاعي وداود الأذان فرض ولم يقولوا على الكفاية وسنزيد المسألة بيانا فيما بعد إن شاء الله من هذا الباب ومن باب النداء في السفر بعون الله وقد ذكرنا الآثار بذلك في التمهيد وأما حديثه عن بن شهاب عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن فاختلف العلماء في معناه فذهب بعضهم إلى أن الذي يسمع النداء يقول مثل ما يقول المؤذن من أول الأذان إلى آخره وحجتهم ظاهر هذا الحديث وعمومه وحديث أم حبيبة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندي فسمع المؤذن قال كما يقول حتى يسكت وحديث عبد الله بن عمرو أن رجلا قال يا رسول الله ما بال المؤذنين يفضلوننا فقال رسول الله قل كما يقولون فإذا انتهيت فسل تعط وقال آخرون يقول كما يقول المؤذن في كل شيء إلا في قوله حي على الصلاة حي على الفلاح فإنه يقول إذا سمع المؤذن يقول ذلك لا حول ولا قوة إلا بالله ثم يتم الأذان معه إلى آخره وحجتهم حديث عمر بن الخطاب

وحديث معاوية عن النبي عليه السلام بذلك على أن حديث معاوية مضطرب الألفاظ وقد ذكرنا طرقه في التمهيد وقال آخرون إنما يقول مثل ما يقول المؤذن في التكبير والتشهد ورووا بذلك أثرا تأولوه وقال آخرون إنما يقول مثل ما يقول المؤذن في التشهد خاصة وإن شاء قال وأنا أشهد بما تشهد به ونحو هذا واحتجوا بحديث سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من قال حين يسمع المؤذن وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله رضيت بالله ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا غفر له وبحديث عائشة أن النبي عليه السلام كان إذا سمع الأذان قال وأنا أشهد وأنا أشهد وهذان الحديثان فيهما الإتيان بمعنى الأذان وبمعنى الذكر والإخلاص والتشهد دون لفظه وقد ذكرنا الآثار كلها بطرقها في التمهيد واختلف الفقهاء في المصلي يسمع الأذان وهو في نافلة أو فريضة فقال مالك إذا أذن وأنت في صلاة مكتوبة فلا تقل مثل ما يقول وإذا كنت في نافلة فقل مثل ما يقول التكبير والتشهد فإنه الذي يقع في نفسي أنه أريد بالحديث هذه رواية بن القاسم ومذهبه وقال بن خواز منداد فإن قال عند مالك حي على الصلاة إلى آخر الأذان في النافلة كان مسيئا وصلاته تامة وكرهه في المكتوبة وقال بن وهب يقول المصلي مثل ما يقول المؤذن في المكتوبة والنافلة

وقال سحنون لا يقول ذلك في نافلة ولا مكتوبة وقال الليث مثل قول مالك إلا أنه قال ويقول في موضع حي على الصلاة حي على الفلاح لا حول ولا قوة إلا بالله وقال الشافعي لا يقول المصلي مثل ما يقول المؤذن لا في نافلة ولا مكتوبة إذا سمعه وهو في الصلاة ولكن إذا فرغ من الصلاة قاله وذكر الطحاوي قال لم أجد عن أحد من أصحابنا في هذا شيئا منصوصا وقد حدثنا بن أبي عمران عن بن سماعة عن أبي يوسف فيمن أذن في صلاته إلى قوله أشهد أن محمدا رسول الله ولم يقل حي على الصلاة ولا حي على الفلاح أن صلاته لا تفسد إن أراد الأذان في قول أبي يوسف وفي قول أبي حنيفة تفسد صلاته إذا أراد الأذان قال أبو جعفر وقول محمد كقول أبي حنيفة لأنه يقول فيمن يجيب إنسانا وهو يصلي بلا إله إلا الله إن صلاته فاسدة قال فهذا يدل على أن من قولهم إن من سمع الأذان في الصلاة لا يقوله وذكر بن خواز منداد عن الشافعي أنه قال يقول في النافلة الشهادتين فإن قال حي على الصلاة حي على الفلاح بطلت صلاته نافلة كانت أو فريضة قال أبو عمر القياس عندي أنه لا فرق بين المكتوبة والنافلة في هذا الباب لأن الكلام محرم فيهما وقول حي على الصلاة حي على الفلاح كلام فيها فلا يصلح في شيء من الصلاة وأما سائر الأذان فمن الذكر الذي يصلح في الصلاة وقد جاء في الآثار المرفوعة قول لا حول ولا قوة إلا بالله في مكان حي على الصلاة وحي على الفلاح وقد جاء عن النبي عليه السلام في حديث معاوية بن الحكم أنه قال عليه السلام إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتهليل والتكبير وتلاوة القرآن

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولوا مثل ما يقول المؤذن ولم يخص نافلة من فريضة فما جاز في الفريضة جاز في المكتوبة إلا أن مالكا كرهه في المكتوبة كراهية من غير تحريم كتحريم الكلام والذي يوجبه القياس والنظر أن ما كان من الذكر الجائز في الصلاة لم يفرق فيه بين نافلة ولا مكتوبة وأما من كره ذلك وأبطل الصلاة به فجعله مثل تشميت العاطس ورد السلام وليس كذلك لأن التشميت ورد السلام من الكلام والكلام محرم في الصلاة قال زيد بن أرقم لما نزلت وقوموا لله قانتين البقرة أمرنا بالسكون ونهينا عن الكلام وقال بن مسعود قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث ألا تكلموا في الصلاة وقد أباح فيها عليه السلام الذكر بالتهليل والتكبير والتسبيح والتحميد والتمجيد والدعاء فعلم أن الكلام المحرم فيها غير المباح من الذكر وبالله التوفيق وأما حديثه عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة أن رسول الله عليه السلام قال لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا ولو علموا ما في التهجير لاستبقوا إليه ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا ففيه فضل الأذان والصلاة

والأذان إنما هو النداء قال الله تعالى إذا نودي للصلاة الجمعة وقال وإذا ناديتم إلى الصلاة المائدة وفي فضائل الأذان آثار كثيرة قد جمعها جماعة وحسبك بقول رسول الله عليه السلام لا يسمع صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة وقال عليه السلام اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين وقالت عائشة نزلت هذه الآية في المؤذنين قوله تعالى ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين فصلت وروى بيان وإسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال قال عمر لو كنت أطيق الأذان مع الخلافة لأذنت وقال سعد بن أبي وقاص لأن أقوى على الأذان أحب إلي من أن أحج أو أعتمر وقال بن مسعود لو كنت مؤذنا لم أبال ألا أحج أو أعتمر وقال عمر لبعض أهل الكوفة من مؤذنوكم فقالوا عبيدنا وموالينا فقال إن ذلك لنقص بكم وقال بن عمر لرجل ما عمله قال الأذان قال نعم العمل يشهد لك كل رطب ويابس يسعك وعن أبي هريرة مثله وروى السكري عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال النبي

عليه السلام الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين قالوا يا رسول الله لو تركتنا بعدك ننافس في الأذان فقال إن بعدكم قوما سفلتهم مؤذنوهم وهذا الحديث انفرد بهذه الزيادة فيه أبو حمزة وليس بالقوي وأما الصف الأول ففي فضله آثار كثيرة وأحسنها حديث مالك في الاستهام عليه لأنه أرشد وندب إليه مؤكدا ومنها حديث أبي بن كعب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الصف الأول لعلى مثل صف الملائكة ولو تعلمون ما فيه لابتدرتموه ومنها حديث جابر وأبى هريرة وأبي سعيد عن النبي عليه السلام خير صفوف الرجال مقدمها وشرها مؤخرها وخير صفوف النساء المؤخر حدثنا البراء بن عازب عن النبي عليه السلام أنه قال إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول وحديث العرباض بن سارية قال كان النبي عليه السلام يصلي على الصف المقدم ثلاثا وعلى الثاني واحدة وحديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله عليه السلام رأى في بعض أصحابه تأخرا فقال لهم تقدموا وأتموا بي وليأتم بكم من بعدكم ولا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله وروت عائشة مثله وزادت حتى يؤخرهم الله في النار

وهذا الوعيد إنما خرج على المنافقين الذين كانوا يرغبون عن رسول الله وعن القرب منه ويتأخرون عنه وأما قوله في حديث مالك ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا فالهاء في عليه عائدة على الصف الأول لا على النداء وهو حق الكلام أن يرد الضمير منه إلى أقرب مذكور ولا يرد إلى غير ذلك إلا بدليل وقد قيل أنه ينصرف إلى النداء أيضا وفسره القائل بأنه الموضع الذي لا يؤذن فيه إلا واحد بعد واحد وهذا موضع لا أعرفه في سنة ثابتة ولا قول صحيح وقد روي عن سعد بن أبي وقاص أنه أقرع بين قوم اختلفوا في الأذان ولقول سعد وجوه محتملة فلا حجة فيه لمن ذهب إليه وإنما جاء الاستهام على الصف الأول لا على الأذان وقد روي منصوصا عن النبي عليه السلام وعن طائفة من أصحابه لو يعلم الناس ما في الصف الأول ما صفوا فيه إلا بقرعة وآثار هذا الباب كلها عند بن أبي شيبة وأبي داود وسائر المصنفات وأما التهجير فمعروف وهو البدار إلى الصلاة في أول وقتها وقبل وقتها لمن شاء ثم انتظارها قال الله تعالى فاستبقوا الخيرات البقرة وقال عليه السلام المهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة وتواترت الآثار عن النبي عليه السلام أن من انتظر الصلاة فهو في صلاة ما انتظرها وحسبك من هذا فضلا إذ الصلاة من أفضل أعمال البر ولا ينتظر بها إلا من هجر إليها

وقد سمى رسول الله عليه السلام انتظار الصلاة بعد الصلاة رباطا وجاء رباط يوم خير من صيام شهر ولا أعلم خلافا بين العلماء أن من بكر وانتظر الصلاة وإن لم يصل في الصف الأول أفضل ممن تأخر عنها ثم صلى في الصف الأول و في هذا ما يوضح لك معنى الصف الأول وأنه ورد من أجل البكور إليه والتقدم والله أعلم وفي حديث قتادة عن أنس عن النبي عليه السلام أنه قال أتموا الصف المقدم ثم الذي يليه فما كان من نقص فليكن في المؤخر وأما العتمة والصبح فالآثار فيهما كثيرة أيضا روى أبو هريرة وأبي بن كعب وعائشة عن النبي عليه السلام بمعنى واحد أنه قال أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر لو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا وقال أبو الدرداء في مرضه الذي مات فيه اسمعوا وبلغوا من خلفكم حافظوا على هاتين الصلاتين يعني في جماعة العشاء والصبح ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبوا على مرافقكم وركبكم وقد روي عن النبي عليه السلام شهود صلاة العشاء خير من قيام نصف ليلة وعن عمر قال لأن أشهد العشاء والفجر أحب إلي من أن أحيي ما بينهما وعن الحسن مثله وقال بن عمر كنا إذا فقدنا الرجل في صلاة العشاء وصلاة الصبح أسأنا به الظن

وهذه الآثار كلها بطرقها في كتاب أبي بكر بن أبي شيبة وأما حديثه عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه وإسحاق بن عبد الله أنهما أخبراه أنهما سمعا أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ثوب بالصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا فإن أحدكم في صلاة ما كان يعمد إلى الصلاة فالتثويب ها هنا الإقامة ثاب إليها المؤذن أي رجع إلى ضرب من الأذان للصلاة كما يقال ثاب إلى المريض جسمه وقد روى بن شهاب هذا الحديث عن أبي سلمة وعن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام قال إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون الحديث وهو مما يبين لك أن التثويب هنا الإقامة وقد ذكرنا طرق هذا الحديث في التمهيد من حديث بن شهاب وغيره وأما قوله وأنتم تسعون فالسعي ها هنا المشي على الأقدام بسرعة والاشتداد فيه وهو مشهور في اللغة ومنه السعي بين الصفا والمروة وقد يكون السعي أيضا في كلام العرب العمل بدليل قوله تعالى ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها الإسراء و إن سعيكم لشتى الليل ونحو هذا كثير واختلف العلماء في السعي إلى الصلاة لمن يسمع الإقامة فروى مالك عن نافع عن بن عمر أنه سمع الإقامة وهو بالبقيع فأسرع المشي إلى المسجد وروي عن عمر بن الخطاب أنه كان يهرول إلى الصلاة

وفي إسناده لين وضعف وعن بن مسعود أنه قال لو قرأت فاسعوا إلى ذكر الله الجمعة لسعيت حتى يسقط ردائي وكان يقرأ فامضوا إلى ذكر الله وهي قراءة عمر أيضا وعن بن مسعود أنه قال أحق ما سعينا إليه الصلاة وعن الأسود بن يزيد وعبد الرحمن بن يزيد وسعيد بن جبير أنهم كانوا يهرولون إلى الصلاة فهؤلاء كلهم ذهبوا إلى أن من خاف الفوت سعى ومن لم يخف مشى على هينته وقد روي عن بن مسعود خلاف ما ذكرنا عنه روى عنه القاسم بن عبد الرحمن أنه قال إذا أتيتم الصلاة فأتوها وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا وروى عنه أبو الأحوص قال لقد رأيتنا وإنا لنقارب بين الخطا وروى ثابت عن أنس قال خرجنا مع زيد بن ثابت إلى المسجد فأسرعت المشي فحبسني وعن أبي ذر قال إذا أقيمت الصلاة فامش إليها كما كنت تمشي فصل ما أدركت واقض ما سبقك وهذه الآثار مذكورة بطرقها كلها في التمهيد وقد اختلف السلف في هذا الباب كما ترى على القول بظاهر حديث النبي عليه السلام في هذا إلا أن في سماع بن القاسم قال سئل مالك عن الإسراع في المشي إلى الصلاة إذا أقيمت قال ما أرى بذلك بأسا ما لم يسع أو يخف فوت الركعة قال وسئل مالك عن الرجل يخرج إلى الحرس فيسمع مؤذن المغرب في الحرس فيحرك فرسه ليدرك الصلاة قال مالك لا أرى بذلك بأسا قال إسحاق بن راهويه إذا خاف فوت التكبيرة الأولى فلا بأس أن يسعى قال أبو عمر معلوم أن النبي عليه السلام إنما زجر عن السعي من خاف الفوت لقوله إذا أقيمت الصلاة و إذا ثوب بالصلاة وقال فما أدركتم فصلوا فالواجب أن يأتي الصلاة من خاف فوتها ومن لم يخف بالوقار

والسكينة وترك السعي وتقريب الخطا لأمر النبي عليه السلام بذلك وهو الحجة عليه السلام وقد قال بعض أصحابنا إن بن عمر لم يزد على هيئة مشيته المعهودة لأنه كان من عادته الإسراع في المشي ويقول هو أبعد من الزهو وهذا عندي خلاف ظاهر الحديث عنه لأن نافعا مولاه قد عرف مشيه وحاله فيه ثم زعم أنه لما سمع الإقامة أسرع المشي وهذا بين وقد روى بن عيينة عن حصين عن محمد بن زيد قال كان بن عمر إذا مشى إلى الصلاة لو مشت معه نملة ما سبقها وهذا عندي ليس بمخالف لحديث نافع عنه أنه أسرع إذا سمع الإقامة لأنه يحتمل أن يكون ما حكاه محمد بن زيد عنه في حال لا يخاف فيها أن يفوت شيء من الصلاة مع الإمام وكانت أغلب أحواله وأما قوله عليه السلام في هذا الحديث وما فاتكم فأتموا على ما رواه مالك وغيره ففيه دليل على أن ما أدرك المصلي مع إمامة فهو أول صلاته وهذا موضع اختلف العلماء فيه وقد ذكرنا في التمهيد من قال في هذا الحديث عن النبي عليه السلام ما فاتكم فأتموا ومن قال ما فاتكم فاقضوا وهذان اللفظان تأولهما العلماء فيما يدركه المصلي من الصلاة مع الإمام هل هو أول صلاته أو آخرها ولذلك اختلفت أقوالهم فيها فأما مالك بن أنس فاختلفت الرواية عنه في ذلك فروى سحنون عن جماعة من أصحاب مالك عن مالك منهم بن القاسم أن ما أدرك فهو أول صلاته ولكنه يقضي ما فاته بالحمد وسورة وهذا هو المشهور من مذهبه عند أصحابه قال بن خواز منداد وهو الذي عليه أصحابنا وهو قول الأوزاعي والشافعي ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل وداود والطبري وروى أشهب عن مالك أن ما أدرك فهو آخر صلاته وهو الذي ذكره بن عبد الحكم عن مالك ورواه عيسى عن بن القاسم عن مالك وهو قول أبي حنيفة والثوري والحسن بن حي هكذا ذكره بن خواز منداد عن أبي حنيفة وذكر الطحاوي عن محمد بن الحسن عن أبي حنيفة أن الذي يقضي أول

صلاته وكذلك يقرأ فيها ولم يحك خلافا وما ذكره الطحاوي أصح عندهم وقال أبو بكر الأثرم قلت لأحمد بن حنبل أرأيت قول من قال يجعل ما أدرك مع الإمام أول صلاته ومن قال يجعله آخر صلاته أي شيء يفرق بينهما قال من أجل القراءة فيما يقضي قلت له فحديث النبي عليه السلام على أي القولين هو عندك قال على أنه يقضي ما فاته قال عليه السلام صلوا ما أدركتم واقضوا ما سبقكم قال أبو عمر لا خلاف عن مالك وأصحابه أنه من أدرك مع الإمام ركعتين أنه يقرأ فيهما كما يقرأ إمامه بأم القرآن وحدها في كل ركعة منهما ثم يقوم إذا سلم الإمام فيقرأ بأم القرآن وسورة فيما يقضي في كل ركعة وهكذا قول الشافعي أيضا فكيف يصح مع هذا القول قول من قال عنهم إن ما أدرك فهو أول صلاته بل الظاهر أن ما أدرك فهو آخر صلاته على ما روى أشهب وغيره عن مالك ولكن الشافعي قد صرح بأن ما أدرك فهو أول صلاته وقوله في القضاء والقراءة كقول مالك سواء وكذلك صرح الأوزاعي بأن ما أدرك من صلاة الإمام فهو أول صلاته وأظنهم راعوا الإحرام لأنه لا يكون إلا في أول الصلاة والتشهد والتسليم لا يكون إلا في آخرها فمن ها هنا والله أعلم قال ما أدرك فهو أول صلاته وقال الثوري يصنع فيما يقضي مثل ما صنع الإمام فيه وقال الحسن بن حي أول صلاة الإمام أول صلاتك وآخر صلاة الإمام آخر صلاتك إذا فاتك بعض صلاتك وأما المزني وإسحاق بن راهويه وداود بن علي فقالوا ما أدركه فهو أول صلاته يقرأ فيه الحمد وسورة إن أدرك ذلك معه وإذا قام إلى القضاء قرأ بالحمد وحدها فيما يقضي لنفسه لأنه آخر صلاته وهو قول عبد العزيز الماجشون فهؤلاء اطرد على أصلهم وقولهم وفعلهم وأما السلف قبلهم فروي عن عمر وعلي وأبي الدرداء ما أدركت فهو آخر صلاتك وليست الأسانيد عنهم بالقوية في ذلك وعن بن عمر ومجاهد وبن سيرين مثل ذلك

وصح عن سعيد بن المسيب والحسن البصري وعمر بن عبد العزيز ومكحول وعطاء والزهري والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز ما أدركت فاجعله أول صلاتك والذي يجيء على أصول هؤلاء ما قاله المزني وداود وإسحاق وليس عندي عنهم نص في ذلك واحتج القائلون بأن ما أدرك هو أول صلاته بقوله عليه السلام ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا قالوا والتمام هو الآخر واحتج الآخرون بقوله وما فاتكم فاقضوا قالوا فالذي يقضيه هو الفائت والحجج متساوية لكلا المذهبين من جهة الأثر والنظر إلا أن رواية من روى فأتموا أكثر والله أعلم إلا أنه ليس يطرد على أصل من قال ما أدرك فهو أول صلاته إلا ما قال بن أبي سلمة والمزني وإسحاق وداود وقد زعم بعض المتأخرين من أصحابنا أن من ذهب مذهب عبد العزيز بن أبي سلمة والمزني في هذه المسألة أسقط الجهر في صلاة الليل وسنة السورة مع أم القرآن في الأوليين هذا ليس بشيء لأن المأموم مأمور باتباع إمامه والإنصات معه وإذا جاز أن يقعد معه في أولى له ويقوم في ثانيه وتنتقص رتبة صلاته معه فلا يضره ذلك لأنه أمر باتباعه فكذلك لا يضره سائر ذلك ألا ترى إلى إجماعهم أن من أدركه راكعا كبر وانحط ولا يقال له أسقطت فرض القراءة وفرض الوقوف لما أمر به من اتباع إمامه وقد احتج داود بن علي بأن من أدرك الإمام يوم الجمعة في التشهد صلى ركعتين بهذا الحديث ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا أو فأتموا قالوا والذي فاته ركعتان لا أربع فليس عليه إلا ما فاته وذلك ركعتان ولعمري إن هذا لقول لو لم يكن هناك ما يعارضه وينقض تأويل قول داود فيه وذلك قوله عليه من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة

وفي هذا القول دليل كالنص على أن من لم يدرك من الصلاة ركعة فلم يدرك الصلاة ومعلوم أن من لم يدرك الجمعة صلى أربعا على أن داود قد جعل هذا الدليل أصلا لأحكام يرد بها كثيرا من الأصول الجسام وترك الاستدلال به في هذه المسألة وأما قوله فإن أحدكم في صلاة ما دام يعمد إلى الصلاة فيدل على أن الماشي إلى الصلاة كالمنتظر لها وهما من الفضل فيما فيه المصلي إن شاء الله على ظاهر الآثار وهذا يسير في فضل الله ورحمته بعباده كما أنه من غلبة نوم على صلاة كانت له عادة كتب له أجر صلاته وكان نومه عليه صدقة وكذلك من نوى الجهاد أو غيره من أعمال البر وقطعه عنه عائق عجزه وفضل الله عظيم يمن به على من يشاء من عباده وليس فضائل الأعمال مما فيه للمقاييس مدخل والحمد لله مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة الأنصاري ثم المازني عن أبيه أنه أخبره أن أبا سعيد الخدري قال له إني أراك تحب الغنم والبادية فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة قال أبو سعيد سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو عمر فيه الأذان للمنفرد والمسافر وذلك عند مالك حسن إلا أن الأذان عنده في مساجد الجماعات وحيث يجتمع الناس فقد ورد في فضائل الأذان للمنفرد والمعتزل آثار حسان سنذكرها بعد في أولى المواضع بها من كتابنا هذا وفيه إباحة لزوم البادية واكتساب الغنم وأنه ينبغي للمرء أن يحب الغنم والبادية

اقتداء بالسلف وفرارا من شر الناس واعتزالا عنهم ولكن في البعد عن الجماعة والجمعة ما فيه من البعد عن الفضائل إلا أن الزمان إذا كثر فيه الشر وتعذرت فيه السلامة طابت العزلة والجليس الصالح إذا وجد خير من العزلة والوحدة وقد روى مالك بهذا الإسناد عن النبي عليه السلام يوشك أن يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن وأما قوله فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة فالمدى الغاية حيث ينتهي الصوت فأما فهم الجماد والموات فلا يدرك كيفيته ذلك إلا الله وفي قوله تعالى يا جبال أوبي معه سبأ أي سبحي معه وقوله تعالى وإن من شيء إلا يسبح بحمده الإسراء وقوله فما بكت عليهم السماء والأرض الدخان ما يشهد لهذا المعنى وقد أوضحنا فيما مضى وجه قول من قال إنه على الحقيقة ومن حمله على المجاز والحمد لله وسنذكر في العزلة وفضلها ما حضرنا في موضعه من كتابنا ونذكر اختلاف العلماء في الأذان في السفر في الباب بعد هذا إن شاء الله وأما حديثه عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله قال إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع النداء فإذا قضي النداء أقبل حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر حتى إذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكر حتى يظل الرجل إن يدري كم صلى

الحديث ففيه أن من شأن الصلاة النداء لها قال تعالى وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا المائدة وقال تعالى إذا نودي للصلاة الجمعة وأجمع المسلمون على أن الأذان في المكتوبات على ما قد ذكرناه عنهم ولم يختلفوا أن ذلك واجب في المصر على جماعته واتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي والثوري وأبو ثور وأحمد وجماعة العلماء على أن الرجل إذا صلى بإقامة في مصر قد أذن فيه فإنه يجزيه وجملة القول في الأذان أنه عند مالك وأصحابه سنة مؤكدة واجبة على الكفاية وليس بفرض وهو قول أبي حنيفة وأصحابه واختلف أصحاب الشافعي فمنهم من قال هو فرض على الكفاية ومنهم من قال هو سنة مؤكدة على الكفاية وهذا في القرى والأمصار التي فيها الجماعات وتحصيل مذهب مالك في الإقامة أنها سنة أيضا مؤكدة إلا أنها أوكد من الأذان عنده وعند أصحابه ومن تركها فهو مسيء وصلاته مجزية وهو قول الشافعي وسائر الفقهاء فيمن ترك الإقامة أنه مسيء بتركها ولا إعادة عليه وقال أهل الظاهر والأوزاعي وعطاء ومجاهد هي واجبة ويرون الإعادة على من تركها عامدا أو ناسيا وقد ذكرنا في التمهيد وجوه أقوالهم في ذلك وسنذكر في الباب بعد هذا أقوال العلماء في الأذان في السفر ووجوهه ونبينه بأبسط وأكمل من ذكرنا له هنا إن شاء الله وأما قوله أدبر الشيطان له ضراط فهكذا رواه أبو الزناد عن الأعرج في نقل جماعة أصحاب أبي الزناد وقد روي فيه له حصاص كذلك رواه سهيل عن أبيه عن أبي هريرة حدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا محمد بن غال حدثنا أمية بن بسطام حدثنا يزيد بن زريع حدثنا روح بن القاسم عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه قال سمعت أبا هريرة يروي عن النبي عليه السلام قال إن الشيطان إذا نودي للصلاة ولى وله حصاص الحديث

لما يلحقه من الذعر والخزي عند ذكر الله في الأذان وذكر الله تفزع منه القلوب ما لا تفزع من شيء من الذكر لما فيه من الجهر بالذكر وتعظيم الله فيه وإقامة دينه فيدبر الشيطان لشدة ذلك على قلبه حتى لا يسمع الأذان فإذا قضي النداء أقبل على طبعه وحيلته يوسوس في الصدور ويفعل ما يقدر مما قد سلط عليه حتى إذا ثوب بالصلاة والتثويب ها هنا الإقامة أدبر أيضا حتى إذا قضي التثويب وهو الإقامة كما ذكرت لك أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه فيوسوس في صدره ويشغله بذكر ما لا يحتاج إليه ليخلط عليه حتى لا يدري كم صلى وقد زدنا هذا المعنى بيانا في التمهيد وفي هذا الحديث فضل للأذان عظيم ألا ترى أن الشيطان يدبر منه ولا يدبر من تلاوة القرآن في الصلاة بدليل قوله فإذا قضي التثويب أقبل وحسبك بهذا فضلا لمن تدبر وروى سحنون والحارث بن مسكين عن بن القاسم وبن وهب عن مالك قال استعمل زيد بن أسلم على معدن بني سليم وكان معدنا لا يزال يصاب فيه الناس من قبل الجن فلما وليهم شكوا ذلك إليه فأمرهم بالأذان وأن يرفعوا أصواتهم به ففعلوا فارتفع ذلك عنهم فهم عليه حتى اليوم قال مالك وأعجبني ذلك من رأي زيد بن أسلم وقد ذكرنا في التمهيد من رواية سفيان الثوري وجرير بن حازم عن سليمان الشيباني عن بشير بن عمرو قال سمعت عمر بن الخطاب يقول إن شيئا من الخلق لا يستطيع أن يتحول في غير خلقه ولكن للجن سحرة كسحرة الإنس فإذا خشيتم شيئا من ذلك فأذنوا بالصلاة وفي رواية الثوري عن الشيباني عن بشير بن عمرو قال ذكرت الغيلان عند عمر بن الخطاب فقال إن شيئا من الخلق لا يستطيع أن يتحول في غير خلقه وذكر تمام الخبر حدثنا سعيد بن نصر حدثنا قاسم حدثنا محمد حدثنا أبو بكر حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال قال النبي عليه السلام إذا نادى المؤذن بالصلاة هرب الشيطان حتى يكون بالروحاء وهي ثلاثون ميلا من المدينة

وأما لفظ التثويب فمأخوذ من ثاب الشيء يثوب إذا رجع كأن المقيم للصلاة عاد إلى معنى الأذان فأتى به يقال ثوب الداعي إذا كرر دعاءه للحرب قال حسان بن ثابت في فتية كسيوف الهند أوجههم لا ينكلون إذا ما ثوب الداعي وقال حذيفة في معناه لخير نحن عند الناس منكم إذا الداعي المثوب قال يالا ويقال ثاب إلى الرجل عقله وثاب إلى المريض جسمه أي عاد إلى حاله قال عبد المطلب بن هاشم وهو بالمدينة عن أخواله بني النجار فحنت ناقتي فعلمت أني غريب حين ثاب إلي عقلي وقال الشاعر لو رأينا التأكيد خطة عجز ما شفعنا الأذان بالتثويب وأما قوله حتى يظل الرجل أن يدري كم صلى فإنه يريد حتى يصير الرجل لا يدري كم صلى والرواية في أن ها هنا عند أكثرهم بالفتح فيكون حينئذ بمعنى لا يدري وكذلك رواه جماعة الرواة عن مالك بهذا اللفظ حتى يظل الرجل إن يدري كم صلى بكسر الهمزة فمعناه ما يدري ما صلى وإن بمعنى ما كثير وقيل يظل ها هنا بمعنى يبقى لا يدري كم صلى وأنشدوا ظللت ردائي فوق رأسي قاعدا أعد الحصى ما تنقضي عبراتي وأما حديثه عن أبي حازم بن دينار عن سهل بن سعد الساعدي أنه قال ساعتان يفتح لهما أبواب السماء وقل داع ترد عليه

دعوته حضرة النداء للصلاة والصف في سبيل الله فقد روي مرفوعا من حديث مالك وغيره وقد ذكرنا ذلك في التمهيد فمن ذلك ما حدثنا أحمد بن محمد قال حدثنا أحمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جرير قال حدثنا أبو عمرة أحمد بن عبد العزيز الرملي قال حدثنا أيوب بن سويد قال حدثنا مالك بن أنس عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي قال قال رسول الله ساعتان تفتح لهما أبواب السماء وقلما يرد على الداعي فيها دعوته حضرة الصلاة والصف في سبيل الله رواه عن أيوب بن سويد هكذا جماعة منهم مؤمل بن إهاب وذكرنا في التمهيد أيضا حديث سليمان التيمي عن أنس عن النبي عليه السلام قال إذا نودي بالأذان فتحت أبواب السماء واستجيب الدعاء وحديث يزيد الرقاشي عن أنس عن النبي عليه السلام قال عند الأذان تفتح أبواب السماء وعند الإقامة لا ترد دعوة وروى الثوري عن يزيد عن أبي إياس عن أنس قال لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة موقوفا وقال عطاء عند نزول الغيث والتقاء الزحفين والأذان يستجاب الدعاء فأما قوله سئل مالك عن الأذان يوم الجمعة هل يكون قبل أن يحل الوقت قال لا يكون حتى تزول الشمس وقد ذكرنا اختلاف الناس في وقت الجمعة وأن الفقهاء أئمة الأمصار على أنه لا يجوز الأذان لها إلا بعد الزوال كالظهر وللاختلاف في ذلك سئل مالك عنه والله أعلم ولما أجمع الفقهاء على أنها تنوب في يومها عن الظهر وجب أن يكون وقتها وقت الظهر قياسا ونظرا وعلى ذلك جماعة الفقهاء وأما قوله إنه لم يبلغني في الأذان والإقامة إلا ما أدركت الناس عليه فأما الإقامة فإنها لا تثنى وهذا الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا فتصريح بأنه لم يبلغه فيه حديث من أخبار الآحاد وأن الأذان والإقامة عنده مأخوذان من العمل بالمدينة وهو أمر يصح فيه الاحتجاج بالعمل لأنه شيء لا ينفك منه في كل يوم مرارا وقد

لا يصح لغيره مثل ذلك لأن كل بلدة أخذت علم شريعتها في أول أمرها عن الصحابة النازلين بها وهم الذين وعوا عن نبيهم وأمروا بالتبليغ فبلغوا وهذا يدلك أن الأذان وجه الاختلاف فيه الإباحة على ما قدمنا وقد مضى في الأذان والإقامة ما فيه كفاية وأما قوله في قيام الناس إلى الصلاة إنه لا حد عنده فيه لأن الناس تختلف أحوالهم فمنهم الخفيف والثقيل فيدل على أنه لم يكن عنده فيه عن السلف ما ينزع به في جواب سائله وهذه مسألة قديمة لكبار التابعين ومن تلاهم من فقهاء المسلمين وقد ذكرنا في التمهيد بالأسانيد عن عمرو بن مهاجر قال رأيت عمر بن عبد العزيز ومحمد بن كعب القرظي وسالم بن عبد الله وأبا قلابة وعراك بن مالك الغفاري ومحمد بن مسلم الزهري وسليمان بن حبيب يقومون إلى الصلاة في أول بدء الإقامة قال وسمعت عمر بن عبد العزيز يقول إذا سمعت النداء بالإقامة فكن أول من أجاب وقال إذا قال المؤذن قد قامت الصلاة عدل الصفوف بيده عن يمينه ويساره فإذا فرغ المؤذن كبر وعن عمر بن عجلان قال سمعت عمر بن عبد العزيز بخناصره يقول حين يقول المؤذن قد قامت الصلاة قوموا قد قامت الصلاة وعن بن المبارك عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال سمعت الزهري يقول ما كان المؤذن يقول قد قامت الصلاة حتى تعتدل الصفوف وعن بن المبارك عن أبي يعلى قال رأيت أنس بن مالك إذا قيل قد قامت الصلاة قام فوثب وعن الحسن وبن سيرين أنهما كانا يكرهان أن يقوما حتى يقول المؤذن قد قامت الصلاة وقال فرقد السبخي للحسن أرأيت إذا أخذ المؤذن في الإقامة أأقوم أم حتى يقول قد قامت الصلاة فقال الحسن أي ذلك شئت وروى كلثوم بن زياد عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال إذا قال المؤذن الله أكبر وجب القيام فإذا قال حي على الصلاة اعتدلت الصفوف فإذا قال لا إله إلا الله كبر الإمام

وقال أبو حنيفة وأصحابه إذا لم يكن الإمام معهم في المسجد فإنهم لا يقومون حتى يروا الإمام وهو قول الشافعي وداود وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إذا كان الإمام معهم في المسجد فإنهم يقومون في الصف إذا قال المؤذن حي على الفلاح وقال الشافعي وأصحابه وداود البدار في القيام إلى الصلاة أولى في أخذ المؤذن في الإقامة لأنه بدار إلى فعل بر وليس في شيء من ذلك شيء محدود عندهم وحجتهم حديث أبي قتادة عن النبي عليه السلام أنه قال إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني وقد ذكرنا أسانيد هذه الآثار كلها في التمهيد وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل سألت أبي عن الإمام أيكبر إذا قال المؤذن حي على الصلاة قد قامت الصلاة أو حين يفرغ من الإقامة فقال حديث أبي قتادة لا تقوموا حتى تروني وقد روي عن بن عمر أنه كان يبعث إلى الصفوف فإذا استوت كبر وحديث لا تسبقني بآمين فأرجو ألا يضيق ذلك قال أبو عمر قوله وحديث لا تسبقني بآمين يعني حديث بلال أنه كان يتولى إقامة الصلاة فقال للنبي عليه السلام لا تسبقني بآمين أي لا تسبقني بقراءة فاتحة الكتاب فيفوتني معك قول آمين ومن ها هنا قال أبو هريرة من فاته قراءة أم القرآن فقد فاته خير كثير حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا محمد بن بكر حدثنا أبو داود قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن راهويه الحنظلي قال حدثنا وكيع عن سفيان عن عاصم عن أبي عثمان عن بلال أنه قال يا رسول الله لا تسبقني بآمين وفي هذا الحديث أن رسول الله كان يكبر للإحرام ويقرأ وبلال في إقامة الصلاة وهو مخالف لحديث أبي هريرة وحديث أبي قتادة فلذلك قال أحمد أرجو ألا يضيق شيء مما قيل في هذا الباب

وفي حديث بلال أن رسول الله كان يقول آمين وقال الأثرم قلت لأحمد بن حنبل في حديث أبي قتادة عن النبي عليه السلام إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني أتذهب إليه قال أنا أذهب إلى حديث أبي هريرة قال خرج علينا رسول الله وقد أقمنا الصفوف فأقبل يمشي حتى أتى مقامه فذكر أنه لم يغتسل إسناده جيد ورواه الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة ولا أدفع حديث أبي قتادة قال أبو عمر وحديث أبي قتادة رواه يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه عن النبي عليه السلام وخرجه أهل الصحيح كلهم وأما قوله وسئل عن قوم حضور أرادوا أن يجمعوا المكتوبة فأرادوا أن يقيموا ولا يؤذنوا فقال مالك ذلك مجزئ عنهم وإنما يجب النداء في مساجد الجماعات التي تجمع فيها الصلاة فقد اختلف العلماء في هذه المسألة اختلاف استحباب وما أعلم أحد أفسد صلاة من لم يؤذن إذا أقام بل الصلاة مجزئة عند جميعهم إذا صليت بإقامة وكذلك عند الجمهور ولو لم يقيموا وقد أساءوا وقال الشافعي ترك رسول الله التأذين حين جمع بين الصلاتين بمزدلفة ويوم الخندق دليل على أن التأذين ليس بواجب فرضا ولو لم تجز الصلاة إلا بأذان لم يدع ذلك وهو بمكة قال وإذا كان هكذا في الأذان كانت الإقامة كذلك لأنهما جميعا غير الصلاة وقال الشافعي لا أحب لأحد أن يصلي في جماعة ولا وحده إلا بأذان وإقامة والإقامة عنده أوكد وهو قول الثوري ومالك أيضا قال مالك والثوري لا يجتزئ بإقامة أهل المصر المصلي وحده وقال أبو حنيفة وأصحابه إن استجزأ بإقامة أهل المصر وأذانهم أجزأه ويستحبون إذا صلى وحده أن يؤذن ويقيم ويأتي القول في أذان المسافر والمنفرد في باب الأذان في السفر بعد هذا الباب وأما قوله وسئل عن تسليم المؤذن على الإمام ودعائه إياه للصلاة ومن أول من سلم عليه فقال لم يبلغني أن التسليم كان في الزمان الأول فهو كما قال لم يكن ذلك في زمن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم

ويقال أول من فعل ذلك معاوية أمر المؤذن بأن يشعره ويناديه فيقول السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله الصلاة يرحمك الله وقد قيل إن المغيرة بن شعبة أول من فعل ذلك والأول أصح وكان مالك يقول في حي على الصلاة حي على الفلاح ما يكفي من الدعاء إليها قال أبو عمر من خشي على نفسه الشغل عن الصلاة بأمور المسلمين وما يجوز فعله فلا بأس أن يقيم لذلك من يؤذنه بالصلاة ويشعره بإقامتها وأما قوله في مؤذن أذن بقوم ثم انتظر هل يأتيه أحد فأقام فصلى وحده ثم جاء الناس من بعد أن فرغ من الصلاة أنهم يصلون أفرادا ولا يجمعون ولو جمعوا لم يجمع معهم هذا معنى قوله دون لفظه فإن بن نافع قال إنما عنى مالك بالمؤذن هنا الإمام الراتب إذا انتظر القوم وصلى ثم أتى الناس لم يجمعوا ولم يؤذن المؤذن قال بن نافع فإن لم يكن الإمام الراتب فلا بأس أن يجمعوا تلك الصلاة في ذلك المسجد ويصليها ذلك المؤذن معهم قال أبو عمر تفسير بن نافع لذلك تفسير حسن على اصل مذهب مالك في ذلك لأنه لم يختلف قوله إن كل مسجد له إمام راتب إنه لا تجمع فيه صلاة واحدة مرتين فإن كان مسجد على طريق يصلي فيه المارة يجمعون فيه فلمن جاء بعدهم أن يجمع فيه وهو قول بن القاسم وأجاز ذلك أشهب وروى بن مزين عن أصبغ قال دخلت المسجد مع أشهب وقد صلى الناس فقال لي يا أصبغ ائتم بي وتنحى إلى زاوية فأتممت به وفي العتبية لأشهب عن مالك في مسجد له إمام راتب في بعض الصلوات دون بعض أنه لا بأس أن يجمع فيه من الصلوات مرتين ما لا يجمع بإمام راتب وروى بن القاسم عن مالك أنه لا تجمع فيه صلاة مرتين لا من الصلوات التي يجمع فيها بالإمام الراتب ولا من غيرها قال أبو عمر هذه المسألة لا أصل لها إلا إنكار جمع أهل الزيغ والبدع وإلا يتركوا وإظهار نحلتهم وأن تكون كلمة السنة والجماعة هي الظاهرة لأن أهل البدع كانوا يرتقبون صلاة الإمام ثم يأتون بعده فيجمعون لأنفسهم بإمامهم فرأى أهل العلم أن يمنعوا من ذلك وجعلوا الباب بابا واحدا فمنعوا منه الكل والأصل ما وصفت لك

وقال الثوري كقول مالك في هذه المسألة لا تجمع صلاة في مسجد واحد مرتين ومن أتى مسجدا وقد صلى أهله فليصل وحده قال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه وأبو ثور وأحمد بن حنبل وإسحاق وداود بن علي وجمهور الفقهاء وأهل العلم لا بأس أن يجمع في المسجد مرتين واحتج أصحاب داود بالأحاديث في فضل صلاة الجماعة وبأن الله لم ينه عن ذلك ولا رسوله ولا اتفق أهل العلم عليه فلا وجه للنهي عنه واحتج غيرهم في ذلك أيضا حدثنا أبو محمد قاسم بن محمد قال حدثنا خالد بن سعيد حدثنا محمد بن إبراهيم بن حنون قال حدثنا محمد بن إسماعيل الصايغ بمكة وأبو داود السجستاني بالبصرة قالا حدثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل قال حدثنا وهيب بن خالد قال حدثنا سليمان بن الأسود عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري أن النبي عليه السلام صلى إحدى صلاتي العشي فلما سلم دخل رجل لم يدرك الصلاة معه فاستقبل القبلة ليصلي فقال النبي عليه السلام ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه فقام رجل ممن صلى مع النبي عليه السلام فصلى معه قال محمد بن إبراهيم وحدثنا إسماعيل بن إسحاق ومحمد بن إسماعيل قالا حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد عن ثابت عن أنس أنه دخل البصرة وقد صلى أهله ومعه قوم فسأل فقالوا قد صلينا فأمر بإقامة الصلاة وقد تقدم فصلى بمن معه قال أبو ثور إذا أذنوا وأقاموا وصلوا جماعة فهو أحب إلي وحدثنا عبد الوارث وسعيد قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا عبدة بن سليمان عن بن أبي عروبة عن أبي المتوكل عن أبي سعيد قال جاء رجل وقد صلى النبي عليه السلام فقال أيكم يتجر على هذا فقام رجل من القوم فصلى معه

وذكرنا في المصنف قال حدثنا هشيم قال حدثنا سليمان التيمي عن أبي عثمان قال دخل رجل المسجد وقد صلى النبي عليه السلام فقال ألا رجل يتصدق على هذا فيقوم فيصلي معه وممن أجاز ذلك بن مسعود وأنس وعلقمة ومسروق والأسود والحسن وقتادة وعطاء على اختلاف عنه وقال إنما كانوا يكرهون أن يجمعوا مخافة السلطان وأما قوله وسئل مالك عن أهل المسجد هل يصلون بإقامة غير المؤذن فقال لا بأس بذلك إقامته وإقامة غيره سواء فهذه مسألة خلاف أيضا فأما مالك وأبو حنيفة وأصحابهما فقالوا لا بأس أن يؤذن المؤذن ويقيم غيره وقال الثوري والليث بن سعد والشافعي وأصحابه من أذن فهو يقيم وهو قول أكثر أهل الحديث وحجتهم حديث عبد الله بن الحارث الصدائي قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان أول أذان الصبح أمرني فأذنت ثم قام إلى الصلاة فقام بلال ليقيم فقال رسول الله إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم وهو حديث انفرد به عبد الرحمن بن زياد الإفريقي وليس بحجة عندهم وحجة مالك حديث عبد الله بن زيد حين أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأذان فأمره رسول الله أن يلقيه على بلال وقال وهو أندى صوتا فلما أذن بلال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن زيد أقم أنت فأقام وهذا الحديث أحسن إسنادا من حديث الإفريقي ومن جهة النظر ليست الإقامة مضمنة بالأذان فجائز أن يتولاها غير متولي الأذان

وأما قوله لم تزل الصبح ينادى لها قبل الفجر فأما غيرها من الصلوات فإنا لم نرها ينادى لها إلا بعد أن يحل وقتها فهذا يدلك على أن الأذان عنده مأخوذ من العمل لأنه لا ينفك منه كل يوم فيصح الاحتجاج فيه بالعمل لأنه ليس مما ينسى وكذلك غيره احتج بالعمل فيه أيضا لما قدمنا ذكره وكذلك اختلف العلماء في هذه المسألة فذهب أهل الحجاز والشام وبعض أهل العراق إلى إجازة الأذان لصلاة الفجر قبل طلوع الفجر وممن قال بذلك مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وداود والطبري وهو قول أبي يوسف القاضي وروى عبد الملك بن الحسن عن بن وهب قال لا يؤذن لها إلا بالسحر فقيل له وما السحر قال السدس الآخر وقال بن حبيب يؤذن لها من بعد خروج وقت العشاء وذلك نصف الليل وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن والثوري لا يؤذن للفجر حتى يطلع الفجر وهو قول بن مسعود وأصحابه وعائشة وإبراهيم النخعي ونافع مولى بن عمر والشعبي وجماعة وقد ذكرنا حجة كل فرقة منهم من جهة الآثار في باب حديث الزهري عن سالم عند قوله عليه السلام إن بلالا ينادي بليل من كتاب التمهيد وأما قوله أنه بلغه أن المؤذن جاء إلى عمر بن الخطاب يؤذنه لصلاة الصبح فوجده نائما فقال الصلاة خير من النوم فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح فلا أعلم أنه روي هذا عن عمر من وجه يحتج به وتعلم صحته وإنما فيه حديث هشام بن عروة عن رجل يقال له إسماعيل لا أعرفه وذكر بن أبي شيبة قال حدثنا عبدة بن سليمان عن هشام بن عمر عن رجل يقال له إسماعيل قال جاء رجل يؤذن عمر بصلاة الصبح فقال الصلاة

خير من النوم فأعجب به عمر وقال للمؤذن أقرها في أذانك والمعنى فيه عندي أنه قال له نداء الصبح موضع القول بها لا ها هنا كأنه كره أن يكون منه نداء آخر عند باب الأمير كما أحدثه الأمراء بعده على ما قدمنا ذكره في هذا الباب وإنما حملني على هذا التأويل وإن كان الظاهر من الخبر خلافه لأن التثويب في صلاة الصبح أي قول المؤذن الصلاة خير من النوم أشهر عند العلماء والعامة من أن يظن بعمر رضي الله عنه أنه جهل ما سن منه رسول الله عليه السلام وأمر به مؤذنيه بالمدينة بلالا وبمكة أبا محذورة فهو محفوظ معروف في تأذين بلال وأذان أبي محذورة في صلاة الصبح للنبي عليه السلام مشهور عند العلماء ونحن نذكر منه طرفا دالا ها هنا إن شاء الله ذكر بن أبي شيبة قل حدثنا أبو خالد الأحمر عن حجاج عن عطاء قال كان أبو محذورة يؤذن لرسول الله ولأبي بكر ولعمر فكان يقول في أذانه الصلاة خير من النوم قال وحدثنا حفص بن غياث عن حجاج عن طلحة عن سويد عن بلال وعن حجاج عن عطاء عن أبي محذورة أنهما كانا يثوبان في صلاة الفجر الصلاة خير من النوم قال وحدثنا وكيع عن سفيان عن عمران بن مسلم عن سويد بن غفلة أنه أرسل إلى مؤذنه إذا بلغت إلى حي على الفلاح فقل الصلاة خير من النوم فإنه أذان بلال ومعلوم أن بلالا لم يؤذن قط لعمر ولا سمعه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة بالشام إذ دخلها وقد ذكرنا الخبر بذلك في غير هذا الموضع ذكر بن المبارك وعبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن بلالا أذن ذات ليلة ثم جاء يؤذن النبي عليه السلام فنادى الصلاة خير من النوم فأقرت في صلاة الصبح وذكر بن أبي شيبة عن عبدة بن سليمان عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن بن المسيب مثله وبن المبارك عن يونس بن يزيد عن الزهري قال أخبرني حفص بن عمر بن سعد المؤذن أن جده سعدا كان يؤذن على عهد رسول الله لأهل قباء حتى نقله عمر بن الخطاب في خلافته فأذن له بالمدينة في مسجد النبي عليه السلام فزعم حفص أنه سمع من أهله أن بلالا أتى رسول الله ليؤذنه بصلاة الصبح بعد ما أذن فقيل أنه نائم فنادى بأعلى صوته الصلاة خير=

2. الاستذكار
المؤلف : أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري

من النوم فأقرت في تأذين الفجر ثم لم يزل الأمر على ذلك وروى الليث بن سعد عن يونس عن الزهري مثله وقال الحسن كان بلال يقول في أذانه بعد حي على الفلاح الصلاة خير من النوم مرتين وروى سفيان عن بن عجلان عن نافع عن بن عمر قال كان في الأذان في الأول بعد حي على الفلاح الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم وأما حديثه عن عمه أبي سهل بن مالك عن أبيه أنه قال ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة ففيه بيان أن الأذان لم يتغير منه شيء عما كان عليه وكذلك قال عطاء ما أعلم تأذينهم اليوم يخالف تأذين من مضى وفيه أن الأحوال تغيرت وانتقلت وتبدلت في زمانه ذلك عما كانوا عليه في زمان الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رحمهم الله في أكثر الأشياء وقد احتج بهذا بعض من لم ير عمل أهل المدينة حجة وقال لا حجة إلا فيما نقل بالأسانيد الصحاح عن النبي عليه السلام وعن الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم ومن سلك سبيلهم من العلماء وأما حديثه عن نافع أن عبد الله بن عمر سمع الإقامة وهو بالبقيع فأسرع المشي إلى المسجد فقد مضى القول فيه في صدر هذا الباب والحمد لله باب النداء في السفر وعلى غير وضوء مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر أذن بالصلاة في ليلة ذات برد

وريح فقال ألا صلوا في الرحال ثم قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة باردة ذات مطر يقول ألا صلوا في الرحال هكذا عن يحيى في ترجمة هذا الباب وعلى غير وضوء ولم يتابعه أحد على هذه الزيادة من رواة الموطأ فيما علمت ولا في غير هذا الباب ما يدل على ذلك أيضا ولو كان في مكان قوله وعلى غير وضوء والأذان راكبا كان صوابا لأنها مسألة في الباب مذكورة وليس في حديث مالك هذا أنه كان في السفر ولكنه قيده بترجمة الباب وقد روي أن ذلك في السفر من وجوه ذكرتها في التمهيد وفي هذا الحديث من الفقه الأذان في السفر وقد اختلف الفقهاء في ذلك فروى بن القاسم عن مالك أن الأذان إنما هو في المصر للجماعات في المساجد وروى أشهب عن مالك إن ترك الأذان مسافر عمدا أعاد الصلاة وذكره الطبري قال حدثنا يونس بن عبد الأعلى عن أشهب عن مالك وقال أبو حنيفة وأصحابه أما المسافر فيصلي بأذان وإقامة ويكره أن يصلي بغير أذان ولا إقامة قالوا وأما المصر فيستحب للرجل إذا صلى وحده أن يؤذن ويقيم فإن استجزأ بأذان الناس وإقامتهم أجزأه وقال الثوري تجزئك الإقامة من الأذان في السفر وإن شئت أذنت وأقمت وقال أحمد بن حنبل يؤذن المسافر على حديث مالك بن الحويرث وقال داود الأذان واجب على كل مسافر في خاصته والإقامة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث ولصاحبه إذا كنتما في سفر فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما وهو قول أهل الظاهر واتفق الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري وأحمد وإسحاق وأبو

ثور والطبري على أن المسافر إن ترك الأذان عامدا أو ناسيا أجزأته صلاته وكذلك لو ترك الإقامة عندهم وهم أشد كراهية لتركه الإقامة واحتج الشافعي أن الأذان غير واجب فرضا من فروض الصلاة بسقوط أذان الواحد عند الجميع بعرفة والمزدلفة وقد أوضحنا هذا المعنى في التمهيد بالآثار ووجوه الأقوال وتحصيل مذهب مالك في الأذان في السفر كالشافعي سواء وفيه أيضا من الفقه الرخصة في التخلف عن الجماعة في الليلة المطيرة والريح الشديدة وفي معنى ذلك كل عذر مانع وأمر مؤذ وإذا جاز التخلف عن الجماعة للعشاء والبول والغائط فالتخلف عنها لمثل هذا أحرى والسفر عندي والحضر في ذلك سواء لأن السفر إن دخل بالنص دخل الحضر بالمعنى لأن العلة من المطر والأذى قائمة فيهما واستدل قوم على أن الكلام في الأذان جائز بهذا الحديث إذا كان مما لا بد منه وذكرنا حديث الثقفي أنه سمع منادي النبي عليه السلام في ليلة مطيرة في السفر يقول إذا قال حي على الفلاح ألا صلوا في الرحال وقد ذكرنا الخبر بإسناده من طرق في التمهيد واختلف العلماء في كراهية الكلام في الأذان وإجازته فكان مالك يكره الكلام في الأذان روى ذلك عنه جماعة من أصحابه وقال لم أعلم أحدا يقتدى به تكلم في أذانه وكره رد السلام في الأذان لئلا يشتغل المؤذن بغير ما هو فيه وكذلك لا يشمت عاطسا فإن فعل شيئا من ذلك وتكلم في أذانه فقد أساء ويبني على أذانه ولا شيء عليه وقول الشافعي وأبي حنيفة والثوري في ذلك نحو قول مالك قالوا لا يتكلم المؤذن في أذانه ولا إقامته وإن تكلم مضى ويجزئه وهو قول إسحاق وروي عن الشعبي والنخعي وبن سيرين كراهة الكلام في الأذان ولم أجد عن أحد من العلماء فيما علمت إعادة الأذان وابتداءه لمن تكلم فيه إلا عن بن شهاب بإسناد فيه ضعف

ورخصت طائفة من العلماء في الكلام في الأذان منهم الحسن وعروة وعطاء وقتادة وإليه ذهب أحمد بن حنبل وروي عن سليمان بن صرد أنه كان يأمر غلامه بالحاجة في أذانه وروى الوليد بن مزيد عن الأوزاعي قال لا بأس برد السلام في أذانه ولا يرد في الإقامة قال الأوزاعي ما سمعت أن مؤذنا قط أعاد أذانه وقد زدنا في التمهيد هذا الحديث بيانا والحمد لله وأما حديث مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان لا يزيد على الإقامة في السفر إلا في الصبح فإنه كان ينادي فيها ويقيم وكان يقول إنما الأذان للإمام الذي يجتمع الناس إليه فيدل على ما قد مضى في الباب قبل هذا من مذهب من قال الأذان غير واجب في السفر لكنه سنة حسنة فمن شاء فعل ومن شاء ترك ومثله حديثه عن هشام بن عروة أن أباه قال له إذا كنت في سفر فإن شئت أن تؤذن وتقيم فعلت وإن شئت فأقم ولا تؤذن وذلك نحو رواية بن القاسم عن مالك أن الأذان إنما يجب في الحضر عند الجماعات والحجة له أن المسافر قد سقطت عنه الجمعة فكذلك الجماعة ولا معنى للتأذين إلا ليجتمع الناس وحجة من قال إن المكتوبات تقام بأذان وإقامة في الحضر والسفر إجماع المسلمين على الأذان لها في الأمصار وأن ذلك من سنتها فلا تسقط تلك السنة في السفر إذ لم يجمعوا على سقوطها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذن له في السفر والحضر ويأمر بذلك وقد أجمعوا على أنه جائز للمسافر الأذان وأنه محمود عليه مأجور فيه فدل على أن ذلك ليس كما قال من زعم أنه لا معنى له إلا ليجتمع الناس وأن لذلك فضلا كثيرا

ألا ترى إلى ما رواه مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول من صلى بأرض فلاة صلى عن يمينه ملك وعن شماله ملك فإذا أذن وأقام الصلاة أو أقام صلى وراءه من الملائكة أمثال الجبال وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة قال قال علي رضي الله عنه أيما رجل خرج إلى أرض فحضرت الصلاة فليتخير أطيب البقاع وأنظفها فإن كل بقعة يجب أن يذكر الله فيها فإن شاء أذن وأقام وإن شاء أقام وصلى قال أبو بكر حدثنا معتمر بن سليمان عن أبيه عن أبي عثمان عن سلمان قال من كان بأرض فلاة فتوضأ ونادى بالصلاة ثم أقام وصلى صلى خلفه من جنود الله وخلقه ما لا يرى طرفاه وقال سعد بن أبي وقاص لأن أقوى على الأذان أحب إلي من أن أحج وأعتمر وأجاهد وعن زاذان أنه قال لو يعلم الناس ما في الأذان لاضطربوا عليه بالسيوف وقد مضى في فضل الأذان ما فيه كفاية وأما حديثه عن هشام بن عروة عن أبيه قال إذا كنت في سفر فإن شئت أن تؤذن وتقيم فعلت وإن شئت أن تقيم ولا تؤذن فقد خير فيه عروة من استفتاه وكان يختار لنفسه أن يؤذن ويقيم ذكره بن أبي شيبة عن أبي أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه وذلك لفضل الأذان عنده في السفر والحضر والله أعلم وأما قول مالك في هذا الباب لا بأس أن يؤذن الرجل وهو راكب فلا أعلم فيه خلافا للمسافر ومن كرهه للمقيم لم ير عليه إعادة الأذان ذكر أبو بكر حدثنا عبدة بن سليمان حدثنا عبيد الله عن نافع عن بن عمر أنه كان يؤذن على البعير وينزل فيقيم

وروى أشعث عن الحسن أنه كان لا يرى بأسا أن يؤذن الرجل ويقيم على راحلته ثم ينزل فيصلي وروى العمري عن عبد الرحمن بن المجبر قال رأيت سالما يقوم على غرز الرحل فيؤذن وروى وكيع عن محمد بن علي السلمي قال رأيت ربعي بن خراش يؤذن على برذون ذكر أبو بكر قال حدثنا حفص عن حجاج عن أبي إسحاق قال كانوا يكرهون أن يؤذن الرجل وهو قاعد وروى بن جريج عن عطاء أنه كره أن يؤذن قاعدا إلا من علة أو ضرورة وأما الإقامة راكبا فقد أجازها قوم وكرهها آخرون روى بن وهب عن مالك أنه سئل عن الإقامة على الدواب قال لا أرى بذلك بأسا إذا كان ذلك لسرعة السير ثم ينزلون فيصلون وقال الأوزاعي يؤذن الرجل على ظهر دابته حيث توجهت به ويكره له أن يؤذن وهو جالس وذكر الزعفراني عن الشافعي قال يؤذن الرجل راكبا في السفر وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد يجزئ الأذان قاعدا ويؤذن المسافر راكبا إن شاء وينزل فيقيم ولو أقام راكبا أجزأه وذكر أبو الفرج عن مالك قال لا بأس أن يؤذن الرجل قائما وقاعدا وراكبا وجنبا وغير جنب ولم يذكره في القاعد عن مالك غيره وأجاز مالك والأوزاعي والثوري الأذان على غير وضوء جنبا وغير جنب وقال الشافعي أكره أن يؤذن أو يقيم على غير طهارة فإن فعل لم يعد أذانه ولا إقامته ولو أعاد الإقامة كان حسنا وروي عن الأوزاعي مثله سواء وهو قول أبي حنيفة وأصحابه قال أبو عمر روينا عن وائل بن حجر قال حق وسنة ألا يؤذن إلا وهو قائم ولا يؤذن إلا وهو على طهر ووائل بن حجر من الصحابة وقوله حق وسنة يدخل في المسند وذلك أولى من الرأي والله الموفق

باب قدر السحور من النداء مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن بلالا ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي بن أم مكتوم مالك عن بن شهاب عن سالم بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن بلالا ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي بن أم مكتوم قال وكان بن أم مكتوم رجلا أعمى لا ينادي حتى يقال له أصبحت أصبحت وقد ذكرنا في التمهيد من وصل حديث بن شهاب فجعله عن سالم عن بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي هذا الحديث جواز الأذان لصلاة الصبح ليلا وفي إجماع المسلمين على أن النافلة لا أذان لها ما دل على أن أذان بلال بالليل إنما كان لصلاة الصبح والله أعلم وهذا قول علماء أهل الحجاز والشام وممن أجاز الأذان لصلاة الصبح ليلا مالك والشافعي وأصحابهما والأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وداود والطبري وهو قول أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي الكوفي وحجتهم حديث هذا الباب لأن فيه الإخبار بأن بلالا كان شأنه أن يؤذن للصبح بليل يقول فإذا جاء رمضان فلا يمنعكم أذانه من سحوركم وكلوا واشربوا حتى يؤذن بن أم مكتوم فإن من شأنه أن يقارب الصباح بأذانه

وقال أبو حنيفة والثوري وزفر ومحمد بن الحسن والحسن بن حي وجمهور أهل العراق من التابعين ومن بعدهم لا يجوز الأذان لصلاة الفجر حتى يطلع الفجر وعندهم في ذلك آثار كثيرة قد ذكرها جماعة من المصنفين منهم بن أبي شيبة وعبد الرزاق وقد ذكرنا في التمهيد بعضها منها أن رسول الله قال لبلال لا تؤذن حتى يستبين لك الفجر ومنها أن بلالا أذن مرة قبل الفجر فأمره رسول الله أن يعيد الأذان فينادي ألا إن العبد قد نام وعرض مثل هذا لعمر مع مؤذن له يقال له مسروح أذن قبل الفجر فأمره بمثل ذلك وآثار كثيرة بمثل هذا المعنى عن بلال وعن سلف أهل العراق إلا أن حديث بن عمر في هذا الباب أثبت عند أهل العلم بالنقل ومن حجتهم أيضا أن سائر الصلوات قد أجمعوا أنه لا يجوز لها الأذان قبل وقتها واختلفوا في الصبح فواجب أن ترد الصبح قياسا على غيرها إذ لم يجمعوا فيها على ما يجب التسليم له والذي أقول به أنه جائز الأذان للصبح قبل الفجر لصحة الإسناد بذلك في حديث بن عمر على أن يؤذن لها مع ذلك المؤذن مؤذن آخر قرب الفجر استحسانا واحتياطا وإنما قلت ذلك استحسانا ولم نر ذلك واجبا لأنا تأولنا في قوله أصبحت أصبحت قاربت الصباح بدليل قوله كلوا واشربوا حتى ينادي بن أم مكتوم ولو أذن قبل الفجر لم يؤمروا بالأكل إلى وقت أذانه وقد أجمعوا أن الصيام من أول الفجر وشذ في ذلك عنهم من هو محجوج بهم وتأويل مقاربة الصباح موجودة في الأصول بدليل قوله وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف البقرة وهذا معناه قاربن بلوغ أجلهن ولو بلغن أجلهن لم يكن لأزواجهن امساكهن بالمراجعة لهن وقد انقضت عدتهن

وفي هذا الحديث معان من الصيام ذكرتها عند ذكر هذا الحديث في التمهيد وأخرتها في هذا الكتاب إلى كتاب الصيام لأنه أولى المواضع بذلك باب افتتاح الصلاة مالك عن بن شهاب عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضا وقال سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد وكان لا يفعل ذلك في السجود هكذا رواية يحيى لم يذكر الرفع عند الركوع وتابعه من رواة الموطأ جماعة وروته أيضا جماعة عن مالك فذكرت فيه رفع اليدين عند الافتتاح وعند الركوع وعند الرفع من الركوع وكذلك رواه أصحاب بن شهاب وهو الصواب وقد ذكرنا في التمهيد من تابع يحيى على روايته كما وصفنا ومن رواه كما ذكرنا بحمد الله وذكر عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في الصلاة قال أبو عمر معنى رفع اليدين عند الافتتاح وغيره خضوع واستكانة وابتهال وتعظيم لله تعالى واتباع لسنة رسوله عليه السلام وليس بواجب والتكبير في كل رفع وخفض أو كد منه وقد قال بعض العلماء إنه من زينة الصلاة ذكر بن وهب قال أخبرني عياض بن عبد الله الفهري أن عبد الله بن عمر كان يقول لكل شيء زينة وزينة الصلاة التكبير ورفع الأيدي فيها

وعن بن لهيعة عن بن عجلان عن النعمان بن أبي عياش كان يقال لكل شيء زينة وزينة الصلاة التكبير ورفع الأيدي عند الافتتاح وحين يريد أن يركع وحين يريد أن يرفع وقال عقبة بن عامر له بكل إشارة عشر حسنات بكل إصبع حسنة وقد ذكرت الإسناد عن عقبة بن عامر بذلك في التمهيد واختلف العلماء في رفع الأيدي في الصلاة وعند الركوع وعند رفع الرأس من الركوع وعند السجود والرفع منه بعد إجماعهم على جواز رفع الأيدي عند افتتاح الصلاة مع تكبيرة الإحرام فقال مالك فيما روى عنه بن القاسم يرفع للإحرام عند افتتاح الصلاة ولا يرفع في غيرها قال وكان مالك يرى رفع اليدين في الصلاة ضعيفا وقال إن كان ففي الإحرام وهو قول الكوفيين أبي حنيفة وسفيان الثوري والحسن بن حي وسائر فقهاء الكوفة قديما وحديثا وهو قول بن مسعود وأصحابه والتابعين بها وقال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي لا أعلم مصرا من الأمصار تركوا بأجمعهم رفع اليدين عند الخفض والرفع في الصلاة إلا أهل الكوفة فكلهم لا يرفع إلا في الإحرام وذكر بن خواز بنداد قال اختلفت الرواية عن مالك في رفع اليدين في الصلاة فمرة قال يرفع في كل خفض ورفع على حديث بن عمر ومرة قال لا يرفع إلا في تكبيرة الإحرام ومرة قال لا يرفع أصلا والذي عليه أصحابنا أن الرفع عند الإحرام لا غير قال أبو عمر وحجة من ذهب مذهب بن القاسم في روايته عن مالك في ذلك حديث بن مسعود وحديث البراء بن عازب عن النبي عليه السلام أنه كان يرفع عند الإحرام مرة لا يزيد عليها وبعض رواتهما يقول كان لا يرفع في الصلاة إلا مرة وبعضهم يقول كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة وقد ذكرنا الحديثين من طرق في التمهيد وذكرنا العلة عن العلماء فيهما هنا وروى أبو مصعب وبن وهب عن مالك أنه كان يرفع يديه إذا أحرم وإذا ركع وإذا رفع من الركوع على حديث بن عمر

وقد ذكرنا الأسانيد عنهم بذلك عن مالك في التمهيد ورواه أيضا عن مالك الوليد بن مسلم وسعيد بن أبي مريم وقال بن عبد الحكم لم يرو أحد عن مالك مثل رواية بن القاسم في رفع اليدين قال محمد والذي آخذ به أن أرفع على حديث بن عمر وذكر احمد بن سعيد عن أحمد بن خالد قال كان عندنا جماعة من علمائنا يرفعون أيديهم في الصلاة على حديث بن عمر ورواية من روى ذلك عن مالك وجماعة لا يرفعون إلا في الإحرام على رواية بن القاسم فما عاب هؤلاء على هؤلاء ولا هؤلاء على هؤلاء وسمعت شيخنا أبا عمر أحمد بن عبد الله بن هاشم يقول كان أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم شيخنا يرفع يديه كلما خفض ورفع على حديث بن عمر في الموطأ وكان أفضل من رأيت وأفقههم وأصحهم علما فقلت لأبي عمر لم لا ترفع فنقتدي بك قال لا أخالف رواية بن القاسم لأن الجماعة عندنا اليوم عليها ومخالفة الجماعة فيما أبيح لنا ليست من شيم الأئمة وقال الأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيد وأبو ثور وإسحاق ومحمد بن جرير الطبري وجماعة أهل الحديث بالرفع على حديث بن عمر إلا أن من أهل الحديث من يرفع عند السجود والرفع منه على حديث وائل بن حجر وعن النبي عليه السلام في ذلك وقال داود بن علي الرفع عند تكبيرة الإحرام واجب ركن من أركان الصلاة واختلف أصحابه فقال بعضهم الرفع عند الإحرام وعند الركوع والرفع منه واجب وقال بعضهم لا يجب الرفع عند الإحرام ولا غيره فرضا لأنه فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يأمر به وقال بعضهم لا يجب الرفع إلا عند الإحرام وقال بعضهم هو واجب كله لقوله عليه السلام صلوا كما رأيتموني أصلي وحجة من رأى الرفع عند الركوع وعند الرفع منه حديث بن عمر المذكور في

هذا الباب عن بن شهاب عن سالم عن أبيه عن النبي عليه السلام وهو حديث لا مطعن لأحد فيه وروى مثل ما روى بن عمر من ذلك عن النبي عليه السلام نحو ثلاثة عشر رجلا من الصحابة ذكر ذلك جماعة من أهل العلم بالحديث والمصنفين فيه منهم أبو داود وأحمد بن شعيب والبخاري ومسلم وأفرد لذلك بابا أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البصري البزار وصنف فيه كتابا أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي من كتابه الكبير أكثر فيه من الآثار وطول وروي الرفع في الخفض والرفع عن جماعة من الصحابة منهم بن عمر وأبو موسى وأبو سعيد وأبو الدرداء وأنس وبن عباس وجابر وروي عن الحسن البصري قال كان أصحاب رسول الله يرفعون أيديهم في الصلاة إذا ركعوا وإذا رفعوا كأنها المراوح ولم يرو عن أحد من الصحابة ترك الرفع عند كل خفض ورفع ممن لم يختلف فيه إلا بن مسعود وحده وروى الكوفيون عن على مثل ذلك وروى عنه المدنيون الرفع من حديث عبد الله بن رافع وكذلك اختلف عن أبي هريرة فروى عنه أبو جعفر القارئ ونعيم المجمر أنه كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة ويكبر في كل خفض ورفع ويقول أنا أشبهكم صلاة برسول الله وروى عنه عبد الرحمن بن هرمز الأعرج أنه كان يرفع يديه إذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع وهذه الرواية أولى لما فيها من الزيادة وأما قوله أنا أشبهكم صلاة برسول الله فإنما ذكره أبو سلمة وغيره عنه في التكبير في كل خفض ورفع على ما يأتي بعد إن شاء الله وروي الرفع عند الركوع والرفع منه عن جماعة من التابعين بالحجاز والعراق

والشام يطول الكتاب بذكرهم منهم القاسم بن محمد وسالم والحسن وبن سيرين وعطاء وطاوس ومجاهد ونافع مولى بن عمر وعمر بن عبد العزيز وبن أبي نجيح وقتادة والحسن بن مسلم وقال بن سيرين هو من تمام الصلاة وقال عمر بن العزيز إن كنا لنؤدب عليها بالمدينة إذا لم نرفع أيدينا وكان عمر بن عبد العزيز أيضا يقول في ذلك سالم قد حفظ عن أبيه وقد ذكرنا الأسانيد عن كل من ذكرنا بكل ما وصفنا في التمهيد وقال أبو بكر الأثرم سمعت أحمد بن حنبل يقول رأيت معتمر بن سليمان ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي وإسماعيل بن علية يرفعون أيديهم عند الركوع وإذا رفعوا رؤوسهم وقيل لأحمد بن حنبل نرفع عند القيام من اثنتين وبين السجدتين قال لا أنا أذهب إلى حديث سالم عن أبيه ولا أذهب إلى وائل بن حجر لأنه مختلف في ألفاظه قال أبو عمر قد ذكرنا حديث وائل بن حجر في التمهيد وقد عارضه حديث بن عمر بقوله وكان يرفع بين السجدتين وقيل لأحمد بن حنبل يرفع المصلي عند الركوع فقال نعم ومن يشك في ذلك كان بن عمر إذا رأى رجلا لا يرفع يديه حصبه قال أحمد حدثنا الوليد بن مسلم قال سمعت زيد بن رافع قال سمعت نافعا قال كان بن عمر إذا رأى من لا يرفع حصبه قال أبو عمر كل من رأى الرفع وعمل به من العلماء لا يبطل صلاة من لم يرفع إلا الحميدي وبعض أصحاب داود ورواية عن الأوزاعي وذكر الطبري قال حدثنا العباس بن الوليد بن زيد عن أبيه عن الأوزاعي قال بلغنا أن من السنة فيما أجمع عليه علماء أهل الحجاز والبصرة والشام أن رسول الله عليه السلام كان يرفع يديه حذو منكبيه حين يكبر لافتتاح الصلاة وحين يكبر للركوع وحين يرفع رأسه منه إلا أهل الكوفة فإنهم خالفوا في ذلك أمتهم قيل للأوزاعي فإن نقص من ذلك شيئا قال ذلك نقص من صلاته قال أبو عمر قد صح عن النبي عليه السلام من حديث أبي هريرة وحديث رفاعة بن رافع في الذي أمره أن يعيد صلاته فقال له ارجع فصل فإنك لم تصل ثم علمه فرائض الصلاة دون سننها قال له إذا أردت الصلاة فأسبغ الوضوء

واستقبل القبلة وكبر ثم اقرأ ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تطمئن رافعا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا الحديث فلم يأمره برفع اليدين ولا من التكبير إلا بتكبيرة الإحرام وعلمه الفرائض في الصلاة وسنبين هذا فيما بعد إن شاء الله فلا وجه لمن جعل صلاة من لم يرفع ناقصة ولا لمن أبطلها مع اختلاف الآثار في الرفع عن النبي عليه السلام واختلاف الصحابة ومن بعدهم واختلاف أئمة الأمصار في ذلك والفرائض لا تثبت إلا بما لا مدفع له ولا مطعن فيه وقول الحميدي ومن تابعه شذوذ عند الجمهور وخطأ لا يلتفت أهل العلم إليه وقد أوضحنا معاني هذا الباب وبسطناها في التمهيد والحمد لله واختلفت الآثار عن النبي عليه السلام في كيفية رفع اليدين في الصلاة فروي عنه أنه كان يرفع يديه مدا فوق أذنيه مع رأسه روي عنه أنه كان يرفع يديه حذو أذنيه وروي عنه أنه كان يرفع يديه حذو منكبيه وروي عنه أنه كان يرفعها إلى صدره وكلها آثار معروفة مشهورة وأثبت ما في ذلك حديث بن عمر هذا وفيه حذو منكبيه وعليه جمهور التابعين وفقهاء الأمصار وأهل الحديث وقد روى مالك عن نافع عن بن عمر أنه كان يرفع يديه في الإحرام حذو منكبيه وفي غير الإحرام دون ذلك قليلا وكل ذلك واسع حسن وبن عمر روى الحديث وهو أعلم بمخرجه وتأويله وكل ذلك معمول عند العلماء به وأما قوله في الحديث وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك وقال سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد فإن أهل العلم اختلفوا في الإمام هل يقول سمع

الله لمن حمده ربنا ولك الحمد أم يقتصر على سمع الله لمن حمده فقط فذهب مالك وأبو حنيفة ومن قال بقولهما إلى أن الإمام يقول سمع الله لمن حمده لا غير وحجتهم حديث الزهري عن أنس عن النبي عليه السلام قوله في الإمام وإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد فقصر الإمام على قول سمع الله لمن حمده والمأموم على قول ربنا ولك الحمد وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وجماعة من أهل الحديث يقول الإمام سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد وقال مالك يقولها المنفرد وحجتهم في ذلك حديث بن عمر هذا المذكور في هذا الباب وفيه أن رسول الله قال سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد وما كان مثله وممن روى عن النبي عليه السلام أنه كان يقول سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد كما روى بن عمر أبو هريرة من حديث بن شهاب عن أبي بكر عن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعن أبي سلمة عن أبي هريرة ومن حديث أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة ورواه أبو سعيد الخدري وعبد الله بن أبي أوفى كلهم عن النبي عليه السلام أنه كان يقول سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد وكان أبو هريرة يفتي به ويعمل روى بن عيينة عن أيوب السختياني عن عبد الرحمن الأعرج قال سمعت أبا هريرة يؤم الناس إذا قال سمع الله لمن حمده قال ربنا ولك الحمد وأما المأموم فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري لا يقول المأموم سمع الله لمن حمده وإنما يقول ربنا ولك الحمد فقط وقال الشافعي يقول المأموم سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد كما

يقول الإمام والمنفرد تأسيا بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم واقتداء بفعل إمامه وفي حديث بن شهاب عن أنس حجة لمالك في المأموم والإمام وسيأتي في موضعه إن شاء الله ولم يذكر مالك في هذا الباب وهو باب افتتاح الصلاة شيئا من الذكر للاستفتاح غير التكبير ومذهبه التكبير والقراءة متصلة به ليس بينهما تعوذ ولا ذكر بتوجيه ولا غيره ونبين ذلك فيما بعد إن شاء الله وأما ما ذكره أيضا في هذا الباب عن بن شهاب عن علي بن حسين بن أبي طالب أنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في الصلاة كلما خفض ورفع فلم تزل تلك صلاته حتى لقي الله وعن بن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أن أبا هريرة كان يصلي لهم فيكبر كلما خفض ورفع فإذا انصرف قال والله إني لأشبهكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن بن شهاب عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر كان يكبر في الصلاة كلما خفض ورفع وعن أبي نعيم وهب بن كيسان عن جابر بن عبد الله أنه كان يعلمهم التكبير في الصلاة قال فكان يأمرنا أن نكبر كلما خفضنا ورفعنا وقد ذكرنا في التمهيد الآثار المروية المسندة في معنى حديث بن شهاب عن علي بن حسين هذا منها حديث مطرف بن الشخير قال صليت أنا وعمران بن حصين خلف علي بن أبي طالب فكان إذا سجد كبر وإذا رفع رأسه كبر وإذا رفع

من الركعتين كبر فلما قضى الصلاة وانصرفنا أخذ عمران بيدي فقال لي أذكرني هذا صلاة محمد عليه السلام وحديث عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك الأشعري أنه جمع قومه فقال ألا أصلي لكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم الظهر فكبر بهم اثنتين وعشرين تكبيرة يعني بتكبيرة الافتتاح يكبر إذا ركع وإذا رفع وإذا سجد وحديث عكرمة قال صليت خلف شيخ بمكة فكبر اثنتين وعشرين تكبيرة فقلت لابن عباس إنه أحمق فقال ثكلتك أمك سنة أبى القاسم وقد ذكرنا أسانيد هذه الأحاديث في التمهيد وحديث الزهري عن أبي سلمة وأبي بكر بن عبد الرحمن أن أبا هريرة صلى لهم حين استخلفه مروان على المدينة فكبر حين قام إلى الصلاة وحين ركع وحين رفع رأسه وحين يهوي ساجدا وحين يقوم من اثنتين وبين السجدتين ثم قال والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله وقد ذكرنا هذا الحديث عن الزهري باختلاف أصحابه عليه في إسناده وألفاظه في التمهيد وهو حديث ثابت من رواية مالك وغيره عن الزهري ولم يختلف في معناه أن أبا هريرة كان يكبر بهم في كل خفض ورفع ويقول لهم هذه صلاة رسول الله كما قال بن عباس سنة أبي القاسم وهذا كله يدل على أن التكبير في الخفض والرفع لم يكن مستعملا عندهم ولا ظاهرا فيهم ولا مشهورا من فعلهم في صلاتهم ولو كان ذلك ما كان أبو هريرة يفعله ويقول إنه أشبههم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أنكر عكرمة على الشيخ ما قال

له بن عباس فيه إنه السنة ولا قال عمران بن حسين في مثل ذلك من صلاة علي لقد أذكرني هذا صلاة محمد عليه السلام ومثل هذا وأبين حديث أبي إسحاق السبيعي عن يزيد بن أبي مريم عن أبي موسى الأشعري قال صلى بنا علي يوم الجمل صلاة أذكرنا بها صلاة رسول الله كان يكبر في كل خفض ورفع وقيام وقعود قال أبو موسى فإما نسيناها وإما تركناها عمدا وروى الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير قال حدثني أبو سلمة قال رأيت أبا هريرة يكبر هذا التكبير الذي ترك الناس قال فقلت يا أبا هريرة ما هذا التكبير فقال إنها لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ذكرنا أسانيد هذه الأحاديث كلها في التمهيد وهذا يدلك على أن التكبير في غير الإحرام لم ينقله السلف من الصحابة والتابعين على الوجوب ولا على أنه من مؤكدات السنن بل قد قال قوم من أهل العلم إن التكبير إنما هو إذن بحركات الإمام وشعار الصلاة وليس بسنة إلا في الجماعة وأما من صلى وحده فلا بأس عليه ألا يكبر ولهذا ما ذكر مالك في هذا الباب حديثه عن بن شهاب عن علي بن حسين وعن بن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعين وعن بن عمر وجابر فعلهما ليبين بذلك أن التكبير في كل خفض ورفع سنة مسنونة وإن لم يعمل بها إلا بعض الصحابة فالحجة في السنة لا فيما خالفها ومما يدلك على ما وصفنا ما ذكره بن أبي ذئب في موطئه عن سعيد بن سمعان عن أبي هريرة أنه قال ثلاث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلهن تركهن الناس كان إذا قام إلى الصلاة رفع يديه مدا وكان يقف قبل القراءة هنية يسأل الله من فضله وكان يكبر كلما خفض ورفع وروى أبو إسحاق عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه وعلقمة عن عبد الله بن مسعود قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في كل ركوع وسجود وخفض ورفع

وقد ذكرنا إسناده في التمهيد وقد روي عن النبي عليه السلام حديث ليس في الاشتهار ولا في الصحة كأحاديث مالك في هذا الباب ورواه شعبة بن الحجاج عن الحسن بن عمران عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه قال صليت مع النبي عليه السلام فلم يتم التكبير وصليت مع عمر بن عبد العزيز فلم يتم التكبير وقال إسحاق بن منصور سمعت أحمد بن حنبل يقول يروى عن بن عمر أنه كان لا يكبر إذا صلى وحده قال وكان قتادة يكبر إذا صلى وحده قال أحمد وأحب إلي أن يكبر من صلى وحده في الفرض وأما التطوع فلا قال وقلت لأحمد ما الذي نقصوا من التكبير قال إذا انحط إلى السجود من الركوع وإذا أراد أن يسجد السجدة الثانية من كل ركعة قال أبو عمر ما رواه مالك عن بن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر أن أباه كان يكبر في الصلاة كلما خفض ورفع يرد ما حكى عنه أحمد بن حنبل إلا أن يحمل على المجمل والمفسر فيكون حديث مالك إذا صلى إماما أو مأموما ويكون معنى ما حكى عنه أحمد إذا صلى وحده وقد روى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عون بن عبد الله قال قال لي عمر بن عبد العزيز أرضي كان عندك عمر وابنه فإنهما كانا لا يكبران هذا التكبير في الخفض والرفع وسفيان عن عمرو بن دينار قال قال لي أبو الشعثاء يا عمرو صليت خلف بن عباس بالبصرة فلم يكبر هذا التكبير وقد روى أشهب عن مالك عن بن شهاب عن سالم عن أبيه أنه كان يكبر كلما خفض ورفع ويخفض بذلك صوته فانفرد أشهب بقوله في حديث مالك هذا ويخفض بذلك صوته لم يقله عن مالك في هذا الحديث أحد غيره فيا علمت والله أعلم قال أبو عمر اختلف الفقهاء فيمن ترك التكبير في الصلاة فكان بن القاسم يقول من أسقط من التكبير في الصلاة ثلاث تكبيرات فما فوقها سجد للسهو قبل السلام فإن لم يسجد بطلت صلاته

وإن نسي تكبيرة واحدة أو اثنتين سجد أيضا للسهو قبل السلام فإن لم يفعل فلا شيء عليه وروي عنه أن التكبيرة الواحدة لا سهو على من سها عنها وهذا يدل على أن عظم التكبير وجملته عنده فرض وأن اليسير منه متجاوز عنه وقال أصبغ بن الفرج وبن عبد الحكم من رواية مالك ليس على من لم يكبر في الصلاة من أولها إلى آخرها شيء إذا كبر تكبيرة الإحرام فإن فعله ساهيا سجد للسهو فإن لم يسجد فلا شيء عليه ولا ينبغي لأحد أن يترك التكبير عامدا لأنه سنة من سنن الصلاة فإن فعل فقد أساء وصلاته ماضية وعلى هذا القول جماعة من فقهاء الأمصار من الشافعيين والكوفيين وجماعة أهل الحديث والمالكيين غير من ذهب منهم مذهب بن القاسم وقال أبو بكر الأبهري على مذهب مالك الفرائض في الصلاة خمس عشرة فريضة أولها النية ثم الطهارة وستر العورة والقيام إلى الصلاة ومعرفة دخول الوقت والتوجه إلى القبلة وتكبيرة الإحرام وقراءة أم القرآن والركوع ورفع الرأس منه والسجود ورفع الرأس منه والقعود الأخير والسلام وقطع الكلام فلم يذكر الأبهري من التكبير في فرائض الصلاة غير تكبيرة الإحرام ثم ذكر سنن الصلاة فقال وسنن الصلاة خمس عشرة سنة أولها الأذان والإقامة ورفع اليدين والسورة مع أم القرآن والتكبير كله سوى تكبيرة الإحرام وسمع الله لمن حمده والاستواء من الركوع ومن السجود والتسبيح في الركوع والتسبيح في السجود والتشهد والجهر في صلاة الليل والسر في صلاة النهار وأخذ الرداء ورد السلام على الإمام إذا سلم من الصلاة فذكر في سنن الصلاة والتكبير كله سوى تكبيرة الإحرام وهذا هو الصواب وعليه جماعة أئمة الفقهاء بالأمصار وإنما اختلف الأئمة من الفقهاء في تكبيرة الإحرام فذهب مالك في أكثر الرواية عنه والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه إلى أن تكبيرة الإحرام فرض واجب من فروض الصلاة والحجة لهم الحديث الذي ذكرنا عن أبى هريرة ورفاعة بن رافع عن النبي

عليه السلام أنه قال للرجل إذا أردت الصلاة فأسبغ الوضوء واستقبل القبلة ثم كبر ثم اقرأ ثم اركع حتى تطمئن الحديث فعلمه ما كان من الصلاة واجبا سكت له عن كل ما كان منه مسنونا ومستحبا مثل التكبير ورفع اليدين والتسبيح ونحو ذلك فبان بذلك أن تكبيرة الإحرام واجب فعلها مع قوله عليه السلام تحريم الصلاة التكبير وتحليلها التسليم رواه علي بن أبي طالب عن النبي عليه السلام ورواه أبو سعيد الخدري وقد ذكرنا الأسانيد بذلك في التمهيد ومنها حديث سفيان الثوري عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن محمد بن الحنفية عن علي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريم الصلاة التكبير وتحليلها التسليم وقال عبد الرحمن بن مهدي لو افتتح الرجل الصلاة بسبعين اسما من أسماء الله ولم يكبر تكبيرة الإحرام لم يجزه وإن أحدث قبل أن يسلم لم يجزه وهذا تصحيح من عبد الرحمن بن مهدي لحديث تحريمها التكبير وتحليلها التسليم وتدين منه به وهو إمام في علم الحديث ومعرفة صحيحه من سقيمه وحسبك به وقال الزهري والأوزاعي وطائفة تكبيرة الإحرام ليست بواجبة وقد روي عن مالك في المأموم ما يدل على هذا القول ولم يختلف قوله في الإمام والمنفرد أن تكبيرة الإحرام واجبة على كل واحد منهما وأن الإمام إذا لم يكبر للإحرام بطلت صلاته وصلاة من خلفه وهذا يقضي على قوله في المأموم والصحيح في مذهبه إيجاب تكبيرة الإحرام وأنها فرض ركن من أركان الصلاة وهو الصواب وكل من خالف ذلك فمخطئ محجوج بما وصفنا وبالله توفيقنا واختلف الفقهاء في حين تكبير المأموم إذا كبر الإمام تكبيرة الإحرام

فقال بن خوار بنداذ قال مالك إذا كبر الإمام كبر المأموم بعده ويكره له أن يكبر في حال تكبيره فإن كبر في حال تكبيره أجزأه وإن كبر قبله لم يجزه قال وقال أبو حنيفة وزفر ومحمد والثوري وعبيد الله بن الحسن يكبر مع تكبير الإمام قال محمد بن الحسن فإن فرغ المأموم من التكبيرة قبل الإمام لم يجزه وقال الثوري يجزئه وقال أبو يوسف والشافعي في أشهر قوليه لا يكبر المأموم حتى يفرغ الإمام من التكبير وللشافعي قول آخر إن كبر قبل الإمام أجزأه وعند بعض أصحابه أنه لو افتتح الصلاة لنفسه ثم أراد أن يدخل في صلاة الإمام كان ذلك على أحد قولي الشافعي وقالت طائفة من أصحاب داود وغيرهم إن تقدم جزء من تكبير المأموم في تكبير الإحرام لم يجزه وإنما يجزيه أن يكون تكبيره كله في الإحرام بعد إمامه وإلى هذا ذهب الطحاوي واحتج بأن المأموم إنما أمر أن يدخل في صلاة الإمام بالتكبير والإمام إنما يصير داخلا فيها بالفراغ من التكبير فكيف يصح دخول المأموم في صلاة لم يدخل فيها إمامه بعد واحتج أيضا لمن أجاز من أصحابه تكبيرهما معا بقوله عليه السلام إذا كبر الإمام فكبروا قال وهذا يدل على أنهم يكبرون معا لقوله وإذا ركع فاركعوا وهم يركعون معا والقول عنده أصح وهو قول أبي يوسف وأحد قولي الشافعي وهو تحصيل مذهب مالك عند المتأخرين من أصحابه البغداديين قال أبو عمر محتمل أن يكون قوله إذا كبر فكبروا فيما عدا الإحرام لأن تكبيرة الإحرام قد باينت سائر التكبير بالدلائل التي أوردنا على أن في حديث أبي موسى فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم واختلفوا في الوقت الذي يكبر فيه الإمام للإحرام فقال مالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد بن الحسن لا يكبر حتى يفرغ المؤذن من الإقامة وبعد أن تعتدل الصفوف ويقوم الناس في مقاماتهم والحجة لهم حديث أنس أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكبر في الصلاة

فقال أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري وعن عمر وعثمان مثل ذلك في حال التكبير للإحرام حتى تفرغ الإقامة وتستوي الصفوف وقال أبو حنيفة والثوري وزفر لا يكبر الإمام قبل فراغ المؤذن من الإقامة ويستحبون أن يكون تكبير الإمام في الإحرام إذا قال المؤذن قد قامت الصلاة وحجتهم حديث الثوري عن عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي عن بلال قلت يا رسول الله لا تسبقني بآمين وقد ذكرنا إسناده فيما تقدم من هذا الكتاب وهو يدل على أنه كان يكبر قبل فراغ بلال من الإقامة واختلفوا أيضا في التكبير فيما عدا الإحرام هل يكون مع العمل أو بعده فذهب مالك وأصحابه إلى أن التكبير يكون في حال الرفع والخفض حين ينحط إلى الركوع وإلى السجود وحين يرفع عنهما إلا في القيام من الجلسة الأولى فإن الإمام وغيره لا يكبر حتى يستوي قائما فإذا اعتدل قائما كبر ولا يكبر إلا واقفا كما لا يكبر في الإحرام إلا واقفا ما لم تكن ضرورة وروى نحو ذلك عن عمر بن عبد العزيز وقال أبو حنيفة والثوري والشافعي وجمهور العلماء التكبير في القيام من اثنتين وغيره سواء يكبر في حال الرفع والخفض والقيام والقعود على حديث بن مسعود بذلك عن النبي عليه السلام وهو ظاهر أحاديث الموطأ المرفوعة وقول بن عمر وجابر في الموطأ بمثل ذلك أيضا وقد أشبعنا هذا المعنى في التمهيد والحمد لله وقد مضى في هذا الباب بالدلائل الواضحة ما بان به أن تكبيرة الإحرام فرض واجب وإذا كان ذلك كذلك صح أن الإمام لا يحملها عن المأموم لأنه لا يحمل عنه فرضا وقد أتى عن مالك وبعض أصحابه في المأموم ينسى تكبيرة الإحرام ما نورده بعد ونوضح ضعفه ووهنه لأنهم حرجوا فيه عما أصلوه في وجوب التكبير للإحرام

إلى قول من لم يوجبه وراعوا في ذلك ما لا تجب مراعاته من اختلاف السلف في وجوب تكبيرة الإحرام والاختلاف ليس بحجة إنما الحجة في الإجماع وبالله التوفيق وأجمع جمهور العلماء على أن التكبير في افتتاح الصلاة لا يجزئ منه غيره من سائر الذكر تهليلا كان أو تسبيحا أو تحميدا وعلى هذا مذهب الحجازيين مالك والشافعي ومن اتبعهم وأكثر العراقيين وروي عن الحكم بن عتبة قال إذا ذكر الله مكان التكبير أجزأه وقال أبو حنيفة إن افتتح بلا إله إلا الله يجزيه وإن قال اللهم اغفر لي لم يجزه ولا يجزئ عند مالك إلا الله أكبر لا غيره وكذلك قال الشافعي وزاد ويجزي الله الأكبر ولا يجزئ عند المالكيين الله الأكبر وقال أصحاب مالك والشافعي وأصحابه وأبو يوسف ومحمد بن الحسن من أحسن العربية لم يجزه أن يكبر بالفارسية وقال أبو حنيفة يجزيه التكبير بالفارسية وإن كان يحسن العربية وكذلك لو قرأ بالفارسية عنده وأما من نسي من المأمومين تكبيرة الافتتاح فلم يذكرها حتى صلى ولا كبر للركوع تكبيرة ينوي بها الإحرام فلا صلاة له عند جمهور الفقهاء منهم مالك والثوري وربيعة بن أبي عبد الرحمن وإبراهيم النخعي وأحمد بن حنبل وأبو حنيفة والشافعي وإسحاق وأبو ثور واختلف في ذلك عن حماد بن أبى سليمان والصحيح عنه أنه قال يعيد صلاته ويستأنف كقول إبراهيم وقال الحكم تجزيه تكبيرة الركوع وهو قول سعيد بن المسيب والحسن البصري والزهري والأوزاعي فإن نوى بتكبيرة الركوع الافتتاح والركوع أجزأه عند مالك إن كان في حال الدخول للصف وكان الإمام راكعا ولا يجزيه عند الشافعي إلا أن يبدأ بنية في تكبيرة الإحرام للإحرام لا للركوع فإن نوى بتكبيرة الإحرام الإحرام والركوع بطلت عنده صلاته وعليه إعادتها وكذلك كل من كبر للإحرام منحطا للركوع لا يجزيه حتى يكون قائما معتدلا

فإن هوى بشيء من تكبيرة الإحرام ولم يتمها معتدلا قطع بسلام وابتدأ الإحرام هذا كله قول الشافعي وبالله التوفيق ذكر مالك في الموطأ عن بن شهاب أنه كان يقول إذا أدرك الرجل الركعة فكبر تكبيرة واحدة أجزأت عنه تلك التكبيرة قال مالك وذلك إذا نوى بتلك التكبيرة افتتاح الصلاة وسئل مالك عن رجل دخل مع الإمام فنسي تكبيرة الافتتاح وتكبيرة الركوع حتى صلى ركعة ثم ذكر أنه لم يكن كبر تكبيرة الافتتاح ولا عند الركوع وكبر في الركعة الثانية قال يبتدئ صلاته أحب إلي ولو سها مع الإمام عن تكبيرة الافتتاح وكبر في الركوع الأول رأيت ذلك مجزيا عنه إذا نوى بها تكبيرة الافتتاح قال أبو عمر أما قول بن شهاب في المسألة قبل هذا فليس فيه دليل أنه نوى بتكبيرته تلك الافتتاح وهو معروف من مذهبه في ترك إيجاب التكبير للافتتاح فرضا وأما قول مالك وذلك إذا نوى بتلك التكبيرة الافتتاح فإنما هو على مذهبه كأنه قال وذلك إذا نوى به عندنا تكبيرة الافتتاح وهذا صحيح لأن الداخل المدرك للإمام راكعا إذا كبر تكبيرة واحدة ينوي بها افتتاح الصلاة وركع بها أغنته عن تكبيرة الركوع وقد أوضحنا أن التكبير فيما عدا الإحرام سنة فدل ذلك على أن من قال من العلماء يكبر الداخل تكبيرتين إحداهما للافتتاح والأخرى للركوع أراد الكمال والإتيان بالفرض والسنة ومن اقتصر على تكبيرة الافتتاح فقد اقتصر على ما أجزأه وأما قول مالك في الذي يدخل مع الإمام فينسى تكبيرة الافتتاح والركوع حتى صلى ركعة ثم ذكر ذلك وكبر في الركعة الثانية إنه استحب له أن يبتدئ صلاته فالجواب أن قوله ثم كبر في الركعة الثانية لا يخلو من أن يكون نوى بالتكبيرة تكبيرة الافتتاح أو لم ينو بها إلا تكبيرة الركوع فقط فإن كان نوى بها الافتتاح وهو في الركعة الثانية فوجه الاستحباب له أن يبتدئ صلاته يعني والله أعلم بالإقامة والإحرام لأنه راعى فيه قول من قال إن الإحرام ليس بواجب وإنه لو

تمادى في صلاته أجزته إلا أن مالكا يرى عليه الإعادة بعد ذلك للأخذ بالأوثق والاحتياط لأداء فرضه فوجه استحبابه أن يقطع ويبتدئ صلاته رجوعه إلى أصله في إيجاب تكبيرة الإحرام وترك مراعاة من خالف ذلك فرأى له أن يبتدئ فيصلي ما أدرك ويقضي ما فاته على أنه قد يأتي له رحمه الله استحباب في موضع الوجوب وإن كان لم ينو بها الافتتاح وإنما كبر للركوع دون نية الافتتاح وذلك في الركعة الثانية فذلك أحرى أن يقطع ويبتدئ صلاته كما قد روى عنه بن القاسم وغيره ويكون قوله أحب إلي أن يبتدئ صلاته من باب استحباب ما يجب فعله فإنه قد يأتي له مثل هذا اللفظ في الواجب أحيانا وقد اضطرب أصحابه في هذه المسألة اضطرابا كثيرا ينقض بعضه ما قد أصلوه في إيجاب تكبيرة الإحرام ولم يختلفوا في وجوبها على المنفرد والإمام كما لم يختلفوا أن الإمام لا يحمل فرضا من فروض الصلاة عمن خلفه فقف على هذا كله من أصولهم بين لك وجه الصواب إن شاء الله ومن اضطرابهم في هذه المسألة تفرقتهم بين تكبير الداخل للركوع دون الإحرام في الركعة الأولى وبين تكبيرة الركوع في الركعة الثانية بما لا معنى لإيراده ولا للاشتغال به كما أنه من راعى في أجوبته قولا لا يصح عنده ولا يذهب إليه فإنه فساد داخل عليه ألا ترى أنه لا يراعى ذلك أحد منهم ولا من غيرهم في غير هذه المسألة من مسائل الوضوء ولا الصلاة ولا الصيام وأكثر أبواب الشرائع والأحكام وبالله التوفيق لا شريك له وفيما ذكرنا ما يبين لك به أن من لم يكبر للإحرام ليس في صلاة ومن ليس في صلاة فلا حاجة به إلى القطع بسلام وهذا موضع قد اضطرب فيه أصحاب مالك أيضا وذلك لمراعاتهم الاختلاف فيما لا تجب مراعاته لأن الاختلاف لا يوجب حكما إنما يوجبه الإجماع أو الدليل من الكتاب والسنة وبذلك أمرنا عند التنازع وأما الثوري فقال إذا وجدت الإمام راكعا فكبر تكبيرة تنوي بها الافتتاح وكبر أخرى للركوع وكذلك إذا وجدته ساجدا كبر تكبيرة للافتتاح ثم كبر أخرى

للسجود ولا تحسب لها فإن وجدته جالسا فكبر للافتتاح واجلس بغير تكبيرة وإذا قمت فقم بتكبير وقال الشافعي إذا وجد الإمام راكعا فكبر تكبيرة نوى بها الافتتاح أجزأته وكان داخلا في الصلاة فإن نوى بها غير الافتتاح أو نوى بها الافتتاح والركوع جميعا لم يكن داخلا في الصلاة لأنه لم يفرد النية لها وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد مثل قول مالك إذا نوى بتكبيرة الركوع تكبيرة الافتتاح أو تكبيرة الافتتاح والركوع معا أجزأه وهو قول أبي ثور وهو الصحيح عندنا لما قدمنا عن بن عمر أنه كان يغتسل للجنابة والجمعة غسلا واحدا باب القراءة في المغرب والعشاء ما ذكره في هذا الباب من قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة المغرب بالطور وبالمرسلات وقراءته في العشاء بالتين والزيتون

ومثل ذلك حديث أنس وجابر بن سمرة أن النبي عليه السلام كان يقرأ في الظهر بسبح اسم ربك الأعلى من غير الموطأ م ومن قراءة أبي بكر الصديق بأم القرآن في المغرب وبقراءته مع ذلك ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا آل عمران وبالقراءة في كل ركعة بأم القرآن وسورة من قصار المفصل وقراءة بن عمر في كل ركعة بأم القرآن وسورة وربما قرأ السورتين والثلاث في ركعة فكل ذلك من المباح الجائز أن يقول المرء بما شاء مع أم القرآن ما لم يكن إماما يطول على من خلفه وبنحو ذلك تواترت الآثار في القراءة عن النبي عليه السلام في الصلاة مرة يخفف وربما طول صنع ذلك في كل صلاة وهذا كله يدل على أن لا توقيت في القراءة عند العلماء بعد فاتحة الكتاب وهذا إجماع من علماء المسلمين ويشهد لذلك قوله عليه السلام من أم الناس فليخفف ولم يحد شيئا

وإنما اختلفوا في أقل ما يجزئ من القراءة وفي أم القرآن هل يجزئ منها غيرها من القرآن أم لا وأجمعوا أن لا صلاة إلا بقراءة وقد قال الشافعي ببغداد تسقط القراءة عمن نسي فإن النسيان موضوع ثم رجع عن هذا بمصر فقال لا تجزئ صلاة من يحسن فاتحة الكتاب إلا بها ولا يجزئه أن ينقص منها حرفا فإن لم يقرأها أو نقص منها حرفا أعاد الصلاة وكذا إن قرأ بغيرها قال أبو عمر أظن قول الشافعي القديم دخلت الشبهة فيه عليه بما روي عن عمر أنه صلى المغرب فلم يقرأ فيها فذكر ذلك له فقال كيف كان الركوع والسجود قيل حسن قال لا بأس إذن وهذا حديث منكر وقد ذكره مالك في الموطأ وهو عند بعض رواته ليس عند يحيى وطائفة معه لأنه رماه مالك من كتابه بأخرة وقال ليس عليه العمل لأن النبي عليه السلام قال كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج قال أبو عمر وقد وري عن عمر أنه أعاد تلك الصلاة وهو الصحيح عنه وروى يحيى بن يحيى النيسابوري قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم النخعي عن همام بن الحارث أن عمر نسي القراءة في المغرب فأعاد الصلاة وهو حديث متصل وحديث مالك مرسل عن عمر لا يصح والإعادة عنه صحيحة رواها عن عمر جماعة منهم همام وعبد الله بن حنظلة وزياد بن عياض وكلهم لقي عمر وسمع منه وشهد القصة وروى الإعادة عن عمر أيضا غيرهم وذكر عبد الرزاق عن عكرمة بن عمار عن ضمضم بن جوس عن عبد الله بن حنظلة قال صليت مع عمر فلم يقرأ فأعاد الصلاة وروى إسرائيل عن جابر عن الشعبي عن زياد بن عياض أن عمر صلى بهم فلم يقرأ فأعاد الصلاة وقال لا صلاة إلا بقراءة

وروى معمر عن قتادة وعن أبان عن جابر بن زيد أن عمر أعاد تلك الصلاة بإقامة وقال بن جريج عن عكرمة بن خالد إن عمر أمر المؤذن فأقام وأعاد تلك الصلاة ذكر عبد الرزاق ذلك عن معمر عن بن جريج وروى أشهب عن مالك قال سئل مالك عن الذي ينسى القراءة أيعجبك ما قال عمر قال أنا أنكر أن يكون عمر فعله وأنكر الحديث وقال يرى الناس عمر يصنع هذا في المغرب فلا يسبحون به ولا يخبرونه أرى أن يعيد الصلاة من فعل هذا ويعيد القوم الذين صلوا معه وأما اختلافهم فيما يجزئ من القراءة في الصلاة فقال مالك إذا لم يقرأ في الركعتين يعني من صلاة أربع أعاد وقد قال من لم يقرأ في نصف صلاته أعاد وقال مرة أخرى من نسي أن يقرأ في الصلاة كلها أو في أكثرها رأيت أن يعيد الصلاة كلها قال وسنة القراءة أن يقرأ في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورة وفي الأخريين بفاتحة الكتاب وقال الأوزاعي يقرأ بأم القرآن فإن لم يقرأ بأم القرآن وقرأ بغيرها أجزأه قال وإن نسي أن يقرأ في ثلاث ركعات أعاد وقال الثوري يقرأ في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة ويسبح في الآخرتين وهو قول أبي حنيفة وسائر الكوفيين قال سفيان وإن لم يقرأ في ثلاث ركعات أعاد الصلاة لأنه لا تجزئه قراءة ركعة قال وكذلك إن نسي أن يقرأ في ركعة من صلاة الفجر وقال أبو ثور لا تجزئ صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة كقول الشافعي المصري وعليه جماعة أصحاب الشافعي وقال بن خواز منداد المالكي قراءة أم القرآن واجبة عندنا في كل ركعة قال ولم يختلف قول مالك أنه من نسيها في ركعة من صلاة ركعتين أن يعيد الصلاة ولا تجزئه واختلف قوله إذا تركها ناسيا في ركعة من صلاة ثلاثية أو رباعية

فقال يعيد الصلاة أصلا وهو قول بن القاسم وروايته عنه وقال يسجد سجدتي السهو وتجزئه وهي رواية بن عبد الحكم عنه قال قد قيل يعيد تلك الركعة ويسجد للسهو بعد السلام قال وقال الشافعي وأحمد بن حنبل لا يجزئه حتى يقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة نحو قولنا قال وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي إن تركها عامدا في صلاته كلها وقرأ غيرها أجزأه قال أبو حنيفة أقله آية وقال أبو يوسف ومحمد ثلاث آيات أو آية طويلة نحو آية الدين وقال الشافعي أقل ما يجزئه فاتحة الكتاب إن أحسنها فإن كان لا يحسنها ويحسن غيرها من القرآن قرأ بعدها سبع آيات لا يجزئه دون ذلك وإن لم يحسن شيئا من القرآن حمد الله وكبر بمكان القراءة لا يجزئه غيره ومن أحسن فاتحة الكتاب فإن ترك منها حرفا واحدا وخرج من الصلاة أعاد وقال الطبري يقرأ بأم القرآن فإن لم يقرأ بها لم يجزه إلا مثلها من القرآن في عدد آياتها وحروفها قال أبو عمر قوله عليه السلام لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن فهي خداج غير تمام حديث أبي هريرة وقول أبي سعيد الخدري بين لنا نبينا عليه السلام أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر فعين فاتحة الكتاب لوجوبها وخير فيما ليس بواجب رحمة ورفقا وهذا كله يشهد لصحة قول من أوجب القراءة بها في الصلاة في كل ركعة كما قال جابر لأن ركوع ركعة لا ينوب عن ركوع أخرى ولا سجود ركعة ينوب عن سجود أخرى فكذلك لا تنوب قراءة ركعة عن قراءة أخرى وهي رواية بن القاسم عن مالك واختياره وهو الصواب إن شاء الله وأما قول أبي بكر في الركعة الثالثة من المغرب ربنا لا تزغ قلوبنا الآية فإنما هو ضرب من القنوت والدعاء لما كان فيه من أمر أهل الردة والقنوت جائز في المغرب عند جماعة من أهل العلم وفي كل صلاة أيضا وأوكد ذلك في الصبح ومنهم من لا يرى ذلك أصلا وسيأتي في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله

وذكر عن بن عمر أنه كان إذا صلى وحده يقرأ في الأربعة جميعا في كل ركعة بأم القرآن وسورة من القرآن وكان يقرأ أحيانا بالسورتين والثلاث في الركعة الواحدة من صلاة الفريضة قال أبو عمر لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وما تيسر علم أن تعيينه لفاتحة الكتاب إيجاب وأن قوله ما تيسر ندب وإذا جاز أن يقرأ المصلي مع فاتحة الكتاب بسورة فيها طول جاز أن يقرأ بسور توازي تلك السورة وهذا كله مباح عند الجميع إلا أنهم يستحبون ألا يقرأ مع فاتحة الكتاب إلا بسورة واحدة لأنه أكثر ما جاء عن النبي عليه السلام وقد أجمع العلماء على أن لا حد في القراءة واجب بفاتحة الكتاب عند من أوجبها وكفى بهذا باب العمل في القراءة ذكر فيه مالك حديث علي رضي الله عنه وليس فيه من معنى القراءة غير النهي عن قراءة القرآن في الركوع وفيه النهي عن لبس القسي وتختم الذهب رواه مالك وجماعة عن نافع ورواه جماعة عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين واختلف في إسناده وفي كثير من ألفاظه على إبراهيم اختلافا كثيرا قد ذكرنا ذلك في التمهيد وعند بن عيينة فيه إسناد لم يختلف فيه رواه عن عمرو بن دينار عن

محمد بن علي قال قال علي نهاني رسول الله ولا أقول نهاكم أن أقرأ راكعا أو ساجدا أو أتختم الذهب أو ألبس القسي أو أركب على الميثرة الحمراء وأما القسي فثياب مضلعة بالحرير يقال لها القسية تنسب إلى موضع يقال له قس يذكر أنها قرية من قرى مصر وهي ثياب يلبسها الأمراء ونساؤهم وقال النمري فأدنين حتى جاوز الركب دونها حجابا من القسي والحبرات وقد ذكرنا في التمهيد اختلاف العلماء في لبس قليل الحرير للرجال وفي الثياب التي يخالطها الحرير لهم وبسطنا القول فيه بالآثار والحمد لله ويأتي من ذلك في كتاب الجامع من هذا الديوان ما فيه كفاية إن شاء الله وأما قراءة القرآن في الركوع فجميع العلماء على أن ذلك لا يجوز امتثالا لحديث هذا الباب وحديث بن عباس عن النبي عليه السلام ألا وإني قد نهيت عن القراءة في الركوع والسجود فأما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا فيه بالدعاء فقمن أن يستجاب لكم وقد ذكرنا الخبر بذلك مسندا في التمهيد وأجمعوا أن الركوع موضع لتعظيم الله بالتسبيح وأنواع الذكر واختلف الفقهاء في تسبيح الركوع والسجود فقال بن القاسم عن مالك إنه لم يعرف قول الناس في الركوع سبحان ربي العظيم وفي السجود سبحان ربي الأعلى وأنكره ولم يحد في الركوع دعاء مؤقتا ولا تسبيحا مؤقتا وقال إذا أمكن المصلي يديه من ركبتيه في الركوع وجبهته من الأرض في السجود فقد أجزأ عنه

قال أبو عمر إنما قال ذلك والله أعلم فرارا من إيجاب التسبيح في الركوع والسجود ومن الاقتصار على سبحان ربي العظيم في الركوع وعلى سبحان ربي الأعلى في السجود كما اقتصر عليه غيره من العلماء دون غيره من الذكر والحجة له قوله عليه السلام إذا ركعتم فعظموا الرب وإذا سجدتم فاجتهدوا في الدعاء ولم يخص ذكرا من ذكر وأنه عليه السلام قد جاء عنه في ذلك ضروب وأنواع تنفي الاقتصار على شيء بعينه من التسبيح والذكر فمنها حديث مطرف عن وعائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده سبوح قدوس رب الملائكة والروح ومنها حديث عوف بن مالك أنه سمع النبي عليه السلام يقول في ركوعه وسجوده سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة ومنها أنه كان يدعو في سجوده كثيرا وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة والشافعي والأوزاعي وأبو ثور وأحمد بن حنبل وإسحاق يقول المصلي في ركوعه سبحان ربي العظيم ثلاثا وفي السجود سبحان ربي الأعلى ثلاثا وهو أقل التمام والكمال في ذلك وقال الثوري أحب إلي أن يقولها الإمام خمسا في الركوع والسجود حتى يدرك الذي خلفه ثلاث تسبيحات وحجتهم حديث عقبة بن عامر وقد ذكرناه بإسناده في التمهيد عن النبي عليه السلام أنه قال لما نزلت فسبح باسم ربك العظيم الواقعة قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم اجعلوها في ركوعكم فلما نزلت سبح اسم ربك الأعلى الأعلى قال اجعلوها في سجودكم وحديث حذيفة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه سبحان ربي العظيم وفي سجوده سبحان ربي الأعلى

قالوا وهو أولى لأنه تفسير لقوله في الركوع عظموا فيه الرب فهذا عند جمهور العلماء في الفريضة وسائر ما روي عنه عليه السلام جعلوه أنه كان منه في صلاته بالليل ونافلته واقتصروا في الركوع والسجود من المكتوبات على حديث عقبة بن عامر سبحان ربي العظيم في الركوع ثلاثا وسبحان ربي الأعلى ثلاثا في السجود وكل ذلك واسع لا حرج في شيء منه ولا يحرج أيضا من تركه والحمد لله الذي جعل في الدين سعة ولم يجعل فيه من حرج وأما لباس المعصفر والمفدم وغيره من صباغ المعصفر فمختلف فيه أجازه قوم من أهل العلم وكرهه آخرون ولا حجة عندي لمن أباحه مع ما جاء في حديث هذا الباب من نهيه عليا عن لبس المعصفر إلا أن يدعى أن ذلك خصوص لعلي وحده لقوله نهاني رسول الله ولا أقول نهاكم وبعضهم يقول فيه نهاني ولا أقول نهى الناس وهذا اللفظ محفوظ في حديث علي هذا من وجوه وليس دعوى الخصوص فيه بشيء لأن الحديث في النهي عن لباس المعصفر والقسي وتختم الذهب كل ذلك للرجال دون النساء صحيح مروي من وجوه ثابتة وقد ذكرنا في التمهيد حديث عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا أركب الأرجوان ولا ألبس المعصفر الحديث وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى عليه ثوبين معصفرين فأمره بحرقهما

وذلك عند العلماء عقوبة لأنه لبسهما بعد علمه بالنهي والله أعلم وقد جاء عن بن عمر وغيره من أهل المدينة جواز لبس المعصفر للنساء والرجال وسترى هذا المعنى واضحا في الجامع إن شاء الله تعالى وذكر بن القاسم عن مالك قال أكره المعصفر المفدم للرجال والنساء أن يحرموا فيه لأنه ينتفض قال مالك وأكرهه أيضا للرجال في غير الإحرام وذكر أيضا في هذا الباب حديثه عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن أبي حازم التمار عن البياضي وقد ذكرنا محمد بن إبراهيم وأنه من التابعين ممن لقي سعد بن أبي وقاص وبن عمر وذكرنا روايته ونسبه كل ذلك في التمهيد مذكور وذكرنا أن أبا حازم التمار اسمه دينار مولى الأنصار وعن حبيب عن مالك أن اسم أبي حازم التمار يسار مولى قيس بن سعد بن عبادة وقيل في أبي حازم التمار إنه مولى الغفاريين وقيل هو مولى أبي رهم الغفاري وأما البياضي فيقول اسمه فروة بن عمرو بن وذفة بن عبيد بن عامر بن بياضة فخذ من الأنصار وقد ذكرناه في الصحابة ومعنى هذا الحديث في النافلة إذا كان كل أحد يصلي لنفسه وأما صلاة الفريضة فقد أحكمت السنة جهرها وسرها وكان أصل هذا الحديث في صلاة رمضان لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجمعهم لها إلا في حديث بن شهاب ويأتي في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله وقد روى حماد بن زيد هذا الحديث عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن أبي حازم التمار مولى الأنصار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معتكفا في شهر رمضان في قبة على بابها حصير قال وكان الناس يصلون عصبا عصبا قال فلما كان ذات ليلة رفع باب القبة فأطلع رأسه فلما رآه الناس أنصتوا فقال إن المصلي يناجي ربه فلينظر أحدكم بما يناجي به ربه ولا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة أرسله حماد بن زيد وجاء فيه بالمعنى الذي ذكرنا

عن مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبي حازم التمار عن البياضي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على الناس وهم يصلون وقد علت أصواتهم بالقراءة فقال إن المصلي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه به ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن وقد ذكرنا طرقة في التمهيد منها أن الليث بن سعد رواه عن بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني بياضة من الأنصار أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو مجاور في المسجد فوعظ الناس وحذرهم ورغبهم وقال ليس مصل يصلي إلا وهو يناجي ربه فلا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن قال الليث وحدثنيه بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن أبي حازم مولى الغفاريين أنه حدثهم هذا الحديث عن البياضي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد بان برواية الثقات لهذا الحديث ما وصفنا من أن مخرجه كان على ما ذكرنا وفي معناه أنه لا يحب لكل مصل يقضي فرضه وإلى جنبه من يعمل مثل عمله أن يفرط في الجهر لئلا يخلط عليه كما لا يحب ذلك لمتنفل إلى جنب متنفل مثله وإذا كان هذا هكذا فحرام على الناس أن يتحدثوا في المسجد بما يشغل المصلي عن صلاته ويخلط عليه قراءته وواجب لازم على كل من يطاع أن ينهى عن ذلك لأن ذلك إذا لم يجز للمصلي التالي للقرآن فأين الحديث بأحاديث الناس من ذلك وقد روي من حديث أبي سعيد مثل حديث البياضي عن النبي عليه السلام قد ذكرناه في التمهيد ومن حديث علي قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرفع الرجل صوته قبل العشاء وبعدها فيغلط أصحابه وهم يصلون وأما حديثه عن حميد الطويل عن أنس بن مالك أنه قال قمت وراء

أبي بكر وعمر وعثمان فكلهم كان لا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم إذا افتتح الصلاة فهو في الموطأ عند جمهور رواته عن مالك موقوف على فعل الخلفاء الثلاثة ليس فيه للنبي عليه السلام ذكر ورواه الوليد بن مسلم وموسى بن طارق وأبو قرة عن مالك عن حميد الطويل عن أنس قال صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكلهم لا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم هذا لفظ الوليد بن مسلم ولفظ حديث أبو قرة فكانوا لا يجهرون ب بسم الله الرحمن الرحيم ورواه إسماعيل بن موسى السدي عن مالك عن حميد عن أنس أن النبي عليه السلام وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يفتتحون بالقراءة بالحمد لله رب العالمين وفي بعض الروايات عن إسماعيل عن مالك بإسناده مرفوعا كانوا يستفتحون ب بسم الله الرحمن الرحيم ويرفعه أيضا بن أخي بن وهب قال حدثني عمي قال حدثنا عبد الله بن عمر ومالك بن أنس وسفيان بن عيينة عن حميد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يجهر في القراءة ب بسم الله الرحمن الرحيم لم يروه عن بن وهب عن مالك هكذا غيره وقد ذكرنا الأسانيد عن هؤلاء كلهم عن مالك في التمهيد وقد روى هذا الحديث عن أنس قتادة وثابت البناني وغيرهما كلهم رووه مرفوعا إلى النبي عليه السلام إلا أنهم اختلف عليهم في لفظه اختلافا كثيرا مضطربا متدافعا منهم من يقول فيه صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ومنهم من يذكر عثمان ومنهم من لا يذكره فكانوا لا يقرؤون بسم الله الرحمن الرحيم ومنهم من قال فكانوا لا يجهرون ب بسم الله الرحمن الرحيم وقال كثير منهم فكانوا يفتتحون القراءة ب الحمد لله رب العالمين وقال بعضهم فيه فكانوا يجهرون ب بسم الله الرحمن الرحيم

وقال بعضهم كانوا يقرؤون بسم الله الرحمن الرحيم هذا اضطراب لا تقوم معه حجة لمن يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم والذين يقرءونها وقد أجمع قوم من الفقهاء والمحدثين في القراءة بسم الله الرحمن الرحيم كتبا من أثبتها آية في فاتحة الكتاب ومن نفاها عنها وقد أفردنا لهذه المسألة كتابا سميناه كتاب الإنصاف فيما بين العلماء في قراءة بسم الله الرحمن الرحيم من الاختلاف وأتينا منه في هذا الكتاب بما فيه كفاية في باب القراءة خلف الإمام فيما لا يجهر فيه الإمام بالقراءة لأن فيه ذكر مالك حديث العلاء عن أبيه عن أبى هريرة عن النبي عليه السلام قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرؤوا يقول العبد الحمد لله رب العالمين الحديث بتمامه إلى آخر السورة ليس فيه بسم الله الرحمن الرحيم وهو أقطع حديث وأثبته في ترك قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في أول فاتحة الكتاب لأن غيره من الأحاديث قد تأولوا فيها فأكثروا التشغيب والتنازع وأما الاختلاف في بسم الله الرحمن الرحيم فعلى أوجه أحدها هل هي من فاتحة الكتاب آية أم لا والثاني هل هي آية في كل سورة أم لا والثالث هل هي من القرآن في غير سورة النمل أم لا والرابع هل تصح الصلاة دون أن يقرأ بها مع فاتحة الكتاب أم لا والخامس هل تقرأ في النوافل دون الفرائض أم لا

وقد أوردنا ما للعلماء في هذه المعاني عند ذكر الباب الثالث من هذا الباب ونختصر القول في القراءة بها خاصة هنا وفي جملة حكمها لأنا قد استوعبناه ومهدناه هناك والحمد لله قال مالك لا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في المكتوبة سرا ولا جهرا في فاتحة الكتاب ولا في غيرها وأما في النافلة فإن شاء قرا وإن شاء ترك وهو قول الطبري وقال الثوري وأبو حنيفة وبن أبي ليلى وأحمد بن حنبل يقرؤها مع أم القرآن في كل ركعة سرا إلا أن بن أبي ليلى قال إن شاء جهر بها وإن شاء أخفاها وقال سائرهم يخفيها وقال الشافعي هي آية من فاتحة الكتاب يخفيها إذا أخفى ويجهر بها إذا جهر واختلف قوله هل هي آية في أول كل سورة أم لا على قولين أحدهما هي آية في فاتحة كل سورة وهو قول بن المبارك والثاني ليست آية في أول كل سورة إلا في فاتحة الكتاب خاصة وفي معنى حديثه عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه أنه قال كنا نسمع قراءة عمر بن الخطاب عند دار أبي جهم بالبلاط تفسير لحديث البياضي لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن وبيان أن ذلك للمنفردين المصلين المتنفلين وأما قراءة عمر وسائر الأئمة في المكتوبة وغيرها من صلاة الجهر فلا وكان عمر مديد الصوت فمن هناك كان يبلغ صوته حيث وصف سامعه وأما حديث بن عمر أنه كان إذا فاته شيء من صلاته مع الإمام فيما جهر فيه الإمام بالقراءة قام إذا سلم الإمام فقرأ لنفسه فيما يقضي وجهر فقد تقدم مذهب بن عمر وغيره فيمن أدرك بعض الصلاة مع الإمام هل هو أول صلاته أو آخرها وكيف يقضي في باب النداء للصلاة فأغنى عن إعادته هنا

وأما خبر نافع بن جبير ويزيد بن رومان فمعناه الفتح على المصلي وفيه رد على من كره الفتح على الإمام لأنه إذا جاز الفتح على من ليس معك في صلاة فالإمام أولى بذلك وقد قال علي إذا استطعمك الإمام فأطعمه يعني الفتح عليه رواه أبو عبد الرحمن السلمي عن علي وهو يعارض حديث الحارث عن علي عن النبي عليه السلام أنه قال لا يفتح على الإمام وقد تردد رسول الله في آية فلما انصرف قال أين أبي أفلم يكن في القوم أبي يريد الفتح عليه وقد فتح نافع على بن عمر رضي الله عنهما في صلاة المغرب وكره الكوفيون الفتح على الإمام وأجازه مالك والشافعي لأنه لم ينه عنه بوجه يحتج بمثله وهو تلاوة قرآن في الصلاة باب القراءة في الصبح مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن أبا بكر الصديق صلى الصبح فقرأ فيها سورة البقرة في الركعتين كلتيهما قال أبو عمر أدخل مالك هذا الحديث والله أعلم ليدل به على أن قراءة الصبح طويلة جدا وعلى هذا يصح استعمال الآثار وترتيب الأحاديث في الإسفار بصلاة الصبح والتغليس بها لأنه معلوم أن أبا بكر لم يدخل فيها إلا مغلسا بعد أن طلع الفجر ثم طول حتى أسفر فمن فعل هذا كان مستعملا للأحاديث في التغليس والإسفار وهو وجه لا يبعد في استعمال الأحاديث على أن حديث عائشة كان النساء ينصرفن من صلاة الصبح مع رسول الله متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس يدل على غير حديث الإسفار إلا أنه

ممكن أن يكون فعله ذلك أحيانا فيصح التغليس ويصح الإسفار وقد روى الزهري عن أنس أن أبا بكر رضي الله عنه صلى الصبح فقرأ فيها في سورة البقرة في الركعتين وقد أعلمتك فيما تقدم أن القراءة في الصلوات كلها ليس فيها شيء محدود لا يتجاوز في التطويل والتقصير لأنه قد ورد فيها كلها التطويل والتقصير والآثار بذلك مشهورة جدا قد ذكرت منها في التمهيد ما فيه كفاية وهي في المصنفات كثيرة متكررة ويقضي عليها ويفسرها قوله عليه السلام من أم بالناس فليخفف إلا أن يعرف الإمام مذهب من خلفه وقد روي عن مالك أنه كره أن يقسم المصلي سورة بين ركعتين في الفريضة وذلك أنه لم يبلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثر الصحابة كانوا على قراءة فاتحة الكتاب وسورة في كل ركعة وربما قرن بعضهم السورتين مع فاتحة الكتاب في ركعة روي ذلك عن بن مسعود وبن عمر وهذا كله من فعلهم يدل على التخيير والإباحة فيفعل المصلي من ذلك ما شاء إلا أن الاختيار ما اختاره مالك من قراءة سورة مع أم الكتاب في الركعتين الأوليين من كل صلاة وكذلك في صلاة الصبح وهو الأكثر وما بالاقتداء بالصديق رضي الله عنه بأس فإنه من الذين هدى الله فأين المهرب عنه وحديث مالك هذا قد وصله الثقات الأثبات رواه معمر وسفيان بن عيينة ويونس بن يزيد عن الزهري وقد روى الزهري عن أنس أن أبا بكر صلى الصبح فقرأ فيها بالبقرة في الركعتين فقيل له حين سلم كادت الشمس تطلع فقال لو طلعت لم تجدنا غافلين رواه بن عيينة ويونس عن الزهري وأما قراءة عمر بن الخطاب في صلاة الصبح بسورة يوسف وسورة الحج فعلى ما قلنا من استحباب العلماء لطول القراءة في صلاة الصبح وذلك في الشتاء أكثر منه في الصيف وكذلك قراءة عثمان بسورة يوسف

وأما ترداد عثمان لها وتكريره القراءة بها في أكثر أيامه فإنه ربما خف على لسان الإنسان الحافظ للقرآن قراءة بعض سور القرآن دون بعض فمال إلى ما خف عليه فكان ذلك أكثر قراءته وربما أعجبه من سور القرآن ما فيه قصص الأنبياء فقرأها على الاعتبار بها والتذكار لها وأما أشك أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا رضي الله عنهم كانوا يعرفون من حرص من خلفهم على التطويل ما حملهم عليه أحيانا وأما اليوم فواجب الاحتمال على التخفيف لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من أم الناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير وذا الحاجة ومن صلى لنفسه فليطول ما شاء وقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل أفتان أنت يا معاذ اقرأ ب سبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها ونحو ذلك في العشاء الآخرة وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال لبعض من طول من الأئمة لا تبغضوا الله إلى عباده وإذا كان الناس يؤمرون بالتخفيف في الزمن فما ظنك بهم اليوم ألا ترى إلى ما أجمعوا عليه من تخفيف القراءة في السفر وقد روي عن النبي عليه السلام إني لأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مخافة أن أشق على أمه

وهذه الآثار كلها في التمهيد بأسانيدها والحمد لله باب ما جاء في أم القرآن مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب أن أبا سعيد مولى عامر بن كريز أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى أبي بن كعب وهو يصلي فلما فرغ من صلاته لحقه فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على يده وهو يريد أن يخرج من باب المسجد فقال إني لأرجو أن لا تخرج من المسجد حتى تعلم سورة ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها قال أبي فجعلت أبطئ في المشي رجاء ذلك ثم قلت يا رسول الله السورة التي وعدتني قال كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة قال فقرأت الحمد لله رب العالمين حتى أتيت على آخرها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هي هذه السورة وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيت قال أبو عمر هذا الحديث مرسل في الموطأ هكذا عند جميع رواته فيما علمت وقد ذكرنا في التمهيد من وصله عن العلاء فجعله عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب ومنهم من يرويه عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عن أبي بن كعب قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أعلمك سورة ما أنزل في التوراة ولا في الزبور ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها وذكر الحديث ومنهم من قال فيه فقرأت عليه الحمد لله رب العالمين كما قال مالك ومنهم من قال فيه فقرأت عليه فاتحة الكتاب ومنهم من قال فيه فقرأت عليه أم القرآن ومن أحسنهم له سياقه يزيد بن زريع قال حدثنا روح بن القاسم عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بن كعب

وهو يصلي فقال السلام عليك أي أبي فالتفت إليه ولم يجبه ثم إن أبيا خفف الصلاة ثم انصرف إلى النبي عليه السلام فقال السلام عليك يا رسول الله فقال وعليك ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك فقال يا رسول الله كنت أصلي قال أفلست تجد فيما أوحى إلي أن استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم الأنفال قال بلى يا رسول الله ولا أعود أبدا إن شاء الله قال أي أبي أتحب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها قلت نعم يا رسول الله قال فإني أرجو ألا تخرج من هذا الباب حتى تعلمها قال ثم أخذ رسول الله بيدي فحدثني وأنا أتباطأ به مخافة أن أبلغ الباب قبل أن يقضي الحديث فلما دنونا من الباب قلت يا رسول الله السورة التي وعدتني قال كيف تقرأ في الصلاة قال فقرأت عليه أم القرآن فقال والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها إنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته قال أبو عمر في حديث مالك من الفقه والمعاني مناداة من يصلي وذلك اليوم عندنا محمول على أن يجيب إشارة أو إذا فرغ من صلاته لتحريم الله الكلام في الصلاة قال زيد بن أرقم كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت وقوموا لله قانتين البقرة فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله أحدث من أمره ألا تكلموا في الصلاة وقد مضى هذا المعنى مجودا والحمد لله فمن دعي اليوم لم يجب حتى يفرغ من صلاته إلا في أمر لم يجد منه بدا أو يقضي به فرضا ثم يقضي صلاته بعد ولو أجاب أبي رسول الله لكان ذلك خاصا له دون غيره لقوله استجيبوا لله وللرسول وقد جاء من وجه صحيح في حديث أبي بن كعب هذا أن رسول الله قال له

ما منعك أن تجيبني أليس قد قال الله يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم الأنفال وهذا يحتمل أن يكون الدعاء إلى الفرائض والإيمان ويحتمل في كل شيء وليس كلام الناس في الصلاة كذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكرنا وقوله إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو ذكر الله وقراءة القرآن وهذا الحديث يدل على العموم والإجماع على تحريم الكلام ويدل على تخصيص النبي عليه السلام بذلك والله أعلم وفيه وضع الرجل يده على يد صديقه إذا حدثه بحديث يريد أن يحفظه وهذا يستحسن من الكبير للصغير لما فيه من التأنيس والتأكيد في الود وفي قول أبي يا رسول الله السورة التي وعدتني دليل على حرصه على العلم ورغبته فيه وكذلك كان إبطاؤه في مشيه محبة في العلم وحرصا عليه وأما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم له كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة قال فقرأت عليه الحمد لله رب العالمين فقد استدل به بعض أصحابنا على سقوط بسم الله الرحمن الرحيم من أول فاتحة الكتاب وعلى سقوط التوجيه وهذا لا حجة فيه لأن التوجيه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عمر بن الخطاب وغيره وقد جاءت به رواية عن مالك ولكنه يدل أنه لا شيء على من أسقطه ولم يأت به ولأنه لم يقل له ما تقول إذا افتتحت الصلاة وإنما قال له كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة فأجابه إن القراءة في الصلاة لا تفتتح إلا بفاتحة الكتاب فلا يجوز أن يقرأ بغيرها إلا بعد الافتتاح بها بدليل هذا الحديث وما كان مثله ولا حجة فيه في سقوط بسم الله الرحمن الرحيم وإنما فيه دليل واضح على أنه يفتتح القراءة بها في الصلاة دون غيرها من سور القرآن لأن والحمد لله رب العالمين اسم لها كما يقال قرأت يس والقرآن الحكيم وقرأت ن والقلم وقرأت ق والقرآن المجيد وهذه كلها أسماء للسور وليس في ذلك ما يسقط بسم الله الرحمن الرحيم إذا قام الدليل بأنها آية من فاتحة الكتاب على ما نذكره في الباب بعد هذا إن شاء الله والقول في هذه المسألة بين المتنازعين قد طال وكثر فيه الشغب والذي أقول

به أنه من ترك بسم الله الرحمن الرحيم في فاتحة الكتاب أو غيرها متأولا فلا حرج لأنه لم يقم بإيجاب قراءتها دليل لا معارض له ولا إجماع لأنه لا إجماع في أنها آية إلا في سورة النمل ومن قرأها في فاتحة الكتاب أو غيرها فلا حرج فقد رويت في ذلك آثار كثيرة عن النبي عليه السلام مرفوعة وعمل بها جماعة من السلف منهم بن عمر وبن عباس وقد روى بن نافع عن مالك مثل ذلك وسنبين هذا في الباب بعد هذا إن شاء الله وفي ذلك دليل على أن فاتحة الكتاب تقرأ في أول ركعة وحكم كل ركعة كحكم تلك الركعة في القياس والنظر وفي هذا حجة لمن أوجب قراءتها وأما المعنى في قول من قال أم القرآن فهو بمعنى أصل القرآن وأم الشيء أصله كما قيل أم القرى لمكة وقيل لأنها أول ما يقرأ في الصلاة وكرهت طائفة أن يقال لها أم القرآن وقالوا فاتحة الكتاب ولا وجه لما كرهوا من ذلك لحديث أبي هريرة هذا وما كان مثله وفيه أم القرآن وأما قوله عليه السلام لأبي حتى تعلم سورة ما أنزل الله في القرآن ولا في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها فمعناه مثلها في جمعها لمعاني الخير لأن فيها الثناء على الله بما هو أهله وما يستحق من الحمد الذي هو له حقيقة لا لغيره لأن كل نعمة وخير فمنه لا من سواه فهو الخالق الرازق ولا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع وهو المحمود على ذلك وإن حمد غيره فإليه يعود الحمد وفيها التعظيم له وأنه رب العالم أجمع ومالك الدنيا والآخرة وهو المعبود المستعان وفيها تعليم الدعاء إلى الهدى ومجانبة طريق من ضل وغوى والدعاء لباب العبادة فهي أجمع سورة للخير وليس في الكتاب مثلها على هذه الوجوه والله أعلم وقد قيل إن معنى ذلك لأنها لا تجزئ الصلاة إلا بها دون غيرها ولا يجزئ غيرها منها وليس هذا بتأويل مجمع عليه وأما قوله هي السبع المثاني والقرآن العظيم فمعناه عندي هي السبع المثاني التي أعطيت لقوله تعالى ولقد أتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم الحجر فخرج والقرآن العظيم على معنى التلاوة وأولى ما قيل به في تأويل السبع المثاني أنها فاتحة الكتاب لأن القول بذلك أرفع ما روي فيه وهو يخرج في التفسير المسند

وقد روي عن بن عباس في قوله تعالى ولقد أتيناك سبعا من المثاني قال فاتحة الكتاب قيل لها ذلك لأنها تثنى في كل ركعة وقال بذلك جماعة من أهل العلم بتأويل القرآن منهم قتادة ذكر عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله سبعا من المثاني قال هي فاتحة الكتاب تثنى في كل ركعة مكتوبة وتطوع وقد روي عن بن عباس أيضا في السبع المثاني أنها السبع الطوال البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والأنفال وبراءة وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير لأنها تثنى فيها حدود القرآن والفرائض والقول الأول أثبت عن بن عباس وهو الصحيح إن شاء الله في تأويل الآية لما ثبت عن النبي عليه السلام في ذلك وأما حديث وهب بن كيسان أنه سمع جابر بن عبد الله يقول من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل إلا وراء الإمام فقد رواه يحيى بن سلام الإمام صاحب التفسير عن مالك عن أبي نعيم وهب بن كيسان عن جابر عن النبي عليه السلام وصوابه موقوف على جابر كما روي في الموطإ وفيه من الفقه إبطال الركعة التي لا يقرأ فيها بأم القرآن وهو يشهد بصحة ما ذهب إليه بن القاسم ورواه عن مالك في إلغاء الركعة والبناء على غيرها وألا يعتد المصلي بركعة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب وتفسير قول جابر هذا ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب أي لا ركعة وأما قوله فلم يصل إلا وراء الإمام فقد تقدم هذا المعنى مجودا فعلا وجه لإعادته وفيه أيضا أن الإمام قراءته لمن خلفه قراءة وهذا مذهب جابر وقد خالفه فيه

غيره والاختلاف في القراءة خلف الإمام بين الصحابة والتابعين وأئمة فقهاء المسلمين كثير جدا وسنورده ونمهده عند قوله عليه السلام مالي أنازع القرآن إن شاء الله باب القراءة خلف الإمام فيما لا يجهر فيه بالقراءة حدثني يحيى عن مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب أنه سمع أبا السائب مولى هشام بن زهرة يقول سمعت أبا هريرة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج هي خداج هي خداج غير تمام قال فقلت يا أبا هريرة إني أحيانا أكون وراء الإمام قال فغمز ذراعي ثم قال اقرأ بها في نفسك يا فارسي فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال الله تبارك وتعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرأوا يقول العبد الحمد لله رب العالمين يقول الله تبارك وتعالى حمدني عبدي ويقول العبد الرحمن الرحيم يقول الله أثنى علي عبدي ويقول العبد مالك يوم الدين يقول الله مجدني عبدي يقول العبد إياك نعبد وإياك نستعين فهذه الآية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل يقول العبد اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل وقد ذكرنا في التمهيد من روى هذا الحديث كما رواه مالك عن العلاء عن أبي السائب عن أبي هريرة ومن رواه عن العلاء عن أبيه وأبي السائب جميعا عن أبي هريرة وهي رواية غريبة عن مالك ومعروفة عن عقيل عن بن شهاب عن أبي السائب عن أبي هريرة وأخطأ فيه زياد بن يونس ومحمد بن خالد بن عثمة فروياه عن مالك عن بن شهاب عن محمد بن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج

وفي حديث زياد بن يونس بهذا الإسناد من لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصلاته خداج وهذا وهم وغلط لإدخال حديث أبي هريرة في حديث عبادة وإنما لفظ حديث عبادة لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب على أنه غريب جدا من حديث مالك ومحفوظ لابن عيينة وجماعة عن الزهري ولفظ حديث أبي هريرة كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج وفي حديث أبي هريرة هذا من الفقه إيجاب قراءة فاتحة الكتاب في كل صلاة وأن الصلاة إذا لم يقرأ فيها فاتحة الكتاب فهي خداج وإن قرئ فيها بغيرها من القرآن والخداج النقصان والفساد من قولهم أخدجت الناقة وخدجت إذا ولدت قبل تمام وقتها وقبل تمام الخلق وذلك نتاج فاسد وأما تحرير أهل البصرة فيقولون إن هذا اسم خرج على المصدر يقولون أخدجت الناقة ولدها إذا ولدته ناقصا للوقت فهي مخدج والولد مخدج والمصدر الأخداج وأما خدجت فرمت بولدها قبل الوقت ناقصا أو تاما فهي خادج والولد مخدوج وخديج وهذا كله قول الخليل وأبي حاتم والأصمعي وقال الأخفش خدجت الناقة إذا ألقت ولدها لغير تمام وأخدجت إذا قذفت به قبل الوقت وإن كان تام الخلق وقد زعم من لم يوجب قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة وقال هي وغيرها سواء وأن قوله خداج يدل على جواز الصلاة لأنه نقصان والصلاة الناقصة جائزة وهذا تحكم فاسد والنظر يوجب في النقصان ألا تجوز معه الصلاة لأنها صلاة لم تتم ومن خرج من صلاة قبل أن يتمها فعليه إعادتها تامة كما أمر على حسب حكمها ومن ادعى أنها تجوز مع إقراره بنقصها فعليه الدليل ولا سبيل إليه من وجه يلزم والله أعلم

وأما اختلاف العلماء في هذا الباب فإن مالكا والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبا ثور وداود قالوا لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب قال بن خواز بنداذ وهي عندنا معينة في كل ركعة قال ولم يختلف قول مالك أن من نسيها في ركعة من صلاة ركعتين إنها تبطل إن لم يأت بركعة يصلها بالركعة التي قرأ فيها ولا تجزيه واختلف قوله فيمن نسيها في ركعة من صلاة ثلاثية أو رباعية فقال مرة لا يعتد بتلك الركعة ويأتي بركعة يضيفها إلى الثلاث التي قرأ فيها بفاتحة الكتاب ويسجد بعد التسليم كالذي نسي سجدة ويذكر قبل السلام سواء فإن لم يفعل وسلم أو تكلم أو طال ذلك أعاد الصلاة وهو قول بن القاسم وروايته واختياره وقال في قول مالك الآخر إنه ليس عنده بالبين وقال مالك مرة أخرى يسجد سجدتي السهو وتجزيه وهي رواية بن عبد الحكم عنه قال بن عبد الحكم وقد قيل إنه يعيد تلك الركعة ويسجد للسهو بعد السلام وقال مرة يسجد سجدتي السهو السلام ثم يعيد الصلاة وقال الشافعي وأحمد بن حنبل لا تجزيه صلاته حتى يقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة وهو قول جابر بن عبد الله على ما تقدم وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي إن تركها عامدا في صلاته كلها وقرأ غيرها أجزأه على اختلاف عن الأوزاعي في ذلك وقال الطبري يقرأ المصلي بأم القرآن في كل ركعة فإن لم يقرأ بها لم يجزه إلا مثلها من القرآن عدة آياتها وحروفها وقال أبو حنيفة لا بد في الأوليين من قراءة أقل ذلك في كل ركعة منها آية وقال أبو يوسف ومحمد أقله ثلاث آيات أو آية طويلة كآية الدين وقال مالك إذا لم يقرأ أم القرآن في الأوليين أعاد ولم يختلف قوله في ذلك إلا ما روي عنه في ركعتين لم يخص أوليين من غيرها ومذهبه القراءة بها في الصلاة كلها فإن نسيها في ركعة أو ركعتين فجوابه ما تقدم ذكره وقال الشافعي أقل ما يجزئ المصلي من القراءة أن يقرأ بفاتحة الكتاب إن

أحسنها وإن لم يحسنها وهو يحسن غيرها من القرآن قرأ بعددها سبع آيات لا يجزيه دون ذلك فإن لم يحسن شيئا من القرآن حمد الله وكبر مكان القراءة لا يجزيه غيره حتى يتعلمها قال ومن أحسن فاتحة الكتاب فإن ترك منها حرفا واحدا وخرج من الصلاة أعاد الصلاة وروي عن عمر وبن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وعثمان بن أبي العاص وخوات بن جبير أنهم قالوا لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وهو قول بن عمر والمشهور من مذهب الأوزاعي وأجمع العلماء على إيجاب القراءة في الركعتين الأوليين من صلاة أربع على حسب ما ذكرنا من اختلافهم في فاتحة الكتاب وغيرها واختلفوا في الركعتين الأخريين فمذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود أن القراءة فيهما بفاتحة الكتاب واجبة على الإمام والمنفرد ومن أبى منهم أن يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب فلا صلاة له وعليه إعادتها إلا أن مالكا اختلف قوله في الناسي لقراءتها في ركعة على ما ذكرنا عنه وقال الطبري القراءة فيهما واجبة ولم يعين أم القرآن من غيرها وقد ذكرنا في التمهيد حديث أبي قتادة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورة وفي الأخريين بأم القرآن وكان يسمعنا الآية أحيانا وذكرنا هناك أيضا حديث بن عمر أنه جاء رجل فقال يا أبا عبد الرحمن هل في الظهر والعصر قراءة فقال وهل تكون صلاة بغير قراءة قال أبو عمر معلوم أن الركعة الواحدة صلاة فلا تجوز إلا بقراءة وكل ركعة كذلك وقال أبو حنيفة القراءة في الآخرتين لا تجب وكذلك قال الثوري والأوزاعي

قال الثوري يسبح في الآخرتين أحب إلي من أن يقرأ وهو قول جماعة الكوفيين وسلف أهل العراق وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه يقرأ في الركعتين الأوليين وأما في الأخريين فإن شاء سبح وإن شاء قرأ وإن لم يقرأ ولم يسبح جازت صلاته وهو قول إبراهيم النخعي ورواه أهل الكوفة عن علي وروى عنه أهل المدينة خلاف ذلك قال أبو عمر روي عن علي وجابر بن عبد الله والحسن وعطاء والشعبي وسعيد بن جبير القراءة في الركعتين الآخرتين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب في كل ركعة منها وثبت ذلك عن النبي عليه السلام فلا وجه لمن خالفه وبالله التوفيق واختلفوا فيمن ترك القراءة في كل ركعة فأما مالك فقد ذكرنا مذهبه واختلاف الرواية عنه وقال الأوزاعي من قرأ في نصف صلاته مضت صلاته وإن قرأ في ركعة واحدة من المغرب أو الظهر أو العصر أو العشاء ونسي أن يقرأ فيما بقي من صلاته أعاد صلاته وأما إسحاق بن راهويه فقال إذا قرأ في ثلاث ركعات إماما كان أو منفردا فصلاته جائزة لما أجمع الناس عليه أن من أدرك الركوع أدرك الركعة قال أبو عمر قاس إسحاق الإمام والمنفرد في القراءة على المأموم فأخطأ القياس لأن الإمام والمنفرد لا يحمل غيره عنه شيئا من صلاته ولا يقلب أحد عليه رتبة صلاته ولا يقلبها هو فتجزئ عنه وقال الثوري إن قرأ في ركعة من الصبح ولم يقرأ في الأخرى أعاد الصلاة وإن قرأ في ركعة من الظهر أو العصر أو العشاء ولم يقرأ في الثلاث أعاد وروي عن الحسن البصري أنه قال إذا قرأت في ركعة واحدة من الصلاة أجزأك وقال به أكثر فقهاء البصرة وقال المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي المدني إذا قرأ بأم القرآن مرة واحدة في الصلاة أجزته ولم تكن عليه إعادة لأنها صلاة قد قرأ فيها بأم القرآن فهي تمام ليست بخداج وقد روي عن مالك قول شاذ لا يعرفه أصحابه وينكره أهل العلم به أن

الصلاة تجزئ بغير قراءة على ما روي عن عمر وهي عن مالك رواية منكرة والصحيح عنه خلافها وقد ذكرنا ذلك عنه وقال الشافعي عليه أن يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب لا تجزئ الركعة إلا بها قال وكما لا ينوب سجود ركعة ولا ركوعها عن ركعة أخرى فكذلك لا تنوب قراءة ركعة عن غيرها وهو ظاهر قول جابر وبه قال عبد الله بن عون وأيوب السختياني وأبو ثور وداود وروي مثله عن الأوزاعي قال أبو عمر قد أوضحنا الحجة في وجوب قراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة من طريق النظر والأثر في كتاب التمهيد وأما من أجاز القراءة بغيرها فمحجوج بحديث هذا الباب وبقوله عليه السلام لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب ولا معنى لقول من قال يأتي بعدد حروفها وآياتها لأن التعيين لها والنص عليها قد خصها بهذا الحكم دون غيرها ومحال أن يجيء بالبدل منها من وجبت عليه فتركها وهو قادر عليها وإنما عليه أن يجيء بها وبعدد آياتها كسائر المفروضات المعينات في العبادات وأما قوله في هذا الحديث قال تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرؤوا يقول العبد والحمد لله رب العالمين فبدأ بالحمد لله رب العالمين ولم يقل بسم الله الرحمن الرحيم فهذا أوضح شيء وأبينه أن ب الحمد لله رب العالمين فجعلها آية ثم الرحمن الرحيم آية ملك يوم الدين آية فهذه ثلاث آيات لم يختلف فيها المسلمون وجاء في هذا الحديث أنها له تبارك اسمه ثم الآية الرابعة جعلها بينه وبين عبده ثم ثلاث آيات لعبده تتمة سبع آيات فهذا يدل على أن أنعمت عليهم آية ثم الآية السابعة إلى آخر السورة وهكذا تكون نصفين بين العبد وبين ربه لأنه قال في قوله اهدنا الصراط المستقيم إلى آخر السورة فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل

وهؤلاء إشارة إلى جماعة من يعقل وما لا يعقل وأقل الجماعة ثلاثة فعلمنا بقوله هؤلاء أنه أراد هؤلاء الآيات والآيات أقلها ثلاث لأنه لو أراد اثنتين لقال هاتان ولو أراد واحدة لقال هذه بيني وبين عبدي وإذا كان من قوله اهدنا إلى آخر السورة ثلاث آيات كانت السبع آيات من قوله الحمد لله رب العالمين إلى قوله ولا الضالين وصحت قسمة السبع على السواء ثلاث وثلاث وآية بينهما قال في الأولى حمدني عبدي وفي الثانية أثنى علي عبدي وفي الثالثة مجدني عبدي وفي الرابعة هذه بيني وبين عبدي ثم قال في قوله اهدنا الصراط المستقيم إلى آخر السورة هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل فلما قال هؤلاء علمنا أنها ثلاث آيات وتقدمت أربعة تتمة سبع آيات ليس فيها بسم الله الرحمن الرحيم وقد أجمعت الأمة أن فاتحة الكتاب سبع آيات وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هي السبع المثاني وأجمع القراء والفقهاء على أنها سبع آيات إلا أنهم اختلفوا فمن جعل بسم الله الرحمن الرحيم آية من فاتحة الكتاب لم يعد أنعمت عليهم آية ومن لم يجعل بسم الله الرحمن الرحيم آية عد أنعمت عليهم آية وهو عدد أهل المدينة وأهل الشام وأهل البصرة وأما أهل مكة وأهل الكوفة من القراء والفقهاء فإنهم عدوا فيها بسم الله الرحمن الرحيم آية ولم يعدوا أنعمت عليهم وهذا الحديث أبين ما يروى عن النبي عليه السلام في سقوط بسم الله الرحمن الرحيم من آي فاتحة الكتاب وهو قاطع لموضع الخلاف فإن قيل كيف تكون قسمة الصلاة عبارة عن السورة وهو يقول قسمت الصلاة ولم يقل قسمت السورة قيل معلوم أن القراءة يعبر بها عن الصلاة كما قال وقرآن الفجر الإسراء أي قراءة صلاة الفجر فجائز أن يعبر أيضا بالصلاة عن القراءة والقرآن ومن حجة من قال أن بسم الله الرحمن الرحيم ليست آية من فاتحة الكتاب

ولا من غيرها إلا في سورة النمل في قوله تعالى إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم النمل قوله تعالى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا النساء والاختلاف موجود في بسم الله الرحمن الرحيم فعلمنا أنها ليست من كتاب الله لأنه تعالى قد نفى الاختلاف عن كتابه بما تلونا وبقوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون الحجر ومن جهة الأثر ما ثبت عن النبي عليه السلام وعن أبي بكر وعمر وعثمان أنهم كانوا يفتتحون القراءة ب الحمد لله رب العالمين وروي في هذا الحديث عن أنس قال صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان وعلي فكانوا يستفتحون القراءة ب والحمد لله رب العالمين ومن رواة هذا الحديث من يقول فيه فكانوا لا يقرؤون بسم الله الرحمن الرحيم وقالت عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة ب الحمد لله رب العالمين وقال أبو نعامة قيس بن عباية الحنفي عن بن عبد الله بن مغفل قال سمعني أبي وأنا أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم فقال لي يا بني إياك والحدث فإني صليت مع رسول الله وأبي بكر وعمر فلم أسمع منهم أحدا يقولها فإذا قرأت فقل الحمد لله رب العالمين وقد ذكرنا هذه الآثار من طرق بأسانيدها في التمهيد فهذه الآثار التي احتج بها من كره قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة ومن أبى من أن يعدها آية من فاتحة الكتاب وهي أحاديث حسان رواها

العلماء المعروفون إلا حديث بن مغفل فإنه حديث ضعيف لأنه لم يعرف بن عبد الله بن مغفل وللعلماء في بسم الله الرحمن الرحيم أقاويل فجملة مذهب مالك وأصحابه أنها ليست عندهم آية من فاتحة الكتاب ولا من غيرها من سور القرآن إلا في سورة النمل وأنه لا يقرأ بها المصلي في المكتوبة في فاتحة الكتاب ولا في غيرها سرا ولا جهرا قال مالك ولا بأس أن يقرأ بها في النافلة ومن يعرض القرآن عرضا هذا هو المشهور من مذهب مالك عند أصحابه وعليه يناظر المالكيون من خالفهم وقد ذكر إسماعيل القاضي عن أبي ثابت عن بن نافع عن مالك أنه قال لا يقرأ ب بسم الله الرحمن الرحيم في الفريضة والنافلة هكذا وجدته في نسخة صحيحة من المبسوط عن أبي ثابت عن بن نافع عن مالك وإنما هو محفوظ لابن نافع وروى يحيى بن يحيى عن بن نافع قال لا أرى أن يتركها في فريضة ولا نافلة وهو قول الشافعي قال أبو عمر للشافعي في بسم الله الرحمن الرحيم قولان أحدهما أنها الآية الأولى من فاتحة الكتاب دون غيرها من السور التي أثبتت في أوائلها والقول الآخر هي آية من أول كل سورة وكذلك اختلف أصحابه على القولين جميعا والأول أشهر القولين عنه وقال عمرو بن هاشم صليت خلف الليث بن سعد فكان يجهر ب بسم الله الرحمن الرحيم وبآمين وروى الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن نعيم بن عبد الله المجمر قال صليت خلف أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم قبل أم القرآن وقبل السورة وكبر في الخفض والرفع وقال أنا أشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم

وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وأبو عبيد هي آية من فاتحة الكتاب حدثنا عبيد بن محمد حدثنا الحسن بن سلمة حدثنا بن الجارود حدثنا إسحاق بن منصور قال قلت لأسحاق بن راهويه رجل صلى صلوات فلم يقرأ فيها بسم الله الرحمن الرحيم مع الحمد لله رب العالمين قال يعيد الصلوات كلها قال أبو عمر هذا قول كل من جعلها الآية الأولى من فاتحة الكتاب وأوجب قراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة وأما أصحاب أبي حنيفة فزعموا أنهم لا يحفظون عنه هل هي آية من فاتحة الكتاب أم لا ومذهبه أنه يسر بها في الجهر والسر وقال داود هي آية من القرآن في كل موضع وقعت فيه وليست هي من السورة وإنما هي آية مفردة غير ملحقة بالسور وزعم الرازي أبو بكر أن مذهب أبي حنيفة هكذا وقال عطاء هي آية من أم القرآن واتفق أبو حنيفة والثوري على أن الإمام يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في أول فاتحة الكتاب سرا ويخفيها في صلاة الجهر وغيرها يخصها بذلك وروي مثل ذلك عن عمر وعلي وبن مسعود وعمار وبن الزبير وهو قول الحكم وحماد وبه قال أحمد بن حنبل وأبو عبيد وروي عن الأوزاعي مثل ذلك وروي أيضا عن الأوزاعي أنه لا يقرؤها في المكتوبة سرا ولا جهرا ولا هي آية من فاتحة الكتاب وهو قول الطبري وقال الشافعي يجهر بها في صلاة الجهر لأنها أول آية من فاتحة الكتاب وبه قال داود على اختلاف عنه وكذلك اختلف أصحابه وروي قول الشافعي عن بن عمر وبن عباس وطاوس ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء وعمرو بن دينار لم يختلف عن واحد من هؤلاء في ذلك واختلف فيه عن عمر وبن الزبير

حدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا محمد بن إبراهيم حدثنا عبدان حدثنا الحسين بن يحيى وأبو الأشعث قالا حدثنا المعتمر عن إسماعيل بن حماد عن أبي خالد عن بن عباس أن النبي عليه السلام كان يجهر ب بسم الله الرحمن الرحيم حدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا بن وضاح حدثنا أبو بكر حدثنا حفص بن غياث عن بن جريج عن بن مليكة عن أم سلمة قالت كان النبي عليه السلام يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين أخبرنا عبد الله بن محمد حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثنا أبي قال حدثنا يحيى بن سعيد الأموي قال حدثنا بن جريج عن عبد الله بن أبي مليكة عن أم سلمة أنها سئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت كان يقطعها آية آية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين قال أبو عمر أما من قرأ بها سرا في صلاة السر وجهر بها في صلاة الجهر فحجته أنها أول آية من فاتحة الكتاب والمناظرة بينه وبين من خالفه في ذلك وأما من أسر بها في الجهر والسر فإنما مال إلى الأثر وقرأها من جهة الحكم بخبر الواحد الموجب للعمل دون العلم واحتجوا من الأثر في ذلك بما رواه منصور بن زاذان عن أنس بن مالك قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسمعنا قراءة بسم الله الرحمن الرحيم وبما رواه عمار بن زريق عن الأعمش عن شعبة عن ثابت عن أنس قال صليت خلف النبي عليه السلام وخلف أبي بكر وعمر فلم أسمع أحدا منهم يجهر ب بسم الله الرحمن الرحيم وقد روي عن شعبة وسعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس مثل ذلك وكذلك رواه هشام الدستوائي عن قتادة عن أنس

وقد ذكرنا هذه الأحاديث بأسانيدها وطرقها في كتاب الإنصاف فيما بين المختلفين في بسم الله الرحمن الرحيم من الخلاف وفيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجهر بها وفي ذلك دليل على أنه كان يخفيها فقال بهذا من رأى أن يخفيها ورووا عن علي أنه كان لا يجهر ب بسم الله الرحمن الرحيم وكان يجهر ب الحمد لله رب العالمين وروى الثوري عن عبد الملك بن أبي بشير عن عكرمة عن بن عباس قال الجهر ب بسم الله الرحمن الرحيم قراءة الأعراب حدثنا أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن ومحمد بن عبد الله بن حكم قالا حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب قال حدثنا أبو الوليد الطيالسي قال حدثنا قيس بن الربيع قال حدثنا عاصم بن كليب عن أبيه أن عليا رضي الله عنه كان لا يجهر ب بسم الله الرحمن الرحيم قال وحدثنا أبو الوليد قال حدثنا قيس عن الشعبي عن الحارث عن علي أنه كان لا يجهر ب بسم الله الرحمن الرحيم وروى منصور وحماد ومغيرة عن إبراهيم أنه قال أربع يخفيهن الإمام ويقولها سرا الاستعاذة و بسم الله الرحمن الرحيم وآمين وربنا لك الحمد وروى الكوفيون عن عمرو بن مسعود مثل ذلك بأسانيد ليست بالقوية وكان إبراهيم النخعي يقول الجهر ب بسم الله الرحمن الرحيم بدعة وقد ذكرنا هذا الوجه وزدناه بيانا في كتابنا كتاب الإنصاف والحمد لله وقد تقول بعض العلماء بدعة فيما هو عند مخالفة سنة وأما الذين أثبتوها آية في أول فاتحة الكتاب وفي أول كل سورة فإنهم قالوا إن المصحف لم يثبت الصحابة فيه ما ليس من القرآن لأنه محال أن يضيفوا إلى كتاب الله من الذكر ما ليس منه ويكتبوه بالمداد كما كتبوا القرآن هذا ما لا يجوز لأحد أن يضيفه إليهم ألا ترى أن الذين رأوا الشكل فيه كرهوه وقالوا نمشتم المصحف كيف يضيفون إليه ما ليس منه واحتجوا من الأثر بما رواه سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن سعيد بن

جبير عن بن عباس قال كان النبي عليه السلام لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم ذكره أبو داود حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا بن عيينة وكذلك رواه الحميدي وعلي بن المدني وبن أبي عمر وغيرهم عن بن عيينة وبما رواه محمد بن فضيل عن المختار بن فلفل عن أنس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أنزلت علي سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر الكوثر حتى ختمها ثم قال أتدرون ما الكوثر نهر في الجنة وعدنيه ربي روى بن جريج عن بن أبي مليكة عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ بأم القرآن بدأ ب بسم الله الرحمن الرحيم فعدها آية ثم قرأ الحمد لله فعدها ست آيات وروى بن جريج قال حدثني عبد الله بن عثمان بن خثيم عن أبي بكر بن حفص بن عمر بن سعد بن أبي وقاص عن أنس بن مالك قال صلى معاوية للناس بالمدينة العتمة فلم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ولم يكبر بعض التكبير الذي يكبر الناس فلما انصرف ناداه من سمع ذلك من المهاجرين والأنصار فقالوا يا معاوية أسرقت الصلاة أم نسيت أين بسم الله الرحمن الرحيم والله أكبر حين تهوي ساجدا فلم يعد معاوية لذلك بعد ذكره الشافعي عن عبد المجيد بن عبد العزيز وعن بن جريج وذكره عبد الرزاق عن بن جريج فلم يذكر أنس بن مالك وعبد المجيد أيضا أقعد من بن جريج وأضبط لحديثه من عبد الرزاق وذكر عباس الدوري عن يحيى بن معين أنه سئل عن عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد فقال ثقة كان أعلم الناس بحديث بن جريج وكان أصحابه يصلحون كتبهم بكتابه قال عبد الرزاق وأخبرنا بن جريج قال أخبرني أبي أخبرنا سعيد بن جبير

أن بن عباس قال في قوله ولقد أتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم الحجر قال أم القرآن قال وقرأها علي سعيد كما قرأتها عليك ثم قال بسم الله الرحمن الرحيم الآية السابقة قال عبد الرزاق فقرأ علي بن جريج بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين إلى ولا الضالين سبع آيات وكذلك رواه جماعة أصحاب بن جريج عنه كما رواه عبد الرزاق وقد ذكرنا آثار هذا الباب كلها بأسانيدها وطرقها في التمهيد وكتاب الإنصاف وذكرنا عن بن عباس وبن عمر وأبي هريرة أنهم كانوا يقرؤون بسم الله الرحمن الرحيم في افتتاح الصلاة ب الحمد لله رب العالمين من طرق ثابتة مذكورة في التمهيد وفي كتاب الإنصاف وعن بن عمر وعطاء أنهما كانا لا يتركان بسم الله الرحمن الرحيم يستفتحان بها لأم القرآن وللسورة التي بعدها في المكتوبة والتطوع وعن يحيى بن جعدة قال اختلس الشيطان آية بسم الله الرحمن الرحيم من الأئمة وروى عبد العزيز بن حسين عن عمرو بن دينار عن بن عباس قال سرق الشيطان من أئمة المسلمين آية من فاتحة الكتاب أو قال من كتاب الله بسم الله الرحمن الرحيم قال بن عباس نسيها الناس كما نسوا التكبير في الصلاة والله ما كنا نقضي السورة حتى ينزل بسم الله الرحمن الرحيم قال أبو عمر عبد العزيز بن حصين وإن كان ضعيفا فإنه لم يأت في حديثه هذا إلا بما جاء به الثقات وذكر معمر عن الزهري أنه كان يفتح ب بسم الله الرحمن الرحيم ويقول هي آية من فاتحة الكتاب تركها الناس وقال مجاهد نسي الناس بسم الله الرحمن الرحيم وهذا التكبير وإسناده في التمهيد قال أبو عمر في قول بن عباس ويحيى بن جعدة ومجاهد وبن شهاب

دليل على أن العمل كان عندهم ترك بسم الله الرحمن الرحيم فهذا من جهة العمل وأما من جهة الأثر فحديث العلاء المذكور في هذا الباب عن السائب عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام اقرؤوا يقول العبد الحمد لله رب العالمين الحديث قسمت الصلاة بيني وبين عبدي على حسب ما بينا فيما مضى من هذا الباب مع سائر الآثار التي أوردنا فيه من حديث أنس وعبد الله بن مغفل أن النبي عليه السلام وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا لا يقرؤون بسم الله الرحمن الرحيم وإن كانت معلولة ففيها استظهار على ما جرى عليه العمل بالمدينة على أن الخلاف بالمدينة في هذه المسألة موجود قديما وحديثا ولم يختلف أهل مكة في أن بسم الله الرحمن الرحيم أول آية من فاتحة الكتاب وقد أفردنا في بسم الله الرحمن الرحيم كتابا جمعنا فيه الآثار وأقوال أئمة الأمصار لكل فريق منهم سميناه بكتاب الإنصاف فيما بين المختلفين في بسم الله الرحمن الرحيم من الخلاف يستغني الناظر فيه إن شاء الله قال أبو عمر قد اعترض أصحاب الشافعي على من احتج على سقوط بسم الله الرحمن الرحيم بقول الله تعالى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا النساء والاختلاف في بسم الله الرحمن الرحيم موجود وبقوله إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون الحجر فقالوا المعنى في هذه الآية ما عليه العمل في تأويلها بأنه حق كله لا يوجد فيه باطل وحق وما عداه من كلام الناس فيه الحق والباطل قالوا والدليل على صحة ذلك وجود الاختلاف فيه عند الجميع في القراءات وفي الأحكام وفي الناسخ والمنسوخ وفي التفسير وفي الإعراب والمعاني وهذا لا مدفع فيه وأما قوله تعالى وإنا له لحافظون ففيه قولان لا ثالث لهما أحدهما إنا له لحافظون عندنا قاله مجاهد وغيره والثاني وإنا له لحافظون من أن يزيد فيه إبليس أو غيره أو ينقص إن الهاء في قوله لحافظون كناية عن النبي صلى الله عليه وسلم أي لحافظون له من كل من أراده بسوء من أعدائه قال أبو عمر ذكر مالك في هذا الباب عن هشام بن عروة عن أبيه عن

يحيى بن سعيد وربيعة عن القاسم بن محمد وعن يزيد بن رومان عن نافع بن جبير بن مطعم أنهم كانوا يقرؤون خلف الإمام فيما لا يجهر فيه الإمام بالقراءة مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يقرأ خلف الإمام فيما لا يجهر فيه الإمام بالقراءة مالك عن يحيى بن سعيد وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن القاسم بن محمد كان يقرأ خلف الإمام فيما لا يجهر فيه الإمام بالقراءة مالك عن يزيد بن رومان أن نافع بن جبير بن مطعم كان يقرأ خلف الإمام فيما لا يجهر فيه بالقراءة قال مالك وذلك أحب ما سمعت إلي في ذلك والقراءة عند مالك وأصحابه خلف الإمام فيما لا يجهر فيه الإمام بالقراءة مستحبة مندوب إليها ومنهم من يجعلها سنة وأما إذا جهر الإمام فلا قراءة عندهم البتة بشيء من القرآن وسنبين ذلك من مذهبه ومذهب من خالفه في الباب بعد هذا إن شاء الله عز وجل باب ترك القراءة خلف الإمام فيما جهر فيه ذكر فيه مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا سئل هل يقرأ أحد خلف الإمام قال إذا صلى أحدكم خلف الإمام فحسبه قراءة الإمام وإذا صلى وحده فليقرأ قال وكان عبد الله بن عمر لا يقرأ خلف الإمام

وهذا الحديث عن بن عمر يدل ظاهره على أنه كان لا يقرأ خلف الإمام ولا يرى القراءة خلفه جملة في السر ولا في الجهر ولكن مالكا رحمه الله أدى ما سمع من نافع كما سمعه وبلغه عن بن عمر أن مذهبه كان أنه لا يقرأ خلف الإمام فيما يجهر فيه دون ما أسر فأدخل حديثه في هذا الباب كأنه قيده بترجمة الباب وبما علم من المعنى فيه ويدل على صحة هذا التأويل عن بن عمر ما ذكره عبد الرزاق قال أخبرنا بن جريج قال حدثني بن شهاب عن سالم أن بن عمر كان ينصت للإمام فيما جهر فيه الإمام بالقراءة في الصلاة لا يقرأ معه وهذا يدل على أنه كان يقرأ معه فيما أسر فيه وكل من روى عن نافع عن بن عمر من رواية مالك وغيره من الألفاظ المجملة في هذا الحديث فإنه يفسره ويقضي عليه حديث بن شهاب عن سالم هذا والله أعلم وأما حديثه في هذا الباب عن بن أكيمة الليثي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال هل قرأ معي منكم أحد آنفا فقال رجل نعم أنا يا رسول الله قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أقول ما لي أنازع القرآن فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقراءة حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ذكرنا بن أكيمة بما يجب من ذكره في التمهيد والاختلاف في اسمه كثير فقيل عمرو وقيل عامر وقيل عمارة وقيل عمر وقيل عمار وهو من بني ليث من أنفسهم يكنى أبا الوليد فيما ذكر الواقدي وقال توفي سنة إحدى ومائة وهو بن تسع وسبعين سنة روي عن بن شهاب يقال إنه لم يرو عنه غيره وأن الذي روى عنه محمد بن عمرو وهو بن أخيه لا هو والذي روى عنه محمد بن عمرو هو الذي

روى عنه مالك حديث أم سلمة إذا دخل العشر فأراد أحدكم أن يضحي الحديث والله أعلم قال بن شهاب كان بن أكيمة يحدث في مجلس سعيد بن المسيب فيصغي إلى حديثه وحسبك بهذا فخرا وثناء وأما قوله في هذا الحديث فانتهى الناس عن القراءة إلى آخر الحديث فأكثر رواة بن شهاب عنه لهذا الحديث يجعلونه كلام بن شهاب ومنهم من يجعله كلام أبي هريرة وقد أوضحنا ذلك كله في التمهيد وفقه هذا الحديث الذي من أجله جيء به هو ترك القراءة مع الإمام فيما جهر فيه الإمام بالقراءة فلا يجوز أن يقرأ معه إذا جهر لا بأم القرآن ولا بغيرها على ظاهر هذا الحديث وعمومه وهذا موضع اختلفت فيه الآثار عن النبي عليه السلام واختلف فيه العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين على ثلاثة أقوال أحدها يقرأ معه فيما أسر فيه ولا يقرأ معه فيما جهر والثاني لا يقرأ معه لا فيما أسر ولا فيما جهر والثالث يقرأ معه بأم القرآن خاصة فيما جهر وبأم القرآن وسورة فيما أسر فأما القول الأول فقال مالك الأمرعندنا أن يقرأ الرجل مع الإمام فيما لا يجهر فيه الإمام بالقراءة ويترك القراءة معه فيما يجهر فيه بالقراءة وهو قول سعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وسالم بن عبد الله بن عمر وبن شهاب وقتادة وبه قال عبد الله بن المبارك وأحمد وإسحاق وداود والطبري إلا أن أحمد بن حنبل قال إن سمع في صلاة الجهر لم يقرأ وإن لم يسمع قرأ ومن أصحاب داود من قال لا يقرأ فيما قرأ إمامه وجهر ومنهم من قال يقرأ وأوجبوا كلهم القراءة إذا أسر واختلف في هذه المسألة عن عمر وعلي وبن مسعود فروي عنهم أن المأموم لا يقرأ وراء الإمام لا فيما أسر ولا فيما جهر كقول الكوفيين وروي عنهم أنه يقرأ فيما أسر ولا يقرأ معه فيما جهر كقول مالك وهذا أحد قولي الشافعي كان يقوله بالعراق

وروي ذلك عن أبي بن كعب وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر والحجة لهذا القول وهو المختار عندنا قول الله تعالى وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا الأعراف وهذا عند أهل العلم عند سماع القرآن في الصلاة لا يختلفون أن هذا الخطاب نزل في هذا المعنى دون غيره ومعلوم أن هذا لا يكون إلا في صلاة الجهر لأن السر لا يستمع إليه وقد ذكرنا في التمهيد خبر أبي عياض عن أبي هريرة قال كانوا يتكلمون في الصلاة حتى نزلت هذه الآية وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا قال إبراهيم بن مسلم فقلت لأبي عياض لقد كنت أظن أنه لا ينبغي لأحد يسمع القرآن ألا يسمع قال لا إنما ذلك في الصلاة المكتوبة فأما في غير الصلاة فإن شئت استمعت وأنصت وإن شئت مضيت ولم تسمع وروى بن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة قال سمعت مجاهدا يقول ما رأيت أحدا بعد بن عباس أفقه من أبي عياض وروى حماد بن سلمة عن قتادة عن سعيد بن المسيب في قوله تعالى وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا قال في الصلاة وعن أبي العالية والشعبي وبن شهاب والنخعي ومجاهد والحسن البصري وعطاء وزيد بن أسلم مثله إلا أن مجاهدا زاد فقال في الصلاة والخطبة يوم الجمعة وهو قول قتادة والضحاك بن مزاحم وقد زدنا هذا المعنى بيانا بالأسانيد والأقوال في كتاب التمهيد وذكرنا فيه قول بن مسعود إذا كنت خلف الإمام فأنصت للقرآن وقوله أتقرءون خلف الإمام قالوا نعم قال لا تفقهون ما لكم لا تعقلون وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا وفي قوله أنصت للقرآن ونزوعه بقول الله وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا دليل على أنه أراد الجهر خاصة والله أعلم وإن كان الكوفيون يرون عنه ترك القراءة خلف الإمام في السر والجهر وفي إجماع أهل العلم على أن قوله تعالى وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لم يرد كل موضع يسمع فيه القرآن وإنما أراد الصلاة أوضح الدلائل على أنه لا يقرأ مع الإمام فيما جهر فيه

ويشهد لهذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإمام وإذا قرأ فأنصتوا وقد ذكرناه بالأسانيد والطرق في التمهيد من حديث أبي هريرة وأبي موسى الأشعري وقد صحح هذا اللفظ أحمد بن حنبل قال أبو بكر الأثرم قلت لأحمد بن حنبل من يقول عن النبي عليه السلام من وجه صحيح إذا قرأ فأنصتوا فقال حديث بن عجلان الذي يرويه أبو خالد الأحمر والحديث الذي رواه جرير عن التيمي وقد زعموا أن المعتمر رواه قلت نعم قد رواه المعتمر قال فأي شيء تريده فقد صحح أحمد هذين الحديثين قال أبو عمر فأين المذهب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وظاهر كتاب الله تعالى وقال أحمد بن حنبل من لم يسمع قراءة القرآن فجائز له أن يقرأ وقال في موضع آخر من لم يسمع فعليه أن يقرأ ولو بأم القرآن لأن المأمور بالإنصات والاستماع من سمع دون من لم يسمع وهو قول سعيد بن جبير وعطاء قال عطاء إذا لم يسمع فإن شاء سبح وإن شاء قرأ وقد قال بعض أصحاب مالك لا بأس أن يتكلم يوم الجمعة من لا يسمع الخطبة بما شاء من الخير وما به الحاجة إليه وأما مالك فكرة ذلك في الخطبة ولا يجيز القراءة للمأموم في صلاة الجهر سمع أو لم يسمع وقد ذكرنا هذه المسألة في موضعها من هذا الكتاب وقال آخرون لا يترك أحد من المؤمنين خلف إمامه فيما أسر وفيما جهر فيه القراءة لأن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب عام لا يخصه شيء وكذلك قوله كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج وممن قال هذا الشافعي بمصر وعليه أكثر أصحابه وهو قول الأوزاعي والليث بن سعد وبه قال أبو ثور

وهو قول عبادة بن الصامت وعبد الله بن عمرو وبن عباس واختلف فيه عن أبي هريرة وبه قال عروة بن الزبير وسعيد بن جبير ومكحول والحسن البصري وقد ذكرنا الأسانيد عنهم في التمهيد قال أبو عمر أما قوله كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج فهو حديث مالك وغيره عن العلاء بن عبد الرحمن وقد ذكرناه وأما قوله لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهو حديث بن شهاب عن محمود بن الربيع عن عبادة عن النبي عليه السلام رواه عن بن شهاب جماعة من أصحابه منهم معمر ويونس وعقيل وبن عيينة وشعيب وإبراهيم بن سعد وليس عند مالك عن بن شهاب من وجه صحيح عن مالك وتأول أصحاب الشافعي في قول الله تعالى وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا أنه مخصوص بحديث أبي هريرة وحديث عبادة كأنه قال استمعوا وأنصتوا بعد قراءة فاتحة الكتاب فإنه لا صلاة إلا بها وتأول أصحاب مالك أن الآية موقوفة على الجهر في صلاة الإمام دون السر وهو قول داود إلا أن داود يرى أن القراءة بفاتحة الكتاب فيما أسر فيه الإمام بالقراءة فرض وأصحاب مالك على الاستحباب في ذلك دون الإيجاب واختلف البويطي والمزني عن الشافعي في هذه المسألة فقال البويطي عن الشافعي يقرأ المأموم فيما أسر فيه الإمام بأم القرآن وسورة في الأوليين وبأم القرآن في الآخرتين وما جهر فيه الإمام لا يقرأ إلا بأم القرآن قال البويطي وكذلك يقول الليث والأوزاعي وروى المزني عن الشافعي أنه يقرأ فيما أسر وفيما جهر وهو قول أبي ثور وذكر الطبري عن العباس بن الوليد بن مزيد عن أبيه عن الأوزاعي قال يقرأ خلف الإمام فيما أسر وفيما جهر وقال إذا جهر فأنصت وإذا قرأ فاقرأ في سكتاته بين القراءتين حدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا أحمد بن زهير حدثنا هارون بن معروف حدثنا ضمرة عن الأوزاعي قال أخذت القراءة مع الإمام عن عبادة بن الصامت ومكحول

وحجة من ذهب هذا المذهب أنه لا تنوب قراءة أحد عن أحد كما لا ينوب الركوع عن السجود ومن جهة الأثر حديث محمد بن إسحاق عن مكحول عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغداة فثقلت عليه القراءة فلما انصرف قال إني لأراكم تقرؤون وراء الإمام قالوا نعم قال فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة إلا بها وفي حديث محمد بن أبي عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أتقرؤون وراء الإمام قالوا نعم قال فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب إلا أن حديث محمد بن أبي عائشة منقطع مرسل وحديث عبادة من رواية مكحول وغيره متصل مسند من رواية الثقات وهذه الأحاديث كلها مذكورة في التمهيد قال أبو عمر روى سمرة وأبو هريرة عن النبي عليه السلام أنه كانت له سكتات في صلاته حين يكبر ويفتتح الصلاة وحين يقرأ بفاتحة الكتاب وإذا فرغ من القراءة قبل الركوع قال أبو داود وكانوا يستحبون أن يسكت عند فراغه من السورة لئلا يتصل التكبير بالقراءة قال أبو عمر فذهب الحسن وقتادة وجماعة إلى أن الإمام يسكت سكتات على ما في هذه الآثار المذكورة ويتحين المأموم تلك السكتات من إمامه فيقرأ فيها بأم القرآن ويسكت فيها في سائر صلاة الجهر فيكون مستعملا للسنة والآية في ذلك وقال الأوزاعي والشافعي وأبو ثور حق على الإمام أن يسكت سكتة بعد التكبيرة الأولى وسكتة بعد فراغه بقراءة فاتحة الكتاب وبعد الفراغ بالقراءة ليقرأ من خلفه بفاتحة الكتاب

قالوا فإن لم يفعل الإمام فاقرأ معه بفاتحة الكتاب على كل حال وأما مالك فأنكر السكتات ولم يعرفها قال لا يقرأ أحد مع الإمام إذا جهر لا قبل القراءة ولا بعدها وقد ذكرنا علل حديث السكتتين وعلة حديث بن إسحاق في كتاب التمهيد وكذلك حديث محمد بن أبي عائشة وقال أبو حنيفة وأصحابه ليس على الإمام أن يسكت إذا كبر ولا إذا فرغ من قراءة أم القرآن ولا إذا فرغ من القراءة ولا يقرأ أحد خلف إمامه لا فيما أسر ولا فيما جهر وهو قول زيد بن ثابت وجابر بن عبد الله وروي ذلك عن علي وبن مسعود وبه قال الثوري وبن عيينة وبن أبي ليلى والحسن بن حي وهو قول جماعة من التابعين بالعراق وحجة من قال بهذا القول حديث جابر عن النبي عليه السلام أنه قال من كان له إمام فقراءته له قراءة وهذا الحديث رواه جابر الجعفي عن أبي الزبير عن جابر عن النبي عليه السلام وجابر الجعفي لا حجة فيما ينفرد به عند جماعة أهل العلم لسوء مذهبه وكان الثوري وشعبة يثنيان عليه بالحفظ وأما بن عيينة فكان يحمل عليه وروى يحيى بن سلام عن مالك عن وهب بن كيسان عن جابر عن النبي عليه السلام أنه قال كل ركعة لا يقرأ فيها بأم القرآن فلم تصل إلا وراء إمام وهو حديث لا يصح إلا موقوفا على جابر واحتجوا أيضا بحديث بن مسعود قال كانوا يقرؤون خلف النبي عليه السلام فقال خلطتم علي وهذا لا حجة فيه وإنما معناه في الجهر لأن التخليط لا يقع في صلاة السر ويبين ذلك حديث هذا الباب قوله عليه السلام مالي أنازع القرآن وهذا في الجهر على ما قدمنا

واحتجوا بحديث عمران بن حصين أن النبي عليه السلام صلى صلاة الظهر فلما قضى صلاته قال أيكم قرأ سبح اسم ربك الأعلى فقال بعضهم أنا فقال قد عرفت أن بعضكم خالجنيها وهذا الحديث رواه شعبة وجماعة عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن عمران بن حصين قال شعبة قلت لقتادة ألست تقول لسعيد بن المسيب أنصت للقرآن قال ذلك إذا جهر قلت فقد كرهه هنا قال لو كرهه نهى عنه وقال بعض القائلين بقول الكوفيين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب خاص به من صلى وحده أو كان إماما وكذلك فسره بن عيينة فأما من صلى وراء إمام فإن قراءته قراءة له واحتجوا بأن جمهور العلماء مجمعون على أن الإمام إذا لم يقرأ من خلفه لم تنفعهم قراءتهم فدل على أن قراءة الإمام التي تراعى وأن قراءته كما جاء في الحديث قراءة لمن خلفه ورووا عن عمر بن الخطاب أنه لم يقرأ في صلاة صلاها فأعاد بهم الصلاة ورووا عن علي بن أبي طالب أنه قال من قرأ خلف الإمام فقد أخطأ الفطرة وهذا لو صح احتمل أن يكون في صلاة الجهر لأنه حينئذ يخالف الكتاب والسنة فكيف وهو غير ثابت عن علي لما ذكرنا من رواية عبيد الله بن أبي رافع عنه خلافه وكذلك قول زيد بن ثابت من قرأ خلف الإمام فلا صلاة له منكر لا يصح عنه وقد أجمع العلماء على أن من قرأ خلف الإمام فصلاته تامة ولا إعادة عليه فدل على فساد ما روي عن زيد بن ثابت وكذلك الحديث المروي عن سعد بن أبي وقاص أنه قال وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام في فيه حجر حديث منقطع لا يصح ولا نقله ثقة

وقد تكلمنا على أحاديث هذا الباب في التمهيد وما أعلم في هذا الباب من الصحابة من صح عنه ما ذهب إليه الكوفيون فيه من غير اختلاف عنه إلا جابر بن عبد الله وحده فإن عبد الرزاق ذكر عن داود بن قيس عن عبد الله بن مقسم قال سألت جابر بن عبد الله أتقرأ خلف الإمام في الظهر والعصر قال لا وأما جملة اختلاف العلماء في حكم القراءة خلف الإمام فيما يسر فيه الإمام بالقراءة فإن الكوفيين ذهبوا إلى ما ذكرنا من كراهية القراءة خلفه فيما أسر وفيما جهر وهو قول أصحاب بن مسعود وإبراهيم النخعي وسفيان وأبي حنيفة وسائر أهل الكوفة وحجتهم ما وصفنا وقال فقهاء الحجاز والشام وأكثر البصريين القراءة مع الإمام فيما يسر فيه بالقراءة وهو قول مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود والطبري وحجتهم ما قدمنا ذكره في هذا الباب ثم اختلف هؤلاء في وجوب القراءة إذا أسر الإمام فتحصيل مذهب مالك عند أصحابه أن القراءة خلف الإمام فيما يسر فيه بالقراءة سنة ومن تركها فقد أساء ولا يفسد ذلك عليه صلاته وكذلك قال الطبري القراءة فيما أسر فيه الإمام سنة مؤكدة ولا تفسد صلاة من تركها وقد أساء وقد ذكر بن خواز بنداد أن القراءة خلف الإمام عند أصحاب مالك فيما أسر فيه الإمام بالقراءة مستحبة غير واجبة وكذلك قال الأبهري وإليه أشار إسماعيل بن إسحاق وذكره في الأحكام له قال حدثنا إبراهيم بن حمزة قال حدثنا عبد الله بن محمد عن أسامة بن زيد قال سألت القاسم بن محمد عن القراءة خلف الإمام فيما لم يجهر فيه فقال إن قرأت فلك في رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة وإن لم تقرأ فلك في رجال من أصحاب رسول الله أسوة قال وحدثنا القعنبي قال حدثنا سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد قال سمعت القاسم بن محمد يقول إني لأحب أن أشغل نفسي بالقراءة فيما لم يجهر فيه الإمام بالقراءة عن حديث النفس في الظهر والعصر والثالثة من المغرب والآخرتين من العشاء وقال الأوزاعي والشافعي وأبو ثور وأحمد وإسحاق وداود القراءة

خلف الإمام فيما أسر فيه واجبة ولا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة منها بفاتحة الكتاب أقل شيء إذا أسر الإمام القراءة لأن الإنصات إنما كان للجهر بالقراءة لقول الله تعالى وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا الأعراف ولقوله عليه السلام ما لي أنازع القرآن وقد ارتفعت هذه العلة في صلاة السر فوجب على كل مصل أن يقرأ لنفسه ولا تنوب عند واحد من هؤلاء قراءة الإمام عن قراءة المأموم كما لا ينوب عنه إحرامه ولا ركوعه ولا سجوده وقد تكرر هذا المعنى وتلخيص مذهب كل واحد من العلماء مجملا ومفسرا في هذا الباب قال أبو عمر للشافعي في هذه المسألة أربعة أقوال وقد ذكرناها في التمهيد باب ما جاء في التأمين خلف الإمام ذكر فيه عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن أنهما أخبراه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه قال بن شهاب وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول آمين وعن سمي مولى أبي بكر عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه وقد بان في حديث سمي هذا أن معنى التأمين قول الرجل آمين عند فراغه من

قراءة فاتحة الكتاب والدعاء على حسب اختلاف العلماء في ذلك على ما نورده هنا إن شاء الله وكذلك قول بن شهاب أيضا بان به أن قوله من وافق تأمينه تأمين الملائكة أراد بذلك قول آمين ومعنى آمين الاستجابة أي اللهم استجب لنا واسمع دعاءنا واهدنا سبيل من أنعمت عليه ورضيت عنه وقيل معناها أشهد لله وقيل معناها كذلك فعل الله وفيها لغتان المد والقصر قال الشاعر فقصر آمين فزاد الله ما بيننا بعدا وقال آخر فمد ويرحم الله عبدا قال آمينا وفي حديث بن شهاب هذا وهو أصح حديث يروى عن النبي عليه السلام في هذا الباب دليل على أن الإمام يجهر بآمين ويقولها من خلفه إذا قالها ولولا جهر الإمام بها ما قيل لهم إذا أمن الإمام فأمنوا قالوا ومن لا يجهر لا يسمع ولا يخاطب أحد بحكاية من لا يسمع قوله وقول بن شهاب وكان رسول الله يقول آمين تفسير لمعنى التأمين هذا كله معنى قول الشافعي وقد روى المدنيون مثل ذلك عن مالك

وفي هذا الحديث من الفقه قراءة أم القرآن في الصلاة ومعناه عندنا في كل ركعة لما قدمنا من الدلائل ومعلوم أن التأمين إنما وقع على قوله اهدنا الصراط المستقيم إلى آخر السورة ويدلك على ذلك قوله في حديث سمي إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين ولا خلاف أنه لا تأمين في الصلاة في غير هذا الموضع فسقط الكلام فيه وفي هذا الحديث أيضا دليل على أن الإمام أيضا يقول آمين لقوله عليه السلام إذا أمن الإمام فأمنوا ومعلوم أن قول المأموم هو آمين فكذلك يجب أن يكون قول الإمام وهذا موضع اختلف فيه العلماء فروى بن القاسم عن مالك أن الإمام لا يقول آمين وإنما يقول ذلك من خلفه دونه وهو قول بن القاسم والمصريين من أصحاب مالك وحجتهم حديث سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام قال إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين ومثله حديث أبي موسى الأشعري عن النبي عليه السلام ومثله حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقال من خلفه آمين فوافق ذلك قول أهل السماء آمين غفر له ما تقدم من ذنبه هذا لفظ حديث سنيد عن إسماعيل بن جعفر عن محمد بن عمر وفي هذا الحديث دليل على أن الإمام يقتصر على القراءة بإلى ولا الضالين وأن المأموم يقتصر على التأمين قالوا والدعاء يسمى تأمينا والتأمين دعاء احتجوا بقوله تعالى لموسى وهارون قد أجيبت دعوتكما يونس وإنما كان موسى الداعي وهارون يؤمن كذلك قال أهل العلم بتأويل القرآن فمعنى قوله عليه السلام إذا أمن الإمام فأمنوا أراد إذا قال الإمام اهدنا الصراط المستقيم إلى آخر السورة فأمنوا وقال جمهور أهل العلم يقول الإمام آمين كما يقولها المنفرد والمأموم

وهو قول مالك في رواية المدنيين عنه منهم بن الماجشون ومطرف وأبو مصعب وبن نافع وهو قولهم وبه قال أبو حنيفة والشافعي والثوري والأوزاعي وبن المبارك وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وداود والطبري وحجتهم أن ذلك ثابت عن النبي عليه السلام من حديث أبي هريرة وحديث وائل بن حجر وحديث بلال يا رسول الله لا تسبقني بآمين وقد ذكرنا الأسانيد بذلك كله عنهم في التمهيد وقال الكوفيون وبعض المدنيين لا يجهر بها وهو قول الطبري وقال الشافعي وأصحابه وأبو ثور وأحمد وأهل الحديث يجهر بها وكان أحمد بن حنبل يغلظ على من كره الجهر بها وذكر قول بن جريج قال قال لي عطاء كنت أسمع الأئمة يقولون على أثر أم القرآن آمين هم أنفسهم ومن وراءهم حتى إن للمسجد ضجة وأما قوله فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ففيه أقوال منها أنه يحتمل أن يكون أراد فمن أخلص في قوله آمين بنية صادقة وقلب خاشع ليس بساه ولا لاه فوافق الملائكة الذين هكذا دعاؤهم في السماء يستغفرون للذين آمنوا من أهل الأرض ويدعون لهم بنيات صادقة ليس عن قلوب غافلة لاهية غفر له إن شاء الله ما تقدم من ذنبه وقال آخرون إنما أراد بقوله فمن وافق قوله قول الملائكة وتأمينه تأمين الملائكة الحث على الدعاء للمؤمنين والمؤمنات في الصلاة فمن دعا للمؤمنين والمؤمنات في الصلاة فقد وافق قوله وفعله فعل الملائكة وقولهم في ذلك وقوله تعالى اهدنا الصراط المستقيم دعاء للداعي وأهل دينه ويقع التأمين على ذلك فلذلك ندبوا إليه والله أعلم وقال آخرون الملائكة من الحفظة الكاتبين والملائكة المتعاقبون في صلاة الفجر وصلاة العصر يشهدون الصلاة مع المؤمنين فيؤمنون عند قول القارئ ولا الضالين فمن فعل مثل فعلهم غفر له إن شاء الله

وقد تكلمنا على حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام قال إذا قال أحدكم آمين وقالت الملائكة في السماء آمين فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه في كتاب التمهيد والظاهر في هذا الحديث أن الملائكة المؤمنين على دعاء القارئ ملائكة السماء لما رواه بن جريج عن الحكم بن أبان عن عكرمة قال إذا أقيمت الصلاة فصف أهل الأرض صف أهل السماء فإذا قال أهل الأرض ولا الضالين قالت الملائكة آمين فوافق تأمين أهل الأرض تأمين أهل السماء غفر لأهل الأرض ما تقدم من ذنوبهم وروى بن المبارك قال حدثنا عاصم الأحول عن حفصة بنت سيرين عن عبد الله بن مسعود قال إذا قرأ غير المغضوب عليهم ولا الضالين ووصل بآمين فإذا وافق تأمينه تأمين الملائكة استجيب الدعاء وذكر سنيد عن عيسى بن يونس أنه حدثه عن أبيه عن بكر بن ماعز قال سمعت الربيع بن خثيم يقول إذا قرأ الإمام ولا الضالين فاستعن من الدعاء بما أحببت والقول في حديث سمي مولى أبي بكر عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا لك الحمد فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه نحو القول في حديث التأمين وقد مضى القول في سائره فيما مضى من هذا الكتاب والحمد لله باب العمل في الجلوس في الصلاة مالك عن مسلم بن أبي مريم عن علي بن عبد الرحمن المعاوي

أنه قال رآني عبد الله بن عمر وأنا أعبث بالحصباء في الصلاة فلما انصرفت نهاني وقال اصنع كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع فقلت وكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع قال كان إذا جلس في الصلاة وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى وقبض أصابعه كلها وأشار بأصبعه التي تلي الإبهام ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى وقال هكذا كان يفعل المعاوي منسوب إلى بني معاوية في الأنصار وفي هذا الحديث النهي عن اللعب بالحصباء والعبث بها في الصلاة وهو أمر مجتمع عليه وكذلك غير الحصباء ولا يجوز العبث بشيء من الأشياء في الصلاة وإنما منع بن عمر من أمره المعاوي بالإعادة للصلاة التي يعبث فيها بالحصباء لأن ذلك والله أعلم كان منه يسيرا لم يشغله عن صلاته ولا عن إقامة شيء من حدودها والعمل اليسير في الصلاة لا يفسدها وقد جاء في حديث أبي ذر مسح الحصباء مرة واحدة وتركها خير من حمر النعم وقد روي ذلك مرفوعا إلى النبي عليه السلام من حديث أبي ذر وحديث حذيفة وحديث معيقيب الدوسي وفيه في هذا الحديث دليل على أن لليدين عملا في الصلاة تشغلان به فيها وذلك ما وصف بن عمر في الجلوس وهيئته وأما القيام فالسنة أن يضع كفه اليمنى على كوع اليسرى

وقد قال بن عمر اليدان تسجدان كما يسجد الوجه وقد قيل إن المقصود له في وضع اليدين حيث وصفنا في القيام والجلوس تسكينهما لأن إرسالهما لا يؤمن العبث معه وما وصف بن عمر من وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى وقبض أصابع يده تلك كلها إلا السبابة منها فإنه يشير بها ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى مفتوحة مفروجة الأصابع كل ذلك سنة في الجلوس في الصلاة مجتمع عليها لا خلاف علمته بين العلماء فيها وحسبك بهذا إلا أنهم اختلفوا في تحريك أصبعه السبابة فمنهم من رأى تحريكها ومنهم من لم يره وكل ذلك مروي في الآثار الصحاح المسندة عن النبي عليه السلام وجميعه مباح والحمد لله وروى بن عيينة هذا الحديث عن مسلم بن أبي مريم قال أخبرني علي بن عبد الرحمن المعاوي قال صليت إلى عبد الله بن عمر فقلبت الحصباء فلما فرغ من صلاته قال لا تقلب الحصى فإن تقليب الحصى من الشيطان افعل كما كان رسول الله يفعل فوضع يده اليمنى على فخذه اليمنى فضم أصابعه الثلاث ونصب السبابة ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى قال سفيان وكان يحيى بن سعيد حدثناه عن مسلم ثم لقيته فسمعته منه وزادني فيه قال هي مذبة الشيطان لا يسهو أحدكم ما دام يشير بأصبعه ويقول هكذا وقد ذكرنا الإسناد إلى بن عيينة في التمهيد وأما حديثه عن عبد الله بن دينار أنه سمع عبد الله بن عمر وصلى إلى جنبه رجل فلما جلس الرجل في أربع تربع وثنى رجليه فلما انصرف عبد الله عاب ذلك عليه فقال الرجل فإنك تفعل ذلك فقال عبد الله بن عمر فإني أشتكي ففيه دليل على أن من لم يقدر على الإتيان بسنة الصلاة أو فريضتها جاء بما

يقدر عليه مما لا يباينها والله لا يكلف نفسا إلا وسعها وفيه أن التربع لا يجوز للجالس في صلاته من الرجال إذا كانوا أصحاء واختلف فيه للنساء ودليل ذلك أن بن عمر نهى عن ذلك ابنه عبد الله وقال له سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى وتثني رجلك اليسرى فقال له إنك تفعل ذلك وكان يتربع في الصلاة إذا جلس فقال بن عمر إن رجلي لا تحملاني وذكر عن يحيى بن سعيد أن القاسم بن محمد أراهم الجلوس في التشهد فنصب رجله اليمنى وثنى رجله اليسرى وجلس على وركه الأيسر ولم يجلس على قدمه ثم قال أراني هذا عبد الله بن عبد الله بن عمر وحدثني أن أباه كان يفعل ذلك فهذا كله مذهب مالك وأصحابه في الجلوس للتشهدين جميعا في الصلاة وقد اختلف الفقهاء في ذلك فجملة قول مالك أن المصلي يفضي بأليته إلى الأرض وينصب رجله اليمنى ويثني رجله اليسرى وجلوس المرأة عنده كجلوس الرجل سواء وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن حي ينصب اليمنى ويقعد على اليسرى وكذلك قال الشافعي في الجلسة الوسطى وقال في الجلسة الآخرة من الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء إذا قعد في الرابعة أماط رجليه جميعا فأخرجهما من وركه الأيمن وأفضى بمقعدته إلى الأرض وأضجع اليسرى ونصب اليمنى وكذلك القعدة عنده في الثالثة من المغرب و في صلاة الصبح وقال بن حنبل كما قال الشافعي سواء إلا في الجلسة في الصبح

وقال الطبري إن فعل هذا فحسن وإن فعل هذا فحسن كل ذلك قد ثبت عن النبي عليه السلام قال أبو عمر قد ذكرنا الأحاديث بذلك كله في التمهيد فالكوفيون يذهبون إلى حديث وائل بن حجر وما كان مثله والشافعي يذهب في الجلسة الآخرة إلى حديث أبي حميد الساعدي ومالك يذهب إلى ما رواه في موطئه وكل ذلك حسن وأما جلوس المرأة فقد ذكرنا عن مالك أن المرأة والرجل في الجلوس في الصلاة سواء لا يخالفها فيما بعد الإحرام إلا في اللباس والجهر وقال الثوري تسدل المرأة رجليها من جانب واحد ورواه عن إبراهيم النخعي وقال الشعبي تقعد كيف تيسر لها وقال الشافعي تجلس المرأة بأستر ما يكون لها وقال أبو حنيفة وأصحابه تجلس المرأة كأيسر ما يكون لها وأما حديث مالك عن صدقة بن يسار عن المغيرة بن حكيم أنه رأى بن عمر يرجع في سجدتين في الصلاة على صدور قدميه فلما انصرف ذكر ذلك له فقال له إنها ليست سنة الصلاة وإنما أفعل هذا من أجل أني أشتكي ففيه أن بن عمر قال في انصراف المصلي بين السجدتين على صدور قدميه إنها ليست سنة الصلاة والسنة إذا أطلقت فهي سنة رسول الله حتى تضاف إلى غيره كما قيل سنة العمرين ونحو هذا وهذا الذي يعني بن عمر أن تكون سنة الصلاة هو الإقعاء المنهي عنه عند جماعة العلماء ومن جعل الإقعاء انصراف المصلي بين السجدتين على صدور قدميه من العلماء فليس بسنة لأن النبي عليه السلام نهى أن يقعي الرجل في صلاته كما يقعي الكلب

وقد روي عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي عن النبي عليه السلام قال لا تقعين على عقبيك في الصلاة وهذا غير صحيح لأن الحارث لم يسمع منه أبو إسحاق غير أربعة أحاديث وليس هذا منها وقد تكلم في الحارث الشعبي وغيره وثقه آخرون وعن أبي هريرة أنه كره الإقعاء وعن قتادة مثله وكره الإقعاء في الصلاة مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم وبه قال أحمد وإسحاق وأبو عبيد إلا أن أبا عبيد قال الإقعاء جلوس الرجل على أليته ناصبا فخذيه مثل إقعاء الكلب والسبع وهذا إقعاء مجتمع عليه لا يختلف العلماء فيه وهو تفسير أهل اللغة وطائفة من أهل الفقه قال أبو عبيد وأما أهل الحديث فإنهم يجعلون الإقعاء أن يجعل أليته على عقبيه بين السجدتين قال أبو عمر قد ذكرنا من قال ذلك أيضا من الفقهاء وأما الذين أجازوا رجوع المصلي على عقبيه وجلوسه على صدور قدميه بين السجدتين فجماعة قال طاوس رأيت العبادلة يقعون بن الزبير وبن عباس وبن عمر وكذلك روى الأعمش عن عطية العوفي قال رأيت العبادلة يقعون في الصلاة بن عباس وبن عمر وبن الزبير قال أبو عمر أما بن عمر فقد ثبت عنه من وجوه نقلها مالك في موطئه أنه لم يفعل ذلك إلا أنه اشتكى وأن رجليه كانتا لا تحملانه وقد قال إن ذلك ليست سنة الصلاة وكفى هذا فهو يخرج في المسند ومعلوم عند أهل السير والعلم بالأخبار أن يهود خيبر فدعوا يديه ورجليه فلم

تعد كما كانت فكان يشتكي من أجل ذلك وكانت رجلاه لا تحملانه فكان يتربع وقال حبيب بن أبي ثابت إن بن عمر كان يقعي بعد ما كبر وأما بن عباس فذكر عبد الرزاق عن معمر عن بن طاوس عن أبيه أنه رأى بن عمر وبن عباس وبن الزبير يقعون بين السجدتين وذكر أبو داود قال حدثنا يحيى بن معين قال حدثنا حجاج بن محمد عن بن جريج قال أخبرني أبو الزبير أنه سمع طاوسا يقول قلنا لابن عباس الإقعاء على القدمين في السجود قال هي السنة قال قلنا إنا لنراه جفاء بالرجل فقال بن عباس هي سنة نبيك عليه السلام وقال إبراهيم بن ميسرة عن طاوس قال سمعت بن عباس يقول من السنة أن تمس عقبيك أليتك فهذا بن عباس يثبت هذا المعنى سنة وهو الذي نفاه بن عمر عن السنة والمثبت أولى من النافي من جهة النظر ومن جهة الأثر أيضا لأن الحديث المسند إنما فيه أن يقعي الرجل كما يقعي الكلب والكلب إنما يقعد على أليته ورجلاه من كل ناحية قال أبو عبيدة معمر بن المثنى هذا هو الإقعاء عند العرب وقد ذكرنا في التمهيد حديث أنس أن النبي عليه السلام قال له يا بني إذا سجدت فأمكن كفيك وجبهتك من الأرض ولا تنقر نقر الديك ولا تقع إقعاء الكلب ولا تلتفت التفات الثعلب فالذي فسر به الإقعاء معمر بن المثنى أولى عندي والله أعلم يقال أقعى الكلب ولا يقال قعد وقعوده إقعاؤه ويقال إنه ليس شيء يكون إذا قام أقصر منه إذا قعد إلا الكلب إذا أقعى فمن انصرف بين السجدتين على هذا الحال وقعد في صلاته على هذه السبيل فهو الإقعاء المنهي عنه المجتمع عليه وذلك أن يقعد على أليته وينصب رجليه من الجانبين فمن فعل هذا فقد فعل ما لا يجوز عند أحد من العلماء ومن أوجب الإعادة على فاعل هذا لم يخرج لأن فعله طابق النهي ففسد والله أعلم

ومن لم ير على فاعل ذلك إعادة فلأنها هيئة عمل قد حصل معها الجلوس وهيئة العمل لا يعدم معها العمل وبالله التوفيق باب التشهد في الصلاة ذكر مالك في التشهد عن عمر وبن عمر وعائشة وليس عنده منها شيء مرفوع إلى النبي عليه السلام وإن كان غيره قد دفع ذلك ومعلوم أنه لا يقال بالرأي ولو كان رأيا لم يكن ذلك القول من الذكر أولى من غيره من سائر الذكر والله أعلم ولما علم مالك أن التشهد لا يكون إلا توقيفا عن النبي عليه السلام اختار تشهد عمر لأنه كان يعلمه للناس وهو على المنبر من غير نكير عليه من أحد من الصحابة وكانوا متوافرين في زمان وأنه كان يعلم ذلك من لم يعلمه من التابعين وسائر من حضره من الداخلين في الدين ولم يأت عن أحد حضره من الصحابة أنه قال ليس كما وصفت وفي تسليمهم له ذلك مع اختلاف رواياتهم عن النبي عليه السلام في ذلك دليل على الإباحة والتوسعة فيما جاء عنه من ذلك عليه السلام مع أنه متقارب كله

قريب المعنى بعضه من بعض إنما فيه كلمة زائدة في ذلك المعنى أو ناقصة فتشهد عمر كما حكاه مالك عن بن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القارئ أنه سمع عمر بن الخطاب وهو على المنبر يعلم الناس التشهد يقول قولوا التحيات لله الزاكيات لله الطيبات الصلوات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ويتشهد عمر هذا قال مالك وأصحابه ومعنى التحية الملك وقيل التحية العظمة لله والصلوات هي الخمس والطيبات الأعمال الزكية وتشهد بن مسعود ثابت أيضا من جهة النقل عند جميع أهل الحديث مرفوع إلى النبي عليه السلام وهو التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وبه قال الثوري والكوفيون وأكثر أهل الحديث وكان أحمد بن خالد بالأندلس يختاره ويميل إليه ويتشهد به

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور أحب التشهد إلينا تشهد بن مسعود الذي رواه عن النبي عليه السلام وهو قول أحمد وإسحاق وداود وأما الشافعي وأصحابه والليث بن سعد فذهبوا إلى تشهد بن عباس الذي رواه عن النبي عليه السلام قال الشافعي هو أحب التشهد إلي رواه الليث بن سعد عن أبي الزبير عن سعيد بن جبير وطاوس عن بن عباس قال كان رسول الله يعلمنا التشهد كما يعلمنا القرآن فكان يقول التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وروي عن أبي موسى الأشعري مرفوعا وموقوفا نحو تشهد بن مسعود وروي عن علي أكمل من هذه الروايات كلها وفي الموطإ عن بن عمر وعائشة ما قد علمت واختيار العلماء من ذلك ما ذكرت لك وكل حسن إن شاء الله والذي أقول به وبالله التوفيق أن الاختلاف في التشهد وفي الأذان والإقامة وعدد التكبير على الجنائز وما يقرأ ويدعى به فيها وعدد التكبير في العيدين ورفع الأيدي في ركوع الصلاة وفي التكبير على الجنائز وفي السلام من الصلاة واحدة أو اثنتين وفي وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة وسدل اليدين وفي القنوت وتركه وما كان مثل هذا كله اختلاف في مباح كالوضوء واحدة واثنتين وثلاثا إلا أن فقهاء الحجاز والعراق الذين تدور عليهم وعلى أتباعهم الفتوى يتشددون في الزيادة على أربع تكبيرات على الجنائز ويأبون من ذلك وهذا لا وجه له لأن السلف كبر سبعا وثمانيا وستا وخمسا وأربعا وثلاثا وقال بن مسعود كبر ما كبر إمامك وبه قال أحمد بن حنبل وهم أيضا يقولون إن الثلاث في الوضوء أفضل من الواحدة السابغة وكل ما وصفت لك قد نقلته الكافة من الخلف عن السلف ونقله التابعون

بإحسان عن السابقين نقلا لا يدخله غلط ولا نسيان لأنها أشياء ظاهرة معمول بها في بلدان الإسلام زمنا بعد زمن لا يختلف في ذلك علماؤهم وعوامهم من عهد نبيهم صلى الله عليه وسلم وهلم جرا فدل على أنه مباح كله إباحة توسعة ورحمة والحمد لله واختلف الفقهاء في وجوب التشهد وفي حكم صلاة من لم يتشهد فقال مالك من نسي التشهد رجع إليه فعمله إن كان قريبا ولم يتباعد ولم ينتقض وضوءه ثم سجد لسهوه بعد السلام وإن تباعد أو انتقض وضوءه فأرجو أن تجزيه صلاته قال وليس كل أحد يعرف التشهد فإذا ذكر الله أجزأ عنه ورواه بن وهب وغيره عن مالك وقال الأوزاعي من نسي التشهد سجد للسهو أربع سجدات لأن مذهبه أن لكل سهو سجدتين وقال الثوري لا يسجد إلا سجدتين في السهو عن التشهدين وكذلك من سها مرارا وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة في سجدتي السهو أنهما للسهو كله وقال أبو حنيفة وأصحابه إن قعد مقدار التشهد ولم يتشهد تمت صلاته وإن لم يقعد مقدار التشهد فسدت صلاته وقال الشافعي من ترك التشهد الآخر ساهيا أو عامدا فعليه إعادة الصلاة إلا أن يكون الساهي قريبا فيعود إلى تمام صلاته ويتشهد ويصلي على النبي عليه السلام في آخر صلاته عن التشهد قبله ولا يغني عنه ما كان قبله من التشهد قال أبو عمر لا أعلم أحدا أوجب الصلاة على النبي عليه السلام فرضا في التشهد الآخر إلا الشافعي ومن سلك سبيله وسنذكر ذلك في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله وقال أبو ثور من لم يتشهد في الركعة الثانية والرابعة فلا صلاة له إن كان ترك ذلك عامدا وإن كان ساهيا فترك تشهد الركعة الثانية سجد سجدتي السهو قبل التسليم وإن كان في الرابعة استقبل القبلة وتشهد وسلم وسجد سجدتي السهو بعد التسليم وقال أبو مصعب الزهري من ترك التشهد بطلت صلاته وروى ذلك أبو مصعب عن أهل المدينة منهم مالك وغيره وروي عن جماعة من السلف المتقدمين منهم علي وطائفة من التابعين من رفع

رأسه من آخر سجده في الركعة الرابعة فقد تمت صلاته وقال أحمد بن حنبل إن ترك الجلوس والتشهد في الرابعة بطلت صلاته وقال الزهري وقتادة وحماد صلاته تامة والحجة لمالك ومن رأى أن سجود السهو ينوب عن التشهد لمن سها عنه حديث بن بحينة في القيام من اثنتين والسجود في ذلك فإذا ناب له السجود عن الجلسة الوسطى والتشهد فأحرى أن ينوب له عن التشهد إذا جلس ولم يتشهد ساهيا عنه ومعلوم أن الفرض في الصلاة لا ينوب عنه سجود السهو دون الإتيان به وقد أجمعوا أن من ترك الجلسة الوسطى عامدا أن صلاته فاسدة وعليه الإعادة ومن أفسد الصلاة بترك التشهد الآخر فإنه جعله من البيان لمجملات الصلاة التي هي فروض كلها في عمل البدن إلا الجلسة الوسطى فإنها مخصوصة بالسنة لحديث بن بحينة والمغيرة بن شعبة وللكلام في هذه المسألة لكل فرقة موضع غير هذا وقد أتينا منه في التمهيد بما فيه كفاية والحمد لله وقد روي عن عمر أنه قال من لم يتشهد فلا صلاة له وقال نافع مولى بن عمر من لم يتكلم بالتحية فلا صلاة له

ومن حجة الشافعي أيضا ومن وافقه ما رواه سفيان بن عيينة عن الأعمش ومنصور عن أبي وائل عن بن مسعود قال كنا نقول قبل أن يفرض التشهد السلام على الله السلام على جبريل فذكر حديث التشهد قال أبو عمر لم يقل أحد في حديث بن مسعود هذا بهذا الإسناد ولا بغيره قبل أن يفرض التشهد والله أعلم حدثنا عبد الله حدثنا حمزة حدثنا أحمد بن شعيب قال حدثنا سعيد بن عبد الرحمن بن عبد الله المخزومي قال حدثنا سفيان فذكره وحجة أبي حنيفة أيضا أن الذكر كله في الصلاة فيما عدا القراءة في الأوليين سنة واستحباب عنده وعمل البدن فيها فرض فإذا قعد مقدار التشهد فيها فقد أتى بالفرض فيها وسجد للسهو لسقوط الفريضة فيها وسجد للسهو لسقوط التشهد وإخفاء التشهد سنة عند جميعهم والإعلان به جهل وبدعة وأما ما حكاه عن بن شهاب ونافع فيمن دخل مع الإمام وقد سبقه بركعة أنه يتشهد معه في الركعتين والأربع وإن كان ذلك له وترا قال مالك وهو الأمر عندنا ولا أعلم في ذلك خلافا وكل من حفظت قوله لا يوجبون عليه التشهد آخر صلاته في الركعة التي يقضيها أو فيما يقضي على حسب ما ذكرنا من أصولهم في إيجاب فرضا وإيجابه سنة قال أبو عمر هذا موضع ذكر السلام لأنه لا باب له في الموطإ ولا أورد فيه مالك أثرا مرفوعا وقد اختلف العلماء قديما وحديثا في كيفية السلام من الصلاة هل هو واحدة أو اثنتان واختلفت الآثار في ذلك أيضا واختلف الفقهاء أئمة الفتوى هل السلام من فروض الصلاة أو من سننها ونحن نذكر ها هنا ما بلغنا عنهم في ذلك مختصرا موعبا بفضل الله وعونه لا شريك له قال مالك وأصحابه والليث بن سعد يسلم المصلي من صلاته نافلة كانت أو فريضة تسليمة واحدة السلام عليكم ولا يقول ورحمة الله

قال بن وهب عن مالك يسلم تلقاء وجهه السلام عليكم قال أشهب عن مالك إنه سئل عن تسليم المصلي وحده فقال يسلم واحدة عن يمينه فقيل وعن يساره فقال ما كانوا يسلمون إلا واحدة قال وإنما حدثت التسليمتان في زمن بني هاشم قال مالك والمأموم يسلم تسليمة عن يمينه وأخرى عن يساره ثم يرد على الإمام وقال بن القاسم عن مالك من صلى لنفسه سلم عن يمينه وعن يساره قال وأما الإمام فيسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه ويتيامن بها قليلا قال أبو عمر فتحصيل رواية بن القاسم هذه عن مالك في ذلك إن الإمام يسلم واحدة تلقاء وجهه ويتيامن بها قليلا وأن المصلي لنفسه يسلم اثنتين و في غير رواية بن القاسم أن المأموم يسلم ثلاثة إن كان عن يساره أحد واختلف قوله في موضع رد المأموم على الإمام فمرة قال يسلم عن يمينه وعن يساره ثم يرد على الإمام ومرة قال يرد على الإمام بعد أن يسلم عن يمينه ثم يسلم عن يساره وقد روى أهل المدينة عن مالك وبعض المصريين أن الإمام والمنفرد سواء يسلم كل واحد منهما تسليمة واحدة تلقاء وجهه ويتيامن بها قليلا ولم يختلف قول مالك أن المسبوق لا يقوم إلى القضاء حتى يفرغ الإمام من التسليمتين إذا كان ممن يسلم التسليمتين وأما الليث بن سعد فقال أدركت الأئمة والناس يسلمون تسليمة واحدة السلام عليكم وكان الليث يبدأ بالرد على الأمام ثم يسلم عن يمينه وعن يساره وقال الليث في المسبوق ببعض الصلاة لا أرى بأسا أن يقوم بعد التسليمة الأولى قال أبو عمر روي أن النبي عليه السلام كان يسلم تسليمة واحدة من حديث سعد بن أبي وقاص ومن حديث عائشة ومن حديث أنس إلا أنها معلولة لا يصححها أهل العلم بالحديث لأن حديث سعد أخطأ فيه الدراوردي فرواه على غير ما رواه الناس تسليمة واحدة وغيره يروي فيه تسليمتين وهو حديث رواه الدراوردي عبد العزيز بن محمد عن مصعب بن ثابت عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن

أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلم في الصلاة تسليمة واحدة وهذا وهم عندهم وغلط وإنما الحديث كما رواه بن المبارك وغيره عن مصعب بن ثابت عن إسماعيل بن محمد بن سعد عن عامر بن سعد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه ويساره وقد روي هذا الحديث عن سعد من غير طريق مصعب بن ثابت حدثنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا جعفر بن محمد الصايغ قال حدثنا سليمان بن داود الهاشمي قال حدثنا إبراهيم بن سعد قال حدثنا عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة الزهري عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه ويساره السلام عليكم ورحمة الله وحدثنا سعيد بن نصر حدثنا قاسم حدثنا بن وضاح حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا محمد بن بشير العبدي حدثنا محمد بن عمرو عن مصعب بن ثابت عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن سعد قال كان رسول الله يسلم عن يمينه وعن يساره حتى يرى بياض خده وكل هؤلاء قد اتفقوا على خلاف لفظ الدراوردي في هذا الحديث وذكر الحسن بن علي الحلواني قال حدثنا يحيى بن آدم قال حدثنا بن المبارك عن مصعب بن ثابت عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن عامر بن سعد عن أبيه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه وعن شماله كأني أنظر إلى صفحة خده فقال الزهري ما سمعنا هذا من حديث رسول الله فقال له إسماعيل بن محمد أكل حديث رسول الله قد سمعته قال لا

قال فنصفه قال لا قال فاجعل هذا في النصف الذي لم تسمع وأما حديث عائشة عن النبي عليه السلام أنه كان يسلم تسليمة واحدة فلم يرفعه أحد إلا زهير بن محمد وحده عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي عليه السلام ورواه عنه عمرو بن أبي سلمة وغيره وزهير بن محمد ضعيف عند الجميع كثير الخطإ لا يحتج به وذكر يحيى بن معين هذا الحديث فقال عمرو بن أبي سلمة وزهير بن محمد ضعيفان لا حجة فيهما وأما حديث أنس فلم يأت إلا من طريق أيوب السختياني عن أنس ولم يسمع أيوب من أنس عندهم شيئا قال أبو عمر قد روي من مرسل الحسين أن النبي عليه السلام وأبا بكر وعمر كانوا يسلمون تسليمة واحدة ذكره وكيع عن الربيع عن الحسن وروي عن عثمان وعلي وبن عمر وبن أبي أوفى وأنس وأبي وائل شقيق بن سلمة ويحيى بن وثاب وعمر بن عبد العزيز والحسن وبن سيرين وأبي العالية وأبي رجاء وسويد بن غفلة وقيس بن أبي حازم وبن أبي ليلى وسعيد بن جبير أنهم كانوا يسلمون تسليمة واحدة وقد اختلف عن أكثرهم فروي عنهما التسليمتان كما رويت الواحدة والعمل المشهور بالمدينة التسليمة الواحدة وهو عمل قد توارثه أهل المدينة كابرا عن كابر ومثله يصح فيه الاحتجاج بالعمل في كل بلد لأنه لا يخفى لوقوعه في كل يوم مرارا وكذلك العمل بالكوفة وغيرها مستفيض عندهم بالتسليمتين متوارث عندهم أيضا وكل ما جرى هذا المجرى فهو اختلاف في المباح كالأذان ولذلك لا يروى عن عالم بالحجاز ولا بالعراق ولا بالشام ولا بمصر إنكار التسليمة الواحدة ولا إنكار التسليمتين بل ذلك عندهم معروف وإن كان اختيار بعضهم فيه التسليمة الواحدة وبعضهم التسليمتين على حسب ما غلب على البلد من

عمل أهله إلا أن الأعم والأكثر بالمدينة التسليمة الواحدة والأكثر والأشهر بالعراق التسليمتان السلام عليكم ورحمة الله على اليمين السلام عليكم ورحمة الله على اليسار وقال الثوري إذا كنت إماما فسلم عن يمينك وعن يسارك السلام عليكم ورحمة الله وإذا كنت غير إمام فإذا سلم الإمام فسلم عن يمينك وعن يسارك تنوي به الإمام والملائكة ومن معك من المسلمين وقال الشافعي نأمر كل مصل أن يسلم عن يمينه وعن يساره إماما كان أو منفردا أو مأموما ويقول في كل واحدة منهما السلام عليكم ورحمة الله وينوي بالأولى من عن يمينه وبالثانية من عن يساره وينوي الإمام بالتسليمة التي إلى ناحيته في اليمين أو في اليسار قال ولو لم ينو المصلي بسلامه أحدا ونوى الخروج من الصلاة أجزأه ولا شيء عليه قال ولو اقتصر على التسليمة الواحدة لم تكن عليه إعادة وقال أبو حنيفة وأصحابه يسلم الإمام والمأموم والمنفرد تسليمتين عن يمينه ثم عن يساره ويقول لكل واحد منهما السلام عليكم ورحمة الله وقال أبو حنيفة وأصحابه يسلم الإمام والمأموم والمنفرد تسليمتين عن يمينه ثم عن يساره ويقول لكل واحد منهما السلام عليكم ورحمة الله وهو قول الثوري والأوزاعي والشافعي والحسن بن الصالح بن حي وأحمد بن حنبل وأبي ثور وأبي عبيد وداود والطبري إلا أن أصحاب الظاهر اختلفوا في وجوبها هل تجب التسليمتان جميعا أو الواحدة منهما على ظاهر قوله تحليلها التسليم وقال الكوفيون أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي السلام ليس بفرض قالوا ويخرج من الصلاة بما شاء من الكلام وغيره وهو قول النخعي وقال مالك والليث والحسن بن صالح بن حي والشافعي السلام فرض وتركه يفسد الصلاة إلا أن الحسن بن حي أوجب التسليمتين معا

وقال أبو جعفر الطحاوي لم يجد عند أحد من أهل العلم الذين ذهبوا إلى التسليمتين أن الثانية من فرائضها غيره قال أبو عمر من حجة الحسن بن صالح في إيجابه التسليمتين جميعا وقوله إن من أحدث بعد الأولى وقبل الثانية فسدت صلاته قوله عليه السلام تحليلها التسليم ثم بين كيف التسليم من حجة من أوجب التسليمة الواحدة دون الثانية وقال يخرج بالأولى من صلاته وجعل الثانية سنة قوله عليه السلام تحليلها التسليم قالوا والواحدة يقع عليها اسم تسليم وممن احتج بهذا الشافعي وطائفة من أهل الظاهر قال أبو عمر روي عن النبي عليه السلام أنه كان يسلم تسليمتين من وجوه كثيرة منها حديث بن مسعود وهو أكثرها تواترا ومنها حديث وائل بن حجر وحديث عمار وحديث البراء بن عازب وحديث بن عمر وحديث سعد وقد تقدم ذكره فأما حديث بن مسعود فرواه علقمة والأسود وأبو الأحوص وزر بن حبيش ذكرها كلها أبو بكر بن أبي شيبة وعبد الرزاق وغيرهما حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث قالا حدثنا قاسم قال حدثنا جعفر بن محمد بن شاكر بن الصايغ قال حدثنا محمد بن سابق قال حدثنا إسرائيل عن أبى إسحاق عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه وعلقمة عن عبد الله قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في كل ركوع وسجود ورفع ووضع وأبو بكر وعمر وعثمان يسلمون عن أيمانهم وعن شمائلهم السلام عليكم ورحمة الله وهكذا رواه زهير عن أبي إسحاق وحديث البراء رواه وكيع عن حريث عن الشعبي عن البراء

وحديث وائل بن حجر رواه شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن عبد الرحمن بن اليحصبي عن وائل بن حجر ورواه سلمة بن كهيل عن حجر بن عنبس عن وائل بن حجر وحديث عمار رواه أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن صلة بن زفر عن عمار وحديث بن عمر رواه عمرو بن يحيى المازني عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان قال قلت لابن عمر حدثني عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كانت فذكر التكبير كلما رفع رأسه وكلما وضعه وذكر السلام عليكم ورحمة الله عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله عن يساره رواه بن جريج وسليمان بن بلال وعبد العزيز بن محمد الدراوردي كلهم عن عمرو بن يحيى المازني وهو إسناد مدني صحيح وكذلك حديث سعد أيضا وقد تقدم وسائر أسانيد هذه الآثار مذكورة في غير هذا الموضع قال أبو عمر ورويت التسليمتان عن علي وبن مسعود من وجوه صحاح ذكرها أبو بكر بن أبي شيبة وغيره وعن علقمة بن أبي قيس وخيثمة بن عبد الرحمن وأبى وائل وشقيق بن سلمة وإبراهيم النخعي وأبي عبد الرحمن السلمي ومسروق بن الأجدع وعبد الرحمن بن أبي ليلى وعمرو بن ميمون وعطاء وغيرهم وذكر أبو بكر قال حدثني يزيد بن هارون عن أشعث عن الشعبي أن عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص كانا يسلمان تسليمتين والقول في ذلك على ما تقدم ذكره من الإباحة باب ما يفعل من رفع رأسه قبل الإمام مالك عن محمد بن عمرو بن علقمة عن مليح بن عبد الله السعدي عن أبي هريرة أنه قال الذي يرفع رأسه ويخفضه قبل الإمام فإنما ناصيته بيد شيطان

هكذا هو في الموطإ عند جماعة رواته فيما علمت موقوفا على أبي هريرة ولم يرفعه وروى شعبة وحماد بن زيد عن محمد بن زياد عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام قال أما يخشى الذي يرفع رأسه ويخفضه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار فهذا وعيد شديد لمن فعل هذا الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم لمن صحبه ولسائر أمته إذا كان فعله ذلك عامدا غير ساه وقال مالك السنة فيمن سها ففعل ذلك في ركوعه وسجوده أن يرجع راكعا أو ساجدا ولا ينتظر الإمام وذلك ممن فعله خطبا لأن النبي عليه السلام قال إنما جعل الإمام ليوتم به فلا تختلفوا عليه وقال أبو هريرة الذي يرفع رأسه ويخفضه قبل الإمام فإنما ناصيته بيد شيطان قال أبو عمر ظاهر قول مالك هذا لا يوجب الإعادة على من فعله عامدا لقوله وذلك خطأ ممن فعله لأن الساهي الإثم عنه موضوع وللعلماء فيمن تعمد ذلك قولان

أحدهما أن صلاته فاسدة إن فعل ذلك فيها كلها أو في أكثرها عامدا وهو قول أهل الظاهر لأنه فعل فعلا طابق النهي ففسد مع قوله عليه السلام من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد يعني مردودا ومن تعمد خلاف إمامه عالما بأنه مأمور باتباعه منهي عن مخالفته لقوله عليه السلام إذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا فإن الإمام يركع قبلكم قبلكم يرفع قبلكم وقوله إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه فقد استخف بصلاته وخالف ما أمر به فواجب ألا تجزئ عنه صلاته تلك وذكر سنيد قال قال بن علية عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي الورد الأنصاري قال صليت إلى جنب بن عمر فجعلت أرفع قبل الإمام وأضع قبله فلما سلم الإمام أخذ بن عمر بيدي فلواني وجذبني فقلت ما لك قال من أنت قلت فلان بن فلان قال أنت من أهل بيت صدق فما منعك أن تصلي قلت أو ما رأيتني إلى جنبك قال قد رأيتك ترفع قبل الإمام وتضع قبله وإنه لا صلاة لمن خالف الإمام وقال الحسن بن حي لا ينبغي لأحد صلى مع الإمام أن يسبق الإمام في ركوع ولا سجود فإن فعل فأدركه الإمام راكعا أو ساجدا ثم رفع الإمام ورفع برفعه من الركوع والسجود ووافقه في ذلك أجزأه وإن ركع أو سجد قبل الإمام ثم رفع من ركوعه أو سجوده قبل أن يركع الإمام أو يسجد لم يعتد بذلك ولم يجزه وقال أكثر الفقهاء من فعل ذلك فقد أساء ولم تفسد صلاته لأن الأصل في صلاة الجماعة والائتمام فيها سنة حسنة فمن خالفها بعد أن أدى فرض صلاته بطهارتها وركوعها وسجودها وفرائضها فليس عليه إعادتها وإن أسقط بعض سننها لأنه لو شاء أن ينفرد قبل إمامه تلك الصلاة أجزأت عنه وبئس ما فعل في تركه الجماعة قالوا ومن دخل في صلاة الإمام فركع بركوعه وسجد بسجوده ولم يركع في

ركعة وإمامه في أخرى فقد اقتدى به وإن كان يرفع قبله ويخفض قبله لأنه يركع بركوعه ويسجد بسجوده ويرفع برفعه وهو في ذلك متبع له إلا أنه مسيء في ذلك بخلاف سنة المأموم المجتمع عليها باب ما يفعل من سلم من ركعتين ساهيا ذكر فيه مالك حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين مسندا من طريقين عن أيوب عن بن سيرين عن أبي هريرة وعن داود بن الحصين عن أبي سفيان مولى بن أبي أحمد عن أبي هريرة وفيهما جميعا قوله عليه وسلم أصدق ذو اليدين وذكر الحديث عن بن شهاب بإسنادين مرسلين وقال فيه

فقال ذو الشمالين مرتين وفيه فقال أصدق ذو اليدين أيضا وليس يأتي ذكر ذي الشمالين في هذا الحديث إلا عن بن شهاب ولم يتابع عليه والله أعلم وسائر الآثار إنما فيها ذو اليدين ليس فيها ذو الشمالين قال بن وضاح قد قيل إن ذا اليدين استشهد يوم بدر وإسلام أبي هريرة كان يوم خيبر قال أبو عمر هو كما قال بن وضاح إلا أن الذي استشهد يوم بدر ذو الشمالين لا ذو اليدين ونحن نبين ما في ذلك من معاني العلم هنا إن شاء الله أجمع المسلمون أن الكلام في الصلاة عمدا إذا كان المصلي يعلم أنه في صلاة ولم يكن ذلك في إصلاح صلاته تفسد صلاته إلا الأوزاعي فإنه قال من تكلم في صلاته لإحياء نفس أو مثل ذلك من الأمور الجسام لم تفسد بذلك صلاته ومضى عليها وذكر الوليد بن مزيد وغيره عنه قال لو نظر المصلي إلى غلام يريد أن يسقط في بئر أو مكان فصاح به لم يكن عليه بأس أن يتم صلاته قال وكذلك لو رأى ذئبا يثب على غنمه فصاح به أتم ما بقي من صلاته قال أبو عمر لم يتابعه أحد على قوله هذا وهو قول ضعيف ترده السنن والأصول قال الله تعالى وقوموا لله قانتين البقرة قال زيد بن أرقم كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت وقوموا لله قانتين فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام

وقال بن مسعود سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله يحدث من أمره ما شاء وإن مما أحدث إلا تكلموا في الصلاة وقال معاوية بن الحكم السلمي سمعت رسول الله يقول إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام إنما هو التسبيح والتهليل والتحميد وقراءة القرآن وقد ذكرنا أسانيد هذه الأحاديث في التمهيد وأجمعوا على أن تحريم الكلام في الصلاة جملة إلا ما نذكره بعد عنهم إن شاء الله وليس قول الأوزاعي بشيء لأن إغاثة الملهوف وما أشبهه ليس تمنع من استئناف الصلاة ولا يوجب البناء على ما مضى منها إذ ذلك الفعل مباين لها مفسد قاطع فإنه يطابق النهي وفي موافقة الأوزاعي للجماعة فيمن تكلم عامدا في صلاته بغير ما ذكر أنها قد فسدت عليه ويلزمه استئنافها ما يدل على فساد قوله لأن النهي عن كلام الناس فيها عام فما لم يخرج منه بالدليل الواضح فهو على أصل التحريم وبالله التوفيق وأما اختلاف فقهاء الأمصار في الذي يتكلم وقد سلم من صلاته قبل أن يتمها وهو يظن أنه قد أتمها فإن مالكا وأصحابه اختلفوا في ذلك فروى سحنون عن بن القاسم عن مالك قال لو أن قوما صلى بهم رجل ركعتين وسلم ساهيا فسبحوا به فلم يفقه فقال له رجل من خلفه ممن هو معه في الصلاة إنك لم تتم فأتم صلاتك فالتفت إلى القوم فقال أحق ما يقول هذا فقالوا نعم قال يصلى بهم الإمام ما بقي من صلاتهم ويصلون معه بقية صلاتهم من تكلم منهم ومن لم يتكلم ولا شيء عليهم ويفعلون في ذلك ما فعل النبي عليه السلام يوم ذي اليدين هذا قول بن القاسم في كتبه الأسدية وروايته عن مالك وهو المشهور من

مذهب مالك عند أكثر أصحابه وبه قال إسماعيل بن إسحاق واحتج له في كتاب رده على محمد بن الحسن وكذلك روى عيسى عن بن القاسم قال عيسى سألت بن القاسم عن إمام فعل اليوم كفعل النبي يوم ذي اليدين وتكلم أصحابه على نحو ما تكلم أصحاب النبي عليه السلام يوم ذي اليدين فقال بن القاسم يفعل كما فعل النبي عليه السلام يوم ذي اليدين ولا يخالفه في شيء من ذلك لأنها سنة سنها عليه السلام زاد العتبي في هذه عن عيسى عن بن القاسم قال وليرجع الإمام فيما شك فيه إليهم ويتم معهم وتجزيهم قال عيسى قال بن القاسم لو أن إماما قام من أربع أو جلس في ثالثة فسبح به فلم يفقه فكلمه رجل ممن خلفه كان محسنا وأجزته صلاته قال عيسى وقال بن كنانة لا يجوز لأحد اليوم ما جاز لمن كان يومئذ مع النبي عليه السلام لأن ذا اليدين ظن أن الصلاة قد قصرت فاستفهم عن ذلك وقد علم الناس اليوم أن قصرها لا ينزل فعلى من تكلم الإعادة قال عيسى فقرأته على بن القاسم فقال ما أرى في هذا حجة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ذلك لم يكن فقالوا له بلى فقد كلموه عمدا بعد علمهم أنها لم تقصر قال عيسى وقال لي بن وهب إنما ذلك كان في أول الإسلام ولا أرى لأحد أن يفعله اليوم قال أبو عمر أما كلام القوم للنبي عليه السلام بعد أن سمعوه يقول لم تقصر الصلاة ولم أنس فمختلف فيه ولا حجة لمن نزع به لأن حماد بن زيد هو أثبت الناس في أيوب روي حديث ذي اليدين عن أيوب عن بن سيرين عن أبي هريرة قال فيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق ما يقول ذو اليدين فأومؤوا أي نعم فبان بهذا أنهم لم يتكلموا بعد أن سمعوا النبي عليه السلام يقول لم تقصر الصلاة ولم أنس ولكنهم أومؤوا أي نعم فعبر المحدث عن الإيمان بالقول والعرب قد تفعل ذلك فيما لا يصح منه القول فالإيماء بذلك أحرى ممن يصح قوله إذا منع من الكلام وتحريم الكلام في الصلاة مجتمع عليه فلا يباح برواية مختلف فيها وقال يحيى بن يحيى عن بن نافع لا أحب لأحد أن يفعل مثل ذلك اليوم فإن فعل لم آمره أن يستأنف

وروى أبو قرة موسى بن طارق عن مالك مثل قول بن نافع خلاف رواية بن القاسم قال أبو قرة سمعت مالكا يستحب إذا تكلم الرجل في الصلاة أن يعود لها ولا يبني قال وقال لنا مالك إنما تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكلم أصحابه معه يومئذ لأنهم ظنوا أن الصلاة قد قصرت ولا يجوز ذلك لأحد اليوم وروى أشهب عن مالك أنه قيل له أبلغك أن ربيعة بن عبد الرحمن صلى خلف إمام فأطال التشهد فخاف ربيعة أن يسلم وكان على الإمام سجود السهو قبل السلام فكلمه ربيعة فقال انهما قبل السلام فقال ما بلغني ولو بلغني ما تكلمت به أنتكلم في الصلاة وقد ذكرنا في التمهيد وجوه الروايات عن مالك وأصحابه في هذا الباب وروى بن وضاح عن الحارث بن مسكين قال أصحاب مالك كلهم على خلاف ما رواه بن القاسم عن مالك في مسألة ذي اليدين ولم يقل بقوله إلا بن القاسم وحده وغيره يأبونه ويقولون إنما كان ذلك في أول الإسلام وأما الآن فقد عرف الناس الصلاة فمن تكلم فيها أعادها وأما الشافعي فقال في حديث ذي اليدين لا يشك مسلم أن النبي عليه السلام لم ينصرف إلا وهو يرى أنه قد أكمل الصلاة وظن ذو اليدين أن الصلاة قد قصرت بحادث من الله ولم يقبل رسول الله من ذي اليدين إذ سأل غيره ولما سأل غيره احتمل أن يكون سأل من لم يسمع كلام ذي اليدين فيكون في معنى ذي اليدين واحتمل أن يكون سأل من سمع كلامه ولم يسمع النبي عليه السلام رده عليه كان في معنى ذي اليدين من أنه لم يدر أقصرت الصلاة أم نسي فأجابه ومعناه معنى ذي اليدين مع أن الفرض عليهم جوابه ألا ترى أن النبي عليه السلام لما أخبروه فقبل قولهم لم يتكلم ولم يتكلموا حتى بنوا على صلاتهم قال فلما قبض رسول الله عليه السلام تناهت الفرائض فلا يزاد فيها ولا ينقص منها أبدا قال فهذا فرق ما بيننا وبينه إذا كان أحدنا إماما اليوم قال أبو عمر أما قول الشافعي مع أن الفرض عليهم جوابه فموجود في حديث أبي سعيد بن المعلى قال كنت أصلي فناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه حتى قضيت صلاتي فأتيته فقال ما منعك أن تجيبني قلت كنت أصلي قال ألم يقل الله استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم

وهو حديث يرويه شعبة عن حبيب بن عبد الرحمن عن حفص عن عاصم عن أبي سعيد بن المعلى وهو محفوظ من حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة لأبي بن كعب وقد تقدم فيما مضى من هذا الكتاب وفيه أن مجاوبة النبي عليه السلام واجبة على العموم في الصلاة وغيرها وفي ذلك دليل على أن ذا اليدين وأصحابه مخصوصون بذلك ما كان عليه السلام حيا فيهم وقد يحتمل أن تكون إجابته في الصلاة إشارة كما كان عليه السلام يضع في الصلاة وهو في مسجد قباء بالأنصار إذ دخلوا فسلموا عليه وهو يصلي فكان يشير قال أبو عمر الخلاف بين مالك والشافعي في هذه المسألة إنما هو أن مالكا يقول في رواية بن القاسم عنه لا يفسد الصلاة تعمد الكلام فيها إذا كان ذلك في صلاحها وشانها وهو قول ربيعة وبن القاسم وإليه ذهب إسماعيل بن إسحاق وقال الشافعي وأصحابه وسائر أصحاب مالك إن المصلي إذا تعمد الكلام وهو في الصلاة عالما أنه لم يتمها فقد أفسد صلاته فإن تكلم ساهيا أو تكلم وهو يظن أنه قد أكمل صلاته وأنه ليس في صلاة عند نفسه فهذا يبني ولا يفسد عليه كلامه ذلك صلاته وقال أحمد بن حنبل فيما حكى عنه أبو بكر الأثرم ما تكلم به الإنسان في صلاته لإصلاحها لا يفسد عليه صلاته وإن تكلم لغير ذلك فسدت عليه صلاته وقال في موضع آخر سمعت أحمد بن حنبل يقول في قصة ذي اليدين إنما تكلم ذو اليدين وهو يرى أن الصلاة قد قصرت وتكلم النبي عليه السلام وهو دافع لقول ذي اليدين وكلم القوم فأجابوه لأنه كان عليهم أن يجيبوه قال أبو عمر وهذا نحو ما قاله الشافعي في ذلك وذكر الخرقي أن مذهب أحمد بن حنبل الذي تحصل عليه قوله فيمن تكلم عامدا أو ساهيا في صلاته بطلت صلاته إلا الإمام خاصة فإنه إذا تكلم ليصلح صلاته لم تبطل صلاته وقد ذكرنا مذهب الأوزاعي فيما مضى وقال الأوزاعي أيضا لو أن رجلا قال لإمام جهر بالقراءة في العصر إنها العصر لم يكن عليه شيء

قال أبو عمر لو كان هذا ما احتاج أحد إلى التسبيح في الصلاة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من نابه شيء في صلاته فليسبح وقال عليه السلام إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح وتلاوة القرآن وكلام الأوزاعي في هذا الباب عند الفقهاء وهم وخطأ ليس بصواب وقد أجمع العلماء على أن السلام في الصلاة قبل تمامها عمدا يفسدها فالكلام بذلك أحرى والله أعلم وأما الكوفيون أبو حنيفة وأصحابه والثوري فذهبوا إلى أن الكلام في الصلاة على كل حال سهوا كان أو عمدا لصلاح كان أو لغير ذلك يفسد الصلاة واختلف أصحاب أبي حنيفة في السلام فيها ساهيا قبل تمامها فبعضهم أفسد صلاة المسلم فيها ساهيا وجعله كالمتكلم عامدا وبعضهم لم يفسدها بالسلام ساهيا وكلهم يفسدها بالكلام عامدا وهو قول إبراهيم النخعي وعطاء والحسن وحماد بن أبي سليمان وقتادة وزعم أصحاب أبي حنيفة أن حديث ذي اليدين منسوخ بحديث زيد بن أرقم وبن مسعود الذي ذكرنا قالوا وفي حديث زيد بن أرقم وبن مسعود بيان أن الكلام كان مباحا في الصلاة ثم نسخ

قالوا فحديث أبي هريرة منسوخ في قصة ذي اليدين بما جاء في حديث بن مسعود وزيد بن أرقم قالوا وإن كان أبو هريرة متأخر الإسلام فإنه أرسل حديث ذي اليدين عن النبي عليه السلام كما كان يفعله هو وغيره من الصحابة بما سمعه بعضهم من بعض لأنه جائز للصاحب إذا حدثه صاحب من الصحابة بما سمعه من رسول الله أن يحدث به عن رسول الله إذا لم يقل سمعت واحتجوا بأن بن عباس ومن كان مثله قد حدثوا عن رسول الله بما أخبروا عن أصحابه عنه وهو عند الجميع مسند صحيح ألا ترى إلى حديث أبي هريرة عن النبي عليه السلام فيمن أدركه الفجر وهو جنب إنه لا صوم له فلما وقف عليه سئل هل سمعته من رسول الله قال لا علم لي إنما أخبرنيه مخبر وقال أنس ما كل ما نحدثكم به عن رسول الله سمعناه منه ولكن منه ما سمعنا ومنه ما أخبرنا أصحابنا وكل حديث الصحابة مقبول عند جماعة العلماء على كل حال قالوا فغير نكير أن يحدث أبو هريرة بقصة ذي اليدين وإن لم يشهدها قالوا ومما يدل على أن حديث أبي هريرة في ذلك منسوخ أن ذا اليدين قتل يوم بدر واحتجوا بما رواه بن وهب عن العمري عن نافع عن بن عمر أن إسلام أبي هريرة كان بعد موت ذي اليدين قالوا وهذا الزهري مع علمه بالأثر والسير وهو الذي لا نظير له بالأثر في ذلك يقول إن قصة ذي اليدين كانت قبل بدر حكاه معمر وغيره عن الزهري قال الزهري ثم استحكمت الأمور بعد قال أبو عمر أما ما ادعاه العراقيون من أن حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين منسوخ بحديث بن مسعود وزيد بن أرقم فغير مسلم لهم ما ادعوا من نسخه ولكنه خص من تحريم الكلام معنى ما تضمنه لأن حديث أبي هريرة يوم ذي اليدين كان في المدينة وقد شهده أبو هريرة وإسلامه كان عام خيبر هذا مما لا خلاف بين العلماء فيه فإن قيل كيف يصح الاحتجاج بحديث بن مسعود في تحريم الكلام في الصلاة بمكة وزيد بن أرقم رجل من الأنصار يقول كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل منا

صاحبه في الحاجة حتى نزلت وقوموا لله قانتين البقرة فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام ومعلوم أن سورة البقرة مدينة فالجواب أن بن مسعود ممن هاجر من مكة إلى أرض الحبشة في جماعة من هاجر إليها من الصحابة وأنه من الجماعة المنصرفين من الحبشة إلى مكة حين بلغهم أن قريشا دخلوا في الإسلام وكان الخبر كاذبا فأقبلوا إلى مكة في حين كون بني هاشم وبني المطلب في الشعب ووجدوا قريشا أشد ما كانوا على النبي وأصحابه ثم أمره رسول الله فيمن امر من أصحابه بالهجرة إلى المدينة فهاجر إلى المدينة ثم شهد بدرا مع من شهدها منهم إلا أن حديثه من رواية عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عنه أن رسول الله لم يرد عليه السلام يومئذ بمكة وهو يصلي فقال له إن الله أحدث ألا تكلموا في الصلاة قد وهم في ألفاظه عاصم وكان سيئ الحفظ عندهم كثير الخطأ لا يحتج بحديثه فيما خولف فيه وحديثه حدثناه سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قال كنا نسلم على النبي عليه السلام في الصلاة قبل أن نأتي أرض الحبشة فيرد علينا فلما رجعنا سلمت عليه وهو يصلي فلم يرد علي فآخذني ما قرب وما بعد فجلست حتى قضى النبي عليه السلام صلاته فقال يا رسول الله سلمت عليك وأنت تصلي فلم ترد على فقال إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث ألا تكلموا في الصلاة قال سفيان هذا أجود ما وجدنا عند عاصم في هذا الوجه قال أبو عمر قد روى هذا الحديث شعبة عن عاصم على خلاف معنى حديث بن عيينة ولم يقل فيه إن ذلك كان منه في حين انصرافه من أرض الحبشة بل ظاهره ومساقه يحتمل أن يكون كان ذلك منه بالمدينة فيكون في معنى حديث بن أرقم حدثنا سعيد حدثنا قاسم حدثنا إسماعيل بن إسحاق حدثنا عمرو بن مرزوق قال أخبرنا شعبة عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله قال أتيت النبي عليه السلام وهو يصلي فسلمت فلم يرد علي فلما قضى صلاته قال إن الله يحدث ما شاء وإن مما أحدث ألا تكلموا في الصلاة

فلم يذكر شعبة أن كلامه ذلك كان منه بمكة وقد رواه الأعمش عن أبي وائل عن بن مسعود فذكر انصرافه من أرض الحبشة إلى مكة ولم يذكر أن سلامه على رسول الله في الصلاة كان بمكة وقد روي عن الأعمش بخلاف ذلك في الإسناد والمعنى حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن حدثنا محمد بن بكر بن داسة قال حدثنا أبو داود حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير قال حدثنا فضيل عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال كنا نسلم على النبي عليه السلام وهو في الصلاة فيرد علينا فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا وقال لنا إن في الصلاة لشغلا وهذا الحديث إنما فيه كراهية السلام على المصلي وقد روى هذا الحديث كلثوم بن المصطلق الخزاعي عن بن مسعود ولم يقل فيه إن ذلك كان منه في حين انصرافه من أرض الحبشة أخبرنا عبد الله بن محمد بن أسد قال أخبرنا حمزة بن محمد بن علي قال حدثنا أحمد بن شعيب النسائي قال أخبرنا محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي قال أخبرنا بن أبي عيينة والقاسم بن زيد الجرمي عن سفيان عن الزبير بن عدي عن كلثوم عن عبد الله بن مسعود وهذا الحديث للقاسم قال كنت آتي النبي عليه السلام وهو يصلي فأسلم عليه فيرد علي فأتيته وهو يصلي فسلمت عليه فلم يرد علي فلما سلم أشار إلى القوم فقال إن الله أحدث في الصلاة ألا تكلموا فيها إلا بذكر الله وأن تقوموا لله قانتين وهذا حديث مستقيم صحيح في معنى حديث زيد بن أرقم ليس فيه ما يخالفه حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا محمد بن بكر حدثنا أبو داود حدثنا محمد بن عيسى حدثنا هشيم حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن الحارث بن شبيل عن أبي عمرو الشيباني عن زيد بن أرقم قال كان أحدنا يكلم الرجل إلى جنبه في الصلاة فنزلت وقوموا لله قانتين البقرة ثم أمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام

قال أبو عمر زيد بن أرقم أنصاري وسورة البقرة مدنية حدثنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا إسماعيل بن مسعود قال حدثنا يحيى بن سعيد قال أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد قال حدثنا الحارث بن شبيل عن أبي عمرو الشيباني عن زيد بن أرقم قال كان الرجل يكلم صاحبه في الصلاة بالحاجة على عهد النبي عليه السلام حتى نزلت وقوموا لله قانتين البقرة فأمرنا بالسكوت وأما قولهم إن أبا هريرة لم يشهد ذلك لأنه كان قبل بدر وإسلام أبي هريرة كان عام خيبر فالجواب أن أبا هريرة أسلم عام خيبر كما ذكرنا ولكنه قد شهد هذه القصة وحضرها لأنها لم تكن قبل بدر وحديث أبي هريرة يوم ذي اليدين محفوظ من رواية الحفاظ الثقات وليس تقصير من قصر عن ذكر ذلك في حديثه في قصة ذي اليدين بحجة على من حفظه وذكره معاد وهذا مالك قد ذكر في موطئه عن داود بن الحصين عن أبي سفيان مولى بن أبي أحمد قال سمعت أبا هريرة يقول صلى لنا رسول الله عليه السلام العصر فسلم في ركعتين وذكر الحديث هكذا حدث به في الموطأ عنه بن القاسم وبن وهب وبن بكير والقعنبي والشافعي وقتيبة بن سعيد ولم يقل يحيى وطائفة معه في حديث داود بن حصين صلى لنا رسول الله وإنما قال صلى رسول الله وأما في حديث مالك عن أيوب عن بن سيرين عن أبي هريرة فليس ذلك عند أحد من رواة الموطإ وإنما فيه أن رسول الله انصرف من اثنتين فقال له ذو اليدين قال أبو عمر قول أبي هريرة في حديث ذي اليدين صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى بنا وبينا نحن مع رسول الله محفوط من نقل الحفاظ فمن ذلك حديث شيبان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال بينما أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الظهر فسلم من اثنتين فقال له رجل من بني سليم وذكر الحديث

وحديث ضمضم بن جوس الهفاني عن أبي هريرة قال صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي وذكر الحديث وحديث بن عون عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال صلى بنا رسول الله إحدى صلاتي العشي وكذلك رواه هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك رواه العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة وكذلك رواه بن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة وكذلك رواه حماد بن زيد عن أيوب عن بن سيرين عن أبي هريرة ورواه كما رواه أبو هريرة عبد الله بن عمر وعمران بن حصين ومعاوية بن خديج وبن مسعدة صاحب الحبوس وكلهم لم يصحب النبي عليه السلام إلا بالمدينة حاشا بن عمر منهم وقد ذكرنا طرق هذه الأحاديث وأسانيدها في التمهيد وهي صحاح كلها والحمد لله وليس في أخبار الآحاد أكثر طرقا من حديث ذي اليدين هذا إلا قليلا وأحسن الناس سياقة له حماد بن زيد عن أيوب عن محمد عن أبي هريرة حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا محمد بن بكير حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن عبد الله حدثنا حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي الظهر أو العصر فصلى بنا ركعتين ثم سلم ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يديه عليها إحداهما على الأخرى وخرج سرعان الناس وقالوا قصرت الصلاة قصرت الصلاة وفي الناس أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه فقام رجل وكان رسول الله يسميه ذا اليدين فقال يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة فقال لم أنس ولم تقصر قال بل نسيت يا رسول الله فأقبل رسول الله على القوم فقال أصدق ذو اليدين فأومؤوا أن نعم فرجع رسول الله إلى مقامه فصلى الركعتين الباقيتين ثم سلم ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع وكبر ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع وكبر قال فقيل لمحمد سلم في السهو قال لم أحفظه ولكن نبئت أن عمران بن حصين قال ثم سلم

قال أبو داود وكل من روى هذا الحديث لم يقل فيه فأومؤوا إلا حماد بن زيد قال أبو عمر من ها هنا قال أحمد بن حنبل والله أعلم إن الإمام وحده إن تكلم في شأن صلاته لم يضر ذلك صلاته وإن تكلم غيره أفسد صلاته وأما قولهم إن ذا اليدين قتل يوم بدر فغير صحيح وإنما المقتول يوم بدر ذو الشمالين ولسنا ندافعهم ولا ننكر قولهم إن ذا الشمالين قتل ببدر إن ذكروا ذا الشمالين لأن بن إسحاق وغيره من أهل السير ذكروه فيمن قتل ببدر من المسلمين وقال حماد بن سلمة عن علي عن سعيد بن المسيب قال قتل يوم بدر من قريش خمسة رجال من المهاجرين عبيدة بن الحارث وعمير بن أبي وقاص وذو الشمالين وبن بيضاء ومهجع مولى عمر بن الخطاب قال أبو عمر إنما قال بن المسيب أنهم من قريش لأن الحليف والمولى يعد من القوم فمهجع مولى عمر وذو الشمالين حليف بني زهرة قال بن إسحاق ذو الشمالين هو عمير بن عبد عمرو بن نضلة بن عمرو بن غبشان بن سليم بن مالك بن أفصى بن خزاعة حليف لنبي زهرة قال أبو عمر ذو اليدين غير ذي الشمالين المقتول ببدر بدليل ما في حديث أبي هريرة ومن ذكرنا معه من حضورهم تلك الصلاة ممن كان إسلام بعد بدر وكان المتكلم يومئذ رجلا من بني سليم ذكر ذلك يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة وقال عمران بن حسين رجل طويل اليدين يقال له الخرباق وممكن أن يكون رجلان أو ثلاثة وأكثر يقال لكل واحد منهم ذو اليدين وذو الشمالين ولكن المقتول ببدر غير المتكلم في حديث أبي هريرة حين سلم رسول الله من اثنتين قال أبو بكر الأثرم سمعت مسدد بن مسرهد يقول الذي قتل ببدر إنما هو ذو الشمالين بن عبد عمرو حليف بني زهرة وذو اليدين رجل من العرب كان يكون بالبادية فيجيء فيصلي مع النبي عليه السلام قال أبو عمر قول مسدد هذا قول أئمة أهل الحديث والسير وهذا على ما ذكرنا عنهم وأما قول الزهري في هذا الحديث إنه ذو الشمالين فلم يتابع عليه وحمله الزهري على أنه المقتول يوم بدر فوهم فيه وغلط والغلط لا يسلم منه أحد وقد اضطرب الزهري في إسناد حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين اضطرابا كثيرا قد ذكرناه في التمهيد وكان يقول لم يسجد رسول الله السجدتين يومئذ فجهل ذلك وقد صح عن أبي هريرة من وجوه أن رسول الله سجد يوم ذي اليدين بعد السلام سجدتين لم يختلف عن أبي هريرة في ذلك وإنما اختلف عنه في السلام من السجدتين وقد خفي ذلك على الزهري مع جلالته ولا أعلم أحدا من المصنفين عول على بن شهاب في حديث ذي اليدين وإنما أخرجوه من غير روايته لاضطرابه وقد تبين غلطه أنه المقتول ببدر ذكر عبد الرزاق عن بن جريج عن بن مليكة أنه سمع عبيد بن عمير وذكر خبر ذي اليدين قال فأدركه ذو اليدين أخو بني سليم وقد قيل إن ذا اليدين عمر إلى خلافة معاوية وإنما توفي بذي خشب حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا أحمد بن زهير حدثنا علي بن بحر حدثنا معدي بن سليمان الشغنثي البصري قال حدثني شعيب بن مطير ومطير حاضر يصدقه قال يا أبتاه أخبرتني أن ذا اليدين لقيك بذي خشب فأخبرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم إحدى صلاتي العشي فصلى ركعتين ثم سلم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وخرج سرعان الناس فلحقه ذو اليدين فقال يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت فقال ما قصرت الصلاة ولا نسيت ثم أقبل رسول الله على أبي بكر وعمر فقال أحق ما يقول ذو اليدين قالا صدق يا رسول الله فرجع رسول الله وثاب الناس فصلى ركعتين ثم سلم ثم سجد سجدتي السهو وقد ذكرنا هذا الخبر من طرق شتى في التمهيد ومطير هذا مطير بن سليم من أهل وادي القرى روى عن ذي اليدين وذي الزوائد وأبي الشموس البلوي وغيره وروى عنه ابناه شعيب وسليم وهو معروف عند أهل العلم لم يذكره أحد بجرحه ومعدي بن سليمان صاحب الطعام بصري يكنى أبا سليمان يقال إنه كان من الأبدال الفضلة روى عنه العباس بن يزيد وبندار محمد بن بشار وعلي بن بحر بن بري وبشر بن علي ومحمد بن المثنى

ولو صح للمخالفين ما ادعوه من نسخ حديث أبي هريرة بتحريم الكلام في الصلاة لم يكن لهم في ذلك حجة لأن النهي عن الكلام في الصلاة إنما توجه إلى العامد القاصد لا إلى الناسي لأن النسيان متجاوز عنه والناسي والساهي ليسا ممن دخل تحت النهي لاستحالة ذلك في النظر فإن قيل إنكم تجيزون الكلام في الصلاة عمدا إذا كان في شأن صلاحها قيل لقائل ذلك أجزناه من باب آخر قياسا على ما نهي عنه من التسبيح في غير موضعه من الصلاة وإباحته للتنبيه على ما أغفله المصلي من صلاة ليستدركه استدلالا بقصة ذي اليدين قال أبو عمر نزع أبو الفرج وغيره من أصحابنا بما وصفنا وليس ذلك عندي بشيء لأن التسبيح لا يقاس بالكلام لأن الصلاة محرم فيها الكلام ومباح فيها التسبيح وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من نابه شيء في صلاته فليسبح يريد ولا يتكلم وقال صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح وتلاوة القرآن وقد نهى عن القراءة في الركوع ولو قرأ في الركوع أحد لم تفسد صلاته وأما أصحاب أبي حنيفة الذين لم يجيزوا الكلام في شأن إصلاح الصلاة فيلزمهم ألا يجيزوا المشي للراعف والخروج من المسجد للوضوء وغسل الدم في الصلاة لضرورة الرعاف فإن أجازوا ذلك فليجيزوا الكلام في شأن إصلاح الصلاة والله أعلم وممن قال من السلف بمعنى حديث ذي اليدين ورأى البناء جائزا لمن تكلم في صلاته وهو يظن أنه ليس في صلاة عبد الله بن عباس وبن الزبير وعروة وعطاء والحسن وقتادة والشعبي وروي أيضا عن الزبير بن العوام وأبي الدرداء وروي مثل قول الكوفين في هذا الباب عن إبراهيم النخعي وحماد بن أبي سليمان وقتادة على اختلاف عنه

وفي هذا الحديث أيضا إثبات حجة مالك وأصحابه في قولهم إذا نسي الحاكم حكمه فشهد عليه عنده شاهدان إنه ينفذه ويمضيه وإن لم يذكره لأن النبي عليه السلام رجع إلى قول ذي اليدين ومن شهد معه إلى شيء لم يذكره وقال الشافعي وأبو حنيفة لا ينفذه حتى يذكر حكمه به على وجهه لأنه لا يقبل الشهود إلا على غيره لا على نفسه لأنهم لو شهدوا عنده بخلاف علمه لم يحكم بشهادتهم ولا حجة في حديث ذي اليدين لأنه لم يحكم بشهادتهم ممكن محتمل أن يكون النبي عليه السلام لما قال له أصحابه إن ما ذكر ذو اليدين حق تيقن ذلك فرجع من شكه إلى يقين وهذا مجتمع عليه في أصل الدين لأنه محال ألا يصدقهم ثم يعمل بخبرهم وبالله التوفيق وفيه إثبات سجود السهو على من سها في صلاته وفيه أن السجود يكون بعد السلام إذا كان زاد الإنسان في صلاته شيئا سهوا وبه استدل أصحابنا على أن السجود بعد السلام فيما كان زيادة أبدا وفيه أن سجدتي السهو يكبر في كل خفض ورفع منهما ويسلم على حديث عمران بن حصين واختلف المتأخرون من أصحابنا في رجوع المسلم ساهيا في صلاته إلى تمام ما بقي عليه منها هل يحتاج في ذلك إلى إحرام أم لا فقال بعضهم لا بد أن يحدث إحراما يجدده لرجوعه إلى تمام صلاته وإن لم يفعل لم يجزه وقال آخرون ليس ذلك عليه وإنما عليه أن ينوي الرجوع إلى تمام صلاته فإن كبر في رجوعه فحسن لأن التكبير إشعار حركات المصلي وإن لم يكبر فلا شيء عليه لأن أصل التكبير في غير الإحرام إنمغا كان للإمام ثم صار سنة بمواظبة رسول الله حتى لقي الله مع قوله فإذا كبر فكبروا يعني يكبرون بتكبيره وتكبير الصلوات محصور عدده فلا وجه للزيادة فيه ألا ترى أن الذي يحسبه الإمام لا يكبر إذا قام إلى قضاء ما عليه لأن تلك التكبيرة لو كبرها كانت زائدة على تكبير الصلاة والله أعلم وإنما قلنا إنه إذا نوى الرجوع إلى صلاته ليتمها فلا شيء عليه وإن لم يكبر لإحرام ولا غيره لأن سلامه ساهيا لا يخرجه من صلاته عندنا وعند جمهور العلماء ولا يفسدها عليه وإذا كان في صلاته بنى عليها فلا معنى للإحرام لأنه غير مستأنف لصلاة بل هو متمم لها بان فيها وإنما يؤمر بتكبيرة الإحرام من ابتدأ صلاته وافتتحها وبالله التوفيق

وأما قول مالك كل سهو كان نقصانا في الصلاة فإن سجوده قبل السلام وكل سهو كان زيادة في الصلاة فإن سجوده بعد السلام فهذا مذهبه لا خلاف عنه فيه وقوله إنه إذا اجتمع سهوان زيادة ونقصان فالسجود لهما قبل السلام لا خلاف عنه في ذلك أيضا هذا هو الاختيار عنده لحديث ذي اليدين في الزيادة وحديث بن بحينة في النقصان ولو سجد عنده أحد بخلاف ذلك فجعل السجود كله بعد السلام أو كله قبل السلام لم يكن عليه شيء لأنه عنده من باب قضاء القاضي بالاجتهاد للآثار المرفوعة والسلف من هذه الأمة في ذلك سنذكر اختلافهم في الباب بعد هذا إن شاء الله عز وجل باب إتمام المصلي ما ذكر إذا شك في صلاته مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثا أم أربعا فليصلي ركعة وليسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم فإن كانت الركعة التي صلى خامسة شفعها بهاتين السجدتين وإن كانت رابعة فالسجدتان ترغيم للشيطان لم يختلف عن مالك في إرسال هذا الحديث إلا ما روي عن الوليد بن مسلم عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي عليه السلام وقد ذكرنا في التمهيد من وصلة عن زيد بن أسلم من الثقات ومن أرسله عنه وتابع مالكا على ذلك قال الأثرم سألت أحمد بن حنبل عن حديث أبي سعيد في السهو أتذهب إليه قال نعم أذهب إليه قلت إنهم يختلفون في إسناده قال إنما قصر به مالك وقد أسنده عدة منهم بن عجلان وعبد العزيز بن أبي سلمة وفي هذا الحديث من الفقه أصل عظيم جسيم يطرد في أكثر الأحكام وهو أن

اليقين لا يزيله الشك وأن الشيء مبني على أصله المعروف حتى يزيله يقين لا شك معه وذلك أن الأصل في الظهر أربع ركعات فإذا أحرم بها لزمه إتمامها فإن شك في ذلك فيقينه أنه على أصل فرضه في أربع ركعات لا يخرجه منه إلا يقين مثله وقد غلط قوم من عوام المنتسبين إلى الفقه في هذا الباب فظنوا أن الشك أوجب على المصلي إتمام صلاته والإتيان بالركعة واحتجوا بذلك لإعمال الشك في بعض نوازلهم وهذا غلط بين بل اليقين بأنها أربع ركعات فرضا أوجب عليه إتمامها ويوضح ذلك أيضا حديث أبي سعيد الخدري أن النبي عليه السلام قال إذا أتى أحدكم الشيطان في صلاته فقال إنك أحدثت فلا ينصرف حتى يسمع بأذنيه صوته أو يجد بأنفه ريحه وكذلك حديث عبد الله بن زيد بن عاصم قال شكا إلى رسول الله عليه السلام الرجل يخيل إليه الشيء في الصلاة فقال لا تنصرف حتى تسمع صوتا أو تجد ريحا ألا ترى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينقله عن أصل طهارته التي كان قد تيقنها بشك عرض له حتى يستيقن الحدث والأصل في هذا وفي البناء على اليقين سواء إلا أن مالكا قال من شك في الحدث بعد يقينه بالوضوء فعليه الوضوء ولم يتابعه على هذا القول أحد غيره إلا من قال بقوله من أصحابه وقد خالف بن نافع مالكا في هذه المسألة فقال لا وضوء عليه وقال أبو الفرج إن ذلك استحباب من مالك واحتياط منه وقال بن خواز منداد اختلفت الرواية عن مالك فيمن توضأ ثم شك هل احدث أم لا فقال عليه الوضوء وقال لا وضوء عليه قال وهو قول سائر الفقهاء

قال أبو عمر مذهب الثوري وأبي حنيفة والأوزاعي والشافعي البناء على الأصل حدثا كان أو طهارة وهو قول أحمد وإسحاق وأبي ثور وداود والطبري وقد قال مالك إن عرض له ذلك كثيرا فهو على وضوء وقال فيمن وجد في ثوبه احتلاما وقد بات فيه ليالي وأياما إنه لا يعيد صلاته ولا يغتسل إلا من أحدث نوم نامه وأجمع العلماء أن من أيقن بالحدث وشك في الوضوء أن شكه لا يفيد فائدة وأن الوضوء واجب عليه ولا خلاف علمته بين أهل المدينة وسائر فقهاء الأمصار أنه لا يرث أحد أحدا بالشك في حياته وموته وفي هذا الحديث أيضا دليل على أن الزيادة في الصلاة لا تفسدها ما كانت سهوا أو في إصلاح الصلاة لأن الشاك في صلاته إذا أمرناه بالبناء على يقينه وهو يشك هل صلى واحدة أو اثنتين وممكن أن يكون صلى اثنتين فغير مأمون عليه أن يزيد في صلاته ركعة وقد أحكمت السنة أن ذلك لا يضره بل هو مأمور به وإذا كان ما ذكرنا كما ذكرنا بطل قول من قال إن من زاد في صلاته مثل نصفها ساهيا إن صلاته فاسدة وهو قول لبعض أصحابنا ضعيف لا وجه له يصح والصحيح في مذهب مالك غير ذلك وقد أجمع العلماء على أن من شك في صلاة الصبح هل صلى واحدة أو اثنتين حكمه في ذلك حكم من شك في مثل ذلك من صلاة الظهر أو العصر على أصله من قال بالتحري ومن قال بالبناء على اليقين على أن التحري عندنا يعود إلى البناء على اليقين على ما نبينه إن شاء الله وقد صلى رسول الله الظهر خمسا ساهيا فسجد لسهوه وحكم الركعة والركعتين في ذلك سواء في القياس والمعقول والأصول

وقد زدنا هذا المعنى بيانا في التمهيد والحمد لله وفي هذا الحديث أيضا أن الساهي في صلاته إذا فعل ما يجب عليه فعله يسجد لسهوه وفيه أن سجود السهو في الزيادة قبل السلام وهذا موضع اختلف فيه العلماء فقال مالك وأصحابه ما قدمنا عنهم ذكره قالوا كل سهو كان نقصانا من الصلاة فالسجود له قبل السلام لحديث بن بحينة عن النبي عليه السلام أنه قام من اثنتين دون أن يجلس فسجد لسهوه قبل السلام وقد نقص الجلسة الوسطى والتشهد قال مالك وإن كان السهو زيادة فالسجود له بعد السلام على حديث ذي اليدين لأنه عليه السلام سها فسلم من ركعتين يومئذ وتكلم ثم انصرف وبنى فزاد سلاما وعملا وكلاما وهو ساه لا يظن أنه في صلاة ثم سجد بعد السلام وهذا كله قول أبي ثور ويقول مالك هذا ومن تابعه يصح استعمال الخبرين جميعا في الزيادة والنقص واستعمال الأخبار على وجوبها أولى من ادعاء النسخ فيها ومن جهة الفرق بين الزيادة والنقص بين في ذلك لأن السجود في النقصان إصلاح وجبر ومحال أن يكون الإصلاح والجبر بعد الخروج من الصلاة وأما السجود في الزيادة فإنما هو ترغيم للشيطان وذلك ينبغي أن يكون بعد الفراغ وجملة مذهب مالك وأصحابه أن من وضع السجود الذي قالوا إنه بعد قبل فلا شيء عليه إلا أنهم أشد استثقالا لوضع السجود الذي بعد السلام قبل السلام وذلك لما رئي وعلم من اختلاف أهل المدينة في ذلك وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري السجود كله في السهو زيادة كان أو نقصانا بعد السلام وهو قول أبي سلمة بن عبد الرحمن وعمر بن عبد العزيز وحجة الكوفيين في ذلك حديث بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى خمسا

ساهيا وسجد لسهوه بعد السلام وحديث المغيرة بن شعبة أنه قام من اثنتين وسجد بعد السلام وقد ذكرنا هذه الآثار كلها في التمهيد وعارضوا حديث بن بحينة بحديث المغيرة بن شعبة وزعموا أنه أولى لأن فيه زيادة التسليم والسجود بعده وهذا ليس بشيء لأن حديث بن بحينة ثابت بنقل الأئمة وحديث المغيرة ضعيف الإسناد ليس مثله بحجة ومن حجتهم أيضا من جهة النظر إجماعهم على أن حكم من سها في صلاته ألا يسجد في موضع سهو ولا في حاله تلك وأن حكمة أن يؤخر ذلك إلى آخر صلاته لتجمع السجدتان كل سهو في صلاته ومعلوم أن السلام قد يمكن فيه السهو أيضا فواجب أن تؤخر السجدتان عن السلام أيضا كما تؤخر أيضا عن التشهد وقال الأوزاعي الشافعي والليث بن سعد سجود السهو كله في الزيادة والنقصان قبل السلام وهو قول بن شهاب وربيعة ويحيى بن سعيد الأنصاري وبن أبي ذئب وقال بن شهاب كان آخر الأمرين من رسول الله السجود قبل السلام والحجة لهم حديث مالك هذا عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار وهو عن أبي سعيد الخدري عن النبي عليه السلام صحيح وفيه البناء على اليقين وإلغاء الشك والعلم محيط بأن ذلك إن لم يكن زيادة لم يكن نقصانا وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من نابه ذلك في صلاته أن يسجد سجدتين قبل التسليم والزيادة مع ذلك ممكنة غير مدفوعة وأما النقصان فلحديث بن بحينة إذ قام من اثنتين وسجد قبل السلام وهو من أثبت ما يروى في باب سجود السهو عن النبي عليه السلام قالوا فعلمنا بهذا أن ليس المعنى في ذلك زيادة ولا نقصانا وأن المعنى في ذلك إصلاح الصلاة وإصلاحها لا يكون إلا قبل الفراغ منها وإنما جاز تأخير السجدتين عن جميع الصلاة ما خلا السلام لأن السلاح يخرج به من أن تكون السجدتان مصلحتين ألا ترى أن مدرك بعض الصلاة مع الإمام لا يشتغل بالقضاء ويتبع الإمام فيما بقي عليه حاشا السلام لما ذكرنا ولكل واحد منهم حجة من جهة النظر يطول ذكرها والمعتمد عليه ما ذكرنا

وكل هؤلاء يقول إن المصلي لو سجد بعد السلام لم يضره وكذلك لو سجد بعد السلام فيا قالوا فيه السجود قبل السلام لم يضره ولم يكن عليه شيء وأما بن حنبل فذكر الأثرم قال سألت بن حنبل عن سجود السهو قبل السلام أم بعده فقال في مواضع قبل السلام وفي مواضع بعد السلام على حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين ومن سلم من ثلاث سجد أيضا بعد السلام على حديث عمران بن حصين وفي التحري يسجد بعد السلام على حديث بن مسعود حديث منصور وفي القيام من اثنتين يسجد قبل السلام على حديث بن بحينة وفي الشك يبني على اليقين ويسجد قبل السلام على حديث أبي سعيد الخدري وحديث عبد الرحمن بن عوف قال أبو عمر قد ذكرنا حديث عبد الرحمن بن عوف أيضا في التمهيد وقال الأثرم قلت لابن حنبل فما كان سوى هذه المواضع قال يسجد فيها كلها قبل السلام لأنه يتم ما نقص من صلاته قال ولولا ما روي عن النبي عليه السلام لرأيت السجود كله قبل السلام لأنه من شأن الصلاة فيقضيه قبل السلام ولكن أقول كل ما روي عنه عليه السلام أنه سجد فيه بعد السلام فإنه يسجد فيه بعد السلام وسائر السهو يسجد فيه قبل السلام وقال داود لا يسجد أحد للسهو إلا في الخمسة المواضع التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلف الفقهاء أيضا فيمن شك في صلاته فلم يدر أواحدة صلى أم اثنتين أو لم يدر اثنتين صلى أم ثلاثا أو لم يدر أثلاثا صلى أم أربعا فقال مالك والشافعي يبني على اليقين ولا يجزيه التحري وروي ذلك عن الثوري وهو قول داود والطبري وحجتهم في ذلك حديث أبي سعيد المذكور في هذا الباب وحديث عبد الرحمن بن عوف وحديث بن عمر وما كان مثلها في البناء على اليقين وقال أبو حنيفة إذا كان ذلك أول ما شك استقبل صلاته ولم يتحر وإن لقي ذلك غير مرة تحرى

وقال الحسن بن حي والثوري في رواية أخرى يتحرى سواء كان أول مرة أو لم يكن وقال الأوزاعي يتحرى قال وإن نام في صلاته فلم يدر كم صلى استأنف وقال الليث بن سعد إن كان هذا شيئا يلزمه ولا يزال يشك أجزأته سجدتا السهو عن التحري وعن البناء على اليقين فإن لم يكن شيئا يلزمه استأنف ركعة بسجدتيها وقال أحمد بن حنبل الشك على وجهين اليقين والتحري فمن رجع إلى اليقين ألغى الشك وسجد قبل السلام على حديث أبي سعيد الخدري وإذا رجع إلى التحري وهو أكثر الوهم سجد سجدتي السهو بعد السلام على حديث بن مسعود الذي يرويه منصور وبه قال أبو خيثمة زهير بن حرب وقال جماعة من أهل العلم منهم داود التحري هو الرجوع إلى اليقين قال أبو عمر من جعل التحري والرجوع إلى اليقين سواء صح له استعمال الخبرين بمعنى واحد وأي تحر يكون لمن انصرف وهو شاك لم يبن على يقينه ومعلوم أن من تحرى وعمل على أغلب ظنه وأكثره عنده أن شعبة من الشك تصحبه إذا لم يبن على يقينه وقد ذكرنا علة حديث بن مسعود من رواية منصور وغيره في التحري في كتاب التمهيد وأما حديث مالك عن عمر بن زيد عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر كان يقول إذا شك أحدكم في صلاته فليتوخ الذي يظن أنه نسي من صلاته فليصله ثم ليسجد سجدتي السهو وهو جالس وهذا عندي هو البناء على اليقين لأنه قد أمره أن يصلي ما ظن أنه نسيه من صلاته وقد وروى هذا الحديث سليمان بن بلال عن عمرو بن محمد عن سالم عن أبيه عن النبي عليه السلام مرفوعا وليس في شيء من الأحاديث المرفوعة

والموقوفة عن الصحابة فرق بين من اعتراه ذلك أول مرة أو مرة بعد مرة وكذلك حديث مالك عن نافع عن بن عمر أنه كان إذا سئل عن النسيان في الصلاة قال ليتوخ أحدكم الذي يظن أنه نسي من صلاته فليصله هو على ما قلنا والله أعلم وقد تأول الكوفيون ومن قال بالتحري وهو العمل على أكثر الظن في حديثي بن عمر هذين قوله يتوخى أنه أراد العمل على أكثر الظن وتأويلنا أحوط وأشبه بالأصول لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من لم يدر أثلاثا صلى أم أربعا فليجعلها ثلاثا وهذا المعنى هو ما ذكره مالك عن عفيف بن عمر السهمي عن عطاء بن يسار أنه قال سألت عبد الله بن عمرو بن العاص وكعب الأحبار عن الذي يشك في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثا أم أربعا فكلاهما قال ليصل ركعة أخرى ثم ليسجد سجدتين وهو جالس وهذا معنى حديث أبي سعيد الخدري عن النبي عليه السلام فصار سنة معمولا بها وهذا الباب كله فيه البناء على اليقين والسجود قبل السلام عن النبي عليه السلام وعن بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وكعب الأحبار وهو قول من ذكرنا قوله من الفقهاء وما توفيقنا إلا بالله تعالى باب من قام بعد الإتمام أو في الركعتين مالك عن بن شهاب عن الأعرج عن عبد الله بن بحينة أنه

قال صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ثم قام فلم يجلس فقام الناس معه فلما قضى صلاته ونظرنا تسليمه كبر ثم سجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم ثم سلم وذكر عن يحيى بن سعيد عن الأعرج عن بن بحينة مثله بمعناه وقد ذكرنا بن بحينة في كتاب الصحابة بما فيه كفاية وفي هذا الحديث بيان أن أحدا لا يسلم من الوهم والنسيان لأنه إذا اعترى ذلك الأنبياء فغيرهم بذلك أحرى وقد يكون ذلك منه عليه السلام ليسن لأمته كما جاء عنه إني لأنسى أو أنسي لأسن وفي هذا الحديث من الفقه أن المصلي إذا لم يجلس في اثنتين وقام واعتدل قائما لم يكن له أن يرجع وإنما قلنا واعتدل قائما لأن الناهض لا يسمى قائما حتى يعتدل فالقائم هو المعتدل وفي حديث مالك في هذا الباب ثم قام ولم يجلس وإنما قلنا إنه لا ينبغي له إذا اعتدل قائما ان يرجع إلى الجلوس لأنه معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا اعتدل قائما لا يخلو أمره من أن يذكر بنفسه أو يذكره من خلفه بالتسبيح ولا سيما قوما قد قيل لهم من نابه شيء في صلاته فليسبح وهم أولو النهي وأولى من عمل بما حفظ ووعى وأي الحالين كان فلم ينصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجلوس بعد قيامه ذلك فمن ها هنا قلنا لا ينبغي لمن اعتدل قائما أن ينصرف إلى الجلوس وقد روى المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قام من اثنتين واعتدل فسبحوا به فلم ينصرف وتمادى في صلاته ثم سجد لسهوه وفعل ذلك المغيرة وسبحوا به فلم يرجع وقال لهم كذلك صنع رسول الله وعن سعد بن أبي وقاص مثل حديث المغيرة سواء وقد ذكرناها بأسانيدها في التمهيد

فإن رجع إلى الجلوس بعد قيامه لم تفسد صلاته عند جمهور العلماء لأنه رجع إلى أصل ما كان عليه وسهوه في قيامه متجاوز عنه وقد بان بالسنة أن الزائد في صلاته ساهيا غير مفسد لها والذي يقصد إلى عمل يظن أنه قد أسقطه من صلاته أحرى بذلك وقد قال بعض المتأخرين تفسد صلاته وهو قول ضعيف لا وجه له واختلف العلماء في هذه المسألة فقال مالك من قام من اثنتين تمادى ولم يجلس وسجد قبل السلام على حديث بن بحينة هذا فإن عاد إلى الجلوس بعد قيامه فصلاته تامة وتجزيه سجدتا السهو قال بن القاسم وأشهب يسجدهما بعد السلام لأنه زاد في صلاته القيام والانصراف وقال علي بن زياد يسجدهما قبل السلام وقد روى عن أشهب لأنه قد وجب ذلك عليه في قيامه ورجوعه إلى الجلوس زيادة فكأنه زاد ونقص قال أبو عمر قول بن القاسم وأشهب أولى بالصواب على أصل مالك إلا أن السجود في الزيادة قبل السلام قد مضى ما جاء فيه في الباب قبل هذا وقال الشافعي إذا ذكر ولم يستتم قائما لم يرجع وهو قول علقمة والأسود وقتادة والضحاك والأوزاعي وفي قول الشافعي إذا رجع إلى الجلوس سجد سجدتي السهو والسجود عنده قبل السلام وفي قول علقمة والأسود لا يسجد إن رجع إلى الجلوس كأنهما يقولان لم ينقص شيئا فيجبره والنبي عليه السلام قد أكمل صلاته يوم ذي اليدين وسجد وصلى خمسا وسجد فدل أن السجود للسهو لا للنقصان وقال حسان بن عطية إذا تجافت ركبتاه عن الأرض مضى وقال الحسن البصري ينصرف ويقعد وإن قرأ ما لم يركع قال أبو عمر قد روى سفيان الثوري عن جابر الجعفي عن المغيرة بن شبيل عن

قيس بن أبي حازم عن المغيرة بن شعبة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام الإمام في الركعتين فإن ذكر قبل أن يستوي قائما فليجلس فإن استوى قائما فلا يجلس وسجد سجدتي السهو ذكره أبو داود وقال ليس في كتابي عن جابر الجعفي إلا هذا الحديث قال أبو عمر في حديث بن بحينة هذا وحديث المغيرة بن شعبة عن النبي عليه السلام دليل على صحة ما ذهب إليه أصحابنا ومن قال بقولهم في أن الجلسة الوسطى سنة لا فريضة لأنها لو كانت من فرائض الصلاة لرجع الساهي عنها إليها حتى يأتي بها كما لو ترك سجدة أو ركعة ولروعي فيها ما يراعى في السجود والركوع من الموالاة والرتبة وقد سبح برسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرجع إليها وسجد لسهوه وفي حديث بن بحينة أنه علم بها فلم يقضها وسجد لسهوه عنها ولو كانت فرضا لم يسقطها النسيان والسهو لأن الفرائض في الصلاة يستوي في تركها السهو والعمد إلا في المأثم وقد ذهب آخرون إلى الجلسة الوسطى فرض وأنها مخصوصة من بين سائر فروض الصلاة بأن ينوب عنها السجود كالعرايا من المزابنة وكسقوط بعد الإحرام لمن وجد الإمام راكعا وبأنها لا يقاس عليها شيء من أعمال البدن في الصلاة فدل على خصوصها واحتجوا بأنها لو كانت سنة ما كان العامد لتركها تبطل صلاته كما لا تبطل بترك سنن الصلاة إذا أتى بفرائضها وبما أجمعوا عليه في سائر أعمال البدن أنها فرض في الصلاة من أولها إلى آخرها من قيام وقعود وركوع وسجود والقول الأول أصح من جهة الأثر والنظر إن شاء الله وقد أوضحنا معنى القولين وما اخترنا من ذلك مع سائر معاني هذا الباب في التمهيد والحمد لله وشذت فرقة فأوجبتها فرضا وأوجبت الرجوع إليها ما لم يعمل المصلي بعدها

ما يمنعه من الرجوع إليها وذلك عند ركعته التي قام إليها برفعه رأسه منها وقولهم هذا ليس بشيء لأن الفرض من عمل البدن في الصلاة ينصرف إليه ويرتب مع ما بعده ولا يسلم من الصلاة إلا أن يؤتى به مع الذكر وهذا أيضا مردود بالسنة في حديث بن بحينة وغيره فلا وجه للاشتغال به واختلفوا في الجلسة الأخيرة هل هي فرض أيضا أم لا فذهب جمهور أهل العلم وجماعة فقهاء الأمصار إلى أنها فرض واجب تفسد صلاة من لم يأت بها ساهيا كان أو عامدا إلا فرقة صغيرة منهم بن علية فإنه ذهب إلى أن الجلسة الآخرة ليست بفرض واجب قياسا على الجلسة الوسطى واحتج بحديث بن بحينة وغيره في القيام من اثنتين وبحديث عبد الله بن عمرو عن النبي عليه السلام أنه قال إذا رفع الإمام رأسه من آخر سجدة في صلاته ثم أحدث فقد تمت صلاته وهذا لفظ لا يصح في حديث عبد الله بن عمرو عن النبي عليه السلام ولا هذا الحديث يصح أصلا لأنه انفرد به الإفريقي عبد الرحمن بن زياد لم يروه غيره وليس بحجة فيما يرويه وينفرد به عند الجميع لضعفه في نقله وهذا اللفظ في رفع الرأس من آخر الصلاة إنما هو مروي عن علي وقال به طائفة والمحفوظ في حديث عبد الله بن عمرو من رواية الإفريقي أن النبي عليه السلام قال إذا جلس أحدكم في آخر صلاته فأحدث قبل أن يسلم فقد تمت صلاته وهذا اللفظ إنما يسقط السلام لا الجلوس وقد عارض هذا الحديث ما هو أقوى منه نقلا وهو قوله عليه السلام تحليلها التسليم والحجة في السنة لا فيما قال والجمهور حجة على من شذ منهم لأنه لا يجوز على جميعهم جهل ما علمه الشاذ المنفرد على أن بن علية يوجب فساد صلاة من لم يأت بأعمال الصلاة سننها وفرائضها وكل ما عمله النبي عليه السلام في الصلاة عنده ولم يختلف عنه فيه فهو واجب عنده تفسد الصلاة بتركه

وله إغراق في القياس وشذوذ عن العلماء كثير وليس عندهم ممن يعتمد عليه والله أعلم وأما اختلاف العلماء في سجود السهو فقال بن شهاب ويحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة بن أبي عبد الرحمن والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي السجود كله قبل السلام وروي هذا القول عن بن عباس وأبي هريرة والسائب بن السائب وعبد الله بن الزبير ومعاوية وبه قال مكحول والحجة لقائلي هذا القول ما تقدم في هذا الباب والباب الذي قبله من سجود رسول الله حين قام من اثنتين وحين أمر بالبناء على اليقين من حديث أبي سعيد وبن عباس وعبد الرحمن بن عوف قبل السلام في الوجهين جميعا والبناء على اليقين ليس فيه نقصان حدثني خلف بن القاسم قال حدثنا أبو الميمون حدثنا أبو زرعة الدمشقي حدثنا أبو مسهر عن محمد بن مهاجر عن أخيه عمرو بن مهاجر أن الزهري قال لعمر بن عبد العزيز السجدتان قبل السلام فقال له أبى ذلك علينا أبو سلمة بن عبد الرحمن يا زهري وحدثنا خلف حدثنا أبو الميمون حدثنا أبو زرعة حدثنا سعيد بن أبي مريم قال أخبرني يحيى بن أيوب قال أخبرني محمد بن عجلان أن بن شهاب أخبره أن عمر بن عبد العزيز صلى للناس المغرب فسها فنهض من ركعتين فقال الناس سبحان الله فلم يجلس فلما فرغ من صلاته سجد سجدتين بعد السلام ثم انصرف فسأل بن شهاب فقال أصبت إن شاء الله والسنة على غير الذي صنعت فقال له عمر كيف قال تجعلهما قبل السلام قال عمر إني قلت إنه دخل على ولم يدخل عليهم فقال بن شهاب ما دخل عليك دخل عليهم قال سفيان الثوري والحسن بن حي وأبو حنيفة وأصحابه السجود كله بعد السلام وروي ذلك عن علي وبن مسعود وسعد بن أبي وقاص وعمار بن ياسر وعمران بن حصين والمغيرة بن شعبة والضحاك بن قيس واختلف في ذلك عن بن عباس وبن الزبير ومعاوية وبه قال الحسن البصري وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعمر بن عبد العزيز وإبراهيم النخعي وبن أبي ليلى

وحجتهم في القيام من اثنتين حديث المغيرة بن شعبة أن رسول الله قام من اثنتين وسجد بعد السلام وحديث بن مسعود أن رسول الله سجد بعد السلام إذ صلى خمسا ونحو ذلك مما قد ذكرنا في الباب قبل هذا وقال مالك وأصحابه كل سهو كان نقصانا في الصلاة فالسجود له قبل السلام على حديث بن بحينة في هذا الباب وكل سهو كان زيادة فالسجود له بعد السلام على حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين وقد ذكرنا قول بن حنبل في الباب قبل هذا وقول داود أيضا وحديث بن بحينة عند بن حنبل أصح من حديث المغيرة وبه يقول في القيام من اثنتين وحديث المغيرة يدور على بن أبي ليلى وليس بالحافظ ولا ممن يحتج به فيما خولف فيه وقد أوضحنا معاني هذا الباب في التمهيد والحمد لله واختلف الفقهاء أيضا في التشهد في سجدتي السهو والسلام منهما فقالت طائفة لا تشهد فيهما ولا تسليم وروي ذلك عن أنس والحسن البصري ورواية عن عطاء وهو قول الأوزاعي والشافعي لأن السجود كله عندهما قبل السلام فلا وجه عندهما لإعادة التشهد وقد روي عن عطاء إن شاء تشهد وسلم وإن شاء لم يفعل وأما الشافعي فيرى التشهد فيهما واجبا حكاه البويطي عنه وهو ممن يقول هما قبل السلام وقال آخرون يتشهد فيهما ولا يسلم قاله يزيد بن قسيط ورواية عن الحكم بن عتيبة وحماد بن أبي سليمان وإبراهيم النخعي وقال آخرون فيهما تشهد وتسليم روي ذلك عن بن مسعود وإبراهيم النخعي والحكم وحماد وبه قال مالك وأكثر أصحابه والثوري وأبو حنيفة وأصحابه والليث بن سعد وقال أحمد بن حنبل إن سجد قبل السلام لم يتشهد وإن سجد بعد السلام تشهد وبهذا قالت طائفة من أصحاب مالك ورووه أيضا عن مالك

وقال بن سيرين يسلم منهما ولا يتشهد فيهما قال أبو عمر من رأى السلام فيهما فعلى أصله من تسليمة واحدة أو تسليمتين وقد صح عن النبي عليه السلام أنه سلم من سجدتي السهو في حديث عمران بن حصين إذ سلم من ثلاث ثم سجد بعد السلام وهو حديث صحيح ثابت ومن رأى السجود قبل السلام فلا يحتاج إلى هذا لأن السلام من الصلاة هو السلام على ما في حديث بن بحينة في هذا الباب وأما التشهد في سجدتي السهو فلا أحفظه من وجه صحيح عن النبي عليه السلام وأما التكبير في الخفض والرفع فمحفوظ ثابت في حديث بن بحينة من رواية بن شهاب وغيره وقد ذكرنا طرقة عن بن شهاب في التمهيد وفيما وصفنا من رواية الثقات من أصحاب بن شهاب عنه عن الأعرج عن بن بحينة وفي حديث أبي هريرة يوم ذي اليدين مثل ذلك وقد مضى في بابه والحمد لله وأما اختلاف العلماء في حكم الجلوس الآخر في الصلاة وما الفرض في ذلك فعلى خمسة أقوال أحدها أن الجلسة الآخرة فرض والتشهد فرض والسلام فرض وممن قال بذلك الشافعي وأصحابه وأحمد في رواية وداود وكذلك حكى أبو مصعب في مختصره عن مالك وأهل المدينة وحجتهم أن بيانه عليه السلام في الصلاة فرض لأن الأصل فرضها مجمل مفتقر إلى البيان فكل ما عمله عليه السلام فيها فرض إلا ما قام الدليل على أنه سنة لا فرض واحتجوا بالإجماع على وجوب عدد الركعات فيها والسجود وغير ذلك مما هو واجب ببيان النبي عليه السلام له بفعله واحتجوا أيضا بقوله عليه السلام صلوا كما رأيتموني أصلي وبأشياء يطول ذكرها

والقول الثاني أن الجلوس فيها فرض والسلام فرض واجب وليس التشهد بواجب وممن قال ذلك مالك وأصحابه وأحمد بن حنبل في رواية وحجتهم أن عمل اليدين كله فرض للإجماع على فرض القيام والركوع والسجود فكذلك كل عمل البدن إلا ما خرج بدليل وهو الجلسة الوسطى ومن حجتهم أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخرج قط من صلاة إلا بالتسليم وقال تحريمها التكبير وتحليلها التسليم وقام من اثنتين ولم يتشهد فسقط التشهد لذلك ولأنه ذكر ولا شيء من الذكر واجب غير تكبيرة الإحرام وقراءة أم القرآن والتسليم والقول الثالث أن الجلوس مقدار التشهد فرض وليس التشهد ولا التسليم بواجب فرضا وممن قال بذلك أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من الكوفيين واحتجوا بنحو ما تقدم في بيان عمل الصلاة وعمل البدن بحديث عبد الرحمن بن زياد الإفريقي أن عبد الرحمن بن رافع وبكر بن سوادة حدثاه عن عبد الله بن عمرو بن العاصي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس الرجل في آخر صلاته فأحدث قبل أن يسلم فقد تمت صلاته وهكذا رواه بن المبارك عن الإفريقي وهو أثبت من رواه عنه والقول الرابع أن الجلوس والتشهد واجبان وليس السلام بواجب قاله جماعة منهم إسحاق بن راهويه واحتج إسحاق بحديث بن مسعود حين علمه رسول الله التشهد وقال له إذا فرغت من هذا فقد تسمت صلاتك وقضيت ما عليك والقول الخامس أن ليس الجلوس فيها ولا التشهد ولا السلام بواجب وإنما ذلك كله سنة مسنونة وهذا قول بعض البصريين وإليه ذهب بن علية وصرح بقياس الجلسة الآخرة على الأولى فخالف الجمهور وشذ إلا أنه يرى الإعادة على من ترك شيئا من ذلك كله

واحتج برواية من روى في حديث الإفريقي بإسناده المذكور إذا رفع رأسه وأحدث ولم يذكر جلوسا وهو حديث لا حجة فيه لضعفه واختلافهم أيضا في لفظه وبالله التوفيق لا شريك له وأما قول مالك فيمن سها في صلاته فقام بعد إتمامه الأربع فقرأ ثم ركع فلما رفع رأسه من ركوعه ذكر انه قد كان أتم إنه يرجع فيجلس ولا يسجد ولو سجد إحدى السجدتين لم أر أن يسجد الأخرى ثم إذا قضى صلاته فليسجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم فالأصل في هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمسا فقال رجل أزيد في الصلاة قال وما ذاك قالوا صليت خمسا قال فثنى رجله وسجد سجدتين وهذا حديث صحيح رواه شعبة عن الحكم عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله وقد أجمعوا أن من زاد في صلاته عامدا شيئا وإن قل من غير الذكر المباح فسدت صلاته وفيما أجمعوا عليه من ذلك ما يصحح لك ما قاله هناك مالك وهذا أصل وإجماع لا مدخل للقول فيه والسجود عنده في الزيادة بعد السلام على ما قدمنا من أصله وقد بينا ذلك كله والحمد لله باب النظر في الصلاة إلى ما يشغلك عنها مالك عن علقمة بن أبي علقمة عن أمه عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت أهدى أبو جهم بن حذيفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم خميصة شامية لها علم

فشهد فيها الصلاة فلما انصرف قال ردي هذه الخميصة إلى أبي جهم فإني نظرت إلى علمها في الصلاة فكاد يفتنني هذا الحديث رواه رواة الموطإ كلهم عن مالك عن علقمة بن أبي علقمة عن أمه عن عائشة وسقط ليحيى وحده عن أمه وقد بينا ذلك في التمهيد واسم أبي جهم عبيد بن حذيفة بن غانم العدوي القرشي من بني عدي بن كعب وذكر عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس خميصة لها علم ثم أعطاها أبا جهم وأخذ من أبي جهم أنبجانية له فقال يا رسول الله ولم فقال إني نظرت إلى علمها في الصلاة وقد روى هذا الحديث بن شهاب عن عروة عن عائشة أن النبي عليه السلام صلى في خميصة لها علم فقال شغلني أعلام هذه اذهبوا بها إلى أبي جهم وأتوني بأنبجانية هكذا هو في حديث الزهري بالتذكير وفي حديث مالك أنبجانية له وإنما هو كساء أنبجاني والكساء لا يؤنث إلا أن يكون أراد خميصة أو شملة أو نحو هذا والخميصة كساء صوف رقيق بعلم أكثر شيء وقد يكون بغير علم والخمائص من لبس الأشراف في أرض العرب وقد يكون العلم فيها أحمر وأصفر وأخضر وأما الأنبجاني فكساء صوف غليظ لا علم فيه وقال بن قتيبة إنما هو كساء منبجاني قال ولا يقال أنبجاني لأنه منسوب إلى منبج قال وفتحت باؤه في النسب لأنه خرج مخرج منظراني ومخبراني وقال ثعلب أنبجانية بكسر الباء وكسرها كل ما كثف والتف قالوا شاة أنبجانية أي كثيرة الصوف ملتفته

وغير بن قتيبة يقول جائز أن يقال أنبجاني كما جاء في الحديث لأن رواته عرب فصحاء ومن الأنساب ما يجري على غير قياس وإنما هو مسموع وهذا لو صح أنه منسوب إلى منبج وفي هذا الحديث من الفقه قبول الهدايا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويأكلها ولا يأكل الصدقة والهدية من أفعال المسلمين الكرماء والصالحين والفضلاء ويستحبها العلماء ما لم يسلك بها سبيل الرشوة لدفع حق أو تحقيق باطل أو أخذ على حق يجب القيام به وقد أوضحنا ما يجب من الهدايا لإمام المسلمين وعماله وسائر الناس من قبل المسلمين ومن قبل أهل الذمة والحربيين في موضعه من هذا الكتاب وأما قوله نظرت إلى علمها في الصلاة فكاد يفتنني فإن قوله كاد يفتنني دليل على أن الفتنة لم تقع وكاد في اللغة توجب القرب وتدفع والوقوع ولهذا قال بعض العلماء لا يخطف البرق بصر أحد لقوله تعالى يكاد البرق يخطف أبصارهم البقرة والفتنة التي خشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنزل به بسبب تلك الخميصة ونظره إلى علمها هو الشغل عن إقامة الصلاة بما يجب فيها من خشوع وعمل وفكره فيما هو فيه لأنه بين يدي الرب العظيم لا إله إلا هو حدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا محمد بن عبد السلام حدثنا بن أبي عمر حدثنا سفيان عن منصور بن عبد الرحمن عن خاله مسافع بن عبد الله بن شيبة عن صفية بنت شيبة عن امرأة من بني سليم أنها قالت لعثمان بن طلحة لم دعاك رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خروجه من البيت فقال قال إني رأيت قرني الكبش في البيت فنسيت أن آمرك أن تخمرهما فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل مصليا وسفيان عن منصور وغيره عن إبراهيم أنه كان يكره أن يكون في البيت شيء يشغل مصليا وسفيان عن منصور وغيره عن إبراهيم أنه كان يكره أن يكون في القبلة شيء معلق مصحف أو سيف أو نحوه

وسفيان عن الأحوص بن حكيم عن راشد بن سعد قال تقدم أبو الدرداء أن يصلي بالناس بحمص فرأى في القبلة عرقة فقال غطوا عنا هذه العرقة وقال نعيم بن حماد عن سفيان بن عيينة إنما رد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخميصة إلى أبي جهم لأنه كرهها إذ كانت سبب غفلة وشغل عن ذكر الله كما قال أخرجوا عن هذا الوادي الذي أصابتكم فيه الغفلة فإنه واد به شيطان قال ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث إلى غيره ما يكرهه لنفسه ألا ترى إلى قوله لعائشة لا تتصدقي مما لا تأكلين قال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوى خلق الله على دفع الوسوسة ولكن كرهها للغفلة عن الذكر هذا كله قول بن عيينة ومما قدمته فيما ظهر إلي أولى بتأويل الحديث إن شاء الله ولأنه معلوم أنه عليه السلام لما رد الخميصة إلى مهديها بعد أن أعلمهم وأعلمه بما نابه فيها كان ذلك دليلا على أنه يستحب لباسها في الصلاة لأنه لا محالة أحرى بأن يخشى على نفسه من الشغل بها في صلاته فوق ما خشيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ولهذا والله أعلم كان إخبارهم له بما عرض له في صلاته بالنظر إليها وقد يمكن أن يكون إعلامه بما نابه في الخميصة عند ردها إلى أبي جهم لتطيب نفسه وقد ذهب عنه ما لا يكاد ينفك منه من ردت هديته عليه وفيه دليل على أن الواهب والمهدي إذا ردت عليه عطيته من غير أن يكون هو الذي يرجع فيها فإن له أن يقبلها وأما قوله وأتوني بأنبجانية له أو بأنبجانية على الرواية في ذلك ففيه دليل على أن من ردت عليه هديته يشق ذلك عليه فلذلك أنسه رسول الله بأن أخذ منه كساء آخر لا علم فيه ليعلم أنه لم يرد عليه هديته استخفافا به ولا قلى له ولا كراهية لكسبه والله أعلم وفيه أن كل ما يشغل المرء في صلاته إذا لم يمنعه من إقامة فرائضها وأركانها لا يفسدها ولا يوجب عليه إعادتها وقد ذكرنا في التمهيد حديث أنس قال كان لعائشة قرام قد سترت به جانب بيتها فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أميطي عنا قرامك فإنه لا تزال

تعرض لي تصاويره في صلاتي وروى علي بن المدني قال حدثني يعقوب بن إبراهيم بن سعد قال حدثني أبي عن بن إسحاق قال حدثني عبد الله بن كعب مولى عثمان بن عفان عن خارجة بن زيد بن ثابت قال سمعت معاذا القارئ يسأل أبي زيد بن ثابت عن الرجل يصلي والرجل في قبلته مستقبله بوجهه فقال إني ما أبالي أعمود من عمد المسجد استقبلني في صلاتي أو استقبلني رجل إن الرجل لا يقطع صلاة الرجل قال أبو عمر إنما كرهه من كرهه خشية أن يشغله النظر إليه عن شيء من صلاته وربما كان منه ما يشغل المصلي الذي يستقبله وأما حديثه في هذا الباب عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن أبا طلحة الأنصاري كان يصلي في حائطه فطار دبسي فطفق يتردد يلتمس مخرجا فأعجبه ذلك فجعل يتبعه بصره ساعة ثم رجع إلى صلاته فإذا هو لا يدري كم صلى فقال لقد أصابتني في مالي هذا فتنة وذكر تمام الخبر فإن من لم يدر كم صلى لشغل شغل نفسه أو لما شاء الله من نحو ذلك فإن السنة قد أحكمت فيه أن يبني على يقينه على ما تقدم في حديث أبي سعيد وغيره وفي هذا الحديث دليل على ما كان عليه أبو طلحة من خوف الله والبدار إلى طاعته ولن يتقرب إلى الله بعد الفرائض بمثل الصدقات فإنها تطفئ غضب الله وتصرف من مصارع السوء إن شاء الله وأما قوله لقد أصابني في مالي هذا فتنة فإن الفتنة هنا ما بلغ به من شغل نفسه حتى لم يدر كم صلى وكل من أصابته مصيبة في دينه فقد فتن على قدر تلك المصيبة وللفتنة في اللغة والشريعة وجوه قد ذكرتها في التمهيد وفيه دليل أن ما جعل الله مطلقا ولم يعين السبيل من سبل الله ما هي أن

الإمام والحاكم يضعها حيث رآه من سبل البر ووجوه الخير وينفذ بلفظ الصدقة لله ولذلك قال أهل العلم إن الصدقة لا رجوع فيها لأنها لله وليس لفظ الهبة ولا العطية ولا المنحة كذلك وقالوا في الدبسي إنه طائر يشبه اليمامة وقد قيل إنه اليمامة نفسها وقوله طفق يتردد كقوله جعل يتردد وفيه لغتان طفق يطفق وطفق يطفق وأما حديثه الآخر عن عبد الله بن أبي بكر أن رجلا من الأنصار كان يصلي في حائط له بالقف واد من أودية المدينة الحديث فإن الكلام فيه والكلام في الذي قبله سواء إلا أن عثمان بن عفان فهم عن الأنصاري مراده فباع المال بخمسين ألف درهم وتصدق بها عنه ولم يجعل الحائط وقفا وقد اختلف في الأفضل من الصدقات بالرقاب ومن الصدقات الموقوفات وكلاهما خير وعمل صالح وليس الآبار كالعيون والله أعلم إلا أن الدائم جار على صاحبه ما لم تعتره آفة فآفات الدهر كثيرة وفي أحاديث هذا الباب ما يوجب القول في موضع نظر المصلي إلى أين يكون فأما مالك فقال يكون نظر المصلي أمام قبلته وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي والحسن بن حي يستحب أن يكون نظر المصلي إلى موضع سجوده وقال شريك القاضي ينظر في القيام إلى موضع السجود وفي الركوع إلى موضع قدميه وفي السجود إلى أنفه وفي قعوده إلى حجره قال أبو عمر هذا التحديد ليس على النظر في الأصول ما يوجبه وحسب المصلي أن يقبل على صلاته ولا يلتفت يمينا ولا شمالا فإنه مكروه له ومن فكر فيما هو فيه من صلاته وأقبل على ما يعنيه منها شغله ذلك عن النظر إلى غيرها وبالله التوفيق

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب السهو باب العمل في السهو هذا الباب كله محمول عند مالك وأصحابه على أنه من يكثر عليه الوهم فلا ينفك منه أو لا يكاد ينفك منه فيسمونه المستنكح بكثرة الوهم فمن كانت هذه حاله أجزأه أن يسجد سجدتين بعد التسليم لترغيم الشيطان وفي حديث هذا الباب الذي رواه مالك عن بن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن أحدكم إذا قام يصلي جاءه الشيطان فلبس عليه حتى لا يدري كم صلى فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس فأخبر أن الشيطان لبس عليه فلذلك يرغمه بالسجدتين لأنه يقال ليس على الشيطان عمل أثقل ولا أصعب من سجود بن آدم لربه وذلك والله أعلم لما لحقه من سخط الله عند امتناعه من السجود لآدم وإنما جاز لهذا ومن كان مثله سجود السهو عند البناء على يقينه لأنه شيء لا ينفك عنه يعتريه أبدا ولا يؤمن عليه فيما يقضيه أن ينوبه مثل ما نابه إذ قد علم من نفسه أنه لا يسلم من الوسوسة في ذلك

ولذلك أردف مالك حديثه المسند في هذا الباب بما بلغه عن القاسم بن محمد أن رجلا سأله فقال إني أهم في صلاتي فيكثر ذلك علي فقال القاسم امض في صلاتك فإنه لن يذهب عنك حتى تنصرف وأنت تقول ما أتممت صلاتي قال أبو عمر هذا عندي فيمن يغلب عليه أنه يعتريه ذلك مع إتمام صلاته وأن تلك الوسوسة قد علم من نفسه فيها أنها تعتريه وقد أكمل ما عليه من العمل في الأغلب وأنه لا ينفك منها والأغلب عنده أنها وسوسة تنوبه مع حاله تلك ولم يكن يعرف من نفسه قبل أن يعتريه ذلك إلا الإتمام والله أعلم وأما من كان الأغلب عليه أنه لم يكمل صلاته فالحكم فيه أن يبني على يقينه فإن اعتراه ذلك فيما يبني لها أيضا عنه على ما جاء عن القاسم وغيره ويدلك على أن حديث هذا الباب غير حديث البناء على اليقين أن أبا سعيد الخدري هو الذي روى فيمن لم يدر أثلاثا صلى أم أربعا أن يصلي ركعة وهو على البناء على اليقين في أصل فرضه ألا يخرج عنه إلا بيقين وقد ذكرنا في الباب قبل هذا عند ذكر حديث مالك عن زيد بن أسلم في البناء على اليقين من قال من العلماء بالتحري في معنى هذا الحديث أيضا فأغنى ذلك عن ذكره ها هنا وقد روى أبو سعيد عن النبي عليه السلام أنه قال إذا صلى أحدكم فلم يدر أزاد أم نقص فليسجد سجدتين وهو قاعد فإذا أتاه الشيطان فقال إنك أحدثت فليقل كذبت إلا أن يجد ريحا بأنفه أو صوتا بأذنه رواه يحيى بن أبي كثير عن هلال بن عياض عن أبي سعيد الخدري وقد أسندناه في التمهيد فهذا أبو سعيد الخدري قد روى في هذا المعنى مثل ما روى أبو هريرة وحصل في ذلك عن أبي سعيد حديثان ومحال أن يكون معناهما واحدا باختلاف ألفاظهما بل لكل واحد منهما موضع وهو ما ذكرنا من أن هذا في الذي يعتريه الشك دأبا لا ينفك منه قد استنكحه ومع ذلك فقد أتم في أغلب ظنه عند نفسه والحديث الآخر على من لم يدر أثلاثا صلى أم أربعا مثل حديث عبد الرحمن بن عوف وقد ذكرنا أسانيدها كلها في التمهيد

وبمعنى ما ذكرنا فسر الليث بن سعد حديث هذا الباب حكاه عنه بن وهب وهو قول مالك وأصحابه وذكر عيسى بن دينار في كتاب الصلاة من كتاب المدونة عن بن القاسم عن مالك قال إذا كثر السهو على الرجل ولزمه ذلك ولا يدري أسها أم لا سجد سجدتي السهو بعد السلام ثم قيل لابن القاسم أرأيت رجلا سها في صلاته ثم نسي سهوة فلا يدري أقبل السلام أم بعده قال يسجد قبل السلام قال أبو مصعب من استنكحه السهو فليله عنه وليدعه ولو سجد بعد السلام لكان حسنا ومذهب الشافعي فيمن وصفنا حاله أن يسجد قبل السلام ولا خرج عند مالك وأصحابه لو سجد قبل السلام وقد ذكرنا في التمهيد من قال من أصحاب بن شهاب في هذا الباب فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين قبل السلام وذكرنا حديث عبد الله بن جعفر عن النبي عليه السلام أنه قال من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعد ما يسلم وأما قوله إنه بلغه إن رسول الله عليه السلام قال إني لأنسى أو أنسى لأسن فهذا حديث لا يعرف بهذا اللفظ في الموطأ ولا يأتي مسندا بهذا اللفظ بوجه من الوجوه والله أعلم أو أنسى شك من المحدث وأما قوله لأسن فإنه يريد لأسن لأمتي كيف العمل فيما ينوبهم من السهو ليقتدوا بي ويتأسوا بفعلي وقد ذكرنا في التمهيد عند ذكر بلاغات مالك ما روى عن النبي عليه السلام في معنى قوله إني لأنسى أو أنسى لأسن والله الموفق

كتاب الجمعة باب العمل في غسل يوم الجمعة مالك عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنه ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر فيه الندب إلى الاغتسال يوم الجمعة والأحاديث في غسل الجمعة كثير جدا منها ما ظاهره الوجوب ومنها ما هو ندب وسنبين معنى ذلك كله في هذا الباب وأما ذكره فيه الساعات الخمس وأن الصلاة كانت فى السادسة فإن أهل العلم مختلفون في تلك الساعات فقالت طائفة أراد الساعات من طلوع الشمس وصفائها وهو أفضل البكور في ذلك الوقت إلى الجمعة وهو قول الثوري وأبي حنيفة والشافعي وأكثر العلماء كلهم يستحب البكور إليها قال الشافعي ولو بكر إليها بعد الفجر وقبل طلوع الشمس لكان حسنا

وذكر الأثرم قيل لأحمد بن حنبل كان مالك يقول لا ينبغي التهجير يوم الجمعة باكرا قال هذا خلاف حديث النبي عليه السلام وقال سبحان الله إلى أي شيء ذهب في هذا والنبي عليه السلام يقول كالمهدي جزورا وأما مالك فذكر يحيى بن عمر عن حرملة أنه سأل بن وهب عن تفسير هذه الساعات أهو الغدو من أول ساعات النهار أو إنما أراد بهذا القول ساعات الرواح فقال بن وهب سألت مالكا عن هذا فقال أما الذي يقع في قلبي فإنه إنما أراد ساعة واحدة تكون فيها هذه الساعات من راح في أول تلك الساعة أو الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو الخامسة ولو لم يكن كذلك ما صليت الجمعة حتى يكون النهار تسع ساعات في وقت العصر أو قريبا من ذلك وكان بن حبيب ينكر قول مالك هذا ويميل إلى القول الأول وقال قول مالك هذا تحريف في تأويل الحديث ومحال من وجوه قال وذلك أنه لا تكون ساعات في ساعة واحدة قال والشمس إنما تزول في الساعة السادسة من النهار وهو وقت الأذان وخروج الإمام إلى الخطبة فدل ذلك على أن الساعات المذكورات في هذا الحديث هي ساعات النهار المعروفات فبدأ بأول ساعات النهار فقال من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ثم قال في الخامسة بيضة ثم انقطع التهجير وحان وقت الأذان قال فشرح الحديث بين في لفظه ولكنه حرف عن موضعه وشرح بالخلف من القول وما لا يتكون وزهد شارحه الناس فيما رغبهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من التهجير في أول النهار وزعم أن ذلك كله إنما يجتمع في ساعة واحدة قرب زوال الشمس

قال وقد جاءت الآثار بالتهجير إلى الجمعة في أول النهار وقد سقنا ذلك في موضعه من كتاب واضح السنن بما فيه بيان وكفاية هذا كله قول بن حبيب قال أبو عمر هذا كله تحامل منه على مالك فهو الذي قال القول الذي أنكره وجعله خلفا من القول وتحريفا من التأويل والذي قاله مالك تشهد له الآثار الصحاح من رواية الأئمة ويشهد له أيضا العمل بالمدينة عنده وهذا مما يصح فيه الاحتجاج بالعمل لأنه أمر متردد كل جمعة لا يخفى على عامة العلماء فمن الآثار التي يحتج بها مالك ما رواه الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام قال إذا كان يوم الجمعة قام على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الناس الأول فالأول فالمهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة ثم الذي يليه كالمهدي بقرة ثم الذي يليه كالمهدي كبشا حتى ذكر الدجاجة والبيضة فإذا جلس الإمام طويت الصحف واستمعوا الخطبة وقد ذكرنا الإسناد إلى الزهري في التمهيد من طرق جلبنا فيها الاختلاف عنه فيه وقد ذكرناه عن غيره أيضا من وجوه ألا ترى إلى ما في هذا الحديث أنه قال يكتبون الناس الأول فالأول المهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة ثم الذي يليه فجعل الأول مهجرا وهذه اللفظة إنما هي مأخوذة من الهاجرة والهجير وذلك وقت النهوض إلى الجمعة وليس ذلك عند طلوع الشمس لأن ذلك الوقت به هاجرة ولا هجير وفي الحديث ثم الذي يليه ثم الذي يليه ولم يذكر الساعات والطرق بذلك اللفظ كثيرة مذكورة في التمهيد وفي بعضها المتعجل إلى

الجمعة كالمهدي بدنة وفي أكثرها المهجر إلى الجمعة كالمهدى بدنة الحديث وفي بعضها ما يدل على أنه جعل الرائح إلى الجمعة في أول الساعة كالمهدى بدنة وفي آخرها كذلك وفي أول الساعة الثانية كالمهدي بقرة وفي آخرها كذلك وهذا كله مذكور في التمهيد والحمد لله وقال بعض أصحاب الشافعي لم يرد النبي عليه السلام بالمهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة الناهض إليها في الهجير والهاجرة وإنما أراد بذلك التارك لأشغاله وأعماله من طلب الدنيا للنهوض إلى الجمعة كالمهدى بدنة وذلك مأخوذ من الهجرة وهي ترك الوطن والنهوض إلى الله ومنه سمي المهاجرون وقال الشافعي أحب التبكير إلى الجمعة ولا تؤتى إلا مشيا وأما قوله في حديث مالك حضرت الملائكة يستمعون الذكر فالذكر هنا الخطبة وقد بين ذلك في حديث بن المسيب عن أبي هريرة قوله يستمعون الخطبة وقد استدل الشافعي وأصحابه بحديث هذا الباب في تفضيل البدن على البقر والبقر على الضأن في الضحايا والهدايا وهذا موضع اختلف فيه الفقهاء فقال مالك وأصحابه أفضل الضحايا فحول الضأن وإناث الضأن أفضل من فحول المعز وفحول المعز أفضل من إناثها وإناث المعز أفضل من الإبل والبقر في الضحايا واحتج بعضهم في ذلك بقوله تعالى وفدينه بذبح عظيم الصافات وذلك كبش لا جمل ولا بقرة وقال بعضهم لو علم الله حيوانا أفضل من الكبش لفدى به إسحاق وضحى رسول الله بكبشين أملحين وأكثر ما ضحى بالكباش وذكر بن أبي شيبة عن بن علية عن ليث عن مجاهد قال الذبح العظيم الشاة

وقد روى الحنيني عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل جبريل في يوم عيد فقلت يا جبريل كيف ترى عيدنا فقال يا محمد لقد تباهى به أهل السماء وقال اعلم يا محمد أن الجذع من الضأن خير من المسن من المعز والبقر والإبل ولو علم الله ذبحا خيرا منه لفدى به إبراهيم ابنه وهذا حديث لا أعلم له إسنادا غير هذا انفرد به الحنيني وليس ممن يحتج به قال أبو عمر الكبش أول قربان تقبله الله من أحد ابني آدم ثم فدى بمثله الذبيح وحسبك بهذا كله فضلا وقال الشافعي الإبل أحب إلي أن يضحى بها من البقر والبقر أحب إلي من الغنم والضأن أحب إلي من المعز وقال أبو حنيفة وأصحابه الجزور في الأضحية أفضل ما ضحى به ثم يتلوه البقر ثم يتلوه الشاء ومن حجة من ذهب إلى هذا حديث هذا الباب وما كان مثله في تقديم البدن في الفضل مما يتقرب به إلى الله قوله فكأنما قرب بدنة ثم بقرة ثم كبشا حتى الدجاجة والبيضة وإجماعهم على أن أفضل الهدايا الإبل فكان هذا الإجماع يقضي على ما اختلفوا فيه من الضحايا لأنها نسكان شريعة وقربان وقد قالوا أيضا ما استيسر من الهدي شاة فدل على نقصان ذلك عن مرتبة ما هو أعلى منه وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الرقاب فقال أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها ومعلوم أن الإبل أنفس وأغلى عند الناس من الغنم قال وأما قوله تعالى وفدينه بذبح عظيم الصافات فجائز أن يطلق عليه عظيم لما ذكر عن بن عباس أنه رعى في الجنة أربعين خريفا وأنه الذي قربه بن آدم فتقبل منه ورفع إلى الجنة فلهذا قال فيه العظيم والله أعلم ثم ذكر مالك في هذا الباب أيضا عن صفوان بن سليم عن عطاء بن

يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي عليه السلام أنه قال غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم وعن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة أنه كان يقول غسل الجمعة واجب على كل محتلم كغسل الجنابة وهذان الحديثان ظاهرهما الوجوب الذي هو لازم ولا أعلم أحدا أوجب غسل الجمعة فرضا إلا أهل الظاهر فإنهم أوجبوه وجعلوا تاركه غامدا عاصيا لله وهم مع ذلك يجيزون صلاة الجمعة دون غسل لها واحتجوا بظاهر الحديثين اللذين ذكرناهما وهما ثابتان ولكن المعنى فيهما غير ظاهرهما بالدلائل الموجبة إخراجهما عن الظاهر فأول ذلك ما ذكرناه في التمهيد من حديث الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أتى الجمعة فتوضأ فيها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل فهذا أبو سعيد قد روى الحديثين معا وفي هذا ما يدل على أن غسل الجمعة فضيلة لا فريضة فلم يبق إلا أنه على الندب كأنه قال واجب في الأخلاق الكريمة وحسن المجالسة كما تقول العرب وجب حقك أي في كرم الأخلاق والبر بالصديق ونحو هذا ومثل هذا حديث سمرة ذكرناه أيضا في التمهيد عن قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل وقال أبو عيسى الترمذي قلت للبخاري قولهم إن الحسن لم يسمع من

سمرة إلا حديث العقيقة قال قد سمع منه أحاديث كثيرة وجعل روايته عن سمرة سماعا وصححها ومن حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي سعيد الخدري قال ثلاث هن على كل مسلم يوم الجمعة الغسل والسواك ويمس طيبا إن وجد ومعلوم أن الطيب والسواك ليس بواجبين فكذلك الغسل والله أعلم وأما قول أبي هريرة كغسل الجنابة فإنه أراد الهيئة والكيفية ففي هذا جاء تشبيهه له بغسل الجنابة لا في الفرض والوجوب بما ذكرنا من الدلائل مع أنه محفوظ معلوم عن أبي هريرة أنه كان يأمر بالغسل ولا يوجبه فرضا ويقول فيه كغسل الجنابة ورواه سفيان وغيره عن عاصم بن عبيد الله عن مولى لبني أدهم عن أبي هريرة أنه خرج إلى المسجد فلقي امرأة قد تطيبت أين تريدين يا أمة الله قالت إلى المسجد قال وله تطيبت قالت نعم قال فارجعي فاغسلي عنك الطيب فإن الله لا يقبل منك حتى ترجعي فتغسليه عنك كغسلك من الجنابة وبعض رواة هذا الحديث عن عاصم يرفعه إلى النبي عليه السلام والحديث المذكور في أول هذا الباب عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى الحديث يشهد أيضا بما وصفنا وبالله توفيقنا وقد ساوى أبو هريرة بين الغسل والطيب للجمعة والطيب قد أجمعوا على أنه ليس بواجب فكذلك الغسل رواه سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن طاوس قال سمعت أبا هريرة يقول حق الله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوما يغسل كل شيء منه ويمس من طيب إن كان لأهله

وهذا الحديث أثبت إسنادا من حديث مالك عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة وقد مضى في الطيب يوم الجمعة في باب السواك ما فيه كفاية والحمد لله وأما قوله في حديث سمرة وأبي سعيد من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت فإن أبا حاتم ذكر عن الأصمعي أنه سأل عن تفسير ذلك فقال فبها أي بالسنة أخذ ونعمت الخصلة هي أو قال ونعمت الخصلة فعل قال أبو حاتم ونعمت بالتاء في الوصل والوقف هنا قال أبو عمر لو كان الغسل للجمعة واجبا فرضا لكان من فرائض الجمعة ألا تجزئ إلا به وقد أجمع العلماء على أن صلاة من شهد الجمعة على وضوء دون غسل جائزة ماضية ويدلك على ذلك أيضا أن عثمان دخل يوم الجمعة وعمر يخطب فقال عمر أية ساعة هذه فقال يا أمير المؤمنين انقلبت من السوق فسمعت النداء فما زدت على أن توضأت فقال عمر الوضوء أيضا وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل ولم يأمره بالخروج إلى الغسل ولا بالإعادة إذا صلاها بالوضوء بغير غسل وعثمان قد علم من ذلك ما حمله على شهودها بغير غسل وهذا الحديث رواه مالك في هذا الباب عن بن شهاب عن سالم بن عبد الله أنه قال دخل رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد يوم الجمعة وعمر يخطب وذكر الحديث ولم يقل إنه عثمان وصح أنه عثمان من طرق كثيرة لهذا الحديث وقد ذكرتها في التمهيد وذكرنا هناك من وصل الحديث وأسنده ومن قطعه وأرسله وما فيه من المعاني والتوجيهات والحمد لله وقول عمر في هذا الحديث الوضوء أيضا وقد علمت أن رسول الله كان يأمر

بالغسل مثل قوله عليه السلام في حديث بن شهاب عن بن السباق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في جمعة من الجمع يا معشر المسلمين إن هذا يوم قد جعله الله عيدا فاغتسلوا وقد ذكرنا الحديث فيما مضى من هذا الكتاب وذلك في باب السواك وذكرنا في التمهيد أن عمر أول من تسمى بأمير المؤمنين وأوردنا الخبر بذلك وما كان سببه هناك وفي حديث بن شهاب هذا من الفقه أيضا شهود الفضلاء السوق وطلبهم الرزق بالتجارة وفيه أن السوق يوم الجمعة لم يكن الناس يمنعون منه إلا في وقت النداء لقوله تعالى إذا نودي للصلوة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله الجمعة ومن الدليل أيضا على أن الأمر بالغسل للجمعة ليس على الوجوب ما روته عائشة وبن عمر وبن عباس وأبو سعيد في الوجه الذي من أجله أمروا بالغسل يوم الجمعة أول ما أمروا به وقد ذكرنا الأسانيد عنهم بذلك في التمهيد فمن ذلك أن يحيى بن سعيد الأنصاري قال سألت عمرة عن غسل الجمعة فذكرت أنها سمعت عائشة تقول كان الناس عمال أنفسهم يروحون بهيئتهم فقيل لهم لو اغتسلتم وروى إسماعيل بن أمية عن نافع عن بن عمر قال كان الناس يغدون في أعمالهم فإذا كانت الجمعة جاؤوا وعليهم ثياب درنة وألوانها متغيرة قال فشكوا ذلك إلى رسول الله فقال من جاء منكم الجمعة فليغتسل ويتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته وفي الموطأ لمالك عن نافع عن بن عمر أنه كان لا يروح إلى الجمعة الا ادهن وتطيب إلا أن يكون حراما ولم يذكر غسلا وروى الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة أن ناسا من أهل العراق جاؤوا فقالوا يا بن عباس الغسل يوم الجمعة واجب قال لا ولكنه أطهر وأطيب وخير لمن اغتسل ومن لم يغتسل فلا حرج وسأخبركم كيف بدء الغسل كان الناس مجهودين يلبسون الصوف ويعملون على ظهورهم وكان

مسجدهم ضيقا متقارب السقف إنما هو عريش فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم حار وقد عرق الناس في ذلك الصوف حتى ثارت منهم رياح أذى بذلك بعضهم بعضا فلما وجد رسول الله تلك الريح قال أيها الناس إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا ثم جاء الله بالخير ولبسوا غير الصوف وكفوا العمل ووسع مسجدهم وذهب الذي كان يؤذي به بعضهم بعضا من العرق وقد تقدم عن أبي سعيد أنه قرنه بالسواك والطيب يوم الجمعة وفي إجماع الجمهور من علماء المسلمين على سقوط وجوب الغسل يوم الجمعة وجوب فرض لاتفاقهم على أن من شهد الجمعة بغير غسل أجزائه الجمعة ما يغني عن كل قول إلا أنهم اختلفوا هل غسل الجمعة سنة مسنونة للأمة أم هو استحباب وفضل أم كان لعلة فارتفعت وليس بسنة فذهب مالك والثوري وجماعة من أهل العلم أن غسل الجمعة سنة مؤكدة لأنها قد عمل بها رسول الله والخلفاء بعده والمسلمون واستحبوها وندبوا إليها وهذا سبيل السنن المؤكدة ومن حجتهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالغسل للجمعة بقوله من جاء منكم الجمعة فليغتسل وبما ذكرنا من الآثار بلفظ الأمر والوجوب فيما تقدم من هذا الباب ثم جاءت الآثار المذكورة بجواز شهوده بغير غسل وبأنه أفضل إن اغتسل يدل على أن ذلك أمر سنة لا فرض وروى بن وهب عن مالك أنه سئل عن غسل الجمعة واجب هو قال هو سنة ومعروف قيل له إنه في الحديث واجب قال ليس كل ما جاء في الحديث يكون كذلك وروى أشهب عن مالك أنه سئل عن غسل الجمعة أواجب هو قال هو حسن وليس بواجب وهذه الرواية عن مالك تدل على أنه مستحب وذلك عندهم دون منزله السنة إلا أن رواية بن وهب عنه أنه سنة عليه أكثر أصحابه بن عبد الحكم وغيره وقد قال بن القاسم فيمن أتى الجمعة ولم يغتسل فإنه يخرج من المسجد إذا كان الوقت واسعا ثم يغتسل وقاله بن كنانة

قال بن كنانة إنما ترك عمر رد عثمان للغسل لضيق الوقت ولو كان فيه سعة لرده حتى يغتسل ذكر عبد الرزاق عن بن جريج قال سألت عطاء قلت له الغسل واجب يوم الجمعة قال نعم ومن تركه فليس بآثم وقد ذكرنا في التمهيد حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام ومن مس الحصى فقد لغا وهذا حديث ثابت عن النبي عليه السلام ليس فيه إلا الوضوء للجمعة دون غسل رواه أبو معاوية وجماعة من أصحاب الأعمش عن الأعمش هكذا وذكر عبد الرزاق عن بن عيينة عن مسعر عن وبرة عن همام بن الحارث عن بن مسعود قال الغسل يوم الجمعة سنة وكان الشافعي يقول إنه سنة ويحتج في تفسير لفظ الحديث في وجوبه بحديث عائشة كان الناس عمال أنفسهم الحديث وبحديث سمرة ومن اغتسل فالغسل أفضل وقد ذكرناهما وما كان في معناهما فيما تقدم من هذا الباب وذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن غسل الجمعة ليس بواجب وجوب سنة ولكنه مستحب مرغب فيه كالطيب والسواك وقال بعضهم الطيب يغني عنه واحتجوا بأنه كان لعلة قد زالت على ما بينا في الآثار عن عائشة وبن عمر وبن عباس وغيرهم وقد ذكرنا في التمهيد عن القاسم بن محمد أنهم ذكروا غسل الجمعة عند عائشة فقالت إنما كان الناس يسكنون العالية فيحضرون الجمعة وبهم وسخ فإذا أصابهم الروح سطعت أرواحهم فتأذى بهم الناس فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أو لا تغتسلون وذكر عبد الرزاق عن الثوري عن الأعمش عن إبراهيم قال كانوا لا يرون غسلا واجبا إلا غسل الجنابة وكانوا يستحبون غسل الجمعة وقال عبد الكريم بن مالك الجزري الطيب يجزئ من الغسل يوم الجمعة

وأما حديثه عن نافع عن بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل فقد ذكرنا في التمهيد اختلاف الألفاظ عن مالك في ذلك فبعضهم يقول عنه كما قال يحيى إذا جاء أحدكم ومنهم من يقول إذا راح أحدكم إلى الجمعة ومنهم من يقول إذا أتى أحدكم والمعنى كله سواء وذكرنا هناك من جعل الحديث من أصحاب نافع عن نافع عن بن عمر عن النبي عليه السلام كما قال مالك ومن جعله عن نافع عن بن عمر عن حفصة وخالف في لفظه فقال على كل محتلم الرواح إلى الجمعة وعلى من راح إلى صلاة الجمعة الغسل وكلهم يرفعونه إلى النبي عليه السلام من غير خلاف وقد أجمع العلماء على أن من اغتسل بعد صلاة الجمعة يوم الجمعة فليس بمغتسل للسنة ولا للجمعة ولا فاعل لما أمر به فدل ذلك على أن الغسل للجمعة وشهودها لا لليوم ودل على أن حديث جابر عن النبي عليه السلام أنه قال الغسل واجب على كل محتلم في كل أسبوع يوما وهو يوم الجمعة أنه ليس على ظاهره وأن المعنى فيه على ما ذكرنا وأما ألفاظ حديث بن عمر هذا إذا جاء أحدكم الجمعة أو إذا راح أحدكم إلى الجمعة فليغتسل فيدل على أن الغسل إنما يجب عند الرواح والله أعلم وإلى هذا ذهب مالك قال في الموطأ من اغتسل يوم الجمعة أول نهاره وهو يريد بذلك غسل الجمعة فإن ذلك الغسل لا يجزئ عنه حتى يغتسل لرواحه وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل قال مالك من اغتسل يوم الجمعة معجلا أو مؤخرا وهو ينوي بذلك غسل الجمعة فأصابه ما ينقض وضوءه فليس عليه إلا الوضوء وغسله ذلك مجزئ عنه ومذهب الليث في ذلك كمذهب مالك على اختلاف عنه وعن الأوزاعي أيضا في ذلك

وروي عنهما أنه يجزيه إن اغتسل قبل الفجر للجنابة والجمعة وقال الليث بعد الفجر وذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أن من اغتسل للجمعة بعد الفجر أجزأه من غسله وهو قول الحسن البصري والنخعي وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور والطبري وهو قول بن وهب صاحب مالك وقال أبو يوسف إذا اغتسل بعد الفجر ثم أحدث فتوضأ ثم شهد الجمعة لم يكن كمن شهد الجمعة على غسل وقال أبو يوسف إن كان الغسل لليوم فاغتسل بعد الفجر ثم أحدث فصلى الجمعة بوضوء فغسله تام وإن كان الغسل للصلاة فإنما شهد الجمعة على وضوء وقال مالك في اغتسل للجمعة عند الرواح ثم أحدث فتوضأ شهد الجمعة أجزأه غسله وإن اغتسل أول النهار يريد الجمعة لم يجزه من غسل الجمعة وقال الثوري إذا اغتسل يوم الجمعة بعد الفجر من جنابة أو غيرها أجزأه من غسل الجمعة قال الطحاوي فهذا يدل على أن الغسل عنده لليوم لا للرواح إلى الجمعة وقال الأوزاعي الغسل هو للرواح إلى الجمعة فإن اغتسل بعد الفجر لم يجزه من غسل الجنابة وهذا خلاف ما تقدم عنه وقال الشافعي الغسل للجمعة سنة ومن اغتسل للفجر للجنابة ولها أجزأه وإن اغتسل لها دون الجنابة وهو جنب لم يجزه وقال بن الماجشون إذا اغتسل ثم أحدث أجزأه الغسل فهذا يمكن أن يكون مذهبه في ذلك كمذهب مالك ويمكن أن يكون كمذهب الثوري وقال الأثرم سئل بن حنبل عن الذي يغتسل سحر الجمعة ثم يحدث أيغتسل أم يجزيه الوضوء فقال يجزيه ولا يعيد الغسل ثم قال ما سمعت في هذا بأعلى من حديث بن أبزى وحديث بن أبزى ذكره بن أبي شيبة قال حدثنا بن عيينة عن عبدة بن أبي لبابة عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه أنه كان يغتسل يوم الجمعة ثم يحدث بعد الغسل فيتوضأ ولا يعيد غسلا

قال أبو عمر هذا يدل على المداومة وعلى أنه كان غسله قبل الرواح واختلف العلماء فيمن اغتسل للجمعة وهو جنب ولم يذكر جنابته فذهبت طائفة منهم إلى أنه يجزئ من غسل الجنابة وإن كان ناسيا لها في حين الغسل وممن ذهب إلى ذلك بن كنانة وأشهب وبن وهب ومطرف وبن نافع ومحمد بن مسلمة وبن الماجشون وهؤلاء كلهم أصحاب مالك وبه قال المزني صاحب الشافعي وقال آخرون لا يجزيه ذلك عن غسل الجنابة حتى ينوي غسل الجنابة ويكون ذاكرا لجنابته في حين غسله قاصدا إلى الاغتسال منها وممن ذهب إلى هذا بن القاسم وحكاه بن عبد الحكم عن مالك وهو قول الشافعي وأكثر أصحابه وبه قال داود ولم يختلف قول مالك وأصحابه أن من اغتسل للجنابة لا ينوي الجمعة معها أنه غير مغتسل للجمعة ولا يجزيه من غسل الجمعة إلا ما رواه محمد بن الحكم عن أشهب أنه قال يجزيه غسل الجنابة من غسل الجمعة وقد رواه أبو إسحاق البرقي أيضا عن أشهب وهو قول مالك وأصحابه أن من تيمم للفريضة جاز أن يصلي به صلاة السنة والنافلة ولا يجزئ عند واحد منهم أن يتيمم للنافلة فيصلي به الفريضة وهذا يقضي لقول أشهب وقال عبد العزيز بن أبي سلمة والثوري والشافعي والليث بن سعد والطبري المغتسل للجنابة يوم الجمعة يجزيه من غسل الجمعة ومن الجنابة جميعا إذا نوى غسل الجنابة وإن لم ينو الجمعة وأجمعوا على أن من اغتسل ينوي غسل الجنابة والجمعة جميعا في وقت الرواح أنه يجزيه منهما جميعا ولا يضره اشتراك النية في ذلك إلا قوما من أهل الظاهر وبعض المتأخرين فإنهم شذوا فأفسدوا الغسل إذا اشترك فيه الفرض والنفل وهذا لا وجه له ولو نوى بوضوء الفريضة والنافلة لم يضره وقال الأثرم قلت لابن حنبل رجل اغتسل يوم الجمعة من جنابة ينوي به غسل الجمعة فقال أرجو أن يجزيه منهما جميعا قلت له يروى عن مالك أنه قال لا يجزيه عن واحد منهما فأنكره

قال أبو بكر حدثنا أحمد بن أبي شعيب قال حدثنا موسى بن أعين عن ليث عن نافع عن بن عمر أنه كان يغتسل للجمعة والجنابة غسلا واحدا باب ما جاء في الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب ذكر فيه مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت وبعض الرواة عن مالك يقول فيه والإمام يخطب يوم الجمعة وكذلك اختلفت فيه الألفاظ عن أبي هريرة وقد ذكرناها في التمهيد ولمالك فيه غير هذا الإسناد وقد ذكرناه في التمهيد ومعنى قوله قد لغوت أي جئت بالباطل وما ليس بحق واللغو الباطل قال قتادة في قوله تعالى وإذا مروا باللغو مروا كراما الفرقان قال لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم قال والزور الكذب وقال أبو عبيد اللغو كل شيء من الكلام ليس بحسن والفحش أشد من اللغو واللغو والهجر في القول سواء واللغو واللغا لغتان قال العجاج عن اللغا ورفث التكلم

ولا خلاف عليه بين فقهاء الأمصار في وجوب الإنصات للخطبة على من سمعها واختلف فيمن لم يسمعها وجاء في هذا المعنى خلاف عن بعض المتأخرين فروي عن الشعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وأبي بردة أنهم كانوا يتكلمون والإمام يخطب إلا في حين قراءة القرآن في الخطبة خاصة وفعلهم هذا مردود عند أهل العلم بالسنة المذكورة في هذا الباب وأحسن أحوالهم أن يقال إنهم لم يبلغهم الحديث في ذلك لأنه حديث انفرد به أهل المدينة ولا علم لمتقدمي أهل العراق به واختلف العلماء في وجوب الإنصات على من شهد الخطبة إذا لم يسمعها لبعده من الإمام فذهب مالك والشافعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي إلى أن الكلام لا يجوز لكل من شهد الخطبة سمع أو لم يسمع وقد كان عثمان يقول في خطبته استمعوا وأنصتوا فإن المنصت الذي لا يسمع له من الأجر مثل ما للمستمع الصامت وعن بن عمر وبن عباس أنهما كانا يكرهان الكلام والصلاة بعد خروج الإمام ولا مخالف لهؤلاء من الصحابة فسقط قول من قال بقول الشعبي ومن تابعه وذكر عبد الرزاق عن الثوري عن حماد عن إبراهيم قال إني لأقرأ حزبي إذا لم أسمع الإمام بالخطبة يوم الجمعة وعن بن جريج عن عطاء قال يحرم الكلام ما كان الإمام على المنبر وإن كان قد ذهب في غير ذكر الله قال ويوم عرفة والعيدين كذلك في الخطبة قال بن جريج قلت لعطاء أسبح وأهلل وأدعو الله في نفسي يوم الجمعة وأنا أعقل الخطبة قال لا إلا الشيء اليسير واجعله بينك وبين نفسك قلت لعطاء كنت لا أسمع الإمام أسبح وأهلل وأدعو الله لنفسي ولأهلي وأسميهم بأسمائهم قال نعم

وعن معمر قال سئل الزهري عن التسبيح والتكبير والإمام يخطب قال كان يؤمر بالصمت قلت فإن ذهب الإمام في غير ذكر الله في الجمعة قال تكلم إن شئت قال معمر وقال قتادة إن حدثوا فلا تحدث وقد مضى في التمهيد من هذا كثير وممن يرى أنه إذا أخذ الإمام في غير ذكر الله والموعظة أن يتكلم الليث بن سعد وعروة بن الزبير وابنه عبد الله بن عروة والأسانيد عنهم في التمهيد وأما عكرمة وعطاء بن عبد الله الخرساني فقالا من قال صه والإمام يخطب فقد لغا ومن لغا فلا جمعة له قال أبو عمر يريد في تمام أجر الذي شاهد الخطبة صامتا أي لا جمعة له مثل جمعة هذا والله أعلم لأن الفقهاء في جميع الأمصار يقولون إن جمعته مجزية عنه ولا يصلي أربعا قال بن وهب من لغا كانت صلاته ظهرا يعني في الفضل قال ولم تكن له جمعة وحرم فضلها وقال بن جريج قلت لعطاء هل تعلم شيئا يقطع جمعة الإنسان حتى يجب عليه أن يصلي أربعا من كلام أو تخطي رقاب الناس أو غير ذلك قال لا وعلى هذا جماعة الفقهاء لأن الصلاة وإن كانت قصرت للخطبة كما زعم بعض الفقهاء فإنها لا يفسدها ما كان قبل الإحرام منها فقد يدرك المصلي من الجمعة ركعة وتفوته الخطبة فتجزيه صلاة ركعتين وقال بعض الفقهاء لو أدركه في التشهد صلى ركعتين وسيأتي القول في ذلك في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله واختلفوا في تشميت العاطس ورد السلام في الخطبة فقال مالك وأصحابه لا يرد السلام ولا يشمت العاطس والإمام يخطب إلا أن يرد إشارة كما يرده في الصلاة وهو قول أكثر أهل المدينة منهم سعيد بن المسيب وعروة وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه قالوا لا يرد السلام ولا يشمت العاطس

وقال الثوري والأوزاعي وغيرهما لا بأس برد السلام وتشميت العاطس والإمام يخطب وهو قول الحسن البصري والنخعي والحكم وحماد والشعبي والزهري واختلف في ذلك قول الشافعي فقال بالعراق كقول مالك وقال بمصر ولو سلم رجل لم يسمع الخطبة كرهت ذلك ورأيت أن يرد عليه بعضهم لأن رد السلام فرض قال ولو شمت عاطسا قد حمد الله رجوت أن يسعه فضله لأن التشميت سنة واختاره المزني وحكى البويطي عنه أنه لا بأس برد السلام وتشميت العاطس والإمام يخطب في الجمعة وغيرها وكذلك حكى إسحاق بن منصور عن أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وكذلك حكى الأثرم عن أحمد أيضا وقد روى عن أحمد أيضا إذا لم يسمع الخطبة شمت ورد السلام وهو قول عطاء وقال الطحاوي لما كان مأمورا بالإنصات للخطبة كما هو مأمور بالإنصات في الصلاة لم يشمت كما لا يشمت في الصلاة قال فإن قيل رد السلام فرض والصمت للخطبة سنة قيل له الصمت فرض لأن الخطبة فرض وإنما يصح بالخاطب والمخطوب عليهم قال أبو عمر الذي عليه أصحابنا أن الصمت فرض واجب بسنة النبي عليه السلام وهي سنة مجتمع عليها معمول بها وقد أجمعوا أن من تكلم ولغا لا إعادة عليه للجمعة ولا يقال له صلها ظهرا فلما أجمعوا على ما وصفنا دل على أن الإنصات ليس من فرائضها لأن الشأن في فرائض الصلاة أن يفسد العمل بتركها فهذا يدلك على أن الإنصات ليس بفرض والله أعلم وذكر مالك أيضا في هذا الباب عن بن شهاب عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي أنه أخبره أنهم كانوا في زمان عمر بن الخطاب يصلون يوم

الجمعة حتى يخرج عمر فإذا خرج عمر وجلس على المنبر وأذن المؤذنون قال ثعلبة جلسنا نتحدث فإذا سكت المؤذنون وقام عمر يخطب أنصتنا أنصتنا فلم يتكلم منا أحد قال بن شهاب فخروج الإمام يقطع الصلاة وكلامه يقطع الكلام قال أبو عمر ألا ترى إلى قول ثعلبة أنصتنا فلم يتكلم منا أحد وقول بن شهاب كلام الإمام يقطع الكلام وهذا كله يدل على أن الأمر بالإنصات ليس برأي وإنما هو سنة يحتج بها كما احتج بن شهاب لأن قوله خروج الإمام يقطع الصلاة وكلامه يقطع الكلام خبر عن علم علمه لا عن رأي اجتهده وهو يرد عند أصحابنا حديث جابر وحديث أبي سعيد وحديث أبي هريرة أن النبي عليه السلام أمر من جاء والإمام يخطب أن يصلي ركعتين أمر بذلك سليكا الغطفاني وغيره واختلف الفقهاء في المسألة فذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري والليث بن سعد إلى أن من جاء يوم الجمعة والإمام يخطب ودخل المسجد أن يجلس ولا يركع لحديث بن شهاب هذا وهو سنة وعمل مستفيض في زمن عمر وغيره ويشهد بصحة ما ذهبوا إليه في ذلك من حديث النبي عليه السلام ما رواه الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا منازلهم الأول فالأول فإذا خرج الإمام طويت الصحف واستمعوا الخطبة

فهذا يدل على أنه لا عمل إذا خرج الإمام إلا استماع الخطبة لطي الصحف فيما عدا ذلك والله أعلم وما رواه عبد الله بن بسر عن النبي صلى الله عليه وسلم في معنى ذلك أيضا حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا هارون بن معروف قال حدثنا بشر بن السري قال حدثنا معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية قال كنا مع عبد الله بن بسر صاحب النبي عليه السلام فجاء رجل يتخطى رقاب الناس فقال عبد الله بن بسر جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي عليه السلام يخطب فقال النبي عليه السلام اجلس فقد آذيت قال أبو عمر لم يأمره بالركوع بل أمره أن يجلس دون أن يركع وذهب الشافعي وبن حنبل وإسحاق وأبو ثور وداود والطبري إلى أن كل من دخل المسجد والإمام يخطب أن يركع لحديث جابر وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن النبي عليه السلام لما ذكرنا ولحديث أبي قتادة عن النبي عليه السلام إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس يريد في كل وقت لم ينه فيه عن الصلاة ونذكر منه ها هنا طرقا فنقول إن نهيه عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر وعند طلوع الشمس وغروبها يقتضي الإباحة كذلك فيما عدا هذه الأوقات وحديث أبي قتادة مبني على ذلك ومعنى حديث أبي قتادة أمره عليه السلام من دخل يوم الجمعة والإمام يخطب أن يركع ركعتين حدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا أحمد بن زهير قال محمد بن محبوب قال حدثنا حفص بن غياث عن الأعمش عن أبي سفيان عن داود عن أبي صالح عن أبي هريرة قال جاء سليك الغطفاني ورسول الله يخطب يوم الجمعة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم صليت قال لا قال صل ركعتين وتجوز فيهما

قال أبو عمر روى هذا الحديث عن النبي عليه السلام جابر بن عبد الله الأنصاري من رواية عمرو بن دينار وأبي الزبير وأبي سفيان طلحة بن نافع كلهم عن جابر ورواه الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام ورواه عياض بن عبد الله بن أبي سرح عن أبي سعيد الخدري عن النبي عليه السلام وهو عند أبي عيينة عن محمد بن عجلان عن عياض عن أبي سعيد وعن عمرو بن دينار عن جابر وكان سفيان بن عيينة إذا جاء يوم الجمعة والإمام يخطب صلى ركعتين ورواه عن عمرو بن دينار حماد بن زيد أيضا وغيره قال أبو عمر قد قدمنا قوله عليه السلام للذي تخطى الرقاب اجلس واستعمال الحديثين يكون بأن الداخل إن شاء ركع وإن شاء لم يركع كما قال مالك بإثر حديث أبي قتادة قال وذلك حسن وليس بواجب وأما قوله في حديث بن شهاب عن ثعلبة بن أبي مالك إنهم كانوا في زمان عمر بن الخطاب إذا خرج عمر وجلس على المنبر وأذن المؤذن فهذا موضع فيه بعض الإشكال على من لم تتسع عنايته بعلم الآثار عن السلف فإنه قد شبه على قوم من أصحابنا في موضع الأذان في يوم الجمعة وأنكروا أن يكون الأذان يوم الجمعة بين يدي الإمام كان في زمن النبي عليه السلام وأبي بكر وعمر وزعموا أن ذلك حدث في زمن هشام بن عبد الملك وهذا قول يدل على قلة علم قائله بذلك وروى عن السائب بن يزيد قال كان النداء يوم الجمعة إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي عليه السلام وأبي بكر وعمر فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء هكذا ذكر البخاري عن آدم بن أبي إياس عن بن أبي ذئب عن الزهري وقال فيه النداء الثالث وكذلك رواه بن وهب عن يونس عن بن شهاب عن السائب بن زيد مثله سواء وجعل النداء الذي أحدثه عثمان على الزوراء نداء ثالثا

وذكره أبو داود وغيره من طريق بن وهب وغيره والنداء الثالث هو الإقامة ورواه معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال كان الأذان يوم الجمعة على عهد رسول الله عليه السلام وأبي بكر وعمر أذانا واحدا حين يخرج الإمام فلما كان عثمان كثر الناس فزاد الأذان الأول وأراد أن يتهيأ الناس للجمعة فهذا يدل على أن الأذان الذي زاده عثمان إنما هو أذان ثان على الزوراء قبل الأذان بين يدي الإمام وكذلك تدل الآثار كلها عن السائب بن يزيد عن سعيد بن المسيب أن الأذان إنما كان بين يدي الإمام في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وقد رفع الإشكال في ذلك رواية بن إسحاق عن الزهري عن السائب بن يزيد حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا محمد بن بكر حدثنا أبو داود حدثنا المعلى قال حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن السائب بن يزيد قال كان يؤذن بين يدي النبي عليه السلام إذا جلس على المنبر يوم الجمعة وأبي بكر وعمر فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء على الزوراء فهذا نص في الأذان يوم الجمعة بين يدي الإمام وعلى هذا العمل عند العلماء في أمصار المسلمين بالعراق والحجاز وغيرهما من الآفاق واختلف الفقهاء هل يؤذن بين يدي الإمام مؤذن واحد أو مؤذنون فذكر بن عبد الحكم عن مالك قال إذا جلس الإمام على المنبر ونادى المنادي منع الناس من البيع تلك الساعة وهذا يدل على أن النداء عنده واحد بين يدي الإمام ويشهد لهذا حديث بن شهاب عن السائب بن يزيد أنه لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مؤذن واحد وهذا يحتمل أن يكون أراد بلالا المواظب على الأذان دون بن أم مكتوم وغيره والذي في المدونة من قول بن القاسم روايته عن مالك قال فإذا جلس الإمام على المنبر وأخذ المؤذنون في الأذان حرم البيع فذكر المؤذنين بلفظ الجمع

ويشهد بهذا حديث بن شهاب عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي أنهم كانوا في زمن عمر بن الخطاب يصلون يوم الجمعة حتى يخرج عمر فإذا خرج وجلس على المنبر وأذن المؤذنون هكذا بلفظ الجماعة ومعلوم عند العلماء أنه جائز أن يكون المؤذنون واحدا وجماعة في كل صلاة إذا كان مترادفا لا يمنع من إقامة الصلاة في وقتها وأما حكاية قول الشافعي فقال أحب إلي أن يكون الأذان يوم الجمعة حين يجلس الإمام على المنبر بين يديه فإذا قعد أخذ المؤذن في الأذان فإذا فرغ قام الإمام يخطب فذكر المؤذن بلفظ الواحد على نحو رواية بن عبد الحكم قال وكان عطاء ينكر أن يكون عثمان أحدث الأذان الثاني ويقول أحدثه معاوية قال الشافعي وأيهما كان فالأذان الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي وهو الذي ينهى عنده عن البيع وأما قول أبي حنيفة وأصحابه فإن الطحاوي حكى عنهم في مختصره قال إذا زالت الشمس يوم الجمعة جلس الإمام على المنبر وأذن المؤذنون بين يديه وامتنع الناس من البيع والشراء وأخذوا في السعي إلى الجمعة فإذا فرغ المؤذنون من الأذان قام الإمام فخطب خطبتين هكذا قال وأذن المؤذنون بين يديه بلفظ الجماعة وقد أجمع الفقهاء أن الأذان بعرفة يكون بين يدي الإمام وفيما أوردنا من الأثر عن السلف وعن أئمة الفقهاء ما فيه بيان وشفاء إن شاء الله وأما حديث مالك بن أبي عامر عن عثمان بن عفان في تسوية الصفوف فهو أمر مجتمع عليه والآثار عن النبي عليه السلام كثيرة فيه

منها حديث حميد عن أنس قال أقيمت الصلاة فأقبل علينا النبي عليه السلام بوجهه قبل أن يكبر فقال تراصوا وأصلحوا صفوفكم إني أراكم من وراء ظهري وحديث شعبة عن قتادة عن أنس عن النبي عليه السلام قال سووا صفوفكم فإن ذلك من تمام الصلاة وحديث عائشة عن النبي عليه السلام قال إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف وحديث البراء بن عازب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقيمت الصلاة مسح صدورنا وقال رصوا المناكب بالمناكب والأقدام بالأقدام فإن الله يحب في الصلاة ما يحب في القتال كأنهم بنيان مرصوص وأما قوله إنه كان لا يكبر حتى يأتيه رجال قد وكلهم بتسوية الصفوف فيخبرونه أن قد استوت فيكبر فيه من الفقه أنه لا بأس بالكلام بين الإقامة والإحرام وفيه أن العمل بالمدينة على خلاف ما رواه العراقيون أن بلالا كان يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبقني بآمين واستدلوا بذلك على أنه كان عليه السلام يكبر قبل فراغ بلال من الإقامة وقالوا يكبر الإمام إذا قال المؤذن قد قامت الصلاة

وقد ذكرنا هذه المسألة فيما مضى من هذا الكتاب فلا معنى لإعادتها والمعنى في ذلك أنهما وجهان في حين تكبير الإمام وأما حديثه عن نافع عن بن عمر أنه رأى رجلين يتحدثان والإمام يخطب يوم الجمعة فحصبهما أن اصمتا ففيه تعليم كيف الإنكار لذلك لأنه لا يجوز أن ينكر عليهما الكلام بالكلام في وقت لا يجوز فيه الكلام وفيه أنه لا يفسد ذلك عليهما صلاتهما كما ذكرنا لأنه لم يأمرهما بإعادة الصلاة ظهرا ولا غيرها وكذلك حديث سعيد بن المسيب في الذي شمت العاطس قال له لا تعد ولم يأمر بإعادة الصلاة وهذا القول إنما كان من سعيد ومن السائل له بعد السلام من الصلاة وسؤال مالك لابن شهاب عن الكلام يوم الجمعة إذا نزل الإمام عن المنبر قبل أن يكبر قال لا بأس بذلك يدل على علم مالك باختلاف الناس في هذه المسألة قديما وهي مأخوذة عند العراقيين من حديث بلال المذكور لكن العمل والفتيا عند أهل المدينة بخلاف ما ذهب إليه العراقيون في ذلك والأمر عندي فيه مباح كله والحمد لله باب فيمن أدرك ركعة يوم الجمعة مالك عن بن شهاب أنه كان يقول من أدرك من صلاة الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى قال بن شهاب وهي السنة قال مالك وعلى ذلك أدركت أهل العلم ببلدنا وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أدرك من ا لصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة

قال أبو عمر احتج مالك لمذهبه في ذلك بأنه العمل المعمول به ببلده وأن الفتيا عليه عنده وأتى بالدليل في ذلك من عموم السنة لأنها لم يخص فيها جمعة من غيرها وفي ذلك دليل على علمه باختلاف السلف في هذه المسألة فمن الخلاف فيها أن جماعة من التابعين منهم عطاء بن أبي رباح وطاوس ومجاهد ومكحول قالوا من فاتته الخطبة يوم الجمعة صلى أربعا وحجتهم أن الإجماع منعقد أن الإمام لو لم يخطب بالناس لم يصلوا إلا أربعا وفي هذه المسألة قول آخر وذلك أن مالكا والشافعي وأصحابهما والثوري والحسن بن حي والأوزاعي وزفر بن الهذيل ومحمد بن الحسن في الأشهر عنه والليث بن سعد وعبد العزيز بن أبي سلمة وأحمد بن حنبل قالوا من أدرك ركعة من صلاة الجمعة مع الإمام صلى إليها أخرى ومن لم يدرك ركعة تامة معه صلى أربعا قال أحمد بن حنبل إذا فاته الركوع صلى أربعا وإذا أدرك ركعة صلى إليها أخرى وروى ذلك عن غير واحد من أصحاب النبي عليه السلام منهم بن مسعود وبن عمر وأنس قال أبو عمر قد ذكرنا عنهم في التمهيد وعن إبراهيم النخعي وسعيد بن المسيب والزهري وعلقمة والحسن البصري وعبيدة السلماني وقال بن شهاب هو السنة وهو قول إسحاق وأبي ثور وقال الزهري هي السنة حدثنا محمد بن عبد الله حدثنا محمد بن معاوية حدثنا إسحاق بن أبي حسان حدثنا هشام بن عمار حدثنا عبد الحميد بن حبيب حدثنا الأوزاعي قال سألت الزهري عن رجل فاتته خطبة الإمام يوم الجمعة وأدرك الصلاة فقال حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة قال

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها وروى بن عيينة عن معمر قال سألت الزهري عن الرجل يدرك من الجمعة ركعة فقال يضيف إليها أخرى لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة وفي المسألة قول ثالث قال أبو حنيفة وأبو يوسف إذا أحرم في الجمعة قبل سلام الإمام صلى ركعتين روى ذلك عن النخعي أيضا وهذا قول الحكم وحماد وبه قال داود وحجتهم قوله عليه السلام ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا قالوا ومن أدرك من الصلاة جزءا قبل السلام فهو مأمور بالدخول فيها مع الإمام ومعلوم أن الذي فاته ركعتان فإنما يقضي ما فاته وذلك ركعتان لا أربع قال أبو عمر في قوله عليه السلام من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة وقد أجمعوا أن إدراكها بإدراك الركوع مع الإمام دليل على أن من لم يدرك من الصلاة ركعة فلم يدركها هذا مفهوم الخطاب ومن لم يدركها لزمه أن يصلي ظهرا أربعا وقد جعل رسول الله الذي لا يدرك منها ركعة تامة في حكم من لم يدرك منها شيئا وهو أولى ما قيل في هذا الباب والله الموفق للصواب وأما قول مالك في الذي يصيبه الزحام يوم الجمعة فيركع ولا يقدر على أن يسجد حتى يقوم الإمام أو يفرغ من صلاته إنه إن قدر على أن يسجد إن كان قد ركع فليسجد إذا قام الناس وإن لم يقدر على أن يسجد حتى يفرغ الإمام من صلاته فإنه أحب إلي أن يبتدئ صلاته ظهرا أربعا

قال أبو عمر من زوحم عن ركعة لم تتم له مع الإمام حتى سلم ولا كان ممن عقد مع إمامه في الجمعة ركعة غيرها فهذا رجل يجب عليه أن يصلي ظهرا أربعا لأنه لم يدرك من صلاته ركعة مع إمامه فيبني عليها فهذا واجب عليه الابتداء عند الفقهاء لا يقولون فيه يستحب ذلك له ووجه الاستحباب من مالك ها هنا فهو على معنى اختياره ومذهب من مذاهب من قبله من الفقهاء الذين وصفنا أقوالهم وذلك واجب عنده وعند أصحابه وإذا كان ذلك فوجهه عند أصحابه الابتداء بالظهر في الذي زوحم ولم يدرك غير تلك الركعة التي زوحم عند سجودها حتى سلم الإمام والله أعلم باب فيمن رعف يوم الجمعة قال مالك من رعف يوم الجمعة والإمام يخطب فخرج ولم يرجع حتى فرغ الإمام من صلاته فإنه يصلي أربعا وقال مالك في الذي يركع مع الإمام ركعة يوم الجمعة ثم يرعف فيخرج ثم يأتي وقد صلى الإمام الركعتين كلتيهما أنه يبني بركعة أخرى ما لم يتكلم قال مالك ليس على من رعف أو أصابه أمر لابد له من الخروج أن يستأذن الإمام يوم الجمعة إذا أراد أن يخرج قال أبو عمر لم يختلف قول مالك وأصحابه إن الراعف في صلاة الجمعة وغيرها وفي خطبة الجمعة يخرج فيغسل الدم عنه ثم يرجع فيصلي مع الإمام ما أدرك ثم يقضي ما فاته ولا يضره عمل ذلك من استدبار القبلة وغسل الدم فإن عمر غير ذلك استأنف وكذلك إن تكلم عامدا لم يبن فإن لم يتكلم بنى إذا كان قد عقد ركعة وأكملها مع إمامه ثم رعف لأن الجمعة لا يعملها إلا في المسجد أو في رحابه حيث تؤدى الجمعة ولا يبني الراعف عند مالك وجمهور أصحابه إلا إذا أتم ركعة يسجد فيها مع الإمام ثم رعف في الجمعة وغيرها

ومن رعف في الجمعة قبل إكمال ركعة بسجدتيهما أو في الخطبة ولم يطمع في إدراك الركعة الثانية معه لم يكن عليه أن يأتي المسجد وابتدأ صلاته ظهرا فإن عاد إلى المسجد فأدرك الركعة بسجدتيهما مع الإمام بنى عليها ركعة وتمت له جمعة فإن صلى ركعة وبعض أخرى ثم رعف خرج وغسل الدم وابتدأ الثانية من أولها وبنى على الأولى وقال محمد بن مسلمة وعبد الملك بن عبد العزيز يبني على ما مضى من الثانية وقد أوضحنا مسائل هذا الباب وذكرنا ما اختلف فيه أصحاب مالك هنا وفي كتاب اختلاف قول مالك وأصحابه ومضى في باب الرعاف معان من هذا الباب وأوضحناه في التمهيد والحمد لله وأما قوله ليس على من رعف أو أصابه أمر لابد له من الخروج أن يستأذن الإمام يوم الجمعة إذا أراد أن يخرج قال أبو عمر رأى ذلك قوم من التابعين وتأولوا في ذلك قوله تعالى وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستئذنوه النور وتأول أكثر أهل العلم ذلك على السرايا تخرج من العسكر لا تخرج إلا بإذن الإمام والفقهاء اليوم على ما قاله مالك لأنه كان يضيق على الناس ويعجزهم مع كبار المساجد وكثرة الناس وما جعل الله في الدين من حرج والآية عندهم معناها في الغزو وخروج السرايا وقد روى سفيان الثوري عن خالد الحذاء عن محمد بن سيرين قال كانوا يستأذنون الإمام يوم الجمعة في الرجل يحدث أو يرعف والإمام يخطب يوم الجمعة فلما كان زمان زياد كثر ذلك فقال زياد من أخذ بأنفه فهو إذن باب ما جاء في السعي يوم الجمعة مالك أنه سأل بن شهاب عن قول الله عز وجل يأيها الذين ءامنوا إذا

نودي للصلوة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله الجمعة فقال بن شهاب كان عمر بن الخطاب يقرؤها إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فامضوا إلى ذكر الله قال أبو عمر روى هذا الخبر سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه قال ما سمعت عمر يقرؤها قط فامضوا إلى ذكر الله قال أبو عمر قد احتج مالك في هذا الباب لمعنى السعي في هذا الموضع أنه ليس الاشتداد والإسراع وأنه العمل نفسه بما فيه كفاية من كتاب الله فأحسن الاحتجاج وفي هذا الحديث دليل على ما ذهب إليه العلماء من الاحتجاج بما ليس في مصحف عثمان على جهة التفسير فكلهم يفعل ذلك ويفسر به مجملا من القرآن ومعنى مستغلقا في مصحف عثمان وإن لم يقطع عليه بأنه كتاب الله كما يفعل بالسنن الواردة بنقل الآحاد العدول وإن لم يقطع على منعها وقد كان بن مسعود يقرؤها كما كان يقرؤها عمر فامضوا إلى ذكر الله وكان بن مسعود يقول لو قرأتها فاسعوا إلى ذكر الله لسعيت حتى يسقط ردائي والسعي أيضا في اللغة الإسراع والجري وذلك معروف في لسان العرب كما أنه معروف فيه أنه العمل ألا ترى إلى قوله عليه السلام إذا ثوب بالصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون أي تجرون وتسرعون وتشتدون ومن السعي الذي هو العمل قوله تعالى ومن أراد الأخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا الإسراء وقال إنما جزؤا الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا المائدة وقال الذين ضل سعيهم فى الحيوة الدنيا الكهف وهو كثير في القرآن قال زهير سعى بعدهم قوم فلم يدركوهم ولم يفعلوا ولم يلاموا ولم يألوا

باب ما جاء في الإمام ينزل بقرية يوم الجمعة في السفر قال مالك إن كانت القرية مما تجب فيها الجمعة يعني لكبرها وكثرة الناس فيها وأنها ذات سوق ومجمع للناس فإنه يجمع بهم بخطبة ويجزيه ويجزيهم قال وإن كانت القرية لا تجب فيها الجمعة لم يجمع بهم وإن جمع فليست جمعة له ولا لمن معه من المسافرين ولا لأهل تلك القرية ويتم أهل تلك القرية صلاتهم يبنون على الركعتين اللتين صلوا معه ظهرا وكذلك ذكر بن عبد الحكم عنه يبنون وليس عليهم أن يبتدئوا وتجزيه صلاته كل مسافر معه إلا أنها ليست جمعة وإنما هي صلاة سفر وقال بن نافع عن مالك يتمون بعد إمامهم وصلاتهم جائزة وقال بن نافع فيما روى يحيى بن يحيى عنه وقال بن القاسم في المدونة لا جمعة له ولا لهم ويعيد ويعيدون لأنه جهر عامدا وذكر بن المواز عن بن القاسم أنه قال أما فصلاته تامة وأما هم فعليهم الإعادة وأما قوله ليس على مسافر جمعة فإجماع لا خلاف فيه وقد روي ذلك عن النبي عليه السلام من أخبار الآحاد وسيأتي القول في مقدار السفر الذي تقصر فيه الصلاة في موضعه إن شاء الله قال أبو عمر الصواب ما رواه بن نافع وبن عبد الحكم في هذا الباب وهو ظاهر ما في الموطأ وهذا الذي لا يصح عندي غيره وليس جهره من باب تعمد الفساد وإنما هو من باب الاجتهاد في التأويل فلا يضره باب ما جاء في الساعة التي في يوم الجمعة مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

ذكر يوم الجمعة فقال فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يقللها هكذا يقول عامة رواة الموطأ في هذا الحديث إلا قتيبة بن سعيد وبن وأبي أويس وعبد الله بن يوسف التنيسي وأبا المصعب فإنهم لم يقولوا في روايتهم لهذا الحديث عن مالك وهو قائم يصلي وهو محفوظ في حديث أبي الزناد هذا من رواية مالك وغيره عنه وفي رواية أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة وقد ذكرنا ذلك في التمهيد وفي هذا الحديث دليل على فضل يوم الجمعة على سائر الأيام ودليل على أن فيه ساعة هي أفضل من سائر ساعاته والفضائل لا تورد بقياس وإنما فيها التسليم لمن ينزل عليه الوحي بما غاب عنه فأما قوله وهو قائم يصلي فإنه يحتمل القيام المعروف ويحتمل أن يكون القيام هنا المواظبة على الشيء لا الوقوف من قوله تعالى ما دمت عليه قائما آل عمران أي مواظبا بالاختلاف والاحتضار وعلى هذا التأويل يخرج جماعة الآثار ولا يبعد أن يكون على قول من قال إنها بعد العصر لأنه ليس بوقت صلاة ولكنه وقت مواظبة في انتظارها قال الأعشى يقوم على الوغم في قومه فيعفوا إذا شاء أو ينتقم لم يرد بقوله يقوم ها هنا الوقوف وإنما أراد المطالبة بالذحل والمداومة على طلب الوتر حتى يدركه وأما الساعة المذكورة في يوم الجمعة فاختلفت فيها الآثار المرفوعة وكذلك اختلف فيها العلماء

وقال قوم قد رفعت وهذا ليس بشيء عندنا لحديث بن جريج عن داود بن أبي عاصم عن عبد الله بن يحنس مولى معاوية قال قلت لأبي هريرة زعموا أن الساعة التي في يوم الجمعة لا يدعوا فيها مسلم إلا استجيب له قد رفعت قال كذب من قال ذلك قلت فهي في كل جمعة استقبلها قال نعم قال أبو عمر على هذا تواترت الآثار وبه قال علماء الأمصار إلا أنهم اختلفوا فذهب عبد الله بن سلام إلى أنها بعد العصر إلى غروب الشمس وقال بقوله ذلك جماعة ومن حجتهم حديث يرويه بن وهب عن عمرو بن الحارث عن الجلاح مولى عبد العزيز بن مروان عن أبي سلمة عن جابر عن النبي عليه السلام قال يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة فيها ساعة لا يوجد مسلم يسأل الله فيها شيئا إلا أعطاه فالتمسوها آخر ساعة في العصر وقد قيل إن قوله في هذا الحديث فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر هو من قول أبي سلمة وقال آخرون الساعة المذكورة يوم الجمعة هي ساعة الصلاة وحينها من الإحرام فيها إلى السلام منها واحتجوا بحديث عمرو بن عوف المزني قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن في الجمعة ساعة من النهار لا يسأل العبد فيها شيئا إلا أعطي بقوله قيل أية ساعة هي فقال من حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها وهو حديث لم يروه فيما علمت إلا كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده وليس ممن يحتج به وقال آخرون الساعة المذكورة يوم الجمعة من حين يفتتح الإمام الخطبة إلى الفراغ من الصلاة

واحتجوا بحديث أبي موسى عن النبي عليه السلام قال إن في الجمعة ساعة لا يسأل العبد فيها ربه إلا أعطاه قيل يا رسول الله أي ساعة هي قال من حين يقوم الإمام أو من حين يجلس الإمام إلى أن تقوم الصلاة رواه بن وهب عن مخرمة بن بكير عن أبيه عن أبي بردة عن أبيه عن النبي عليه السلام وروى روح بن عبادة عن عوف عن معاوية بن قرة عن أبي بردة بن أبي موسى أنه قال لابن عمر هي الساعة التي يخرج فيها الإمام إلى أن تقضى الصلاة فقال بن عمر أصاب الله بك وروى عبد الرحمن بن حجيرة عن أبي ذر أن امرأته سألته عن الساعة التي يستجاب فيها يوم الجمعة للعبد المؤمن فقال لها مع زيغ الشمس بيسير إلى ذراع فإن سألتنى بعدها فأنت طالق وروى وكيع عن محمد بن قيس قال تذاكرنا عند الشعبي الساعة التي ترجى في يوم الجمعة قال هي ما بين أن يحرم البيع إلى أن يحل وروى جرير عن إسماعيل بن سالم عن الشعبي أنه كان يقول في الساعة التي ترجى في يوم الجمعة هي ما بين خروج الإمام إلى انقضاء الصلاة وقال بن سيرين هي الساعة التي كان يصلي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد روى حصين عن الشعبي عن عوف بن حصيرة قال الساعة التي ترجى في الجمعة من حين تقام الصلاة إلى انصراف الإمام وقد ذكرنا أسانيد هذه الأحاديث كلها في التمهيد ويشهد لهذه الأقاويل ما جاء في حديث مالك في هذا الباب قوله وأشار بيده يقللها أي يصغرها ويحتج أيضا من ذهب إلى هذا بحديث علي عن النبي عليه السلام أنه قال إذا زالت الشمس وفاءت الأفياء وراحت الأرواح فاطلبوا إلى الله حوائجكم

فإنها ساعة الأوابين ثم تلا فإنه كان للأوابين غفورا الإسراء واحتج أيضا من قال ذلك بحديث أبي هريرة هذا عن النبي عليه السلام قوله وهو قائم يصلي قال وبعد العصر لا صلاة في ذلك الوقت ولا يجوز لأحد أن يقوم فيصلي في ذلك الوقت وظاهر الحديث أولى من ادعاء الباطن فيه وممن قال إنها بعد العصر إلى غروب الشمس بن عباس رواه سعيد بن جبير عن بن عباس قال الساعة التي تذكر يوم الجمعة ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس وكان سعيد بن جبير إذا صلى العصر لم يكلم أحدا حتى تغرب الشمس وأما حديث مالك عن يزيد بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن

أبي سلمة عن أبي هريرة أنه قال خرجت إلى الطور فلقيت كعب الأحبار وساق الحديث إلى آخره ثم قال بصرة بن أبي بصرة الغفاري فلم يقل في هذا الحديث فيما علمت فلقيت بصرة بن أبي بصرة الغفاري في حديث مالك هذا عن يزيد بن الهاد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن أبي سلمة عن أبي هريرة غيره وسائر الرواة إنما فيه عن أبي هريرة قال لقيت أبا بصرة لا بصرة بن أبي بصرة وأظن الوهم جاء فيه من يزيد والله أعلم وقد ذكرنا بصرة وأباه أبا بصرة في كتاب الصحابة بما ينبغي والحمد لله وفي هذا الحديث من العلم وجوه منها الخروج إلى المواضع التي يتبرك بشهودها والصلاة فيها لما بان من بركتها وليس في ذلك ما يعارض قوله لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد على مذهب أبي هريرة وإن كانع بصرة بن أبي بصرة قد خالفه في ذلك فرأى قوله لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد قولا عاما فيها سواها والله أعلم وكأن أبا هريرة لم ير النهي عن إعمال المطي فيما عدا الثلاثة المساجد إلا في الواجب من النذر وكأن عنده إعمال المطي في سائر السنن والمباح كزيارة الأخ في الله وشبهه غير داخل في النهي عن إعمال المطي وقد قال مالك وجماعة من أهل العلم فيمن نذر رباطا في ثغر يسده فإنه يلزمه الوفاء به حيث كان الرباط لأنه طاعة لله تعالى فأما من نذر صلاة في مسجد لا يصل إليه إلا برحلة وراحلة فلا يفعل ويصلي في مسجده إلا في الثلاثة المساجد المذكورة فإنه من نذر الصلاة فيها خرج إليها قال مالك من نذر أن يصلي في مسجد لا يصل إليه إلا برحلة فإنه يصلي في مسجد بلده إلا أن ينذر ذلك في مسجد مكة والمدينة وبيت المقدس فإن نذر في هذه المساجد الثلاثة الصلاة فعليه السير إليها وقد يجوز أن يكون خروج أبي هريرة إلى الطور لحاجة عنت هناك من أمور دنياه وما يعنيه منها فإن كان كذلك فليس خروجه من باب لا تعمل المطي في شيء

وأما كعب الأحبار فهو كعب بن مانع الحميري من ذي رعين من حمير وقيل من ذي هجر من حمير يكنى أبا إسحاق أسلم في زمن عمر وتوفي في آخر خلافة عثمان وقد ذكرنا طرفا من خبره في التمهيد وفي هذا الحديث أيضا إباحة الحديث عن التوراة لمن علمها علم ثقة ويقين وكان كعب عالما بها لأنه كان حبرا من أحبار يهود وإن كان عربي النسب فإن من العرب كثيرا تنصر وكثيرا تهود وقد أفردنا بابا كافيا في الحديث عن أهل الكتاب وكيف المعني فيما جاء عنهم في كتاب جامع بيان العلم وفيه أن خير الأيام يوم الجمعة وفي ذلك فضل بعض الأيام على بعض ولا يعلم ذلك إلا بتوقيف وقد صح فضل يوم الجمعة ويوم عاشوراء ويوم عرفة وجاء في يوم الاثنين والخميس ما جاء وروى الأعمش عن مجاهد عن عبد الله بن ضمرة عن كعب الأحبار قال الصدقة يوم الجمعة تضاعف وقد روى حصين عن هلال بن يساف عن كعب الأحبار في يوم الجمعة قال تضاعف فيه الحسنة والسيئة وأنه يوم القيامة وفيه الخبر عن خلق آدم وهبوطه إلى الأرض وفي ذلك جواز الحديث عن أمور ابتداء الخلق وعمن كان قبلنا من الأنبياء وعن بني إسرائيل وغيرهم وأهل العلم يرون رواية ذلك عن كل أحد لأنه ليس في حكم ولا في دم ولا فرج ولا مال ولا حلال ولا حرام وقد أوضحنا هذا المعنى في صدر كتاب التمهيد وفيه أن آدم تيب عليه يوم الجمعة وإن كان في القرآن المحكم أنه فتلقى ءادم من ربه كلمت فتاب عليه البقرة ليس فيه أن ذلك كان يوم جمعة وفيه إباحة الحديث عن المستقبل من الأمور وإن كان من علم الغيب إذا كان ذلك عمن يوثق به في علمه ودينه وكان الخبر مما لا يرده أصل من أصول الشريعة لأن كل ما ترده أصول شريعتنا فباطل وليس في قوله إن الساعة تقوم يوم الجمعة دليل على أن الخبر بذلك من علم الساعة الذي لا يعلمه إلا هو لأن يوم الجمعة متكرر مع أيام الدنيا فليس في ذكره ما يوجب متى هي

وقد سأل عنها رسول الله جبريل عليه السلام فقال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل وقال تعالى قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو الأعراف وقد ظهر كثير من أشراطها وقال تعالى لا تأيتكم إلا بغتة الأعراف وقوله وما من دابة إلا وهي مصيخة فالإصاخة الاستماع وهو ها هنا سماع حذر وإشفاق خشية الفجأة والبغتة وأصل الكلمة الاستماع قال أعرابي وحديثها كالقطر يسمعه راعي سنين تتابعت جدبا فأصاخ يرجو أن يكون حيا ويقول من فرح أيا ربا وقال أمية بن أبي الصلت وهم عند رب ينظرون قضاءه يصيخون بالأسماع للوحي ركد وقال كم من مصيخ إلى أوتار غانية ناحت عليه وقد كانت تغنيه وقال غيره يصف ثورا بحريا ويصيخ أحيانا كما استمع المضل لصوت ناشد والمضل الذي قد أضل دابته أو بعيره أو غلامه يقال منه أضل سببه فهو مضل

والناشد الطالب يقال منه نشدت ضالتي أنشدها إذا طلبتها وناديت عليها وأما المنشد فهو المعرف بالضالة وقيل هو الدال عليها والمعنى متقارب وفي الحديث دليل على أن الإنس والجن لا يعرفون من أمر الساعة ما تعرف الدواب وهذا أمر تقصر عنه أفهامنا وهذا العلم وشبهه لم نؤت منه إلا قليلا وأما قوله فيها ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله إلا أعطاه إياه فقد اختلف في تلك الساعة وقد قدمنا من ذلك ما فيه كفاية إن شاء الله تعالى وقول عبد الله بن سلام فيها أثبت شيء إن شاء الله وقد تابعه بن عباس وغيره وفي سكوت أبي هريرة لعبد الله بن سلام عند ما ألزمه في ذلك وأدخل عليه في مناظرته إياه دليل على متابعة أبي هريرة له وتسليمه لقوله والله أعلم وقد روي بنحو قول عبد الله بن سلام أحاديث مرفوعة منها حديث موسى بن وردان عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم التمس الساعة التي في يوم الجمعة بعد العصر إلى غروب الشمس ومنها حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الساعة التي يتحرى فيها الدعاة يوم الجمعة هي آخر ساعة من يوم الجمعة وحديث أبي هريرة عن النبي عليه السلام أنه قال الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة بعد العصر إلى غروب الشمس وحديث جابر عن النبي عليه السلام التمسوها آخر ساعة بعد العصر

وحديث شعبة عن إبراهيم بن ميسرة قال أخبرني من أرسله عمرو بن أوس إلى أبي هريرة يسأله عن الساعة التي في يوم الجمعة فقال هي بعد العصر وشعبة عن الحكم عن بن عباس مثله وشعبة عن يونس بن خباب عن أبي هريرة مثله وجرير عن ليث عن مجاهد وطاوس عن أبي هريرة أنه قال في الساعة التي في يوم الجمعة بعد العصر حتى تغرب الشمس أو بعد الصبح حتى تطلع الشمس قال وكان طاوس إذا صلى العصر لا يكلم أحدا ولا يلتفت مشغولا بالدعاء والذكر حتى تغيب الشمس وقد ذكرنا هذه الأحاديث بأسانيدها في التمهيد وذكرنا هناك عن عبد الله بن سلام وكعب هذه الساعة التي خلق الله فيها آدم وهي آخر ساعة من يوم الجمعة بالإسناد الحسن عنهما أيضا وعن طاوس أن الساعة من يوم الجمعة التي تقوم فيها الساعة والتي أنزل فيها آدم والتي لا يدعو فيها المسلم بدعوة صالحة إلا استجيب له من حين تصفر الشمس إلى حين تغيب وأما قوله فقال كعب هي في كل سنة مرة فقلت بل في كل جمعة ثم قرأ كعب التوراة فقال صدق رسول الله ففيه دليل على أن العالم يخطئ وأنه ربما قال على أكثر ظنه فيخطئه ظنه وفيه أن من سمع الخطأ وهو يعلمه ينكره ويرد على من سمعه منه إذا كان عنده في رده أصل صحيح يركن إليه كما صنع أبو هريرة في إنكاره على كعب وفيه أن العالم إذا رد عليه قوله طلب التثبت فيه والوقوف على صحته حيث رجاه في مظانه ومواضعه حتى يصح له أو يصح قول مخالفه فينصرف إليه وفه دليل على أن الواجب على كل من سمع الحق وعرفه الانصراف إليه وأما قوله عن أبي هريرة في هذا الحديث فلقيت بصرة بن أبي الغفاري إلى آخر قصته معه فهكذا في الموطأ بصرة بن أبي بصرة لم يختلف عن مالك في ذلك ولا عن يزيد بن الهادي فيما علمت وأما غير مالك وغير شيخه يزيد بن الهادي فإنهم يقولون في هذا الحديث فلقيت أبا بصرة الغفاري

وأبو بصرة اسمه جميل بن بصرة على اختلاف عنه قد ذكرته عند ذكري له في كتاب الصحابة وروى القعبني عن الدراوردي عن زيد بن أسلم عن المقبري عن أبي هريرة أنه خرج إلى الطور يصلي فيه ثم أقبل فلقي جميل بن بصرة الغفاري فذكر الحديث على ما ذكرناه في التمهيد من طرق وفي قول عبد الله بن سلام كذب كعب ثم قال صدق كعب دليل على ما كان القوم عليه من إنكار ما يجب إنكاره والإذعان إلى الحق والرجوع إليه والاعتراف به ومعنى قوله كذب كعب أي غلط كعب وكذلك هو معروف للعرب في أشعارها ومخاطباتها فمن ذلك قول أبي طالب كذبتم وبيت الله يبزى محمد ولما نطاعن دونه ونناضل ألا ترى أن هذا ليس من باب الكذب الذي هو ضد الصدق إنما هو من باب غلط الإنسان فيما يظنه فكأنه قال كذبكم ظنكم ومثل هذا قول زفر بن الحارث العبسي كذبتم وبيت الله لا تقتلونه ولما يكن يوم أغر محجل وقال بعض شعراء همدان كذبتم وبيت الله لا تأخذونها مراغمة ما دام للسيف قائم ومن هذا ما رواه حماد بن زيد عن أيوب قال سألت سعيد بن جبير عن الرجل يأذن لعبده في التزويج بيد من الطلاق قال بيد العبد قال إن جابر بن زيد يقول بيد السيد قال كذب جابر ومن هذا قول عبادة كذب أبو محمد فمعنى قول عبد الله بن سلام كذب كعب أي أخطأ ظنه وقوله صدق كعب أي أصاب

وفي قول عبد الله بن سلام قد علمت أي ساعة هي دليل على أن للعالم أن يقول قد علمت كذا وأنا أعلم كذا إذا لم يكن على سبيل الفخر وما الفخر بالعلم إلا حديث بنعمة الله وفي قول أبي هريرة أخبرني بها ولا تضن علي أي لا تبخل علي دليل على ما كان القوام عليه من الحرص على العلم والبحث عنه وفي مراجعة ابي هريرة لعبد الله بن سلام حين قال هي آخر ساعة من يوم الجمعة واعتراضه عليه بأنها ساعة لا يصلى فيها لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يوافقها عبد مؤمن وهو يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه دليل على إثبات المعارضة والمناظرة وطلب الحجة وموضع الصواب وفي إدخال عبد الله بن سلام عليه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من جلس مجلسا ينتظر الصلاة فهو في صلاة وإذعان أبي هريرة إلى ذلك دليل واضح على ما كان عليه القوم من البصر بالاحتجاجات والاعتراضات والإدخال والإلزامات في المناظرة وهذا سبيل أهل العلم وعن بن عباس مثل قول عبد الله بن سلام في ذلك سواء وقد ذكرنا كل ذلك في التمهيد والحمد لله باب الهيئة وتخطي الرقاب واستقبال الإمام يوم الجمعة مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما على أحدكم لو اتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته هكذا هو عند أكثر رواة الموطأ وذكر بن وهب عن مالك عن يحيى بن سعيد وربيعة بن أبي عبد الرحمن أن رسول الله عليه السلام قال ما على أحدكم أن يتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته وهو مرسل منقطع يتصل من وجوه حسان وقد ذكرتها في التمهيد

والمهنة الخدمة بفتح الميم قال الأصمعي ولا يقال بالكسر وأجاز الكسائي فيه الكسر مثل الجلسة والركبة ومعنى ثوبي مهنته أي ثوبي بذلته يقال منه امتهنني القوم أي ابتذلوني والثوبان والله أعلم قميص ورداء أو جبة ورداء وفي هذا الحديث الندب لكل من وجد سعة أن يتخذ الثياب الحسان للأعياد والجمعات ويتجمل بها وكان رسول الله يفعل ذلك ويعتم ويتطيب ويلبس أحسن ما يجد في الجمعة والعيد وفيه الأسوة الحسنة وكان يأمر بالطيب والسواك والدهن قال رسول الله عليه السلام إذا أنعم الله على عبد نعمة أحب أن يرى أثرها عليه وقال عمر بن الخطاب إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم جمع امرؤ عليه ثيابه وقال إنه ليعجبني أن أنظر إلى القارئ أبيض الثياب وذكر في هذا الحديث أيضا عن نافع عن بن عمر كان لا يروح إلى الجمعة إلا ادهن وتطيب إلا أن يكون محرما وهي سنة مسنونة معمول بها عند جماعة العلماء وأما قول أبي هريرة في هذا الباب لأن يصلي أحدكم بظهر الحرة خير له من أن يقعد حتى إذا قام الإمام يخطب جاء يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة فإن هذا المعنى مرفوع إلى النبي عليه السلام من حديث أبي هريرة وغيره في تخطي رقاب الناس يوم الجمعة فمن ذلك حديث أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي عليه السلام من اغتسل يوم الجمعة واستن ومس طيبا إن كان عنده ولبس أحسن ثيابه ثم خرج حتى

أتى المسجد فلم يتخط رقاب الناس وأنصت إذا خرج الإمام كانت كفارة ما بينه وبين الجمعة التي تليها وحديث عبد الله بن عمرو بن العاصي عن النبي عليه السلام قال يحضر الجمعة ثلاثة نفر فرجل حضرها يلغو وهو حظه منها ورجل حضرها يدعو فهو رجل دعا الله إن شاء أعطاه وإن شاء منعه ورجل حضرها بإنصات ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحدا فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام الحسنة بعشر أمثالها وحديث عبد الله بن بسر قال جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والإمام يخطب فقال له رسول الله أجلس فقد آذيت وحديث الأرقم بن أبي الأرقم عن النبي عليه السلام من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة بعد خروج الإمام وفرق بين اثنين فكأنما يجر قصبه في النار وهو حديث ضعيف الإسناد وروى بن أبي ذئب عن المقبري عن أبيه عن عبد الله بن وديعة عن سلمان الفارسي عن النبي عليه السلام قال لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويمس طيبا من بيته ثم راح ولم يفرق بين اثنين ثم صلى ما كتب له ثم أنصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى ذكره بن أبي شيبة عن شبابة عن بن أبي ذئب في المسند ولم يذكره في

المصنف وهو في موطأ بن أبي ذئب رواه أحمد بن صالح عن بن أبي فديك عن بن أبي ذئب وروى بن القاسم عن مالك قال أكره التخطي إذا قعد الإمام على المنبر ولا بأس به قبل ذلك إذا كان بين يديه فرج وقال بن وهب عنه مثل ذلك وزاد تخط قبل خروج الإمام في رفق وذكر الثوري التخطي مطلقا وقال الأوزاعي التخطي الذي جاء فيه القول إنما هو والإمام يخطب حينئذ كره أن يفرق بين اثنين وقال الأوزاعي في الذي يجلس على طريق الناس في المسجد يوم الجمعة تخطوهم فإنهم لا حرمة لهم وقال الشافعي أكره تخطي الرقاب يوم الجمعة قبل دخول الإمام وبعده لما فيه من سوء الأدب وذكر محمد بن الحسن عن مالك أنه قال لا بأس بالتخطي بعد خروج الإمام قال محمد أراه قبل خروج الإمام ولا أراه بعده ولم يحك عن أصحابه خلافا في ذلك وأجمعوا أن التخطي لا يفسد شيئا من الصلاة وقال الأوزاعي هدي المسلمين إذا جلس الإمام على المنبر يوم الجمعة أن يستقبلوه بوجوههم وأما قوله السنة عندنا أن يستقبل الناس الإمام يوم الجمعة إذا أراد أن يخطب من كان منهم يلي القبلة أو غيرها فهو كما قال سنة مسنونة عند العلماء لا أعلمهم يختلفون في ذلك وأن كنت لا أعلم فيها حديثا مسندا إلا أن وكيعا ذكر عن يونس عن الشعبي قال من السنة أن يستقبل الإمام يوم الجمعة ووكيع عن أبان بن عبد الله البجلي عن عدي بن ثابت قال كان النبي عليه السلام إذا خطب استقبله أصحابه بوجوههم وذكرها أيضا بن أبي شيبة عن وكيع وروى استقبال الإمام إذا خطب يوم الجمعة عن جماعة من العلماء بالحجاز والعراق

باب القراء في صلاة الجمعة والاحتباء ومن تركها من غير عذر مالك عن ضمرة بن سعيد المازني عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير ماذا كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على إثر سورة الجمعة قال كان يقرأ هل آتك حديث الغشية الغاشية قوله على إثر سورة الجمعة دليل على أن سورة الجمعة كان يقرأ بها ولا يترك قراءتها فلم يحتج إلى السؤال عن ذلك لعلمه به وفيه أيضا دليل على أن الركعة الثانية كان يقرأ فيها بغير سورة الجمعة ولو كان يقرأ سورة الجمعة في الركعتين كلتيهما ما كان سؤاله مثل هذا السؤال وكذلك لو كان يقرأ معها شيئا واحدا أبدا لعلمه كما علم سورة الجمعة ولكنه كان مختلفا فلم يقف منه على شيء واحد وسأل عن الأغلب منه فأخبره النعمان بما عنده وقد علم غير النعمان من ذلك خلاف ما علم النعمان وقد أدى عنه صلى الله عليه وسلم أصحابه ما علموا من ذلك وقد اختلف العلماء في هذا الباب على حسب اختلاف الآثار فيه وهذا عندهم من اختلاف المباح الذي ورد ورود التخيير وأما اختلاف الآثار في ذلك فمن ذلك حديث مالك هذا ومنها حديث إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه عن حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيدين والجمعة ب سبح اسم ربك الأعلى الأعلى هل أتك حديث الغشية الغاشية وإذا اجتمع العيدان في يوم قرأ بهما جميعا ومنها حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن عبد الله بن أبي رافع قال استخلف مروان أبا هريرة على المدينة وخرج إلى مكة فصلى بنا أبو هريرة

الجمعة فقرأ بسورة الجمعة في الركعة الأولى وفي الآخرة إذا جاءك المنفقون المنافقون قال عبيد الله فأدركت أبا هريرة حين انصرف فقلت له إنك قرأت بسورتين كان علي يقرأ بهما في الكوفة فقال أبو هريرة إني سمعت رسول الله يقرأ بهما ومنها حديث الثوري عن محمد بن راشد عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن بن عباس أن النبي عليه السلام كان يقرأ في الجمعة بسورة الجمعة وإذا جاءك المنافقون ومنها حديث زيد عقبة عن سمرة بن جندب قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الجمعة ب سبح اسم ربك الأعلى الأعلى و هل أتك حديث الغشية الغاشية وهذه آثار صحاح كلها لها طرق كثيرة ورويت من وجوه غير هذه وأما اختلاف الفقهاء في هذه المسألة فقال مالك بما روي في ذلك قال أحب إلي أن يقرأ الإمام يوم الجمعة هل أتك حديث الغشية الغاشية مع سورة الجمعة وقد روى عنه أنه كان يقرأ ب سبح اسم ربك الأعلى الأعلى وذكر بن أبي شيبة عن إسماعيل بن عياش عن محمد بن عجلان قال صليت خلف عمر بن عبد العزيز الجمعة فقرأ في الركعة الأولى بسورة الجمعة وفي الثانية ب سبح اسم ربك الأعلى وجملة قول مالك في ذلك أن الإمام لا يترك سورة الجمعة في الأولى ويقرأ في الثانية بما شاء إلى أنه يستحب ما وصفنا وروى بن وهب عن مالك أنه سئل عن قراءة سورة الجمعة يوم الجمعة أسنة قال لا أدري ما سنة ولكن من أدركنا كان يقرأ بها يوم الجمعة قيل له فما

ترى أن يقرأ معها قال أما فيما مضى ف سبح اسم ربك الأعلى وأما اليوم فيقرؤون بالسورة التي تليها وقال الأوزاعي ما نعلم أحدا من أئمة المسلمين ترك سورة الجمعة يوم الجمعة وقال الشافعي أختار أن يقرأ في الأولى بسورة الجمعة وفي الثانية إذا جاءك المنفقون المنافقون وهو قول علي وأبي هريرة وجماعة وقال مالك والشافعي وداود لا يترك قراءة سورة الجمعة في الركعة الأولى على كل حال فإن لم يقرأها لم تفسد صلاته وقد أساء وترك ما يستحب له وقال أبو حنيفة وأصحابه ما قرأ به فحسن وكانوا يكرهون أن يوقتوا في ذلك شيئا من القرآن سورة الجمعة أو غيرها وقال الثوري لا يتعمد أن يقرأ في الجمعة بالسورة التي جاءت في الآثار ولكن يتعمد ذلك أحيانا ويدع أحيانا وأما الاحتباء فذكر في رواية يحيى بن يحيى في ترجمة هذا الباب ولم يذكر في الباب فيه شيئا وذكر في رواية بن بكير وغيره في هذا الباب مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عمر كان يحتبى يوم الجمعة والإمام يخطب وهذا الحديث قد رواه عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر ولم يرو عن أحد من الصحابة خلافه ولا روي عن أحد من التابعين كراهية الاحتباء يوم الجمعة إلا وقد روي عنه جوازه وأظن مالكا سمع والله أعلم ما روي عن النبي عليه السلام من كراهية الاحتباء يوم الجمعة والإمام يخطب وأنه قد قال به قوم ولم يصح عنده وصح عنده فعل بن عمر وبلغه فأدخله في كتابه والحديث المسند فيه رواه أبو عبد الرحمن المقبري عن سعيد بن أبي أيوب قال حدثني أبو مرحوم عن سهل بن معاذ عن أبيه أن النبي عليه السلام نهى عن الاحتباء يوم الجمعة والإمام يخطب

وذكره أبو داود وقال حدثنا محمد بن عوف قال حدثنا المقبري فذكره قال أبو داود وكان بن عمر وأنس بن مالك وشريح وصعصعة بن صوحان وسعيد بن المسيب والنخعي ومكحول وإسماعيل بن محمد بن سعد يحتبون يوم الجمعة وقال نعيم بن سلامة لا بأس بها ولم يبلغني أن أحدا كرهها الا عبادة بن نسي وروي في غير الموطأ جواز الاحتباء يوم الجمعة عن جماعة من السلف وهو قول مالك والأوزعي والشافعي والثوري وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود وأما حديثه في هذا الباب عن صفوان بن سليم قال مالك لا أدري أعن النبي عليه السلام أم لا أنه قال من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير عذر طبع الله على قلبه فإن هذا الحديث مروي عن النبي عليه السلام من وجوه منها حديث أبي الجعد الضمري وكانت له صحبة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ترك الجمعة ثلاث مرات ومنهم من يقول فيه ثلاث جمع تهاونا طبع الله على قلبه وهو حديث مدني رواه محمد بن عمر بن علقمة عن عبيدة بن سفيان عن أبي الجعد الضمري عن النبي عليه السلام وقد رواه بعضهم عن محمد بن عمر وعن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم والأول عندي أولى بالصواب

وقد ذكرناه بالأسانيد في التمهيد وحديث أبي قتادة أيضا مدني عن النبي عليه السلام في معناه رواه الدراوردي وسليمان بن بلال عن أسيد بن أبي أسيد البراد عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من ترك الجمعة ثلاثا من غير عذر طبع الله على قلبه قال أبو عمر يرويه غير سليمان والدراوردي عن أسيد بن أبي أسيد عن عبد الله بن أبي قتادة عن جابر ورواية سليمان والدراوردي أولى بالصواب إن شاء الله وفيه من غير ضرورة وقد ذكرنا في التمهيد معنى الضرورة وما هي وما الذي يتخلف له الصحيح عن الجمعة وأتينا بما للعلماء في ذلك هنالك والحمد لله وأما التشديد في تركها فروي عن النبي عليه السلام من حديث بن عمر وحديث بن عباس وحديث أبي هريرة أن النبي عليه السلام قال لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعة أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين وقد ذكرتها بأسانيدها في التمهيد والختم على القلوب مثل الطبع عليها وهذا وعيد شديد لأن من طبع على قلبه وختم عليه لم يعرف معروفا ولم ينكر منكرا وقد قال عبد الله بن مسعود والحسن البصري إن الصلاة التي أراد النبي عليه السلام أن يحرق على من تخلف عنها هي الجمعة ذكره بن أبي شيبة عن الفضل بن دكين عن زهير عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله وعن عفان عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن وهي عن سفيان الثوري وبن المبارك ومراون بن معاوية عن عوف الأعرابي عن سعيد بن أبي الحسن عن عبد الله بن عباس أنه قال من ترك ثلاث جمعات متواليات من غير عذر فقد نبذ الإسلام وراء ظهره وروى جرير وعبد الله بن إدريس عن ليث عن مجاهد أن رجلا سأل بن عباس شهرا كل يوم يسأله عنها ما تقول في رجل يصوم النهار ويقوم الليل ولا

يشهد الجمعة ولا الجماعة فكان بن عباس يقول في ذلك كله صاحبك في النار وهذا يحتمل أن يكون بن عباس عرف حال المسؤول عنه باعتقاد مذهب الخوارج في ترك الصلاة مع الجماعة والتهمة باستحلال دماء المسلمين وتكفيرهم وأنه لذلك ترك الجمعة والجماعة معهم فأجابه بهذا الجواب تغليظا في سوء مذهبه وقد ذكرنا في التمهيد حديث علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبهم فقال في خطبته إن الله فرض عليكم الجمعة في يومي هذا وفي عامي هذا فمن تركها جحودا بها واستخفافا لحقها فلا جمع الله عليه شمله ولا بارك له في أمره ألا ولا صلاة له ولا زكاة له ولا صوم له ولا حج له إلا أن يتوب فمن تاب تاب الله عليه في حديث طويل ذكرته من طرق في التمهيد وقد بان فيه أن الوعيد المذكور إنما هو لمن تركها جحودا بها واستخفافا بحقها وفي قوله تعالى يأيها الذين ءامنوا إذا نودي للصلوة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله الجمعة كفاية في وجوب الجمعة على من سمع النداء وأجمع علماء الأمة أن الجمعة فريضة على كل حر بالغ ذكر يدركه زوال الشمس في مصر من الأمصار وهو من أهل المصر غير مسافر وأجمعوا أنه من تركها وهو قادر على إتيانها ممن تجب عليه أنه غير كافر بفعله ذلك إلا أن يكون جاحدا لها مستكبرا عنها وأجمعوا أنه بتركها ثلاث مرات من غير عذر فاسق ساقط الشهادة وقيل ذلك فيمن تركها عامدا مرة واحدة من غير تأويل ولا عذر فإن قال بعض أهل الجهل إنه روى بن وهب عن مالك أن شهودها سنة فالجواب عن ذلك أن شهودها سنة على أهل القرى الذين اختلف السلف والخلف في إيجاب الجمعة عليهم وأما أهل الأمصار فلا ونحن نورد ذلك على نصه والرواية في سماع بن وهب عن مالك قال قال لي مالك كل قرية متصلة البيوت وفيها جماعة من المسلمين فينبغي لهم أن يجمعوا إذا كان إمامهم يأمرهم أن يجمعوا أو ليؤمروا رجلا فيجمع بهم لأن الجمعة سنة

هذه رواية بن وهب التي شبه بها على من لا علم له ولم يعلم أن من أهل العلم جماعة يقولون إنه لا جمعة إلا في مصر جامع وفي قول مالك في رواية بن وهب هذه إذا كان إمامهم يأمرهم دليل على أن وجوب الجمعة عنده في القرية الكبيرة التي ليست بمصر إنما هو اجتهاد منه سنة وتشبيه لها بالمصر المجتمع على إيجاب الجمعة فيه ومسائل الاجتهاد لا تقوى قوة توجب القطع عليها وقد أخبرتك بالإجماع القاطع للعذر وعليه جماعة فقهاء الأمصار فلهذا أطلق مالك أنها سنة في قرى البادية لما رأى من العمل بها ببلده وإن كان فيها خلاف معلوم عنده وعند غيره وقد ذكرنا الاختلاف في التجميع في القرى الصغار والكبار في التمهيد على أنه يحتمل أن يكون قول مالك سنة أي طريقة الشريعة التي سلكها المسلمون ولم يختلفوا فيها هذا لو أراد الجمعة بالأمصار وقال مكحول السنة سنتان سنة فريضة وسنة غير فريضة فالسنة الفريضة الأخذ بها فريضة وتركها كفر والسنة غير الفريضة الأخذ بها فضيلة وتركها إلى غير حرج وقد روى بن وهب عن مالك قال سمعت بعض أهل العلم يقول كان الناس في زمن رسول الله ينزلون من العوالي يشهدون الجمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال والعوالي من المدينة على ثلاثة أميال أو نحو ذلك قال ولم يبلغني ان شهودها يجب على أحد أبعد من ذلك قال أبو عمر هذا يدل على أنها واجبة على هؤلاء عنده وعلى من هو أقرب إلى المصر منهم وأما المصر فيه عنده واجبة على أهله وعلى كل من سمع النداء أو كان بمكان يسمع منه أو رأس ثلاثة أميال أو أدنى ومن كان أبعد من ذلك فهو في سعة إن شاء الله وقد روى بن القاسم عن مالك أنه قال في القرى التي تجمع فيها الجمعة ولا يكون لهم وال قال ينبغي أن يقدموا رجلا فيخطب بهم ويصلي قال بن القاسم قال لي مالك إن لله فرائض في أرضه فرائض لا يسقطها الوالى

قال بن القاسم يريد الجمعة فهذه الرواية هي التي عليها جماعة العلماء بالفقه والحديث في جميع الأمصار والحمد لله ولم يختلفوا أن الجمعة واجب شهودها على كل بالغ من الرجال حر إذا كان في مصر جامع هذا إجماع من علماء السلف والخلف واختلفوا في القرى الصغار في أنفسها وفي المسافة التي منها يجب قصد المصر للجمعة من البوادي على ما قد ذكرناه في التمهيد ونذكر ها هنا اختلاف فقهاء الأمصار قال مالك من كان بينه وبين الجمعة ثلاثة أميال فعليه إتيان الجمعة وهو قول الليث والشافعي لأنه تجب على أهل المصر وعلى من كان خارج المصر من موضع يسمع فيه النداء والنداء يسمع بالصوت الندي من ثلاثة أميال فيما ذكروا وروى علي بن زياد عن مالك قال عزيمة الجمعة على من كان من المصر بموضع يسمع فيه النداء وذلك ثلاثة أميال وأما اختلافهم في العدد الذي تصح به الجمعة فأما مالك فلم يحد فيه حدا وراعى القرية المجتمعة المتصلة البيوت قال بن القاسم كالروحاء وشبهها فإذا كانت كذلك لزمتهم الجمعة وقال مطرف وبن الماجشون تجب الجمعة على أهل ثلاثين بيتا فما فوق ذلك بوال وبغير وال وعن عمر بن عبد العزيز خمسين رجلا وقال أبو حنيفة والليث ثلاثة سوى الإمام وقال أبو يوسف اثنان سوى الإمام وبه قال الثوري وداود وقال الحسن بن صالح والطبري إن لم يحضر مع الإمام إلا رجل واحد يخطب عليه وصلى الجمعة أجزتهما واعتبر الشافعي وأحمد بن حنبل أربعين رجلا وعن أبي هريرة مائتا رجل وقال طائفة اثنا عشر رجلا لأن الذين بقوا مع النبي عليه السلام فأقام الجمعة بهم إذ تركوه قائما كانوا اثني عشر رجلا ولكل قول وجه يطول الاحتجاج له وبالله التوفيق

وأما حديثه عن جعفر بن محمد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب خطبتين يوم الجمعة وجلس بينهما فهو مرسل في روايته عند جميع رواته وقد أسندناه من طرق في التمهيد صحاح كلها منها حديث عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب خطبتين قائما يفصل بينهما بجلوس وحديث الثوري وغيره عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة قال كان النبي عليه السلام يخطب قائما ويجلس بين الخطبتين وكانت صلاته قصرا وخطبته قصرا وكان يتلو في خطبته آيات من القرآن واختلف الفقهاء في الجلوس بين الخطبتين هل هو فرض أم سنة فقال مالك وأصحابه وأبو حنيفة وأصحابه الجلوس بين الخطبتين في الجمعة سنة فإن لم يجلس بينهما فقد أساء ولا شيء عليه إلا أن مالكا قال يجلس جلستين إحداهما قبل الخطبة والأخرى بين الخطبتين وقال أبو حنيفة لا يجلس الإمام أول ما يخطب ويجلس بين الخطبتين وقال الشافعي يجلس حين يظهر على المنبر قبل أن يخطب لأنه ينتظر الأذان ولا يفعل ذلك في العيدين لأنه لا ينتظر أذانا فإن ترك الجلوس الأول كراهته ولا إعادة عليه لأنه ليس من الخطبتين ولا فصل بينهما وأما الجلوس بين الخطبتين فلابد منه فإن خطب خطبتين لم يفصل بينهما أعاد ظهرا أربعا وقال أبو ثور يخطب خطبتين ويجلس جلستين واختلفوا أيضا في الخطبتين يوم الجمعة وما يجزئ منهما وهل هي فرض أو سنة فالروايات عن أصحابنا فيها مضطربة والخطبة عندنا في الجمعة فرض وهو

قول بن القاسم ولا يجزئ عنده إلا أقل ما يقع عليه اسم خطبة من الكلام المؤلف المبتدإ بالحمد لله وأما تكبيرة أو تهليلة أو تسبيحة كما قال أبو حنيفة فلا تجزئه وذكر بن عبد الحكم عن مالك إن كبر أو هلل أو سبح أجزأه من الخطبة قال بن وهب عن مالك يخطب خطبتين يفصل بينهما بجلوس ويجلس جلستين وقال الثوري لا تكون جمعة إلا بخطبة وقال الشافعي لا تجزئ الجمعة بأقل من خطبتين قائما فإن خطب جالسا وهو يطيق لم يجزه وإن علموا أنه يطيق لم تجزهم جمعة قال وأقل ما يقع عليه اسم خطبة منهما أن يحمد الله في أو كل واحدة منهما ويصلي على النبي عليه السلام ويوصي بتقوى الله ويقرأ شيئا من القرآن في الأولى ويدعو في الآخرة لأن الخطبة جمع بعض الكلام إلى بعض قال وإن خطب خطبة واحدة عاد فخطب ثانية مكانه فإن لم يفعل حتى ذهب الوقت أعاد الظهر أربعا قال ولا تتم الخطبة إلا أن يقرأ في إحداهما بآية أو أكثر ويقرأ في الآخرة أيضا بآية أو أكثر والقراءة في الأولى أكثر وما قدم من الكلام في الخطبة أو القراءة أو أخر لم يضره وقال أبو حنيفة وأبو يوسف إن خطب الإمام بالناس يوم الجمعة فقال الحمد لله أو قال سبحان الله أو قال لا إله إلا الله أو ذكر الله ولم يزد على هذا شيئا أجزأه من الخطبة وقال محمد لا يجزئه حتى يكون كلاما يسمى خطبة قال أبو عمر قال الله تعالى يأيها الذين ءامنوا إذا نودي للصلوة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله الجمعة والذكر ها هنا الصلاة والخطبة بإجماع فأبان رسول الله الجمعة بفعله كيف هي وفي أي وقت هي وكم ركعة هي ولم يصلها قط إلا بخطبة فكان بيانه ذلك فرضا كسائر بيانه لمجملات الصلوات في ركوعها وسجودها وأوقاتها وفي الزكوات ومقاديرها وغير ذلك من مجملات الفرائض المنصوص عليها في الكتاب

وقد استدل بعض أصحابنا على وجوب الخطبة بقوله تعالى وتركوك قائما الجمعة لأنه عاتب بذلك الذين تركوا النبي صلى الله عليه وسلم قائما يخطب يوم الجمعة وانفضوا إلى التجارة التي قدمت العير بها في تلك الساعة وعابهم بذلك ولا يعاب إلا على ترك الواجب وما قدمناه من القول في وجوبها لازم قاطع والحمد لله وأجمعوا أن الخطبة لا تكون إلا قائما لمن قدر على القيام فإن أعيا وجلس للراحة لم يتكلم حتى يعود قائما وقد كان عثمان ربما استراح في الخطبة ثم يقوم فيتكلم قائما وأول من خطب جالسا معاوية لا يختلفون في ذلك وقد ذكرناه بإسناده في موضعه والحمد لله

كتاب الصلاة في رمضان باب الترغيب في الصلاة في رمضان ذكر فيه مالك حديثين مسندين أحدهما عن بن شهاب عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد ذات ليلة فصلى بصلاته ناس الحديث والآخر عن بن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرغب في قيام رمضان الحديث ففي الحديث الأول من الفقه الاجتماع في النافلة وأن النوافل إذا اجتمع في شيء منها على سنته لم يكن لها أذان ولا إقامة لأنه لم يذكر الأذان في ذلك ولو كان لذكر ونقل وأجمع العلماء أن لا أذان في شيء من السنن والنوافل وأن الأذان إنما هو للمكتوبات فأغنى عن الكلام في ذلك وفيه أن قيام رمضان سنة من سنن النبي عليه السلام مندوب إليها مرغب فيها ولم يسن منها عمر إلا ما كان رسول الله يحبه ويرضاه وما لم يمنعه من المواظبة عليه إلا أن يفرض على أمته وكان بالمؤمنين رؤوفا رحيما صلى الله عليه وسلم

فلما علم عمر ذلك من رسول الله وعلم أن الفرائض في وقته لا يزاد فيها ولا ينقص منها أقامها للناس وأحياها وأمر بها وذلك سنة أربع عشرة من الهجرة صدر خلافته وقد أوضحنا ما فضل به عمر من ذلك وغيره في التمهيد ومما يدل على أن قيام شهر رمضان سنة من سنن النبي عليه السلام ما ذكره بن وهب عن مسلم بن خالد عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال خرج النبي وإذا الناس يصلون في رمضان في ناحية المسجد فقال من هؤلاء قيل ناس لهم قرآن وأبي بن كعب يصلي بهم وهم يصلون بصلاته فقال النبي عليه السلام أصابوا ونعم ما صنعوا وذكر الدارقطني عن إسماعيل بن محمد الصفار عن أبي قلابة الرقاشي عن بشر بن عمر عن مالك عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله فرض عليكم صيام رمضان وسننت لكم قيامه فمن صامه وقامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وهذا لفظ لم يروه أحد عن مالك في هذا الحديث إلا أبو قلابة الرقاشي عن بشر بن عمر قاله الدارقطني وهو كما قال ومما يؤيد ذلك قول عائشة إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به لئلا يفرض على الناس

وقد ذكرنا في التمهيد حديث أبي ذر أن رسول الله قام بهم في رمضان عند سبع بقين منه ليلة إلى ثلث الليل ولم يقم بهم التي تليها وقام بهم التي بعدها وهي الخامسة إلى أن ذهب شطر الليل ثم قام بهم الثالثة حتى خشوا أن يفوتهم السحور هذا كله معنى الحديث لا لفظه ومثله حديث النعمان بن بشير قال قمنا مع رسول الله عليه السلام في شهر رمضان ليلة ثلاث وعشرين إلى ثلث الليل ثم قمنا معه ليلة خمس وعشرين إلى نصل الليل ثم قمنا ليلة سبع وعشرين حتى ظننا ألا ندرك الفلاح وكانوا يسمونه السحور وهذا كله يدل على أن قيام رمضان جائز أن يضاف إلى النبي عليه السلام بحضه عليه وعمله به وأن عمر إنما سن منه ما سنه رسول الله وأما حديث بن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمر بعزيمة فيقول من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه قال بن شهاب فتوفي رسول الله والأمر على ذلك ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبى بكر وصدرا من خلافة عمر فقد ذكرنا في التمهيد الاختلاف على مالك وعلى بن شهاب في إسناده في هذا الحديث ومتنه بأبسط ما يكون والحمد لله وفيه من الفقه فضل قيام رمضان وظاهره يبيح فيه الجماعة والانفراد لأنه لم يقل فيه من قام رمضان وحده ولا في جماعة

وذلك كله فعل خير وقد ندب الله إلى فعل الخير بقوله تعالى وافعلوا الخير لعلكم تفلحون الحج وفي قوله عليه السلام إيمانا واحتسابا دليل على أن الأعمال الصالحة إنما يقع بها غفران الذنوب وتكفير السيئات مع الإيمان والاحتساب وصدق النيات وقد قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب أن الكبائر لا يكفرها إلا التوبة منها والندم عليها واعتقاد ترك العودة والرجوع إليها وبالله التوفيق باب ما جاء في قيام رمضان مالك عن بن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القارئ أنه قال خرجت مع عمر بن الخطاب في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط فقال عمر والله إني لأراني لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل فجمعهم على أبي بن كعب قال ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم فقال عمر نعمت البدعة هذه والتي تنامون عنها أفضل من التي تقومون يعني آخر الليل وكان الناس يقومون أوله قال أبو عمر الأوزاع في هذا الحديث هم الجماعات المتفرقون وقد يقال للجماعة المتفرقة عزون قال الله تعالى فمال الذين كفروا قبلك مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين المعارج أي جماعات متفرقة وفي حديث سمرة بن جندب قال دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن جلوس متفرقون فقال ما لي أراكم عزين

وفيها وجوه لأهل التفسير معانيها كلها متقاربة وفي الحديث نفسه ما يدل على تفسير الأوزاع لأنهم كانوا يصلون متفرقين خلف كل إمام رهط فجمعهم عمر على قارئ واحد واختار لهم أقرأهم امتثالا والله أعلم لقوله عليه السلام يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله رواه أبو مسعود الأنصاري عن النبي وقد روي عن النبي عليه السلام أنه قال وأقرؤهم أبي بن كعب وقال عمر بن الخطاب علي أقضانا وأبي أقرؤنا وإنا لنترك أشياء من قراءة أبي وفي خروجه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم فقال نعمت البدعة دليل على أنه كان لا يصلي معهم وأنه كان يتخلف عنهم إما لأمور المسلمين وإما للانفراد بنفسه في الصلاة وروى بن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس قال سمعت بن عباس يقول دعاني عمر أتغدى عنده في شهر رمضان يعني السحور فسمع هيعة الناس حين انصرفوا من القيام فقال عمر أما إن الذي بقي من الليل أحب إلي مما مضى منه وفيه دليل على أن قيامهم كان أول الليل ثم جعله عمر في آخر الليل فلم يزل كذلك في معنى ما ذكر مالك إلى زمان أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال كنا ننصرف في رمضان فنستعجل الخدم بالطعام مخافة الفجر وروى مالك في هذا الباب عن محمد بن يوسف عن السائب بن

يزيد أنه قال أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة قال وقد كان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر ورواه بن عيينة عن إسماعيل بن أمية عمن حدثه عن السائب بن يزيد قال أمر عمر أبي بن كعب أن يقيم بالناس في شهر رمضان فكان القارئ يقرأ بالمئين ولا ينصرف من القيام حتى يرى فروع الفجر لم يذكر بن عيينة في هذا الخبر تميما الداري مع أبي بن كعب كما ذكره مالك وقد يمكن أن يكون تميم الداري أقيم للنساء لأن في حديث بن شهاب وهو أثبت حديث في هذا الباب أنه جمعهم على أبي بن كعب وقد روى بن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه أن عمر بن الخطاب جمع الناس في قيام رمضان الرجال على أبي بن كعب والنساء على سليمان بن أبي حثمة فيمكن أن يكون تميم الداري أقيم وقتا ما للنساء والله أعلم وبن عيينة عن أبان بن أبي عياش عن أنس بن مالك قال لما دخلت العشر الأواخر من شهر رمضان أبق إمامنا يعني أبي بن كعب وكان يصلي بالرجال وأما قول عمر نعمت البدعة في لسان العرب اختراع ما لم يكن وابتداؤه فما كان من ذلك في الدين خلافا للسنة التي مضى عليها العمل فتلك بدعة لا خير فيها وواجب ذمها والنهي عنها والأمر باجتنابها وهجران مبتدعها إذا تبين له سوء مذهبه وما كان من بدعة لا تخالف أصل الشريعة والسنة فتلك نعمت البدعة كما قال عمر لأن أصل ما فعله سنة وكذلك قال عبد الله بن عمر في صلاة الضحى وكان لا يعرفها وكان يقول وللضحى صلاة وذكر بن أبي شيبة عن بن علية عن الجريري عن الحكم عن الأعرج قال سألت بن عمر عن صلاة الضحى فقال بدعة ونعمت البدعة وقد قال تعالى حاكيا عن أهل الكتاب ورهبانية ابتدعوها ما كتبنها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله الحديد وأما ابتداع الأشياء من أعمال الدنيا فهذا لا حرج فيه ولا عيب على فاعله

وأما قوله والتي ينامون عنها أفضل فلما جاء في دعاء الأسحار وقد أثنى الله على المستغفرين بالأسحار وجاء عن أهل العلم بتأويل القرآن في قوله تعالى حاكيا عن يعقوب سوف أستغفر لكم ربي يوسف قالوا أخرهم إلى السحر وقال عليه السلام ينزل الله تعالى إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل ويروى نصف الليل فيقول هل من داع هل من مستغفر هل من تائب وسيأتي ذكر هذا الحديث في موضعه وفي حديث مالك عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد قال أمر عمر أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة هكذا قال مالك في هذا الحديث إحدى عشرة ركعة وغير مالك يخالفه فيقول في موضع إحدى عشرة ركعة إحدى وعشرين ولا أعلم أحدا قال في هذا الحديث إحدى عشرة ركعة غير مالك والله أعلم إلا أنه يحتمل أن يكون القيام في أول ما عمل به عمر بإحدى عشرة ركعة ثم خفف عليهم طول القيام ونقلهم إلى إحدى وعشرين ركعة يخففون فيها القراءة ويزيدون في الركوع والسجود إلا أن الأغلب عندي في إحدى عشرة ركعة الوهم والله أعلم وذكر عبد الرزاق عن داود بن قيس وغيره عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أن عمر بن الخطاب جمع الناس في رمضان على أبي بن كعب وتميم الداري على إحدى وعشرين ركعة يقومون بالمئين وينصرفون في فروع الفجر وروى وكيع عن مالك عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب نهر رجلا يصلي بهم عشرين ركعة

وروى الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب عن السائب بن يزيد قال كنا ننصرف من القيام على عهد عمر وقد دنا فروع الفجر وكان القيام على عهد عمر بثلاث وعشرين ركعة وهذا محمول على أن الثلاث للوتر والحديث الأول على أن الواحدة للوتر والوتر بواحدة قد تقدمها ركعات يفصل بينهن وبينها بسلام وبثلاث لا يفصل بينها بسلام كل ذلك معروف معمول به بالمدينة وسنذكر ذلك في موضعه من هذا الكتاب ونذكر وجه اختيار مالك لما اختاره من ذلك إن شاء الله وذكر عبد الرزاق عن بن جريج قال أخبرني عمران بن موسى أن يزيد بن حصيفة أخبره عن السائب بن يزيد قال جمع عمر الناس على أبي بن كعب وتميم الداري فكان أبي يوتر بثلاث ركعات وعن معمر عن قتادة عن الحسن قال قال كان أبي يوتر بثلاث لا يسلم إلا من الثالثة مثل المغرب وقد سئل مالك عن الإمام يوتر بثلاث لا يفصل بينهن فقال أرى أن يصلى خلفه ولا يخالف قال مالك كنت أنا أصلى معهم فإذا كان الوتر انصرفت ولم أوتر معهم وقد روى مالك عن يزيد بن رومان قال كان الناس يقومون في زمن عمر بن الخطاب في رمضان بثلاث وعشرين ركعة وهذا كله يشهد بأن الرواية بإحدى عشرة ركعة وهم وغلط وأن الصحيح ثلاث وعشرون وإحدى وعشرون ركعة والله أعلم وقد روى أبو شيبة واسمه إبراهيم بن علية بن عثمان عن الحكم عن بن عباس أن رسول الله عليه السلام كان يصلي في رمضان عشرين ركعة والوتر وليس أبو شيبة بالقوي عندهم ذكره بن أبي شيبة عن يزيد بن رومان عن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان وروي عشرون ركعة عن علي وشتير بن شكل وبن أبي مليكة والحارث الهمداني وأبي البختري

وهو قول جمهور العلماء وبه قال الكوفيون والشافعي وأكثر الفقهاء وهو الصحيح عن أبي بن كعب من غير خلاف من الصحابة وقال عطاء أدركت الناس وهم يصلون ثلاثا وعشرين ركعة بالوتر وكان الأسود بن يزيد يصلي أربعين ركعة ويوتر بسبع وذكر بن القاسم عن مالك تسع وثلاثون والوتر ثلاث وزعم أنه الأمر القديم وذكر بن أبي شيبة قال حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن داود بن قيس قال أدركت الناس بالمدينة في زمن عمر بن عبد العزيز وأبان بن عثمان يصلون ستا وثلاثين ركعة ويوترون بثلاث وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأحمد بن داود قيام رمضان عشرون ركعة سوى الوتر لا يقام بأكثر منها استحبابا وذكر عن وكيع عن حسن بن صالح عن عمرو بن قيس عن أبي الحسين عن علي أنه أمر رجلا يصلي بهم في رمضان عشرين ركعة وهذا هو الاختيار عندنا وبالله توفيقنا وذكره أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا محمد بن فضيل عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي واختلفوا في الأفضل من القيام مع الناس والانفراد في شهر رمضان فقال مالك والشافعي صلاة المنفرد في بيته في رمضان أفضل قال مالك وكان ربيعة وغير واحد من علمائنا ينصرفون ولا يقومون مع الناس قال مالك وأنا أفعل ذلك وما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في بيته واحتج الشافعي بحديث زيد بن ثابت أن النبي عليه السلام قال في قيام رمضان أيها الناس صلوا في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة

قال الشافعي ولا سيما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده على ما في ذلك من الفضل وقد ذكرنا حديث زيد بن ثابت بإسناده هذا في التمهيد وروينا عن بن عمر وسالم والقاسم وإبراهيم ونافع أنهم كانوا ينصرفون ولا يقومون مع الناس وجاء عن عمر وعلي أنهما كانا يأمران من يقوم للناس في المسجد ولم يجئ عنهما أنهما كانا يقومان معهم وأما الليث بن سعد فقال لو أن الناس كلهم قاموا في رمضان لأنفسهم وأهليهم حتى يترك المسجد لا يقوم فيه لكان ينبغي أن يخرجوا إلى المسجد حتى يقوموا فيه في رمضان لأن قيام رمضان من الأمر الذي لا ينبغي للناس تركه وهو مما سن عمر للمسلمين وجمعهم عليه قال الليث وأما إذا كانت الجماعة قد قامت في المسجد فلا بأس أن يقوم الرجل لنفسه في بيته وأهل بيته قال أبو عمر وحجة الليث ومن قال بقوله قول رسول الله عليه السلام عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي رواه العرباض بن سارية عن النبي عليه السلام وقال عليه السلام اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر رواه حذيفة عن النبي عليه السلام وقال يقول الليث في هذه المسألة جماعة من المتأخرين من أصحاب أبي حنيفة والشافعي فمن أصحاب أبي حنيفة عيسى بن أبان وبكار بن قتيبة وأحمد بن أبي عمران والطحاوي ومن أصحاب الشافعي إسماعيل بن يحيى المزني وبن عبد الحكم كلهم قال الجماعة في المسجد في قيام رمضان أحب إلينا وأفضل عندنا من صلاة المرء في بيته

واحتجوا بحديث أبي ذر عن النبي عليه السلام إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة وقد ذكرنا هذا الحديث بإسناده في التمهيد وإلى هذا ذهب بن حنبل قال الأثرم كان بن حنبل يصلي مع الناس التراويح كلها يعني الأشفاع عندنا إلى آخرها ويوتر معهم ويحتج بحديث أبي ذر قال أحمد بن حنبل كان جابر يصليها في جماعة وروي عن علي وبن مسعود مثل ذلك وقد احتج أهل الظاهر في ذلك بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة ويروى سبع وعشرين درجة وهذا عند أكثر أهل العلم في الفريضة والحجة لهم قوله عليه السلام في حديث زيد بن ثابت صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة وهذا الحديث وإن كان موقوفا في الموطأ على زيد فإنه قد رفعه جماعة ثقات وقد ذكرنا ذلك في موضعه وبالله التوفيق قال الأثرم سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن الصلاة بين التراويح فكرهها فذكر له في ذلك رخصة عن بعض الصحابة فقال هذا باطل وإنما فيه رخصة عن سعيد بن جبير والحسن وإبراهيم قال أحمد وفيه عن ثلاثة من الصحابة كراهيته عبادة بن الصامت وأبي الدرداء وعقبة بن عامر

قال أبو عمر القيام في رمضان نافلة ولا مكتوبة إلا الخمس وما زاد عليها فتطوع بدليل حديث طلحة هل علي غيرها قال لا إلا أن تطوع وقال عليه السلام صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة فإذا كانت النافلة في البيت أفضل منها في مسجد النبي عليه السلام والصلاة فيه بألف صلاة فأي فضل أبين من هذا ولهذا كان مالك والشافعي ومن سلك سبيلهما يرون الانفراد في البيت أفضل في كل نافلة فإذا قامت الصلاة في المساجد في رمضان ولو بأقل عدد فالصلاة حينئذ في البيت أفضل وقد زدنا هذه المسألة بيانا في التمهيد والحمد لله وأما حديث مالك عن داود بن الحصين أنه سمع الأعرج يقول ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان قال وكان القارئ يقرأ سورة البقرة في ثمان ركعات فإذا قام بها في اثنتي عشرة ركعة رأى الناس أنه قد خفف ففيه إباحة لعن الكفرة كانت لهم ذمة أو لم تكن وليس ذلك بواجب ولكنه مباح لمن فعله غضبا لله في جحدهم الحق وعداوتهم للدين وأهله وأما قوله في رمضان فمعناه أنهم كانوا يقنتون في الوتر من صلاة رمضان ويلعنون الكفرة في القنوت اقتداء برسول الله في دعائه في القنوت على رعل وذكوان وبني لحيان الذين قتلوا أصحاب بئر معونة وروى بن وهب عن مالك في القنوت في رمضان إنما يكون ذلك في النصف الآخر من الشهر وهو لعن الكفرة يلعن الكفرة ويؤمن من خلفه ولا يكون ذلك إلا بعد أن يمر النصف من رمضان ويستقبل النصف الآخر

قال مالك فإن دعا الإمام على عدو للمسلمين واستسقى لم أر بذاك بأسا وروى بن نافع عن مالك أنه سئل عن لعن الكفرة في رمضان في أول الشهر أم في آخره فقال مالك كانوا يلعنون الكفرة في رمضان في النصف منه حتى ينسلخ رمضان وأرى ذلك واسعا إن فعل أو ترك قال أبو عمر قد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه ولعن من انتمى إلى غير أبيه وادعى غير مواليه ولعن المخنثين من الرجال والمذكرات من النساء ولعن من غير تخوم الأرض ولعن المكذب بقدر الله والمتسلط بالجبروت ليذل أولياء الله

ولعن الواصلة والمستوصلة ولعن جماعة يطول ذكرهم قصدا إلى لعنهم وليس لعنه هؤلاء ولا من استحق اللعنة من باب من لعنة رسول الله وشتمه عند غضب يغضبه وهو يظنه أهلا لذلك ثم تبين له إذ كان من البشر غير ذلك بل يكون لعنه له صلاة ورحمة كما قال عليه السلام إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر فمن سببته أو لعنته فأجعل ذلك عليه رحمة أو كما قال وقد أوضحناه في موضعه من التمهيد والحمد لله أخبرني أحمد بن عبد الله عن أبيه عن يونس بن بقي بن بقي بن مخلد قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان عن عبد الأعلى أن أبا عبد الرحمن السلمي قنت في الفجر يدعو على قطري وروي عن علي أنه كان يقنت أيام صفين وبعد انصرافه منها يدعو على قوم ويلعنهم كرهت ذكرهم ومن فعل الصحابة وجله التابعين بالمدينة في لعن الكفرة في القنوت أخذ العلماء لعن الكفرة في الخطبة الثانية من الخطبة والدعاء عليهم والأعرج أدرك جماعة من الصحابة وكبار التابعين وهذا هو العمل بالمدينة والأصل في ذلك ما أخبرناه عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر حدثنا أبو داود حدثنا داود بن أمية حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن يحيى بن أبي كثير قال حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة قال كان رسول الله

صلى الله عليه وسلم يقنت في الركعة الآخرة من صلاة الظهر وصلاة العشاء الآخرة وصلاة الصبح فيدعو للمؤمنين ويلعن الكفار وروى بن القاسم عن مالك أنه قال ليس عليه العمل وهذا معناه عندي أنه ليس سنة مسنونة فيواظب عليها في القنوت ولكنه مباح فعله اقتداء بالسلف في ذلك لمن شاء وقد كان مالك يرى القنوت في النصف الثاني من رمضان في الوتر والدعاء على من استحق الدعاء عليه ثم ترك ذلك فيما رواه المصريون عنه وروى أهل المدينة عنه أنه كان يقول يقنت الإمام في النصف من رمضان ويؤمن من خلفه وهو قول أحمد وإسحاق وروي القنوت في النصف الآخر من رمضان عن علي وأبي بن كعب وبن عمر وبن سيرين والثوري والزهري ويحيى بن وثاب وقال بن المنذر ومالك والشافعي أحمد قال أبو عمر أما رواية المصريين بن القاسم وأشهب وبن وهب عن مالك في ذلك فإنهم رووا عن مالك أنه سئل أيقنت الرجل في الوتر فقال لا قال وكان الناس في زمن بني أمية يقنتون في الجمعة وما ذلك بصواب قال أشهب سئل مالك عن القنوت في الصبح فقال أما الصبح فنعم وأما الوتر فلا أرى فيه قنوتا ولا في رمضان وقد اختلف فيه عن بن عمر فروى بن علية عن أيوب عن نافع عن بن عمر أنه كان لا يقنت إلا في النصف من رمضان وروى بن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر أنه كان لا يقنت في الفجر ولا في الوتر ورواية مالك عن نافع عن بن عمر نحو ذلك

وأما الشافعي فقال بالعراق فيما روى الزعفراني عنه يقنت في الوتر في النصف من رمضان ولا يقنت في الوتر في سائر السنة إلا في النصف الآخر من رمضان وقال بمصر يقنت في الصبح ومن قنت في كل صلاة إن احتاج إلى الدعاء على أحد لم أعبه قال أبو عمر لا يصح عن النبي عليه السلام في القنوت في الوتر حديث مسند وأما عن الصحابة فروي ذلك عن جماعة فمن ذلك ما ذكره الطبري قال حدثنا حميد بن مسعدة قال حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا يونس عن الحسن قال أمر عمر أبي بن كعب يصلي بالناس فكان إذا مضى النصف الأول واستقبلوا النصف الآخر ليلة ست عشرة قنتوا فدعوا على الكفرة وقال بن جريج قلت لعطاء القنوت في شهر رمضان قال أول من قنت فيه عمر قلت في النصف الآخر قال نعم فبهذا احتج من أجاز القنوت في الوتر من قيام رمضان النصف الآخر منه لأنه عمن ذكرنا من جله الصحابة وهو عمل ظاهر بالمدينة في ذلك الزمان في رمضان لم يأت عن أحد منهم إنكاره وقد رأى القنوت في النصف الأول من السلف وبه قال أبو ثور وقد قيل يقنت في رمضان كله ويلعن الكفرة في القنوت وهو قول الأوزاعي قال ويقنت أيضا في الفجر قبل الركوع وأما مقدار القراءة في كل ركعة من قيام رمضان ففي الموطأ ما قد رأيت من القراءة بالمئين عن أبي وأصحابه من قراءة البقرة في ثمان ركعات وفي اثنتي عشرة ركعة وذكر بن أبي شيبة حدثنا حسين بن علي عن زائدة عن هشام عن الحسن قال من أم الناس في رمضان فليأخذ بهم اليسر فإن كان بطيء القراءة فليختم القرآن ختمة وإن كان بين ذلك فختمه ونصف وإن كان سريع القراءة فمرتين وكان سعيد بن جبير يقرأ في كل ركعة بخمس وعشرين آية وكان عمر بن عبد العزيز يأمر الذين يقرؤون في رمضان يقرؤون في كل ركعة بعشر آيات وروى بن وهب عن مالك أنه قيل له إنهم يقرؤون في كل ركعة بخمس

آيات فقال غير ذلك أحب إلي فقيل له عشر آيات في كل ركعة فقال نعم من السور الطوال قال ورأى أكثر من عشر آيات إذا بلغ الطواسين والصافات وقال الزعفراني عن الشافعي إن أطالوا القيام وأقلوا السجود فحسن وهو أحب إلي وإن أكثروا الركوع والسجود فحسن وجملة القول في هذه المسألة أنه لا حد عند مالك وعند العلماء في مبلغ القراءة وقد قال عليه السلام من أم الناس فليخفف وقال عمر لا تبغضوا الله إلى عباده يعني لا تطولوا عليهم في صلاتهم وفيما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل حين وجهه إلى اليمن معلما وأميرا قال له وأطل القراءة على قدر ما يطيقون وقال صلى الله عليه وسلم أفضل الصلاة طول القيام وهذا لمن صلى لنفسه ولست أعلم خلافا بين العلماء في جواز صلاة العبد البالغ في قيام رمضان وفيما عدا الجمعة للناس ولهذا أدخل مالك حديثه عن هشام بن عروة عن أبيه أن ذكوان أبا عمرو كان عبدا لعائشة أعتقته عن دبر منها فكان يقوم يقرأ للناس في رمضان

وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا عبد الله بن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر أن المهاجرين حين أقبلوا من مكة نزلوا إلى جنب قباء فأمهم سالم مولى أبي حذيفة لأنه كان أكثرهم قرآنا فيهم أبو سلمة بن عبد الأسود وعمر بن الخطاب وأجمع العلماء على أن الرجال لا يؤمهم النساء واختلفوا في إمامة النساء بعضهن لبعض وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى كمل السفر الأول من كتاب الاستذكار والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما يتلوه بحول الله تعالى في أول الثاني باب صلاة الليل

كتاب صلاة الليل باب ما جاء في صلاة الليل مالك عن محمد بن المنكدر عن سعيد بن جبير عن رجل عنده رضا عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما من امرئ تكون له صلاة بليل يغلبه عليها نوم إلا كتب له أجر صلاته وكان نومه عليه صدقة الرجل الرضي المذكور في هذا الإسناد هو الأسود بن يزيد وهو رضي عند الجميع وقد ذكرنا من رواه عن محمد بن المنكدر عن سعيد بن جبير عن الأسود عن عائشة في التمهيد وروى سفيان عن أبي إسحاق قال قالت عائشة أم المؤنين ما بالعراق أحد أعجب إلي من الأسود بن يزيد ويقال حج الأسود ستين من بين حجة وعمرة وفي هذا الحديث ما يدل على أن المرء مجازى على ما نوى من عمل الخير وإن لم يعمله كما لو عمله إذا لم يحبسه عنه شغل دنيا مباحا أو مكروها وكان المانع له عذرا من الله لا ينفك منه وقد روي مثل حديث عائشة هذا من حديث أبي الدرداء وهو مذكور في التمهيد

وهذا تفضل من الله على عباده المؤمنين يجازيهم بما وفقهم له إذا عملوه وإن حال دون العمل حائل جازى صاحبه على النية فيه وقد ذكرنا في التمهيد إسناد قوله صلى الله عليه وسلم نية المؤمن خير من عمله ونية الفاجر شر من عمله وكل يعمل على نيته ومعنى هذا الحديث والله أعلم أن النية بغير عمل خير من العمل بلا نية وتفسير ذلك أن العمل بلا نية لا يرفع ولا يصعد والنية الحسنة تنفع بلا عمل ولا ينفع العمل بغير نية ويحتمل أن يكون المعنى نية المؤمن في الأعمال الصالحة أكثر مما يقوى عليه منها ونية الفاجر في أعمال الشر أكثر مما يعمله منها ولو أنه يعمل كلما ينوي عمله من الشر أهلك الحرث والنسل وقد روى أبو هريرة وبن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة إلا أن في حديث بن عباس فإن عملها كتبت عشرا وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة وفي حديث أبي هريرة من هم بحسنة فعملها كتبت عشرا إلى سبع مائة ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب وإن عملها كتبت فحديث أبي هريرة مخالف لحديث بن عباس فيمن هم بسيئة فلم يعملها وقد يحتمل أن يكون معنى ما روى بن عباس نحو معنى قول الله تعالى ولمن خاف مقام ربه جنتان الرحمن وروي عن بن عباس ومجاهد وإبراهيم النخعي قالوا هو الرجل يهم بالمعصية ثم يتركها خوف الله تعالى وقد ذكرنا في التمهيد حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه في غزوة تبوك إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا ولا أنفقتم من نفقة إلا وهم

معكم قالوا كيف يكونون معنا يا رسول الله وهم بالمدينة قال نعم حبسهم العذر وحديث أبي موسى الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من كان له عمل فشغله عنه علة أو سفر فإنه يكتب له كصالح ما كان يعمل وهو صحيح مقيم وفي حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار في الموطأ قوله صلى الله عليه وسلم في المريض إنه يكتب له أجر ما كان يعمل في صحته ما دام في وثاق مرضه هذا معنى الحديث لا لفظه وقد زدنا هذا المعنى بيانا في التمهيد والذي جاء له حديث هذا الباب هو ما تضمنته رحمته في صلاة الليل يريد الترغيب فيها قال أبو عمر صلاة الليل من أفضل نوافل الخير وهي عندي سنة مسنونة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعلها ويواظب عليها وقد قال قوم إن صلاة الليل واجبة على النبي صلى الله عليه وسلم وسنة لأمته وهذا لا أعرف وجهه لأن الله تعالى يقول ومن اليل فتهجد به نافلة لك الإسراء وقال قوم أمره بقيام الليل وقوله تعالى نافلة لك أي فضيلة ونسخ الأمر بقيام الليل عن سائر أمته مجتمع عليه بقول الله عز وجل علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن المزمل وهذا ندب لأن الفرائض محدودات وقد شذ بعض التابعين فأوجب قيام الليل ولو قدر حلب شاة والذي عليه جماعة العلماء أنه مندوب إليه مرغوب فيه قال عبد الله بن مسعود فضل صلاة الليل على صلاة النهار كفضل صدقة السر على صدقة العلانية وروى وكيع عن سفيان عن علي بن الأقمر عن الأغر أبي مسلم عن أبي

هريرة وأبي سعيد قالا إذا أيقظ الرجل أهله فضليا من الليل كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم رحم الله رجلا قام من الليل فصلى ثم أيقظ أهله فصلوا رحم الله أمرأة قامت من الليل فصلت ثم أيقظت زوجها فصلى وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد قال حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد قال حدثنا زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة عن بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال استعينوا على قيام الليل بقيلولة النهار واستعينوا على الصيام بأكلة السحر وفي هذا الباب حديث منكر انفرد به ثابت بن موسى أبو يزيد الكوفي وهو منكر الحديث رماه بن معين بالكذب حدثناه خلف بن قاسم قال حدثنا أبو بكر محمد بن العباس بن وصيف الأبزاري بغزة قال حدثنا محمد بن الحسن بن قتيبة قال وحدثنا عمران بن موسى الطائي عن ثابت بن موسى الطائي قال حدثنا شريك عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار وأما حديث مالك في هذا الباب عن أبي النضر عن أبي سلمة عن عائشة أنها قالت كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي وإذا قام بسطتهما قالت والبيوت يؤمئذ ليس فيها مصابيح

قد ذكرنا من تابعه على مثل هذه الرواية ومعناها في التمهيد وفيه من الفقه وجوه منها أن المرأة لا تبطل صلاة من صلى إليها سواء جعلها سترة من صلاته أو كانت بينه وبين قبلته فإن ذلك كله مذكور في حديثها هذا عند ناقليه وهذا موضع اختلف فيه العلماء لاختلاف الآثار المرفوعة في ذلك فقالت طائفة يقطع الصلاة على المصلي إذا مر بين يديه الحمار والكلب والمرأة وممن قال بها أنس بن مالك وأبو الأحوص والحسن البصري وحجتهم حديث أبي ذر وحديث بن عباس بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكرتهما بالأسانيد الحسان في كتاب التمهيد والحمد لله وروى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لا يقطع الصلاة إلا الكلب الأسود وبه قال أحمد بن حنبل وقال في نفسي من المرأة والحمار شيء وكان بن عباس وعطاء بن أبي رباح يقولان يقطع الصلاة الكلب الأسود والمرأة الحائض رواة قتادة عن جابر بن زيد سمعة يحدثه عن بن عباس ورواه شعبة عن قتادة عن جابر عن بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال جمهور العلماء لا يقطع الصلاة شيء وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم والثوري وأبي ثور وداود والطبري وجماعة من التابعين وحجتهم حديث بن شهاب عن عروة عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل صلاته وأنا معترضة بينه وبين القبلة كاعتراض الجنازة ورواه عطاء بن أبي رباح عن عروة عن عائشة مثله

وقد ذكرنا إسناده من طرق في التمهيد فسقط بهذا الحديث أن تقطع المرأة بمرورها صلاة من تمر بين يديه ومعلوم أن اعتراضها بين يديى المصلي أشد من مرورها وسيأتي القول في مرور الحمار بين يدي المصلي في باب الرخصة في المرور بين يدي المصلي من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى وهناك يقع الاستيعاب من القول في السترة والمرور بين يدي المصلي بعون الله تعالى وأما قوله في حديث هذا الباب ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي وهو حديث القاسم بن محمد عن عائشة غمز رجلي فقبضتهما أو فضممتهما إلي ففيه دليل على أن الملامسة باليد لا تنقض الطهارة ما لم يكن معها اللذة لأن الأصل في لمس الرجل أن يكون بلا حائل وكذلك اليد حتى يثبت الحائل وهنا اعتراض طويل قد ذكرته في التمهيد وقد مضى في باب الوضوء من القبلة معنى الملامسة ومراعاة اللذة فيها من جعلها من شرائطها ومن أبي من ذلك ومن لم ير الملامسة إلا الجماع ولا معنى لإعادة ذلك هنا وفي هذا الحديث ما كانوا عليه من ضيق العيش والإقلال ألا ترى أنهم كانت بيوتهم يومئذ دون مصابيح وفي قول عائشة رحمها الله والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح دليل على أنها إذ حدثت بهذا الحديث كانت بيوتهم فيها المصابيح وذلك أن الله عز وجل فتح عليهم من الدنيا بعد النبي صلى الله عليه وسلم فوسعوا على أنفسهم إذ وسع الله عليهم وقولها يومئذ تريد حينئذ لأنا لو جعلنا اليوم هنا النهار على المعهود ومعلوم أن النهار ليس بوقت للمصابيح استحال ذلك فعلمنا أنها أرادت بقولها يؤمئذ أي حينئذ وهذا مشهور في لسان العرب كانت تعبر باليوم عن الحين والوقت وهذا أشهر من أن يحتاج فيه إلى الاستشهاد وأما حديثه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رسول الله

صلى الله عليه وسلم قال إذا نعس أحدكم في صلاته فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه ففيه دليل على أن الصلاة لا ينبغي أن يقربها من لا يعقلها ولا يقيمها على حدودها وأن كل ما شغل القلب عنها وعن الخشوع فيها فواجب تركه واستعمال الفراغ لها بقلب مقبل عليها وقد قال الضحاك بن مزاحم في قول الله تعالى لا تقربوا الصلوة وأنتم سكرى النساء قال من النوم وما أعلم أحدا تابعه على ذلك والله أعلم وقد ذكرنا في التمهيد أقوال العلماء في تأويل هذه الآية وقد يستدل من هذا الحديث بأن النعاس وهو النوم اليسير لا ينقض الصلاة وإذا لم ينقض الصلاة لم ينقض الوضوء والدليل على أن النعاس ليس بالنوم الثقيل قول الشاعر وسنان أقصده النعاس فرنقت في عينه سنة وليس بنائم وليس في هذا الحديث معنى يحتاج فيه إلى القول غير ما وصفنا إلا أن يستدل مستدل بأنه لا يجوز للمرء أن يسب نفسه وذلك بأن يستسب لها وهذا فيه من النصوص ما يغني عن الاستدلال وفي هذا الباب حديث مالك عن إسماعيل بن أبي حكيم أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع امرأة من الليل تصلي فقال من هذه فقيل الحولاء بنت تويت لا تنام الليل فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرفت الكراهية

في وجهه ثم قال إن الله لا يمل حتى تملوا اكلفوا من العمل ما لكم به طاقة وقد ذكرنا في التمهيد من أسنده ووصله وهو حديث صحيح مسند والحولاء امرأة قرشية من بني أسد بن عبد العزى بن قصي والتويتات في بني أسد وقد أوضحنا ذلك عند ذكرها في كتاب الصحابة وأما قوله إن الله لا يمل حتى تملوا فمعناه عند أهل العلم إن الله لا يمل من الثواب والعطاء على العمل حتى تملوا أنتم العمل وتقطعونه فينقطع عنكم ثوابه ولا يسأم من أفضاله عليكم إلا بسآمتكم عن العمل وأنتم متى تكلفتم من العمل والعبادة ما لا تطيقون وأسرفتم لحقكم الملل وضعفتم عن العمل فانقطع عنكم الثواب بانقطاع العمل يحضهم صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى على القليل الدائم ويخبرهم أن النفوس لا تحتمل الإسراف عليها وأن ذلك سبب إلى قطع العمل ومن هذا حديث بن مسعود قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا ومنها أيضا قوله صلى الله عليه وسلم لا تشادوا الدين فإنه من غالب الدين يغلبه الدين ومنه الحديث إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق فإن المنبت لا يقطع أرضا ولا يبقى ظهرا

وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص وكان يصوم النهار ويقوم الليل لا تفعل فإنك إذا فعلت نفهت نفسك أي أعيت وكلت يقال للمعيي منفه ونافه وجمع نافه نفه كذلك فسره أبو عبيد عن أبي عبيدة وأبي عمرو قال الأصمعي الإيفال السير الشديد وأما الوغول فهو الدخول وقد جعل مطرف بن عبد الله بن الشخير رحمه الله الغلو في أعمال البر سيئة والتقصير سيئة فقال الحسنة بين السيئتين وأما لفظه في قوله إن الله لا يمل حتى تملوا فهو لفظ خرج على مثال لفظ ومعلوم أن الله عز وجل لا يمل سواء مل الناس أو لم يملوا ولا يدخله ملال في شيء من الأشياء جل عن ذلك وتعالى علوا كبيرا وإنما جاء لفظ هذا الحديث على المعروف من لغة العرب فإنهم إذا وضعوا لفظا بإزاء لفظ جوابا له أو جزءا ذكروه بمثل لفظه وإن كان مخالفا له معناه ألا ترى إلى قوله عز وجل وجزؤا سيئة سيئة مثلها الشورى وقوله تعالى فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم البقرة والجزاء لا يكون سيئة والقصاص لا يكون اعتداء لأنه حق وجب ومثل ذلك قول الله عز وجل ومكروا ومكر الله والله خير المكرين آل عمران وقوله تعالى إنما نحن مستهزءون الله يستهزئ بهم القرة وقوله تعالى إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا الطارق وليس من الله مكر ولا هزو ولا كيد إنما هو جزاء مكرهم واستهزائهم وكيدهم فذكر الجزاء بمثل لفظ الابتداء لما وضع بحذائه وقبالته فكذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله لا يمل حتى تملوا أي من مل فقطع عمله انقطع عنه الجزاء

روى الأوزاعي وغيره عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذوا من العمل قدر ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا قالت وكان أحب العمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما داوم عليه صاحبه وإن قل وبعضهم يرويه وكان أحب الصلاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما داوم عليها صاحبها وإن قلت وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة داوم عليها ثم قرأ أبو سلمة الذين هم على صلاتهم دائمون المعارج وقد تقدم بعض القول في صلاة الليل وأن قول القائل بأنه فرض ولو كقدر حلب شاة قول متروك وشذوذ والعلماء على خلافه كلهم يقولون إنه فضيلة لا فريضة ولو كان قيام الليل فرضا لكان مقدرا موقتا معلوما كسائر الفرائض وقد روى قتادة عن زرارة بن أوفى عن سعد بن هشام عن عائشة أنه قال لها حدثيني عن قيام الليل فقالت ألست تقرأ سورة المزمل قلت بلى قالت فإن أول هذه السورة نزلت فقام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتفخت أقدامهم وحبست خاتمتها في السماء اثني عشر شهرا ثم أنزل آخرها فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة ومن حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل وقد ذكرنا إسناد هذا الحديث وما كان مثله من معاني هذا الباب في التمهيد أما حديثه عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب كان

يصلي من الليل ما شاء الله حتى إذا كان من آخر الليل أيقظ أهله للصلاة يقول لهم الصلاة الصلاة ثم يتلو وأمر أهلك بالصلوة واصطبر عليها طه ففيه ما كان عليه عمر من قيام الليل وأنه لم تشغله أمور المسلمين وما كان إليه منهم عن الصلاة بالليل وذلك لفضل صلاة الليل وفيه أنه لم يكن يكلف أهله من الصلاة ما كان هو يفعله منها بالليل ويحتمل أن يكون إيقاضه أهله ليدركوا شيئا من صلاة الأسحار والاستغفار فيها ويحتمل أن يكون إيقاظه لهم للصلاة المفروضة صلاة الصبح وأيها كان فإنه امتثل في ذلك الآية التي ذكر مالك وامتثل والله أعلم قول الله عز وجل يأيها الذين ءامنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا التحريم قال أهل العلم بتأويل القرآن ومعانيه أدبوهم وعلموهم وأما قول سعيد بن المسيب كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها فهذا المعنى مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي برزة الأسلمي وغيره وقد ذكرناه من طرق في التمهيد أحسنها حديث يحيى القطان قال حدثنا عوف قال حدثني أبو المنهال سيار بن سلامة عن أبي برزة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن الثوم قبلها والحديث بعدها يعني العشاء الآخرة وقد روي من حديث علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال مررت ليلة أسري بي فإذا بقوم تضرب رؤوسهم بالصخر فقلت يا جبريل من هؤلاء قال يا محمد بن أمتك قلت وما بالهم قال كانوا ينامون عن العشاء الآخرة

وهذا معناه عندي والله أعلم أنهم كانوا ينامون عنها ولا يصلونها في شيء من وقتها وعلى هذا حمل الطحاوي قوله صلى الله عليه وسلم فيمن نام ليله كله حتى أصبح ذلك رجل بال الشيطان في أذنه قال هذا والله أعلم أنه نام عن صلاة العشاء الآخرة حتى انقضى الليل كله ويدلك على ذلك أن من السلف قوما كانوا ينامون قبل العشاء ويصلون في وقتها روى شعبة قال سألت الحكم عن النوم قبل صلاة العشاء في رمضان فقال قد كانوا ينامون قبل صلاة العشاء وإسناده عن شعبة في التمهيد روى سفيان عن منصور عن إبراهيم عن الأسود أنه كان يقرأ القرآن في شهر رمضان في ليلتين وينام ما بين المغرب والعشاء وعن بن عمر أنه كان يرقد قبل الصلاة العشاء الآخرة ويوكل من يوقظه ذكره أبو بكر بن أبي شيبة عن بن علية عن أيوب عن بن عمر قال وحدثنا جرير عن مغيرة عن إبراهيم أو مجاهد قال كان بن عمر يكاد يسب الذي ينام عن العشاء والإسناد الأول عنه أجود ومعناه عندي على ما وصفت والله أعلم وروي عن بريد لعلي رضي الله عنه أنه ربما أغفي قبل العشاء وروي أنه ما كانت نومة أحب إليه من نومة بعد العشاء قبل العشاء وذكرت إباحة النوم قبل العشاء عن الأسود بن يزيد وعروة بن الزبير وعلي الأزدي وسعيد بن جبير وبن سيرين ذكره بن أبي شيبة عنهم وهذا كله عنهم على أنهم كانوا يصلون العشاء في وقتها أو مع الجماعة وأما الذين كرهوا النوم قبلها فعمر بن الخطاب رضي الله عنه ودعا على من نام قبل العشاء قال فمن نام فلا نامت عينه

وأبو هريرة جاءه رجل فقال إن منا المخارج والمضارب فهل علينا حرج أن ننام قبل العشاء قال نعم وحرج وحرجان وثلاثة أحراج وعن بن عمر أيضا لسائل سأله عن ذلك فقال إن نمت عنها قبل أن تصليها فلا نامت عينك وعن بن عباس قال ما أحب النوم قبلها ولا الحديث بعدها وعن إبراهيم وعطاء وطاوس ومجاهد وسعيد بن المسيب أنهم كانوا يكرهون النوم قبلها والحديث بعدها وقال مجاهد لأن أصلي العشاء قبل مغيب الشفق أحب إلي من أن أنام ثم أصليها بعد مغيب الشفق في جماعة وهذا عندي إسراف وصلاتها في الحضر قبل مغيب الشفق غير جائز إلا لعذر صحيح واتفق مالك والشافعي على كراهة النوم قبل العشاء الآخرة والحديث بعدها واحتج مالك بما ذكره في موطئه عن سيعد بن المسيب وذكر عن عائشة في الحديث بعدها في كتاب الجامع أنها كانت ترسل بعض أهلها بعد العتمة تقول لهم ألا تريحون الكتاب وأما أبو حنيفة وأصحابه فيكرهون النوم قبلها ويرخصون في الحديث بعدها فيما لا مأثم فيه وقال الليث بن سعد إنما معنى قول عمر فلا نامت عينه من نام قبل ثلث الليل وقد ذكرنا في التمهيد حديث بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا سمر بعد العشاء إلا لمصل أو مسافر وذكر مالك في آخر هذا الباب أنه بلغه أن عبد الله بن عمر كان يقول صلاة الليل والنهار مثنى مثنى يسلم من كل ركعتين وهذا تفسير لحديثه المجمل الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الليل مثنى مثنى

ويدل على ما قاله الشافعي إنه حديث خرج على جواب السائل كأنه قال يا رسول الله كيف صلاة الليل فقال مثنى مثنى ولو سأله عن صلاة النهار لقال أيضا مثل ذلك بدليل هذا الحديث عن بن عمر أنه قال صلاة الليل والنهار مثنى مثنى وقد روي علي بن عبد الله الأزدي البارقي عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال صلاة الليل والنهار مثنى مثنى ركعتين وسيأتي القول في ذلك في باب الوتر إن شاء الله تعالى وقوله مثنى مثنى يقتضي التسليم من كل ركعتين كما جاء مفسرا في هذا الخبر عن بن عمر لأنه لا يقال للظهر مثنى مثنى ولا للعصر مثنى مثنى وإن كان فيهما جلوس في كل ركعتين وهذا كله يدل على ضعف مذهب الكوفيين في إجازتهم عشر ركعات وثمانيا ومثنى وأربعا وقد روى يحيى بن سعيد الأنصاري عن نافع عن بن عمر أنه كان يتطوع بالنهار أربعا لا يفصل بينهن وهذا لو صح احتمل أن يكون لا يفصل بينهن بتقدم عن موضعه ولا تأخر وجلوس طويل أو كلام والله أعلم وهذا المعنى يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث المغيرة بن شعبة ومن حديث أبي هريرة حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن الحجاج عبيد عن إبراهيم بن إسماعيل عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أيعجز أن يتقدم أو يتأخر أو عن يمينه أو عن شماله يعني في السبحة بعد الفريضة قال إسماعيل هكذا حدثني به سليمان بن حرب وحدثناه عارم بن الفضل قال حدثنا حماد بن زيد عن ليث عن الحجاج بن عبيد عن إبراهيم بن إسماعيل عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم

قال أبو عمر إبراهيم بن إسماعيل هذا مجهول وكذلك الحجاج بن عبيد وإنما روى حديثه ليث لا أيوب وهو حديث لا يحتج بمثله ولكن قد روى بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء عن بن عباس قال إذا صلى أحدكم المكتوبة ثم أراد أن يصلي بعدها فليتقدم ولا يتكلم قال أبو عمر هذا حديث صحيح وسفيان عن حصين عن الشعبي قال إذا صليت المكتوبة ثم أردت أن تتكلم فاخط خطوة أو تكلم قال أبو عمر قد خالف بن عمر بن عباس في هذا القول فقال وأي فضل أفضل من السلام وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى وكان مالك رحمه الله لا يرى بأسا أن يتطوع من سوى الإمام في موضعه ولا يتقدم ولا يتأخر ولا يتكلم وكان ينكر قول من كره ذلك على معنى ما روي عن بن عمر وغيره في ذلك وإنما قلنا إن قوله مثنى مثنى يقتضي السلام من كل ركعتين في النوافل مع ما تقدم ذكره لأن بن عمر روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي قبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين وقبل العصر ركعتين وبعد المغرب ركعتين وبعد الجمعة ركعتين في بيته وهو كان أشد الناس امتثالا لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا وكيع وغندر عن شعبة عن يعلى بن عطاء عن علي الأزدي عن بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الليل والنهار ركعتان ركعتان وقال غندر مثنى مثنى وذكر بن وهب قال حدثنا عمرو بن الحارث عن بكير بن عبد الله الأشج أن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان حدثه أنه سمع بن عمر يقول صلاة الليل والنهار مثنى مثنى يعني التطوع فكيف يقبل مع هذا عن بن عمر أنه كان يتطوع بالنهار أربعا لا يفصل بينهن ومع ما رواه علي الأزدي عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم

باب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الوتر ذكر فيه مالك عن بن شهاب عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة فإذا فرغ اضطجع على شقه الأيمن في هذا الحديث الوتر بواحدة وهو رد لقول من قال لا يوتر بثلاث لا يفصل بينهن بسلام وسيأتي القول في هذه المسألة في موضعها من الباب بعد هذا إن شاء الله تعالى وهكذا هذا الحديث عند رواة الموطأ وخالف أصحاب بن شهاب مالكا في معنى منه وذلك أنهم جعلوا الاضطجاع فيه بعد ركعتي الفجر لا بعد الوتر ومن أصحاب بن شهاب من قال فيه كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة يسلم منها في كل ويوتر بواحدة هكذا رواه بن أبي ذئب ويونس بن يزيد والأوزاعي عن بن شهاب ورواه معمر وعقيل وشعيب كما رواه مالك لم يقولوا يسلم من كل ركعتين ولا ذكروا يوتر بواحدة ولم يختلفوا في إسناده عن بن شهاب عن عروة عن عائشة وقد ذكرنا ذلك بالأسانيد عنهم في التمهيد وقد أنكر أهل الحديث على مالك قوله في هذا الحديث أوتر منها بواحدة فإذا فرغ اضطجع على شقه الأيمن

وقالوا لم يذكر غيره في الحديث عن بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يضطجع على شقه الأيمن إلا بعد ركعتي الفجر كذلك رواه عمرو بن الحارث ويونس وبن أبي ذئب عن بن شهاب عن عروة عن عائشة الحديث وفي آخره فإذا تبين له الفجر وجاءه المؤذن قام فركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة قال أبو عمر قد قال يحيى بن معين إن أصحاب بن شهاب إذا اختلفوا فالقول ما قاله مالك فهو أثبتهم في بن شهاب وأحفظهم لحديثه وممكن أن يكون اضطجاعهم مرة كذا ومرة كذا وغير نكير أن يكون ما قاله مالك لأنه موجود من روايته عن مخرمة بن سليمان عن كريب عن بن عباس قال بت عند خالتي ميمونة قال فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين الحديث قال ثم أوتر ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن فصلى ركعتين ففي هذا الحديث أن اضطجاعه كان بعد الوتر وبعد ركعتي الفجر ولكنه لم يتابع على ذلك في حديث بن شهاب هذا وإنما يقولون فيه عن بن شهاب عن عروة عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى أن ينصدع الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم من كل اثنتين ويوتر بواحدة ويمكث في سجوده قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه فإذا سكت المؤذن الأول من صلاة الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن وقد ذكرنا من ساقه هكذا ومن خالف فيه في هذا الباب وفي هذا الحديث من الفقه ما يدل على أن قيام الليل سنة مسنونة اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد مضى القول في ذلك في الباب قبل هذا وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الليل مثنى مثنى ما يقضي لرواية من روى في هذا الحديث أنه كان يسلم في كل ركعتين وقد زعم قوم أن اضطجاعه صلى الله عليه وسلم بعد ركعتي الفجر سنة

واحتجوا بحديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا صلى أحدكم الركعتين قبل الصبح فليضطجع على يمينه وإسناده مذكور في التمهيد وأبي جماعة من أهل العلم ذلك وقالوا ليس الاضطجاع سنة وإنما كان ذلك منه صلى الله عليه وسلم راحة لطول قيامه واحتجوا بحديث أبي سلمة عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي الفجر فإن كنت نائمة اضطجع وإن كنت مستيقظة حدثني وفي لفظ بعض الناقلين لهذا الحديث إن كنت مستيقظة حدثني وإلا فاضطجع وروى بن القاسم عن مالك قال لا بأس بالضجعة بين ركعتي الفجر وصلاة الصبح إن لم يرد بذلك الفصل بينهما وقال الأثرم سئل أحمد بن حنبل وأنا أسمع عن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر فقال ما أفعله أنا فإن فعله رجل ثم سكت كأنه لم يعبه إن فعله قيل له لم لم تأخذ به ليس فيه حديث يثبت قلت له حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال رواه بعضهم مرسلا وعن بن عمر وإبراهيم النخعي وأبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود وجابر بن زيد أنهم أنكروا الضجعة بعد ركعتي الفجر وقال بن عمر إنها بدعة وفي هذا الحديث من رواية جماعة من أصحاب بن شهاب اتخاذ مؤذن ثابت للأذان وفيه إشعار المؤذن للإمام لدخول الوقت وفي ذلك ما يدل على أن على المؤذنين ارتقاب الأوقات واحتج بعض من لا يجيز الأذان بصلاة الصبح قبل الفجر بحديث بن شهاب هذا من رواية عقيل وغيره قوله فيه فإذا سكت المؤذن الأول لصلاة الفجر قام فصلى ركعتين خفيفتين

قالوا فهذا يدل على أن الأذان لصلاة الفجر إنما كان بعد الفجر في حين يجوز عمل ركعتي الفجر لقوله إذا سكت المؤذن الأول وهذا التأويل قد عارضه قوله صلى الله عليه وسلم إن بلالا ينادي بليل وقد مضى القول فيه والحمد لله وأما حديثه عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي سلمة عن عائشة أنها قالت ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة يصلي أربعا فلا تسل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعا فلا تسل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثا قالت عائشة فقلت يا رسول الله أتنام قبل أن توتر فقال يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي وفي هذا الحديث البيان بأن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان وغيره كانت سواء وقد مضى القول في قيام رمضان وأكثر الآثار على أن صلاته كانت إحدى عشرة ركعة وقد روي ثلاث عشرة ركعة واحتج العلماء على أن صلاة الليل ليس فيها حد محدود والصلاة خير موضوع فمن شاء استقل ومن شاء استكثر وروى يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي

من الليل ثلاث عشرة ركعة كان يصلي ثمان ركعات وأربع ركعات ويوتر بركعة واحدة وروى الدراوردي عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة تسعا قائما واثنتين جالسا واثنتين بين النداءين وحديث مالك أثبت من هذين الحديثين وأما قوله يصلي أربعا ثم يصلي ثلاثا فذهب قوم إلى أن الأربع لم يكن بينها سلام وكذلك الأربع بعدها وقال آخرون لم يجلس إلا في آخر الأربع ثم في الأربع ثم أوتر بثلاث وذهب فقهاء الحجاز وبعض أهل العراق إلى أنه كان يسلم في كل ركعتين منها على ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم صلاة الليل مثنى مثنى فمن ذهب إلى هذا تأول في قوله يصلي أربعا ثم أربعا أي حسنهن وطولهن ورتل القرآن فيهن وكذلك أيضا فعل في الأربع بعدهن حسنهن وطولهن ثم الثلاث بعدهن لم يبلغ فيهن من الطول ذلك المبلغ لكنه سلم في كل ركعتين من صلاته تلك كلها فهذا معنى أربعا ثم أربعا ثم ثلاثا عند هؤلاء وحجتهم صلاة الليل مثنى مثنى ولا يقال للظهر ولا للعصر مثنى وإن كان فيها جلوس واختصار اختلافهم في صلاة التطوع بالليل أن مالكا والشافعي وبن أبي ليلى وأبا يوسف ومحمدا قالوا في صلاة الليل مثنى مثنى والحجة لهم ما قدمنا من تسليم رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته بالليل من كل ركعتين وقوله صلاة الليل مثنى مثنى وذلك يقتضي الجلوس والتسليم في كل ركعتين وقال أبو حنيفة في صلاة الليل إن شئت ركعتين وإن شئت أربعا وإن شئت ستا وثمانيا لا تسليم إلا في آخرهن

وقال الثوري والحسن بن حيي صل بالليل ما شئت بعد أن تقعد في كل ركعتين وتسلم في آخرهن وحجة هؤلاء ظواهر الأحاديث عن عائشة منها حديثها هذا أربعا ثم أربعا ثم ثلاثا ومنها ما رواه الأسود عن عائشة أنها قالت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل تسع ركعات فلما أسن صلى سبع ركعات وقال مسروق عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بتسع فلما أسن أوتر بسبع ويحيى بن الجزار عن عائشة مثله على اختلاف عن يحيى في ذلك وروى بن نمير ووهيب وطائفة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر منها بخمس لا يجلس في شيء من الخمس حتى يجلس في الآخرة منهن قال أبو عمر أما حديث هشام بن عروة هذا فقد أنكره مالك وقال مذ صار هشام بالعراق أتانا عنه ما لم نعرف منه وأما سائر الأحاديث فمحتمله للتأويل ويقضي عليها قوله صلى الله عليه وسلم صلاة الليل مثنى مثنى مع حديث بن شهاب عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة ويسلم من كل اثنتين وقد ذكرنا من روى عن بن شهاب هذا الحديث كما وصفنا من ثقات أصحابه قال أبو عمر في معنى قوله أيضا في حديث هذا الباب أربعا ثم أربعا ثم ثلاثا وجه رابع وهو أنه كان ينام بعد الأربع ثم ينام بعد الأربع ثم يقوم فيوتر بثلاث واحتج من قال بذلك بحديث بن أبي مليكة عن يعلى بن مملك عن أم سلمة أنها وصفت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل وقراءته فقالت كان يصلي ثم ينام قدر ما صلى ثم يصلي قدر ما نام ثم ينام قدر ما صلى ونعتت قراءاته حرفا حرفا

وزاد بعضهم فيه ثم يقوم فيصلي ويوتر رواه الليث بن سعد وغيره عن بن أبي مليكة وأما قولها أتنام قبل أن توتر يا رسول الله فقيل إن عائشة لم تعرف النوم قبل الوتر لأن أباها أبا بكر رضي الله عنه كان لا ينام حتى يوتر وكان يوتر أول الليل وهذا عنه محفوظ معلوم قد ذكرنا الخبر به في موضعه فلذلك والله أعلم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتنام قبل أن توتر لأنها رأت أباها لا يفعل ذلك وكانت صبية فيها يقظة أما قوله صلى الله عليه وسلم جوابا لها إن عيني تنامان ولا ينام قلبي فتلك من علياء مراتب الأنبياء صلوات الله عليهم وذلك روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال إنا معشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا ولهذا والله أعلم قال بن عباس رؤيا الأنبياء وحي لأن الأنبياء يفارقون سائر البشر في نوم القلب ويساووهم في نوم العين ولو تسلط النوم على قلوبهم كما يصنع بغيرهم لم تكن رؤياهم إلا كرؤيا من سواهم وقد خصهم الله من فضله بما شاء أن يخصهم به ومن هذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام حتى ينفخ ثم يصلي ولا يتوضأ لأن الوضوء من النوم إنما يجب لغلبة النوم على القلب لا على العين فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يساوي أمته في الوضوء من الحدث ولا يساويهم في الوضوء من النوم كما لم يساويهم في وصال الصوم وغيره مما جرت عادتهم به فإن قيل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ من النوم قيل كان يتوضأ لكل صلاة وما جاء عنه قط أنه قال وضوئي هذا من النوم وليس ببعيد أن يتوضأ إذا خامر النوم قلبه وذلك نادر كنومه في سفره عن صلاة الصبح ليسن لأمته أن الصلاة لا يسقطها خروج الوقت وإن كان مغلوبا بنوم أو نسيان وهذا واضح والله المستعان روى حماد بن سلمة عن أيوب عن عكرمة عن بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نام حتى سمع غطيطه ثم صلى ولم يتوضأ قال عكرمة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم محفوظا

وإن ذلك كان منه نادرا ليس لأمته كما سن فيمن نام أو نسي وكما قال صلى الله عليه وسلم إني لأنسى لأسن وذكر عبد الرزاق وأبو سفيان عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل لي لتنم عينك وليعقل قلبك ولتسمع أذنك فنامت عيني وعقل قلبي وسمعت أذني وذكر الحديث وقد زدنا هذا المعنى بيانا في التمهيد وتقدم عنه في باب النوم عن الصلاة ليلة الوادي ما فيه كفاية والحمد لله وأما حديثه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة إذا سمع النداء بالصبح ركعتين ثم يصلى خفيفتين فهذا أكثر ما روي في عدد ركعات صلاته بالليل صلى الله عليه وسلم وهو يعارض حديث أبي سلمة عن عائشة قالت ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره عن إحدى عشرة ركعة وهذه شهادات عدول على عائشة فمن زاد في ذلك زيادة قبلت لأنها شهادة مستأنفة وأهل العلم يقولون إن الاضطراب عنها في أحاديثها في الحج وأحاديثها في الرضاع وأحاديثها في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل وأحاديثها في قصر صلاة المسافر لم يأت ذلك إلا منها رضي الله عنها لأن الذين يروون ذلك عنها حفاظ أثبات القاسم بن محمد وعروة بن الزبير والأسود بن يزيد ومسروق ونظراؤهم وقد أجمع العلماء على أن لا حد ولا شيء مقدرا في صلاة الليل وأنها نافلة فمن شاء أطال فيها القيام وقلت ركعاته ومن شاء أكثر الركوع والسجود

وقد ذكرنا اختلافهم في الأفضل من ذلك ويأتي القول في ركعتي الفجر بعد إن شاء الله تعالى وأما حديثه عن مخرمة بن سليمان عن كريب عن بن عباس فلم يختلف عن مالك في إسناده ومتنه وقد ذكرنا في التمهيد كثيرا من طرقه واختلاف الناقلين له وفيه جواز مبيت الغلمان عند ذوات أرحامهم وكان بن عباس نام تلك الليلة عند خالته ميمونة بنت الحارث الهلالية زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأما الدخول عليهن في العورات الثلاث إحداها وهي أوكدها بعد صلاة العشاء وقد أوضحنا هذا في موضعه من هذا الكتاب وهو أمر لا خلاف فيه وفيه التحري في الألفاظ والمعاني لقوله أو قبله بقليل أو بعده بقليل هذا فرار من الكذب وورع صادق وامتثال هذا من أفعال أهل الصدق والوسادة ها هنا الفراش وشبهه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام في طولها ونام هو في عرضها مضطجعا عند رجليه والله أعلم أو عند رأسه وفيه قراءة القرآن على غير وضوء لأنه نام النوم الكثير الذي لا يختلف في

مثله ثم استيقظ فمسح النوم عن وجهه وقرأ العشر الآيات خواتيم آل عمران ثم قام إلى الشن المعلق فتوضأ والشن القربة الخلق والإداوة الخلق يقال لكل واحدة منهما شنة وشن وجمعها شنان ومنه الحديث قرسوا الماء في الشنان ومن هذا المعنى والله أعلم أخذ عمر قوله للذي قال له أتقرأ يا أمير المؤمنين وأنت على غير وضوء فقال له من أفتاك بهذا أمسيلمة وسيأتي هذا الحديث في موضعه من هذا الكتاب وما أعلم خلافا في جواز قراءة القرآن على غير وضوء ما لم يكن حدثه جنابة وروى علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يحجزه عن قراءة القرآن شيء إلا الجنابة رواه الأعمش وشعبة وبن أبي ليلى ومسعر والثوري عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن علي وروى مثله ومعناه عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن مالك الغافقي وحكيم بن حزام على هذا جمهور العلماء من السلف والخلف وقد شذت فرق فأجازت قراءته جنبا وهي مخجوجة بالسنة وأقاويل علماء الأمة وأما الاختلاف في مس المصحف على غير طهارة فسيأتي في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى وفيه رد على من لم يجز للمصلي أن يؤم أحدا إلا أن ينوي الإمامة مع الإحرام لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينو إمامة بن عباس وقد قام إلى جنبه مؤتما به فأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلك به سنة الإمامة إذ نقله عن شماله إلى يمينه وفي هذه المسألة أقوال أحدها هذاوقد ذكرنا فساده

وقال آخرون جائز لكل من افتتح الصلاة وحده أن يكون إماما لمن ائتم به في تلك الصلاة وإن لم ينو ذلك عند افتتاحها لأن الإمامة والجماعة في الصلاة فعل خير لم يمنع الله منه ولا رسوله ولا اتفق الجميع عليه وقال آخرون أما المؤذن والإمام إذا أذن فقد دعا الناس إلى الصلاة ثم انتظر فلم يأته أحد فتقدم وصلى وحده فدخل رجل فجائز له أن يدخل معه في صلاته ويكون إمامه لأنه قد دعا الناس إلى الصلاة ونوى الإمامة والقول في هذا الحديث كالقول فيما مضى من صلاته صلى الله عليه وسلم وأما قوله فصلى ركعتين ثم ركعتين فمحمول عندنا على أنه كان يجلس في كل ركعتين ويسلم بدليل قوله صلى الله عليه وسلم صلاة الليل مثنى مثنى وبما ذكرنا في حديث عائشة من أنه كان يسلم في كل ركعتين من صلاته بالليل وقوله فيه بعد ثنتي عشرة ركعة ثم أوتر دليل على أن الوتر واحدة منفصلة مما قبلها وسنبين ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى وأما قوله فيه ثم اضطجع حتى أتاه المؤذن فصلى ركعتين خفيفتين فقد ذكرنا معنى الاضطجاع بعد الوتر ومن جعله بعد ركعتي الفجر وما في ذلك للعلماء فلا وجه لإعادته هنا ورواية مالك في رواية بن عباس هذا بمعنى روايته في حديث عائشة على ما وصفنا في هذا الباب وأما قول بن عباس في هذا الحديث فقمت إلى جنبه يعني إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده اليمنى على رأسي وأخذ بأذني يفتلها فمعناه أنه قام عن يساره فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعله عن يمينه وهذا المعنى لم يقمه مالك في حديثه وقد ذكره أكثر رواة هذا الحديث عن كريب وقد ذكرنا الروايات بذلك في التمهيد من طرق كثيرة من حديث مخرمة بن سليمان وعمرو بن دينار وسلمة بن كهيل وحبيب بن أبي ثابت كلهم عن كريب عن بن عباس ومن حديث سعيد بن جبير أيضا عن بن عباس وكلهم يصف المعنى الذي ذكرنا وهي سنة مسنونة مجتمع عليها في الإمام إذا قام معه واحد أنه لا يقوم إلا عن يمينه

واختلفوا في الاثنين مع الإمام وسيأتي ذكر ذلك في موضعه من هذا الكتاب واحتجوا إذا كانوا ثلاثة سوى الإمام أنهم يقومون خلفه وقيل إنه إنما فتل أذنه ليذكر ذلك ولا ينساه وقيل ليذهب نومه وأما حديثه عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن عبد الله بن قيس بن مخرمة عن زيد بن خالد الجهني فإن يحيى بن يحيى صاحبنا قد وهم منه في قوله فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين طويلتين طويلتين ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما الحديث ولم يتابعه أحد من رواة الموطأ على ذلك والذي في الموطأ عند جميعهم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين خفيفتين ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين فأسقط يحيى ذكر الركعتين الخفيفتين وذلك وهم وخطأ منه لأن المحفوظ في هذا الحديث وفي غيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتتح صلاة الليل بركعتين خفيفتين وقال يحيى أيضا في هذا الحديث طويلتين طويلتين مرتين وغيره من رواة الموطأ يقولها ثلاث مرات طويلتين طويلتين طويلتين وقد ذكرنا في التمهيد الروايات عن مالك بما وصفنا وذكرنا حديث عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يصلي افتتح صلاته بركعتين خفيفتين وحديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام أحدكم من الليل فليصل ركعتين خفيفتين

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بن وضاح قال حدثنا حامد بن يحيى عن سفيان عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام أحدكم من الليل فليصل ركعتين خفيفتين يفتتح بهما صلاته وأخبرنا عبد الله قال حدثنا محمد قال حدثنا أبو داود قال حدثنا الربيع بن نافع قال حدثنا سليمان بن حيان عن هشام بن حسان عن بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله وحدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم قال حدثنا بن وضاح قال حدثنا بن أبي شيبة قال حدثنا هشيم قال حدثنا أبو حرة عن الحسن عن سعد بن هشام عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يصلي افتتح صلاته بركعتين خفيفتين وفي هذا الحديث بيان أن صلاة الليل ركعتان ركعتان فإن الركعتين الخفيفتين اللتين يفتتح بهما صلاة الليل لم يعتبرها ولا اعتد بها من جعل صلاته بالليل عشر ركعات ثم واحدة للوتر وإذا حملت الأحاديث التي أوردها مالك في هذا الباب على هذا صحت وائتلفت ولم يختلف شيء منها إن شاء الله تعالى باب الأمر بالوتر مالك عن نافع وعبد الله بن دينار عن بن عمر أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة توتر له ما قد صلى

ظاهر هذا الحديث أن صلاة الليل مثنى مثنى دون صلاة النهار ويحتمل أن يكون جوابه صلى الله عليه وسلم خرج على سؤال السائل فاقتصر به على جوابه عن ما سأل عنه كأنه قال له يا رسول الله صلاة الليل فقال مثنى مثنى وبقيت صلاة النهار موقوفة على الدليل محتملة للتأويل لأنه جائز أن يكون جوابه له لو سأله عن صلاة النهار كذلك أيضا وجائز أن يكون بخلافه فلما روى علي الأزدي عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الليل والنهار مثنى مثنى بان المراد فيما وصفنا مع ما قدمنا ذكره قبل هذا الباب من قول بن عمر صلاة الليل والنهار مثنى مثنى وفتواه فبان بذلك أن المسكوت عنه في هذا الحديث هو بمعنى المذكور وأن النهار والليل في صلاة النافلة سواء مثنى مثنى وقد تقدم ما يكفي في هذا المعنى وروي هذا الحديث عن بن عمر جماعة منهم نافع وعبد الله بن دينار وسالم وطاوس وأبو سلمة بن عبد الرحمن ومحمد بن سيرين وحبيب بن أبي ثابت وحميد بن عبد الرحمن وعبد الله بن شقيق كلهم قال فيه عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الليل مثنى مثنى لم يذكر النهار وذكره علي الأزدي عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم والمعنى عندنا في ذلك ما وصفنا وبالله التوفيق واختلف الفقهاء في صلاة التطوع بالنهار والليل فقال مالك والليث بن سعد والشافعي وبن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد بن الحسن صلاة الليل والنهار مثنى مثنى وهو قول أحمد بن حنبل وأبي ثور وداود وقال أبو حنيفة والثوري صل ما شئت بعد أن تقعد في كل ركعتين وهو قول الحسن بن حي وقال الأوزاعي صلاة الليل مثنى مثنى وصلاة النهار أربع ركعات وهو قول إبراهيم النخعي رواه سيعد بن أبي عروبة عن أبي معشر عن إبراهيم قال صلاة الليل مثنى مثنى وصلاة النهار أربع ركعات إن شاء لا يسلم إلا في آخرهن وهو قول يحيى بن سعيد الأنصاري

وقال الأثرم سألت أحمد بن حنبل عن صلاة الليل والنهار في النافلة فقال أما الذي أختار فمثنى مثنى وإن صلى بالنهار أربعا فلا بأس وأرجو ألا يضيق عليه فذكرت له حديث يعلى بن عطاء عن علي الأزدي فقال لو كان ذلك الحديث يثبت ومع هذا فإن بن عمر كان يصلي ركعتين في تطوعه بالنهار ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها فهو أحب إلي فإن صلى أربعا فقد روي عن بن عمر أنه كان يصلي أربعا بالنهار قال بن عون قال لي نافع أما نحن فنصلي بالنهار أربعا فذكرته لمحمد بن سيرين فقال لو صلى ركعتين كان أجدر أن يحفظ حدثنا خلف بن قاسم قال حدثنا أبو طالب محمد بن زكريا المقدسي قال حدثنا أبو محمد مضر بن محمد قال سألت يحيى بن معين عن صلاة الليل والنهار فقال صلاة النهار أربع لا يفصل بينهن وصلاة الليل ركعتان فقلت له إن أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول صلاة الليل والنهار مثنى مثنى فقال بأي حديث فقلت بحديث شعبة عن يعلى بن عطاء عن علي الأزدي عن بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال صلاة الليل والنهار مثنى مثنى فقال ومن علي الأزدي حتى أقبل منه هذا أدع يحيى بن سعيد الأنصاري عن نافع عن بن عمر أنه كان يتطوع بالنهار أربعا لا يفصل بينهن وآخذ بحديث علي الأزدي لو كان حديث علي الأزدي صحيحا لم يخالفه بن عمر قال يحيى وقد كان شعبة يتقي هذا الحديث وربما لم يرفعه قال أبو عمر قد تقدم قولنا في معنى حديث بن عمر المرفوع في هذا الباب وما يحتمله من التأويل وحديث علي الأزدي لا نكارة فيه ولا مدفع له في شيء من الأصول لأن مالكا قد ذكر في موطئه أنه بلغه أن عبد الله بن عمر كان يقول صلاة الليل والنهار مثنى مثنى ورواه بن وهب عن عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان أنه سمع بن عمر يقول صلاة الليل والنهار مثنى مثنى ومن الدليل على ذلك أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين وبعد المغرب ركعتين وبعد الجمعة ركعتين وقد روي قبل العصر ركعتين وقال إذا دخل المسجد فليركع ركعتين

وكان إذا قدم من سفر نهارا صلى ركعتين وصلاة الفطر والأضحى والاستسقاء ركعتان فهذه كلها صلاة النهار وما أجمعوا عليه من هذا وجب رد ما اختلفوا فيه إليه قياسا ونظرا وبالله التوفيق وفي قوله في هذا الحديث فإذا خشي الصبح صلى ركعة توتر له ما قد صلى على أن الوتر يكون بركعة واحدة قد تقدمتها صلاة ولا تكون ثلاثا لا يفصل بينهن بسلام وهذا موضع اختلف فيه العلماء قديما وحديثا فأجاز الوتر بركعة منفصلة مما قبلها جماعة من السلف منهم عبد الله بن عمر ومعاذ بن الحارث والسائب بن خباب وسعيد بن المسيب وعطاء وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور كل هؤلاء يستحب أن يسلم المصلي بين الشفع والوتر وقال مالك ما شيء أبين من هذا في الفصل بين الشفع والوتر وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي الوتر ثلاث لا يفصل بينهن وروى محمد بن سيرين عن بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة المغرب وتر صلاة النهار فاجعلوا آخر صلاة الليل وترا احتج بهذا الحديث المالكيون والحنفيون وليس فيه حجة واضحة بهذا لأحد الفريقين والله أعلم على أن مالكا قد رواه عن نافع عن بن عمر موقوفا وقال الأوزاعي إن شاء فصل وإن شاء لم يفصل وكل هذه الأقوال لها وجوه ودلائل من جهة الأثر قد ذكرتها في التمهيد والاختيار في ذلك ما قاله مالك والشافعي

وسيأتي القول في الوتر بركعة ليس قبلها شيء عند ذكر فعل سعد بن أبي وقاص لذلك في هذا الباب إن شاء الله تعالى فإنه لم يذكره مالك عن غيره وليس هذا الحديث بمجيز عند مالك وأصحابه لأحد أن يوتر بركعة ليس قبلها صلاة إذا خشي الصبح على ظاهر الشرط في هذا الحديث لأنه حديث خرج الكلام فيه على صلاة تقدمت قبل ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح الحديث ولأنه صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة وغيرها كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة فكان فعله صلى الله عليه وسلم بيانا لقوله ذلك والله أعلم وأما الشافعي فقال في هذا الحديث دليل على أن الوتر بركعة لمن خشي الصبح جائز وإن لم يصل قبلها شيئا قال والقياس أنه يجوز ذلك لكل الناس خشوا الصبح أو لم يخشوه لأنه إذا جاز أن يفصل بسلام مما قبلها جاز أن تصلى وحدها وأما حديث عبادة ذكره عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن بن محيريز عن المخدجي الكناني عن عبادة بن الصامت فقد تكلمنا على إسناده في التمهيد وقد روي عن عبادة من وجوه منها ما رواه أبو داود الطيالسي قال حدثنا زمعة بن صالح عن الزهري عن أبي إدريس الخولاني قال كنت في مجلس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم عبادة بن الصامت فذكروا الوتر فقال بعضهم واجب وقال بعضهم سنة فقال عبادة أما أنا فأشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أتاني جبريل من عند الله عز وجل فقال يا محمد إن الله تعالى يقول لك قد فرضت على أمتك خمس صلوات من وافاني بهن

على وضوئهن ومواقيتهن وركوعهن وسجودهن فإن له بهن عندي عهدا أن أدخله الجنة ومن لقيني قد انتقص من ذلك شيئا فليس له عندي عهد إن شئت عذبته وإن شئت رحمته وحديث محمد بن يحيى بن حبان رواه عنه يحيى بن سعيد وعبد ربه بن سعيد ومحمد بن إسحاق وعقيل بن خالد ومحمد بن عجلان إلا أن عقيلا لم يذكر المخدجي في إسناده ورواه الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد كما رواه مالك والمخدجي عندهم لا يعرف وقيل اسمه أبو رفيع ذكر ذلك عن بن معين وأما بن محيريز فأشهر في الثقة والجلالة من أن يحتاج إلى ذكره وقال مالك المخدجي لقب ليس ينسب في شيء من العرب في هذا الحديث دليل على أن من السلف من يقول بوجوب الوتر وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه وحجتهم حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله قد زادكم صلاة وهي الوتر فحافظوا عليها وحديث خارجة بن حذافة قال خرج علينا رسول الله فقال إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم الوتر جعلها الله لكم فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر وحديث بريدة الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا وكلها آثار محتملة للتأويل لأن قوله زادكم صلاة ليس بموجب للفرض لاحتماله أن يكون زادنا فيما يكون لنا زيادة في أعمالنا كما جاء في الوصية عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الله جعل لكم ثلث أموالكم زيادة في أعمالكم

ومعلوم أنما هو لنا خلاف لما افترض علينا ويصحح هذا التأويل قوله عز ة وجل حفظوا على الصلوات والصلوة الوسطى البقرة ولو كانت ستا لم يكن فيها وسطى وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس صلوات كتبهن الله على العباد وقوله صلى الله عليه وسلم مثل الصلوات الخمس وقال له أعرابي يا رسول الله هل علي غيرها قال لا إلا أن تطوع والآثار بمثل هذا كثيرة جدا قد ذكرناها في التمهيد وقال علي رضي الله عنه ليس الوتر بحتم ولكنه سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديثه أوتروا يا أهل القرآن فخص أهل القرآن بذلك أخبرنا عبد الله قال حدثنا حمزة قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا هناد بن السري عن أبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن عاصم عن علي قال أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال أوتروا يا أهل القرآن فإن الله وتر يحب الوتر قال أحمد وأخبرنا محمود بن غيلان قال حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه قال ليس الوتر بحتم مثل الصلاة المكتوبة ولكنه سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم

وحدثنا عبد الله قال حدثنا محمد قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا أبو حفص الأبار عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أوتروا يا أهل القرآن فقال أعرابي ما يقول ما يقول فقال ليس لك ولا لأصحابك قال أبو عمر الفرائض لا تثبت إلا بيقين لا خلاف فيه فكيف والقول بأن الوتر سنة ليس بواجب يكاد أن يكون إجماعا لشذوذ الخلاف فيه وأما قول عبادة كذب أبو محمد في قوله الوتر واجب فأبو محمد هذا رجل من الأنصار من وجوه الصحابة اسمه مسعود بن أوس وقد ذكرناه في كتاب الصحابة بما ينبغي من ذكره وقد تقدم معنى قول عبادة كذب أبو محمد عند قول عبد الله بن سلام كذب كعب من هذا الكتاب فلا معنى لإعادته هنا واختصار ذلك أن معنى قوله كذب أبو محمد أي غلط أبو محمد ووهم وقد مضت الشواهد على ذلك فيما تقدم والحمد لله وقد ذكرنا في التمهيد الآثار الواردة في معنى حديث عبادة هذا وأوردنا من طرق حديث عبادة ما تبين به صحته وأن المخدجي لم يأت فيه إلا بمعنى ما تواترت الرواية به وفي هذا الحديث دليل على أن من لم يصل وهو مقر موقن بفرض الصلاة مؤمن بها أو صلى ولم يقم الصلاة بما يجب فيها ومات لا يشرك بالله شيئا مقرى بالنبيين مصدقا للمرسلين مؤمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأن كل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم حق إلا أنه مقصر مفرط عاص لم يتب من ذنوبه حتى أدركته منيته أنه في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له فإنه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وقد ذكرنا الآثار بهذا المعنى عند ذكر حديث عبادة هذا في التمهيد ويأتي ذكر أحكام تارك الصلاة المقر بها عند ذكر حديث زيد بن أسلم عن بسر بن محجن في قوله صلى الله عليه وسلم ما لك لم تصل ألست برجل مسلم إن شاء الله تعالى

وأما حديثه عن أبي بكر بن عمر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن سعيد بن يسار عن بن عمر أنه أنكر عليه إذ نزل فأوتر وقال له أليس لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر على البعير ففيه أوضح الدلائل على أن الوتر ليس بواجب فرضا ولا يشبه المكتوبات لأن الإجماع منعقد أنه لا يجوز لأحد أن يصلي على الدواب شيئا من فرائض الصلوات إلا في شدة الخوف خاصة وفي غلبة المطر عليه إذا كان الماء فوقه وتحته فإنهم اختلفوا في ذلك وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتنفل على البعير ويوتر عليه فبان بذلك خروج الوتر عن طريق الوجوب وهذ سنة جهلها أبو حنيفة فلم يجز لأحد أن يوتر على الدابة أو البعير في المحمل وكره ذلك له إلا من عذر وخالفه أصحابه وسائر الفقهاء إلا فرقة تابعته وهي محجوجة بإجماع العلماء وراثة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أنه كان يتنفل على محمله حيث ما توجهت به حاجته وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يتنفل ويوتر على البعير فبان بذلك أنه نافلة وسنة لإجماعهم على أنه لا يجوز ذلك في المكتوبة وهذا كاف حجة بالغة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد وأما وتر أبي بكر رضي الله عنه حين كان يأتي فراشه ووتر عمر آخر الليل وقول سعيد بن المسيب أما أنا فإذا جئت فراشي أوترت ففيه الإباحة في تقديم الوتر في أول الليل وتأخيره عن ذلك

وهو أمر مجتمع عليه لا مدخل للقول فيه لأن الوتر من صلاة الليل وصلاة الليل لا وقت لها محدود وإنما الأوقات للمكتوبات فما فعل الإنسان من ذلك فحسن وسيأتي القول في آخر وقت الوتر في باب الوتر بعد الفجر إن شاء الله تعالى قالت عائشة رضي الله عنها من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهى وتره إلى السحر وعن عائشة أيضا قالت ربما أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم أول الليل وربما أوتر آخره وأما اختيار سعيد فعل أبي بكر رضي الله عنه دون فعل عمر رضي الله عنه مع علمه بفضل الصلاة في السحر فلأن الأخذ بالحزم في أمور الدين والدنيا خوف غلبة النوم فيصبح على غير وتر وكان أبو بكر رضي الله عنه إذا استيقظ وقد كان أوتر يصلي ركعتين ركعتين بعد أن أحرز وتره وقد كان من وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر وأبي الدرداء وأبي هريرة أن لا ينام أحدهم إلا على وتر وحسبك بهذا حجة لاختيار سعيد فعل أبي بكر وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر له فعل أبي بكر في الوتر وفعل عمر فقال حذر هذا يعني أبا بكر وقوي هذا يعني عمر ولم يفضل فعل واحد منهما ولا أنكر عليه لعلمه بأنهما قد اجتهدا جهدهما وقول عائشة رضي الله عنها من خشي أن ينام حتى يصبح فليوتر قبل أن ينام ومن رجا أن يستيقظ آخر الليل فليؤخره وتره تفسير لحديث أبي بكر وعمر في ذلك إلا أن قولها ومن رجا أن يستيقظ فالرجاء قد نفع المرجو منه وقد لا يقع ففعل أبي بكر واختيار سعيد ليس بمدفوع بقولها ولكل وجه

وقد بينا موضع الاختيار في الفضائل والمباحات وبالله العصمة والتوفيق وأما سؤال الرجل عبد الله بن عمر عن الوتر أواجب هو وجواب بن عمر له أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوتر المسلمون فردد عليه الرجل السؤال فلم يزده على هذا الجواب ففيه دليل على أن الوتر ليس بواجب ولو كان واجبا عنده لأفصح له بوجوبه ولكنه أخبره بما دله على أنه سنة معمول بها ليدفع عنه تأويل الخصوص في ذلك والنسخ لأن في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة فلما تلقى المسلمون علمه ذلك بالاتباع بان بأنه لم يخص به نفسه كالوصال في الصيام وما أشبهه وقد روى عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عن عبد الرحمن بن أبي عمرة أنه سأل عبادة بن الصامت عن الوتر فقال أمر حسن جميل قد عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون بعده وأما حديث مالك عن نافع قال كنت مع بن عمر بمكة والسماء مغيمة فخشي عبد الله بن عمر الصبح فأوتر بواحدة ثم انكشف الغيم فرأى أن عيله ليلا فشفع بواحدة ثم صلى ركعتين ركعتين فلما خشي الصبح أوتر بواحدة فقد روى عن بن عمر هذا المذهب في شفع الوتر بعد النوم من وجوه روى الثوري عن عبد الله بن دينار عن بن عمر أنه كان يشفع وتره ثم يصلي مثنى مثنى ثم يوتر وروى الشعبي عن بن عمر مثله وهذه مسألة يعرفها أهل العلم بمسألة نقض الوتر وقد روى مثل قول بن عمر في ذلك عن علي وعثمان وبن مسعود وأسامة ولم يختلف عنهم في ذلك واختلف فيها عن بن عباس وسعد بن أبي وقاص وقال بمذهب بن عمر في ذلك جماعة منهم عروة بن الزبير ومكحول وعمرو بن ميمونة

وحجتهم قوله صلى الله عليه وسلم الوتر ركعة من آخر الليل وقوله فإذا خشي أحدكم الصبح أوتر بركعة واحدة وخالف هذا المذهب في نقض الوتر جماعة أيضا من السلف فروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه من وجوه أنه كان يوتر قبل النوم ثم إن قام صلى ركعتين ركعتين ولم يعد الوتر وروى ذلك عن طائفة من الصحابة أيضا منهم عمار بن ياسر وعائذ بن عمرو وعائشة أم المؤمنين وكانت عائشة تقول في ذلك أوتران في ليلة إنكارا منها لنقض الوتر وقال بذلك من التابعين جماعة منهم علقمة وأبو مجلز وطاوس والنخعي وهو قول مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وأبي ثور والحجة لهم قوله صلى الله عليه وسلم لا وتران في ليلة حدثنا عبد الوارث بن سفيان وسعيد بن نصر قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال وحدثنا عبيد بن عبد الواحد قال حدثنا علي بن المديني قالا حدثنا ملازم بن عمرو قال حدثنا عبد الله بن بدر عن قيس بن طلق عن أبيه طلق بن علي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا وتران في ليلة فإن قيل إن من شفع الوتر بركعة فلم يوتر في ركعة قيل له محال أن يشفع ركعة قد سلم منها ونام مصليها وتراخى الأمر فيها وقد كتبها الملك الحافظ وترا فكيف تعود شفعا هذا ما لا يصح في قياس ولا نظر والله أعلم وأما حديثه عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يسلم بين الركعتين والركعة حتى يأمر ببعض حاجته

فهذه مسألة اختلف فيها السلف أيضا والخلف فروي الفصل بين الشفع وركعة الوتر بالسلام عن عثمان وسعد وزيد بن ثابت وبن عمر وبن عباس وأبي موسى الأشعري ومعاوية وبن الزبير وعائشة رضي الله عنهم وكان معاذ القارئ يؤم جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان فيفعل ذلك معهم وبهذا قال مالك والشافعي وأصحابهما وأحمد وأبو ثور وهو قول سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وعطاء بن أبي رباح وغيرهم وحجة من ذهب هذا المذهب قوله صلى الله عليه وسلم صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشيت الصبح فصل ركعة توتر لك ما قد صليت وما رواه جماعة من أصحاب بن شهاب عن بن شهاب عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي إحدى عشرة ركعة يسلم بين كل ركعتين منها ويوتر بواحدة وقد ذكرنا من قال ذلك عن بن شهاب ومن خالفه فيه فيما تقدم من هذا الكتاب وقال آخرون الوتر ثلاث ركعات لا يفصل بينهن بسلام روي ذلك عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس على اختلاف عنه وعبد الله بن معسود وأبي بن كعب وأنس بن مالك وأبي أمامة وبه قال عمر بن عبد العزيز وأبو حنيفة وأصحابه وهو الذي استحبه الثوري وكان الأوزاعي يقول إن شاء فصل قبل الركعة بسلام وإن شاء لم يفصل وحجة هؤلاء حديث عائشة إذ سئلت عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت كان يصلي أربعا فلا تسل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعا فلا تسل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثا قالوا صلى أربعا بغير سلام وأربعا كذلك وثلاثا أوتر بها وما رواه بن سيرين عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال صلاة المغرب وتر صلاة النهار

ومعلوم أن المغرب ثلاث ركعات لا يسلم إلا في آخرهن فكذلك وتر صلاة الليل وحديث أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من شاء أوتر بسبع ومن شاء أوتر بخمس ومن شاء أوتر بثلاث ومن شاء أوتر بواحدة وأما حديثه عن بن شهاب أن سعد بن أبي وقاص كان يوتر بعد العتمة بركعة واحدة قال مالك وليس على هذا العمل عندنا ولكن أدنى الوتر ثلاث وقد روي مثل فعل سعد بن أبي وقاص في ذلك عن عثمان بن عفان وبن عمر وبن الزبير وروي أن معاوية فعله فذكر ذلك لابن عباس فقال أصاب أو قال أصاب السنة وقال جماعة من أهل العلم من أصحاب الشافعي وغيرهم كل من روي عنه الفصل بين الشفع وركعة الوتر بسلام من الصحابة والتابعين فهو مجيز الوتر بركعة واحدة ليس قبلها شيء وحجتهم ما تقدم ذكره وقالوا ليس أحد ممن يفصل بين ذلك بسلام ويفرد الركعة مما قبلها يكره الوتر بواحدة ليس قبلها شيء إلا مالك بن أنس ومن تابعه وأجاز الشافعي وأحمد وأبو ثور وداود الوتر بواحدة ليس قبلها شيء من صلاة النافلة إلا أنهم يستحبون أن يكون قبلها صلاة قال الشافعي أقلها ركعتان وأكثرها عشر على ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأما مالك فكان يكره أن يوتر أحد بركعة لا صلاة نافلة قبلها ويقول أي شيء توتر له الركعة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم توتر له ما قد صلى وكره بن مسعود الوتر بركعة ليس قبلها شيء وسماها البتيراء وهو مذهب كل من رأى الوتر ثلاث ركعات لا يفصل بينهن بسلام وأما حديثه عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول صلاة المغرب وتر صلاة النهار

فقد روي مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم واستدل بعض أصحابنا على أن الوتر لا ينبغي أن يكون إلا بعد صلاة أقلها ركعتان بهذا الخبر وقالوا إذا كانت المغرب وتر صلاة النهار يعني المكتوبات لأنها من جنسها فكذلك ينبغي أن يكون الوتر لصلاة نافلة تقدمها ولا تكون ركعة مفردة قال مالك من أوتر أول اليل ثم نام ثم قام فبدا له أن يصلي فليصل مثنى مثنى فهو أحب ما سمعت إلي في ذلك ولا يشفع وتره ولا يعيده وهو خلاف لابن عمر وقد ذكرنا من تقدم مالكا إلى اختياره ذلك من السلف ومن تابع بن عمر على مذهبه في هذا الباب وقد أخبر مالك أن الخلاف في ذلك قد سمعه واختار من ذلك ما اختاره وهو الاختيار عند أكثر الفقهاء باب الوتر بعد الفجر ذكر فيه مالك عن بن عباس وعبادة بن الصامت وعبد الله بن عامر بن ربيعة والقاسم بن محمد أنهم أوتروا بعد الفجر وعن بن مسعود أنه قال ما أبالي لو أقيمت الصلاة وأنا أوتر وعن عبادة بن الصامت أنه أسكت المؤذن بالإقامة لصلاة الصبح حتى أوتر

وقال مالك بأثر ذلك إنما يوتر بعد الفجر من نام عن الوتر ولا ينبغي لأحد أن يتعمد ذلك حتى يضع وتره بعد الفجر قال أبو عمر اختلف السلف من العلماء والخلف بعدهم في آخر وقت الوتر بعد إجماعهم على أن أول وقته بعد صلاة العشاء وأن الليل كله حتى ينفجر الصبح وقت له إذ هو آخر صلاة الليل فقال منهم قائلون لا يصلي الوتر بعد طلوع الفجر وإنما وقتها من صلاة العشاء إلى طلوع الفجر فإذا طلع الفجر فلا وتر وممن قال هذا سعيد بن جبير ومكحول وعطاء بن أبي رباح وهو قول سفيان الثوري وأبي يوسف ومحمد وحجتهم حديث خارجة بن حذافة العدوي قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن الله تعالى قد أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم هي الوتر جعلها الله لكم ما بين صلاة العشاء وطلوع الفجر وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن هشيم عن أبي هارون عن أبي سعيد الخدري قال نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا لا وتر بعد طلوع الفجر وأبو هارون العبدي ليس ممن يحتج به وقال آخرون يصلي الوتر ما لم يصل الصبح فمن صلى الصبح فلا يصلي الوتر روي هذا القول عن بن مسعود وبن عباس وعبادة بن الصامت وأبي الدرداء وحذيفة وعائشة وبه قال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأبي ثور وإسحاق وجماعة وهو الصواب عندي لأني لا أعلم لهؤلاء الصحابة مخالفا من الصحابة فدل إجماعهم على أن معنى الحديث في مراعاة طلوع الفجر أريد ما لم تصل صلاة الفجر

ويحتمل أيضا أن يكون ذلك لمن قصده واعتمده وأما من نام عنه وغلبته عينه حتى انفجر الصبح وأمكنه أن يصليه مع الصبح قبل طلوع الشمس مما أريد بذلك الخطاب والله الموفق للصواب وإلى هذا المعنى أشار مالك رحمه الله وأما من أوجب قضاء الوتر بعد طلوع الشمس فقد شذ عن الجمهور وحكم للوتر بحكم الفريضة وقد أوضحنا خطأ قوله فيما مضى من هذا الكتاب روي ذلك عن طائفة من التابعين منهم طاوس وهو قول أبي حنيفة وخالفه صاحباه إلا أن من أهل العلم من استحب ورأى إعادة الوتر بعد طلوع الشمس وقال الثوري إذا طلعت الشمس فإن شاء قضاه وإن شاء لم يقضه وقال الأوزاعي يقضيه متى ما ذكره من يومه حتى يصلي العشاء الآخرة فإن لم يذكر حتى صلاة العشاء لم يقضه بعد فإن فعل شفع وتره قال الليث يقضيه بعد طلوع الشمس وقال مالك والشافعي لا يقضيه واختلف أصحابنا وغيرهم فيمن ذكر الوتر في صلاة الصبح واختلف في ذلك أيضا قول مالك على قولين فقال مرة يقطع ويصلي الوتر واختاره بن القاسم فضارع في ذلك قول أبي حنيفة في إيجاب الوتر ومرة قال مالك لا يقطع ويتمادى في صلاة الصبح ولا شيء عليه ولا يعيد الوتر وهو قول الشافعي والجمهور من العلماء وهو الصواب لأن القطع لمن ذكر الصلاة وهو في صلاة لم يكن من أجل شيء غير الترتيب في صلاة اليوم ومعلوم أنه لا رتبة بين الوتر وصلاة الصبح لأنه ليس من جنسها وإنما الرتبة في المكتوبات لا في النوافل من الصلوات وما أعلم أحدا قال يقطع صلاة الصبح لمن ذكر فيها أنه لم يوتر إلا أبا حنيفة وبن القاسم

وأما مالك فالصحيح عنه أنه لا يقطع وقد قال أبو ثور ومحمد لا يقطع وهو قول جمهور أصحابنا وتحصيل مذهبنا ولولا إيجاب أبي حنيفة الوتر ما رأى القطع والله أعلم فإن قيل إنما أمر بقطع صلاة الصبح للوتر لأن الوتر لا يقضى ولا يصلى بعد صلاة الصبح وإنما وقته قبل الفجر وقبل صلاة الصبح عندنا وهو من السنن المؤكدة فمن نسية ثم ذكره وهو في صلاة الصبح قطعها إذا كان في سعة من وقتها وصلى الوتر ثم صلى الصبح فيكون قد أتى بالسنة والفريضة في وقتها قيل ليس لهذا أصل في الشرع المجتمع عليه بل الأصل أن لا يبطل الإنسان عمله ولا يخرج من فرضه قبل أن يتمه لغير واجب عليه ومعلوم أن إتمام ما وجب إتمامه فرض والوتر سنة فكيف يقطع فرض لسنة وقد أجمع العلماء أنه لا تقطع صلاة فريضة لصلاة مسنونة فيما عدا الوتر واختلفوا في قطعها للوتر فالواجب رد ما اختلفوا فيه إلى ما أجمعوا عليه وكذلك أجمع فقهاء الأمصار أنه لا يقطع صلاة الصبح للوتر إن كان خلف إمام فكذلك المنفرد قياسا ونظرا وعليه جمهور العلماء وبالله التوفيق ولم يختلف قول مالك وأصحابه فيمن أحرم بالتيمم فطرأ عليه الماء وهو في الصلاة أنه يتمادى ولا يقطع وهذا كان أولى من القطع للوتر وقد أوضحنا ذلك في غير هذا الموضع والحمد لله باب ما جاء في ركعتي الفجر مالك عن نافع عن بن عمر أن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سكت المؤذن عن الأذان لصلاة الصبح صلى ركعتين خفيفتين قبل أن تقام الصلاة

روى هذا الحديث عن نافع جماعة منهم عبد الكريم الجزري وغيره فقال فيه عبد الكريم الجزري عن نافع عن بن عمر عن حفصة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع أذان الصبح صلى ركعتين ثم خرج إلى المسجد وحرم الطعام وكان لا يؤذن حتى يصبح فبان بهذا حديث مالك إذا سكت المؤذن أنه أراد بأثر سكوته دون تراخ وإذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتي الفجر عند الأذان بان بذلك أن الأذان للصبح كان عند طلوع الفجر وبعده لا قبله وقد احتج به من لم يجز الأذان للفجر إلا بعد طلوع الفجر وقد مضى القول في ذلك عند قوله صلى الله عليه وسلم إن بلالا ينادي بليل وفي حديث بن شهاب عن سالم ومعلوم أن أذان بن أم مكتوم كان مع الفجر أو بعده ولذلك استحب من أجاز الأذان للفجر بليل أن يكون مؤذن آخر مع الفجر إذا بان له طلوعه وقد أوضحنا ذلك كله فيما تقدم من باب الأذان وقد ذكرنا في التمهيد كثيرا من اختلاف أصحاب نافع في ألفاظ هذا الحديث ولم يختلفوا في إسناده عن نافع عن بن عمر عن حفصة وأما قوله في حديث عبد الكريم الجزري وحرم الطعام ففيه جواز الأكل لمن شك في الفجر حتى يتبين له ويرتفع الشك فيه عنه وسيأتي ما للعلماء في هذا المعنى في كتاب الصيام إن شاء الله تعالى على أنه قوله وحرم الطعام عطف على سماع الأذان لا على الخروج إلى المسجد والله أعلم وأما رواية مالك فيه خفيفتين فهو المحفوظ عنه صلى الله عليه وسلم في ركعتي الفجر وروى عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر عن حفصة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفف ركعتي الفجر

وروى مالك في هذا الباب عن يحيى بن سعيد أن عائشة قالت إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخفف ركعتي الفجر حتى أني لأقول أقرأ فيهما بأم القرآن أم لا وقد ذكرنا من أسند هذا الحديث عن يحيى بن سعيد عن محمد بن عبد الرحمن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة من الثقات وهو حديث ثابت صحيح بهذا الإسناد وحديث أبي الرجال عن عمرة عن عائشة رواه شعبة وغيره عن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن الأنصاري سمع عمرة عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طلع الفجر صلى ركعتين فأقول أقرأ فيهما بفاتحة الكتاب أم لا وقد روى يحيى بن سعيد عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة عن عائشة وهو عندي وهم والله أعلم وإنما هو ليحيى بن سعيد عن محمد بن عبد الرحمن أبي الرجال عن أمه عمرة عن عائشة وقد رواه هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وقد ذكرنا الأسانيد بذلك كله في التمهيد وفي قول عائشة حتى أني لأقول أقرأ بأم القرآن أم لا ذلك على التخفيف ودليل على أن لا يزاد فيهما على فاتحة الكتاب هو المستحب عند مالك وأكثر العلماء وفي قول عائشة أقرأ فيهما بأم القرآن أم لا دليل على أن قراءته صلى الله عليه وسلم فيهما كانت سواء وهو قول مالك والشافعي وطائفة من أهل المدينة ومن أهل العلم من يقول يجهر بما يقرأ فيهما

وأصبح من قال فيهما ب قل هو الله أحد و قل يأيها الكفرون واستدل في تهذيب الآثار من ذلك تخريجها على الإباحة فمن شاء أسر فيهما ومن شاء جهر ومن شاء اقتصر على فاتحة الكتاب في كل واحدة منهما ومن شاء قرأ معها قل يأيها الكفرون و قل هو الله أحد وفيه دليل أيضا على أن قراءة أم القرآن لابد منها في كل صلاة نافلة أو فريضة ويشهد لهذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب وقوله صلى الله عليه وسلم كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج غير تمام وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ فيهما ب قل هو الله أحد و قل يأيها الكفرون من حديث عائشة وحديث بن عمر وحديث بن مسعود وهي كلها صحاح ثابتة قد ذكرتها بطرقها في التمهيد والحمد لله وروي من حديث بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان كثيرا ما يقرأ في ركعتي الفجر قولوا ءامنا بالله وما أنزل إلينا البقرة في الركعة الأولى ويقرأ في الثانية ءامنا بالله وأشهد بأنا مسلمون آل عمران وهذا كله محمول عندنا على أن ذلك مع فاتحة الكتاب لما وصفنا وأما أقاويل الفقهاء فيما يقرأ به في ركعتي الفجر فقال مالك أما أنا فلا أزيد فيها على أم القرآن في كل ركعة لحديث عائشة رواه بن القاسم عنه وقال بن وهب عنه لا يقرأ فيهما إلا بأم القرآن

وقال الشافعي يخفف فيهما ولا بأس أن يقرأ مع أم القرآن سورة قصيرة وروى بن القاسم عن مالك أيضا مثله وروى البويطي عن الشافعي أنه قال أحب أن يقرأ المصلي في ركعتي الفجر مع فاتحة الكتاب قل هو الله أحد و قل يأيها الكفرون وقال الثوري يخفف فإن شيء من حزبه فلا بأس أن يقرأه فيهما ويطول وقال أبو حنيفة ربما قرأت في ركعتي الفجر حزبي من القرآن وهو مذهب أصحابه قال أبو عمر السنة في هذا الباب ما قاله مالك والشافعي والله الموفق للصواب حدثنا خلف بن سعيد وسعيد بن سيد وعبد الله بن محمد بن يوسف قالوا حدثنا عبد الله بن محمد بن علي قال أخبرنا أحمد بن خالد قال حدثنا إبراهيم بن محمد قال حدثنا عون بن يوسف قال حدثنا علي بن زياد قال حدثنا سفيان عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن عائشة قالت صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعتين قبل صلاة الفجر فقرأ فيهما قل هو الله أحد و قل يأيها الكفرون قال أحمد بن خالد بهذا آخذ قال أبو عمر في مراعاة العلماء من الصحابة ومن بعدهم واهتبالهم بركعتي الفجر وتخفيفهما وما يقرأ فيهما مع مواظبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما دليل على أنهما من مؤكدات السنن وعلى ما ذكرت لك جمهور الفقهاء إلا أن من أصحابنا من يأبى أن يسميها سنة ويقول هما من الرغائب وليستا سنة وهذا لا وجه له ومعلوم أن أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها سنة يحمد الاقتداء به فيها إلا أن يقول صلى الله عليه وسلم إن ذلك خصوص لي وإنما يعرف من سنته المؤكدة منها من غير المؤكد بمواظبته عليها وندب أمته إليها وهذا كله موجود محفوظ عنه صلى الله عليه وسلم في ركعتي الفجر وقد قال أشهب بن عبد العزيز وعلي بن زياد ركعتا الفجر سنة مسنونة وهو قول الشافعي وإسحاق وأحمد بن حنبل وأبي ثور وداود وجماعة أهل العلم فيما علمت

وروى عبيد بن عمير بن عائشة قالت ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على الركعتين قبل الصبح ومعلوم أن كل ما ليس بفريضة فهو نافلة ومن النوافل ما هو سنة بمواظبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد استدل بعض أهل العلم على تأكيد ركعتي الفجر في السنن بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاهما بعد طلوع الشمس يوم نام عن الصلاة كما قضى الفريضة ولم يأت عنه أنه قضى شيئا من السنن بعد خروج وقتهما غيرهما وفي حديث عطاء عن عبيد بن عمير عن عائشة قالت ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرع إلى شيء من النوافل إسراعه إلى ركعتي الفجر ولا إلى غنيمة وروى سعد بن هشام عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها وقد ذكرنا أسانيد هذه الآثار كلها في التمهيد وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا جرير عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن عائشة قالت أما ما لم يدعه رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحا ولا مريضا ولا في سفر ولا في حضر فركعتا الفجر وروى أبو إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله عز وجل ومن اليل فسبحه وإدبر النجوم ق قال الركعتان قبل الغداة وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أوس بن خالد عن أبي هريرة قال إدبار النجوم الركعتان بعد طلوع الفجر وأما حديثه عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال سمع قوم الإقامة فقاموا يصلون فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم

فقال أصلاتان معا أصلاتان معا وذلك في صلاة الصبح والركعتين اللتين قبل الصبح فهكذا رواه في الموطأ كل من روى الموطأ ورواه الوليد بن مسلم عن مالك عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس بن مالك أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعوا الإقامة فقاموا يصلون فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أصلاتان معا وقد أخطأ الوليد بن مسلم إذ جعله عن أنس والصواب عن مالك ما في الموطأ وقد رواه الدراوردي عن شريك بن أبي نمر عن أبي سلمة عن عائشة فأسنده وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه عبد الله بن سرجس وعبد الله بن بحينة وأبو هريرة وبن عباس وجابر بن عبد الله وقد ذكرناها بالأسانيد في كتاب التمهيد والمعنى في هذا الحديث النهي عن أن يصلي أحد في المسجد صلاة نافلة ويترك الصلاة القائمة فيه الفريضة وكذلك حكى بن عبد الحكيم عن مالك قال لا يركع أحد في المسجد وقد أقيمت الصلاة وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة وقد ذكرنا هذا الحديث من طرق كثيرة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في التمهيد واختلف الفقهاء في الذي لم يصل ركعتي الفجر وأدرك الإمام في الصلاة أو دخل المسجد ليصليهما فأقيمت عليه الصلاة فقال مالك إذا كان قد دخل المسجد فليدخل مع الإمام ولا يركعهما في المسجد وإن كان لم يدخل المسجد فإن لم يخف أن يفوته الإمام بركعة فليركعهما خارج المسجد ولا يركعهما في شيء من أفنية المسجد اللاصقة به التي تصلى فيها

الجمعة وإن خاف أن تفوته الركعة الأولى مع الإمام فليدخل وليصل معه ثم يصليهما إذا طلعت الشمس إن أحب ولأن يصليهما إذا طلعت الشمس أحب إلي من تركهما وقال الثوري إن خشي فوت ركعة دخل معه ولم يصلهما وإلا صلاهما وإن كان قد دخل المسجد وقال الأوزاعي إذا دخل المسجد يركعهما إلا أن يوقن أنه إن فعل فاتته الركعة الأخيرة فأما الركعة الأولى فليركع وإن فاتته وقال الحسن بن حي إذا أخذ المقيم في الإقامة فلا تطوع إلا ركعتي الفجر وقال أبو حنيفة وأصحابه إن خشي أن تفته الركعتان ولا يدري الإمام قبل رفعه من الركوع في الثانية دخل معه وإن رجى أن يدرك ركعة صلى ركعتي الفجر خارج المسجد ثم يدخل مع الإمام قال أبو عمر اتفق هؤلاء كلهم على أن يركع ركعتي الفجر والإمام يصلي منهم من راعى فوت الركعة الأولى ومنهم من راعى الثانية ومنهم من اشترط الخروج عن المسجد ومنهم من لم يشترطه ورأى أن يصلي فيه وحجتهم أن ركعتي الفجر من السنن المؤكدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواظب عليها فإذا أمكن الإتيان بهما وإدراك ركعة من صلاة الصبح فلا يتركهما لأن من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركتها واحتج بعضهم بأن قال يحتمل قوله أصلاتان معا أن يكون أراد الجمع بين الفريضة والنافلة في موضع واحد كما نهى عن الصلاة يوم الجمعة تطوعا بعدها في مقام واحد حتى يتقدم أو يتكلم احتج بهذا الطحاوي وليس هذا عندي بشيء لأن النهي إنما ورد أن تصليا معا وأن يصلي إذا أقيمت المكتوبة غيرها مما ليس بمكتوبة ويشتغل عنها بما سواها واحتج من رأى أن تصلى خارج المسجد بحديث يحيى بن أبي كثير عن زيد بن أسلم عن بن عمر أنه جاء والإمام يصلي صلاة الصبح ولم يكن صلى الركعتين قبل صلاة الصبح فصلاهما في حجرة حفصة ثم دخل مع الإمام وهذا قول مالك وأبي حنيفة وقد ذكرنا إسناد هذا الحديث في التمهيد وعن سعيد بن جبير معناه وقد ذكرناه أيضا وروي عن بن مسعود أنه دخل المسجد وقد أقيمت الصلاة فصلى إلى أسطوانة

في المسجد ركعتي الفجر ثم دخل في الصلاة بمحضر من حذيفة وأبي موسى وبهذا قال الأوزاعي والثوري ومن حجتهما أنه إذا جاز الاشتغال عن المكتوبة التي أقيمت بركعتي الفجر خارج المسجد جاز ذلك في المسجد وقال الشافعي من دخل المسجد وقد أقيمت الصلاة للصبح ولم يكن ركع ركعتي الفجر فليدخل مع الناس ولا يركع ركعتي الفجر لا خارج المسجد ولا داخل المسجد وكذلك قال الطبري لا يتشاغل أحد بنافلة بعد إقامة الفريضة وقال أبو بكر بن الأثرم سئل أحمد بن حنبل وأنا أسمع عن رجل دخل المسجد والإمام في صلاة الصبح ولم يركع الركعتين فقال يدخل في الصلاة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة وقال أيضا أصلاتان معا قال أحمد ويقضيهما من الضحى إن شاء قيل له فإن صلاهما بعد سلامه قبل طلوع الشمس قال يجزئه وأما أنا فأختار أن يصليهما من الضحى ثم قال حدثنا بن علية عن أيوب عن نافع قال كان بن عمر يصليهما من الضحى وقال محمد بن سيرين كان يكرهون أن يصلوهما إذا أقيمت الصلاة وقال ما يفوته من المكتوبة أحب إلي منهما قال أبو عمر هذا القول أصح لأن فيه حديثا مسندا يجب الوقوف عنده والرد إليه فيما ينازع العلماء فيه إذ لم يكن له في الكتاب ذكر ولا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يعارضه حدثنا أبو الحسن علي بن إبراهيم بن أحمد بن حمويه قال حدثنا أبو محمد الحسن بن رشيق قال حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن سلم المقدسي ببيت المقدس قال حدثنا أحمد بن محمد بن عمر الحنفي قال حدثنا عبد الرزاق بن همام قال أخبرنا معمر وبن جريج وسفيان الثوري وزكريا بن إسحاق عن عمرو بن دينار عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة

وهكذا رواه حماد بن سلمة وحماد بن زيد وجماعة يطول ذكرهم عن عمرو بن دينار عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا ومنهم من يرويه عن حماد بن زيد عن أيوب عن عمرو بن دينار بإسناده مثله وقد وقف قوم هذا الحديث على أبي هريرة منهم سفيان بن عيينة والذين يرفعونه أكثر عددا وكلهم حافظ ثقة فيجب قبول ما زادوه وحفظوه على أن ما صح رفعه لا حرج على الصاحب في توقيفه لأنه أفتى بما علم منه وليس قوله صلى الله عليه وسلم أصلاتان معا مما يمنع من صلاة العشاء الآخرة في المسجد لمن فاتته مع الإمام والناس في صلاة الإشفاع لأن النهي في ذلك إنما ورد عن الاشتغال بنافله عن فريضة تقام في الجماعة والمساجد إنما بنية للفرائض لا للنوافل فالذي تفوته صلاة العشاء أحق بإقامتها في المسجد من المصلين فيه جماعة نافلة الإشفاع كانت أو غيرها وينبغي له أن يصير في ناحية من المسجد حيث يأمن تخليط الإمام في الإشفاع عليه وعلى ما قلت لك جماعة الفقهاء لا أعلمهم يختلفون في ذلك وفيما وصفت لك دليل على أن المراد بالحديث كراهة الاشتغال عن الفريضة بالنافلة وأما قضاء عبد الله بن عمر والقاسم بن محمد ركعتي الفجر بعد طلوع الشمس فذلك دليل على أنهما عندهما من مؤكدات السنن وأجاز الشافعي وأصحابه وطائفة من السلف منهم عطاء وعمرو بن دينار أن تصلي ركعتا الفجر بعد سلام الإمام من صلاة الصبح وأبى ذلك مالك وأكثر العلماء لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وذهب الشافعي في ذلك إلى ما حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا

محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا عبد الله بن نمير عن سعد بن سعيد قال حدثني محمد بن إبراهيم عن قيس بن عمرو قال رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يصلي بعد صلاة الصبح ركعتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ركعتان فقال الرجل أني لم أكن صليت الركعتين قبلهما فصليتهما الآن فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو داود روى هذا الحديث يحيى بن سعيد وعبد ربه بن سعيد مرسلا عن جدهم قيس بن عمرو قال أبو داود حدثنا حامد بن يحيى قال حدثنا سفيان قال كان عطاء بن أبي رباح يحدث بهذا الحديث عن سعد بن سعيد وقد مضى القول في معنى النهي عن الصلاة بعد الصبح والعصر وما للعلماء في ذلك من المذاهب في بابه من هذا الكتاب والحمد لله ويأتي القول فيمن دخل المسجد لصلاة الصبح وقد ركع ركعتي الفجر هل يركع الركعتين تحية المسجد عند ذكر حديث أبي قتادة في موضعه في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى

كتاب صلاة الجماعة باب فضل صلاة الجماعة صلاة الفذ ذكر فيه مالك عن نافع عن بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة وعن بن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءا قال أبو عمر معنى قوله في هذا الحديث جزءا وفي حديث بن عمر درجة وفي حديث أبي سعيد الخدري خمسا وعشرين صلاة ذكره أبو داود معنى واحدا كله يريد تضعيف ثواب المصلي في جماعة على ثواب المصلي وحده وفضل أجر من صلى في جماعة على أجر المنفرد في صلاته بالأجزاء المذكورة ويشهد لهذا حديث أنس بن مالك وغيره في حديث الإسراء قال فيه هي خمس وهي خمسون الحسنة بعشر أمثالها

وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنان فما فوقهما جماعة حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا الحوطي قال حدثنا بقية بن الوليد عن عيسى بن إبراهيم عن موسى بن أبي حبيب عن الحكم بن عمير وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنان فما فوقهما جماعة قال الحوطي حدثت به سفيان بن عيينة في المنام بإسناده فقال صدق قال أبو عمر قد استدل قوم بهذه الأحاديث على الأفضل لكثير الجماعة على قليلها وبما عليه أكثر العلماء فيمن صلى في جماعة اثنين فما فوقهما ألا يعيد في جماعة أخرى بأكثر منها ومعلوم أن إعادة الفذ لما صلى وحده مع الجماعة إنما كان لفضل الجماعة على الانفراد فإذا لم يعد من صلى مع اثنين أو ثلاثة في الجماعة الكثيرة دل على ما وصفناه وقد رويت آثار مرفوعة منها حديث أبي بن كعب وغيره أن صلاة الرجل مع الرجلين أفضل من صلاته وحده وصلاته مع الثلاثة أفضل من صلاته مع الرجلين وكلما كثر كان أزكى وأطيب وهي آثار كثيرة ليست في القوة والثبوت والصحة كآثار هذا الباب وقد قلنا إن الفضائل لا مدخل فيها للقياس والنظر وإنما يقال فيها بما صح التوقيف به والله يتفضل بما شاء من رحمته على من يشاء من عباده وفي هذا الحديث من رواية بن عمر وأبي هريرة دليل على جواز صلاة الفذ وحده وإن كانت صلاة الجماعة أفضل وإذا جازت صلاة الفذ وحده بطل أن يكون شهود صلاة الجماعة فرضا لأنه لو كانت فرضا لم تجز للفذ صلاته وهو قادر على الجماعة تارك لها كما أن الفذ لا يجزئه يوم الجمعة أن يصلي قبل الإمام ظهرا إذا كان ممن تجب عليه الجمعة قد احتج بهذا جماعة من العلماء وعلى هذا أكثر الفقهاء بالحجاز والعراق والشام كلهم يقولون إن حضور الصلاة في جماعة فضيلة وسنة مؤكدة لا ينبغي تركها وليست بفرض ومنهم من قال إنها فرض على الكفاية

ومنهم من قال شهودها سنة مؤكدة لا يرخص في تركها للقادر عليها ومن تخلف عنها وأتى بها في بيته جزت عنه إلا أن من صلاها في المسجد جماعة أفضل منه ولهم في ذلك دلائل يطول ذكرها وقال داود وسائر أهل الظاهر حضور صلاة الجماعة فرض متعين على كل مكلف من الرجال إذا كان قادرا عليها كالجمعة وقالوا لا تجزئ الفذ صلاته إلا بعد صلاة الناس وبعد إلا يجد قبل خروج الوقت من يصلي معه واحتجوا في إيجاب شهود الجماعة فرضا بأشياء منها حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في إحراق بيوت المتخلفين عن الصلاة معه وقالوا لا يحرق عليهم بيوتهم إلا لتركهم ما قد وجب عليهم وسيأتي القول في معنى حديث أبي هريرة وما كان مثله في ذلك عند ذكره من رواية مالك في هذا الباب إن شاء الله تعالى واحتجوا أيضا بظواهر آثار منها قوله صلى الله عليه وسلم لعتبان بن مالك ولابن أم مكتوم حين استأذنه كل واحد منهما في التخلف عن صلاة الجماعة أتسمع النداء قال نعم قال لا أجد لك رخصة وقوله صلى الله عليه وسلم لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد وقوله فمن سمع النداء ولم يجب فلا صلاة له وهذا القول منه صلى الله عليه وسلم عند جمهور العلماء خرج على شهود الجمعة لا على شهود الجماعة في غيرها وكذلك قوله لعتبان بن مالك وبن أم مكتوم هذا لو صح الأثر بما ذكروا فكيف وهي آثار فيها علل وهي محتملة للتأويل

وكذلك قوله لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد لا يثبت مرفوعا ولو صح كان معناه الكمال كما قال لا إيمان لمن لا أمانة له ولا يزني الزاني وهو مؤمن وقد بينا هذا المعنى في التمهيد والحمد لله قال أبو عمر لا يخلو قوله صلى الله عليه وسلم صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ من أحد ثلاثة أوجه إما أن يكون المراد بذلك صلاة النافلة أو يكون المراد بذلك من تخلف من غير عذر أو يكون المراد بذلك من تخلف من غير عذر وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة فعلمنا بذلك أنه لم يرد بحديث هذا الباب صلاة النافلة لأنه قد فضل صلاة المنفرد في بيته وكذلك لما قال صلى الله عليه وسلم من كان له صلاة بليل فغلبه عليها نوم كتب له أجر صلاته وكان نومه عليه صدقة وقال صلى الله عليه وسلم إذا شغل العبد عن عمل كان يعمله مرض ابتلاه الله به كتب له أجر ذلك العمل ما دام في وثاق مرضه ومثل هذا كثير قد ذكرناه فيما مضى من هذا الكتاب علمنا بذلك أن من تخلف من عذر فلم يدخل في معنى الحديث وإذا بطل هذان الوجهان صح أن المراد بذلك هو المتخلف عما ندب إليه وجب وجوب سنة عليه بغير عذر وعلمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفاضل بينهما إلا وهما جائزان إلا أن أحدهما أفضل من الآخر

وأما حديثه في هذا الباب عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عظما سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء فقد احتج به من أهل الظاهر الموجبون لصلاة الجماعة فرضا داود وأصحابه وقد مضى القول عليه في ذلك بما يكفي والحمد لله وقد اختلف العلماء في الصلاة التي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم إحراق بيوت المتخلفين عنها فقال أهل الظاهر هي كل صلاة على ما قدمنا عنهم وقال آخرون هي صلاة العشاء وحجتهم ما حدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا إبراهيم بن إسحاق النيسابوري قال حدثنا هارون بن معروف قال أخبرنا بن وهب قال أخبرنا بن أبي ذئب عن عجلان مولى المشمعل عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لينتهين رجال ممن حول المسجد لا يشهدون العشاء أو لأحرقن عليهم بيوتهم أو حول بيوتهم بحزم الحطب ويشهد لذلك أيضا حديث مالك هذا عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله فيه لو يعلم أحدهم أنه يجد عظما سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا عفان قال حدثنا حماد بن سلمة

قال أخبرنا عطاء الخرساني عن سعيد بن المسيب قال كانت الصلاة التي أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يحرق على من تخلف عنها صلاة العشاء قال وحدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال هي العشاء أو الفجر هكذا رواه مرفوعا على الشك وقال آخرون بل هي صلاة الجمعة قال أبو بكر حدثنا الفضل بن دكين عن زهير عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال هي الجمعة هكذا ذكر أيضا مرفوعا قال وحدثنا عفان قال حدثنا حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن قال كانت الصلاة التي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحرق على من تخلف عنها الجمعة حدثنا أحمد بن قاسم وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا كثير قال حدثنا جعفر قال حدثنا يزيد بن الأصم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم أخرج بفتياني معهم حزم الحطب فأحرق على قوم بيوتهم يسمعون النداء ثم لا يأتون الصلاة وسئل يزيد بن الأصم أفي الجمعة هذا أم في غيرها فقال ما سمعت أبا هريرة ذكر جمعة ولا غيرها وقد قال يحيى بن معين إن الحديث في الإحراق على من تخلف عن الصلاة معه صلى الله عليه وسلم بيوتهم هو في الجمعة لا في غيرها احتج بما حدثناه سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا الفضل بن دكين عن زهير عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص سمعه منه عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرق على قوم يتخلفون عن الجمعة بيوتهم ورواه معمر عن أبي إسحاق بإسناده مثله وقد روى عن بن مسعود من وجوه ذكرتها في التمهيد أنه قال عليكم بالصلوات الخمس حيث ينادى بهن فإنهن من سنن نبيكم صلى الله عليه وسلم ولو تركتم سنة نبيكم

لضللتم ولقد عهدتنا وإن الرجل ليهادي بين الرجلين حتى يقام في الصف ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم نفاقه قال أبو عمر معلوم أنه لا يتخلف عن الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير عذر إلا منافق صحيح النفاق وفي قول بن مسعود في الصلوات الخمس في جماعة أنها من سنن نبيكم مع روايته حديث الإحراق عليهم في الجمعة دليل واضح أن الجمعة فريضة وأن شهود الجماعة في غيرها سنة من مؤكدات السنن يخشى على التارك لها رغبة عنها حتى لا تقوم في المساجد جماعة الضلال كما قال بن مسعود رضي الله عنه وفرض الجمعة على من وجبت عليه لا يحتاج فيه إلى دليل ومما يوضح لك سقوط فرض الجماعة وأنها سنة وفضيلة لا فريضة قوله صلى الله عليه وسلم إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فابدأوا بالعشاء رواه بن عمر وعائشة وأنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ثابتة صحيحة وقد ذكرنا الأسانيد بذلك في التمهيد ومثله الرخصة لآكل الثوم في التخلف عن الجماعة وقد مضى ذلك في موضعه من هذا الكتاب والحمد لله وفيه الرخصة في التأخر عن شهود الجماعة لعذر العشاء وأما الوعيد منه في إحراق بيوت المتخلفين عن الصلاة معه فهو كسائر الوعيد في الكتاب والسنة وليس من لم ينفذه مخلفا ولكنه محسن ذو عفو محمود على ذلك وليس مخلف الوعد كذلك وقد بينا هذا المعنى في موضعه على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يتخلف عنه إلا متهم بالنفاق كما قال بن مسعود وقد استدل من أجاز عقوبة العاصي في المال بهذا الحديث وللعقوبة في المال موضع من كتابنا هذا وبالله تعالى التوفيق

وأما ضربه المثل صلى الله عليه وسلم بالعظم السمين والمرماتين الحسنتين فإنه أراد الشيء الحقير والنذر اليسير يقول لو علم أحدهم يعني المنافقين المتخلفين عنه أنه يجد في المسجد أقل شيء من عرض الدنيا لجاءه وأما المرماتان فقيل هما السهمان وقيل هما حديدتان من حديد كانوا يلعبون بهما وهي ملس كالأسنة كانوا يثبتونهما في الأكوام والأعراض ويقال لهم فيما زعم بعضهم المداحي وقال أبو عبيد يقال إن المرماتين ما بين ظلفي الشاة قال وهذا حرف لا أدري ما هو ولا ما وجهه إلا أن هذا تفسيره ويروي المرماتين بفتح الميم وكسرها وأحدها مرماة مثل مدحاة ومذكاة ذكر ذلك الأحفش وغيره وذكر مالك أيضا في هذا الباب حديثه عن أبي النضر عن بسر بن سعيد عن زيد بن ثابت أنه قال أفضل الصلاة صلاتكم في بيوتكم إلا الصلاة المكتوبة هذا ذكر في جميع الموطآت موقوفا على زيد بن ثابت وهو حديث مرفوع عن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه صحاح ويستحيل أن يكون مثله رأيا لأن الفضائل لا مدخل فيها للاجتهاد والقياس وإنما فيها التوقيف ومن طرق هذا الحديث مرفوعا ما رواه جماعة عن موسى بن عقبة عن عمر بن سعيد عن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أيها الناس صلوا في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة وقد ذكرنا إسناده في التمهيد ولم يذكر فيه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم

وهو عندي أولى بالصواب والله أعلم وفي هذا الحديث تفسير لما قبلة من الأحاديث أنها في المكتوبات لا في النوافل ويستدل بذلك على جماعة إلا في الفريضة وقد مضى القول فيما سنه عمر رضي الله عنه في رمضان خاصة من التراويح وفيه دليل على أن الانفراد بكل ما يعمله المؤمن من أعمال البر ويستره ويخفيه أفضل ولذلك قال بعض الحكماء إخفاء العلم هلكة وإخفاء العمل نجاة وقال الله عز وجل في الصدقات وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم البقرة وإذا كانت النافلة في البيوت أفضل منها في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فما ظنك بها في غير ذلك الموضع إلى ما في صلاة المرء في بيته من اقتداء أهله به من بنين وعيال والصلاة في البيت نور له وفقنا الله لما يرضى من القول والعمل آمين برحمته إنه ولي ذلك باب ما جاء في العتمة والصبح مالك عن عبد الرحمن بن حرملة الأسلمي عن سعيد بن المسيب أن رسول الله قال بيننا وبين المنافقين شهود صلاة العشاء والصبح لا يستطيعونها أو نحو هذا وهذا الحديث هكذا في الموطأ مرسل وقد ذكرناه مسندا من طرق في التمهيد وأما قوله فيه أو نحو هذا فإنما هو شك من المحدث وقال فيه يحيى العشاء أو الصبح وقال القعنبي وبن بكير وجمهور الرواة للموطأ عن مالك فيه صلاة العتمة والصبح على ما في ترجمة الباب

وفي ذلك جواز تسمية العشاء بالعتمة وقد روي ذكر العتمة عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ففي السنة اسم هذه الصلاة العتمة وفي القرآن العشاء قال الله عز وجل ومن بعد صلوة العشاء النور وأما الأحاديث المسندة في معنى هذا الحديث فمنها ما رواه شعبة أو هشيم عن أبي بشر عن أبي عمير بن أنس عن عمومته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في صلاة الصبح والعشاء ما يشهدهما منافق وقد ذكرنا الأسانيد بذلك في التمهيد وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء الآخرة وصلاة الصبح ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا وقال بن عمر كنا إذا فقدنا الرجل في هاتين الصلاتين أسأنا به الظن العشاء والصبح وقال شداد بن أوس من أحب أن يجعله الله من الذين يرفع الله بهم العذاب من أهل الأرض فليحافظ على هاتين الصلاتين في الجماعة صلاة العشاء وصلاة الصبح وأسانيد هذه الأحاديث كلها في التمهيد المعنى عندي في ذلك أنه من شهد هاتين الصلاتين في الجماعة فأحرى أن يواظب على غيرهما وفي ذلك تأكيد في شهود الجماعة وأعلام من علامات أهل الفسق والنفاق المواظبة على التخلف عنهما في الجماعة من غير عذر والله أعلم

مالك عن سمي مولى أبي بكر عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بينما رجل يمشي بطريق إذ وجد غصن شوك على الطريق فأخره فشكر الله له فغفر له وقال الشهداء خمسة المطعون والمبطون والغرق وصاحب الهدم والشهيد في سبيل الله هكذا في الموطأ عند يحيى في هذا الباب لم يزد على ما ترى والذي يرويه القعنبي وبن بكير وأبو مصعب ومطرف وبن القاسم وسائر رواة الموطأ عن مالك في هذا الباب عن سمي مولى أبي بكر عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بينما رجل يمشي بطريق إذ وجد غصن شوك على الطريق فأخره فشكر الله له فغفر له وقال الشهداء خمسة المطعون والمبطون والغرق وصاحب الهدم والشهيد في سبيل الله وقال لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا وكلهم يروي في الموطأ عن مالك في باب النداء بهذا الإسناد قوله لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول إلى آخر الحديث كما رواه يحيى وسقط ليحيى من هذا الباب قوله في الحديث ولو يعلم الناس ما في النداء إلى قوله لأتوهما ولو حبوا

ورواه في باب النداء وهذا اللفظ الآخر هو الذي ينبغي أن يكون في هذا الباب لا قصة الرجل الذي وجد غصن شوك بالطريق والخبر عن الشهداء وهي ثلاثة أحاديث وقد جعلها بعضه رواة أبي هريرة أربعة فالذي ينبغي أن يكون منها في هذا الباب قوله ولو يعلم الناس ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا ولم يقع ليحيى في هذا الباب وقد ذكره في باب النداء مع قوله ولو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول على ما مضى في باب النداء وفي هذا الحديث من الفقه الإعلام بأن نزع الأذى من الطريق من أعمال البر وأن أعمال البر تكفر السيئات وتوجب الغفران وتكسب الحسنات وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى من الطريق ما يشهد لما قلنا وقد أوضحنا هذا المعنى في التمهيد والحمد لله وأما قوله الشهداء خمسة فهكذا جاء في هذا الحديث وقد جاء في غيره الشهداء سبعة على ما في كتاب الجنائز من الموطأ وقد مضى القول في النداء وفضله وحكم الاستهام على الصف الأول في باب النداء من هذا الكتاب ويأتي في كتاب الجنائز القول في المبطون والغرق والمطعون وسائر من ذكر معهم إن شاء الله تعالى وأما قوله في هذا الحديث لو يعلمون ما في العتمة والصبح ففيه جواز تسمية العشاء بالعتمة وهو معارض لحديث أبي سلمة عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم هذه إنما هي العشاء وإنما يسمونها العتمة لأنهم يعتمون بالإبل

وإسناد هذا الحديث ليس له من الطرق ما للأحاديث في تسمية العشاء بالعتمة فجائز بالكتاب والسنة أن تسمى بالاسمين جميعا ولا أعلم خلافا اليوم بين فقهاء الأمصار في ذلك وقد ذكرنا في التمهيد حديث هشام بن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال حوسب رجل فلم يوجد له من الخير إلا غصن شوك نحاه عن الطريق فغفر له تفسير لحديث سمي وذكرنا أيضا في ذلك حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق صدقة في حديث ذكرناه هناك بتمامه وأما قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذا الباب لأن أشهد صلاة الصبح في جماعة أحب إلي من أن أقوم ليلة وكذلك قول عثمان بن عفان في هذا الباب أيضا من شهد العشاء فكأنما قام نصف ليلة ومن شهد الصبح فكأنما قام ليلة ففي ذلك دليل على أن أعمال الفرائض والسنن وإقامتها على وجوهها من النوافل والتطوع كله

وكذلك قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله أفضل الفضائل أداء الفرائض واجتناب المحارم وهذا شيء لا خلاف فيه ولا يسغ جهله وترتيب الفضائل عند العلماء الفرائض المتعينة كالصلوات الخمس وما أشبهها ثم ما كان فرضا على الكفاية كالجهاد وطلب العلم والصلاة على الجنائز والقيام بها والصلاة في الجماعة قد قلنا إنها من هذا القسم أو من وكيد السنن ثم السنن التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في جماعة كالعيدين والكسوف والاستسقاء وكل ما واظب عليه من النوافل كصلاة الليل والوتر وركعتي الفجر وما أشبه ذلك ثم سائر التطوع فقف على هذا الأصل فإنه يشهد له سائر الأصول ويقوم عليه الدليل وبالله التوفيق وقد روي حديث عثمان في هذا الباب مسندا حدثنا أحمد بن محمد بن أحمد قال حدثنا أحمد بن الفضل بن العباس قال حدثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي قال حدثنا أبو الربيع سليمان بن داود الزهراني قال حدثنا عمر بن عبد الرحمن الأبار عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء في جماعة تعدل قيام ليلة وصلاة الفجر في جماعة تعدل قيام نصف ليلة هكذا قال في صلاة العشاء قيام ليلة وفي صلاة الفجر نصف ليلة وهو خلاف ما في الموطأ باب إعادة الصلاة مع الإمام ذكر فيه مالك عن زيد بن أسلم عن بسر بن محجن الديلي عن

أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له إذ لم يصل معه وجلس مجلسه ما لك لم تصل مع الناس ألست برجل مسلم قال بلى يا رسول الله ولكني قد صليت في أهلي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جئت فصل مع الناس وإن كنت قد صليت لم يختلف رواة الموطأ عن مالك في اسم هذا الرجل أنه بسر لا بشر بن محمد فإنه رواه عن مالك وقال فيه فقيل لمالك بسر فقال عن بسر أو بشر ثم حدثنا به بعد ذلك فقال عن بن محجن ولم يقل بسر ولا بشر وروى الثوري هذا الحديث فقال فيه بشر بالشين المنقوطة في أكثر الروايات عن الثوري وقال أحمد بن صالح المصري سألت جماعة من ولده أو رهطه فما اختلف علي منهم اثنان أنه بشر كما قال الثوري وفي هذا الحديث وجوه من الفقه منها قوله صلى الله عليه وسلم للذي لم يصل معه ألست برجل مسلم فدل على أن من لم يصل ليس بمسلم ومن صلى الصلاة مواظبا عليه شهد له بالإسلام ومنها أن من أقر بعمل الصلاة وإقامتها على ما يجب وكل إلى قوله وقبل منه لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبل من بن محجن الديلي قوله قد صليت في بيتي وأجمع المسلمون على أن جاحد فرض الصلاة كافر يقتل إن لم يتب من كفره ذلك واختلفوا في المقر بها وبفرضها التارك عمدا لعملها وهو على القيام بها قادر فروى عن علي وبن عباس وجابر وأبي الدرداء تكفير تارك الصلاة قالوا من لم يصل فهو كافر وعن عمر بن الخطاب لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة وعن بن مسعود من لم يصل فلا دين له وقال إبراهيم النخعي والحكم بن عتيبة وأيوب السختياني وعبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه من ترك صلاة واحدة متعمدا حتى يخرج وقتها لغير عذر وأبي من أدائها وقضائها وقال لا أصلي فهو كافر ودمه وماله حلالان إن لم يتب ويراجع الصلاة ويستتاب فإن تاب وإلا قتل ولا ترثه ورثته من المسلمين وحكم ماله حكم مال المرتد إذا قتل على ردته وبهذا قال أبو داود الطيالسي وأبو خيثمة زهير بن حرب وأبو بكر بن أبي شيبة

قال إسحاق هو رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا قال إسحاق وينتظر تارك الصلاة إذا أبى من أدائها وقضائها في استتابته حتى يخرج وقتها وخروج وقت الظهر بغروب الشمس وخروج وقت المغرب بطلوع الفجر قال إسحاق وقد أجمع المسلمون أن من سب الله عز وجل أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم أو دفع شيئا مما أنزل الله تعالى أو قتل نبيا من أنبياء الله تعالى أنه كافر بذلك وإن كان مقرى بكل ما أنزل الله فكذلك تارك الصلاة حتى يخرج وقتها عامدا أبيا من قضائها وعملها وإقامتها قال ولقد أجمعوا في الصلاة على شيء لم يجمعوا عليه في سائر الشرائع قالوا من عرف بالكفر ثم رأوه يصلي الصلاة في وقتها حتى صلى صلوات كثيرة في أوقاتها ولم يعلموه أقر بلسانه أنه يحكم له بالإيمان ولم يحكموا له في الصوم والزكاة والحج بمثل ذلك قال إسحاق ولقد كفر إبليس إذ لم يسجد السجدة التي أمر بسجودها قال فكذلك تارك الصلاة وقال أحمد بن حنبل لا يكفر أحد بذنب إلا تارك الصلاة عمدا ثم ذكر استتابته وقتله وحجة هؤلاء ومن ذهب مذهبهم ما روي من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم في تكفير تارك الصلاة منها حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليس بين العبد وبين الكفر أو قال الشرك إلا ترك الصلاة وحديث بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر

وقوله صلى الله عليه وسلم من ترك الصلاة حبط عمله وحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم من ترك الصلاة حشر مع قارون وفرعون وهامان وحديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا فذلك المسلم وبآثار كثيرة في معنى هذه قد ذكرناها في التمهيد مع ما قدمنا عن الصحابة المذكورين من أقوالهم في هذا الباب واحتج إسحاق في ذلك أيضا بحجج قد ذكرتها في التمهيد وأما الشافعي رحمه الله فقال بقول الإمام لتارك الصلاة صل فإن قال لا أصلي سئل فإن ذكر علة بجسمه أمر بالصلاة على قدر طاقته فإن أبى من الصلاة حتى يخرج وقتها قلته الإمام وإنما يستتاب ما دام وقت الصلاة قائما يستتاب في أدائها وإقامتها فإن أبى قتل وورثه ورثته وهو قول مالك رحمه الله وأصحابه قال بن وهب سمعت مالكا يقول من آمن بالله وصدق المرسلين وأبى أن يصلي قتل وبه قال أبو ثور وهو قول مكحول وحماد بن زيد ووكيع وكل هؤلاء إذا قتل أن لا يمنع ورثته من ميراثه لأنه لا يقتل على الكفر إن كان مقرى بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من التوحيد والشرائع ودين الإسلام ومقر بفرض الصلاة والصيام إلا أنه يأبى من أدائها وهو مقر بفرضها ومؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت

ومن حجة من ذهب هذا المذهب فعل أبي بكر الصديق رضي الله عنه في جماعة الصحابة لأنهم رجعوا إلى قوله حين قال له عمر كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال لا إله إلا الله عصم مني دمه وماله إلا بحقه وحسابه على الله فقال أبو بكر من حقه الزكاة والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة قال عمر فما هو إ لا أن سمعت ذلك منه فعلمت أن الله قد شرح صدره للحق فقاتل أبو بكر والصحابة معه مانعي الزكاة لما أبوا من أدائها إذ فرقوا بين الصلاة والزكاة فأقاموا الصلاة وامتنعوا عن الزكاة فمن أبى من إقامة الصلاة وامتنع منها كان أحرى بالقتل ومعلوم أن هؤلاء من بين أهل الردة لم يكفروا بعد الإيمان ولا أشركوا بالله وقد قالوا لأبي بكر ما كفرنا بعد إيماننا ولكن شححنا على أموالنا وذلك بين في شعر شاعرهم حيث يقول أطعنا رسول الله ما كان بيننا فيا عجبا ما بال ملك أبي بكر فإن التي سألوكموا فمنعتموا لكالتمر أو أشهى إليهم من التمر وأما توريث ورثتهم منهم فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما ولي الخلافة رد إلى هؤلاء ما وجد من أموالهم قائما بأيدي الناس وكان أبو بكر قد سباهم كما سبى أهل الردة وقال أهل السير إن عمر رضي الله عنه لما ولي أرسل إلى النسوة اللاتي كانوا المسلمون قد أحرزوهم من نساء مانعي الزكاة فيما أحرزوا من غنائم أهل الردة فخيرهن بين أن يمكثن عند من هن عنده بتزويج وصداق أو يرجعن إلى أهليهن بالفداء فاخترن أن يمكثن عند من هن عنده بتزويج وصداق وكان الصداق الذي جعل لمن اختار أهله عشر أواقي لكل امرأة والأوقية أربعون درهما

ومن حجة مالك والشافعي في ذلك أيضا حديث أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال سيكون أمراء تعرفون وتنكرون فمن أنكر فقد بريء ومن كره فقد سلم ولكن من رضي وتابع قالوا يا رسول الله ألا نقاتلهم قال لا ما صلوا الخمس فدل أنهم لا يقاتلون ولا يقتلون إذا صلوا الخمس ودل ذلك على أن من لم يصل الخمس قوتل وقتل وقد ذكرنا الأسانيد بذلك في التمهيد وقوله صلى الله عليه وسلم في مالك بن الدخشم أليس يصلي قالوا بلى ولا صلاة له فقال أولئك الذين نهاني الله عنهم أو عن قتلهم فدل على أنه لو لم يصل لم يكن من الذين نهاه الله عن قتلهم بل كان يكون من الذين أمره الله بقتلهم وقال صلى الله عليه وسلم إني نهيت عن قتل المصلين فدل ذلك على أنه قد أمر بقتل من لم يصل كما نهى عن قتل من صلى وأنه لا يمنع من القتل إلا فعل الصلاة والله أعلم قالوا فهذا كله يدل على القتل ولا يدل على الكفر وتأولوا في الآثار التي ورد ظاهرها بتكفير تارك الصلاة ما تأولوا في زنى المؤمن وسرقته وشربه الخمر وانتهابه النهبة التي يرفع الناس إليه فيها رؤوسهم بقوله صلى الله عليه وسلم لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن الحديث وما كان مثله وتفسيقه وسبابه والرغبة عن الآباء وضرب بعضهم رقاب بعض والحكم بغير ما أنزل الله وما كان مثل هذا روى بن عيينة عن هشام بن حجر عن طاوس عن بن عباس أنه قال ليس بالكفر الذي تذهبون إليه إنه ليس بكفر ينقل عن الملة ثم تلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكفرون المائدة فلهذا كله وما كان مثله ورثوا من تارك الصلاة إذا قتلوه ورثته وقد زدنا هذه المسألة بيانا بضروب من الشواهد في التمهيد

وقال إسماعيل القاضي لم ير مالك استتابة القدرية وسائر أهل الأهواء وقتلهم إن لم يتوبوا من جهة الكفر وإنما رأى قتلهم من جهة الفساد في الدين لأنهم أعظم فسادا من المحاربين حدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن قال أخبرنا محمد بن القاسم بن شعبان قال حدثني علي بن سعيد قال حدثنا أبو رجاء سعيد بن حفص البخاري قال حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال حدثنا حماد بن زيد قال حدثنا عمرو بن مالك النكري عن أبي الجوزاء عن بن عباس ولا أظنه إلا رفعه قال عرى الإسلام ثلاث بني الإسلام عليها من ترك منهن واحدة فهو حلال الدم شهادة أن لا إله إلا الله والصلاة وصوم رمضان قال بن عباس نجده كثير المال ولا يزكي فلا يكون بذلك كافرا ولا يحل دمه ونجده كثير المال ولا يحج فلا يكون بذلك كافرا ولا يحل دمه ومنها قوله ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن الحديث وما كان مثله وفي تارك الصلاة قول ثالث قاله بن شهاب وغيره روى شعيب بن أبي حمزة عن بن شهاب أنه سئل عن تارك الصلاة فقال إذا ترك الرجل الصلاة لأنه ابتدع دينا غير الإسلام قتل وإن كان إنما فعل ذلك فسقا ومجونا وتهاونا فإنه يضرب ضربا مبرحا ويسجن حتى يرجع قال والذي يفطر في رمضان كذلك قال أبو جعفر الطحاوي وهو قولنا وإليه ذهب جماعة من سلف الأمة منهم أبو حنيفة وأصحابه قال أبو عمر يقول داود ومن اتبعه وحجة هؤلاء ومن قال بقولهم قوله صلى الله عليه وسلم خمس صلوات كتبهن الله على العباد ثم قال ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة وقال صلى الله عليه وسلم لن يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة واحتجوا أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله

وإني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها قالوا وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حقها فقال لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس بنفس يعني قودا وقد بسطنا هذه المسألة في التمهيد بسطا شافيا وذكرنا أقوال سائر أهل القبلة فيها والحمد لله وفي هذا الحديث أيضا من الفقه أن من صلى في بيته ثم دخل المسجد فأقيمت عليه تلك الصلاة أنه يصليها معهم ولا يخرج حتى يصلي وإن كان قد صلى في جماعة أهله أو غيرهم لأن في حديثنا في هذا الباب قوله بلى يا رسول الله ولكني قد صليت في أهلي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتيت فوجدت الناس يصلون فصل معهم وإن كنت قد صليت واحتمل قوله صليت في أهلي أي في جماعة أهلي ويحتمل أن يكون صلى في بيته وحده وقد اختلف العلماء في هذا المعنى فقال جمهور الفقهاء إنما يعيد الصلاة مع الإمام في الجماعة من صلى وحده في بيته وأهله أو في غير بيته وأما من صلى في جماعة وإن قلت فإنه لا يعيد في جماعة أكثر منها ولا أقل وكل من صلى عندهم مع آخر فقد صلى في جماعة ولا يعيد في أخرى قلت أو كثرت ولو أعاد في جماعة أخرى لأعاد في ثالثة أو رابعة إلى ما لا نهاية له وهذا لا يخفي فساده وممن قال بهذا القول مالك بن أنس وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم

ومن حجتهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تصلى صلاة في يوم مرتين ومنهم من يقول لا تصلوا صلاة في يوم مرتين رواه سليمان بن يسار عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكرنا إسناده في التمهيد وحملوه على من صلى في جماعة لا يعيدها في جماعة واستعملوا الحديثين جميعا كلا على وجهه وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي جائز لمن صلى في جماعة ووجد جماعة أخرى في تلك الصلاة أن يعيدها معهم إن شاء لأنها نافلة وسنة وقال بعضهم إذا كانت صلاة يجوز بعدها نافلة وروي مثل ذلك من إعادة الصلاة في جماعة لمن صلاها في جماعة عن حذيفة بن اليماني وأبي موسى الأشعري وأنس بن مالك وصلة بن زفر والشعبي والنخعي وبه قال حماد بن زيد وسليمان بن حرب وقد ذكرنا الأسانيد عنهم بذلك في التمهيد وذكرنا الحجة لهم وعليهم هناك والحمد لله واتفق أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه على أن معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تصلوا صلاة في يوم مرتين أن ذلك أن يصلي الرجل صلاة مكتوبة عليه ثم يقوم بعد الفراغ منها فيعيدها على جهة الفرض أيضا قالا وأما من صلى الثانية مع الجماعة على أنها له نافلة اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره بذلك وقوله صلى الله عليه وسلم للذي أمرهم بإعادة الصلاة في جماعة إنها لكم نافلة فليس ذلك ممن أعاد الصلاة في يوم مرتين لأن الأولى فريضة والثانية نافلة واختلف الفقهاء أيضا فيما يعاد من الصلوات مع الإمام لمن صلاها وحده فقال قوم يعيد الصلوات كلها مع الإمام من صلاها وحده إلا الصبح والمغرب ذكر مالك في الموطأ عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول من صلى المغرب أو الصبح ثم أدركهما مع الإمام فلا يعد لهما

وهو قول الأوزاعي والحسن البصري وسفيان الثوري وقال مالك وأصحابه يعيد الصلوات كلها من صلاها وحده إلا المغرب وحدها وهو قول أبي موسى الأشعري والنعمان بن مقرن وأبي مجلز وطائفة روى حماد بن سلمة عن أبي عمران الجوني عن أنس بن مالك قال ضليت الفجر ثم أتيت المسجد فوجدت أبا موسى الأشعري يريد أن يصلي فجلست ناحية فلما صلى قال ما لك لم تصل قلت إني قد صليت قال إن الصلاة كلها تعاد إلا المغرب فإنها وتر صلاة النهار وحماد عن حميد عن أنس عن الأشعري والنعمان بن مقرن مثله وحماد عن عمران بن حدير عن أبي مجلز قال الصلوات كلها تعاد إلا المغرب فإنها وتر وقال مالك تعاد الصلوات كلها إن صلاها وحده إلا المغرب وحدها فإنه لا يعيدها لأنها تصير شفعا كذلك قال في موطأه وفي رواية قال مالك ومن صلى في جماعة ولو مع واحد فإنه لا يعيد تلك الصلاة إلا أن يعيدها في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو المسجد الحرام أو مسجد بيت المقدس قال مالك فإن دخل الذي صلى وحده المسجد فوجد القوم جلوسا في آخر صلاتهم فلا يدخل معهم وإنما يدخل معهم من علم أنه يدري من صلاتهم ركعة بسجدتيهما وقال أبو حنيفة وأصحابه لا يعيد المصلي وحده مع الإمام العصر ولا الفجر ولا المغرب ويعيد معه الظهر والعشاء ويجعل صلاته مع الإمام نافلة قال محمد بن الحسن لأن النافلة بعد الصبح والعصر لا تجوز ولا تعاد المغرب لأن النافلة لا تكون وترا في غير الوتر قال أبو عمر احتج بهذا بعض أصحابنا لمالك في قوله لا تعاد المغرب وهو أصح من قوله تكون شفعا وقد تقدم القول في صلاة الليل مثنى مثنى وقوله لا وتران في ليلة وهو المعنى الذي نزع به محمد بن الحسن في المغرب والعجيب من مالك رحمه الله يقول لأنها تصير شفعا وهو يحتج بقول بن

عمر لا فصل أفضل من السلام فكيف وبعد السلام مشي وعمل فكيف تنضاف مع ذلك صلاة إلى أخرى وحجة من ذهب إلى قول بن عمر والأوزاعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بعد العصر ركعتين فيما ذكرت عائشة وقد روي عنها أنها قالت ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد العصر في بيتي قط وقالت أم سلمة ركعهما بعد العصر حين شغله الوفد عنهما قبل العصر وقد ذكرنا هذه الآثار فيما سلف من كتابنا فرأى بن عمر إعادة العصر لهذا ولأنه المذهب الذي كان يذهب إليه في النهي عن الصلاة بعد العصر أنه عند اصفرار الشمس وعند الطلوع وعند الغروب وقد ذكرنا مذهبه في ذلك والحجة له في باب النهي عن الصلاة بعد الصبح والعصر فيما تقدم من هذا الكتاب والحجة له ولغيره في المغرب ما ذكرنا في هذا الباب والحمد لله وقال الشافعي من صلى وحده أعاد صلاته مع الجماعة إذا وجدها وأمكنته في تلك الصلاة والصلوات كلها في ذلك سواء لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمحجن الديلي إذا جئت فصل مع الناس وإن كنت قد صليت ولم يخص صلاة من صلاة ولم يذكر عصرا ولا مغربا ولا صبحا قال والأولى هي الفريضة والثانية تطوع سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سن الوتر والعيدين وغيرهما وهو قول داود بن علي في إعادة الصلوات كلها في جماعة لأنه يرى الصلاة في الجماعة فرضا على ما تقدم عنه واختلف عن الثوري فروي عنه أنه يعيد الصلوات كلها مع الإمام كقول الشافعي وروي عنه مثل قول مالك سواء ولا خلاف عن الثوري أن الأولى فريضة والثانية تطوع وقال أبو ثور يعيدها كلها إلا الصبح والعصر إلا أن يكون في مسجد فتقام الصلاة فلا يخرج حتى يصليها وحجته حديث أبي هريرة أنه رأى رجلا خارجا من المسجد إذا أقيمت الصلاة فقال أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ونهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح

وذكر مالك في هذا الباب أيضا عن نافع عن بن عمر وعن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب بمعنى واحد أن سائلا سال كل واحد منهما قال له إنه يصلي في بيته ثم يأتي المسجد فيجد الناس يصلون أيصلي معهم فقالا نعم قال السائل فأيتهما أجعل صلاتي فقالا ذلك إلى الله تعالى يجعلها أيتها شاء وذكر أصحاب مالك عن مالك أن هذا مذهبه لا يدري أي الصلاتين فلايضة ولا أيتهما هي النافلة وإنما ذلك إلى يجعلها أيتهما شاء هذه جملة حكاها أصحابه عنه لم يختلفوا عنه في ذلك واختلفوا عنه في مسائل تدل على المراد من ذلك واختلفت أجوبة أصحابه في تلك المسائل منها الرجل يحدث في الثانية مع الإمام ومنها أن يذكر أن الأولى كانت على غير وضوء ومنها أن يسقط من إحداهما سجدة ناسيا ولا يدري من أيتها أسقطها بما ذكرناه في كتاب اختلاف مالك وأصحابه والذي يتحصل عليه مذهبه عندي ما ذكره بن وهب في موطأه عن مالك قال قال مالك من أحدث في صلاته مع الإمام فصلاته في بيته هي صلاته وقد روى بن أبي ذئب عن عثمان بن عبد الله بن سراقة قال سألت عبد الله بن عمر عن رجل صلى العصر ثم أعادها في جماعة أيتهما المكتوبة قال الأولى وهذه رواية عن بن عمر ظاهرها مخالف لما ذكره مالك عنه في الموطأ في قوله ذلك إلى الله لأنه في رواية بن أبي ذئب قطع بأن الأولى هي المكتوبة والثانية نافلة وفي رواية مالك شك فلم يدر أيتهما صلاته إلا أنه ممكن أن تكون الأولى وممكن أن تكون الثانية

والنظر عندي يوجب ان تكون رواية مالك متقدمة لأنه لم يبن له حينئذ أيتهما صلاته ثم بان له بعد أن الأولى صلاته فانصرف من شكه إلى يقين علمه ومحال أن ينصرف من يقينه إلى شك فدل ذلك على أن قوله الأولى هي المكتوبة قد بان له فأفتى به فإن قيل كيف يكون عنده الأولى المكتوبة والثانية نافلة في العصر ولا نافلة بعد العصر قيل معلوم عن بن عمر أن التنفل بعد العصر جائز عنده ومذهبه أن العصر والظهر والعشاء تعاد عنده دون المغرب والصبح لمن صلى وحده وقد ذكرنا في التمهيد الروايات عن بن عمر في ذلك بالأسانيد واختلف في ذلك أيضا عن سعيد بن المسيب كما اختلف عن بن عمر فروى همام عن قتادة قال قلت لسعيد بن المسيب إذا صليت وحدي ثم أدركت الجماعة فقال أعد غير أنك إذا أعدت المغرب فاشفع بركعة واجعل صلاتك وحدك تطوعا قال أبو عمر هذا شيء لا يعرف وجهه كيف يشفع المغرب بركعة وتكون الأولى تطوعا وقد أجمع العلماء على أن المغرب إذا نوى بها الفريضة لم يشفعها بركعة وما أظن الحديث والله أعلم إلا والأولى فرضه فإن صح ما ذكرناه عنه وهم من قتادة أو ممن دونه في الإسناد وقد ذكرنا الإسناد في التمهيد وقد كان جماعة من العلماء يضعفون أشياء من حديث قتادة عن سعيد بن المسيب وأما قول بن عمر وسعيد ذلك إلى الله فقد تأول فيه قوم منهم بن الماجشون وغيره أن ذلك في القبول كأنه قال أيتهما يتقبل الله مني فقالا له ذلك إلى الله لأنه قد يتقبل النافلة دون الفريضة ويتقبل الفريضة دون النافلة على حسب النية في ذلك والإخلاص مع أنه تعالى يتفضل على من يشاء من عباده بما شاء من رحمته وعلى هذا التأويل لا يتدافع قول من قال إن الفريضة هي الأولى مع قوله ذلك إلى الله تعالى

وقد أجمع مالك وأصحابه على أن من صلى في بيته وحده أنه لا يؤم في تلك الصلاة غيره وهذا يوضح لك أن الأولى هي عندهم الفريضة على هذا جماعة أهل العلم حتى لقد قال إبراهيم النخعي من صلى صلاة وحده وقصد بذلك أداء فرضه وكتبت الملائكة الحفظة ذلك لم يستطع أحد أن يرده إلى نافلة أو نحو ذلك هذا معنى قوله واختارت طائفة من أصحاب مالك أن تكون الثانية فرضه لأنها صلاة جماعة ويأمرونه ألا يدخل مع الإمام إلا بنية الفرض وتأولوا في قوله صلى الله عليه وسلم للذين أمرهم أن يعيدوا الصلاة مع الإمام فإنها لكم نافلة قالوا نافلة ها هنا بمعنى فضيلة واحتجوا بقول الله عز وجل ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة الأنبياء أي فضيلة وكذلك تأولوا في قول الله تعالى ومن اليل فتهجد به نافلة لك الإسراء أي فضيلة قالوا وإنما لم يؤم في تلك الصلاة أحدا لأنا لا ندري أي الصلاتين صلاته حقيقة فاحتطنا ألا يؤم أحدا خوفا من أن يكون الثانية تطوعا فيأتم به فيها من هي فريضته وأما حديثه في هذا الباب عن عفيف بن عمرو السهمي عن رجل من بني أسد أنه سأل أبا أيوب الأنصاري فقال إني أصلي في بيتي ثم آتي المسجد فأجد الإمام يصلي أفأصلي معه فقال أبو أيوب نعم صل معه فإن من صنع ذلك له سهم جمع أو مثل سهم جمع فقد رواه بن وهب عن عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج أنه سمع عفيف بن عمرو يقول حدثني رجل من أسد بن خزيمة انه سأل أبا أيوب الأنصاري فقال أحدنا يصلي في منزله الصلاة ثم يأتي المسجد فتقام الصلاة فيصلي معهم فقال أبو أيوب سألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له بذلك سهم جمع

ولو استدل مستدل على سقوط فرض الجماعة وأنها مستحبة وسنة لا فريضة بهذه لآثار كلها وما كان مثلها عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم عن أصحابه فإنهم لم يقولوا لأحد ممن سألهم في إعادة الصلاة مع الإمام وقد صلى وحده بئس ما فعلت إذ صليت وحدك وكيف تصلي وحدك ولا صلاة لمن صلى وحده بل جميعهم سكت له عن ذلك وندبة إلى إعادة الصلاة للفضل لا لغيره والله يمن على من يشاء بفضله وتوفيقه وما قوله سهم جمع فقال بن وهب يضعف له الأجر قال أبو عمر هذا التأويل أشبه عندي من قول من قال إن الجمع هنا الجيش وإن له أجر الغازي وأجر الغزاة في سبيل الله وإن ذلك مأخوذ من قوله تعالى فلما ترءا الجمعان الشعراء يعني الجيشين وقول بن وهب في ذلك أصوب وقد ذكرنا في التمهيد الخبر عن المنذر بن الزبير أنه أوصى في وصيته فقال لفلان كذا ولفلان كذا ولفلان سهم جمع قال مصعب بن عبد الله فسألت عبد الله بن المنذر ما يعني بسهم جمع قال نصيب رجلين وهذا يشهد لما قاله بن وهب وهو المعروف عن فصحاء العرب والله أعلم باب العمل في صلاة الجماعة ذكر فيه مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا صلى أحدكم بالناس فيخفف فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء في هذا الحديث أوضح الدلائل على أن أئمة الجماعة يلزمهم التخفيف لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بذلك ولا يجوز لهم التطويل لأن في الأمر لهم بالتخفيف نهيا عن التطويل وقد بان في هذا الحديث العلة الموجبة للتخفيف وهي عندي غير مأمونة على

أحد من أئمة الجماعة لأنه وإن علم قوة من خلفه فإنه لا يدري ما يحدث لهم من آفات بني آدم ولذلك قال فإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء لأنه يعلم من نفسه ما لا يعلم من غيره وقد يحدث للظاهر القوة ومن يعرف منه الحرص على طول الصلاة حادث من شغل وعارض من حاجة وآفة من حدث بول أو غيره فينبغي لكل إمام أن يخفف جهده إذا أكمل الركوع والسجود قال أنس بن مالك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخف الناس كلهم صلاة في تمام ولحديث أنس هذا طرق كثيرة وقد ذكرت بعضها في التمهيد ومن التمام ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن نفر الغراب وقال اعتدلوا في ركوعكم وسجودكم ونظر إلى رجل لم يتم ركوعه ولا سجوده فقال له ارجع فصل فإنك لم تصل

وقال صلى الله عليه وسلم لا ينظر الله عز وجل إلى من لا يقيم صلبه في ركوعه وسجوده وعنه صلى الله عليه وسلم قال لا تجزئ صلاة امرئ لا يقيم فيها صلبه في ركوعه وسجوده وقد ذكرنا الآثار بذلك كله في التمهيد وقد أنكر العلماء على أبي حنيفة فيمن صار من الركوع إلى السجود ولم يرفع رأسه أنه يجزئه وقالوا هذا قول مخالف للسنة ولعلماء الأمة حدثنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب النسائي عن إسماعيل بن مسعود عن خالد عن شعبة عن قتادة قال سمعت أنسا يحدث عن رسول الله قال اعتدلوا في الركوع والسجود وروى عبد الحكم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم اعتدلوا في الركوع والسجود حدثنا أحمد بن قاسم وعبد الوراث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا يعلى بن عبيد قال حدثني عبد الحكم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اعتدلوا في الركوع والسجود والله إني لأراكم من خلفي كما أراكم من بين يدي وقد قال بن القاسم من رفع رأسه من السجود فلم يعتدل جالسا أو من الركوع فلم يعتدل قائما حتى سجد أو حتى خر راكعا فليستغفر الله ولا يعد ولا شيء عليه في صلاته وهذا مضارع لقول أبي حنيفة إلا أن بن القاسم قال من لم يرفع رأسه من الركوع فلا يعتد بتلك الركعة وهو قول مالك أنه قال من لم يرفع رأسه ويعتدل في ركوعه وسجوده ويقم في ذلك صلبه لم تجزئه صلاته

وعلى هذا جماعة فقهاء الأمصار منهم أبو يوسف ومحمد والثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وداود والطبري وذكر بن عبد الحكم عن مالك في ترك الاعتدال رخصة فقال عنه إذا رفع الإمام رأسه من الركوع ولم يعتدل قائما ثم أهوى ساجدا قبل أن يعتدل فإنه تجزئه صلاته والقول بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وتلقاه الجمهور بالقبول أولى من كل ما خالفه وبالله التوفيق حدثنا عبد الله قال حدثنا محمد قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أبو حفص بن عمر النمري قال حدثنا شعبة عن سليمان الأعمش عن عمارة بن عمير عن أبي مسعود البدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهرة في الركوع والسجود وقد تقدم في هذا الكتاب أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل الذي لم يتم ركوعه وسجوده بالإعادة وقال له ارجع فصل فإنك لم تصل وكذلك فعل حذيفة بن اليماني برجل رآه لم يتم ركوعه وسجوده وقال له لو مت على هذا مت على غير ملة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى هذا جماعة أهل العلم فيمن لم يقم صلبه من ركوعه وسجوده إلا أن ما بعد قيام الصلب والاعتدال عندهم من الطمأنينة والمكث قليلا ليس من الواجب ولكنه من الكمال وكذلك العمل عندهم في الأئمة والتخفيف على ما وصفنا لا يختلفون في ذلك لما وصفنا من الآفات والضعف والحاجات ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وأبي مسعود الأنصاري وعثمان بن أبي العاص أنه قال صلى الله عليه وسلم من أم الناس فليخفف فإن فيهم السقيم والكبير وذا الحاجة

هذا معنى حديثهم وقد ذكرنا الأسانيد بذلك عنهم في التمهيد وروى أبو قتادة الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إني لأقوم في الصلاة فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مخافة أن أفتن أمه وروى أبو هريرة وأنس عنه النبي صلى الله عليه وسلم معنى حديث أبي قتادة وروى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاذ إذ شكاه بعض قومه أنه يطول بهم أفتان أنت يا معاذ اقرأ بسبح اسم ربك الأعلى ونحوها وقد ذكرنا ذلك كله في مواضع من التمهيد والحمد لله قرأت على أبي القاسم أحمد بن فتح قال حدثنا محمد بن عبد الله بن زكريا النيسابوري بمصر قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن يونس قال حدثنا يوسف بن سعيد بن مسلم قال حدثنا حجاج عن بن جريج عن بن عجلان قال حدثني بكير بن عبد الله بن الأشج قال حدثني معمر بن أبي حيية عن عبيد الله بن عدي بن الخيار عن عمر بن الخطاب أنه قال أيها الناس لا تبغضوا الله إلى عباده فقال قائل منهم وكيف قال يكون الرجل إماما للناس يصلي بهم فلا يزال يطول عليهم حتى يبغض إليهم ما هم فيه مالك عن نافع أنه قال قمت وراء عبد الله بن عمر في صلاة من

الصلوات وليس معه أحد غيري فخالف عبد الله بيده فجعلني حذاءه عن يمينه قال أبو عمر هذا من فعل بن عمر سنة وإجماع فالسنة ما رواه بن عباس وغيره في ذلك روى الحميدي عن بن عيينة عن عمرو بن دينار أنه أخبره قال أخبرني كريب أنه سمع بن عباس يقول بت عند خالتي ميمونة فقام النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ فصنعت مثل ذلك ثم جئت فقمت عن يساره فأخلفني فجعلني عن يمينه فصلى ما شاء الله ثم نام ولا خلاف بين العلماء أن هذه سنة مع إمام وحده أن يقوم عن يمينه فإن كان مع الإمام ثلاثة رجال سواه فالسنة المجتمع عليها أيضا أن يقوموا خلفه لا خلاف بين علماء الأمة في ذلك واختلفوا إذا كان مع الإمام اثنان فقالت طائفة يقوم الإمام بينهما روي ذلك عن بن مسعود ويه قال جماعة من فقهاء الكوفة وقال آخرون حكم الاثنين كحكم الثلاثة لا يقومون إلا خلفه كذلك حكم الاثنين في أكثر أحكام الصلاة حكم الجماعة وإلى هذا ذهب مالك والشافعي في حكم الرجلين مع الإمام أنهما يقومان خلفه ولا يقوم بينهما وأجمع العلماء أيضا أن من صلى بامرأة لا تقوم المرأة إلا خلفه ولا تقوم عن يمينه بخلاف الرجل وسيأتي حكم ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى وذكر مالك في هذا الباب أيضا عن يحيى بن سعيد أن رجلا كان يؤم الناس بالعقيق فأرسل إليه عمر بن عبد العزيز فنهاه قال وإنما نهاه لأنه كان لا يعرف أبوه قال أبو عمر هذه عندهم كناية كالتصريح لأنه كان ولد زنا فكره عمر بن عبد العزيز رحمه الله أن ينصب مثله إماما لأنه خلق من نطفة خبيثة وقد

روي أنه شر الثلاثة كما يعاب من حملت به إن كانت حائضا أو من سكران وإن كان هو في ذلك كله لا ذنب له وقد يحتمل أن يكون نهاه عن التعرض للإمامة لأنه فيها كمال وجمال حال بنفس صاحبها ويحسد عليها فمن كان لغير رشده وطلب ذلك فقد عرض نفسه للقول فيه وجعله غرضا للألسنة وأثار على نفسه من كان سكت عنه لو لم يضر في حاله تلك والله أعلم واختلف الفقهاء في إمامة ولد الزنى فقال مالك أكره أن يكون إماما راتبا قال وشهادته جائزة في كل شيء إلا في الزنى فإنها لا تجوز وهو قول الليث بن سعد وقال سفيان الثوري والأوزاعي لا بأس بأن يؤم ولد الزنى وقال أبو حنيفة وأصحابه غيره أحب إلينا وقال الشافعي أكره أن ينصب إماما لأن الإمامة موضع فضل وتجزئ من صلى خلفه صلاتهم وتجزيه وقال عيسى بن دينار لا أقول بقول مالك في إمامة ولد الزنى وليس عليه من ذنب أبويه شيء وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم لا أكره إمامة ولد الزنى إذا كان في نفسه أهلا للإمامة قال أبو عمر ليس في شيء من الآثار الواردة في شرط الإمامة في الصلاة ما يدل على مراعاة نسب وإنما فيه الدلالة على الفقه والقراءة والصلاح في الدين باب صلاة الإمام وهو جالس مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو شاك جالسا وصلى وراءه قوم قياما فأشار إليهم

أن اجلسوا فلما انصرف قال إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا مالك عن بن شهاب عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب فرسا فصرع عنه فجحش شقه الأيمن الحديث فيه ركوب الخيل لأهل الدين والفضل والتقلب عليها لما في ذلك من العزة والعون على جهاد العدو وقد روى ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب فرسا لأبي طلحة عريا في حين فرغ أهل المدينة لخيل أغار بها عيينة بن حصن أو ابنه عبد الرحمن على لقاح المدينة ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لن تراعوا لن تراعوا ثم قال في الفرس لقد وجدته بحرا أو إن وجدناه لبحرا وهو مذكور بإسناده في التمهيد وأما قوله جحش شقه فهو بمعنى خدش شقه وقد قيل الجحش فوق الخدش وحسبك أنه من أجله لم يقدر أن يصلي قائما فصلى قاعدا

وأما قوله في الحديث إنما جعل الإمام ليؤتم به فقد أجمع العلماء على أن الائتمام واجب على كل إمام بإمامه في ظاهر أفعاله الجائزة وأنه لا يجوز خلافه لغير عذر وقد روى معن بن عيسى في الموطأ عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه ولا أعلم أحدا رواه عن مالك من رواة الموطأ بهذا الإسناد غير معن بن عيسى وفيه فلا تختلفوا عليه وليس في حديث بن شهاب وهشام بن عروة قوله فلا تختلفوا عليه وقد رواه عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم واختلف العلماء في صلاة ما كانت نيته فيها خلاف نية إمامه فقال مالك وأصحابه لا تجزئ أحد أن يصلي الفريضة خلف المتنفل ولا يصلي عصرا خلف من يصلي ظهرا ومتى اختلفت نية الإمام والمأموم في الفريضة بطلت صلاة المأموم دون الإمام وكذلك من صلى فرضه خلف المتنفل وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري وقول أكثر التابعين بالمدينة والكوفة وحجتهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جعل الإمام ليؤتم به فمن خالف في نيته فلم يأتم به وقال فلا تختلفوا عليه ولا اختلاف أشد من اختلاف النيات التي عليها مدار الأعمال واعتلوا في قصة معاذ برواية عمرو بن يحيى عن معاذ بن رفاعة الزرقي عن رجل من بني سلمة أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تطويل معاذ بهم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تكن فتانا إما أن تصلي معي وإما أن تحفف على قومك قالوا وهذا يدل على أن صلاته بقومه كانت فريضته وكان متطوعا بصلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم قالوا وصلاة المتنفل خلف من يصلي الفريضة جائزة بإجماع العلماء على ذلك

وقال الشافعي والأوزاعي وداود والطبري وهو المشهور عن أحمد بن حنبل يجوز أن يقتدي في الفريضة بالمتنفل وأن يصلي الظهر خلف من يصلي العصر فإن كل مصل يصلي لنفسه وله ما نواه من صلاته فالأعمال بالنيات ومن حجتهم أن قالوا إنما أمرنا أن نأتم بالإمام فيما يظهر إلينا من أفعاله فأما النية فمغيبة عنها ومحال أن نؤمر باتباعه فيما يخفى من أفعاله علينا قالوا وفي الحديث نفسه ما يدل على ذلك أنه قال إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وقد ذكرنا في التمهيد من زاد في هذا الحديث وإذا كبر فكبروا وإذا سجد فاسجدوا ولم تختلف الرواية فيه في قوله وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا فعرفنا أفعاله التي نأتم به فيها صلى الله عليه وسلم بما يقتدى فيه بالإمام وهي أفعاله إليهم من التكبير والركوع والسجود والقيام والقعود ففي هذا قيل لهم لا تختلفوا عليه قالوا ومن الدليل على صحة هذا التأويل حديث جابر من نقل الأئمة في قصة معاذ إذ كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ينصرف فيؤم قومه في تلك الصلاة التي صلاها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي له نافلة ولهم فريضة ولا يوجد من نقل من يوثق به أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له إما أن تجعل صلاتك معي وإما أن تخفف بالقوم وهذا لفظ منكر لا يصح عن أحد يحتج بنقله ومحال أن يرغب معاذ عن الصلاة الفريضة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاته مع قومه وهو يعلم فضل ذلك وفضل صلاة الفريضة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفه صلى الله عليه وسلم والدليل على صحة هذا التأويل أيضا قوله صلى الله عليه وسلم إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة فنهى أصحابه وسائر أمته أن يشتغلوا بنافله إذا أقيمت المكتوبة فكيف يظن بمعاذ أن يترك صلاة لم يصلها بعد ولم يقض ما افترض عليه في وقتها ويتنفل وتلك تقام في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وهو صلى الله عليه وسلم قد قال لهم لا صلاة إلا المكتوبة التي تقام

وقد روى بن جريج عن عمرو بن دينار عن جابر أن معاذا كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ثم ينصرف إلى قومه فيصلي بهم هي له تطوع ولهم فريضة وهذا نص في موضع الخلاف قال بن جريج وحدثت عن عكرمة عن بن عباس أن معاذا فذكر مثله سواء وأما قوله في حديث مالك في هذا الباب وإذا صلى قائما فصلوا قياما فهذا كلام خرج على صلاة الفريضة وهذا ما لا خلاف فيه وقد أجمع العلماء على جواز صلاة الجالس خلف الإمام القائم في النافلة فدل على ما ذكرنا إلا أن المصلي جالسا في النافلة وهو قادر على القيام نصف أجر المصلي فيها قائما وأجمع العلماء على أن القيام في الصلاة المكتوبة فرض واجب لقول الله عز وجل وقوموا لله قنتين البقرة فلا يجوز لأحد أن يصلي مكتوبة قاعدا وهو قادر على القيام واختلفوا في المأموم الصحيح يصلي قاعدا خلف إمام مريض لا يستطيع القيام فأجازت ذلك طائفة من أهل العلم اتباعا لهذا الحديث وما كان مثله في قوله صلى الله عليه وسلم وإذا صلى جالسا يعني من عذر فصلوا جلوسا أجمعون روي هذا من طرق عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وبن عباس وبن عمر وأنس وجابر بأسانيد صحاح وممن قال بأن الإمام إذا صلى جالسا لمرض أصابه صلى الناس خلفه جلوسا وهم أصحاء قادرون على القيام حماد بن زيد وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه أخذا بحديث مالك هذا وما كان مثله واتباعا له وإليه ذهب بعض أصحاب الظاهر وقال أحمد بن حنبل وفعله أربعة من الصحابة بعده أسيد بن حضير وقيس بن قهد وجابر بن عبد الله وأبو هريرة قال أبو عمر قد ذكرنا الأسانيد بذلك عنهم في التمهيد وقال جمهور العلماء لا يجوز لأحد أن يصلي شيئا من الصلوات المكتوبات جالسا وهو صحيح قادر على القيام لا إماما ولا منفردا ولا خلف إمام ثم اختلفوا فمنهم من أجاز صلاة القائم خلف القاعد كلا يؤدي فرضه على

قدر طاقته للحديث الذي فيه صلاة أبي بكر وهو قائم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قاعد في مرضه الذي مات فيه والناس قيام خلفه مع أبي بكر ويأتي بعد هذا الباب إن شاء الله تعالى وممن قال بهذا الشافعي وأبو ثور وأبو حنيفة وأبو يوسف وداود بن علي وقد روى الوليد بن مسلم عن مالك أنه أجاز للإمام المريض أن يصلي بالناس جالسا وهم قيام قال وأحب إلي أن يقوم بجنبه من يعلم الناس بصلاته وهذه الرواية غريبة عن مالك عند أصحابه وقال بن القاسم لا يأتم القائم بالجالس في فريضة ولا نافلة ولا بأس أن يأتم الجالس بالقائم قال ولا ينبغي لأحد أن يؤم أحدا في فريضة ولا نافلة قاعدا فإن عرض له ما يمنعه من القيام استخلف واحتج بن القاسم في ذلك بأن قال حدثني مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وهو مريض وأبو بكر يصلي بالناس فجلس إلى جنب أبي بكر فكان أبو بكر هو الإمام وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بصلاة أبي بكر وقال ما مات نبي حتى يؤمه رجل من أمته قال بن القاسم قال مالك والعمل عندنا على حديث ربيعة هذا وهو أحب إلي قال سحنون بهذا الحديث يأخذ بن القاسم وليس في الموطأ أن أبا بكر كان الإمام وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مؤتما والذي في الموطأ خلاف هذا أن أبا بكر كان يصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر وهو قائم والناس قيام ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وذكر أبو مصعب في متخصره عن مالك قال لا يؤم الناس أحد قاعدا فإن أمهم قاعدا فسدت صلاته وصلاتهم قال فإن كان الإمام عليلا تمت صلاته وفسدت صلاة من خلفه قال ومن صلى قاعدا من غير علة أعاد الصلاة فعلى رواية أبي مصعب هذه عن مالك تجب الإعادة على من صلى قائما خلف إمام مريض جالس في الوقت وبعده

وقد روي عن مالك أنهم يعيدون في الوقت خاصة وذلك والله أعلم لحديثه عن هشام بن عروة عن أبيه أن أبا بكر كان يصلي بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس وأبو بكر إلى جنبه قائم والناس قيام يصلون بصلاة أبي بكر ولما رواه في غير الموطأ عن ربيعة أن أبا بكر كان المقدم وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بصلاته فلما رأى الاختلاف في ذلك احتاط فرأى الإعادة في الوقت لأن كلا قد أدى فرضه على حسب حاله وقد احتج محمد بن الحسن لقوله ومذهبه في هذا الباب بالحديث الذي ذكر أبو المصعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يؤم أحد بعدي قاعدا وهو حديث لا يصح عند أهل العلم بالحديث إنما يرويه جابر الجعفي عن الشعبي مرسلا وجابر الجعفي لا يحتج بما يرويه مسندا فكيف بما يرويه مرسلا وأما قول محمد بن الحسن وأصحابه في هذا الباب فإنه قال إذا صلى الرجل لمرض به جالسا يركع ويسجد ولا يطيق إلا ذلك بقوم قيام يركعون ويسجدون فإن صلاته جائزة وصلاتهم باطلة وإن كان خلفه أحد جالسا لا يطيق القيام فحكمه حكم الإمام صلاته جائزة وصلاة من خلفه من قائم أو جالس يطيق القيام باطل وعليهم الإعادة وقال أبو حنيفة وأبو يوسف صلاة القائمين خلفه جائزة وهو قول زفر واتفق أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد في أن الإمام لو كان ممن لا يقدر إلا على الإيماء ولا يقدر على الجلوس ولا الركوع ولا السجود جالسا فاقتدى به في الإيماء قوم قيام يركعون ويسجدون لم تجزهم صلاتهم وأجزأت الإمام صلاته وكان زفر يقول تجزئهم صلاتهم لأنهم صلوا على فرضهم وصلى إمامهم على فرضه وذكر مالك أيضا في هذا الباب عن هشام بن عروة عن أبيه أن

رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في مرضه فأتى فوجد أبا بكر وهو قائم يصلي بالناس فاستأخر أبو بكر فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كما أنت فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب أبي بكر فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الناس يصلون بصلاة أبي بكر هذا مرسل في الموطأ وقد وصله حماد بن سلمة وبن نمير وأبو أسامة فرووه عن هشام عن أبيه عن عائشة وقد ذكرنا ذلك في التميهد وفي الحديث ما يدل على أن قوله صلى الله عليه وسلم في الإمام وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا منسوخ لأن هذا الفعل كان سنة في علته التي مات منها صلى الله عليه وسلم وقوله الأول كان إذ صرع عن فرس فجحش شقه فصلى في بيته صلاة من الصلوات يعني المكتوبات جالسا وأشار إلى من خلفه أن يجلس وأمرهم أن يصلوا جلوسا إذا صلى إمامهم جالسا وفي هذا الحديث أن أبا بكر والناس كانوا قياما خلفه وهو قاعد فلم يشر إليهم بالجلوس ولا نهاهم عن فعلهم ذلك فعلم أن هذا ناسخ لما قبله فإن قيل إنه قد اختلف عن عائشة في حديثها هذا فروى عنها أن أبا بكر كان المقدم وروى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو الإمام المتقدم في تلك الصلاة قيل وليس هذا باختلاف لأنه قد يجوز أن يكون أبو بكر المقدم في وقت ورسول الله صلى الله عليه وسلم المقدم في وقت آخر لأن مرضه كان أياما خرج فيها مرارا وقد روى الثقات الحفاظ أن أبا بكر كان خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا وأبو بكر قائم والناس قيام وقد ذكرنا الآثار بذلك من الطرق الصحاح في كتاب التمهيد في باب مرسل هشام بن عروة والحمد لله وقد روى شعبة عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت من الناس من يقول كان أبو بكر المقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم من يقول كان رسول الله صلى الله عليه وسلم المقدم بين يدي أبي بكر وأكثر أحوال حديث عائشة في هذا الباب عند المخالف أن يجعل متعارضا فلا يوجب حكما وإذا كان ذلك كذلك لم يحتج بشيء منه ورجعنا إلى حديث بن عباس فإنه لم يختلف فيه عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في مرضه يهادي بين رجلين فانتهى إلى أبي بكر وهو يؤم الناس فجلس إلى أبي بكر وأخذ من الآية التي انتهى

إليها أبو بكر فجعل أبو بكر يأتم بالنبي صلى الله عليه وسلم والناس يأتمون بأبي بكر وقد ذكرنا خبر بن عباس هذا من طرق في التمهيد فأوضحنا معناه هناك وأخبرنا عن العلة الموجبة لقيام أبي بكر وقيام الناس معه بعد أن كان هو الإمام في أول تلك الصلاة وأنهما لم يكونا إمامين في صلاة واحدة كما زعم من أراد إبطال الحديث بذلك وأن ذلك إنما كان لأن الإمام يحتاج أن يسمع من خلفه تكبيره ويظهر إليهم أفعاله وكانت حال رسول الله صلى الله عليه وسلم من مرضه حال من يضعف عن ذلك فأقام أبا بكر إلى جنبه لينوب عنه في إسماع الناس التكبير ورؤيتهم لخفضه ورفعه ليقتدوا به في حركاته وهو جالس والناس وأبو بكر وراءه قيام وصحت بذلك النكتة التي بان فيها أن صلاة القائم خلف الإمام المريض جائزة وأن قوله فصلوا جلوسا منسوخ وقد بينا أن ما روي عنه صلى الله عليه وسلم لا يؤمن أحد بعدي قاعدا منكر باطل لا يصح من جهة النقل وكذلك حديث ربيعة عن النبي صلى الله عليه وسلم منقطع لا يصح أيضا ولا يحتج بمثله على الآثار الثابتة الصحاح من نقل الأئمة وبالله التوفيق وهذه المسألة فيها للعلماء أقوال أحدها قول أحمد بن حنبل ومن تابعه تجوز صلاة الصحيح جالسا خلف الإمام المريض جالسا لقوله صلى الله عليه وسلم وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا والثاني قول الشافعي وأبي حنيفة وأبي يوسف وزفر والأوزاعي وأبي ثور وداود جائز أن يقتدى القائم بالقاعد في الفريضة وغيرها لأن على كل واحد أن يصلي كما يقدر عليه ولا يسقط فرض القيام عن المأموم الصحيح لعجز إمامه عنه وقد روى الوليد بن مسلم عن مالك مثل ذلك والثالث قول مالك في المشهور عنه وعن أصحابه أنه ليس لأحد أن يؤم جالسا وهو مريض بقوم أصحاء قيام ولا قعود وهو مذهب محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة فإن صلوا قياما خلف إمام مريض جالس فعليهم عند مالك الإعادة قيل عنه في الوقت وقيل أبدا قال سحنون اختلف قول مالك في ذلك ومن أصحاب مالك من قال يعيد الإمام المريض معهم وأكثرهم على أنهم يعيدون دونه وقال مالك والحسن بن حي والثوري ومحمد بن الحسن في قائم اقتدى

بجالس أو جماعة صلوا قياما خلف إمام جالس مريض إنها تجزيه ولا تجزيهم واختلف أصحاب مالك في إمامة المريض بالمرضى جلوسا كلهم فأجازها بعضهم وهو قول جمهور الفقهاء وكرهها أكثرهم وهو قول بن القاسم ومحمد بن الحسن وأما قوله في حديث مالك عن بن شهاب عن أنس في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم وإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا فإنه يدل على أن عمل المأموم يكون بعقب عمل الإمام وبعده فلا فصل لقوله إذا ركع وهذا يقتضي ركوعه وكذلك يقتضي قوله وإذا رفع رفعه فإذا حصل من الإمام الركوع والرفع والسجود فعل المأموم بعده واختلف قول مالك في ذلك فروي عنه أن عمل المأموم كله مع عمل الإمام ركوعه وسجوده وخفضه ورفعه ما خلا الإحرام والتسليم فإنه لا يكون ذلك إلا بعد عمل الإمام وبعقبه وروي عنه مثل ذلك أيضا ما خلا الإحرام والقيام من اثنتين والسلام وكان شيخنا أبو عمر رحمه الله يذهب إلى الرواية الأولى ورأيته مرات لا أحصيها كثرة يقوم مع الإمام في حين قيامه من اثنتين قبل اعتداله وقبل تكبيره ولا يراعي اعتداله وتكبيره وكان يقول هي أصح عن مالك قياسا على سائر حركات البدل في الصلاة أنها يكون فيها عمل المأموم مع عمل الإمام إلا ما يبتدئ به منها الإمام وقد روي عن مالك أيضا أن الأحب إليه في هذه المسألة أن يكون عمل المأموم بعد عمل الإمام وبعقبه في كل شيء وقد ذكرت في التمهيد حديث أبي موسى الأشعري أنه علم أصحابه الصلاة وسننها فقال في الحديث وإذا كبر وركع فكبروا واركعوا فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم وقال قال نبي الله صلى الله عليه وسلم فتلك بتلك

وقال أبو بكر الأثرم سمعت أحمد بن حنبل يسأل متى يكبر من خلف الإمام ومتى يركع فذكر الحديث إذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا ثم قال يتبعه في كل شيء يصنعه كلما فعل شيئا فعله بعده وهو معنى قول الشافعي وأما قوله في حديث بن شهاب عن أنس أيضا في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد فإنه يقتضي ما قاله مالك ومن قال بقوله في ذلك إن الإمام يقتصر على قول سمع الله لمن حمده دون أن يقول ربنا ولك الحمد وإن المأموم يقتصر على قول ربنا ولك الحمد دون أن يقول سمع الله لمن حمده وهو حجة على من قال يقول الإمام سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد كما يقول المنفرد وإن المأموم كذلك يقول أيضا ولا أعلم خلافا أنه المنفرد يقول سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد أو ولك الحمد وإنما اختلفوا في الإمام والمأموم فقالت طائفة من أهل العلم إنما يقول الإمام سمع الله لمن حمده فقط ولا يقول ربنا ولك الحمد وممن قال ذلك أبو حنيفة ومالك وأصحابهما والليث بن سعد وحجتهم ظاهر حديث بن شهاب عن أنس هذا وما مثله وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن والشافعي وأحمد بن حنبل يقول الإمام سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد كما يقول المنفرد

وحجتهم حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن أبي أوفى فكلهم حكى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد وقال الشافعي ويقول الإمام أيضا سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد كما يقول الإمام والمنفرد لأن الإمام إنما جعل ليؤتم به وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري وأحمد بن حنبل لا يقول المأموم سمع الله لمن حمده وإنما يقول ربنا ولك الحمد فقط وحجتهم حديث بن شهاب هذا عن أنس حديث هذا الباب وحديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله وفي هذا الحديث أيضا دليل على ما اختاره مالك من قوله ربنا ولك الحمد بالواو ذكره بن القاسم وغيره عنه وحكى الأثرم قال سمعت أحمد بن حنبل ثبت الواو في ربنا ولك الحمد وقال روى الزهري فيه ثلاثة أحاديث أحدها عن أنس والثاني عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة والثالث عن سالم عن أبيه يعني حديث رفع اليدين وقال في حديث علي رضي الله عنه اللهم ربنا ولك الحمد بالواو والله الموفق للصواب لا رب غيره باب فضل صلاة القائم على صلاة القاعد ذكر فيه مالك عن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريقين أحدهما عن إسماعيل بن محمد بن سعد والثاني عن بن شهاب مرسلا عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلاة القاعد مثل نصف صلاة القائم

وفي حديث بن شهاب تفسير لحديث إسماعيل بقوله فيه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس وهم يصلون في سبحتهم قعودا يعني في نافلتهم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الأمراء المؤخرين للصلاة عن ميقاتها صلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم سبحة يعني نافلة وهذه اللغة في السبحة أن المراد بها النافلة معروفة في الصحابة مشهورة وهم أهل اللسان فدل هذا على أن المعنى الذي خرج عليه الحديث صلاة النافلة وأوضح ذلك الإجماع الذي لا ريب فيه فإن العلماء لم يختلفوا أنه لا يجوز لأحد أن يصلي منفردا أو إماما قاعدا فريضته التي كتبها الله عليه وهو قادر على القيام فيها وأن من فعل ذلك ليس له صلاة وعليه إعادة ما صلى جالسا فكيف يكون له أجر نصف القائم وهو آثم عاص لا صلاة له وقد تقدم ما للعلماء في معنى قوله في الإمام المريض يصلي قاعدا بقوم أصحاء إذا صلى جالسا فصلوا جلوسا وأجمعوا أن فرض القيام في الصلاة على الإيجاب لا على التخيير قال الله عز وجل وقوموا لله قنتين البقرة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنفل جالسا فبان بهذا أن النافلة جائز أن مثل نصف يصليها إن شاء قاعدا ومن شاء قائما إلا أن القاعد فيها على مثل أجر القائم وهذا كله لا خلاف فيه والحمد لله وقد أوضحنا الآثار بمعنى ما قلنا في التمهيد في باب مرسل بن شهاب وباب إسماعيل أيضا والدليل على أن القيام يسمى قنوتا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سئل أي الصلاة أفضل قال طول القنوت يعني طول القيام لا خلاف نعلمه عند أحد في ذلك

واختلف العلماء في كيفية صلاة القاعد في النافلة وصلاة المريض وسنذكره في الباب بعد هذا إن شاء الله تعالى وبالله التوفيق باب صلاة القاعد في النافلة ذكر فيه مالك ثلاثة أحاديث مسندة أحدها عن بن شهاب عن السائب بن يزيد عن المطلب بن أبي وداعة السهمي عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في سبحته قاعدا قط حتى كان قبل وفاته بعام فكان يصلي في سبحته قاعدا ويقرأ بالسورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها في هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتكلف في علم النافلة ما كان أعظم أجرا فلما شق عليه القيام الطويل دخل فيما أباح الله له وفيه دليل على أن السبحة اسم لصلاة النافلة وإن كان في اللغة جائزا أن تسمى كل صلاة سبحة بدليل قول الله عز وجل فلولا أنه كان من المسبحين الصافات قالوا من المصلين ولكن اسم السبحة بالسنة وقول الصحابة لزم النافلة دون غيرها والله أعلم وقد أوضحنا ذلك بالشواهد في التمهيد وقوله فيه فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها يعني إذا لم ترتل الأخرى وهز فيها وفي ذلك دليل على أن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ترتيلا لا هزا وبذلك أمره الله عز وجل فقال ورتل القرآن ترتيلا المزمل والترتيل التمهل والترسل الذي يقع منه التدبر

والثاني حديثه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها أخبرته أنها لم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الليل قاعدا قط حتى أسن فكان يقرأ قاعدا حتى إذا أراد أن يركع قام فقرأ نحوا من ثلاثين أو أربعين آية ثم ركع والمعنى في هذا الحديث نحو المعنى في الذي قبله إلا أن في هذا رد قول من قال لا يكون المصلي في بعض صلاته قاعدا وفي بعضها قائما والذي عليه جمهور العلماء فيمن افتتح صلاة النافلة قاعدا أنه لا بأس أن يقوم فيها ويقرأ بما أحب على ما في الحديث وما كان مثله واختلفوا فيمن افتتحها قائما ثم قعد فقال مالك والثوري وأبو حنيفة والشافعي ويجوز أن يقعد فيها كما يجوز له أن يفتتحها قاعدا وقال الحسن بن حي وأبو يوسف ومحمد يصلي قائما ولا يجلس إلا من ضرورة لأنه افتتحها قائما وقال بن جريج قلت لعطاء افتتحت الصلاة قائما فركعت ركعة وسجدت ثم قمت أفأجلس إن شئت بغير ركوع ولا سجود قال لا وهذا يدل من قول عطاء أنه من صلى ركعة بسجدتيها قائما كان له أن يقعد في الثانية ما لم يقف فيها فإن قام فيها لم يجلس كما قال أبو يوسف فأما المريض فقال أبو القاسم في المريض يصلي مضطجعا أو قاعدا ثم يخفف عنه المرض ويجد القوة أنه يقوم فيما بقي من صلاته ويبني على ما مضى منها وهو قول الشافعي وزفر والطبري وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد فيمن صلى مضطجعا ركعة ثم إنه يستقبل الصلاة من أولها ولو كان قاعدا يركع ويسجد

ثم صح بنا في قول أبي حنيفة ولم يبن في قول محمد وقال أبو حنيفة وأصحابه إذا افتتح الصلاة قائما ثم صار إلى حال الإيماء يبني وروي عن أبي يوسف أنه يستقبل وقال مالك في المريض الذي لا يستطيع الركوع ولا السجود وهو يستطيع القيام والجلوس أنه يصلي قائما ويومئ إلى الركوع فإذا أراد السجود جلس فأومأ إلى السجود وهو قول أبي يوسف وقياس قول الشافعي وقال أبو حنيفة وأصحابه يصلي قاعدا وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما إذا صلى مضطجعا تكون رجلاه ما يلي القبلة مستقبل القبلة وقال الشافعي والثوري يصلي على جنبه ووجهه إلى القبلة وجائز ذلك أيضا عند مالك وأما اختلاف العلماء في كيفية صلاة القاعد في النافلة وصلاة المريض فذكر بن عبد الحكم عن مالك في المريض أنه يتربع في قيامه وركوعه فإذا أراد السجود تهيأ للسجود فيسجد على قدر ما يطيق وكذلك المتنفل قاعدا وقال الثوري يتربع في حال القراءة والركوع ويثنى رجليه في حال السجود فيسجد وهذا نحو مذهب مالك أيضا وكذلك قال الليث وقال الشافعي يجلس المتنفل في صلاته كلها كجلوس التشهد هذه رواية المزني عنه وقال البويطي عنه يصلي متربعا في موضع القيام وقال أبو حنيفة وزفر يجلس كجلوس الصلاة في التشهد وكذلك يركع ويسجد وقال أبو يوسف ومحمد يكون متربعا في حال القيام وحال الركوع وقد روي عن أبي يوسف أنه يتربع في حال القيام ويكون في حال ركوعه وسجوده كجلوس التشهد

وكل هذه الأقوال قد رويت عن السلف من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين رحمهم الله وذكرتها في التمهيد والثالث حديثه عن عبد الله بن يزيد المدني وعن أبي النضر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي جالسا فيقرأ وهو جالس فإذا بقي من قراءته قدر ما يكون ثلاثين أو أربعين آية قام فقرأ وهو قائم ثم ركع وسجد ثم صنع في الركعة الثانية مثل ذلك وليس في هذا الحديث معنى غير ما تقدم في الحديثين اللذين قبله إلا أن قول عائشة فيه كان يصلي جالسا تعني في النافلة لولا ما تقدم عنها في الحديثين اللذين قبله أن ذلك لم يكن منه حتى أسن وضعف عن القيام وكان ذلك منه قبل وفاته بعام لكان ظاهره يقضي بصلاة النافلة جالسا على كل حال وأما قوله في هذا الباب أنه بلغه أن عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب كانا يصليان النافلة وهما محتبيان فقد روى معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب أنه كان يحتبى في آخر صلاته ذكره عبد الرزاق عن معمر وذكر عن الثوري عن بن أبي ذئب عن الزهري عن بن المسيب مثله قال فإذا أراد أن يسجد ثنى رجله وسجد قال معمر ورأيت عطاء الخرساني يحتبي في الصلاة التطوع وقال ما أراني أخذته إلا عن سعيد بن المسيب ومعمر عن أيوب عن بن سيرين أنه كان يصلي في التطوع محتبيا

وكان عمر بن عبد العزيز يصلي جالسا محتبيا فقيل له في ذلك فقال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى كان أكثر صلاته وهو جالس نجز الجزء الثاني بحمد الله وعونه وصلى الله على محمد رسوله وعبده وعلى آله وصحبه وذريته وأهل بيته وسلم تسليما كثيرا وذلك في العشر الأول من شعبان المكرم سنة ست وستمائة فرحم الله كاتبه وكاسبه والقارئ فيه ومن دعا لهم بالرحمة والمغفرة ولجميع المسلمين أجمعين آمين آمين والحمد لله رب العالمين بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على النبي محمد وآله وسلم تسليما باب الصلاة الوسطى مالك عن زيد بن أسلم عن القعقاع بن حكيم عن أبي يونس مولى عائشة أم المؤمنين أنه قال أمرتنى عائشة أن أكتب لها مصحفا وذكر الحديث وفيه فأملت علي حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين قالت عائشة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن زيد بن أسلم عن عمرو بن رافع أنه قال كنت أكتب مصحفا لحفصة أم المؤمنين رضي الله عنها بمثل معناه قال قالت حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين ولم يرفع حديث حفصة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفي هذا الحديث دليل على صحة مذهب من ذهب إلى أن القرآن نسخ منه ما ليس في مصحفنا اليوم ومن قال بهذا يقول إن النسخ على ثلاثة أوجه في القرآن أحدها نسخ الخط والتلاوة والرسم مبينا ولا يعرف ولا يقرأ إلا أنه ربما رويت منه أشياء على سبيل الرواية لا يقطع شيء منها على الله تعالى

وذلك نحو ما جاء في الحديث أنه كان يقرأ لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم وقوله لو أن لابن آدم واديا من ذهب لابتغى إليه ثانيا ولا يملأ جوف بن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب ومنها أيضا قوله بلغوا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا وهذا من حديث مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك أنه قال أنزل في الذين قتلوا ببئر معونة قرآن قرأناه ثم نسخ بعد بلغوا قومنا وذكره ومنها قول عائشة كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات ثم نسخت بخمس معلومات ومن هذا قول من قال إن سورة الأحزاب كانت نحوا من سورة البقرة والأعراف وقد روى مالك عن أبي بن كعب وبن عباس وعمرو بن دينار وقد ذكرنا ذلك بالأسانيد عنهم في التمهيد واتسعنا هذا المعنى هناك والحمد لله

والوجه الثاني أن ينسخ خطه ويبقى حكمه نحو قول عمر بن الخطاب قد قرأنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشيخ والشيخة إذا زنيا فأرجموهما البتة الحديث على ما ذكر في التمهيد وغيره ومن هذا قوله وصلاة العصر عند من ذهب إلى هذا والوجه الثالث أن ينسخ حكمه ويبقى خطه يتلى في المصحف وهذا كثير نحو قوله والذين يتوفون منكم ويذرون أزوجا وصية لأزوجهم متعا إلى الحول غير إخراج البقرة نسختها يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا البقرة وهو من الناسخ والمنسوخ والمجتمع عليه وقد أنكر قوم أن يكون قوله وصلاة العصر من باب الناسخ والمنسوخ وقالوا إنما هو من معنى السبعة أحرف التي أنزل القرآن عليها وخير رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وقال صلى الله عليه وسلم كلها أنزلت فاختار الصحابة في زمن عثمان لما خافوا على من دخل في الدين من سائر الناس غير العرب أن يلحنوا فيه فجمعوا الناس عليه وهو حرف زيد بن ثابت وسنبين ذلك في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل القرآن على سبعة أحرف فمن الأحرف السبعة التي هي في معنى وصلاة العصر قراءة عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود فامضوا إلى ذكر الله وقراءة بن مسعود فلا جناح عليه ألا يطوف بهما وقراءة أبي بن كعب وبن عباس و أما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين وقراءة بن مسعود فلما خر تبينت الإنس أن لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ومثل هذا كثير قد جمعه جماعة من علماء هذا الشأن

وقد أنكر آخرون أن يكون شيء من القرآن إلا ما بين لوحي مصحف عثمان بن عفان وقد ذكرنا أقوالهم ووجوهها في التمهيد وفي هذا الحديث دليل على أن الصلاة الوسطى ليست صلاة العصر لقوله فيه وصلاة العصر وهذه الواو تسمى الفاصلة لأنها فصلت بين الصلاة الوسطى وبين صلاة العصر وقد ذكرنا حديث حفصة مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حسب حديث عائشة في ذلك في التمهيد من طرق وقد رواه حماد بن زيد عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن حفصة قال نافع فرأيت الواو فيها على أنه قد روي أيضا في حديث حفصة حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر بلا واو وقد ذكر أيضا في التمهيد ولم يختلف في حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما الاختلاف في حديث حفصة وفي رفعه وفي ثبوت الواو فيه وقد قال بعض من ذهب إلى أن الصلاة الوسطى صلاة العصر دخول الواو في قوله تعالى صلاة العصر وخروجها وسقوطها منه وثبوتها فيه سواء المعنى فيه حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر واحتج في ذلك برواية من رواها كذلك حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر وقد ذكرنا الرواية بذلك في التمهيد واستشهد في ذلك بقول الشاعر إلى الملك القرم وبن الهما م وليث الكتيبة في المزدحم يريد الملك القرم بن الهمام ليث الكتيبة لأنه إنما أراد هو دون أبيه

قال ومن هذا المعنى قول تعالى فيهما فكهة ونخل ورمان الرحمن والمعنى فاكهة نخل ورمان ومنه أيضا قوله تعالى من كان عدوا لله وملئكته ورسله وجبريل وميكل البقرة والمعنى وملائكته جبريل وميكائيل وقد خولف هذا القائل في ما ادعاه ومن هذا المعنى بما قد ذكرناه في غير موضع والحمد لله وأما اختلاف العلماء في الصلاة الوسطى فقالت طائفة الصلاة الوسطى صلاة الصبح ذكر مالك في موطأه أنه بلغه عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنهما كانا يقولان الصلاة الوسطى صلاة الصبح وهذا صحيح عن بن عباس من وجوه صحاح ثابتة عنه وغير صحيح عن علي ولا يوجد هذا القول في الصلاة الوسطى عن علي إلا من طريق حسين بن عبد الله بن ضميرة عن أبيه عن جده ضميرة بن أبي ضميرة عن علي رضي الله عنه وحسين هذا متروك الحديث مجمع على ضعفه روى حديث حسين هذا عنه إسماعيل بن أبي أويس ويحيى بن يحيى الأندلسي وغيرهما والمحفوظ المعروف عن علي أنها صلاة العصر وسنذكر هذا عنه فيما بعد إن شاء الله وإنما قول بن عباس في الصلاة الوسطى أنها صلاة الصبح فمعلوم عنه ذلك من طرق كثيرة منها ما حدثناه إسماعيل بن عبد الرحمن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن شعبان قال حدثنا الحسين بن محمد بن الضحاك قال حدثنا أبو مروان العثماني قال حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن ثور بن زيد الديلي عن عكرمة عن بن عباس أنه كان يقول الصلاة الوسطى صلاة الصبح تصلى في سواد من الليل وبياض من النهار وهي أكثر الصلاة تفوت الناس

وذكره إسماعيل بن إسحاق عن إبراهيم بن حمزة عن الدراوردي بإسناده مثله قال إسماعيل وحدثنا به محمد بن أبي بكر قال حدثنا عبد الله بن جعفر عن ثور بن زيد عن عكرمة عن بن عباس مثله قال إسماعيل وحدثنا إبراهيم بن حمزة أيضا وعلي بن المدني قالا حدثنا عبد العزيز بن محمد قال حدثني زيد بن أسلم قال سمعت بن عمر يقول الصلاة الوسطى صلاة الصبح قال إسماعيل يدل على قول بن عباس وبن عمر من ذلك قول الله عز وجل وقرءان الفجر إن قرءان الفجر كان مشهودا الإسراء فخصت صلاة الصبح بهذا النص مع أنها منفردة بوقتها لا يشاركها غيرها في هذا الوقت ولا تجمع مع غيرها في سفر ولا حضر فدل على أنها الوسطى والله أعلم قال أبو عمر قد اختلف عن بن عمر في هذا وعن عائشة أيضا قد روي عنها الصبح وروي عنها العصر وكذلك اختلف عن بن عباس في أنها الصبح والعصر جميعا إلا أن الرواية عنه أنها الصبح من رواية أهل المدينة وهي أثبت عنه عندنا والله أعلم وممن قال إنها صلاة الصبح طاوس وعطاء ومجاهد وبه قال مالك وأصحابه وقال آخرون الصلاة الوسطى صلاة الظهر روي ذلك عن زيد بن ثابت وهو أثبت ما روي عنه في ذلك وروي ذلك أيضا عن بن عمر وعائشة وأبي سعيد الخدري على اختلاف عنهم أنها الظهر وروي ذلك أيضا عن عبد الله بن شداد وعروة بن الزبير وقد ذكرنا الطرق بذلك عن زيد بن ثابت في التمهيد وهو عند مالك عن داود بن الحصين عن بن يربوع المخزومي عن زيد بن ثابت

وقال إسماعيل من قال إنها الظهر ذهب إلى أنها وسط النهار أو لعل بعضهم روى في ذلك أثرا فاتبعه وقال آخرون الصلاة الوسطى صلاة العصر وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه عنه جماعة من أصحابه منهم علي رضوان الله عليه وغيره رواه عن علي يحيى بن الجزار وشتير بن شكل وزر بن حبيش والحارث والأحاديث عنه في ذلك صحاح ثابتة أسانيدها حسان ذكر إسماعيل قال أخبرنا محمد بن أبي بكر قال حدثنا يحيى وعبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن عاصم عن زر قال قلت لعبيدة سل عليا عن الصلاة الوسطى فسأله قال كنا نراها الفجر حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الخندق شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا هذا لفظ أحدهم عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكرنا ذلك في التمهيد وممن قال إنها العصر علي بن أبي طالب روي ذلك عنه من وجوه وأبو أيوب الأنصاري وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري على اختلاف عنه وعن عائشة على اختلاف عنها وهو قول عبيدة السلماني والحسن البصري ومحمد بن سيرين والضحاك بن مزاحم وسعيد بن جبير وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم وأكثر أهل الأثر وروي عن بن عباس خلاف الرواية الأولى وقد ذكرناها في التمهيد وذكرنا الطرق عن علي وعائشة وبن عمر وأبي سعيد وبن عباس بالاختلاف عنهم واحتج من قال إنها العصر بقوله صلى الله عليه وسلم الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله

فخصها بالذكر والتأكيد كما قال تعالى حفظوا على الصلوات والصلوة الوسطى البقرة تأكيدا لها وتعظيما والله أعلم واحتج أيضا بحديث زيد بن أرقم قال كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت حفظوا على الصلوات والصلوة الوسطى وقوموا لله قنتين البقرة فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام قالوا فهذا زيد بن أرقم يذكر أن الآية هكذا أنزلت ليس فيها وصلاة العصر وهو الثابت بين الوحيين بنقل الكافة أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بكر بن حماد وحدثنا عبد الله بن محمد بن أسد قال حدثنا بكر بن محمد بن العلاء القشيري قال حدثنا زياد بن الخليل قالا حدثنا إسماعيل بن خالد عن الحارث بن شبيل عن أبي عمرو الشيباني عن زيد بن أرقم قال كنا نتكلم في الصلاة يكلم أحدنا صاحبه في حاجته حتى نزلت هذه الآية حفظوا على الصلوات والصلوة الوسطى وقوموا لله قنتين فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام ومما يؤكد أنها العصر حديث عمارة بن رويبة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها حرمه الله على النار وهذا الحض بين يقتضي صلاة الصبح وصلاة العصر والاختلاف القوي في الصلاة الوسطى إنما هو في هاتين الصلاتين وما روي في الصلاة الوسطى في غير الصبح والعصر ضعيف لا تقوم به حجة

وقد روى عاصم عن أبي رزين عن بن عباس وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ق قال الصلاة المكتوبة يعني الصبح والعصر وبه قال قتادة وغيره وقال آخرون الصلاة الوسطى صلاة المغرب روى ذلك عن قبيصة بن ذؤيب وقال ألا ترى أنها ليست بأقلها ركعات ولا أكثرها وأنها لا تقصر في السفر وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤخرها عن وقتها ولم يعجلها قال أبو عمر كل ما ذكرنا قد قيل فيما وصفنا والله أعلم بمراده من قوله ذلك تبارك اسمه وكل واحدة من الخمس وسطى لأن قبل كل واحدة منها صلاتين فهي وسطى والمحافظة على جميعهن واجب وبالله التوفيق باب الرخصة في الصلاة في الثوب الواحد ذكر فيه مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عمر بن أبي سلمة أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد مشتملا به في بيت أم سلمة واضعا طرفيه على عاتقيه وذكر فيه أيضا عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن سائلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في ثوب واحد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكلكم ثوبان لم يختلف في لفظهما و إسنادهما عن مالك وهما ثابتتان عند الجميع والصلاة في الثوب الواحد للرجل جائز لا خلاف فيه وكل ثوب ستر العورة

والفخذين من الرجل جازت الصلاة فيه وإن كان الاختيار له عند العلماء التجمل بالثياب في الصلاة إن قدر على ذلك وقال الأخفش الاشتمال هو أن يلتف الرجل بردائه أو بكسائه من رأسه إلى قدميه برد طرف الثوب الأيمن على منكبه الأيسر فهذا هو الاشتمال قال والتوشح هو أن يأخذ طرف الثوب الأيسر من تحت يده اليسرى فيلقيه على منكبه الأيمن ويلقي طرف الثوب الأيمن من تحت يده اليمنى على منكبه الأيسر قال فهذا هو التوشح الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى في ثوب واحد متوشحا به وأما حديثه عن بن شهاب فلم يختلف رواة الموطأ عن مالك في إسناد هذا الحديث ولا متنه وقد ذكرنا من رواه عن بن شهاب في التمهيد وقد أجمع العلماء على أن من صلى مستور العورة فلا إعادة عليه وإن كانت امرأة فكل ثوب يغيب ظهور قدميها ويستر جميع جسدها إذا سترت شعرها فجائز لها الصلاة فيه لأنها كلها عورة إلا الوجه والكفين على هذا أكثر أهل العلم وسيأتي القول مستوعبا فيما يجزئ المرأة من الثياب في الصلاة في الباب التالي لهذا الباب وأما الرجل فإن أهل العلم يستحبون أن يكون على عاتق الرجل ثوب إذا لم يكن متزرا في صلاته ويستحبون لكل من قدر على جميل الثياب يتجمل بها في صلاته كما يفعل في جمعته من سواكه وطيبه وقد ذكرنا في التمهيد حديث بن عمر إذ رأى نافعا مولاه يصلي في ثوب واحد فقال له ألم أكسك ثوبين قال قلت بلى قال أرأيت لو أرسلتك إلى فلان أكنت تذهب في ثوب واحد قلت لا قال فالله أحق من تزين له أم الناس قلت بل الله ثم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد أحدكم ثوبين فليصل فيهما وفي قوله صلى الله عليه وسلم أو لكلكم ثوبان دليل على أن من كان معه ثوبان فيتزر بالواحد ويلبس الآخر أنه حسن أن يصلي فيهما معا وإنما قلنا إن ذلك حسن وليس واجبا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد صلوا في ثوب واحد ومعهم ثياب

وذلك عندي تعليم منهم لمن يأخذ الدين عنهم وقبول لرخصة الله تعالى فيما رخص عنه من دينه وهذا يغني عن إعادة القول في حديث أبي هريرة حيث يقول إني لأصلي في ثوب واحد وإن ثيابي لعلى المشجب جوابا منه لمن سأله عن الصلاة في الثوب الواحد وكذلك القول في حديث جابر أنه كان يصلي في الثوب الواحد وحديث محمد بن عمرو بن حزم أنه كان يصلي في القميص الواحد وكذلك أعلى ذلك ما رواه مالك عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم من لم يجد ثوبين فليصل في ثوب واحد ملتحفا به وأن كان قصيرا فليتزر به وهذا بين فمن وجد ثوبين أن يصلي فيهما وقد استحب مالك لمن صلى في ثوب واحد أنه يجزيه إذا ستر منه عورته والاختيار التجمل بالثياب في الصلاة فهي من الزينة وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه جمع امرؤ عليه ثيابه صلى في قميص ورداء في قميص وإزار في إزار ورداء وإذا وسع الله عليكم فوسعوا على أنفسكم وقد روى أنس أن آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوب واحد متوشحا به خلف أبي بكر وتهذيب آثار هذا الباب على كثرته حملها على ما وصفنا وبالله توفيقنا وكان مالك رحمه الله مع استحبابه أن يكون على عاتق المصلي في القميص ثوب قد خص له في الصلاة في القميص محلول الأزرار ليس عليه سراويل ولا إزار

وهو قول أبي حنيفة وأبي ثور وكان سالم بن عبد الله يصلي محلول الأزرار وقال داود الطائي إذا كان عظيم اللحية فلا بأس بذلك وقال الشافعي إذا كان الثوب ضيقا يزره أو يخلله بشيء لئلا يتجافى القميص فيرى من الجيب عورة فإن لم يفعل ورأى عورته أعاد الصلاة وهو قول أحمد بن حنبل وأجمع العلماء على أن ستر العورة فرض واجب بالجملة على الآدميين وأنه لا يجوز لأحد أن يصلي عريانا وهو قادر على ما يستر به عورته من الثياب وإن لم يستر عورته وكان قادرا على سترها لم تجزه صلاته واختلفوا هل سترها من فروض الصلاة أم لا فقال أكثر أهل العلم وجمهور الفقهاء إنه من فروض الصلاة وإلى هذا ذهب أبو الفرج عمر بن محمد بن المالكي واستدل بأن الله عز وجل قرن أخذ الزينة بإتيان المساجد يعني بالصلاة المأمور بها في قول الله عز وجل خذوا زينتكم عند كل مسجد الأعراف هي الثياب الساترة للعورة لأن الآية نزلت من أجل الذين كانوا يطوفون بالبيت عراة وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء وروي عن بن عباس أنه قال كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة وتقول اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله فنزلت يبنى ءادم خذوا زينتكم عند كل مسجد الأعراف وقد أوردنا هذا المعنى في التمهيد والحمد لله قال أبو عمر ستر العورة من فرائض الصلاة واستدل بالإجماع على أنه لا يجوز لأحد أن يصلي عريانا وهو قادر على الاستتار به وأنه من فعل ذلك فلا صلاة له وعليه إعادة ما صلى على تلك الحال وهذا سنة وإجماع لا خلاف فيه وأن الآية في أخذ الزينة نزلت فيمن كان يطوف بالبيت عريانا

وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديه فنادى أن لا يحج هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان وقد ذكرنا الإسناد بذلك في غير هذا المكان قال أبو عمر استدل من جعل ستر العورة من فرائض الصلاة بالإجماع على إفساد من ترك ثوبه وهو قادر على الاستتار به وصلى عريانا وقال آخرون ستر العورة فرض عن أعين المخلوقين لا من أجل الصلاة وستر العورة سنة مؤكدة من سنن الصلاة ومن ترك الاستتار وهو قادر على ذلك وصلى عريانا فسدت صلاته وكما تفسد صلاة من ترك الجلسة الوسطى عامدا وإن كانت مسنونة ولكلا الفريقين اعتلال يطول ذكره والقول الأول أصح في النظر وأصح أيضا من جهة الأثر وعليه الجمهور واختلف العلماء في العورة من الرجل ما هي فقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والأوزاعي وأبو ثور ما دون السرة إلى الركبة عورة وقال الشافعي ليست السرة ولا الركبتان من العورة وقال أبو حنيفة الركبة عورة وكذلك قال عطاء وحكى بن حامد الترمذي أن للشافعي في السرة قولين واختلف المتأخرون من أصحابه في ذلك أيضا على ذينك القولين فطائفة منهم قالت السرة من العورة وطائفة قالت السرة ليست بعورة قال وأكره للرجل أن يكشف فخذه بحضرة زوجته وهذا ما لا أعلم أن أحدا قاله غيره وقال بن أبي ذئب العورة من الرجل الدبر والقبل دون غيرهما وهو قول داود وأهل الظاهر وقول بن علية والطبري

فمن حجة من قال إن ما بين السرة والركبة عورة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الفخذ عورة روي ذلك عنه صلى الله عليه وسلم من خمسة أوجه من حديث علي بن أبي طالب ومن حديث بن عباس وحديث محمد بن جحش وحديث قبيصة بن مخارق وحديث جرهم الأسلمي وأن أبا هريرة قبل سرة الحسن بن علي سأله كشف ذلك فكشف له عن بدنه فقبلها وقال أقبل منك ما من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل منه فلو كانت السرة عورة ما قبلها أبو هريرة ولا مكنه الحسن منها ومن حجة من قال إن الفخذ ليست بعورة حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسا في بيته كاشفا عن فخذه فاستأذن أبو بكر ثم عمر فأذن لهما وهو على تلك الحال ثم استأذن عثمان فسوى عليه ثيابه ثم أذن له فسئل عن ذلك فقال إني أستحي ممن تستحي منه الملائكة وهذا الحديث في ألفاظه اضطراب باب الرخصة في صلاة المرأة في الدرع والخمار ذكر فيه مالك أنه بلغه أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت تصلي في الدرع والخمار وعن محمد بن زيد بن قنفذ عن أمه أنها سألت أم سلمة زوج النبي

صلى الله عليه وسلم ماذا تصلي فيه المرأة من الثياب فقالت تصلي في الخمار والدرع السابع إذا غيب ظهور قدميها وعن الثقة عنده عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن بسر بن سعيد عن عبيد الله بن الأسود الخولاني وكان في حجر ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن ميمونة كانت تصلي في الدرع والخمار ليس عليها إزار فأما حديث عائشة رضي الله عنها فذكره أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا بن فضيل عن عاصم بن سليمان الأحول عن معاذة عن عائشة أنها كانت تصلي في درع وخمار قال وحدثنا عيسى بن يونس عن الأوزاعي عن مكحول قال سئلت عائشة فبكم تصلي المرأة فقالت أتت عليا فاسأله ثم ارجع إلي فقال في درع سابغ وخمار فرجع إليها فأخبرها فقالت صدق وروى حماد بن سلمة عن قتادة عن بن سيرين عن صفية بنت الحارث عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار وأما حديث أم سلمة فرواه موقوفا على أم سلمة كما رواه مالك ومحمد بن إسحاق بن أبي ذئب وبكر بن مطر وجعفر بن غياث وإسماعيل بن جعفر كلهم رووه عن محمد بن زيد عن أمه عن أم سلمة موقوفا عليها ورفعه عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن محمد بن زيد بن قنفذ عن أمه أنها سألت أم سلمة أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم ماذا تصلي فيه المرأة قال في الخمار والدرع السابغ الذي يغيب ظهور قدميها وأما حديث ميمونة فالثقة الذي رواه عنه مالك هو الليث بن سعد ذكر أبو الحسن علي بن عمر الحافظ الدارقطني قال حدثنا به إسماعيل بن محمد الصفار قال حدثنا محمد بن الفرج الأزرق قال حدثنا منصور بن سلمة قال حدثنا الليث بن سعد عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن بسر بن سعيد عن عبيد الله الخولاني قال رأيت ميمونة تصلي في درع سابغ ليس عليها إزار

قال أبو سلمة منصور بن سلمة وهذا ما رواه مالك بن أنس عن الليث بن سعد قال أبو عمر أكثر ما يقول مالك حدثني الثقة فهو مخرمة بن بكير الأشج وقال أصحاب مالك بن وهب وغيره كل ما أخذه مالك من كتب بكير فإنه يأخذها من مخرمة ابنه فينظر فيها وروي أن المرأة تصلي في الخمار والدرع السابغ عن بن عباس وعروة بن الزبير وعكرمة وجابر بن زيد وإبراهيم والحكم عن جابر بن زيد تصلي المرأة في درع صفيق وخمار صفيق وهو قول فقهاء الأمصار وقال بن عمر إذا صلت المرأة فلتصل في ثيابها كلها الدرع والخمار والملحفة وروي عن عبيدة أن المرأة تصلي في الدرع والخمار والحقو رواه بن أبي شيبة وقال مجاهد لا تصلي المرأة في أقل من أربع أثواب وهذا لم يقله غيره وهذه الأثواب الخمار والدرع والملحفة والإزار قال أبو عمر لهذا والله أعلم ترجم مالك رحمه الله في صلاة المرأة في الدرع والخمار حدثنا محمد بن عبد الملك قال حدثنا بن الأعرابي قال حدثنا محمد بن إبراهيم التيمي قال حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري قال حدثنا سليمان التيمي عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال تصلي المرأة في ثلاثة أثواب إزار ودرع وخمار وأما حديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن امرأة استفتته فقالت إن المنطق يشق علي أفأصلي في درع وخمار فقال نعم إذا كان الدرع سابغا

فإن المنطق ها هنا الحقو وهو الإزار والسراويل والذي عليه فقهاء الأمصار بالحجاز والعراق أن على المرأة الحرة أن تغطي جسمها كله بدرع صفيق سابغ وتخمر رأسها فإنها كلها عورة إلا وجهها وكفيها وأن عليها ستر ما عدا وجهها وكفيها واختلفوا في ظهور قدميها فقال مالك والليث بن سعد تستر قدميها في الصلاة قال مالك فإن لم تفعل أعادت ما دامت في الوقت وعند الليث تعيد أبدا وقال الشافعي ما عدا وجهها وكفيها عورة فإن انكشف ذلك منها في الصلاة أعادت ولا إعادة عنده مقصورة على الوقت في شيء من الصلاة وكل ما قال فيه عليه الإعادة وذلك عنده في الوقت وبعده وقال أبو حنيفة والثوري قدم المرأة ليست بعورة إن صلت وقدمها مكشوفة لم تعد قال أبو عمر لا خلاف علمته بين الصحابة في ستر ظهور قدمي المرأة في الصلاة وحسبك بما جاء في ذلك عن أمهات المسلمين رضي الله عنهن وقد أجمعوا أن الرجل إذا صلى وشيء من عورته مكشوف أعاد أبدا والمرأة الحرة عورة كلها حاشى ما لا يجوز لها ستره في الصلاة والحج وذلك وجهها وكفاها فإن المرأة لا تلبس القفازين محرمة ولا تلتفت في الصلاة ولا تتبرقع في الحج وأجمع العلماء على أنها لا تصلي متنقبة ولا متبرقعة وفي هذا أوضح الدلائل على أن وجهها وكفيها ليس شيء من ذلك عورة ولهذا لا يجوز النظر إلى وجهها في الشهادة عليها وأما النظر لشهوة إلى غير حليلة أو ملك يمين مع التأمل فمحظور غير مباح وقد روي عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أنه قال كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها وأقول لا نعلمه قاله غيره إلا أحمد بن حنبل فإنه جاءت عنه رواية بمثل ذلك واختلف العلماء في تأويل قول الله عز وجل ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها النور

فروي عن بن عمر وبن عباس في قوله إلا ما ظهر منها قال الوجه والكفان وروي عن بن مسعود أنه قال البنان والقرط والدملج وروي عنه أيضا أنه قال الخلخال والخاتم والقلادة واختلف التابعون في ذلك على هذين القولين وعلى قول بن عباس وبن عمر جماعة الفقهاء وبالله التوفيق الحمد لله وحده وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما

كتاب قصر الصلاة في السفر باب الجمع بين الصلاتين في الحضر والسفر مالك عن داود بن الحصين عن الأعرج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الظهر والعصر في سفره إلى تبوك هكذا رواه أكثر الرواة عن مالك مرسلا وقد روي عنه عن داود عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكرنا العلة في إسناد هذا الحديث والاختلاف فيه على يحيى وغيره عن مالك في التمهيد وقال أبو بكر البزار قد روي الجمع بين الصلاتين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريقين أحدهما زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة والآخر عبد الرحمن بن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال وقد روي ذلك عن بن عباس وبن عمر ومعاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو عمر وقد روي ذلك أيضا عن جابر وأنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر مالك في حديثه هذا الجمع بين المغرب والعشاء وهو محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في سفره إلى تبوك يجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء من حديث معاذ بن جبل قال أبو عمر حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن يونس الكديمي قال حدثنا أبو بكير الحنفي قال حدثنا سفيان

الثوري عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ بن جبل قال جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح وأحمد بن محمد البرتي قالا حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا علي بن مسهر عن بن أبي ليلى عن عطاء عن جابر قال جمع رسول الله في غزوة تبوك بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء أخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا يزيد بن خالد الرملي حدثنا المفضل بن فضالة عن الليث بن سعد عن هشام بن سعد عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر وإن يرتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى ينزل للعصر وفي المغرب والعشاء مثل ذلك إن غابت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين المغرب والعشاء وإن يرتحل قبل أن تغيب الشمس أخر المغرب حتى ينزل للعشاء ثم جمع بينهما قال أبو داود روى حديث معاذ بن جبل هذا بن أبي فديك عن هشام بن سعد عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ على معنى ما رواه مالك قال أبو عمر قد ذكرنا طرق هذا الحديث واختلاف ألفاظ الرواة في التمهيد وأما حديث مالك الذي ذكره في هذا الباب من الموطأ بعد حديثه عن داود بن الحصين ذكره عن أبي الزبير المكي عن أبي الطفيل عامر بن واثلة أن معاذ بن جبل أخبره أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء قال فأخر الصلاة يوما ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا ثم دخل فصلى المغرب والعشاء جميعا ثم قال إنكم ستأتون غدا إن شاء الله عين تبوك وإنكم لن تأتوها حتى يضحى

النهار فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان والعين تبض بشيء من ماء فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم هل مسستما من مائها شيئا فقالا نعم فسبهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهما ما شاء الله أن يقول ثم غرفوا بأيديهم من العين قليلا قليلا حتى اجتمع في شيء ثم غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وجهه ويديه ثم أعاده فيها فجرت العين بماء كثير فاستقى الناس ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما ها هنا قد ملئ جنانا مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عجل به السير يجمع بين المغرب والعشاء قال أبو عمر ليس في حديث بن عمر هذا ما يدل على أن المسافر لا يجوز له الجمع بين الصلاتين إلا أن يجد به السير بدليل حديث معاذ بن جبل لأن فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين في سفره إلى تبوك نازلا غير سائر وليس في أحد الحديثين ما يعارض الآخر وإنما التعارض لو كان في حديث بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يجمع بين الصلاتين إلا أن يجد به السير فحينئذ كان يكون التعارض لحديث معاذ وإنما هما حديثان حكى الراوي لكل واحد منهما الجمع للمسافر بالصلاتين جد به السير أو لم يجد ولو تعارض الحديثان لكان الحكم لحديث معاذ لأنه أثبت ما نفاه بن عمر وليس للنافي شهادة مع المثبت وقد اختلف الفقهاء في هذا الباب

روى بن القاسم عن مالك أنه قال لا يجمع المسافر في حج أو عمرة إلا أن يجد به السير أو يخاف فوت أمر فيجمع في آخر وقت الظهر وأول وقت العصر وكذلك في المغرب والعشاء إن ارتحل عند الزوال فيجمع حينئذ في المرحلة بين الظهر والعصر ولم يذكر في العشائين الجمع عند الرحيل أول الوقت قال سحنون وهما كالظهر والعصر قال أبو عمر رواية بن القاسم هذه تضاهي مذهب الكوفيين في الجمع بين الصلاتين للمسافر ورواية أهل المدينة عن مالك بخلاف ذلك قال عبد الملك بن حبيب عن شيوخه وللمسافر أن يجمع بين الصلاتين ليقطع سفره وإن لم يخف فوات شيء يبادره وذكر أبو الفرج عن مالك قال ومن أراد الجمع بين الصلاتين في السفر جمع بينهما إن شاء في آخر وقت الأولى منهما وأن شاء في آخر وقت الآخرة منهما وإن شاء أخر الأولى فصلاها في آخر وقتها وصلى الثانية في أول وقتها قال وذلك كجواز الجمع بين الظهر والعصر بعرفة وبين المغرب والعشاء بالمزدلفة قال أبو الفرج وأصل هذا الباب الجمع بين الظهر والعصر بعرفة وبين المغرب والعشاء بالمزدلفة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سافر فقصر وجمع بينهما كذلك والجمع أيسر خطبا من القصر فوجب الجمع بينهما في الوقت الذي جمع بينهما فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو عمر الجمع بين الصلاتين بعرفة ثم بالمزدلفة أصل مجتمع عليه واجب أن يرد كل ما اختلف فيه من معناه إليه ذكر مالك في هذا الباب من الموطأ مالك عن بن شهاب أنه سأل سالم بن عبد الله هل يجمع بين

الظهر والعصر في السفر فقال نعم لا بأس بذلك ألم تر إلى صلاة الناس بعرفة عبد الرزاق قال أخبرنا محمد بن مسلم الطائفي عن إبراهيم بن ميسرة قال جاءت امرأة إلى طاوس فقالت إني أكره أبي حملني على الجمع بين الصلاتين قال لا يضرك أما ترين الناس يجمعون بين الصلاتين صلاة الهاجرة وصلاة العصر بعرفة والمغرب والعشاء بجمع قال أبو عمر هذا دليل على جواز الجمع بين الصلاتين في السفر في وقت إحداهما إن شاء قدم الثانية إلى الأولى كالصلاة بعرفة وإن شاء أخر الأولى إلى دخول وقت الثانية ثم جمعهما كالصلاة بمزدلفة وقال الليث بن سعد لا يجمع بين الصلاتين إلا من جد به السير وقال الأوزاعي لا يجمع بين الصلاتين إلا من عذر لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جد به السير جمع بينهما وعن الثوري نحو هذا وعنه أيضا ما يدل على جواز الجمع بين الصلاتين في وقت إحداهما للمسافر وإن لم يجد به السير وقال أبو حنيفة وأصحابه لا يجمع أحد بين الصلاتين في سفر ولا حضر لا صحيح ولا مريض في صحو ولا مطر إلا أن للمسافر أن يؤخر الظهر إلى آخر وقتها ثم ينزل فيصليها ثم يمكث قليلا ويصلي العصر في أول وقتها وكذلك المريض قالوا وأما أن يصلي صلاة في وقت أخرى فلا إلا بعرفة والمزدلفة لا غير وحجتهم ما رواه الأعمش عن عمارة بن عمير عن عبد الرحمن بن يزيد قال قال عبد الله بن مسعود والذي لا إله غيره ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة قط إلا في وقتها إلا صلاتين جمع بين الظهر والعصر يوم عرفة وبين المغرب والعشاء بجمع قال أبو عمر ليس في هذا حجة لأن عند بن مسعود فقط عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه

جمع بين الصلاتين في السفر بغير عرفة والمزدلفة ومن حفظ وشهد حجة على من لم يحفظ ولم يشهد وقال الشافعي وأصحابه من كان له أن يقصر فله أن يجمع بين الصلاتين في وقت إحداهما إن شاء في وقت الأولى وإن شاء في وقت الآخرة وهو قول عطاء بن أبي رباح وسالم بن عبد الله بن عمر وجمهور علماء الحجاز وبه قال إسحاق بن راهويه وداود بن علي وهو قول ربيعة وأبي الزناد ومحمد بن المنكدر وصفوان بن سليم وأبي حازم وزيد بن أسلم وقد ذكرنا الآثار بذلك عنهم في التمهيد وقال أحمد بن حنبل وجه الجمع للمسافر أن يؤخر الظهر حتى يدخل وقت العصر ثم ينزل فيجمع بينهما ويؤخر المغرب حتى يغيب الشفق ثم يجمع بين المغرب والعشاء قال فإن قدم العصر إلى الظهر والعشاء إلى المغرب فأرجو أن لا يكون به بأس قال إسحاق بن منصور فذكرت قول أحمد لإسحاق فقال إسحاق لا بأس بذلك وقال الطبري للمسافر أن يجمع بين الظهر والعصر ما بين الزوال إلى أن تغيب الشمس وبين المغرب والعشاء إلى طلوع الفجر قال والجمع في المطر كذلك قال أبو عمر الحجة عند الاختلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما لا يوجد فيه نص من كتاب الله عز وجل وقد مضى ذكر السنة من حديث معاذ بن جبل وغيره وما أجمعوا عليه في صلاتي عرفة والمزدلفة فأغنى ذلك عما سواه والحمد لله ولا معنى للجمع الذي ذهب إليه أبو حنيفة ومن قال بقوله لأن ذلك جائز في الحضر بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في طرفي وقت الصلاة ما بين هذين وقت فأجاز الصلاة

في آخر الوقت ولو لم يجز في السفر من سعة الوقت إلا ما جاز في الحضر بطل معنى السفر ومعنى الرخصة والتوسعة لأجله ومعلوم أن الجمع بين الصلاتين في السفر رخصة لمكان السفر وتوسعة في الوقت كما أن القصر في السفر لم يكن إلا من أجل السفر وما يلقى فيه من المشقة في الأغلب وفي ارتقاب المسافر ومراعاته أن لا يكون نزوله إلا في الوقت الذي عده أبو حنيفة مشقة وضيقا لا سعة وقد أجمع العلماء أنه لا يجوز الجمع بين العصر والمغرب ولا بين العشاء والصبح ولو كان الجمع بين الصلاتين في السفر على ما ذهب أبو حنيفة إليه والقائلون بقوله لجاز الجمع بين العصر والمغرب بأن يصلي العصر في آخر وقتها ثم يتمهل قليلا ويصلي المغرب وهذا كله شاهد على ما ذهبوا إليه في الجمع بين الصلاتين ودليل على أنهم دفعوا الآثار في ذلك برأيهم وبالله التوفيق لا شريك له وفي حديث مالك عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ في هذا الباب تقدم الإمام إلى العسكر بالنهي عما لا يريد فعله وله العفو فإن خالفه مخالف كانت له معاقبته بما يراه ردعا له عن مثل فعله وله العفو عنه فإن الله عفو يحب العفو ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع حلمه وما كان عليه من الخلق العظيم كيف سب الرجلين وقال لهما ما شاء الله أن يقول إذ خالفاه وأتيا ما قد نهى عنه وفيه علم عظيم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم إذ غسل وجهه ويديه بقليل من ماء تلك العين ثم صبه فيها فجرت العين بماء كثير عمهم وفضل عنهم وتمادى إلى الآن ولعله يتمادى إلى قيام الساعة وهكذا النبوة وأما السحر فلا يبقى بعد مفارقة عين صاحبه والله أعلم قال بن وضاح أنا رأيت ذلك الموضع كله حوالي تلك العين جنانا خضرة نضرة بعده وفيه إخباره صلى الله عليه وسلم بغيب كان بعده وهذا وغيره ليس عجيبا منه ولا مجهولا من شأنه ولا مستغربا من فعله صلى الله عليه وسلم وأما قوله في الحديث والعين تبض بشيء من ماء وهي الرواية عندنا بالضاد المنقوطة فمعناه أنها كانت تسيل بشيء من الماء ضعيف

قال حميد بن ثور الهلالي منعمة لو يصبح الذر ساريا على جلدها بضت مدارجه دما هذه رواية الأصمعي في شعر حميد بن ثور ورواية غيره مهاة لو أن الذر يمشي ضعابه على متنها بضت مدارجه دما وقد فسر بضت بمعنى سالت والتفسير الأولى بمعنى الحديث وتقول العرب للموضع الذي يندى قد بض وتقول ما بض بقطرة وأما من رواه بالصاد من البصيص فمعناه أنها كانت يضيء فيها الماء ويبرق ويرى له بصيص والرواية الأولى أكثر وفي هذا الباب أيضا حديث مالك عن أبي الزبير المكي عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس أنه قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا في غير خوف ولا سفر قال مالك أرى ذلك كان في مطر وهذا الحديث صحيح لا يختلف في صحته وقد روي عن بن عباس من وجوه وإن كان في بعض ألفاظ رواته اختلاف فرواه حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن بن عباس قال جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر قيل لابن عباس ما أراد بذلك قال أراد ألا يحرج أمته هكذا رواه حبيب بن أبي ثابت بإسناده المذكور فقال فيه من غير خوف ولا مطر فخالف أبا الزبير وحبيب بن أبي ثابت أحد أئمة أهل الحديث من الكوفيين وأبو الزبير أيضا حافظ وكذلك رواه عنه الثوري كما رواه مالك رواه وكيع وغيره عن الثوري عن أبي الزبير عن سعيد بن جبير عن بن

عباس قال جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا سفر وقد روى صالح مولى التوأمة عن بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث فقال فيه من غير خوف ولا مطر كما قال حبيب بن أبي ثابت وهذا ليس بالقوي لأنه تغير بآخره وأما تأويل مالك فيه وقوله أرى ذلك كان في مطر فقد تابعه على ذلك جماعة بالمدينة وغيرها منهم الشافعي وأجمع العلماء على أنه لا يجوز الجمع بين الصلاتين في الحضر لغير عذر المطر إلا طائفة شذت سنورد ما إليه ذهبت في هذا الباب إن شاء الله واختلفوا في ذلك لعذر المطر فقال مالك وأصحابه أما المغرب والعشاء فجائز أن يجمع بينهما في حال المطر قال ويجمع بينهما إذا كان طين وظلمة وإن لم يكن مطر فهذا هو المشهور من مذهب مالك في مساجد الجماعات في كل البلدان ولا يجمع بين الظهر والعصر عند مالك ولا عند أحد من أصحابه في المطر وروى زياد بن عبد الرحمن عن مالك أنه قال لا يجمع بين الصلاتين ليلة المطر في شيء من الأمصار وغير المصار إلا بالمدينة خاصة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لفضله وأنه ليس هناك غيره وهو يقصد من بعد قال أبو عمر وروي عن عبد الله بن عمر وأبان بن عثمان وعروة بن الزبير وأبي سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن والقاسم بن محمد وعمر بن عبد العزيز أنهم كانوا يجمعون بين الصلاتين ليلة المطر وقد ذكرنا الأسانيد عنهم بذلك في التمهيد وهو أمر مشهور بالمدينة معمول به فيها وبه قال أحمد وإسحاق والجمع عند مالك بين المغرب والعشاء ليلة المطر أن يؤخر المغرب ثم يؤذن لها وتقام فتصلى ثم يؤذن في داخل المسجد للعشاء ويقيمونها وتصلى ثم ينصرفون مع مغيب الشفق

وقال مرة أخرى ينصرفون وعليهم أسفار وقال الأثرم قلت لأحمد بن حنبل يجمع بين الظهر والعصر في المطر قال لا ما سمعت قلت فالمغرب والعشاء قال نعم قلت قبل مغيب الشفق قال لا الأولى كما صنع بن عمر قلت فسنة الجمع فيهما في السفر فقال تؤخر أيضا حتى يغيب الشفق وقال الشافعي يجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء في المطر الوابل إذا كان المطر دائما ولا يجمع في غير المطر وبه قال أبو ثور والطبري لحديث بن عباس هذا من رواية مالك وغيره عن أبي الزبير عن سعيد بن جبير عن بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء في غير خوف ولا سفر وتأولوا ذلك في المطر قال أبو حنيفة وأصحابه لا يجمع أحد بين الصلاتين في المطر لا الظهر والعصر ولا المغرب والعشاء وهو قول الليث بن سعد وبه قال أكثر أصحاب داود وقالت طائفة شذت عن الجمهور الجمع بين الصلاتين في الحضر وإن لم يكن مطر مباح إذا كان عذر وضيق على صاحبه ويشق عليه وممن قال ذلك محمد بن سيرين وأشهب صاحب مالك وكان بن سيرين لا يرى بأسا أن يجمع بين الصلاتين إذا كانت حاجة أو عذر ما لم يتخذه عادة وقال أشهب بن عبد العزيز لا بأس بالجمع عندي بين الصلاتين كما جاء في الحديث من غير خوف ولا سفر وإن كانت الصلاة في أول وقتها أفضل وهذا الجمع عندي بين صلاتي النهار في آخر وقت الظهر وأول وقت العصر وكذلك صلاة المغرب والعشاء في آخر وقت الأولى منهما وأول وقت الآخرة جائز في الحضر والسفر فأما أن يجمع أحد بين الصلاتين في وقت إحداهما فلا إلا في السفر قال أبو عمر احتج من ذهب هذا المذهب بحديث عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن بن عباس قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ثمانيا جميعا وسبعا جميعا

قال عمرو بن دينار قلت لأبي الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء قال وأنا أظن ذلك قال أبو عمر قد ذكرنا طرق أحاديث هذا الباب كلها في التمهيد ولا حجة في هذا الحديث وما كان مثله لمن جعل الوقت في صلاتي الليل وفي صلاتي النهار في الحضر كهو في السفر وأجاز الجمع بين الصلاتين في الحضر في وقت إحداهما لأنه ممكن أن تكون صلاته بالمدينة في غير خوف ولا سفر كانت بأن أخر الأولى من صلاتي النهار فصلاها في آخر وقتها وصلى الثانية في أول وقتها وصنع مثل ذلك بالعشاء بين على ما ظنه أبو الشعثاء وتأول الحديث عليه هو وعمرو بن دينار وموضعهما من الفقه الموضع الذي لا فوقه موضع وإذا كان ذلك غير مدفوع إمكانه وكان ذلك الفعل يسمى جمعا في اللغة العربية بطلت الشبهة التي نزع بها من هذا الحديث من أراد الجمع في الحضر بين الصلاتين في وقت إحداهما لأن جبريل أقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم أوقات الصلوات في الحضر ثم سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمع بين الصلاتين على حسب ما تقدم ذكرنا في هذا الباب وسن للمسافر ذلك كما سن له القصر في السفر مع الأمن توسعة أذن الله له فيها فسنها لأمته فلا يتعدى بها إلى غير ما وضعها عليه صلى الله عليه وسلم وأما قول بن عباس إذ سئل عن معنى جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين في الحضر فقال أراد أن لا يحرج أمته فمعناه مكشوف على ما وصفنا أي لا يضيق على أمته فتصلي في أول الوقت أبدا وفي وسطه أو آخره أبدا لا تتعدى ذلك ولكن لتصل في الوقت كيف شاءت في أوله أو وسطه أو آخره لأن ما بين طرفي الوقت وقت كله وأما أن تقدم صلاة الحضر قبل دخول وقتها فلا والله أعلم واختلفوا أيضا في جمع المريض بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء فقال مالك إذا خاف المريض أن يغلب على عقله جمع بين الظهر والعصر عند الزوال وجمع بين العشاءين عند الغروب قال فأما إن كان الجمع أرفق به لشدة مرض أو بطن ولم يخش أن يغلب على

عقله فليجمع بينهما في وقت وسط الظهر وفي غيبوبة الشفق قال مالك والمريض أولى بالجمع من المسافر وغيره لشدة ذلك عليه قال مالك وإن جمع المريض بين الصلاتين وليس بمضطر إلى ذلك أعاد ما كان في الوقت فإن خرج الوقت فلا شيء عليه وقال الليث يجمع المريض والمبطون وقال أبو حنيفة يجمع المريض بين الصلاتين كجمع المسافر وقد قدمنا مذهبه ومذهب بن القاسم وروايته في جمع المسافر فيما مضى من هذا الباب وقال الشافعي لا يجمع المريض بين الصلاتين ولكن يصلي كل صلاة لوقتها على حسب ما يقدر عليه وقال أحمد وإسحاق يجمع المريض بين الصلاتين قال أبو عمر هذا عندي على حسب جمع المسافر عندهما والله أعلم مالك عن يحيى بن سعيد أنه سأل سالم بن عبد الله ما أشد ما رأيت أباك أخر المغرب في السفر فقال سالم غربت الشمس ونحن بذات الجيش فصلى المغرب بالعقيق هذا الحديث عند يحيى في الباب بعد هذا وهو من معنى هذا الباب وكذلك هو عند بعض الرواة واختلف في المسافة التي بين العقيق وبين ذات الجيش فذكر الأثرم عن القعنبي قال بين العقيق وبين ذات الجيش اثنا عشر ميلا وذكر علي بن عبد العزيز عن القعنبي قال ذات الجيش على بريدين من المدينة قال بن وضاح بين ذات الجيش وبين العقيق سبعة أميال وروى بن وهب ستة أميال

باب قصر الصلاة في السفر مالك عن بن شهاب عن رجل من آل خالد بن أسيد أنه سأل عبد الله بن عمر فقال يا أبا عبد الرحمن إنا نجد صلاة الخوف وصلاة الحضر في القرآن ولا نجد صلاة السفر فقال بن عمر يا بن أخي إن الله عز وجل بعث إلينا محمدا صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئا فإنما نفعل كما رأيناه يفعل قال أبو عمر معنى قوله ولا نجد صلاة السفر يعني في القرآن لأنها لا ذكر لها في القرآن وسؤال السائل عن صلاة السفر في الأمن دون الخوف وإنما في القرآن قد قال الله تعالى وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلوة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا النساء فأجابه بن عمر بكلام معناه أن الذي نزل عليه القرآن صلى الله عليه وسلم قصر وهو آمن في السفر ونحن نفعل كما رأيناه يفعل مالك عن صالح بن كيسان عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر قال أبو عمر أما حديثه في هذا الباب عن بن شهاب عن رجل من آل خالد بن أسيد فلم يختلف رواة موطأ مالك في إسناده إلا أنه لم يسمه ولا سمى الرجل السائل لعبد الله بن عمر وقد أقام إسناد هذا الحديث جماعة من رواة بن شهاب وسموا الرجل منهم معمر ويونس والليث بن سعد فرووه عن بن شهاب عن عبد الله بن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد أنه سأل بن عمر فقال يا أبا عبد الرحمن إنا نجد صلاة الخوف وذكروا الحديث وقد ذكرنا الأسانيد عنهم بذلك في التمهيد

وفي هذا الحديث من الفقه أن قصر الصلاة في السفر من غير خوف سنة مسنونة لا فريضة مذكورة في القرآن لأن القصر في القرآن إنما هو لمن ضرب في الأرض مسافرا إذا خاف الذين كفروا فصح القصر للمسافر بشرط السفر وشرط الخوف ثم قصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمره وغزواته وحجته آمنا فكان ذلك زيادة بيان على ما في القرآن ولهذا نظائر قد ذكرناها في باب المسح على الخفين وفي كتاب النكاح عند نهيه صلى الله عليه وسلم عن نكاح المرأة على عمتها وعلى خالتها وما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن إذن الله عز وجل فعله ولا يشرع في دين الله إلا ما أمره به قال الله تعالى فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلوة النساء إذا وصلتم إلى أوطانكم ومواضع أمنكم فأتموا الصلاة فهذه صلاة الحضر وقد تقدمت صلاة السفر وقد نص عليهما جميعا القرآن حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا مالك بن مغول عن أبي حنظلة قال سألت بن عمر عن صلاة السفر قال ركعتان قلت أين قوله إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا النساء ونحن آمنون قال سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الشيخ الفقيه الحافظ عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم عن أبي نعيم وبينهما آخر والظاهر أنه بن أبي شيبة أبو بكر والله أعلم حدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم حدثنا عبد الله بن روح المدائني قال حدثنا عثمان بن عمر قال أخبرنا مالك بن مغول عن أبي حنظلة الحذاء قال قلت لابن عمر أصلي ركعتين في السفر والله تعالى يقول وإن خفتم ونحن نجد الزاد والمزاد فقال كذا سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا عبيد بن عبد الواحد قال حدثنا أبو صالح محبوب بن موسى قال حدثنا أبو إسحاق الفزاري عن بن جريج عن بن أبي عمار عن بن بابيه عن يعلى بن أمية قال قلت لعمر بن الخطاب إنما قال الله إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا النساء وقد أمن

الناس فقال عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ما سألتني عنه فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فأقبلوا صدقته حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا محمد بن بكر بن داسة قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن حنبل ومسدد قالا حدثنا يحيى بن سعيد عن بن جريج قال حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار عن عبد الله بن بابيه عن يعلى بن أمية قال قلت لعمر بن الخطاب أرأيت إقصار الناس الصلاة وإنما قال تعالى إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا النساء فقد ذهب ذلك اليوم فقال عجبت مما عجبت منه فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته هكذا قال يحيى القطان عن بن جريج عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار ورواه الشافعي عن عبد المجيد بن عبد العزيز عن بن جريج وهو الصواب الذي لا شك فيه وقد ذكرنا الاختلاف على عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار هذا والشواهد على صحة هذا القول في التمهيد قال علي بن المديني بن أبي عمار وبن بابيه مكيان ثقتان قال أبو عمر يقال عبد الله بن بابيه وبن باباه وبن بابى أيضا حدثنا سعيد بن نصر حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا يزيد بن هارون قال حدثنا بن عون عن بن سيرين عن بن عباس قال صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة ونحن آمنون لا نخاف شيئا ركعتين ركعتين

رواه أيوب وهشام ويزيد بن إبراهيم التستري عن بن سيرين عن بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله قال أبو عمر أجمع العلماء على أن للمسافر أن يقصر الصلاة إذا سافر في حج أو عمرة أو غزو سفرا طويلا أقله ثلاثة أيام فله أن يقصر ثلاثة أيام صلاة الظهر والعصر والعشاء من أربع إلى اثنتين لا يختلفون في ذلك وإن كانوا قد اختلفوا في هذا والمسافة التي يجوز فيها قصر الصلاة على ما نذكره عنهم في الباب بعد هذا إن شاء الله واختلفوا فيمن سافر سفرا مباحا في غير جهاد ولا حج ولا عمرة فروي عن بن مسعود من وجوه أنه كان لا يرى القصر إلا في حج أو عمرة أو جهاد من ذلك ما ذكره أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا أبو معاوية ومحمد بن فضيل عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن عبد الرحمن بن يزيد قال قال عبد الله لا تقصر الصلاة إلا في حج أو جهاد قال وحدثنا هشيم عن العوام قال كان إبراهيم التيمي لا يرى القصر إلا في حج أو جهاد أو عمرة وذكر عبد الرزاق عن معمر عن الأعمش عن القاسم بن عبد الرحمن أن بن مسعود قال لا تقصر الصلاة إلا في حج أو جهاد قال أبو عمر لم يذكر العمرة لأنها حج وفي معنى الحج قال عبد الرزاق وأخبرنا بن جريج عن عطاء قال ما أرى أن تقصر الصلاة إلا في سبيل من سبل الله وقد كان قبل ذلك لا يقول هذا القول كان يقول تقصر في كل ذلك قال وكان طاوس يسأله الرجل فيقول أسافر لبعض حاجتي أفأقصر الصلاة فسكت وقال إذا خرجنا حجاجا أو عمارا صلينا ركعتين قال بن جريج قلت لعطاء قولهم لا تقصر إلا في سبيل من سبل الخير قال إني لأحسب أن ذلك كذلك قلت لم قال من أجل أن إمام المتقين لم يقصر الصلاة إلا في سبيل من سبل الله حج أو عمرة أو غزو والأئمة بعده أيهم

كان يضرب في الأرض يبتغي الدنيا قلت أرأيت بن عباس خرج في غير حج أو عمرة قال لا إلا ما أخرجه إلى الطائف قلت فجائز وأبو عمر وأبو سعيد الخدري قال لا ولا أحد منهم قلت فماذا ترى قال أرى ألا تقصر إلا في سبيل من سبل الخير وقد كان قبل ذلك يقول تقصر في ذلك قال أبو عمر ذهب داود في هذا الباب إلى قول بن مسعود ومن قال بقوله ممن ذكرنا وهو عندي نقض لأصله في تركه ظاهر كتاب الله عز وجل في قوله وإذا ضربتم في الأرض النساء ولم يخص ضربا في حج ولا غيره وأخذه بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا يدل على أن غيره بخلافه وقد ذكر الله الضرب في الأرض ابتغاء فضل الله واختلف أهل الظاهر في هذه المسألة فطائفة قالت بقول داود وقال أكثرهم يقصر المطيع والعاصي كل مسافر ضارب في الأرض وأما اختلاف أئمة الأمصار فيها فقال مالك لا يقصر الصلاة مسافر إلا أن يكون سفره في طاعة أو في ما أباح الله له السفر فيه ولم يحظره عليه وسئل عن المسافر في الصيد فقال إن خرج للصيد وهذا معاشه قصر وإن خرج متلذذا لم أستحب له أن يقصر قال ومن سافر في معصية لم يجز له أن يقصر وقال الشافعي إن سافر في معصية لم يقصر ولم يمسح مسح المسافر وهو قول الطبري قال أبو عمر قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يشهد بصحة قول مالك والشافعي ومنتهاهما حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي قال حدثني أبي قال حدثنا عبد الله بن يونس قال حدثنا بقي بن مخلد قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا وكيع قال حدثنا الأعمش عن إبراهيم قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني رجل تاجر اختلف إلى البحرين فأمره أن يصلي ركعتين قال أبو عمر كل ما في كتابنا هذا عن أبي بكر بن أبي شيبة ليس من المسند فيه هذا الإسناد وقال أحمد بن حنبل لا يقصر إلا في حج أو عمرة

وقد روي عنه أنه قصر الصلاة في كل سفر مباح وقال أبو حنيفة وأصحابه يقصر المسافر عاصيا كان أو غير عاص وهو قول الثوري وحجتهم قول الله تعالى وإذا ضربتم في الأرض النساء ولم يخص ضربا من ضرب قال أبو عمر وروي عن بن عمر أنه كان يقصر الصلاة إذا خرج إلى ماله بخيبر وعن بن عباس أنه كان يقصر الصلاة إلى ماله بالطائف ذكر عبد الرزاق عن بن جريج قال أخبرني نافع عن بن عمر أنه كان يقصر الصلاة إلى ماله بخيبر يطالعه قال بن جريج وليس ذلك في حج ولا عمرة ولا غزو وعن بن جريج عن عطاء أن بن عباس خرج إلى الطائف فقصر الصلاة وسئل بن عباس أيقصر إلى عرفة ومر الظهران فقال لا ولكن أقصر إلى الطائف وإلى عسفان وسيأتي هذا المعنى محددا تاما في الباب بعد هذا إن شاء الله وأما حديث عائشة فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر فقد ذكرنا في التمهيد اختلاف ألفاظ رواته عن بن شهاب وغيره ولم يروه مالك عن بن شهاب وإنما رواه عن صالح بن كيسان عن عروة عن عائشة على ما قدمنا في صدر هذا الباب وذكرنا في التمهيد من خالف عائشة في ذلك من الصحابة وغيرهم فقال بل فرضت الصلاة في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وربما قال بعضهم فرضت الصلاة في الحضر أربعا وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر ركعتين منهم عمر وبن عباس وجبير بن مطعم حدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا بكر بن حماد حدثنا مسدد وحدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا محمد بن شاذان قال

حدثنا موسى بن داود قالا حدثنا أبو عوانة عن بكير بن الأخنس عن مجاهد عن بن عباس قال فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة وقد روي عن بن عباس مثله وقد ذكرناه في التمهيد وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي قلابة عن رجل من بني عامر أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة وعن أنس بن مالك القشيري رجل من بني عبد الله بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله وهذا يدل على خلاف ما قالت عائشة إلا أن حديث عائشة من جهة الإسناد أثبت وروى وكيع وروح بن عبادة عن أسامة بن زيد الليثي قال حدثني الحسن بن مسلم بن يناق عن طاووس عن بن عباس قال قد فرض الله على رسوله صلى الله عليه وسلم الصلاة في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين فكما يصلي في الحضر قبلها وبعدها فكذلك يصلي في السفر وقد طعن قوم في حديث عائشة لقول الله عز وجل فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلوة النساء فقالوا لو كانت ركعتين لم يقصر لأن الإجماع منعقد أن لا يصلي المسافر الآمن في سفره أقل من ركعتين في شيء من الصلوات فأي قصر كان يكون لو كانت الصلاة ركعتين وهذه غفلة شديدة لأن الصلاة إن كانت فرضت بمكة ركعتين كما قالت عائشة فقد زيد فيها على قولها بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وبعد ذلك أنزلت سورة النساء بإباحة القصر للضاربين في الأرض وهم المسافرون وهذا لا يخفى على من له أقل فهم على أنا نقول إن فرض الصلاة استقر من زمان النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين لمن شاء عند قوم وعند آخرين على الإلزام فلا

حاجة بنا إلى أول فرضها لما فيه من الاختلاف فمن ذهب إلى الإلزام احتج بحديث عائشة وهو حديث قد خولفت فيه فكانت هي أيضا رحمها الله لا تأخذ به وإنما كانت تتم في سفرها والمصير إلى ظاهر قول الله تعالى فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلوة النساء أولا لأن رفع الجناح يدل على الإباحة لا على الإلزام مع ما قدمنا من الآثار المنبئة بأن قصر الصلاة سنة ورخصة وصدقة تصدق الله بها على عباده حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا وكيع قال حدثنا محمد بن أبي خالد عن أبي حنظلة قال سألت بن عمر عن الصلاة في السفر فقال ركعتان سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأما اختلاف الفقهاء وأئمة الأمصار في إيجاب القصر في هذه المسألة فذهب الكوفيون سفيان الثوري والحسن بن حي وأبو حنيفة وأصحابه إلى أن القصر واجب في السفر فرضا وهو قول عمر بن عبد العزيز وحماد بن أبي سليمان وطائفة وإليه ذهب إسماعيل بن إسحاق وأبو بكر بن الجهمي وذكر بن الجهمي أن أشهب روى ذلك عن مالك وحجة من ذهب هذا المذهب حديث عائشة فرضت الصلاة ركعتين في السفر والحضر فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى وحديث بن عباس فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وحديث عمر بن الخطاب قال صلاة الجمعة ركعتان وصلاة العيدين ركعتان وصلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم وذكرنا حديث عمر هذا في التمهيد وذكرنا العلة فيه

قال أبو عمر من ذهب إلى أن الركعتين في السفر فرض أبطل صلاة من أتم الصلاة في السفر عامدا أو رأى الإعادة عليه واجبة ركعتين على أنهم اختلفوا في ذلك فقال الثوري إن قعد المسافر في اثنتين لم يعد وقال حماد بن أبي سليمان إذا صلى المسافر أربعا متعمدا أعاد وإن كان ساهيا لم يعد وقال الحسن بن حي من صلى في السفر أربعا متعمدا أعاد إذا كان ذلك منه الشيء اليسير فإن طال ذلك في سفره وكثر لم يعد وقال أبو حنيفة وأصحابه في المسافر يصلي أربعا عامدا بطلت صلاته وعليه الإعادة ركعتين وإن صلاها ساهيا فإن قعد في اثنتين فقرأ التشهد قضيت صلاته وإن لم يقعد فصلاته فاسدة قال أبو عمر لأنه خلط الفرض عندهم بالنافلة إذا لم يقعد في الاثنين مقدار التشهد ففسدت لذلك صلاته عندهم وأصل الكوفيين في مراعاة الجلوس قدر التشهد لأن القعود في آخر الصلاة عندهم فرض واجب والتشهد ليس عندهم بواجب ولا السلام لأنهما من الذكر وحجتهم فيها ذهبوا إليه من ذلك حديث بن مسعود في التشهد لأن فيه عن بعض رواته فإذا قلت ذلك فقد تمت صلاتك إذا سلمت بدليل قوله صلى الله عليه وسلم تحريمها التكبير وتحليلها التسليم وهم يقولون بوجوب الإحرام فرضا فكذلك السلام لأنهما جاء مجيئا واحدا في حديث واحد على أن في حديثهم هذا ما يوجب أن من تشهد وسلم فقد تمت صلاته ودليله أنه إن لم يقل ذلك لم تتم صلاته وقد مضى القول في التشهد في باب التشهد في الصلاة في هذا الكتاب والحمد لله

قال أبو عمر الذي ذهب إليه أكثر العلماء من السلف والخلف في قصر الصلاة في السفر أنه سنة مسنونة لا فريضة وبعضهم يقول إنه رخصة وتوسعة فمن جعلها سنة رأى الإعادة منها في الوقت وكره الإتمام وهذا تحصيل مذهب مالك وأكثر أصحابه ومن رآها رخصة أجاز الإتمام وجعل المسافر بالخيار في القصر والإتمام وذكر أبو مصعب عن مالك أنه قال القصر في السفر سنة مؤكدة للرجال والنساء وقال أبو الفرج رواية أبي مصعب أغنتنا عن طلب مذهب مالك في ذلك يعني من مسائله وأجوبته وقال بن خواز مندار المالكي القصر عند مالك مسنون غير واجب قال وهو قول الشافعي وأما اختلاف أصحاب مالك فيمن صلى في السفر أربعا عامدا أو ناسيا فقال مالك من فعل ذلك أعاد في الوقت صلاة سفر وإن خرج الوقت فلا شيء عليه هذه رواية بن القاسم عنه قال بن القاسم ولو رجع إلى بيته في الوقت لأعادها مرة ثالثة أربعا قال ولو أحرم مسافر فنوى أربعا ثم بدا له ثم سلم من اثنتين لم يجزه وذكر بن حبيب عن مطرف عن مالك قال إذا أتم المسافر جاهلا أو عامدا أعاد في الوقت لأنه ما اختلف الناس فيه وروى بن وهب عن مالك في مسافر أم قوما فيهم مسافر ومقيم فأتم الصلاة بهم جاهلا قال أرى أن يعيدوا الصلاة جميعا وهذا يحتمل أن تكون الإعادة في الوقت وقال بن المواز الذي رجع إليه بن القاسم أنه من صلى في سفره أربعا ناسيا لسفره أو عامدا لذلك أو جاهلا فليعد في الوقت وكذا قال سحنون

وقال الشافعي يقصر المسافر الصلاة إذا كان خائفا بالقرآن والسنة وإن لم يكن خوف في السفر قصر بالسنة قال ولا أحب لأحد أن يتم متأولا فإن أتم متأولا وأخذ بالرخصة فلا حرج قال وليس للمسافر أن يصلي ركعتين حتى ينوي القصر مع الإحرام فإن أحرم ولم ينو القصر فهو على أصل فرضه أربعا قال أبو عمر أصحاب الشافعي اليوم على أن المسافر مخير في القصر والإتمام كما هو مخير في الفطر والصيام وكذلك جماعة المالكيين من البغداديين وقال الأوزاعي إذا قام المسافر إلي ثلاثة وصلاها ثم ذكر فإنه يلغيها ويسجد سجدتي السهو وقال الحسن البصري فيمن صلى في السفر أربعا بئس ما صنع وقد قضت عنه صلاته ثم قال للسائل لا أم لك ترى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم تركوها لأنها ثقلت عليهم قال أبو عمر حديث عائشة الذي عليه بنى مذهبه من جعل القصر فرضا يخرجه عن ظاهره تمامها في السفر لأنه لا يظن عاقل بها تعمد إفساد صلاتها بالزيادة فيها ما ليس منها عامدة يدل ذلك على أنها علمت أن القصر ليس بواجب وأنه سنة وإذا كانت رخصة وتوسعة فالناس مخيرون في قبولها إلا أن الأفضل عندي القصر لأنه فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفاره كلها سنة لأمته وفيه الأسوة الحسنة ولا وجه لقول من قال إن عائشة إنما أتمت في سفرها بعد النبي صلى الله عليه وسلم لأنها تأولت أنها أم المؤمنين فحيث ما كانت فهي عند بنيها كأنها في أهلها وهذا قول ضعيف لا معنى له ولا دليل عليه لأنها إنما صارت أم المؤمنين بأن كانت زوجا لأبي المؤمنين محمد صلى الله عليه وسلم وبه صار أزواجه أمهات المؤمنين وقد روى في قراءات أبي بن كعب النبى أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهتهم الأحزاب وروي عن بن عباس أنه كان يقرؤها كذلك ولو كان ما ذكروا من تأويل عائشة لكان النبي صلى الله عليه وسلم أولى بذلك منها وصلاته في أسفاره ركعتين لأنه سن لأمته أنه لا يصلي أحد في موضع إقامته ركعتين في صلاة أربع خلاف ما شرع لأمته وبين في ذلك مراد ربه

وقد روى أن عائشة رضي الله عنها إنما أتمت في السفر لوجوه غير هذا الوجه أولاها عندنا بالصواب والله أعلم أنها علمت من قصر النبي صلى الله عليه وسلم لما خير في القصر والإتمام اختار الإقصار ليسر ذلك على أمته وقالت ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما فأخذت هي في خاصتها بغير رخصة إذا كان ذلك مباحا لها في حكم التخيير الذي أذن الله فيه وقد روي عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم معنى ذلك حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وحدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا بن وضاح قال حدثنا موسى بن معاوية قالا حدثنا وكيع قال حدثنا المغيرة بن زياد عن عطاء عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتم الصلاة ويقصر ويصوم ويفطر ويؤخر الظهر ويعجل العصر ويؤخر المغرب ويعجل العشاء وذكر أبو بكر قال حدثنا عبدة بن سليمان عن عاصم بن أبي قلابة قال إن صليت في السفر ركعتين فالسنة وإن صليت أربعا فالسنة قال وحدثنا محمد بن أبي عدي عن حبيب بن الشهيد عن ميمون بن مهران أنه سأل سعيد بن المسيب عن الصلاة في السفر قال إن شئت ركعتين وإن شئت أربعا قال وحدثنا وكيع قال حدثنا بسطام بن مسلم قال سألت عطاء عن قصر الصلاة فقال إن قصرت فسنة وإن شئت أتممت قال وأخبرنا وكيع قال حدثنا عبد الرحمن بن خضير عن أبي نجيح المكي قال اصطحبت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فكان بعضهم يتم وبعضهم يقصر وبعضهم يصوم وبعضهم يفطر فلا يعيب هؤلاء على هؤلاء ولا هؤلاء على هؤلاء

وروى زيد العمي عن أنس مثله وذكر عبد الرزاق عن بن جريج عن عطاء قال كان سعد بن أبي وقاص يوفي الصلاة في السفر ويصوم قال وسافر الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسعد معهم فأوفى سعد الصلاة وصام وقصر القوم وأفطروا فقالوا لسعد كيف نفطر ونقصر الصلاة وأنت تتمها وتصوم فقال دونكم أمركم فإني أعلم بشأني قال فلم يحرمه سعد عليهم ولا نهاهم عنه قال بن جريج فقلت لعطاء فأي ذلك أحب إليك قال قصرها وكل ذلك قد فعل الصالحون والأخيار وروى جويرية عن مالك عن الزهري عن رجل عن عبد الله بن مسور بن مخرمة أن سعد بن أبي وقاص والمسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث سافروا فأتم الصلاة سعد وقصر القوم وذكر معنى حديث عطاء قال أبو عمر وقد كان عثمان يتم الصلاة في السفر بعد ستة أعوام أو نحوها من خلافته وقد تأول قوم عليه ذلك وجوها أربعة ورووا بعضها عنه فذكرتها في التمهيد منها أنه اتخذ أهلا بمكة والوجه الثاني أنه قال أنا خليفة حيث ما كنت فهو عملي والوجه الثالث أنه بلغه أن أعرابيا صلى معه ركعتين فظن أن الفريضة ركعتان فانصرف إلى منزله فلم يزل يصلي ركعتين السنة كلها فلما بلغه ذلك أتم الصلاة والوجه الرابع عن عثمان وعائشة جميعا أصح وذلك أنهما رأيا أن لهما القصر والتمام كما لهما الفطر والصيام ورأيا أن القصر رخصة فمالا إلى التمام هذا هو الذي يليق بهما والله أعلم ولا يصح عندي منها إلا أنه اختار التمام لعلمه بصحة تخيير المسافر بين القصر والتمام وروى معمر عن الزهري عن سالم عن بن عمر قال صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين ومع أبي بكر ركعتين ومع عمر ركعتين ومع عثمان صدرا من خلافته ركعتين ثم صلاها أربعا

قال الزهري فبلغني أن عثمان إنما صلاها أربعا لأنه أزمع أن يقيم بعد الحج قال أبو عمر وهذا ليس بشيء لأن عثمان مهاجري لا يحل له المقام بمكة والمعروف أنه كان لا يطوف للإفاضة والوداع إلا ورواحله قد رحلت حدثنا عبد الوارث قال وحدثنا أبو سعيد قالا حدثنا قاسم قال حدثنا محمد قال حدثنا أبو بكر قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن عبد الرحمن بن يزيد قال صلى عثمان بمنى أربعا فقال عبد الله صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين ومع أبي بكر ركعتين ومع عمر ركعتين ثم تفرقت بكم الطرق ولوددت أن لي من أربع ركعتين متقبلتين قال أبو عمر عاب بن مسعود عثمان بالإتمام بمنى ثم أقيمت الصلاة فصلى خلفه أربعا فقيل له في ذلك فقال الخلاف شر روينا ذلك من وجوه وفيه من الفقه أن عثمان لو كان القصر عنده فرضا ما أتم وهو مسافر بمنى وكذلك بن مسعود لو كان القصر عنده واجب فرض ما صلى خلف عثمان أربعا ولكنه رأى أن الخلاف على الإمام فيما سبيله التخيير والإباحة شر لأن القصر عنده أفضل لمواظبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفاره عليه وإنما عابه لتركه الأفضل عنده وكذلك صنع سلمان سافر مع طائفة من الصحابة نحو ثلاثة عشر رجلا فأرادوه على أن يصلي بهم فأبى وتقدم بعض القوم فصلى بهم أربع ركعات فلما قضى الصلاة قال سلمان ما لنا وللمربعة إنما كان يكفينا ركعتين نصف المربعة ولم يعد

صلاته ولا أمر أحدا بالإعادة بل تمادى وراء إمامه ورأى ذلك مجزيا عنه ذكر خبر سلمان هذا عند عبد الرزاق عن إسرائيل وذكره أيضا أبو بكر عن أبي الأحوص جميعا عن أبي إسحاق عن أبي ليلى الكندي قال خرج سلمان في ثلاثة عشر رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غزاة وسلمان أسنهم وذكر الخبر بتمامه ورواه وكيع قال حدثنا سعيد بن حميد الطائي عن علي بن ربيعة الوالبي عن الربيع بن نضلة قال خرجنا في سفر ومعنا سلمان ونحن اثنا عشر رجلا أو ثلاثة عشر رجلا راكبا كلهم قد صحب النبي صلى الله عليه وسلم فذكر معنى ما وصفناه وفي هذا كله ما يتبين به صحة ما ذهبنا إليه في أن القصر ليس بفرض واجب وإنما هو سنة ورخصة والحمد لله وإنما اختار مالك وأكثر العلماء القصر لأنه الذي عمل به النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وكذلك كان علي يقصر في أسفاره كلها إلى صفين وغيرها حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر قال حدثنا بن علية عن علي بن زيد عن أبي نضرة قال مر عمران بن حصين في مجلسنا فقام إليه فتى من القوم فسأله عن صلاة رسول الله في الحج والغزو والعمرة فجاء فوقف علينا فقال إن هذا سألنا عن أمر فأردت أن تسمعوه أو كما قال غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يصل إلا ركعتين حتى رجع إلى المدينة وحججت معه فلم يصل إلا ركعتين حتى رجع إلى المدينة وشهدت معه الفتح فأقام بمكة ثماني عشر ليلة لا يصلي إلا ركعتين ويقول لأهل البلد صلوا أربعا فإنا سفر واعتمر واعتمرت معه ثلاث عمر لا يصلي إلا ركعتين وخرجت مع أبي بكر وغزوت فلم يصل إلا ركعتين حتى رجع إلى المدينة وحججت مع عمر حجاته فلم يصل إلا ركعتين حتى رجع إلى المدينة وحججت مع عثمان سبع سنين من إمارته لا يصلي ركعتين ثم صلى بمنى أربعا باب ما يجب فيه قصر الصلاة مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا خرج حاجا أو معتمرا قصر الصلاة بذي الحليفة

قال أبو عمر كان بن عمر يتبرك بالمواضع التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزلها للصلاة وغيرها وكان يمتثل فعله بكل ما يمكنه لما علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قصر الصلاة بذي الحليفة صلاة العصر في حين خروجه من المدينة إلى مكة فكان هو متى خرج من المدينة إلى مكة لم يقصر الصلاة إلا بذي الحليفة وروى محمد بن المنكدر وإبراهيم بن ميسرة عن أنس قال صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعا والعصر بذي الحليفة ركعتين ورواه الثوري وبن عيينة كلاهما عن محمد بن المنكدر وإبراهيم بن ميسرة جميعا عن أنس بن مالك ذكره وكيع عن الثوري وعبد الرزاق عن بن عيينة قال أبو عمر يعني في حجة الوداع وسنبين ذلك إن شاء الله وأما سفر بن عمر في غير الحج والعمرة فكان يقصر الصلاة إذا خرج من بيوت المدينة ذكر عبد الرزاق وعبد الله بن وهب عن عبد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر أنه كان يقصر الصلاة في السفر حين يخرج من بيوت المدينة ويقصر إذا رجع حتى يدخل بيوتها واللفظ لعبد الرزاق قال وأخبرنا الثوري عن ورقاء بن إياس الأسدي عن علي بن ربيعة الأسلمي قال خرجنا مع علي رضي الله عنه ونحن ننظر إلى الكوفة فصلى ركعتين ثم رجعلنا فصلى ركعتين وهو ينظر إلى الكوفة فقلت ألا تصلي أربعا قال لا حتى ندخلها وروى بن عيينة وغيره عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد قال خرجت مع علي بن أبي طالب إلى صفين فلما كان بين الجسر والقنطرة صلى ركعتين ومثل هذا عن على من وجوه شتى وهو مذهب جماعة العلماء إلا من شذ وممن روينا ذلك عنه علقمة والأسود وعمرو بن ميمون والحارث بن قيس

الجعفي وإبراهيم النخعي وعطاء وقتادة والزهري وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة والثوري وسليمان بن موسى والأوزاعي وأحمد بن حنبل وجماعة من الفقهاء وأهل الحديث قال مالك في الموطأ لا يقصر الصلاة الذي يريد السفر حتى يخرج من بيوت القرية ولا يتم حتى يدخلها أو يقاربها وهذا تحصيل مذهبه عند جمهور أصحابه وذكر بن حبيب عن مطرف وبن الماجشون عن مالك وبن كنانة أيضا عن مالك أنه قال إذا كانت القرية لا تجمع فيها الجمعة فإنه لا يقصر الصلاة الخارج عنها حتى يجاوز ثلاثة أميال وذلك أيضا ما تجب الجمعة فيه على من كان خارجا من المصر وكذلك إذا انصرف لا يزال يقصر حتى ينتهي إلى مثل ذلك من المصر قال أبو عمر الذي رواه بن القاسم وغيره عن مالك في ذلك هو ما ذكره في الموطأ وهو الصحيح في مذهبه والذي ذكره بن الحكم عنه وهو الذي عليه جماعة السلف وجمهور الخلق قال أبو عمر أما الإقامة للمسافر فلا يحتاج فيها إلى غير النية وأما السفر فمفتقر إلى العمل مع النية وكذلك من نوى الإقامة لزمه الصوم وإتمام الصلاة في الوقت ومن كان في الحضر ونوى السفر لم يكن مسافرا بنيته حتى يعمل أقل عمل في سفره فإذا تأهب المسافر وخرج من حضره عازما على سفره فهو مسافر ومن كان مسافرا فله أن يفطر ويقصر الصلاة إن شاء ذكر عبد الرزاق عن بن جريج عن عطاء قال إذا خرج الرجل حاجا فلم يخرج من بيوت القرية حتى حضرت الصلاة فإن شاء قصر وعن الثوري عن داود بن أبي هند عن أبي حرب بن أبي الأسود أن عليا رضي الله عنه حين خرج من البصرة رأى خصا فقال لولا هذا الخص لصلينا ركعتين ورواه وكيع عن الثوري مثله وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا أبو معاوية عن حجاج عن عمران بن عمير عن أبيه قال خرجت مع عبد الله بن مسعود إلى مكة فقصر الصلاة بقنطرة الحيرة

وكان علقمة والأسود وعمرو بن ميمون وإبراهيم النخعي إذا خرجوا مسافرين قصروا الصلاة إذا خرجوا من بيوت القرية وهذا كله قول مالك المعروف عنه الذي عليه يتحصل مذهبه وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأصحابهما والثوري والليث بن سعد والأوزاعي وأحمد وإسحاق وجمهور أهل العلم مالك عن بن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه أنه ركب إلى ريم فقصر الصلاة في مسيرة ذلك قال مالك وذلك نحو من أربعة برد قال أبو عمر خالفه عقيل عن بن شهاب فقال وذلك نحو ثلاثين ميلا وكذلك رواه عبد الرزاق عن مالك عن بن شهاب عن سالم بن عبد الله أن عبد اللله بن عمر كان يقصر الصلاة في مسيرة اليوم التام قال سالم وخرجنا مع عبد الله إلى أرض له بريم وذلك من المدينة على نحو من ثلاثين ميلا فقصر عبد الله الصلاة يومئذ قال أبو عمر أما رواية عبد الرزاق عن مالك فأظنها وهما فخلاف ما في الموطأ لها وإنما رواية عقيل عن بن شهاب فإن لم تكن وهما فيحتمل أن يكون ريم موضعا متسعا كالإقليم عندنا فيكون تقدير مالك إلى آخر ذلك وتقدير عقيل في روايته إلى أول ذلك ومالك أعلم بنواحى بلده قال بعض شعراء أهل المدينة فكم من حرة بين المنقى إلى أحد إلى جنبات ريم إلى الروحاء ومن ثغر نقي عوارضه ومن ذلك وخيم

ومن عين مكحلة المآقي بلا كحل ومن كشح هضيم وجنبات ريم ربما كانت بعيدة الأقطار مالك عن نافع عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر ركب إلى ذات النصب فقصر الصلاة في مسيرة ذلك قال مالك وبين ذات النصب والمدينة أربعة برد قال أبو عمر ذكر هذا الحديث أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا بن علية عن أيوب عن سالم عن نافع أن بن عمر خرج إلى أرض له بذات النصب فقصر وهي ستة عشر فرسخا وهذا كما قاله مالك أربعة برد وقال أخبرنا معمر أخبرني أيوب عن نافع عن بن عمر أنه كان يقصر في مسيره أربعة أبرد قال مالك عن بن شهاب عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر كان يقصر الصلاة في مسيره اليوم التام قال أبو عمر كذلك رواه بن جريج عن الزهري قال أخبرني سالم أن بن عمر كان يقصر في مسيره اليوم التام قال أبو عمر مسيره اليوم التام بالسير الحثيث هي أربعة برد أو نحوها مالك عن نافع عن بن عمر أنه كان يسافر إلى خيبر فيقصر الصلاة رواه بن جريج قال أخبرني نافع أن بن عمر كان أدنى ما يقصر الصلاة إليه مال له بخيبر يطالعه وهو مسيرة ثلاثة فواصل لم يكن يقصر فيما دونه قلت فكم خيبر قال ثلاثة فواصل وهذا أيضا خلاف ما روى مالك في ذلك ومالك أثبت من بن جريج في نافع

إذا اختلف القول عندهم فقول مالك لأن مالكا أحد الثلاثة المقدمين في حفظ حديث نافع وهم عبيد الله بن عمر وأيوب ومالك وأما بن جريج فهو عندهم في مالك رابعهم وقد اختلف عن بن عمر في أدنى ما يقصر إليه الصلاة وأصح ما في ذلك عنه ما رواه عنه ابنه سالم ومولاه نافع أنه كان لا يقصر إلا في مسيره اليوم التام أربعة برد وقد روى مالك عن نافع أنه كان يسافر مع عبد الله بن عمر البريد فلا يقصر الصلاة وهذا يرد ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر الصلاة وما رواه محمد بن زيد بن خليد عن بن عمر أنه كان يقصر الصلاة في مسيرة ثلاثة أميال وهذان الخبران من رواية أهل الكوفة عن بن عمر فكيف نقبلها عن بن عمر مع ما ذكرنا من رواية سالم ونافع عنه بخلافها من حديث أهل المدينة وقد روى سفيان بن عيينة عن سعيد بن عبيد عن علي بن ربيعة قال سألت بن عمر عن قصر الصلاة فقال أتعرف السويداء قلت نعم قال فاقصر إليها وهي على مسيرة يومين من المدينة قال وكان بن عمر يقصر إليها مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عباس كان يقصر الصلاة في مثل ما بين مكة الطائف وفي مثل ما بين مكة وعسفان وفي مثل ما بين مكة وجده قال مالك وذلك أربعة برد وذلك أحب ما تقصر إلي فيه الصلاة قال مالك لا يقصر الذي يريد السفر الصلاة حتى يخرج من بيوت القرية ولا يتم حتى يدخل أول بيوت القرية أو يقارب ذلك قال أبو عمر هذا عن بن عباس معروف من نقل الثقات متصل الإسناد عنه من وجوه

منها مارواه عمرو بن دينار وبن جريج عن عطاء قال سألت بن عباس فقلت أقصر الصلاة إلى عرفة وإلى منى قال لا ولكن إلى الطائف وإلى جدة ولا تقصروا الصلاة إلا في اليوم التام ولا تقصر فيما دون اليوم فإن ذهبت إلى الطائف أو إلى جدة أو إلى قدر ذلك من الأرض إلى أرض لك أو ماشية فاقصر الصلاة فإذا قدمت فأوف ذكره عبد الرزاق عن بن جريج عن عطاء واللفظ لحديث بن جريج وذكر أبو بكر قال حدثنا بن عيينة عن عمرو قال أخبرني عطاء عن بن عباس قال لا تقصر إلى عرفة ولا بطن نخلة وأقصر إلى عسفان والطائف وجدة فإذا قدمت على أهل أو ماشية فأتم قال وحدثنا وكيع حدثنا هشام بن الغاز عن ربيعة الجرشي عن عطاء بن أبي رباح قال قلت لابن عباس أقصر إلى عرفة قال لا قلت أقصر إلى الطائف أو إلى عسفان قال نعم وذلك ثمانية وأربعون ميلا وعقد بيده قال وحدثنا وكيع قال حدثنا شعبة عن رجل يقال له شبيل عن أبي حبرة قال قلت لابن عباس اقصر إلى بلد قال تذهب وتجيء في يوم قال قلت نعم قال لا إلا في يوم تام قال أبو عمر هو شبيل بن عزرة كوفي ثقة وأبو حبرة اسمه شيحة بن عبد الله كوفي ثقة قال أبو عمر قول بن عباس هذا لا يشبه أن يكون رأيا ولا يكون مثله إلا توفيقا والله أعلم ولا أعلم عن بن عباس خلافا إلا ما ذكره أبو بكر قال حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد عن بن عباس قال إذا كان سفرك يوما إلى العتمة فلا تقصر الصلاة فإن جاوزت ذلك فاقصر قال أبو عمر قول بن عباس اختلف الفقهاء أئمة الفتوى بالأمصار في مقدار ما يقصر إليه الصلاة من المسافة فذهب مالك والشافعي وأصحابهما والأوزاعي والليث بن سعد إلى أن الصلاة لا يقصرها المسافر إلا في سيره اليوم التام بالبغل الحسن السير وهو قول أحمد وإسحاق والطبري وقد قال بعضهم يوما وليلة

ومعلوم أن الليل ليس بوقت سير لمن مشى بالنهار ولكنه تأكيد باليوم التام في أيام الصيف أو ما كان مثله في المسافة من أيام الشتاء وقدره مالك بأربعة برد ثمانية وأربعون ميلا قال الشافعي والطبري ستة وأربعون ميلا وهذا أمر متفاوت ومن قال بما وصفنا من مسيره اليوم التام وتقديره ما قاله لهم بن عباس وبن عمر على ما ذكرنا عنهما وقال الكوفيون سفيان الثوري والحسن بن صالح وشريك وأبو حنيفة وأصحابه لا يقصر المسافر الصلاة إلا في المسافة البعيدة المحتاجة إلى الزاد والمزاد من الأفق إلى الأفق قال سفيان وأبو حنيفة أقل ذلك ثلاثة أيام لا يقصر الصلاة مسافر في أقل من ثلاثة أيام كاملة ومن السلف من ذهب هذا المذهب عثمان بن عفان وبن مسعود وحذيفة بن اليمان روى سفيان بن عيينة عن أيوب عن أبي قلابة قال حدثني من سمع كتاب عثمان إلى عبد الله بن عباس يقول بلغني أن قوما يخرجون في جشرهم إما في تجارة وإما في جباية فيقصرون الصلاة وأنه لا تقصر الصلاة إلا في سفر بعيد أو حضرة عدو وذكر أبو بكر قال حدثنا إسماعيل بن علية عن أيوب عن أبي قلابة قال حدثني من قرأ كتاب عثمان أو قرئ عليه أما بعد فإنه بلغني أن رجالا منكم يخرجون إلى سوادهم إما في جشرة أو في جباية وإما في تجارة فيقصرون الصلاة فلا يفعلوا فإنما يقصر الصلاة من كان شاخصا أو بحضرة عدو قال وحدثنا وكيع قال حدثنا سفيان ومسعر عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال قال بن مسعود لا يغرنكم سوادكم من صلاتكم فإنما هو من كوفيكم

قال وحدثني علي بن مسهر عن الشيباني عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن بن مسعود مثله إلا أنه قال فإنه من مصركم وروي عن معاذ بن جبل وعقبة بن عامر مثله قال وحدثنا بن فضيل عن حجاج عن حماد عن إبراهيم قال كان أصحاب عبد الله لا يقصرون إلى واسط والمدائن وأشباههما قال وحدثنا هشيم عن مغيرة أن الحارث قال لإبراهيم أتقصر الصلاة إلى المدائن قال إن المدائن لقريب ولكن إلى الأهواز قال وحدثنا وكيع قال حدثنا الحسن بن صالح وإسرائيل عن إبراهيم بن عبد الأعلى عن سويد بن علقمة قال إنما تقصر الصلاة في مسيرة ثلاث قال وحدثنا أبو الأحوص عن عاصم عن بن سيرين قال كانوا يقولون السفر الذي يقصرون الصلاة فيه الذي يحمل فيه الزاد والمزاد وذكر عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال كنت مع حذيفة بالمدائن فاستأذنته أن آتي أهلي بالكوفة فأذن لي وشرط علي أن لا أقصر ولا أصلي ركعتين حتى أرجع إليه وأخبرنا الثوري عن خصيف عن أبي عبيدة عن بن مسعود أنه قال لا تغتروا بتجارتكم وأجشاركم تسافرون إلى آخر السواد وتقولون إنا قوم سفر إنما المسافر من أفق إلى أفق قال وأخبرنا بن جريج قال أخبرنا عبد الكريم الجزري عن بن مسعود وحذيفة أنهما كانا يقولان لأهل الكوفة لا يغرنكم جشركم ولا سوادكم لا تقصروا الصلاة إلى السواد قال وبينهم وبين السواد ثلاثون فرسخا قال وأخبرنا بن جريج عن نافع قال أقل مكان يقصر فيه بن عمر الصلاة إلى خيبر وهي مسيرة ثلاث قواصد قال وأخبرنا إسرائيل عن عامر بن شقيق قال سألت شقيق بن سلمة قلت أخرج إلى المدائن وإلى واسط قال لا تقصر الصلاة قال وأخبرنا أبو حنيفة عن حماد قال سألت إبراهيم وسعيد بن جبير في كم تقصر الصلاة قالا في مسيرة ثلاثة قال عبد الرزاق سمعت الثوري يقول قولنا الذي نأخذ به ألا تقصر الصلاة

إلا في مسيرة ثلاثة أيام فصاعدا قلت من أجل ما أخذت به قال لقول النبي صلى الله عليه وسلم لا تسافر امرأة فوق ثلاث إلا مع ذي محرم قال أبو عمر ليس في هذا حجة لأنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تسافر امرأة مسيرة ثلاث وروي عنه عليه الصلاة والسلام مسيرة يومين أو ليلتين وروي عنه صلى الله عليه وسلم يوما وليلة وروي عنه لا تسافر امرأة بريدا إلا مع ذي محرم وقد تكلمنا على معانيها في كتاب الحج وذكرنا كل حديث منها هناك بإسناده وقال الحسن البصري وبن شهاب الزهري تقصر الصلاة في مسيرة يومين ذكره عبد الرزاق عن سفيان عن الزهري وعن الثوري عن يونس عن الحسن وقالت طائفة من أهل الظاهر يقصر الصلاة كل مسافر في كل سفر قصيرا كان أو طويلا ولو ثلاثة أميال وقال داود إن سافر في حج أو عمرة أو غزو قصر الصلاة في قصير السفر وطويله ومن حجتهم من ظاهر قول الله عز وجل وإذا ضربتم في الأرض النساء لم يجد مقدارا من المسافة وقد نقض داود من قال بقوله من أهل الظاهر أصلهم هذا لأنه عز وجل لم يقل وإذا ضربتم في الأرض في حج أو عمرة واحتج بعضهم بحديث أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر سار فرسخا ثم نزل قصر الصلاة والحديث حدثناه سعيد قال حدثنا قاسم قال حدثنا محمد قال حدثنا أبو بكر قال حدثنا هشيم عن أبي هارون عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر فرسخا قصر الصلاة

وأبو هارون العبدي اسمه عمارة بن جوين منكر الحديث عند جميعهم متروك لا يكتب حديثه وقد نسبه حماد بن زيد إلى الكذب قال وكان يروي بالغداة شيئا وبالعشي شيئا وقال عباس عن بن معين قال أبو هارون العبدي كانت عنده صحيفة يقول فيها هذه صحيفة الوصي وكان عندهم لا يصدق في حديثه وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل سألت أبي عن هارون العبدي فقال ليس بشيء قال أبو عمر على أن عبد الرزاق رواه عن هشيم قال أخبرني أبو هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فرسخا ثم نزل يقصر الصلاة وهذا على ما رواه مطرف وبن الماجشون عن مالك على ما ذكرنا في أول هذا الباب واحتجوا بحديث محمد بن المنكدر وإبراهيم بن ميسرة عن أنس قال صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعا والعصر بذي الحليفة ركعتين قالوا فمن سافر في مثل هذه المسافة أو مثلها قصر الصلاة وهذا جهل بالحديث لأن حديث أنس هذا إنما هو في خروجه مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى ذي الحليفة في حجة الوداع ذكر البخاري قال حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس بن مالك قال صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر أربعا والعصر بذي الحليفة ركعتين وسمعتهم يصرخون بهما جميعا قال أبو عمر يعني أحرموا بالحج والعمرة جميعا من ذي الحليفة يومئذ وذكر عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس بن مالك قال صليت الظهر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعا وصليت معه بذي الحليفة ركعتين وكان خرج مسافرا قال أبو عمر هذا أول حديث أدخله عبد الرزاق في باب متى يقصر إذا خرج مسافرا

قال وأخبرني بن جريج قال أخبرني بن المنكدر عن أنس بن مالك أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر أربعا ثم خرج فصلى معه بذي الحليفة العصر ركعتين والنبي صلى الله عليه وسلم يريد مكة فقد بان برواية بن جريج عن محمد بن المنكدر عن أنس وبرواية أبي قلابة عن أنس أن قصر النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة إنما كان في حين خروجه من المدينة مسافرا إلى مكة حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثنا سليمان بن حرب وعارم قالا حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس قال صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعا والعصر بذي الحليفة ركعتين وسمعتهم يصرخون بهما جيمعا وذكر وكيع قال حدثنا زكريا عن عامر الشعبي قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسافرا قصر الصلاة من ذي الحليفة قال أبو عمر قد مضى في أول هذا الباب حديث بن عمر أنه كان إذا خرج مسافرا قصر الصلاة بذي الحليفة قال وذكرنا الاختلاف في الحال والموضع الذي يبدأ فيه المسافر بقصر الصلاة إذا خرج من مصره وهذه الآثار في ذلك المعنى واحتج داود أيضا ومن قال بقوله من أهل الظاهر بحديث شعبة عن يحيى بن يزيد الهنائي قال سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة فقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أيام أو ثلاثة فراسخ شعبة الشاك صلى ركعتين وأبو يزيد يحيى بن يزيد الهنائي شيخ من أهل البصرة ليس مثله ممن يحتمل أن يحمل هذا المعنى الذي خالف فيه جمهور الصحابة التابعين ولا هو ممن يوثق به في ضبط مثل هذا الأصل وقد يحتمل أن يكون أراد ما تقدم ذكره من ابتدأ قصر الصلاة إذا خرج ومشى ثلاثة أميال على نحو ما قاله وذهب إليه بعض أصحاب مالك فلم يحسن العبارة عنه

واحتجوا أيضا بحديث شعبة عن يزيد بن خمير عن حبيب بن عبيد عن جبير بن نفير عن بن السمط أن عمر صلى بذى الحليفة ركعتين فقلت له فقال أصنع كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع وهذا الحديث لا حجة فيه لأن عمر إنما صنع ذلك وهو مسافر إلى مكة وكذلك صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد قال حدثنا أبو بكر قال حدثنا عبيد بن سعيد عن شعبة بن يزيد بن خمير قال سمعت خمير بن عبيد يحدث عن جبير بن نفير عن بن السمط قال شهدت عمر بذي الحليفة وهو يريد مكة صلى ركعتين فقلت له لم تفعل هذا فقال إنما أصنع كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع واحتجوا أيضا بما حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم قال حدثنا محمد قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا هشيم قال أخبرنا جويبر عن الضحاك عن النزال أن عليا خرج إلى النخيلة فصلى بها الظهر والعصر ركعتين ركعتين ثم رجع من يومه فقال إني أعلمكم بسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم وهذا إسناد فيه من الضعف والوهن ما لا خفاء به وجويبر متروك الحديث لا يحتج به لإجماعهم على ضعفه وخروج علي رضي الله عنه إلى النخيلة معروف أنه كان مسافرا سفرا طويلا فإن احتجوا بما ذكره أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا أبو علية عن الجريري عن أبي الورد عن اللجلاج قال كنا نسافر مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فنسير ثلاثة أميال فيتجوز في الصلاة فإن اللجلاج وأبا الورد مجهولان ولا يعرفان في الصحابة ولا في التابعين واللجلاج قد ذكر عن الصحابة ولا يعرف فيهم ولا في التابعين وليس في نقله حجة وأبو الورد أشر جهالة وأضعف نقلا ولو صح احتمل ما وصفنا قبل والله أعلم وكذلك ما روي عن بن مسعود أنه قصر في أربعة فراسخ منكر غير معروف من مذهب بن مسعود وكذلك ما حكاه الأوزاعي عن أنس بن مالك أنه كان يقصر الصلاة في خمسة

فراسخ وذلك خمسة عشر ميلا ليس بالقوي لأنه منقطع ليس يحتج بمثله قال الأوزاعي وكان قبيصة بن ذؤيب وهانئ بن كلثوم وعبد الله بن محيريز يقصرون الصلاة فيما بين الرملة وبيت المقدس قال الأوزاعي وعامة العلماء يقولون مسيرة يوم تام قال وبه نأخذ قال أبو عمر هو كما قال الأوزاعي وجمهور العلماء لا يقصرون الصلاة في أقل من أربعة برد وهو مسيرة يوم تام بالسير القوي الحسن الذي لا إسراف فيه ومن احتاط فلم يقصر إلا في مسيرة ثلاثة أيام كاملة فقد أخذنا بالأوثق وبالله التوفيق باب صلاة المسافر ما لم يجمع مكثا مالك عن بن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر أن عبد الله بن عمر كان يقول أصلي صلاة المسافر ما لم أجمع مكثا وإن حبسني ذلك اثنتي عشرة ليلة مالك عن نافع أن بن عمر أقام بمكة عشر ليال يقصر الصلاة إلا أن يصليها مع إمام فيصليها بصلاة الإمام قال أبو عمر لا أعلم خلافا فيمن سافر سفرا يقصر فيه الصلاة لا يلزمه أن يتم في سفره إلا أن ينوي الإقامة في مكان من سفره ويجمع نيته على ذلك واختلف أهل العلم في المدة التي إذا نوى المسافر أن يقيم فيها لزمه الإتمام وسنذكر ما رووه فيه من ذلك وما نقلوه فيه من الآثار في الباب بعد هذا إن شاء الله وليس في حديث بن عمر المتقدم في هذا الباب ذكر المقام في مكة أو غيرها والحديث الثاني حديث نافع دل فيه إقامته بمكة عشرا يقصر الصلاة وبن عمر رجل من المهاجرين الذين شهدوا البيعة التي بايعوا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المقام معه بالمدينة وأن لا يتخذوا مكة وطنا فمقامه بمكة ليس بنية إقامة

ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول عمر بعده لأهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر وأما قوله إلا أن يصليها وراء إمام فيأتي القول في ذلك في بابه بعد هذا إن شاء الله وقد تقدم في الباب حديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة عام الفتح ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين وقيل تسع عشرة ليلة وقيل سبع عشرة وقيل خمس عشرة ليلة وليس لمن احتج بمقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة حجة بكثرة الاختلاف والاضطراب في ذلك ولأنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه جعل شيئا من ذلك سنة وقد قال لأهل مكة أتموا صلاتكم فإنا سفر ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقيم في الدار التي هاجر منها باب المسافر إذا أجمع مكثا مالك عن عطاء بن عبد الله الخرساني أنه سمع سعيد بن المسيب قال من أجمع إقامة أربع ليال وهو مسافر أتم الصلاة قال مالك وذلك أحب ما سمعت إلي قال وسئل مالك عن صلاة الأسير فقال مثل صلاة المقيم قال أبو عمر قال اختلف العلماء في المدة التي إذا نوى المسافر الإقامة فيها لزمه إتمام صلاته فذهب مالك إلى ما ذكره في هذا الباب عن عطاء الخرساني عن سعيد بن المسيب وقال في موطئه أنه أحب ما سمع إليه في ذلك فدل ذلك على سماعه الاختلاف في ذلك وذكر بن وهب عن مالك قال أحسن ما سمعت والذي لم يزل عليه أهل العلم عندنا أن من أجمع إقامة أربع ليال وهو مسافر أتم الصلاة قال أبو عمر وإلى هذا ذهب الشافعي وهو قوله وقول أصحابه وأبي ثور وداود

قال وخالفه في ذلك بعض أهل الظاهر قال الشافعي إذا أزمع المسافر أن يقيم بموضع أربعة أيام بلياليهن أتم الصلاة ولا يحسب في ذلك يوم نزوله ولا يوم رحله وقول أبي ثور في ذلك كقول الشافعي ومالك وقد روي عن أبي جعفر محمد بن علي بن حسين وعن الحسن بن صالح بن حي مثل ذلك على اختلاف عنهما في ذلك وروى قتادة عن سعيد بن المسيب قال إذا أقام المسافر أربعا صلى أربعا وذكره وكيع عن هشام الدستوائي عن قتادة عن سعيد بن المسيب وهذا في معنى رواية عطاء الخرساني عن سعيد بن المسيب وهو عندي أثبت ما روي في ذلك عن سعيد بن المسيب والله أعلم وقد روي عنه في ذلك ثلاثة أقوال أذكرها كلها في هذا الباب إن شاء الله والحمد لله قال الشافعي وأبو ثور ومن ذلك ما روي في هذا حديث العلاء بن الحضرمي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل للمهاجر مقام ثلاثة أيام بمكة بعد قضاء نسكه ومعلوم أن مكة لا يجوز لمهاجري أن يتخذها دار إقامة فأبان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ثلاثة أيام لمن نوى إقامتها لحاجة ليست بإقامة يخرج فيها الذي نواها عن حكم المسافر وأن حكمها حكم السفر لا حكم الإقامة فوجب بهذا أن يكون من نوى المقام أكثر من ثلاث فهو مقيم ومن كان مقيما لزمه الإتمام ومعلوم أن أول منزلة بعد الثلاث الأربع ويعضد هذا أيضا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال في مرضه الذي توفي فيه لا يبقين دينان بأرض العرب وأمر بإخراج يهود الحجاز لم يجعل لهم غير مقام ثلاثة أيام إذ أمر بإخراجهم فكانت عنده مدة الثلاثة الأيام إقامة بلا إقامة حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي قال حدثنا محمد بن الميمون بن حمزة الحسني قال حدثنا الطحاوي قال حدثنا المزني قال حدثنا الشافعي قال حدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن بن حميد قال سأل عمر بن العزيز جلساءه ماذا سمعتم في مقام المهاجرين بمكة فقال السائب بن يزيد أخبرنا العلاء بن الحضرمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يمكث بمكة المهاجر من بعد قضاء نسكه ثلاثا حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا يحيى بن عبد الحميد قال حدثنا سفيان بن عيينة وحفص بن غياث عن عبد الرحمن بن حميد قال سمعت السائب بن يزيد يحدث عمر بن عبد العزيز عن العلاء بن الحضرمي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يقيم المهاجر من قال سفيان بعد نسكه ثلاثا وقال حفص بعد الصدر ثلاثا قال أبو عمر هو عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ثقة ذكر علي بن المديني قال حدثنا سفيان بن عيينة قال حدثنا إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن عبد الرحمن الأعرج قال خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على سعد رجلا فقال إذا مات سعد بمكة فلا تدفنه بها قال وحدثنا سفيان عن محمد بن قيس الأسدي عن قال قال سعد بن أبي وقاص يا رسول الله أتكره أن يموت الرجل بالأرض التي هاجر منها قال نعم وقال سفيان وأبو حنيفة وأصحابه إذا نوى الرجل إقامة خمس عشرة ليلة أتم الصلاة وإن كان دون ذلك قصر وروي مثله عن بن عمر وسعيد بن المسيب روى وكيع عن عمرو بن دينار عن مجاهد قال كان بن عمر إذا أجمع على إقامة خمس عشرة ليلة سرج ظهره وصلى أربعا

وروى وكيع أيضا عن عن بن عمر وبن عباس أنهما قالا إذا قدمت بلدا وأنت مسافر وفي نيتك أن تقيم خمس عشرة ليلة فأكمل الصلاة قال الطحاوي ولا مخالف لهما من الصحابة قال ولما أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته أكثر من أربع يقصر الصلاة ذكر الإتمام على اعتبار الأربع وروى أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا عبد الله بن إدريس عن داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب قال إذا نوى الرجل على إقامة خمس عشرة ليلة أتم الصلاة وهذا أيضا حديث صحيح الإسناد عن سعيد وفي المسألة قول ثالث قال الليث بن سعد إن نوى إقامة خمس عشرة فما دون قصر وإن نوى إقامة أكثر من خمس عشرة أتم الصلاة واحتج بما رواه عن يزيد بن أبي حبيب عن عراك بن مالك عن عبيد الله بن عبد الله بن مسعود عن بن عباس قال أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة يصلي ركعتين ركعتين قال أبو عمر هذا الحديث قد رواه الزهري عن عبيد الله كما رواه عراك وقد ذكره أبو بكر قال حدثنا عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بعد الفتح خمس عشرة يقصر الصلاة حتى سار إلى حنين قال أبو عمر فكان الليث بن سعد يقول إنه لم يبلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قصر في سفره أكثر من هذه المدة فمن زاد عليها شيئا لزمه الإتمام وهذا لم يختلف في مقامه صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح لكن الاختلاف في ذلك كثير جدا وفي المسألة قول رابع ذكره وكيع قال أخبرنا قرة بن خالد عن أبي حكيمة قال سألت سعيد بن المسيب فقال إذا أتممت ثلاثا فأتم الصلاة وفيها قول خامس قال الأوزاعي إذا أقام المسافر ثلاثة عشر يوما أتم وإن نوى أقل من ذلك قصر

وفيها قول سادس روي عن بن عمر أنه قال إذا أقام اثنتي عشرة ليلة أتم وإن كان دون ذلك قصر ومثل هذا حديث مالك عن بن شهاب عن سالم عن أبيه أنه كان يقول أصلي صلاة المسافر ما لم أجمع مكثا وإن حبسني ذلك اثنتي عشرة ليلة وقد روى عن الأوزاعي أيضا مثل ذلك وفيها قول سابع قاله أحمد بن حنبل وداود قال أحمد روت عائشة وجابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قدم مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة قال أحمد فقد أزمع رسول الله صلى الله عليه وسلم على مقام أربعة أيام يقصر فمن زاد على ذلك فإنه يتم وقال داود من عزم على إقامة أربعة أيام عشرين صلاة قصر ومن عزم على مقام أكثر من ذلك أتم لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في حجته صلاة أربعة أيام وهو مقيم بمكة ثم خرج إلى منى وهو في ذلك كله يقصر والأصل أن كل من أقام فقد لزمه الإتمام إلا أن يخص ذلك سنة أو إجماع وقد نصت السنة ذلك المقدار فمن زاد عليه لزمه الإتمام قال أبو عمر ليس مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة إذ دخلها لحجته بإقامة لأنها ليست له بدار إقامة ولا بملاذ ولا لمهاجري أن يتخذها دار إقامة ولا وطن وإنما كان مقامه بمكة إلى يوم الترويه كمقام المسافر في حاجة يقضيها في سفر منصرفا إلى أهله فهو مقام من لا نية له في الإقامة ومن كان هذا فلا خلاف أنه في حكم المسافر يقصر فلم ينو النبي صلى الله عليه وسلم بمكة إقامة بل نوى الخروج منها إلى منى يوم الترويه عاملا في حجة حتى ينقضي وينصرف إلى المدينة وفيها قول ثامن روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال إذا أقام عشرة أيام أتم وروي ذلك عن أبي جعفر محمد بن علي وعن الحسن بن صالح وفيها قول تاسع ذكره البخاري عن موسى بن إسماعيل عن أبي عوانة عن عاصم وحصين عن عكرمة عن بن عباس قال أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يوما يقصر فنحن إذا أقمنا تسعة عشر قصرنا وإن زدنا أتممنا هكذا ذكر البخاري أن مقامه بمكة حيث فتحها صلى الله عليه وسلم كان تسعة عشر

وهو حديث مختلف فيه لا يثبت فيه شيء لكثرة اضطرابه وقد رواه حفص بن غياث عن عاصم عن عكرمة عن بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام سبع عشرة يقصر الصلاة قال وقال بن عباس من أقام سبع عشرة يقصر الصلاة ومن أقام أكثر من ذلك أتم هكذا ذكره أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا حفص عن عاصم عن عكرمة عن بن عباس وحفص أحفظ من أبي عوانة إلا أن عباد بن منصور قد تابع أبا عوانة فروى عن عكرمة عن بن عباس قال أقام تسعة عشر وأما الزهري فروى عن عبيد الله بن عبد الله عن بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام حيث فتح مكة خمسة عشر يقصر الصلاة حتى سار إلى حنين هكذا رواه بن إسحاق عن بن شهاب وحدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا النفيلي قال حدثنا محمد بن سلمة عن بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن بن عباس قال أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة يقصر الصلاة قال أبو داود رواه عبدة بن سليمان وسلمة بن الفضل وأحمد بن خالد الوهبي كلهم عن بن إسحاق عن الزهري عن عبد الله لم يذكروا بن عباس قال أبو عمر ليس فيهم من يقاس بابن إدريس وقد تابعه محمد بن سلمة وزيادة مثلهما مقبولة وقد روى علي بن زيد عن أبي نضرة عن عمران بن حصين قال قمنا مع النبي عليه الصلاة والسلام بمكة حيث فتحها ثمانية عشر يصلي ركعتين ركعتين فكيف يثبت مع هذا الإختلاف مقدار إقامته بمكة عام الفتح أو أي حجة في إقامته بمكة وليست له بدار إقامة بل هي في حكم دار الحرب أو حيث لا تجوز الإقامة وأما مقامه في عمرة القضاء فلم يختلفوا أنه كان ثلاثة أيام وأما إقامته في حجته فدخل صبيحة رابعة من ذي الحجة وخرج صبيحة رابعة عشر تواترت الروايات بذلك وفيها قول عائشة روي عن الحسن البصري أنه قال يصلي المسافر ركعتين ركعتين أبدا إلا أن يقدم مصرا من الأمصار

وهذا قول لا أعلم أحدا قاله أيضا غيره والله أعلم وفيها قول حادي عشر قاله ربيعة بن أبي عبد الرحمن لا أعلم أحدا قاله أيضا غيره قال ربيعة من أجمع إقامة يوم وليلة أتم الصيام وصام هذا منه قياس على ما تقصر فيه الصلاة عنده ولم يبلغه فيه شيء عن السلف والله أعلم وأما قوله في هذا الباب سئل مالك عن صلاة الأسير فقال مثل صلاة المقيم قال أبو عمر لا أعلم خلافا بين العلماء في ذلك ومحال أن يصلي وهو مقيم مأسور إلا صلاة المقيم وإن سافر أو سوفر به كان له حينئذ حكم المسافر وبالله التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل باب صلاة المسافر إذا كان إماما أو وراء إمام ذكر فيه مالك عن عمر بن الخطاب من طريقين أحدهما عن بن شهاب عن سالم عن أبيه عن عمر الثاني عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر أنه كان إذا قدم مكة صلى بهم ركعتين ثم يقول يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر وفي هذا الحديث من الفقه على ما كان المهاجرون عليه من الاهتمام بأمر الهجرة وحفظها وإن أهل مكة لما أمروا بالهجرة عنها إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يتخذها أحد منهم بعد ذلك دار إقامة فكان من قدم منهم إلى الحج لا ينوي إقامة وكان يصلي صلاة المسافر حتى يخرج وفيه أن المسافر يؤم المقيمين وهذا هو المستحب عند جماعة العلماء لا خلاف علمته بينهم في أن المسافر إذا صلى بمقيمين ركعتين وسلم قاموا فأتموا أربعا لأنفسهم أفرادا وأما صلاة المقيم بالمسافر فيأتي ذكرها بعد هذا إن شاء الله وفيه أن الإمام إذا سلم في موضع من الصلاة يجوز له فيه السلام لم يضر المأمومين ما تكلم به إليهم بعد السلام

وفيه ما كان عليه عمر رضي الله عنه من تعليم رعيته ما يجب عليهم من أمر دينهم وهذا هو الذي خاطب به عمر رضي الله عنه أهل مكة في إتمام صلاتهم امتثل فيه فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه صلى الله عليه وسلم صنع ذلك بمكة أيضا حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا إسماعيل بن علية عن علي بن زيد عن أبي نضرة قال مر بنا عمران بن حصين في مجلسنا فقال غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يصل إلا ركعتين حتى رجع إلى المدينة وحججت معه فلم يصل إلا ركعتين حتى رجع إلى المدينة واعتمرت معه ثلاث عمر ولم يصل إلا ركعتين حتى رجع إلى المدينة وشهدت معه الفتح فأقام بمكة اثنتي عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين ثم يقول لأهل البلد صلوا أربعا فإنا سفر وذكر مالك في هذا الباب عن بن شهاب عن صفوان بن عبد الله بن صفوان أنه قال جاءنا عبد الله بن عمر يعود عبد الله بن صفوان فصلى بنا ركعتين فقمنا فأتممنا وهذا على ما ذكرت لك في هذا الباب أنه لا اختلاف علمته فيه وحسبك بذلك وسنة وإجماعا وحديثا وأما حديثه عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يصلي وراء الإمام بمنى أربعا فإذا صلى لنفسه صلى ركعتين فإن العلماء قديما وحديثا اختلفوا في المسافر يصلي وراء مقيم فقال مالك وأصحابه إذا لم يدرك معه ركعة تامة صلى ركعتين وإن أدرك معه ركعة بسجدتيها صلى أربعا وهو معنى قول الأوزاعي وذكر الطحاوي أن أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدا قالوا يصلي صلاة مقيم وإن أدركه في التشهد قال وهو قول الليث والشافعي والأوزاعي

وذكر الطبري قال حدثنا العباس بن الوليد بن مزيد عن أبيه عن الأوزاعي فيمن صلى من المسافرين مع الحضري ركعة أو ركعتين ثم عرض له رعاف فقطع صلاته قال يبني على صلاة مقيم حتى يكمل أربعا قيل له فإنه صلى صلاة مسافر في بيته ثم دخل المسجد فوجدهم في تشهد تلك الصلاة الآخر فجلس معهم قال لا يعتد بما أدرك من الجلوس معهم لأنه لم يدرك الركعة معهم وقد أجزأت عنه صلاته التي صلى في بيته قال وقال الأوزاعي في مسافر أراد أن يصلي المكتوبة ركعتين فسها حتى صلى ثلاثا قال ليكمل أربع ركعات وأما الشافعي فلم يختلف في قوله إن كل مسافر دخل في صلاة مقيم قبل أن يسلم المقيم منها لزمه إتمامها ولا يراعي إدراك الركعة لإجماعهم على أن من نوى في حين دخوله في الصلاة الإتمام لزمه فكذلك من دخل مع مقيم في صلاته وحجة قول مالك أن المسافر سنته ركعتان ومن لم يدرك ركعة من الصلاة فهو في حكم من لم يدرك شيئا منها والمسافر إذا لم يدرك شيئا من صلاة المقيم صلى ركعتين بإجماع واختلف الفقهاء في المسافر يدرك من صلاة المقيم ركعة أو أكثر أو يدركه في التشهد فيصلي معه ثم يعرض له ما يفسد صلاته من حدث أو غيره ماذا يقضي وماذا عليه أن يصلي فأما مالك فقال من أدرك من صلاة المقيم ركعة وهو مسافر لزمه الإتمام ومن لم يدركها فصلاته ركعتان فعلى هذا يلزمه أن يصلي أربعا إذا صلى مع المقيم ركعة ثم فسدت عليه صلاته وإن لم يدرك معه ركعة رجع إلى عمل صلاته ركعتين وقال الشافعي وأصحابه يصلي أربعا فإنه قد لزمه بدخوله الإتمام في صلاة المقيم أربعا ويصح لهم الدخول عندهم وهو قول الحسن بن حي وقال أبو حنيفة وأصحابه في المسافر يدخل في صلاة مقيم ثم يقطعها يصلي صلاة مسافر لأنه إنما يصلي وراءه أربعا اتباعا له فإذا لم يكن خلف مقيم لم يصل إلا فريضة ركعتين وقال أبو ثور في هذه المسألة قولان

أحدهما أنه لما دخل مع المقيم وجب عليه ما وجب على المقيم فلما أفسدها وجب عليه أن يأتي بما وجب عليه من الإتمام والآخر أنه لما أفسدها رجع إلى ما كان عليه في الابتداء من الخيار في الإتمام أو التقصير وأما من نسي صلاة في حضر فذكرها في سفر أو نسيها في السفر فذكرها وهو مقيم فقد تقدم القول في ذلك في صدر هذا الكتاب حيث ذكره مالك رحمه الله في موطئه وذلك في باب جامع الوقوت لكن لم يذكر منها هناك إلا وجها واحدا فنذكر ها هنا ما للفقهاء من المذاهب ليتم فائدتها قال مالك وأصحابه من نسي صلاة أو فاتته في السفر فلم يذكرها إلا مقيما قصرها وإن سافر بعد خروج الوقت ولم يصل صلاة الوقت في الحضر صلاها مسافرا صلاة مقيم كما لزمته إنما يقضي ما فاته على حسب ما فاته وهو قول أبي حنيفة والثوري وقال الأوزاعي والشافعي وعبد الله بن الحسن والحسن بن صالح وأحمد بن حنبل يصلي في المسألتين جميعا صلاة حضر وقد كان الشافعي يقول ببغداد مثل قول مالك ثم رجع بمصر إلى ما ذكرنا عنه وهو تحصيل مذهبه وقال الحسن البصري وطائفة من البصريين من نسي صلاة في حضر فذكرها في السفر صلاها سفرية ومن نسيها في السفر وذكرها في الحضر صلاها حضرية أربعا لأنها لا تجب عليه إلا في الحين الذي يذكرها فيه كما لو ذكرها وهو مريض أو ذكرها وهو في صحة وقد لزمته في مرضه صلاها على حاله وبهذا قال بن علية وبن المديني والطبري باب صلاة النافلة في السفر بالنهار والصلاة على الدابة ذكر فيه مالك عن نافع عن بن عمر أنه كان لا يصلي مع صلاة الفريضة في السفر شيئا قبلها ولا بعدها إلا من جوف الليل فإنه كان يصلي على الأرض وعلى راحلته حيث توجهت

وذكر عن القاسم بن محمد وعروة بن الزبير وأبي بكر بن عبد الرحمن أنهم كانوا يتنفلون في السفر وعن نافع أيضا أن عبد الله كان يرى ابنه يتنفل في السفر فلا ينكر عليه وهذا الخبر خلاف ما روي عن بن عمر لو تنفلت في السفر لأتممت إلا أن بن عمر قد احتج لفعله ذلك بما نذكره عنه بعد في هذا الباب إن شاء الله وهذه الآثار كلها دالة على أن الإنسان مخير في النافلة وفي صلاة السنة الركعتين قبل الظهر وبعدها وبعد المغرب إن شاء فعل ذلك فحصل على ثوابه وإن شاء قصر ومعلوم أن المرء مخير في فعل النافلة في الحضر فكيف في السفر وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنفل في السفر وفيه الأسوة الحسنة روى الليث بن سعد عن صفوان بن سليم عن أبي بسرة عن البراء بن عازب قال سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني عشرة سفرة فما رأيته يترك الركعتين قبل الظهر حدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا بكر قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى القطان عن بن أبي ذئب عن بن سراقة قال سمعت بن عمر يقول رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي قبلها ولا بعدها في السفر وحدثنا عبد الوارث قال حدثنا عيسى بن حفص الغمري عن أبيه قال كنت مع بن عمر في مصر فصلى بنا ركعتين ثم انصرف إلى خشبة رحله فاتكأ عليها فرأى قوما وراءه قياما فقال ما يصنع هؤلاء قلت يسبحون قال لو كنت مسبحا لأتممت صلاتي يا بن أخي صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزد على ركعتين ركعتين حتى مضى ثم صحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين ركعتين ثم صحبت عمر فلم

يزد على ركعتين ركعتين ثم صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين ركعتين وحدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا أبو يحيى بن أبي ميسرة قال حدثنا مطرف قال حدثنا عبد الله بن عمر عن عمه عيسى بن حفص عن أبيه أنه قال سافرت مع عبد الله بن عمر فذكر مثله قال أبو عمر هذا المعنى محفوظ عن بن عمر من وجوه وقد رويت آثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ربما تنفل في السفر وأنه كان يرتحل من منزل ينزله حتى يصلي ركعتين وأهل العلم لا يرون بالنافلة في السفر بأسا كما قال مالك رحمه الله قال يحيى سئل مالك عن النافلة في السفر فقال لا بأس بذلك بالليل والنهار وقد بلغني أن بعض أهل العلم كان يفعل ذلك وفي قوله بعض أهل العلم دليل على أن منهم من كان لا يتنفل في السفر وذلك كله على ما وصفنا وبالله التوفيق وقد تقدم في كتابنا هذا عن بن عباس أنه كان يأمر بالنافلة في السفر ويقول كما يتنفل في الحضر بعد الأربع فكذلك يتنفل في السفر بعد الركعتين هذا معنى قوله دون لفظه وأما حديث مالك في هذا الباب عن عمرو بن يحيى وسعيد بن يسار عن بن عمر أنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو على حمار وهو متوجه إلى خيبر

وحديثه عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي على راحلته في السفر حيث توجهت به وكان بن عمر يفعله لم يذكر مالك رحمه الله في حديثه هذا أنه كان ذلك منه صلى الله عليه وسلم تطوعا في غير المكتوبة وقد ذكره موسى بن عقبة وشعبة عن عبد الله بن دينار عن عمر وذكره بن شهاب عن أبيه عن سالم ورواه القاسم بن محمد ونافع عن بن عمر كلهم يذكر فيه التطوع وهذا أمر لا خلاف فيه والحمد لله وقد انعقد الإجماع على أنه لا يجوز أن يصلي أحد فريضة على الدابة في غير شدة الخوف فكفى بهذا بيانا وحجة وقد ذكرنا الآثار بما وصفنا بالأسانيد في كتاب التمهيد وأما قول الشيخ رحمه الله أن عمرو بن يحيى قد انفرد بذكر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على الحمار في السفر فإنما قال ذلك لأن المعروف المحفوظ في حديث بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي النافلة في السفر على راحلته لا على الحمار حيث توجهت به وهذا إنما أنكر العلماء منه اللفظ دون المعنى ولا خلاف بين الفقهاء في جواز صلاة النافلة على الدابة حيث توجهت براكبها في السفر وقد ذكرنا في التمهيد حديث جابر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي أين ما كان وجهه على الدابة

عن الحسن البصري قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون في أسفارهم على دوابهم أينما كانت وجوههم وهذا أمر مجتمع عليه لا خلاف فيه بين العلماء كلهم في تطوع المسافر على دابته حيث توجهت به للقبلة وغيرها يومئ إيماء يجعل السجود أخفض من الركوع ويتشهد ويسلم وهو جالس على دابته وفي محله إلا أن بينهم جماعة يستحبون أن يفتتح المصلي صلاته إلى القبلة في تطوعه على دابته محرم بها وهو مستقبل القبلة ثم لا يبالي حيث توجهت به ومنهم من لم يستحب ذلك وقال كما يجوز أن يكون في سائر صلاة إلى غير القبلة عامدا وهو عالم بذلك فكذلك يجوز افتتاحها إلى غير القبلة وإلى هذا ذهب مالك وأصحابه وذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو ثور إلى القول الأول واحتج بعضهم بحديث الجارود بن أبي سبرة عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة فكبر ثم صلى حيث وجهه ركابه وقد ذكرنا إسناده في التمهيد وقال أحمد بن حنبل وأبو ثور هكذا ينبغي أن يفعل من يتنفل على راحلته في السفر وكان عبد الله بن عمر يقول في قول الله تعالى فأينما تولوا فثم وجه الله البقرة أنها نزلت في صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفره التطوع على الراحلة وهو تأويل حسن للآية تعضده السنة وفي الآية قولان غير هذا أحدهما أنها نزلت في قول اليهود في القبلة

والآخر أنها نزلت في قوم كانوا في سفر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة ظلماء فلم يعرفوا القبلة واجتهدوا وصلوا إلى جهات مختلفة ثم بان لهم فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل فأينما تولوا فثم وجه الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مضت صلاتكم واختلف الفقهاء في المسافر سفرا لا يقصر فيه الصلاة هل له أن يتنفل على راحلته ودابته أم لا فقال مالك وأصحابه لا يتطوع على الراحلة إلا في سفر يقصر في مثله الصلاة وحجتهم في ذلك أن الأسفار التي حكى بن عمر وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى فيها على راحلته تطوعا كانت مما تقصر فيها الصلاة فكأن الرخصة خرجت على ذلك فلا ينبغي أن تتعدي لأنه شيء وقع به البيان كأنه قال إذا سافرتم مثل سفري هذا فافعلوا بفعلي هذا والله أعلم ولأن ترك القبلة لا يجوز للمصلي إلا بالإجماع أو سنة لا تتفدى وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والحسن بن حي والليث بن سعد وداود بن علي لا يجوز التطوع على الراحلة خارج المصر في كل سفر قصير أو طويل ولم يراعوا مسافة قصر الصلاة وحجتهم أن الآثار الواردة بذلك ليس في شيء منها تحديد سفر ولا تخصيص مسافة فوجب امتثال العموم في ذلك وقال أبو يوسف يصلي في المصر على الدابة أيضا بالإيماء لحديث يحيى بن سعيد عن أنس بن مالك أنه صلى على حمار في أزقة المدينة يومئ إيماء قال أبو عمر ذكر مالك حديث يحيى بن سعيد هذا عن أنس فلم يقل فيه في أزقة المدينة بل قال فيه عن يحيى بن سعيد رأيت أنس بن مالك في السفر وهو يصلي على حمار متوجها إلى غير القبلة يركع ويسجد إيماء من غير أن يضع وجهه على شيء

ولم يروه عن يحيى بن سعيد أحد يقاس بمالك وقد قال فيه في السفر فبطل بذلك قول من قال في أزقة المدينة يريد الحضر وقال الطبري يجوز لكل راكب وماش حاضرا كان أو مسافرا أن يتنفل على دابته وعلى راحلته وعلى رجليه وذكر بعض أصحاب الشافعي أن مذهبهم جواز التنفل على الدابة في الحضر والسفر قال الأثرم قيل لأحمد بن حنبل التنفل على الدابة في الحضر فقال أما في السفر فقد سمعنا وإنما في الحضر فما سمعنا قال وقيل لأحمد بن حنبل يصلي المريض المكتوبة على الدابة والراحلة فقال لا يصلي أحد المكتوبة على الدابة مريض ولا غيره إلا في الطين والتطوع وكذلك بلغنا يصلي ويومئ قال وأما في الخوف فقد قال الله تعالى فإن خفتم فرجالا أو ركبانا البقرة قال بن عمر مستقبل القبلة وغير مستقبلها قال أبو عمر سيأتي القول في صلاة الطين وفي صلاة الخوف في موضعهما من هذا الباب إن شاء الله وقد اختلف قول مالك في المريض يصلي على محمله فمرة قال لا يصلي على ظهر البعير فريضة وإن اشتد مرضه حتى لا يقدر أن يجلس لم يصل إلا بالأرض ومرة قال إذا كان ممن لا يصلي بالأرض إيماء فإنه يصلي على البعير بعد أن يوقف له ويستقبل القبلة وقال بن القاسم من تنفل في محمله تنفل جالسا يجعل قيامه تربعا ويركع واضعا يديه على ركبتيه ثم يرفع رأسه قال عبد العزيز بن أبي سلمة ويزيل يديه ثم يثني رجليه ويومئ بسجوده فإن لم يقدر أومأ متربعا حدثنا سعيد قال حدثنا قاسم قال حدثنا محمد قال حدثنا أبو بكر قال حدثنا بن علية عن هشام الدستوائي عن يحيى عن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن عن جابر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته نحو المشرق فإذا أراد أن يصلي المكتوبة نزل فاستقبل القبلة

باب صلاة الضحى ذكر مالك فيه حديث أم هانئ من طريق موسى بن ميسرة عن أبي مرة عن أم هانئ بنت أبي طالب أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى عام الفتح ثماني ركعات ملتحفا في ثوب واحد وذكر مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله أن أبا مرة لمولى عقيل بن أبي طالب أخبره أنه سمع أم هانئ بنت أبي طالب تقول ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره بثوب قالت فسلمت عليه فقال من هذه فقلت أم هانئ بنت أبي طالب فقال مرحبا بأم هانئ فلما فرغ من غسله قام فصلى ثماني ركعات ملتحفا في ثوب واحد ثم انصرف فقلت يا رسول الله زعم بن أمي علي أنه قاتل رجلا أجرته فلان بن هبيرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ قالت أم هانئ وذلك ضحى وقد ذكرنا في التمهيد أن الصحيح في أبي مرة أنه مولى عقيل كما قال مالك ولكنه يقال فيه مولى أم هانئ واسمه يزيد واسم أم هانئ فاخته وقد ذكرناها في كتاب الصحابة بما ينبغي من ذكرها

احتج بهذا الحديث الكوفيون في جواز صلاة النهار ثماني ركعات وأقل من ذلك وأكثر بلا فصل من سلام وهذا الذي نزعوا به من هذا الحديث لا حجة لهم فيه لقوله صلى الله عليه وسلم صلاة الليل والنهار مثنى مثنى وقد أوضحنا هذا المعنى فيما مضى من كتابنا هذا وقد روى بن وهب عن عياض الفهري عن مخرمة بن سليمان عن كريب عن بن عباس عن أم هانئ في هذا الحديث من صلاة الضحى أنه صلى ثماني ركعات يسلم بين كل ركعتين منها وقد احتج بهذا الإسناد أحمد بن حنبل قال الأثرم قيل لأحمد أليس قد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى قبل الظهر أربعا فقال وقد روي أيضا أنه صلى الضحى ثمانيا فتراه لم يسلم فيها وذكر حديث بن وهب هذا بإسناده عن بن عباس عن أم هانئ بنت أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الضحى ثماني ركعات يسلم بين كل ركعتين وأما قوله ملتحفا في ثوب واحد فقد مضى القول في الصلاة في الثوب الواحد فيما تقدم من هذا الكتاب ومضى تفسير الالتفاف والالتفاع والالتحاف فيما تقدم منه أيضا وأما حديثه في هذا الباب عن أبي النضر عن أبي مرة عن أم هانئ ففيه من الفقه الاغتسال بالعراء إلى سترة لأن اغتساله ذلك كان منه صلى الله عليه وسلم وهو بالأبطح وفيه كان يومئذ نزوله حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل قال حدثنا الحميدي وحدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا محمد بن عبد السلام الحسيني قال حدثنا محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني قال حدثنا سفيان قال حدثنا محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي مرة مولى عقيل عن أم هانئ قالت أتاني يوم الفتح حموان لي فأجرتهما فجاء علي يريد

قتلهما فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قبته بالأبطح بأعلى مكة فوجدت فاطمة فأخبرتها فكانت أشد علي من علي فقالت تؤمنين المشركين وتجيرينهم فبينما أنا أكلمها إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى وجهه وهج الغبار فقلت يا رسول الله إني أمنت حموين لي وإن بن أمي عليا يريد قتلهما فقال ما كان ذلك له قد أجرنا من أجرت وأمنا من أمنت ثم أمر فاطمة أن تسكب له غسلا فسكبت له في جفنة إني لأرى فيها أثر العجين ثم سترت عليه فاغتسل فقام فصلى الضحى ثماني ركعات في ثوب واحد قد خالف بين طرفيه لم أره صلاها قبل ولا بعد وفيه أن ستر ذوي المحارم عند الاغتسال مباح حسن وفيه جواز السلام على من يغتسل وفي حكم ذلك السلام على من يتوضأ ورد المتوضئ والمغتسل السلام في ذلك كرده لو لم تكن ذلك حالته وقد قال الله عز وجل وإذا حييتم بتحية فحيو بأحسن منها أو ردوها النساء ولم يخص حالا من حال إلا حالا لا يجوز فيه الكلام وقد احتج بهذا الحديث من رد شهادة الأعمى وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يميز صوت أم هانئ مع علمه بها حتى قال لها من هذه فقالت أنا أم هانئ فلم يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم صوتها لأنه لم يرها وكل من لا يرى فذلك أحرى وفيه ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخلاق الجميلة الحسنة وصلة الرحم وطيب الكلام ألا ترى إلى قوله عليه السلام مرحبا بأم هانئ ويروي مرحبا يا أم هانئ والرحب والتسهيل ما يستدل به على فرح المرور بالزائر وفرح المقصود إليه بالقاصد وهذا معلوم عند العرب قال شاعرهم فقلت له أهلا وسهلا ومرحبا فهذا مبيت صالح وصديق وهذا البيت من أبيات حسان لعمرو بن الأهتم وهو الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سمعه مدح الزبرقان بن برد ثم ذمه لم يتناقص في قوله إن من البيان لسحرا

وقد ذكرت الشعر في كتاب بهجة المجالس ومثل هذا كثير في أشعارهم وأخبارهم وقد تقدم القول في صلاة الثماني ركعات وأما قولها زعم بن أمي علي أنه قاتل رجل أجرته فلان بن هبيرة ففيه ما كانوا عليه من تسمية كل شقيق بابن أم دون بن أب عند الدعاء لهم والخبر عندهم يدلك بذلك على قرب المحل من القلب والمنزلة من النفس إذ جميعهم بطن واحد ونحو هذا وبهذا نطق القرآن على لغتهم قال الله عز وجل حاكيا عن هارون بن عمران أخي موسى بن عمران يبنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني طه ويا بن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلوننى الأعراف وهما لأب وأم وأما قوله صلى الله عليه وسلم قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ ففيه دليل على جواز أمان المرأة وأنها إذا أمنت من أمنت حرم قتله وحقن دمه وأنها لا فرق بينها في ذلك وبين الرجل وإن لم يكن تقاتل وعلى هذا مذهب جمهور الفقهاء بالحجاز والعراق مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم والثوري والأوزاعي وأبي ثور وأحمد بن حنبل وأسحاق وداود وغيرهم وقال عبد الملك بن الماجشون أمان المرأة موقوف على جواز الإمام فإن أجازه جاز وإن رده رد لأنها ليست ممن يقاتل ولا ممن لها سهم في الغنيمة واحتج من ذهب هذا المذهب بأن أمان أم هانئ لو كان جائزا على كل حال دون إذن الإمام ما كان علي ليريد قتل من لا يجوز قتله لأمان من يجوز أمانه فلو كان أمانها جائزا لقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمنته أنت أو غيرك فلا يحل قتله فلما قال لها قد أمنا من أمنت وأجرنا من أجرت كان ذلك دليلا على أن أمان المرأة موقوف على إجازة الإمام أو رده واحتج الآخرون وهم الأكثرون من العلماء بأن عليا وغيره لم يكن يعلم إلا ما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم من علم دينه ألا ترى إلى قول بن عمر بعث إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن لا نعلم شيئا فإنما نفعل كما رأيناه يفعل ويحتمل قوله عليه السلام قد أجرنا من أجرت أي في حكمنا وسنتنا إجازة من أجرته أنت ومثلك ولم يحتج إلى قوله لها أو مثلك من النساء لأنه كان على

خلق عظيم وأراد تطييب نفسها بإسعافها في رغبتها وإن كانت قد صادفت حكم الله في ذلك والدليل على صحة هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ويرد عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم ومعنى قوله تتكافأ دماؤهم يريد أن شريفهم يقتل بوضيعهم إذا شملهم الإسلام وجمعهم الإيمان والحرية وفي ذلك دليل على أن الكفار لا تتكافأ دماؤهم لقوله المسلمون تتكافأ دماؤهم وهذا موضع اختلف فيه العلماء ليس هذا موضع ذكره ومعنى قوله يسعى بذمتهم أدناهم أن كل مسلم أمن من الحربيين أحدا جاز أمانه دنيئا كان أو شريفا رجلا كان أو امرأة عبدا كان أو حرا وفي هذا حجة على من لم يجز أمان المرأة وأمان العبد ومعنى قوله ويرد عليهم أقصاهم يريد السرية إذا خرجت من العسكر فغنمت أبعدت في خروجها في ذلك ولم تبعد ترد ما غنمت عليها وعلى العسكر الذي خرجت منه لأن به وصلت إلى ما وصلت إليه ومعنى قوله وهم يد على من سواهم أن أهل الحرب إذا نزلوا بمدينة أو قرية من قرى المسلمين فواجب على جماعة المسلمين أن يكونوا يدا واحدة على الكفار حتى ينصرفوا عنهم إلا أن يعلموا أن بهم قوة على مدافعتهم فيكون حينئذ مدافعتهم ندبا وفضلا لا واجب فرض ومما يدل على صحة ما ذهب إليه جمهور العلماء في جواز أمان المرأة مع قوله عليه السلام ويسعى بذمتهم أدناهم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أم هانئ هذا من رواية الحميدي عن بن عيينة عن بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي مرة عن أم هانئ وقد ذكرناه في هذا الباب وفيه فقلت يا رسول الله إني أجرت

حموين لي وإن بن أمي عليا أراد قتلهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس ذلك له قد أجرنا من أجرت وأمنا من أمنت وفي قوله في هذا الحديث ليس ذلك له دليل على صحة ما قلنا وبالله التوفيق ويدل على ذلك أيضا ما رواه إبراهيم النخعي عن الأسود عن عائشة قالت إن كانت المرأة لتجير على المسلمين فيجوز وحديث عمرو بن مرة عن أبي البختري عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذمة المسلمين واحدة وإن جارت عليهم جارية فلا تخفروها فإن لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة وقد ذكرنا إسناد هذين الحديثين في التمهيد وروى الوليد بن رباح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يجير على المسلمين أدناهم وقد ذكرنا إسناده أيضا في التمهيد وروى مالك عن عبد الله بن دينار عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة الحديث وأما اختلاف العلماء في أمان العبد فقال مالك والشافعي وأصحابهما والثوري والأوزاعي والليث بن سعد وأحمد وأسحاق وأبو ثور وداود أمانه جائز قاتل أو لم يقاتل وهو قول محمد بن الحسن وقال أبو حنيفة أمانه غير جائز إلا أن يقاتل

وهو قول أبي يوسف وروي عن عمر معناه والحجة فيما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم مما أوردنا في هذا الباب والحمد لله وأما قول أم هانئ في الحديث وذلك ضحى ففيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى وليس في قول عائشة في هذا الباب ما سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحة الضحى قط وإني لأستحبها ما يرد برواية من روى شيئا عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الضحى لأن من لم يعلم ليس بشاهد ولا يحتج بمن لا علم له فيما يوجد علمه عند غيره ولكن قولها ذلك يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل الضحى في بيتها قط وليس أحد من الصحابة إلا وقد فاته من علم السنن ما وجد عند غيره من هو أقل ملازمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أوضحنا هذا المعنى في غير هذا الموضع وقولها سبحة الضحى تعني صلاة الضحى والسبحة الصلاة النافلة قال الله عز وجل فلولا أنه كان من المسبحين الصافات وقال أهل العلم بالتأويل من المصلين إلا أن السبحة إنما لزمت صلاة النافلة في الأغلب وقد روي شعبة عن عمرو بن مرة عنه بن أبي ليلى قال ما خبرنا أحدا أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الضحى غير أم هانئ وفي رواية أبي صالح مولى أم هانئ عن أم هانئ قالت لما كان عام الفتح اغتسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى ثماني ركعات فلم يره أحد صلاهن بعد وهذا يدل على صحة قول عائشة في صلاة الضحى

وقال عبد الله بن الحارث سألت وحرصت على أن أجد أحدا يحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الضحى فسألت عن ذلك والصحابة متوافرون فلم أجد أحدا غير أم هانئ وحدثني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم فتح مكة فأمر بما يوضع له فاغتسل ثم صلى في بيتها ثماني ركعات وذكر تمام الخبر على ما في التمهيد قال عبد الله بن الحارث فحدثت به بن عباس فقال إن كنت لأمر على هذه الآية يسبحن بالعشى والإشراق ص فهذه صلاة الإشراق فهذه الآثار كلها تدل على أن قول عائشة ما سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحة الضحى قط هو الأغلب من أمره وأنه لم يصلها في بيتها والله أعلم وفي صلاة الضحى آثار معلومة كثيرة منها حديث أبي ذر يصبح على كل سلامى بن آدم صدقة فإماطة الأذى عن الطريق صدقة والتسليم على من لقيت صدقة والأمر بالمعروف صدقة والنهي عن المنكر صدقة وذكر الصلاة والصوم والحجة والتسبيح والتحميد والتكبيركل ذلك صدقة ثم قال يجزئ أحدكم من ذلك ركعتا الضحى وهذا أبلغ شيء في فضل صلاة الضحى وحديث أبي ذر أيضا أوصاني خليلي بثلاث لا ندعهن إن شاء الله أبدا صلاة الضحى وصيام ثلاثة أيام من كل شهر والوتر قبل النوم وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله

وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله وقد ذكرنا الأسانيد عنهم بذلك في التمهيد وذكرنا هناك أيضا حديث سهل بن معاذ الجهني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل صلاة الضحى وحديث نعيم بن همار قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يقول الله عز وجل يا بن آدم صل لى في أول النهار أربع ركعات أكفك آخره حملوه على الضحى كما فعلوا في صلاته صلى الله عليه وسلم لعتبان بن مالك وقد ذكر ذلك مالك وسيأتي في بابه إن شاء الله تعالى وروى الأعمش عن ثابت عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صل صلاة الضحى فإنها صلاة الأوابين ومن حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من حافظ على صلاة الضحى غفرت ذنوبه ومن حديث زيد بن أرقم قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل قباء وهم يصلون الضحى فقال صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال حدثنا خلف بن قاسم قال حدثنا أبو بكر محمد بن عمير بن إسماعيل قال حدثنا يحيى بن أيوب بن بادي حدثنا حامد بن يحيى البلخي قال حدثنا سفيان وجرير ويعلى بن عبيد ووكيع عن عبيدة بن معتب عن إبراهيم عن بن منجاب عن قزعة عن القرثع الضبي عن أبي أيوب الأنصاري قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى أربع ركعات عند زوال الشمس فسألته عن ذلك فقال يا أبا أيوب إن أبواب الجنة تفتح عند زوال الشمس فأحب أن يصعد لي في تلك الساعة خير قال

قلت يا رسول الله أتفصل بينهما بكلام أو بسلام قال لا وأما الصحابة فمنهم من كان يصلي الضحى ومنهم من لم يصلها ذكر بن عيينة عن إسماعيل عن الشعبي قال سمعت بن عمر يقول ما صليت الضحى منذ أسلمت وقال أبو إسحاق السبيعي عن التيمي سألت بن عمر عن صلاة الضحى فقال أو للضحى صلاة قال بن عمر ما صلاهما أبو بكر ولا عمر وما أخال النبي صلى الله عليه وسلم صلاها وقال عبيدة لم يخبرني أحد أنه رأى بن مسعود يصلي الضحى وكان علقمة لا يصلي الضحى وقال إبراهيم كانوا يصلون الضحى ويدعون ويكرهون أن يدعوها كالمكتوبة وصلاها بن عباس وسعيد بن المسيب والضحاك وجماعة ذكرهم بن أبي شيبة وغيره وكذلك التابعون في ذلك مختلفون منهم من كان يصليها ومنهم من لم يصلها وأما عائشة فكانت تصليها ثماني ركعات وقالت لو نشر لي أبواي ما تركتهن وبالله التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل باب جامع سبحة الضحى ذكر فيه مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس أن جدته مليكة دعت رسول الله إلى طعام صنعته فأكل منه ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قوموا فلأصل لكم قال أنس فقمت إلى حصير لنا قد إسود من طول ما لبس

فنضحته بماء فقام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصففت أنا واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا فصلى بنا ركعتين ثم انصرف في هذا الحديث إجابة الدعوة إلى الطعام في غير الوليمة وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة وفيه أن المرأة المتجالة والمرأة الصالحة إذا دعت إلى طعام أجيبت قال الله عز وجل والقوعد من النساء التي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن النور وفيه من الفقه أن من حلف ألا يلبس ثوبا ولم تكن له نية ولا لكلامه بساط يعلم به مخرج يمينه فإنه يحنث بما ينوي ويبسط من الثياب لأن ذلك يسمى لباسا ألا ترى إلى قوله فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس وأما نضح الحصير فإن إسماعيل بن إسحاق وغيره من أصحابنا كانوا يقولون إنما كان ذلك ليلين الحصير لا لنجاسة فيه وقال بعض أصحابنا إن النضح طهارة لما شك فيه لتطييب النفس عليه اتباعا لعمر في قوله أغسل ما رأيت وأنضح ما لم أره قال أبو عمر الذي أقول به أن ثوب المسلم محمول على الطهارة حتى يستيقن بالنجاسة وأن النضح فيما قد يحبس لا يزيده إلا شرا وقد يسمى الغسل نضحا وقد ذكرنا ذلك بالشاهد عليه فيما تقدم من هذا الكتاب إلا أن من قصد بالنضح الذي هو الرش إلى قطع الوسوسة وحزازة النفس فيما يشك فيه اتباعا لعمر وغيره من السلف واتباعا للأصل في الثوب أنه على الطهارة محمول حتى نضح النجاسة فيه إلا أن يكون في النفس فيما شك فيه اتباعا شيء من الشك يقطع بالرش على ما جاء عن السلف فهو احتياط غير مضر وبالله التوفيق وأما النضح بالخاء المنقوطة فالكثير المنهمر يدل على ذلك قول الله عز وجل فيهما عينان نضاختان الرحمن وفي هذا الحديث حجة على الكوفيين القائلين إذا كانوا ثلاثة وأرادوا أن يصلوا

جماعة قام إمامهم وسطهم لحديث رووه عن علقمة والأسود أن بن مسعود صلى بهما فقام وسطهما وقد ذكرنا في التمهيد من رفع هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم والصحيح أنه موقوف وقال أهل الحجاز وأكثر أهل العلم يقومان خلفه كما لو كانوا ثلاثة سوى الإمام ولم يختلفوا فيما لو كانوا ثلاثة سوى الإمام أنه يقف أمامهم ويقومون خلفه وكذلك إذا كانوا اثنين سوى الإمام بدليل هذا الحديث عن أنس قوله فصففت أنا واليتيم من ورائه وقد روينا عن جابر بن عبد الله قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبجبار بن صخر فأقامنا خلفه وزعم الشافعي أن فيه حجة على من أبطل صلاة المصلي خلف الصف وحده لأن العجوز قد قامت خلف الصف في هذا الحديث وكان أحمد بن حنبل والحميدي وأبو ثور يذهبون إلى الفرق بين الرجل والمرأة في المصلي خلف الصف فكانوا يرون الإعادة على من صلى خلف الصف وحده من الرجال لحديث وابصة بن معبد عن النبي عليه السلام بذلك ولا يرون على المرأة إذا صلت خلف الصف شيئا لهذا الحديث وقالوا سنة المرأة أن تقوم خلف الرجال لا تقوم معهم قالوا فليس في حديث أنس هذا حجة لمن أجاز الصلاة للرجل خلف الصف وحده قال أبو عمر لا خلاف في أن سنة النساء القيام خلف الرجال لا يجوز لهن القيام معهم في الصف وقد ذكرنا في التمهيد حديث شعبة عن عبد الله بن المختار عن موسى بن أنس عن أنس قال صلى النبي صلى الله عليه وسلم بي وبامرأة من أهلي فأقامني عن يمينه والمرأة خلفنا

وحديث أبي مالك الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصف الرجال ثم الصبيان خلف الرجال ثم النساء خلف الصبيان في الصلاة وأما الشافعي فقد استدل على جواز صلاة الرجل خلف الصف وحده بحديث أنس هذا وأردفه بحديث أبي بكرة حين ركع خلف الصف وحده فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم زادك الله حرصا ولا تعد ولم يأمره بإعادة الصلاة قال وقوله لأبي بكرة لا تعد يعني لا تعد أن تتأخر عن الصلاة حتى تفوتك أو تفوتك منها ركعة قال وإذا جاز الركوع للرجل خلف الصف وحده أجزأ ذلك عنه فكذلك سائر صلاته لأن الركوع ركن من أركانها فإذا جاز للمصلي أن يركع خلف الصف وحده جاز له أن يسجد وأن يتم صلاته والله أعلم وقد احتج جماعة من أصحابنا ما احتج به الشافعي في هذه المسألة والذي أقول إنه ليس في هذا الباب حجة على من أنكر صلاة الرجل وحده خلف الصف لأن السنة المجتمع عليها أن تقوم المرأة خلف الرجال ولكني أقول إن الحديث في إبطال صلاة الرجل خلف الصف وحده مضطرب الإسناد لا يقوم به حجة وقد اتفق فقهاء الحجاز والعراق على ترك القول به منهم مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم ومن سلك سبيلهم كلهم يرى أن صلاة الرجل خلف الصف جائزة وفي هذا الحديث أيضا ما يدل على أن الصبي إذا عقل الصلاة حضرها مع الجماعة ودخل معهم في الصف إذا كان يؤمن منه اللعب والأذى وكان ممن يفهم معنى ما هو فيه من الصلاة وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان إذا أبصر صبيا في الصف أخرجه وعن زر بن حبيش وأبي وائل مثل ذلك وهذا يحتمل أن يكون ذلك الصبي من لا يؤمن لعبة وعبثه أو يكون كثرة التقدم

له في الصف مع الشيوخ والأصل ما ذكرنا بحديث هذا الباب والله أعلم وقد كان أحمد بن حنبل يذهب إلى كراهة ذلك قال الأثرم سمعت أحمد بن حنبل يكره أن يقوم مع الناس في المسجد إلا من قد احتلم أو انبت أو بلغ خمس عشرة سنة فذكرت له حديث أنس واليتيم فقال ذلك في التطوع وفي هذا الحديث صلاة الضحى ولذلك ساقه مالك وقد مضى القول في صلاة الضحى في الباب قبل هذا وقد ذكرنا في التمهيد حديث شعبة عن بن سيرين عن أنس بن مالك قال كان رجل ضخم لا يستطيع أن يصلي مع النبي عليه الصلاة والسلام فقال إني لا أستطيع أن أصلي معك فلو أتيت منزلي فصليت فأقتدي بك فصنع الرجل طعاما ثم دعا بالنبي عليه الصلاة والسلام ونضح حصيرا لهم فصلى النبي صلى الله عليه وسلم عليه ركعتين فقال رجل من آل الجارود لأنس أكان رسول الله يصلي الضحى فقال ما رأيته صلاها إلا يومئذ وأما حديثه في هذا الباب عن بن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبيه قال دخلت على عمر بالهاجرة فوجدته يسبح فقمت وراءه فقربني حتى جعلني عن يمينه فلما جاء يرفأ تأخرت فصففنا وراءه ففي هذا الحديث من الفقه معرفة صلاة عمر في الضحى وأنه كان يصليها وقد تقدم أن من الصحابة من صلاها ومنهم من لم يصلها وأن بن عمر كان ممن لا يعرفها ويقول وهل للضحى صلاة وكان أبوه يصليها وكذلك كان بن عمر أيضا لا يقنت ولا يعرف القنوت وروي القنوت عن عمر من وجوه وكان بن عمر أيضا يصلي بعد العصر ما لم تصفر الشمس وتدنو للغروب وكان عمر يضرب الناس بالدرة عليها ومثل هذا كثير من اختلاف مذهبيهما

وفيه أن الإمام إذا قام أحد معه فسنته أن يقوم عن يمينه ويقرب منه وهذا الذي فعله عمر موجود في السنة الثابتة التي رواها بن عباس وغيره وقد صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن عباس مثل ما صنع عمر هذا وقد تقدم هذا في باب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل من هذا الكتاب وفيه أن العمل القليل في الصلاة لا يضرها مثل المشي إلى الفرج والتقدم اليسير والتأخر إذا كان ذلك مما ينبغي عمله في الصلاة لأن السنة في الجماعة خلف الإمام في أن الواحد يقوم عن يمينه إلا أن الاثنين مختلف فيهما والثلاثة فما زاد ولا خلاف أن سنتهم القيام خلف الإمام وقد ذكرنا هذه المسألة فيما تقدم والحمد لله باب التشديد في أن يمر أحد بين يدي المصلي ذكر فيه مالك عن زيد بن أسلم عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدا يمر بين يديه وليدرأه ما استطاع فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان قد ذكرنا عبد الرحمن بن أبي سعيد في التمهيد وذكرنا أباه في الصحابة وعن بن وهب في هذا الحديث إسناد آخر عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري وهو محفوظ أيضا لعطاء عن أبي سعيد وعن أبي سعيد في هذا طرق قد ذكرتها وبعضها في التمهيد وفي هذا الحديث كراهية المرور بين يدي المصلي إذا كان وحده وصلى إلى غير سترة وكذلك حكم الإمام إذا صلى إلى غير سترة وأشد من ذلك أن يدخل المار بين يدي المصلي وبين سترته ومن السنة أن يدنو المصلي من سترته

هذا كله في الإمام وفي المنفرد فأما المأموم فلا يضره من مر بين يديه كما أن الإمام والمنفرد لا يضر واحدا منهما من مر من وراء سترته لأن سترة الإمام سترة لمن خلفه وقد قيل الإمام نفسه سترة لمن خلفه والدليل على أن ما قلناه كما وصفنا في الإمام والمنفرد دون المأمومين قوله صلى الله عليه وسلم إذا كان أحدكم يصلي ومعناه عند العلماء إذا كان أحدهم يصلي وحده لحديث بن عباس فمررت بين يدي بعض الصف فنزلت وأرسلت الأتان ترتع فدخلت الصف فلم ينكر ذلك علي أحد وإذا كان الإمام أو المنفرد مصليا إلى سترة فليس عليه أن يدفع من يمر من وراء سترته هذا كله لا خلاف فيه بين العلماء على ما رسمته ومما يوضح لك أن الإمام سترة لمن خلفه حديث هشام بن الغازي عن نافع عن بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر أو العصر فجاءت بهمة تمر بين يديه فجعل يداريها حتى رأيته ألصق منكبه بالجدار فمرت خلفه وقد ذكرنا إسناده في التمهيد وذكرناه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله وفي هذا الحديث دليل على جواز العمل في الصلاة وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز منه إلا القليل الذي لا يخرج المصلي عن عمل صلاته إلى غيرها ولا يشتغل به عنها نحو حك الجسد حكا غير طويل وأخذ البرغوث وقتل العقرب بما خف من الضرب وقد أوضحنا هذا المعنى في مواضع من هذا الكتاب وأما قوله في الحديث فإن أبى فليقاتله فالمقاتلة هنا المدافعة وأحسبه كلاما خرج على التغليط ولكل شيء حد وأجمعوا أنه لا يقاتله بسيف ولا يبلغ به مبلغا يفسد به على نفسه صلاته وفي إجماعهم على هذا ما يبين لك المراد بمعنى الحديث فإن دافعه مدافعة لا يقصد بها إلا قتله فكان فيها تلف نفسه كان عليه ديته كاملة

في ماله وقد قيل على عاقلته وقيل هي هدر على حسب ثنية العاض وهذا كله يدل على أن فيه القود لا خلاف في ذلك والله أعلم وقد أجمعوا أيضا أنه إذا مر بين يديه ولم يدركه من مقامه الذي يقوم فيه أنه لا يمشي إليه كي لا يصير المصلي مثله وهذا كله يبين لك ما ادعيناه في معنى الحديث وأنه غير ظاهره وقال بن القاسم عن مالك إذا جاز المار بين يدي المصلي فلا يرده قال وكذلك لا يرده وهو ساجد وقال أشهب إذا مر من قدامه فليرده بإشارة ولا يمش إليه لأن مشية إليه أشد من مروره بين يديه قال فإن مشى إليه ورده لم تفسد بذلك صلاته وإنما ينبغي له أن يدرأه درأ لا يشتغل به عن صلاته فإن غلبة فليدعه يبوء بإثمه لأن الأصل في مروره أنه لا يقطع المار صلاة المصلي والكراهة للمار صلاة أكثر منها للمصلي ذكر بن أبي شيبة عن أبي معاوية عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن الأسود قال قال عبد الله من استطاع منكم أن لا يمر بين يديه وهو يصلي فليفعل فإن المار أبغض من الممر عليه وقد قال صلى الله عليه وسلم لا يقطع الصلاة شيء رواه أبو الخدري وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكرنا ذلك في التمهيد وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي خالد الأحمر وبن فضيل عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال إن مر بين يديك فلا ترده قال أبو عمر قد كان أبو سعيد الخدري يشدد في هذا وهو رواية الحديث طلبا لاستعمال ظاهره والله أعلم ذكر أبو بكر قال حدثنا أبو معاوية عن عاصم عن بن سيرين قال كان أبو سعيد الخدري قائما يصلي فجاء عبد الرحمن بن الحارث بن هشام يمر بين

يديه فمنعه فأبى أن لا يمضي فدفعه أبو سعيد فطرحه فقيل له تصنع هذا بعبد الرحمن فقال والله لو أبي إلا أن آخذ بشعره لأخذت قال وحدثنا أبو أسامة عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال سمعت عبد الحميد بن عبد الرحمن عامل عمر بن عبد العزيز ومر رجل بين يديه وهو يصلي فجبذه حتى كاد يخرق ثيابه وهذا يحتمل أن يكون المار عاتيا جبارا لا يريد الرجوع وقوله كاد يخرق ثيابه يدل على أنه لم يخرق ولكل شيء وجه والذي عليه جمهور العلماء ما وصفت لك وبالله التوفيق وقد روينا عن الثوري قال إنه ليمر بين يدي الرجل الضعيف فلا أكابره ويمر بين يدي المتجبر فلا أدعه ذكر بن أبي حاتم قال حدثنا أبو سعيد الأشج قال حدثنا أبو خالد قال سمعت سفيان الثوري يقول إنه ليمر بين يدي المسكين وأنا أصلي فأدعه فإذا مر أحد وعليه ثياب يتمشى بطرا لم أدعه وهذا يدل على أنه ليس بواجب عنده دفع المار وإنما هو شيء أباحته السنة للمصلي أن يفعله والكراهة كلها إنما هي للمار دون المصلي وذكر أبو داود من حديث أبي حاجب سليمان بن عبد الملك قال رأيت عطاء بن يزيد الليثي قائما يصلي فذهبت أمر بين يديه فردني ثم قال حدثني أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من استطاع أن لا يحول بينه وبين قبلته حاجز فليفعل وذكر عبد الرزاق عن الثوري عن عاصم عن محمد بن سيرين عن أبي العالية عن أبي سعيد الخدري قال مر رجل من بني مروان بين يدي في الصلاة فدفعته ثلاث مرات فشكاني إلى مروان فذكر ذلك لي فقلت لو أبى لأخذت شعره قال وأخبرني بن جريج قال سمعت سليمان بن موسى يحدث عطاء قال أراد داود بن مروان أن يمر بين يدي أبي سعيد وهو يصلي وعليه حلة له ومروان أمير بالمدينة فرده فكأنه أبى فلهزه في صدره فذهب الليثي إلى أبيه فأخبره فدعا

مروان أبا سعيد وهو يظن أنما لهزه من أجل حلته قال فذكر ذلك له فقال نعم قال النبي صلى الله عليه وسلم اردده فإن أبى فجاهده وذكر بن أبي شيبة قال حدثنا بن علية قال قلت لسعيد بن جبير أدع أحدا يمر بين يدي قال لا قلت فإن أبى قال فما تصنع قلت بلغني أن بن عمر كان لا يدع أحدا يمر بين يديه قال إن ذهبت تصنع صنيع بن عمر دق أنفك وقوله فإنما هو شيطان يعني قد بعد في فعله من الخير من قول العرب شطون أي عيدة وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى رجلا يتبع حمامة فقال شيطان يتبع شيطانة لأنه كان نهى عن اللعب بالحمام وتطييرها وأما حديثه عن أبي النضر عن بسر بن سعيد عن أبي جهيم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه فليس فيه أكثر من كراهة المرور بين يدي المصلي والتغليظ عليه والتشديد فيه ومعنى قوله ماذا عليه يريد ماذا عليه من الإثم وكذلك هو مفسر في رواية الثوري عن أبي النضر لهذا الحديث وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث لأن يقف أربعين عاما وروي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لو يعلم أحدكم ما له في

أن يمر بين يدي المصلي معترضا كان لأن يقف مائة عام خير له من الخطوة التي خطاها حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم قال حدثنا محمد قال حدثنا أبو بكر قال حدثنا وكيع عن عبد الله بن عبد الرحمن عن موهب عن عمه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو يعلم أحدكم فذكره وروى وكيع عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي عن مولى ليزيد بن ثروان عن يزيد بن نمران قال رأيت بتبوك رجلا مقعدا فقال مررت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا على حمار وهو يصلي فقال اللهم اقطع أثره فقال فما مشيت عليهما وأما قول كعب الأحبار لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يخسف به خير له من أن يمر بين يديه رواه مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن كعب فهو معنى حديث أبي النضر عن بسر بن سعيد عن أبي جهيم والمعنى فيه تعظيم الإثم والله أعلم بما ذكره من ذلك فإنه لا يقطع الصلاة شيء يمر بين يدي المصلي كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم والدليل على أنه لا يقطع صلاة المصلي مرور من مر بين يديه مع ما ذكرناه قبل حديث وكيع عن أسامة بن زيد عن محمد بن قيس عن أمه عن أم سلمة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فمر بين يديه عبد الله أو عمر بن أبي سلمة فقال بيده فرجع فمرت زينب بنت أم سلمة فقال بيده هكذا فمضت فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هن أغلب ألا ترى أنه لم يعد صلاته وهذا رد من قال المرأة تقطع الصلاة وقد ذكرنا الحجة في ذلك من الآثار المرفوعة عن عائشة في موضعه وأما حديثه في هذا الباب أنه بلغه عن عبد الله بن عمر أنه كان يكره أن يمر بين أيدي النساء وهن يصلين وفائدته كراهة بن عمر للمرور بين يدي المصلي وإن لم يكن بحيث تناله يده

لأن صفوف النساء كان بينها وبين صفوف الرجال شيء من البعد ولا يحتمل عندي ما ظنه بعض الناس من كراهية المرور بين يدي صفوف النساء وهن خلف الإمام لما قدمنا في سترة الإمام أنها سترة لمن خلفه وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر المصلي بالدنو من سترته من حديث سهل بن أبي حثمة وهو مذكور في التمهيد وها هنا أن الدنو منها موجود في حديث مالك وغيره عن نافع عن بن عمر عن بلال في صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة وفيه وجعل بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع هكذا رواه بن القاسم وجماعة عن مالك وإليه ذهب الشافعي وأحمد وهو قول عطاء قال عطاء أقل ما يكفيك ثلاثة أذرع والشافعي وأحمد يستحبان ثلاثة أذرع ولا يوجبان ذلك ولم يحد فيه مالك حدا وكان عبد الله بن مغفل يجعل بينه وبين سترته ستة أذرع وقال عكرمة إذا كان بينك وبين الذي يقطع الصلاة قذفة حجر لم يقطع الصلاة وخير من هذا الموضع الاقتداء والتأسي بحديث سهل بن سعد قال كان بين مقام النبي صلى الله عليه وسلم وبين القبلة ممر عنز

قال أبو عمر الفرق عندي لمن صلي بغير سترة بين من يدرأه وبين من لا يدرأه هو المقدار الذي لا ينال المصلي فيه المار بين يديه إذا مد يده إليه ليدرأه ويدفعه لإجماعهم على أن المشي في الصلاة لا يجوز إلا إلى الفرج في الصف لمن ركع دونه وقد قيل لا يذب إلا راكعا ولو أجزنا له المشي إليه باعا أو باعين من غير أثر لزمنا أكثر من ذلك وذلك فاسد بإجماع والله المستعان وأما استقبال السترة والصمد لها ففي حديث المقداد بن الأسود قال ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إلى عود ولا إلى عمود ولا شجرة إلا جعله عن جانبه الأيمن أو الأيسر ولا يصمد له صمدا وكل العلماء يستحسنون هذا ولا يوجبونه خوفا من الحد في ما لم يجزه الله ولا رسوله وأما قدر السترة وصفتها في ارتفاعها وغلظها فقد اختلف العلماء في ذلك فقال مالك أقل ما يجزئ المصلي في السترة غلظ الرمح وكذلك السوط إن كان قائما والعصا وارتفاعها قدر عظم الذراع هذا أقل ما يجزئ عنده ولا يفسد غيره صلاة من صلى إلى غير سترة وإن كان ذلك مكروها له وقول الشافعي في ذلك كقول مالك وقال الثوري وأبو حنيفة أقل السترة قدر مؤخرة الرحل ويكون ارتفاعها على ظهر الأرض ذراعا وهو قول عطاء وقال قتادة ذراع وشبر وقال الأوزاعي على قدر مؤخرة الرحل ولم يحد ذراعا ولا عظم ذراع ولا غير ذلك وقال يجزئ السهم والسوط والسيف يعني في الغلظة واختلفوا فيما يعرض ولا ينصب وفي الخط فكل من ذكرنا قوله أنه لا يجزئ عنده أقل من عظم الذراع أو أقل من ذراع لا يجيز الخط إلا أن يعرض العصا

والعود في الأرض فيصلي إليها وهم مالك والليث وأبو حنيفة كلهم يقولون الخط ليس بشيء وهو قول إبراهيم النخعي قال مالك الخط باطل وقال أحمد بن حنبل وأبو ثور إذا لم يجعل تلقاء وجهه شيئا ولم يجد عصا ينصبها فليخط خطا وكذلك قال الشافعي بالعراق وقال الأوزاعي إذا لم ينتصب له عرضه بين يديه وصلى إليه فإن لم يجد خط خطا وهو قول سعيد بن جبير وقال الأوزاعي والسوط بعرضه أحب إلي من الخط وقال الشافعي بمصر لا يخط الرجل بين يديه خطأ إلا أن يكون في ذلك حديث ثابت فيتبع قال أبو عمر احتج من ذهب إلى الخط بحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا فإن لم يجد فلينصب عصاه فإن لم يكن معه عصا فليخط خطا ولا يضره من مر بين يديه أخرجه أبو داود وقد ذكرناه في التمهيد ولا يجيء إلا من حديث إسماعيل بن أمية عن أبي عمرو بن محمد بن حريث عن جده عن أبي هريرة قال الطحاوي أبو عمرو وجده مجهولان وأما أحمد بن حنبل وعلي بن المديني فكانا يصححان هذا الحديث قال أبو عمر اختلف القائلون بالخط كيف يكون نصبه بين يدي المصلي فقالت طائفة يخطه في الأرض كما كان يفعل قائما ولا يعرض عرضا وقال آخرون بل يجعله معترضا بين يديه وقال آخرون بل يخط خطا كالمحراب ويصلي إليه كالصلاة في المحراب وكان أحمد بن حنبل يختار هذا ويجيز الوجوه الثلاثة وبالله التوفيق

باب الرخصة في المرور بين يدي المصلي ذكر فيه عن بن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عبد الله بن عباس قال أقبلت راكبا على آتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي للناس بمنى فمررت بين يدي بعض الصف فنزلت وأرسلت الأتان ترتع ودخلت في الصف فلم ينكر ذلك علي أحد ثم أردفه بأنه بلغه أن سعد بن أبي وقاص كان يمر بين يدي بعض الصفوف والصلاة قائمة قال مالك وأنا أرى ذلك واسعا إذا أقيمت الصلاة وبعد أن يحرم الإمام ولم يجد المرء مدخلا إلى المسجد إلا بين الصفوف قال أبو عمر حديث بن شهاب في هذا الباب خالف بن عيينة مالكا في بعض ألفاظه فرواه عن بن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن عبد الله بن عباس قال جئت أنا والفضل على أتان ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بعرفة فمررنا بين يدي بعض الصف فنزلنا وتركناها ترتع فلما دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قال أبو عمر قول مالك في هذا الباب مع ما ترجم به الباب يدل على أن في المشي بين يدي الصفوف خلف الإمام رخصة لمن لم يجد من ذلك بدا وغيره لا يرى بذلك بأسا لحديث بن عباس هذا قوله فمررت بين يدي بعض الصف فلم ينكر علي أحد وقد قدمنا أن الإمام سترة لمن خلفه فالماشي خلفه أمام الصف كالماشي خلفه دون الصف

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مقدمة ابن الصلاح تقي الدين عثمان بن عبدالرحمن المعروف بابن الصلاح

     مقدمة ابن الصلاح  تقي الدين عثمان بن عبدالرحمن المعروف بابن الصلاح  يعد هذا الكتاب أشهر كتاب في علم مصطلح الحديث على الإطلاق ذكر في...