الدعاء

اللهم فكما ألهمت بإنشائه وأعنت على إنهائه فاجعله نافعاً في الدنيا وذخيرة صالحة في الأخرى واختم بالسعادة آجالنا وحقق بالزيادة آمالنا واقرن بالعافية غدونا وآصالنا واجعل إلى حصنك مصيرنا ومآلنا وتقبل بفضلك أعمالنا إنك مجيب الدعوات ومفيض الخيرات والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين اللهم لنا جميعا يا رب العالمين .وسبحان الله وبحمده  عدد خلقه وزنة عرشه  ورضا نفسه ومداد كلماته  } أقولها ما حييت وبعد موتي  والي يوم الحساب وارحم  واغفر اللهم لوالديَّ ومن مات من اخوتي واهلي والمؤمنين منذ خَلَقْتَ الخلق الي يوم الحساب آمين وفرِّجِ كربي وردَّ اليَّ عافيتي وارضي عني في الدارين  واعِنِّي علي أن اُنْفِقها في سبيلك يا ربي اللهم فرِّج كربي واكفني همي واكشف البأساء والضراء عني وعنا.. وردَّ إليَّ عافيتي وثبتني علي دينك الحق ولا تُزِغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب اللهم وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وتوفنا مع الأبرار وألِّفْ بين قلوبنا اجمعين.يا عزيز يا غفار ... اللهم واشفني شفاءاً لا يُغَادر سقما واعفو عني وعافني وارحمني وفرج كربي واكفني همي واعتقني مما أصابني من مكروه أنت تعلمه واعتقني من النار وقني عذاب القبر وعذاب جهنم وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال ومن المأثم والمغرم ومن غلبة الدين وقهر الرجال اللهم آمين /اللهم ربي اشرح لي صدري ويسر لي أمري وأحلل عُقَد لساني واغنني بك عمن سواك يارب . والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين آمين.

الاثنين، 29 أغسطس 2022

ج25.وج26.روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني شهاب الدين محمود ابن عبد الله الحسيني الآلوسي

 

25. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني شهاب الدين محمود ابن عبد الله الحسيني الآلوسي

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 201
فتدبر ، وقيل على في عَلَيْكُمْ بمعنى اللام كما في قوله تعالى : وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [المائدة : 3] فالمعنى شهيدا لكم ، والمراد بشهادته لهم تزكيته إياهم إذا شهدوا على الأمم ولا يخفى بعده ، واللام متعلقة بسماكم على الوجهين في الضمير وهي للعاقبة على ما قيل ، وقال الخفاجي : لا مانع من كونها للتعليل فإن تسمية اللّه تعالى أو إبراهيم عليه السلام لهم بالمسلمين حكم بإسلامهم وعدالتهم وهو سبب لقبول شهادة الرسول عليه الصلاة والسلام الداخل فيهم دخولا أوليا وقبول شهادتهم على الأمم وفيه نوع خفاء.
فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ أي فتقربوا إليه تعالى لما خصكم بهذا الفضل والشرف بأنواع الطاعات ، وتخصيص هذين الأمرين بالذكر لانافتهما وفضلهما وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ أي ثقوا به تعالى في جميع أموركم هُوَ مَوْلاكُمْ ناصركم ومتولي أموركم فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ هو إذ لا مثيل له تعالى في الولاية والنصرة فإن من تولاه لم يضع ومن نصره لم يخذل بل لا ولي ولا ناصر في الحقيقة سواه عز وجل ، وفي هذا إشارة إلى أن قصارى الكمال الاعتصام باللّه تعالى وتحقيق مقام العبودية وهو وراء التسمية والاجتباء ، وجوز أن يكون هُوَ مَوْلاكُمْ نتميا للاجتباء وليس بذاك هذا.
ومن باب الإشارة في الآيات إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا كيد عدوهم من الشيطان والنفس إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ويدخل في ذلك الشيطان والنفس ، وصدق الوصفين عليهما ظاهر جدا بل لا خوان ولا كفور مثلهما الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ إلخ فيه إشارة إلى حال أهل التمكين وأنهم مهديون هادون فلا شطح عندهم ولا يضل أحد بكلماتهم فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ قيل : في القرية الظالمة إشارة إلى القلب الغافل عن اللّه تعالى ، وفي البئر المعطلة إشارة إلى الذهن الذي لم يستخرج منه الأفكار الصافية ، وفي القصر المشيد إشارة إلى البدن المشتمل على حجرات القوى.
فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ فيه إشارة إلى سوء حال المحجوبين المنكرين فإن قلوبهم عمي عن رؤية أنوار أهل اللّه تعالى فإن لهم أنوارا لا ترى إلا بعين القلب وبهذه العين تدرك حقائق الملك ودقائق الملكوت ، وفي الحديث «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللّه»
وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ قد تقدم الكلام في اليوم وانقسامه فتذكر فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أي ستر عن الأغيار من أن يقفوا على حقيقتهم كما يشير ما
يروونه من الحديث القدسي «أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم أحد غيري»
وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وهو العلم اللدني الذي به غذاء الأرواح.
وقال بعضهم : رزق القلوب حلاوة العرفان ورزق الأسرار ومشاهدة الجمال ورزق الأرواح مكاشفة الجلال وإلى هذا الرزق
يشير عليه الصلاة والسلام بقوله : «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني»
والإشارة في قوله تعالى : وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ الآيات على قول من زعم صحة حديث الغرانيق إلى أنه ينبغي أن يكون العبد فناء في إرادة مولاه عز وجل وإلا ابتلى بتلبيس الشيطان ليتأدب ولا يبقى ذلك التلبيس لمنافاته الحكمة وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عن أوطان الطبيعة في طلب الحقيقة ثُمَّ قُتِلُوا بسيف الصدق والرياضة أَوْ ماتُوا بالجذبة عن أوصاف البشرية لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً هو رزق دوام الوصلة كما قيل : أو هو كالرزق الكريم وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ فيه إشارة إلى نصر السالك

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 202
الذي عاقب نفسه بالمجاهدة بعد أن عاقبته بالمخالفة ثم ظلمته باستيلاء صفاتها وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ أخذ الصوفية منه ترك الجدال مع المنكرين.
وذكر بعضهم أن الجدال معهم عبث كالجدال مع العنين في لذة الجماع وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ الآية فيه إشارة إلى ذم المتصوفة الذين إذا سمعوا الآيات الرادة عليهم ظهر عليهم التجهم والبسور وهم في زماننا كثيرون فإنا للّه وإنا إليه راجعون ، وفي قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً إلخ إشارة إلى ذم الغالين في أولياء اللّه تعالى حيث يستغيثون بهم في الشدة غافلين عن اللّه تعالى وينذرون لهم النذور والعقلاء منهم يقولون : إنهم وسائلنا إلى اللّه تعالى وإنما ننذر للّه عز وجل ونجعل ثوابه للولي ، ولا يخفى أنهم في دعواهم الأولى أشبه الناس بعبدة الأصنام القائلين إنما نعبدهم ليقربونا إلى اللّه زلفى ، ودعواهم الثانية لا بأس بها لو لم يطلبوا منهم ذلك شفاء مريضهم أورد غائبهم أو نحو ذلك ، والظاهر من حالهم الطلب ، ويرشد إلى ذلك أنه لو قيل : أنذروا للّه تعالى واجعلوا ثوابه لوالديكم فإنهم أحوج من أولئك الأولياء لم يفعلوا ، ورأيت كثيرا منهم يسجد على أعتاب حجر قبور الأولياء ومنهم من يثبت التصرف لهم جميعا في قبورهم لكنهم متفاوتون فيه حسب تفاوت مراتبهم ، والعلماء منهم يحصرون التصرف في القبور في أربعة أو خمسة وإذا طولبوا بالدليل قالوا : ثبت ذلك بالكشف قاتلهم اللّه تعالى ما أجهلهم وأكثر افترائهم ، ومنهم من يزعم أنهم يخرجون من القبور ويتشكلون بأشكال مختلفة ، وعلماؤهم يقولون : إنما تظهر أرواحهم متشكلة وتطوف حيث شاءت وربما تشكلت بصورة أسد أو غزال أو نحوه وكل ذلك باطل لا أصل له في الكتاب والسنة وكلام سلف الأمة ، وقد أفسد هؤلاء على الناس دينهم وصاروا ضحكة لأهل الأديان المنسوخة في اليهود والنصارى ، وكذا لأهل النحل والدهرية ، نسأل اللّه تعالى العفو والعافية.
وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ شامل لجميع أنواع المجاهدة ، ومنها جهاد النفس وهو بتزكيتها بأداء الحقوق وترك الحظوظ ، وجهاد القلب بتصفيته وقطع تعلقه عن الكونين ، وجهاد الروح بإفناء الوجود ، وقد قيل :
وجودك ذنب لا يقاس به ذنب.
وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ تمسكوا به جل وعلا في جميع أحوالكم هُوَ مَوْلاكُمْ على الحقيقة فَنِعْمَ الْمَوْلى في إفناء وجودكم وَنِعْمَ النَّصِيرُ في إبقائكم ، وما أعظم هذه الخاتمة لقوم يعقلون وسبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد للّه رب العالمين.
___________
تم والحمد للّه الجزء السابع عشر ويليه إن شاء اللّه تعالى الجزء الثامن عشر وأوله «سورة المؤمنين».

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 203
الجزء الثامن عشر

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 204

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 205
سورة المؤمنون
مكية كما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وفي البحر هي مكية بلا خلاف ، واستثنى منها كما يقال في الإتقان قوله تعالى : حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ [المؤمنون : 64] إلى قوله سبحانه : مُبْلِسُونَ [المؤمنون : 77] واستشكل الحكم على ما عداه بكونه مكيا لما فيه من ذكر الزكاة وهي إنما فرضت بالمدينة ، وأجيب بأنه بعد تسليم أن ما ذكر فيه يدل على فرضيتها يقال : إن الزكاة كانت واجبة بمكة والمفروض بالمدينة ذات النصب وستسمع تمام الكلام في ذلك إن شاء اللّه تعالى وهي كما في كتاب العدد للداني ومجمع البيان للطبرسي مائة وثمان عشرة آية في الكوفي ومائة وسبع عشرة آية في الباقي ، وقد مدح النبي صلّى اللّه عليه وسلّم العشر الأول منها
فقد أخرج أحمد والترمذي والنسائي والحاكم وصححه والضياء في المختارة وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه قال : «كان إذا نزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الوحي نسمع عند وجهه كدوي النحل فأنزل عليه يوما فمكثنا ساعة فسري عنه فاستقبل القبلة فرفع يديه فقال : اللهم زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنا وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا وارض عنا وارضنا ثم قال : «لقد أنزلت عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة» ثم قرأ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون : 1]
حتى ختم العشر ، ومناسبتها لآخر السورة قبلها ظاهرة لأنه تعالى خاطب المؤمنين بقوله سبحانه : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا [المؤمنون : 1. 22] لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج : 77] فناسب أن يحقق ذلك فقال عز قائلا :
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 1 إلى 22]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9)
أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14)
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19)
وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 206
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ والفلاح الفوز بالمرام ، وقيل : البقاء في الخير والإفلاح الدخول في ذلك كالإبشار الذي هو الدخول بالبشارة ، وقد يجيء متعديا وعليه قراءة طلحة بن مصرف وعمرو بن عبيد «أفلح» بالبناء للمفعول ، وقَدْ لثبوت أمر متوقع وتحققه ، والظاهر أنه هنا الفلاح لأن قد دخلت على فعله وهو متوقع الثبوت من حال المؤمنين ، وجعله الزمخشري الأخبار بثباته وذلك لأن الفلاح مستقبل أبرز في معرض الماضي مؤكدا بقد دلالة على تحققه فيفيد تحقق البشارة وثباتها كأنه قيل : قد تحقق أن المؤمنين من أهل الفلاح في الآخرة ، وجوز أن يكون جملة قَدْ أَفْلَحَ جواب قسم محذوف وقد ذكر الزجاج في قوله تعالى : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [الشمس : 9] أنه جواب القسم المذكور قبله بتقدير اللام.
وقرأ ورش عن نافع «قد أفلح» بإلقاء حركة الهمزة على الدال وحذفها لفظا لالتقاء الساكنين كما قال أبو البقاء وهما الهمزة الساكنة بعد نقل حركتها والدال الساكنة بحسب الأصل لأنه لا يعتد بحركتها العارضة.
وقرأ طلحة أيضا «وقد أفلحوا» بضم الهمزة والحاء وإلقاء واو الجمع وهي مخرجة على لغة أكلوني البراغيث ، وقول ابن عطية هي قراءة مردودة مردود ، وعن عيسى بن عمر قال : سمعت طلحة يقرأ «قد أفلحوا المؤمنون» فقلت له :
أتلحن؟ قال : نعم كما لحن أصحابي ، ولعل مراده أن مرجع قراءتي الرواية ومتى صحت في شيء لا يكون لحنا في نفس الأمر وإن كان كذلك ظاهرا ، وإثبات الواو في الرسم مروي عن كتاب ابن خالويه.
وفي اللوامح أنها حذفت في الدرج لالتقاء الساكنين وحملت الكتابة على ذلك فهي محذوفة فيها أيضا ، ونظير ذلك يَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ [الشورى : 24] وقد جاء حذف الواو لفظا وكتابة والاكتفاء بالضمة الدالة عليها كما في قوله :
ولو أن الأطباء كان حولي وكان مع الأطباء الاساة
وهو ضرورة عند بعض النحاة ، والمراد بالمؤمنين قيل إما المصدقون بما علم ضرورة أنه من دين نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم من التوحيد والنبوة والحشر الجسماني والجزاء ونظائرها فقوله تعالى : الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وما عطف عليه صفات مخصصة لهم ، وإما الآتون بفروعه أيضا كما ينبىء عنه إضافة الصلاة إليهم فهي صفات موضحة أو مادحة لهم ، وفي بعض الآثار ما يؤيد كونها مخصصة وجعل الزمخشري الإضافة للإشارة إلى أنهم هم المنتفعون بالصلاة دون المصلى له عز وجل ، والخشوع التذلل مع خوف وسكون للجوارح ، ولذا قال ابن عباس فيما رواه عنه ابن جرير وغيره خاشعون خائفون ساكنون وعن مجاهد أنه غض البصر وخفض الجناح ، وقال مسلم بن يسار وقتادة : تنكيس الرأس ، وعن علي كرّم اللّه تعالى وجهه ترك الالتفات
، وقال الضحاك : وضع اليمين على الشمال.
وعن أبي الدرداء إعظام المقام وإخلاص المقال واليقين التام وجمع الاهتمام ، ويتبع ذلك ترك الالتفات وهو من

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 207
الشيطان
فقد روى البخاري وأبو داود والنسائي عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت : سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن الالتفات في الصلاة فقال : «هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد».
وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي هريرة أنه قال في مرضه : أقعدوني أقعدوني فإن عندي وديعة أودعنيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «لا يلتفت أحدكم في صلاته فإن كان لا بدّ فاعلا ففي غير ما افترض اللّه تعالى عليه».
وترك العبث بثيابه أو شيء من جسده ، وإنكار منافاته للخشوع مكابرة ، وقد أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول لكن بسند ضعيف
عن أبي هريرة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه رأى رجلا يعبث بلحيته في صلاته فقال : «لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه»
،
وترك رفع البصر إلى السماء وإن كان المصلي أعمى وقد جاء النهي عنه ،
فقد أخرج مسلم وأبو داود وابن ماجة عن جابر بن سمرة قال : «قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : «لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا ترجع إليهم»
وكان قبل نزول الآية غير منهي عنه ،
فقد أخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء فنزلت الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ فطأطأ رأسه
، وترك الاختصار وهو وضع اليد على الخاصرة وقد ذكروا أنه مكروه ، وجاء عنه صلّى اللّه عليه وسلّم «الاختصار في الصلاة أصل النار»
أي إن ذلك فعل اليهود في صلاتهم استراحة وهم أهل النار لا أن فيها راحة كيف وقد قال تعالى : لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [الزخرف : 75] ومن أفعالهم أيضا فيها التميل وقد جاء النهي عنه.
أخرج الحكيم الترمذي من طريق القاسم بن محمد عن أسماء بنت أبي بكر عن أم رومان والدة عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت : رآني أبو بكر رضي اللّه تعالى عنه أتميل في صلاتي فزجرني زجرة كدت أنصرف عن صلاتي ثم قال : «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : «إذا قام أحدكم في الصلاة فليسكن أطرافه لا يتميل تميل اليهود فإن سكون الأطراف في الصلاة من تمام الصلاة»
وقال في الكشاف : من الخشوع أن يستعمل الآداب وذكر من ذلك توقي كف الثوب والتمطي والتثاؤب والتغميض «1» وتغطية الفم والسدل والفرقعة والتشبيك وتقلب الحصى ، وفي البحر نقلا عن التحرير أنه اختلف في الخشوع هل هو من فرائض الصلاة أو من فضائلها ومكملاتها على قولين والصحيح الأول ومحله القلب ا ه ، والصحيح عندنا خلافه ، نعم الحق أنه شرط القبول لا الإجزاء.
وفي المنهاج وشرحه لابن حجر ويسن الخشوع في كل صلاته بقلبه بأن لا يحضر فيه غير ما هو فيه وإن تعلق بالآخرة وبجوارحه بأن لا يعبث بأحدها ، وظاهر أن هذا مراد النووي من الخشوع لأنه سيذكر الأول بقوله : ويسن دخول الصلاة بنشاط وفراغ قلب إلا أن يجعل ذلك سببا له ولذا خصه بحالة الدخول.
وفي الآية المراد كل منهما كما هو ظاهر أيضا ، وكان سنة لثناء اللّه تعالى في كتابه العزيز على فاعليه ولانتفاء ثواب الصلاة بانتفائه كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة ، ولأن لنا وجها اختاره جمع أنه شرط للصحة لكن في البعض فيكره الاسترسال مع حديث النفس والعبث كتسوية ردائه أو عمامته لغير ضرورة من تحصيل سنة أو دفع مضرة ، وقيل يحرم ا ه ، وللإمام في هذا المقام كلام طويل من أراده فليرجع إليه.
وتقديم الظرف قيل لرعاية الفواصل ، وقيل ليقرب ذكر الصلاة من ذكر الإيمان فإنهما أخوان وقد جاء إطلاق
___________
(1) قيل هو فعل اليهود وجاء النهي عنه لكن من طريق ضعيف ، وقال النووي : عندي أنه لا يكره ما لم يخف ضررا انتهى ، وربما يقال : إن فيه منعا لتفريق الذهن فيكون سببا لحضور القلب والخشوع ، ولذا أفتى ابن عبد السلام بأنه أولى إذا شوش عدمه خشوعه أو حضور قلبه مع ربه عز وجل ا ه منه.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 208
0009571720
الإيمان عليها في قوله تعالى : وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة : 143] وقيل للحصر على معنى الذين هم في جميع صلاتهم دون بعضها خاشعون ، وفي تقديم وصفهم بالخشوع في الصلاة على سائر ما يذكر بعد ما لا يخفى من التنويه بشأن الخشوع ، وجاء أن الخشوع أول ما يرفع من الناس ، ففي خبر رواه الحاكم وصححه أن عبادة بن الصامت قال : يوشك أن تدخل المسجد فلا ترى فيه رجلا خاشعا.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد والحاكم وصححه عن حذيفة قال : «أول ما تفقدون من دينكم الخشوع وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة وتنتقض عرى الإسلام عروة عروة» الخبر
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ وهو ما لا يعتد به من الأقوال والأفعال ، وعن ابن عباس تفسيره بالباطل ، وشاع في الكلام الذي يورد لا عن روية وفكر فيجري مجرى اللغاء وهو صوت العصافير ونحوها من الطير وقد يسمى كل كلام قبيح لغوا ، ويقال فيه كما قال أبو عبيدة لغو ولغا نحو عيب وعاب ، وأنشد. عن اللغا ورفث التكليم. مُعْرِضُونَ في عامة أوقاتهم لما فيه من الحالة الداعية إلى الإعراض عنه مع ما فيهم من الاشتغال بما يعنيهم ، وهذا أبلغ من أن يقال : لا يلهون من وجوه ، جعل الجملة اسمية دالة على الثبات والدوام ، وتقديم الضمير المفيد لتقوي الحكم بتكريره ، والتعبير في المسند بالاسم الدال كما شاع على الثبات ، وتقديم الظرف عليه المفيد للحصر ، وإقامة الإعراض مقام الترك ليدل على تباعدهم عنه رأسا مباشرة وتسببا وميلا وحضورا فإن أصله أن يكون في عرض أي ناحية غير عرضه وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ الظاهر أن المراد بالزكاة المعنى المصدري - أعني التزكية - لأنه الذي يتعلق به فعلهم ، وأما المعنى الثاني وهو القدر الذي يخرجه المزكي فلا يكون نفسه مفعولا لهم فلا بد إذا أريد من تقدير مضاف أي لأداء الزكاة فاعلون أو تضمين فاعِلُونَ معنى مؤدون وبذلك فسره التبريزي إلا أنه تعقب بأنه لا يقال فعلت الزكاة أي أديتها ، وإذا أريد المعنى الأول أدى وصفهم بفعل التزكية إلى أداء العين بطريق الكناية التي هي أبلغ ، وهذا أحد الوجوه للعدول عن والذين يزكون إلى ما في النظم الكريم.
وجميع ما مر آنفا في بيان أبلغية وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ من والذين لا يلهون جار هنا سوى الوجه الخامس اتفاقا والرابع عند بعض لأن المقدم متعلق تعلق الجار والمجرور بما بعده كيف واللام زائدة لتقوية العمل من وجهين ، تقديم المعمول ، وكون العامل اسما.
وقال بعض آخر : يمكن جريان مثله حيث قدم المعمول مع ضعف عامله لا للتخصيص بل لكونه مصب الفائدة ، ويجوز اعتبار التخصيص الإضافي أيضا بالنسبة إلى الإنفاق فيما لا يليق ، ووصفهم بذلك بعد وصفهم بالخشوع في الصلاة للدلالة على أنهم لم يألوا جهدا بالعبادة البدنية والمالية ، وتوسيط حديث الإعراض بينهما لكمال ملابسته بالخشوع في الصلاة وإلا فأكثر ما تذكر هاتان العبادتان في القرآن معا بلا فاصل.
وعن أبي مسلم أن الزكاة هنا بمعنى العمل الصالح كما في قوله : خَيْراً مِنْهُ زَكاةً [الكهف : 81] واختار الراغب أن الزكاة بمعنى الطهارة واللام للتعليل ، والمعنى والذين يفعلون ما يفعلون من العبادة ليزكيهم اللّه تعالى أو ليزكوا أنفسهم ، ونقل نحوه الطيبي عن صاحب الكشف فقال : قال صاحب الكشف : معنى الآية الذين هم لأجل الطهارة وتزكية النفس عاملون الخير ، ويرشد إلى ذلك قوله تعالى : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى : 14 ، 15] وقَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [الشمس : 9] فإن القرآن يفسر بعضه بعضا ولا ينبغي أن يعدل عن تفسير بعضه ببعض ما أمكن ، وقال بعض الأجلة : إن اقتران ذلك بالصلاة ينادي على أن المراد وصفهم بأداء الزكاة الذي هو عبادة مالية ، وتنظير ما نحن فيه بالآيتين بعيد لأنهما ليستا من هذا القبيل في شيء ، وربما يقال : الفصل بينهما يشعر

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 209
بما اختاره الراغب ومن حذا حذوه ، وأيضا كون السورة مكية والزكاة فرضت بالمدينة يؤيده لئلا يحتاج إلى التأويل بما مر فتدبر.
وأيا ما كان فالآية في أعلى مراتب الفصاحة والبلاغة ، وقول بعض زنادقة الأعاجم الذين حرموا ذوق العربية : ألا قيل مؤدون بدل فاعِلُونَ من محض الجهل والحماقة التي أعيت من يداويها فإنه لو فرض أن القرآن وحاشا للّه سبحانه كلام النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فهو عليه الصلاة والسلام الذي مخضت له الفصاحة زبدها وأعطته البلاغة مقودها وكان صلّى اللّه عليه وسلّم بين مصاقع نقاد لم يألوا جهدا في طلب طعن ليستريحوا به من طعن الصعاد ، وقد جاء نظير ذلك في كلام أمية بن أبي الصلت قال :
المطعمون الطعام في السنة الأزمة والفاعلون للزكوات
ولم يرد عليه أحد من فصحاء العرب ولا أعابوه ، واختار الزمخشري في هذا حمل الزكاة على العين وتقدير المضاف دون الآية ، وعلل بجمعها وهو إنما يكون للعين دون المصدر ، وتعقب بأنه قد جاء كثير من المصادر مجموعة كالظنون والعلوم والحلوم والأشغال وغير ذلك ، وهي إذا اختلف فالأكثرون على جواز جمعها وقد اختلفت هاهنا بحسب متعلقاتها فإن إخراج النقد غير إخراج الحيوان وإخراج الحيوان غير إخراج النبات فليحفظ.
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ وصف لهم بالعفة وهو وان استدعاه وصفهم بالإعراض عن اللغو إلا أنه جيء به اعتناء بشأنه ، ويجوز أن يقال : إن ما تقدم وإن استدعى وصفهم بأصل العفة لكن جيء بهذا لما فيه من الإيذان بأن قوتهم الشهوية داعية لهم إلى ما لا يخفى وإنهم حافظون لها عن استيفاء مقتضاها وبذلك يتحقق كمال العفة ، واللام للتقوية كما مر في نظيره ، وعَلى متعلق بحافظون لتضمينه معنى ممسكون على ما اختاره أبو حيان والإمساك يتعدى بعلى كما في قوله تعالى : أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ [الأحزاب : 37] وذهب جمع إلى اعتبار معنى النفي المفهوم من الإمساك ليصح التفريغ فكأنه قيل حافظون فروجهم لا يرسلونها على أحد إلا على أزواجهم ، وقال بعضهم : لا يلزم ذلك الصحة العموم هنا فيصح التفريغ في الإيجاب ، وفي الكشف الوجه أن يقال : ما في الآية من قبيل حفظت على الصبي ماله إذا ضبطه مقصورا عليه لا يتعداه ، والأصل حافظون فروجهم على الأزواج لا تتعداهن ثم قيل غير حافظين إلا على الأزواج تأكيدا على تأكيد ، وعلى هذا تضمين معنى النفي الذي ذكره الزمخشري من السياق واستدعاء الاستثناء المفرغ ذلك ولم يؤخذ مما في الحفظ من معنى المنع والإمساك لأن حرف الاستعلاء يمنعه انتهى وفيه ما فيه.
ويا ليت شعري كيف عد حرف الاستعلاء مانعا عن ذلك مع أن كون الإمساك مما يتعدى به أمر شائع ، وقال الفراء وتبعه ابن مالك وغيره : إن عَلى هنا بمعنى من أي إلا من أزواجهم كما أن من بمعنى على في قوله تعالى :
وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ [الأنبياء : 77] أي على القوم ، وقيل هي متعلقة بمحذوف وقع حالا من ضمير حافِظُونَ والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي حافظون لفروجهم في جميع الأحوال إلا حال كونهم والين وقوامين على أزواجهم من قولك : كان فلان على فلانة فمات عنها ، ومنه قولهم : فلانة تحت فلان ولذا سميت المرأة فراشا أو متعلقة بمحذوف يدل على غَيْرُ مَلُومِينَ كأنه قيل : يلامون إلا على أزواجهم أي يلامون على كل مباشر إلا على ما أطلق لهم فإنهم غير ملومين عليه ، وكلا الوجهين ذكرهما الزمخشري.
واعترض بأنهما متكلفان ظاهرا فيهما العجمة وأورد على الأخير أن إثبات اللوم لهم في أثناء المدح غير مناسب مع أنه لا يختص بهم ، وكون ذلك على فرض عصيانهم وهو مثل قوله تعالى : فَمَنِ ابْتَغى إلخ لا يدفعه كما توهم

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 210
ولا يجوز أن تتعلق بملومين المذكور بعد لما قال أبو البقاء من أن ما بعد أن لا يعمل فيما قبلها وأن المضاف إليه لا يعمل فيما قبله ، والمراد مما ملكت أيمانهم السريات ، والتخصيص ذلك للإجماع على عدم حل وطء المملوك الذكر ، والتعبير عنهن - بما - على القول باختصاصها بغير العقلاء لأنهن يشبهن السلع بيعا وشراء أو لأنهن لأنوثتهن المنبئة عن قلة عقولهن جاريات مجرى العقلاء ، وهذا ظاهر فيما إذا كن من الجركس أو الروم أو نحوهم فكيف إذا كن من الزنج والحبش وسائر السودان فلعمري إنهن حينئذ إن لم يكن من نوع البهائم فما نوع البهائم منهن ببعيد ، والآية خاصة بالرجال فإن التسري للنساء لا يجوز بالإجماع ، وعن قتادة «1» قال تسرت امرأة غلاما فذكرت لعمر رضي اللّه تعالى عنه فسألها ما حملك على هذا؟ فقالت : كنت أرى أنه يحل لي ما يحل للرجال من ملك اليمين فاستشار عمر فيها أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا : تأولت كتاب اللّه تعالى على غير تأويله فقال رضي اللّه تعالى عنه : لا جرم لا أحلك لحر بعده أبدا كأنه عاقبها بذلك ودرأ الحد عنها وأمر العبد أن لا يقربها ، ولو كانت المرأة متزوجة بعبد فملكته فأعتقته حالة الملك انفسخ النكاح عند فقهاء الأمصار.
وقال النخعي والشعبي وعبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة : يبقيان على نكاحهما فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ تعليل لما يفيده الاستثناء من عدم حفظ فروجهم من المذكورات أي فإنهم غير ملومين على ترك حفظها منهن.
وقيل الفاء في جواب شرط مقدر أي فإن بذلوا فروجهم لأزواجهم أو إمائهم فإنهم غير ملومين على ذلك ، والمراد بيان جنس ما يحل وطؤه في الجملة وإلا فقد قالوا : يحرم وطء الحائض والأمة إذا زوجت والمظاهر منها حتى يكفر وهذا مجمع عليه.
وفي الجمع بين الأختين من ملك اليمين وبين المملوكة وعمتها أو خالتها خلاف على ما في البحر ، وذكر الآمدي في الأحكام أن عليا كرّم اللّه تعالى وجهه احتج على جواز الجمع بين الأختين في الملك بقوله تعالى : أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ
فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ أي المذكور من الحد المتسع وهو أربع من الحرائر وما شاء من الإماء ، وانتصاب وَراءَ على أنه مفعول ابْتَغى أي خلاف ذلك وهو الذي ذهب إليه أبو حيان ، وقال بعض المحققين :
إن وَراءَ ظرف لا يصلح أن يكون مفعولا به وإنما هو ساد مسد المفعول به ، ولذا قال الزمخشري : أي فمن أحدث ابتغاء وراء ذلك فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ الكاملون في العدوان المتناهون فيه كما يشير إليه الإشارة والتعريف وتوسيط الضمير المفيد لجعلهم جنس العادين أو جميعهم ، وفي الآية رعاية لفظ (من) ومعناها ويدخل فيما وراء ذلك الزنا واللواط ومواقعة البهائم وهذا مما لا خلاف فيه.
واختلف في وطء جارية أبيح له وطؤها فقال الجمهور : هو داخل فيما وراء ذلك أيضا فيحرم وهو قول الحسن وابن سيرين وروي ذلك عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما ، فقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد الرزاق عنه أنه سئل عن امرأة أحلت جاريتها لزوجها فقال : لا يحل لك أن تطأ فرجا أي غير فرج زوجتك إلا فرجا إن شئت بعت وإن شئت وهبت وإن شئت أعتقت ، وعن ابن عباس أنه غير داخل فلا يحرم ، فقد أخرج عبد الرزاق عنه رضي اللّه تعالى عنه قال : إذا أحلت امرأة الرجل أو ابنته أو أخته له جاريتها فليصبها وهي لها وهو قول طاوس ، أخرج عنه عبد الرزاق أيضا أنه قال : هو أحل من الطعام فإن ولدت فولدها للذي أحلت ، وهي لسيدها الأول ، وأخرج عن عطاء أنه قال : كان يفعل ذلك يحل الرجل وليدته لغلامه وابنه وأخيه وأبيه والمرأة لزوجها وقد بلغني أن الرجل يرسل وليدته لصديقه وإلى هذا ذهبت
___________
(1) أخرجه عبد الرزاق ا ه منه.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 211
الشيعة ، والآية ظاهرة في هذه لظهور أن المعارة للجماع ليست بزوجة ولا مملوكة وكذا قوله تعالى فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النساء : 3] فإن السكوت في معرض البيان يفيد الحصر خصوصا إذا كان المقام مقتضيا لذكر جميع ما لا يجب العدل فيه ، وفي عدم وجوب العدل تكون العارية أقدم من الكل إذ لا يجب فيها ألا تحمل منة مالك الفرج فقط وكذا قوله سبحانه : وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ. إلى قوله تعالى : ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ [النساء : 25] فإنه لو جازت العارية لما كان خوف العنت والحاجة إلى نكاح الإماء وإلى الصبر على ترك نكاحهن متحققا ، ونحوه قوله سبحانه :
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور : 33] فإنه لو كانت العارية جائزة لم يؤمر الذين لا يجدون نكاحا بالاستعفاف ، ولعل الرواية السابقة عن ابن عباس غير صحيحة ، وكذا اختلف في المتعة فذهبت الشيعة أيضا إلى جوازها ، ويرد عليهم بما ذكرنا من الآيات الظاهرة في تحريم العارية ، وأخرج عبد الرزاق وأبو داود في ناسخه عن القاسم بن محمد أنه سئل عن المتعة فقال : هي محرمة في كتاب اللّه تعالى وتلا : وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ الآية وقرر وجه دلالة الآية على ذلك أن المستمتع بها ليست ملك اليمين ولا زوجة فوجب أن لا تحل له أما أنها ليست ملك اليمين فظاهر وأما أنها ليست زوجة له فلأنهما لا يتوارثان بالإجماع ولو كانت زوجة لحصل التوارث لقوله تعالى : وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ [النساء : 12] وتعقبه في الكشف بأن لهم أن يقولوا : إنها زوجة يكشف الموت عن بينونتها قبيله كما أنها تبين بانقضاء الأجل قضاء لحق التعليق والتأجيل ، وحاصله منع استفسار في الملازمة إن أريد لو كانت زوجة حال الحياة لم يفد وإن أريد بعد الموت فالملازمة ممنوعة فإن قيل : لا تبين بالموت كالنكاح المؤبد ، أجيب بأنه قياس في عين ما افترق النكاحان به وهو فاسد بالإجماع.
وتعقب هذا شيخ الإسلام لخفاء معناه عليه بأنه ليس للترديد معنى محصل ولو قيل : إن أريد لو كانت زوجة حال الحياة فالملازمة ممنوعة وإن أريد بعد الموت لم يفد لكان له وجه ، وقال هو في رد الاستدلال لهم أن يقولوا إنها زوجة له في الجملة وأما إن كل زوجة ترث فهم لا يسلمونه ، وقال بعضهم : الحق أن الآية دليل على الشيعة فإن ظاهر كلامهم أنها ليست بزوجة أصلا حيث ينفون عنها لوازم الزوجية بالكلية من العدة والطلاق والإيلاء والظهار وحصول الإحصان وإمكان اللعان والنفقة والكسوة والتوارث ويقولون بجواز جمع ما شاء بالمتعة ولا شك أن نفي اللازم دليل نفي الملزوم. وتعقب بأن هذا حق لو سلم أنهم ينفون اللوازم كلها لكنه لا يسلم ، ونفي بعض اللوازم لا يكفي في الرد عليهم إذا قالوا : إن الزوجية قسمان كاملة وغير كاملة إذ بنفي ذلك البعض إنما ينتفي القسم الأول وهو لا يضرهم ، وقيل : الذي يقتضيه الإنصاف أن الآية ظاهرة في تحريم المتعة فإن المستمتع بها لا يقال لها زوجة في العرف ولا يقصد منها ما هو السر في مشروعية النكاح من التوالد والتناسل لبقاء النوع بل مجرد قضاء الوطر وتسكين دغدغة المني ونحو ذلك ، وزعم أنه يتم الاستدلال بالآية بهذا الطرز على التحريم سواء نفيت اللوازم أم لم تنف كما هو مذهب بعض القائلين بالحل كما سنشير إليه إن شاء اللّه تعالى.
ولعل الأقرب إلى الإنصاف أن يقال : متى قيل بنفي اللوازم من حصول الإحصان حرمة الزيادة على الأربع ونحو ذلك كانت الآية دليلا على الحرمة لأن المتبادر من الزوجية فيها الزوجية التي يلزمها مثل ذلك وهو كاف في الاستدلال على مثل هذا المطلب الفرعي ، ومتى لم يقل بنفي اللوازم ولم يفرق بينها وبين النكاح المؤبد إلا بالتوقيت وعدمه لم تكن الآية دليلا على التحريم ، هذا ولي هاهنا بحث لم أر من تعرض له وهو أنه قد ذكر في الصحيحين أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حرم المتعة يوم خيبر ، وفي صحيح مسلم أنه عليه الصلاة والسلام حرمها يوم الفتح ، ووافق ابن الهمام بأنها

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 212
حرمت مرتين مرة يوم خيبر ومرة يوم الفتح وذلك يقتضي أنها كانت حلالا قبل هذين اليومين ، وقد سمعت آنفا ما يدل على أن هذه الآية مكية بالاتفاق فإذا كانت دالة على التحريم كما سمعت عن القاسم بن محمد وروى مثله ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها لزم أن تكون محرمة بمكة يوم نزلت الآية وهو قبل هذين اليومين فتكون قد حرمت ثلاث مرات ولم أر أحدا صرح بذلك ، وإذا التزمناه يبقى شيء آخر وهو عدم تمامية الاستدلال بها وحدها على تحريم المتعة لمن يعلم أنها أحلت بعد نزولها كما لا يخفى ، لا يقال : إن للناس في المكي والمدني اصطلاحات ثلاثة ، الأول أن المكي ما نزل قبل الهجرة والمدني ما نزل بعدها سواء نزل بالمدينة أم بمكة عام الفتح أم عام حجة الوداع أم بسفر من الأسفار ، الثاني أن المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة والمدني ما نزل بالمدينة وعلى هذا تثبت الواسطة ، فما نزل بالأسفار لا يطلق عليه مكي ولا مدني ، الثالث أن المكي ما وقع خطابا لأهل مكة والمدني ما وقع خطابا لأهل المدينة ، وحينئذ يمكن أن تكون هذه الآية مكية بالاصطلاح الثاني وتكون نازلة يوم الفتح يوم حرمت المتعة في المرة الثانية ولا يكون التحريم إلا مرتين ويكون استدلال من استدلوا بها من الصحابة والتابعين وغيرهم على التحريم وإن علموا أن المتعة أحلت بعد الهجرة في بعض الغزوات مما لا غبار عليه ، وإذا التزم هذا الاصطلاح في مكية جميع السورة المجمع عليها حسبما سمعت عن البحر ينحل إشكال حمل الزكاة على الزكاة الشرعية مع فرضيته بالمدينة بأن يقال : إن أوائل السورة نزلت بعد فرضية الزكاة في المدينة عام الفتح في مكة لأنا نقول : لا شبهة في أنه يمكن كون الآية مكية بالاصطلاح الثاني وكونها نازلة يوم الفتح وكذلك يمكن كون كل السورة أو أغلبها مكيا بذلك الاصطلاح وكل ما بني على ذلك صحيح بناء عليه إلا أن المتبادر من المكي والمدني المعني المصطلح عليه أولا لأن الاصطلاح الأول أشهر الاصطلاحات الثلاثة كما قال الجلال السيوطي في الإتقان.
فالظاهر من قولهم : إن هذه السورة مكية أنها نزلت قبل الهجرة بل قد صرح الجلال المذكور بأنها إلا ما استثني منها مما سمعته مكية على الاصطلاح الأول دون الثاني ولا يحرم مثله بذلك إلا عن وقوف فما ذكر مجرد تجويز أمر لا يساعد على ثبوته صريح نقل بل النقل الصريح مساعد على خلافه وهو المرجع فيما نحن فيه.
فقد قال القاضي أبو بكر في الانتصار : إنما يرجع في معرفة المكي والمدني لحفظ الصحابة والتابعين ، وكونهما قد يعرفان بالقياس على ما ذكره الجعبري وغيره مع عدم جدواه ليس بشيء. نعم إذا جعل استدلال الصحابي أو التابعي المطلع على إباحة المتعة بعد الهجرة بها قولا باستثنائها عن أخواتها من آيات السورة وحكما عليها بنزولها بعد الهجرة دونهن فالأمر واضح ، وستطلع أيضا إن شاء اللّه تعالى على ما يوجب استثناء غير ذلك ، وبالجملة متى قيل المدار في أمثال هذه المقامات صريح النقل تعين القول بأن الآية مكية بمعنى أنها نزلت قبل الهجرة ، وأشكل الاستدلال بها على تحريم المتعة بعد تحليلها بعد الهجرة لكون دليل التحليل مخصصا لعمومها ، ومذهب الأئمة الأربعة جواز تخصيص عموم القرآن بالسنة مطلقا وهو المختار ويحتاج حينئذ إلى دليل غيرها على التحريم ، وبعد ثبوت الدليل تكون هي دليلا آخر بمعونته وهذا الدليل الأخبار الصحيحة من تحريم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إياها وقد تقدم بعضها ، وفي صحيح مسلم عنه عليه الصلاة والسلام «كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وقد حرم اللّه تعالى ذلك إلى يوم القيامة».
وأخرج الحازمي بسنده إلى جابر قال : «خرجنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى غزوة تبوك حتى إذا كنا عند العقبة مما

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 213
يلي الشام جاءت نسوة فذكرنا تمتعنا وهن يطفن في رحالنا فجاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فنظر إليهن وقال : من هؤلاء النسوة؟
فقلنا : يا رسول اللّه نسوة تمتعنا منهن فغضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتى احمرت وجنتاه وتمعر وجهه وقام فينا خطيبا فحمد اللّه تعالى وأثنى عليه ثم نهى عن المتعة فتوادعنا يومئذ الرجال والنساء ولم نعد ولا نعود أبدا» ، وقد روى تحريمها عنه عليه الصلاة والسلام أيضا عليّ كرم اللّه تعالى وجهه
وجاء ذلك في صحيح مسلم ووقع على ما قيل إجماع الصحابة على أنها حرام وصح عند بعض رجوع ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما إلى القول بالحرمة بعد قوله بحلها مطلقا أو وقت الاضطرار إليها ، واستدل ابن الهمام على رجوعه بما رواه الترمذي عنه أنه قال : إنما كانت المتعة في أول الإسلام كان الرجل يقدم البلد ليس له بها معرفة فيتزوج بقدر ما يرى أنه مقيم فتحفظ له متاعه وتصلح له شأنه حتى إذا نزلت الآية إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. قال ابن عباس : فكل فرج سواهما فهو حرام ، ولا أدري ما عنى بأول الإسلام فإن عنى ما كان في مكة قبل الهجرة أفاد الخبر أنها كانت تفعل قبل إلى أن نزلت الآية فإن كان نزولها قبل الهجرة فلا إشكال في الاستدلال بها على الحرمة لو لم يكن بعد نزولها إباحة لكنه قد كان ذلك ، وإن عنى ما كان بعد الهجرة أوائلها وأنها كانت مباحة إذ ذاك إلى أن نزلت الآية كان ذلك قولا بنزول الآية بعد الهجرة وهو خلاف ما روي عنه من أن السورة مكية المتبادر منه الاصطلاح الأول ولعله يلتزم ذلك ويقال : إن استدلاله بالآية قوله باستثنائها كما مر آنفا أو يقال : إن هذا الخبر لم يصح ، ويؤيدها قول العلامة ابن حجر : إن حكاية الرجوع عن ابن عباس لم تصح بل صح كما قال بعضهم عن جمع أنهم وافقوه في الحل لكن خالفوه فقالوا : لا يترتب على ذلك أحكام النكاح ، وبهذا نازع الزركشي في حكاية الإجماع فقال : الخلاف محقق وإن ادعى جمع نفيه انتهى. ويفهم منه أن ابن عباس يدخل المستمتع بها في الأزواج وحينئذ لا تقوم الآية دليلا عليه فتدبر.
ونسب القول بجواز المتعة إلى مالك رضي اللّه تعالى عنه وهو افتراء عليه بل هو كغيره من الأئمة قائل بحرمتها بل قيل إنه زيادة على القول بالحرمة يوجب الحد على المستمتع لم يوجبه غيره من القائلين بالحرمة لمكان الشبهة.
وكذا اختلف في استمناء الرجل بيده ويسمى الخضخضة وجلد عميرة فجمهور الأئمة على تحريمه وهو عندهم داخل فيما وراء ذلك ، وكان أحمد بن حنبل يجيزه لأن المني فضلة في البدن فجاز إخراجها عند الحاجة كالفصد والحجامة ، وقال ابن الهمام : يحرم فإن غلبته الشهوة ففعل إرادة تسكينها به فالرجاء أن لا يعاقب ومن الناس من منع دخوله فيما ذكر ففي البحر : كان قد جرى لي في ذلك كلام مع قاضي القضاة أبي الفتح محمد بن علي ابن مطيع القشيري بن دقيق العيد فاستدل على منع ذلك بهذه الآية فقلت : إن ذلك خرج مخرج ما كانت العرب تفعله من الزنا والتفاخر به في أشعارها وكان ذلك كثيرا فيهم بحيث كان في بغاياهم صاحبات رايات ولم يكونوا ينكرون ذلك وأما جلد عميرة فلم يكن معهودا فيهم ولا ذكره أحد منهم في شعر فيما علمناه فليس بمندرج فيما وراء ذلك انتهى ، وأنت تعلم أنه إذا ثبت أن جلد عميرة كناية عن الاستمناء باليد عند العرب كما هو ظاهر عبارة القاموس فالظاهر أن هذا الفعل كان موجودا فيما بينهم وإن لم يكن كثيرا شائعا كالزنا فمتى كان ذلك من أفراد العام لم يتوقف اندراجه تحته على شيوعه كسائر أفراده ، وفي الأحكام إذا كان من عادة المخاطبين تناول طعام خاص مثلا فورد خطاب عام بتحريم الطعام نحو حرمت عليكم الطعام فقد اتفق الجمهور من العلماء على إجراء اللفظ على عمومه في تحريم كل طعام على وجه يدخل فيه المعتاد وغيره وأن العادة لا تكون منزلة للعموم على تحريم المعتاد دون غيره خلافا لأبي حنيفة عليه الرحمة وذلك لأن الحجة إنما هي في اللفظ الوارد وهو مستغرق لكل مطعوم بلفظه ولا ارتباط له بالعوائد وهو حاكم على العوائد فلا تكون العوائد حاكمة عليه ، نعم لو كانت العادة في الطعام المعتاد أكله قد خصصت بعرف

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 214
الاستعمال اسم الطعام بذلك كما خصصت الدابة بذوات القوائم الأربع لكان لفظ الطعام منزلا عليه دون غيره ضرورة تنزيل مخاطبة الشارع للعرب على ما هو المفهوم لهم من لغتهم.
والفرق أن العادة أولا إنما هي مطردة في اعتياد أكل ذلك الطعام المخصوص فلا تكون قاضية على ما اقتضاه عموم لفظ الطعام ، وثانيا هي مطردة في تخصيص اسم الطعام بذلك الطعام الخاص فتكون قاضية على الاستعمال الأصلي ا ه ، ومنه يعلم أن الاستمناء باليد إن كان قد جرت عادة العرب على إطلاق ما وراء ذلك عليه دخل عند الجمهور وإن لم تجر عادتهم على فعله وإن كان لم تجر عادتهم على إطلاق ذلك عليه وجرت على إطلاقه على ما عداه من الزنا ونحوه لم يدخل ذلك الفعل في العموم عن الجمهور.
ومن الناس من استدل على تحريمه بشيء آخر نحو ما ذكره المشايخ من
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «ناكح اليد معلون»
وعن سعيد بن جبير : عذب اللّه تعالى أمة كانوا يعبثون بمذاكيرهم
، وعن عطاء : سمعت قوما يحشرون وأيديهم حبالى وأظن أنهم الذين يستمنون بأيديهم واللّه تعالى أعلم ، وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله ، ولا يخفى أن كل ما يدخل في العموم تفيد الآية حرمة فعله على أبلغ وجه ونظير ذلك إفادة قوله تعالى : وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى [الإسراء : 32] حرمة فعل الزنا فافهم.
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ قائمون بحفظها وإصلاحها ، وأصل الرعي حفظ الحيوان إما بغذائه الحافظ لحياته أو بذب العدو عنه ، ثم استعمل في الحفظ مطلقا ، والأمانات جمع أمانة وهي في الأصل مصدر لكن أريد بها هنا ما ائتمن عليه إذ الحفظ للعين لا للمعنى وأما جمعها فلا يعين ذلك إذ المصادر قد تجمع كما قدمنا غير بعيد ، وكذا العهد مصدر أريد به ما عوهد عليه لذلك ، والآية عند أكثر المفسرين عامة في كل ما ائتمنوا عليه وعوهدوا من جهة اللّه تعالى ومن جهة الناس كالتكاليف الشرعية والأموال المودعة والأيمان والنذور والعقود ونحوها ، وجمعت الأمانة دون العهد قيل لأنها متنوعة متعددة جدا بالنسبة إلى كل مكلف من جهته تعالى ولا يكاد يخلو مكلف من ذلك ولا كذلك العهد.
وجوز بعض المفسرين كونها خاصة فيما ائتمنوا عليه وعوهدوا من جهة الناس وليس بذاك ، ويجوز عندي أن يراد بالأمانات ما ائتمنهم اللّه تعالى عليه من الأعضاء والقوى ، والمراد برعيها حفظها عن التصرف بها على خلاف أمره عز وجل. وأن يراد بالعهد ما عاهدهم اللّه تعالى عليه مما أمرهم به سبحانه بكتابه وعلى لسان رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم ، والمراد برعيه حفظه عن الإخلال به وذلك بفعله على أكمل وجه فحفظ الأمانات كالتخلية وحفظ العهد كالتحلية ، وكأنه جل وعلا بعد أن ذكر حفظهم لفروجهم ذكر حفظهم لما يشملها وغيرها ، ويجوز أن تعمم الأمانات بحيث تشمل الأموال ونحوها وجمعها لما فيها لمن التعدد المحسوس المشاهد فتأمل.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو في رواية «لأمانتهم» بالإفراد وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ المكتوبة عليهم كما أخرج ابن المنذر عن أبي صالح وعبد بن حميد عن عكرمة يُحافِظُونَ بتأديتها في أوقاتها بشروطها وإتمام ركوعها وسجودها وسائر أركانها كما روي عن قتادة.
وأخرج جماعة عن ابن مسعود أنه قيل : إن اللّه تعالى يكثر ذكر الصلاة في القرآن الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ [المعارج : 23] وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ قال ذاك على مواقيتها قالوا : ما كنا نرى ذلك إلا على فعلها وعدم تركها قال : تركها الكفر ، وقيل : المحافظة عليها المواظبة على فعلها على أكمل وجه. وجيء بالفعل دون الاسم كما في سائر رؤوس الآية السابقة لما في الصلاة من التجدد والتكرر ولذلك جمعت في قراءة السبعة ما

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 215
عدا الأخوين وليس ذلك تكريرا لما وصفهم به أولا من الخشوع في جنس الصلاة للمغايرة التامة بين ما هنا وما هناك كما لا يخفى.
وفي تصدير الأوصاف وختمها بأمر الصلاة تعظيم لشأنها ، وتقديم الخشوع للاهتمام به فإن الصلاة بدونه كلا صلاة بالإجماع وقد قالوا : صلاة بلا خشوع جسد بلا روح ، وقيل : تقديمه لعموم ما هنا له أُولئِكَ إشارة إلى المؤمنين باعتبار اتصافهم بما ذكر من الصفات وإيثارها على الإضمار للإشعار بامتيازهم بها عن غيرهم ونزولهم منزلة المشار إليهم حسا ، وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو طبقتهم وبعد درجتهم في الفضل والشرف أي أولئك المنعوتون بالنعوت الجليلة المذكورة هُمُ الْوارِثُونَ أي الأحقاء أن يسموا وراثا دون من عداهم ممن لم يتصف بتلك الصفات من المؤمنين ، وقيل : ممن ورث رغائب الأموال والذخائر وكرائمها.
الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ صفة كاشفة أو عطف بيان أو بدل ، وإيّا ما كان ففيه بيان لما يرثونه وتقييد للوراثة بعد إطلاقها تفخيما لها وتأكيدا ، والفردوس أعلى الجنان ،
أخرج عبد بن حميد والترمذي وقال : حسن صحيح غريب عن أنس رضي اللّه تعالى عنه أن الربيع بنت نضير أتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وكان ابنها الحارث بن سراقة أصيب يوم بدر أصابه سهم غرب فقالت : أخبرني عن حارثة فإن كان أصاب الجنة احتسبت وصبرت وإن كان لم يصب الجنة اجتهدت في الدعاء فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : «إنها جنان في جنة وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى والفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها»
وعلى هذا لا إشكال في الحصر على ما أشرنا إليه أولا فإن غير المتصف بما ذكر من الصفات وإن دخل الجنة لا يرث الفردوس التي هي أفضلها ، وبتقدير إرثه إياها فهو ليس حقيقا بأن يسمى وارثا لما أن ذلك إنما يكون في الأغلب بعد كد ونصب ، وإرثهم إياها من الكفار حيث فوتوها على أنفسهم لأنه تعالى خلق لكل منزلا في الجنة ومنزلا في النار.
أخرج سعيد بن منصور وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن أبي هريرة قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما منكم من أحد إلا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله فذلك قوله تعالى : أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ»
وقيل الإرث استعارة للاستحقاق وفي ذلك من المبالغة ما فيه لأن الإرث أقوى أسباب الملك ، واختير الأول لأنه تفسير رسول اللّه عليه الصلاة والسلام على ما صححه القرطبي هُمْ فِيها أي في الفردوس وهو على ما ذكره ابن الشحنة مما يؤنث ويذكر.
وذكر بعضهم أن التأنيث باعتبار أنه اسم للجنة أو لطبقتها العليا ، وقد تقدم لك تمام الكلام في الفردوس.
خالِدُونَ لا يخرجون منها أبدا ، والجملة إما مستأنفة مقررة لما قبلها وإما حال مقدرة من فاعل يَرِثُونَ أو مفعوله كما قال أبو البقاء إذ فيها ذكر كل منهما ، ومعنى الكلام لا يموتون ولا يخرجون منها.
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ لما ذكر سبحانه أولا أحوال السعداء عقبه بذكر مبدئهم ومآل أمرهم في ضمن ما يعمهم وغيرهم وفي ذلك إعظام للمنة عليهم وحث على الاتصاف بالصفات الحميدة وتحمل مؤن التكليفات الشديدة أو لما ذكر إرث الفردوس عقبه بذكر البعث لتوقفه عليه أو لما حث على عبادته سبحانه وامتثال أمره عقبه بما يدل على ألوهيته لتوقف العبادة على ذلك ولعل الأول أولى في وجه مناسبة الآية لما قبلها ، ويجوز أن يكون مجموع الأمور المذكورة ، واللام واقعة في جواب القسم والواو للاستئناف.
وقال ابن عطية : هي عاطفة جملة كلام على جملة وإن تباينتا في المعاني وفيه نظر ، والمراد بالإنسان الجنس ، والسلالة من سللت الشيء من الشيء إذا استخرجته منه فهي ما سلّ من الشيء واستخرج منه فإن فعالة اسم لما يحصل

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 216
من الفعل فتارة تكون مقصودة منه كالخلاصة وأخرى غير مقصودة منه كالقلامة والكناسة والسلالة من قبيل الأول فإنها مقصودة بالسل.
وذكر الزمخشري أن هذا البناء يدل على القلة ، ومن الأولى ابتدائية متعلقة بالخلق ، ومن الثانية يحتمل أن تكون كذلك إلا أنها متعلقة بسلالة على أنها بمعنى مسلولة أو متعلقة بمحذوف وقع صفة لسلالة ، ويحتمل أن تكون على هذا تبعيضية وأن تكون بيانية ، وجوز أن يكون مِنْ طِينٍ بدلا أو عطف بيان بإعادة الجار ، وخلق جنس الإنسان مما ذكر باعتبار خلق أول الأفراد وأصل النوع وهو آدم عليه السلام منه فيكون الكل مخلوقا من ذلك خلقا إجماليا في ضمن خلقه كما مر تحقيقه ، وقيل : خلق الجنس من ذلك باعتبار أنه مبدأ بعيد لأفراد الجنس فإنهم من النطف الحاصلة من الغذاء الذي هو سلالة الطين وصفوته ، وفيه وصف الجنس بوصف أكثر أفراده لأن خلق آدم عليه السلام لم يكن كذلك أو يقال ترك بيان حاله عليه السلام لأنه معلوم ، واقتصر على بيان حال أولاده.
وجاء ذلك في بعض الروايات عن ابن عباس ، وقيل المراد بالطين آدم عليه السلام على أنه من مجاز الكون ، والمراد بالسلالة النطفة وبالإنسان الجنس ووصفه بما ذكر باعتبار أكثر أفراده أو يقال كما قيل آنفا ، ولا يخفى خفاء قرينة المجاز وعدم تبادر النطفة من السلالة ، وقيل المراد بالإنسان آدم عليه السلام وروي ذلك عن جماعة وما ذهبنا إليه أولا أولى ، والضمير في قوله تعالى : ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً عائد على الجنس باعتبار أفراده المغايرة لآدم عليه السلام ، وإذا أريد بالإنسان أولا آدم عليه السلام فالضمير على ما في البحر عائد على غير مذكور وهو ابن آدم ، وجاز لوضوح الأمر وشهرته وهو كما ترى أو على الإنسان والكلام على حذف مضاف أي ثم جعلنا نسله ، وقيل يراد بالإنسان أولا آدم عليه السلام وعند عود الضمير عليه ما تناسل منه على سبيل الاستخدام ، ومن البعيد جدا أن يراد بالإنسان أفراد بني آدم والضمير عائد عليه ويقدر مضاف في أول الكلام أي ولقد خلقنا أصل الإنسان إلخ ، ومثله أن يراد بالإنسان الجنس أو آدم عليه السلام والضمير عائد على سُلالَةٍ والتذكير بتأويل المسلول أو الماء أي ثم صيرنا السلالة نطفة.
والظاهر أن نُطْفَةً في سائر الوجوه مفعولا ثانيا للجعل على أنه بمعنى التصيير وهو على الوجه الأخير ظاهر ، وأما على وجه عود الضمير على الإنسان فلا بد من ارتكاب مجاز الأول بأن يراد بالإنسان ما سيصير إنسانا ، ويجوز أن يكون الجعل بمعنى الخلق المتعدي إلى مفعول واحد ويكون نُطْفَةً منصوبا بنزع الخافض واختاره بعض المحققين أي ثم خلقنا الإنسان من نطفة كائنة فِي قَرارٍ أي مستقر وهو في الأصل من قريقر قرارا بمعنى ثبت ثبوتا وأطلق على ذلك مبالغة ، والمراد به الرحم ووصفه بقوله تعالى : مَكِينٍ أي متمكن مع أن التمكن وصف ذي المكان وهو النطفة هنا على سبيل المجاز كما يقال طريق سائر ، وجوز أن يقال : إن الرحم نفسها متمكنة ومعنى تمكنها أنها لا تنفصل لثقل حملها أولا تمج ما فيها فهو كناية عن جعل النطفة محرزة مصونة وهو وجه وجيه ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً أي دما جامدا وذلك بإفاضة أعراض الدم عليها فتصيرها دما بحسب الوصف ، وهذا من باب الحركة في الكيف فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً أي قطعة لحم بقدر ما يمضغ لا استبانة ولا تمايز فيها ، وهذا التصيير على ما قيل بحسب الذات كتصيير الماء حجرا وبالعكس ، وحقيقته إزالة الصورة الأولى عن المادة وإفاضة صورة أخرى عليها وهو من باب الكون والفساد ولا يخلو ذلك من الحركة في الكيفية الاستعدادية فإن استعداد الماء مثلا للصورة الأولى الفاسدة يأخذ في الانتقاص واستعداده للصورة الثانية الكائنة يأخذ في الاشتداد ولا يزال الأول ينقص والثاني يشتد إلى أن تنتهي المادة إلى حيث تزول عنها الصورة الأولى فتحدث فيها الثانية دفعة فتتوارد هذه الاستعدادات التي هي من مقولة الكيف على موضوع واحد فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ غالبها ومعظمها أو كلها عِظاماً

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 217
صغارا وعظاما حسبما تقتضيه الحكمة وذلك التصيير بالتصليب لما يراد جعله عظاما من المضغة وهذا أيضا تصيير بحسب الوصف فيكون من الباب الأول.
وفي كلام العلامة البيضاوي إشارة ما إلى مجموع ما ذكرنا وهو يستلزم القول بأن النطفة والعلقة متحدان في الحقيقة وإنما الاختلاف بالأعراض كالحمرة والبياض مثلا وكذا المضغة والعظام متحدان في الحقيقة وإنما الاختلاف بنحو الرخاوة والصلابة وأن العلقة والمضغة مختلفان في الحقيقة كما أنهما مختلفان بالأعراض.
والظاهر أنه تتعاقب في جميع هذه الأطوار على مادة واحدة صور حسب تعاقب الاستعدادات إلى أن تنتهي إلى الصورة الإنسانية ، ونحن نقول به إلى أن يقوم الدليل على خلافه فتدبر فَكَسَوْنَا الْعِظامَ المعهودة لَحْماً أي جعلنا ساترا لكل منها كاللباس ، وذلك اللحم يحتمل أن يكون من لحم المضغة بأن لم تجعل كلها عظاما بل بعضها ويبقى البعض فيمد على العظام حتى يسترها ، ويحتمل أن يكون لحما آخر خلقه اللّه تعالى على العظام من دم في الرحم.
وجمع الْعِظامَ دون غيرها مما في الأطوار لأنها متغايرة هيئة وصلابة بخلاف غيرها ألا ترى عظم الساق وعظم الأصابع وأطراف الأضلاع ، وعدة العظام مطلقا على ما قيل مائتان وثمانية وأربعون عظما وهي عدة رحم بالجمل الكبير ، وجعل بعضهم هذه عدة أجزاء الإنسان واللّه تعالى أعلم.
وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبان والمفضل والحسن وقتادة وهارون والجعفي ويونس عن أبي عمرو وزيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما بإفراد الْعِظامَ في الموضعين اكتفاء باسم الجنس الصادق على القليل والكثير مع عدم اللبس كما في قوله : «كلوا في بعض بطنكم تعفوا». واختصاص مثل ذلك بالضرورة على ما نقل عن سيبويه لا يخلو عن نظر ، وفي الإفراد هنا مشاكلة لما ذكر قبل في الأطوار كما ذكره ابن جني.
وقرأ السلمي وقتادة أيضا والأعرج والأعمش ومجاهد وابن محيصن بإفراد الأول وجمع الثاني.
وقرأ أبو رجاء وإبراهيم بن أبي بكر ومجاهد أيضا بجمع الأول وإفراد الثاني ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ مباينا للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعل حيوانا ناطقا سميعا بصيرا وأودع كل عضو منه وكل جزء عجائب وغرائب لا تدرك بوصف ولا تبلغ بشرح ، ومن هنا قيل :
وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
وقيل الخلق الآخر الروح والمراد بها النفس الناطقة. والمعنى أنشأنا له أو فيه خلقا آخر ، والمتبادر من إنشاء الروح خلقها وظاهر العطف بثم يقتضي حدوث البدن وهو قول أكثر الإسلاميين وإليه ذهب أرسطو ، وقيل إنشاؤها نفخها في البدن وهو عند بعض عبارة عن جعلها متعلقة به ، وعند أكثر المسلمين جعلها سارية فيه ، وإذا أريد بالروح الروح الحيوانية فلا كلام في حدوثها بعد البدن وسريانها فيه ، وقيل : الخلق الآخر القوى الحساسة ، وقال الضحاك ويكاد يضحك منه فيما أخرجه عنه عبد بن حميد : الخلق الآخر الأسنان والشعر فقيل له : أليس يولد وعلى رأسه الشعر؟ فقال : فأين العانة والإبط ، وما أشرنا إليه من كون ثُمَّ للترتيب الزماني هو ما يقتضيه أكثر استعمالاتها ، ويجوز أن تكون للترتيب الرتبي فإن الخلق الثاني أعظم من الأول ورتبته أعلى وجاءت المعطوفات الأول بعضها بثم وبعضها بالفاء ولم يجىء جميعها بثم أو بالفاء مع صحة ذلك في مثلها للإشارة إلى تفاوت الاستحالات فالمعطوف بثم مستبعد حصوله مما قبله فجعل الاستبعاد عقلا أو رتبة بمنزلة التراخي والبعد الحسي لأن حصول النطفة من أجزاء ترابية غريب جدا وكذا جعل النطفة البيضاء السيالة دما أحمر جامدا بخلاف جعل الدم لحما مشابها له في اللون والصورة

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 218 وكذا تصليب المضغة حتى تصير عظما وكذا مد لحمها عليه ليستره كذا قيل ولا يخلو عن قيل وقال.
واستدل الإمام أبو حنيفة بقوله تعالى : ثُمَّ أَنْشَأْناهُ إلخ على أن من غصب بيضة فأفرخت عنده لزمه ضمان البيضة لا الفرخ لأنه خلق آخر ، قال في الكشف : وفي هذا الاستدلال نظر على أصل مخالفيه لأن مباينته للأول لا تخرجه عن ملكه عندهم ، وقال صاحب التقريب : إن تضمينه للفرخ لكونه جزءا من المغضوب لا لكونه عينه أو مسمى باسمه ، وفي هذا بحث وفي المسألة خلاف كثير وكلام طويل يطلب من كتب الفروع المبسوطة.
وقال الإمام : قالوا في الآية دلالة على بطلان قول النظام : إن الإنسان هو الروح لا البدن فإنه تعالى بين فيها أن الإنسان مركب من هذه الأشياء ، وعلى بطلان قول الفلاسفة : إن الإنسان لا ينقسم وإنه ليس بجسم وكأنهم أرادوا أن الإنسان هو النفس الناطقة والروح الأمرية المجردة فإنها التي ليست بجسم عندهم ولا تقبل الانقسام بوجه وليست داخل البدن ولا خارجه فَتَبارَكَ اللَّهُ فتعالى وتقدس شأنه سبحانه في علمه الشامل وقدرته الباهرة ، و(تبارك) فعل ماض لا يتصرف والأكثر إسناده إلى غير مؤنث ، والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة والإشعار بأن ما ذكر من الأفاعيل العجيبة من أحكام الألوهية وللإيذان بأن حق كل من سمع ما فصل من آثار قدرته عز وجل أو لاحظه أن يسارع إلى التكلم به إجلالا وإعظاما لشؤونه جل وعلا أَحْسَنُ الْخالِقِينَ نعت للاسم الجليل ، وإضافة أفعل التفضيل محضة فتفيده تعريفا إذا أضيف إلى معرفة على الأصح.
وقال أبو البقاء : لا يجوز أن يكون نعتا لأنه نكرة وإن أضيف لأن المضاف إليه عوض عن - من - وهكذا جميع باب أفعل منك وجعله بدلا وهو يقل في المشتقات أو خبر مبتدأ مقدر أي هو أحسن الخالقين والأصل عدم التقدير ، وتميز أفعل محذوف لدلالة الخالقين عليه أي أحسن الخالقين خلقا فالحسن للخلق قيل : نظيره
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «إن اللّه تعالى جميل يحب الجمال»
أي جميل فعله فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فانقلب مرفوعا فاستتر ، والخلق بمعنى التقدير وهو وصف يطلق على غيره تعالى كما في قوله تعالى : وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ [المائدة : 110] وقول زهير :
ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
وفي معنى ذلك تفسيره بالصنع كما فعل ابن عطية ، ولا يصح تفسيره بالإيجاد عندنا إذ لا خالق بذلك المعنى غيره تعالى إلا أن يكون على الفرض والتقدير. والمعتزلة يفسرونه بذلك لقولهم بأن العبد خالق لأفعاله وموجد لها استقلالا فالخالق الموجد متعدد عندهم ، وقد تكفلت الكتب الكلامية بردهم.
ومعنى حسن خلقه تعالى إتقانه وإحكامه ، ويجوز أن يراد بالحسن مقابل القبح وكل شيء منه عز شأنه حسن لا يتصف بالقبح أصلا من حيث إنه منه فلا دليل فيه للمعتزلة بأنه تعالى لا يخلق الكفر والمعاصي كما لا يخفى.
روي أن عبد اللّه بن سعيد بن أبي سرح كان يكتب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأملى عليه صلّى اللّه عليه وسلّم قوله تعالى : وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ حتى إذا بلغ عليه الصلاة والسلام ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ نطق عبد اللّه بقوله تعالى : فَتَبارَكَ اللَّهُ إلخ قبل إملائه فقال له عليه الصلاة والسلام : هكذا نزلت فقال عبد اللّه : إن كان محمد نبيا يوحى إليه فأنا نبي يوحى إليّ فارتد
ولحق بمكة كافرا ثم أسلم قبل وفاته عليه الصلاة والسلام وحسن إسلامه ، وقيل : مات كافرا ، وطعن بعضهم في صحة هذه الرواية بأن السورة مكية وارتداده بالمدينة كما تقتضيه الرواية ، وأجيب بأنه يمكن الجمع بأن تكون الآية نازلة بمكة واستكتبها صلّى اللّه عليه وسلّم إياه بالمدينة فكان ما كان أو يلتزم كون الآية مدنية لهذا الخبر ، وقوله : إن السورة مكية باعتبار الأكثر وعلى هذا يكون اقتصار الجلال السيوطي على استثناء قوله تعالى : حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ إلى

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 219
قوله سبحانه : مُبْلِسُونَ قصورا فتذكر. وتروى هذه الموافقة عن معاذ بن جبل.
أخرج ابن راهويه وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وابن مردويه عن زيد بن ثابت رضي اللّه تعالى عنه قال : أملى عليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم هذه الآية وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ إلى قوله : خَلْقاً آخَرَ فقال معاذ بن جبل رضي اللّه تعالى عنه فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فضحك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال له معاذ : مم ضحكت يا رسول اللّه؟ قال : «بها ختمت» ورويت أيضا عن عمر رضي اللّه عنه
، أخرج الطبراني ، وأبو نعيم في فضائل الصحابة وابن مردويه عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : لما نزلت وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ إلى آخر الآية قال عمر رضي اللّه تعالى عنه : فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فنزلت كما قال. وأخرج ابن عساكر ، وجماعة عن أنس أن عمر رضي اللّه تعالى عنه كان يفتخر بذلك ويذكر أنها إحدى موافقاته الأربع لربه عز وجل ، ثم إن ذلك من حسن نظم القرآن الكريم حيث تدل صدور كثير من آياته على إعجازها ، وقد مدحت بعض الأشعار بذلك فقيل :
قصائد إن تكن تتلى على ملإ صدورها علمت منها قوافيها
لا يقال : فقد تكلم البشر ابتداء بمثل نظم القرآن الكريم وذلك قادح في إعجازه لما أن الخارج عن قدرة البشر على الصحيح ما كان مقدار أقصر سورة منه على أن إعجاز هذه الآية الكريمة منوط بما قبلها كما تعرب عنه الفاء فإنها اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ أي بعد ما ذكر من الأمور العجيبة حسبما ينبىء عنه ما في اسم الإشارة من معنى البعد المشعر بعلو رتبة المشار إليه وبعد منزلته في الفضل والكمال وكونه بذلك ممتازا منزلا منزلة الأمور الحسية لَمَيِّتُونَ أي لصائرون إلى الموت لا محالة كما يؤذن به اسمية الجملة وإن اللام وصيغة النعت الذي هو للثبوت ، وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما وابن أبي عبلة وابن محيصن «لمائتون» وهو اسم فاعل يراد به الحدوث ، قال الفراء وابن مالك : إنما يقال مايت في الاستقبال فقط.
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عند النفخة الثانية تُبْعَثُونَ من قبوركم للحساب والمجازاة بالثواب والعقاب ، ولم يؤكد سبحانه أمر البعث تأكيده لأمر الموت مع كثرة المترددين فيه والمنكرين له اكتفاء بتقديم ما يغني عن كثرة التأكيد ويشيد أركان الدعوى أتم تشييد من خلقه تعالى الإنسان من سلالة من طين ثم نقله من طور إلى طور حتى أنشأه خلقا آخر يستغرق العجائب ويستجمع الغرائب فإن في ذلك أدل دليل على حكمته وعظيم قدرته عز وجل على بعثه وإعادته وأنه جل وعلا لا يهمل أمره ويتركه بعد موته نسيا منسيا مستقرا في رحم العدم كأن لم يكن شيئا ، ولما تضمنت الجملة السابقة المبالغة في أنه تعالى شأنه أحكم خلق الإنسان وأتقنه بالغ سبحانه عز وجل في تأكيد الجملة الدالة على موته مع أنه غير منكر لما أن ذلك سبب لاستبعاد العقل إياه أشد استبعاد حتى يوشك أن ينكر وقوعه من لم يشاهده وسمع أن اللّه جل جلاله أحكم خلق الإنسان وأتقنه غاية الإتقان ، وهذا وجه دقيق لزيادة التأكيد في الجملة الدالة على الموت وعدم زيادته في الجملة الدالة على البعث لم أر أني سبقت إليه ، وقيل في ذلك : إنه تعالى شأنه لما ذكر في الآيات السابقة من التكليفات ما ذكر نبه على أنه سبحانه أبدع خلق الإنسان وقلبه في الأطوار حتى أوصله إلى طور هو غاية كماله وبه يصح تكليفه بنحو تلك التكليفات وهو كونه حيا عاقلا سميعا بصيرا وكان ذلك مستدعيا لذكر طور يقع فيه الجزاء على ما كلفه تعالى به وهو أن يبعث يوم القيامة فنبه سبحانه عليه بقوله : ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ فالمقصود الأهم بعد بيان خلقه وتأهله للتكليف بيان بعثه لكن وسط حديث الموت لأنه برزخ بين طوره الذي تأهل به للأعمال التي تستدعي الجزاء وبين بعثه فلا بد من قطعه للوصول إلى ذلك فكأنه قيل : أيها المخلوق العجيب الشأن إن ماهيتك وحقيقتك تفنى وتعدم ثم إنها

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 220
بعينها من الأجزاء المتفرقة والعظام البالية والجلود المتمزقة المتلاشية في أقطار الشرق والغرب تبعث وتنشر ليوم الجزاء لإثابة من أحسن فيما كلفناه به وعقاب من أساء فيه ، فالقرينة الثانية وهي الجملة الدالة على البعث لم تفتقر إلى التوكيد افتقار الأولى وهي الجملة الدالة على الموت لأنها كالمقدمة لها وتوكيدها راجع إليها ، ومنه يعلم سر نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب انتهى ، وفيه من البعد ما فيه.
وقيل : إنما بولغ في القرينة الأولى لتمادي المخاطبين في الغفلة فكأنهم نزلوا منزلة المنكرين لذلك وأخليت الثانية لوضوح أدلتها وسطوع براهينها ، قال الطيبي : هذا كلام حسن لو ساعد عليه النظم الفائق ، وربما يقال : إن شدة كراهة الموت طبعا التي لا يكاد يسلم منها أحد نزلت منزلة شدة الإنكار فبولغ في تأكيد الجملة الدالة عليه ، وأما البعث فمن حيث إنه حياة بعد الموت لا تكرهه النفوس ومن حيث إنه مظنة للشدائد تكرهه فلما لم يكن حاله كحال الموت ولا كحال الحياة بل بين بين أكدت الجملة الدالة عليه تأكيدا واحدا ، وهذا وجه للتأكيد لم يذكره أحد من علماء المعاني ولا يضر فيه ذلك إذا كان وجيها في نفسه ، وتكرير حرف التراخي للإيذان بتفاوت المراتب ، وقد تضمنت الآية ذكر تسعة أطوار ووقع الموت فيها الطور الثامن ووافق ذلك أن من يولد لثمانية أشهر من حمله قلما يعيش ، ولم يذكر سبحانه طور الحياة في القبر لأنه من جنس الإعادة وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ إن لخلق ما يحتاج إليه بقاؤهم إثر بيان خلقهم ، وقيل : استدلال على البعث أي خلقنا في جهة العلو من غير اعتبار فوقيتها لهم لأن تلك النسبة إنما تعرض بعد خلقهم سَبْعَ طَرائِقَ هي السماوات السبع ، وطَرائِقَ جمع طريقة بمعنى مطروقة من طرق النعل والخوافي إذ وضع طاقاتها بعضها فوق بعض قاله الخليل والفراء والزجاج ، فهذا كقوله تعالى : طِباقاً [الملك : 3 ، نوح : 15] ولكل من السبع نسبة وتعلق بالمطارقة فلا تغليب ، وقيل : جمع طريقة بمعناها المعروف وسميت السماوات بذلك لأنها طرائق الملائكة عليهم السلام في هبوطهم وعروجهم لمصالح العباد أو لأنها طرائق الكواكب في مسيرها.
وقال ابن عطية : يجوز أن يكون الطرائق بمعنى المبسوطات من طرقت الحديد مثلا إذا بسطته وهذا لا ينافي القول بكريتها ، وقيل : سميت طرائق لأن كل سماء طريقة وهيئة غير هيئة الأخرى ، وأنت تعلم أن الظاهر أن الهيئة واحدة ، نعم أودع اللّه تعالى في كل سماء ما لم يودعه سبحانه في الأخرى فيجوز أن تكون تسميتها طرائق لذلك وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ أي عن جميع المخلوقات التي من جملتها السماوات السبع غافِلِينَ مهملين أمره بل نفيض على كل ما تقتضيه الحكمة ، ويجوز أن يراد بالخلق الناس ، والمعنى أن خلقنا السماوات لأجل منافعهم ولسنا غافلين عن مصالحهم ، وأل على الوجهين للاستغراق وجوز أن تكون للعهد على أن المراد بالخلق المخلوق المذكور وهو السماوات السبع أي وما كنا عنها غافلين بل نحفظها عن الزوال والاختلال وندبر أمرها ، والإظهار في مقام الإضمار للاعتناء بشأنها ، وإفراد الخلق على سائر الأوجه لأنه مصدر في الأصل أو لأن المتعدد عنده تعالى في حكم شيء واحد.
وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً هو المطر عند كثير من المفسرين ، والمراد بالسماء جهة العلو أو السحاب أو معناها المعروف ولا يعجز اللّه تعالى شيء ، وكان الظاهر على هذا - منها - بدل السَّماءِ ليعود الضمير على الطرائق إلا أنه عدل عنه إلى الإضمار لأن الإنزال منها لا يعتبر فيه كونها طرائق بل مجرد كونها جهة العلو ، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح للاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ، وقوله تعالى : بِقَدَرٍ صفة ماءً أي أنزلنا ماء متلبسا بمقدار ما يكفيهم في حاجهم ومصالحهم أو بتقدير لائق لاستجلاب منافعهم ودفع مضارهم ، وجوز على هذا أن

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 221
يكون في موضع الحال من الضمير ، وقيل : هو صفة لمصدر محذوف أي إنزالا متلبسا بذلك ، وقيل : في الجار والمجرور غير ذلك فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ أي جعلناه ثابتا قارا فيها ومن ذلك ماء العيون ونحوها ، ومعظم الفلاسفة يزعمون أن ذلك الماء من انقلاب البخار المحتبس في الأرض ماء إذا مال إلى جهة منها وبرد وليس لماء المطر دخل فيه ، وكونه من السماء باعتبار أن لأشعة الكواكب التي فيها مدخلا فيه من حيث الفاعلية.
وقال ابن سينا في نجاته : هذه الأبخرة المحتبسة في الأرض إذا انبعث عيونا أمدت البحار بصب الأنهار إليها ثم ارتفع من البحار والبطائح وبطون الجبال خاصة أبخرة أخرى ثم قطرت ثانيا إليها فقامت بدل ما يتحلل منها على الدور دائما. وما في الآية يؤيد ما ذهب إليه أبو البركات البغدادي منهم فقد قال في المعتبر : إن السبب في العيون والقنوات وما يجري مجراها هو ما يسيل من الثلوج ومياه الأمطار لأنا نجدها تزيد بزيادتها وتنقص بنقصانها وإن استحالة الأهوية والأبخرة المنحصرة في الأرض لا مدخل لها في ذلك فإن باطن الأرض في الصيف أشد بردا منه في الشتاء فلو كان ذلك سبب استحالتها لوجب أن تكون العيون والقنوات ومياه الآبار في الصيف أزيد وفي الشتاء أنقص مع أن الأمر بخلاف ذلك على ما دلت عليه التجربة انتهى ، واختار القاضي حسين المبيدي أن لكل من الأمرين مدخلا ، واعترض على دليل أبي البركات بأنه لا يدل إلا على نفي كون تلك الاستحالة سببا تاما وأما على أنها لا مدخل لها أصلا فلا.
والحق ما يشهد له كتاب اللّه تعالى فهو سبحانه أعلم بخلقه ، وكل ما يذكره الفلاسفة في أمثال هذه المقامات لا دليل لهم عليه يفيد اليقين كما أشار إليه شارح حكمة العين ، وقيل : المراد بهذا الماء ماء أنهار خمسة ،
فقد روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «أنزل اللّه تعالى من الجنة إلى الأرض خمسة أنهار سيحون وهو نهر الهند وجيحون وهو نهر بلخ ودجلة والفرات وهما نهرا العراق والنيل وهو نهر مصر أنزلها اللّه تعالى من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل عليه السلام فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض»
وجعلها منافع للناس في أصناف معايشهم وذلك قوله تعالى : وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل اللّه تعالى جبريل عليه السلام فرفع من الأرض القرآن والعلم كله والحجر من ركن البيت ومقام إبراهيم عليه السلام وتابوت موسى عليه السلام بما فيه وهذه الأنهار الخمسة فيرفع كل ذلك إلى السماء فذلك قول اللّه تعالى : وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد أهلها خير الدنيا والآخرة. ولا يخفى على المتتبع أن هذا الخبر أخرجه ابن مردويه والخطيب بسند ضعيف ، نعم حديث أربعة أنهار من الجنة سيحان وجيحان وهما غير سيحون وجيحون لأنهما نهران بالعواصم عند المصيصة وطرسوس وسيحون وجيحون نهرا الهند وبلخ كما سمعت على ما قاله ابن عبد البر والفرات والنيل صحيح لكن الكلام في تفسير الآية بذلك. وعن مجاهد أنه حمل الماء على ما يعم ماء المطر وماء البحر وقال ليس في الأرض ماء إلا وهو من السماء ، وأنت تعلم أن الأوفق بالأخبار وبما يذكر بعد في الآية الكريمة كون المراد به ما عدا ماء البحر.
إِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ أي على إزالته بإخراجه عن المائية أو بتغويره بحيث يتعذر استخراجه أو بنحو ذلك لَقادِرُونَ كما كنا قادرين على إنزاله ، فالجملة في موضع الحال وفي تنكير ذَهابٍ إيماء إلى كثرة طرقه لعموم النكرة وإن كانت في الإثبات وبواسطة ذلك تفهم المبالغة في الإثبات ، وهذه الآية أكثر مبالغة من قوله تعالى : قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ [الملك : 30].
وذكر صاحب التقريب ثمانية عشر وجها للأبلغية ، الأول أن ذلك على الفروض والتقدير ، وهذا الجزم على معنى أنه أدل على تحقيق ما أوعد به وإن لم يقع ، الثاني التوكيد بأن الثالث اللام في الخبر الرابع أن هذه في مطلق الماء المنزل من السماء وتلك في ماء مضاف إليهم الخامس أن الغائر قد يكون باقيا بخلاف الذاهب السادس ما في

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 222
تنكير ذَهابٍ من المبالغة السابع اسناده هاهنا إلى مذهب بخلافه تمت حيث قيل غَوْراً. الثامن ما في ضمير المعظم نفسه من الروعة التاسع ما في «قادرون» من الدلالة على القدرة عليه والفعل الواقع من القادر أبلغ. العاشر ما في جمعه. الحادي عشر ما في لفظ بِهِ من الدلالة على أن ما يمسكه فلا مرسل له ، الثاني عشر إخلاؤه من التعقيب بأطماع وهنالك ذكر الإتيان المطمع. الثالث عشر تقديم ما فيه الإيعاد وهو الذهاب على ما هو كالمتعلق له أو متعلقة على المذهبين البصري والكوفي. الرابع عشر ما بين الجملتين الاسمية والفعلية من التفاوت ثباتا وغيره.
الخامس عشر ما في لفظ «أصبح» من الدلالة على الانتقال والصيرورة. السادس عشر أن الإذهاب هاهنا مصرح به.
وهنالك مفهوم من سياق الاستفهام. السابع عشر أن هنالك نفي ماء خاص أعني المعين بخلافه هاهنا. الثامن عشر اعتبار مجموع هذه الأمور التي يكفي كل منها مؤكدا. ثم قال : هذا ما يحضرنا الآن واللّه تعالى أعلم ا ه. وفي النفس من عد الأخير وجها شيء.
وقد يزاد على ذلك فيقال : التاسع عشر إخباره تعالى نفسه به من دون أمر للغير هاهنا بخلافه هنالك فإنه سبحانه أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول ذلك. العشرون عدم تخصيص مخاطب هاهنا وتخصيص الكفار بالخطاب هنالك. الحادي والعشرون التشبيه المستفاد من جعل الجملة حالا كما أشرنا إليه فإنه يفيد تحقيق القدرة ولا تشبيه ثمت. الثاني والعشرون إسناد القدرة إليه تعالى مرتين ، وقد زاد بعض أجلة أهل العصر المعاصرين سلاف التحقيق من كرم أذهانهم الكريمة أكرم عصر أعني به ثالث الرافعي والنواوي أخي الملا محمد أفندي الزهاوي فقال : الثالث والعشرون تضمين الإيعاد هنا إيعادهم بالإبعاد عن رحمة اللّه تعالى لأن ذهب به يستلزم مصاحبة الفاعل المفعول وذهاب اللّه تعالى عنهم مع الماء بمعنى ذهاب رحمته سبحانه عنهم ولعنهم وطردهم عنها ولا كذلك ما هناك. الرابع والعشرون أنه ليس الوقت للذهاب معينا هنا بخلافه في إِنْ أَصْبَحَ فإنه يفهم منه أن الصيرورة في الصبح على أحد استعمالي أصبح ناقصا. الخامس والعشرون أن جهة الذهاب به ليست معينة بأنها السفل. السادس والعشرون أن الإيعاد هنا بما لم يبتلوا به قط بخلافه بما هنالك. السابع والعشرون إن الموعد به هنا إن وقع فهم هالكون البتة. الثامن والعشرون أنه لم يبق هنا لهم متشبث ولو ضعيفا في تأميل امتناع الموعد به وهناك حيث أسند الإصباح غورا إلى الماء ومعلوم أن الماء لا يصبح غورا بنفسه كما هو تحقيق مذهب الحكيم أيضا احتمل أن يتوهم الشرطية مع صدقها ممتنعة المقدم فيأمنوا وقوعه.
التاسع والعشرون أن الموعد به هنا يحتمل في بادي النظر وقوعه حالا بخلافه هناك فإن المستقبل متعين لوقوعه لمكان إِنْ وظاهر أن التهديد بمحتمل الوقوع في الحال أهول ومتعين الوقوع في الاستقبال أهون. الثلاثون أن ما هنا لا يحتمل غير الإيعاد بخلاف ما هناك فإنه يحتمل ولو علم بعد أن يكون المراد به الامتنان بأنه إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فلا يأتيكم بماء معين سوى اللّه تعالى ، ويؤيده ما سن بعده من قول اللّه ربنا ورب العالمين انتهى فتأمل ولا تغفل واللّه تعالى الهادي لأسرار كتابه.
واختيرت المبالغة هاهنا على ما قاله بعض المحققين لأن المقام يقتضيها إذ هو لتعداد آيات الآفاق والأنفس على وجه يتضمن الدلالة على القدرة والرحمة مع كمال عظمة المتصف بهما ولذا ابتدئ بضمير العظمة مع التأكيد بخلاف ما تمت فإنه تتميم للحث على العبادة والترغيب فيها وهو كاف في ذلك فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ أي بذلك الماء وهو ظاهر فيما عليه السلف ، وقال الخلف : المراد أنشأنا عنده جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ قدمهما لكثرتهما وكثرة الانتفاع بهما لا سيما في الحجاز والطائف والمدينة لَكُمْ فِيها أي في الجنات فَواكِهُ كَثِيرَةٌ تتفكهون بها وتتنعمون زيادة على المعتاد من الغذاء الأصلي ، والمراد بها ما عدا ثمرات النخيل والأعناب.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 223
وَمِنْها أي من الجنات والمراد من زروعها وثمارها ، ومن ابتدائية وقيل إنها تبعيضية ومضمونها مفعول تَأْكُلُونَ والمراد بالأكل معناه الحقيقي.
وجوز أن يكون مجازا أو كناية عن العيش مطلقا أي ومنها ترزقون وتحصلون معايشكم من قولهم فلان يأكل من حرفته ، وجوز أن يعود الضميران للنخيل والأعناب أي لكم في ثمراتها أنواع من الفواكه الرطب والعنب والتمر والزبيب والدبس من كل منهما وغير ذلك وطعام تأكلونه فثمرتها جامعة للتفكه والغذاء بخلاف ثمرة ما عداهما وعلى هذا تكون الفاكهة مطلقة على ثمرتهما.
وذكر الراغب في الفاكهة قولين : الأول أنها الثمار كلها ، والثاني أنها ما عدا العنب والرمان ، وصاحب القاموس اختار الأول وقال : قول مخرج التمر والرمان منها مستدلا بقوله تعالى : فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرحمن : 68] باطل مردود ، وقد بينت ذلك مبسوسا في اللامع المعلم العجاب ا ه وأنت تعلم أن للفقهاء خلافا في الفاكهة فذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنها التفاح والبطيخ والمشمش والكمثرى ونحوها لا العنب والرمان والرطب ، وقال صاحباه :
المستثنيات أيضا فاكهة وعليه الفتوى ، ولا خلاف كما في القهستاني نقلا عن الكرماني في أن اليابس منها كالزبيب والتمر وحب الرمان ليس بفاكهة.
وفي الدر المختار أن الخلاف بين الإمام وصاحبيه خلاف عصر فالعبرة فيمن حلف لا يأكل الفاكهة العرف فيحنث بأكل ما يعد فاكهة عرفا ذكر ذلك الشمني وأقره الغزي ، ولا يخفى أن شيئا واحدا يقال له فاكهة في عرف قوم ولا يقال له ذلك في عرف آخرين ، ففي النهر عن المحيط ما روي من أن الجوز واللوز فاكهة فهو في عرفهم أما في عرفنا فإنه لا يؤكل للتفكه ا ه ، ثم إني لم أر أحدا من اللغويين ولا من الفقهاء عد الدبس فاكهة فتدبر ولا تغفل.
وَشَجَرَةً بالنصب عطف على جَنَّاتٍ ، وقرىء بالرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف ، والأولى تقديره مقدما أي أنشأنا لكم شجرة تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ وهو جبل موسى عليه السلام الذي ناجى ربه سبحانه عنده وهو بين مصر وأيلة ، ويقال لها اليوم العقبة ، وقيل بفلسطين من أرض الشام ، ويقال له طور سينين ، وجمهور العرب على فتح سين سيناء والمد. وبذلك قرأ عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه ويعقوب وأكثر السبعة هو اسم للبقعة والطور اسم للجبل المخصوص أو لكل جبل وهو مضاف إلى سَيْناءَ كما أجمعوا عليه ، ويقصد تنكيره على الأول كما في سائر الأعلام إذا أضيفت وعلى الثاني يكون طور سيناء كمنارة المسجد.
وجوز أن يكون كامرىء القيس بمعنى أنه جعل مجموع المضاف والمضاف إليه علما على ذلك العلم ، وقيل سيناء اسم لحجارة بعينها أضيف الجبل إليها لوجودها عنده. وروي هذا عن مجاهد وفي الصحاح طور سيناء جبل بالشام وهو طور أضيف إلى سيناء وهو شجر وقيل هو اسم الجبل والإضافة من إضافة العام إلى الخاص كما في جبل أحد.
وحكي هذا القول في البحر عن الجمهور لكن صحح القول بأنه اسم البقعة وهو ممنوع من الصرف للألف الممدودة فوزنه فعلاء كصحراء ، وقيل : منع من الصرف للعلمية والعجمة ، وقيل : للعلمية والتأنيث بتأويل البقعة ووزنه فيعال لا فعلال إذ لا يوجد هذا الوزن في غير المضاعف في كلام العرب إلا نادرا كخزعال لظلع الإبل حكاه الفراء ولم يثبته أبو البقاء والأكثرون على أنه ليس بعربي بل هو أما نبطي أو حبشي وأصل معناه الحسن أو المبارك ، وجوز بعض أن يكون عربيا من السناء بالمد وهو الرفعة أو السنا بالقصر وهو النور.
وتعقبه أبو حيان بأن المادتين مختلفتان لأن عين السناء أو السنا نون وعين سيناء ياء. ورد بأن القائل بذلك يقول

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 224
إنه فيعال ويجعل عينه النون وياءه مزيدة وهمزته منقلبة عن واو ، الحرميان وأبو عمرو والحسن «سيناء» بكسر السين والمد وهي لغة لبني كنانة وهو أيضا ممنوع من الصرف للألف الممدودة عند الكوفيين لأنهم يثبتون أن همزة فعلاء تكون للتأنيث : وعند البصريين ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة أو العلمية والتأنيث لأن ألف فعلاء عندهم لا تكون للتأنيث بل للإلحاق بفعلال كعلباء وحزباء وهو ملحق بقرطاس وسرداح وهمزته منقلبة عن واو أو ياء لأن الإلحاق يكون بهما ، وقال أبو البقاء : همزة سيناء بالكسر أصل مثل حملاق وليست للتأنيث إذ ليس في الكلام مثل حمراء والياء أصل إذ ليس في الكلام سناء ، وجوز بعضهم أن يكون فيعالا كديماس ، وقرأ الأعمش «سينا» بالفتح والقصر ، وقرىء «سناء» بالكسر والقصر فألفه للتأنيث إن لم يكن أعجميا ، والمراد بهذه الشجرة شجرة الزيتون وتخصيصه بالذكر من بين سائر الأشجار لاستقلالها بمنافع معروفة. وقد قيل هي أول شجرة نبتت بعد الطوفان وتعمر كثيرا ، ففي التذكرة أنها تدوم ألف عام ولا تبعد صحته لكن علله بقوله : لتعلقها بالكوكب العالي وهو بعيد الصحة. وفي تفسير الخازن قيل تبقى ثلاثة آلاف سنة وتخصيصها بالوصف بالخروج من الطور مع خروجها من سائر البقاع أيضا وأكثر ما تكون في المواضع التي زاد عرضها على ميلها واشتد بردها وكانت جبلية ذا تربة بيضاء أو حمراء لتعظيمها أو لأنه المنشأ الأصلي لها. ولعل جعله للتعظيم أولى فيكون هذا مدحا لها باعتبار مكانها.
وقوله تعالى : تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ مدحا لها باعتبار ما هي عليه في نفسها ، والباء للملابسة والمصاحبة مثلها في قولك : جاء بثياب السفر وهي متعلقة بمحذوف وقع حالا من ضمير الشجرة أي تنبت ملتبسة بالدهن وهو عصارة كل ما فيه دسم ، والمراد به هنا الزيت وملابستها به باعتبار ملابسة ثمرها فإنه الملابس له في الحقيقة.
وجوز أن تكون الباء متعلقة بالفعل معدية له كما في قولك : ذهبت بزيد كأنه قيل : تنبت الدهن بمعنى تتضمنه وتحصله ، ولا يخفى أن هذا وإن صح إلا أن إنبات الدهن غير معروف في الاستعمال.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وسلام وسهل ورويس والجحدري «تنبت» بضم التاء المثناة من فوق وكسر الباء على أنه من باب الافعال ، وخرج ذلك على أنه من أنبت بمعنى نبت فالهمزة فيه ليست للتعدية وقد جاء كذلك في قول زهير :
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم قطينا لهم حتى إذا أنبت البقل
وأنكر ذلك الأصمعي وقال : إن الرواية في البيت نبت بدون همزة مع أنه يحتمل أن تكون همزة أنبت فيه إن كانت للتعدية بتقدير مفعول أي أنبت البقل ثمره أو ما يأكلون ، ومنهم من خرج ما في الآية على ذلك وقال : التقدير تنبت زيتونها بالدهن ، والجار والمجرور على هذا في موضع الحال من المفعول أو من الضمير المستتر في الفعل وقيل : الباء زائدة كما في قوله تعالى : وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة : 195] ونسبة الإنبات إلى الشجرة بل وإلى الدهن مجازية قال الخفاجي : ويحتمل تعدية أنبت بالباء لمفعول ثان.
وقرأ الحسن والزهري وابن هرمز «تنبت» بضم أوله وفتح ما قبل آخره مبنيا للمفعول والجار والمجرور في موضع الحال ، وقرأ زر بن حبيش «تنبت» من الافعال «الدهن» بالنصب وقرأ سليمان بن عبد الملك والأشهب «بالدهان» جمع دهن كرماح جمع رمح ، وما رووا من قراءة عبد اللّه تخرج الدهن وقراءة أبي تثمر بالدهن محمول على التفسير ما في البحر لمخالفته سواد المصحف المجمع عليه ولأن الرواية الثابتة عنهما كقراءة الجمهور.
وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ معطوف على الدهن ، ومغايرته له التي يقتضيها العطف باعتبار المفهوم وإلا فذاتهما واحدة عند كثير من المفسرين ، وقد جاء كثيرا تنزيل تغاير المفهومين منزلة تغاير الذاتين ، ومنه قوله :

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 225
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
والمعنى تنبت بالشيء الجامع بين كونه دهن يدهن به ويسرج منه وكونه إداما يصبغ فيه الخبز أي يغمس للائتدام قال في المغرب يقال : صبغ الثوب بصبغ حسن وصباغ ومنه الصبغ والصباغ من الإدام لأن الخبز يغمس فيه ويلون به كالخل والزيت ، وظاهر هذا اختصاصه بكل إدام مائع وبه صرح في المصباح. وصرح بعضهم بأن إطلاق الصبغ على ذلك مجاز ، ولعل في كلام المغرب نوع إشارة إليه وروي عن مقاتل أنه قال : الدهن الزيت والصبغ الزيتون وعلى هذا يكون العطف من عطف المتغايرين ذاتا وهو الأكثر في العطف ، ولا بد أن يقال عليه : إن الصبغ الإدام مطلقا وهو ما يؤكل تبعا للخبز في الغالب مائعا كان أم جامدا والزيتون أكثر ما يأكله الفقراء في بلادنا تبعا للخبز والأغنياء يأكلونه تبعا لنحو الأرز وقلما يأكلونه تبعا للخبز ، وأنا مشغوف به مذ أنا يافع فكثيرا ما آكله تبعا واستقلالا ، وأما الزيت فلم أر في أهل بغداد من اصطبغ منه وشذ من أكل منهم طعاما وهو فيه وأكثرهم يعجب ممن يأكله ومنشأ ذلك قلة وجوده عندهم وعدم الفهم له فتعافه نفوسهم ، وقد كنت قديما تعافه نفسي وتدريجا ألفته والحمد للّه تعالى ، فقد كان صلّى اللّه عليه وسلّم يأكله. وصح أنه صلّى اللّه عليه وسلّم طبخ له لسان شاة بزيت فأكل منه
، وأخرج أبو نعيم في الطب عن أبي هريرة قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كلوا الزيت وادهنوا به فإنه شفاء من سبعين داء منها الجذام»
وأخرج الترمذي في الأطعمة عن عمر رضي اللّه تعالى عنه مرفوعا «كلوا الزيت وادهنوا به فإنه يخرج من شجرة مباركة»
لكن قال بعضهم : هذا الأمر لمن قدر على استعماله ووافق مزاجه وهو كذلك فلا اعتراض على من لم يوافق مزاجه في عدم استعماله بل الظاهر حرمة استعماله عليه إن أضر به كما قالوا بحرمة استعمال الصفراوي للعسل ولا فرق في ذلك بين الأكل والادهان فإن الأدهان به قد يضر كالأكل ، قال ابن القيم : الدهن في البلاد الحارة كالحجاز من أسباب حفظ الصحة وإصلاح البدن وهو كالضروري لأهلها وأما في البلاد الباردة فضار وكثرة دهن الرأس بالزيت فيها فيه خطر على البصر انتهى.
وقرأ عامر بن عبد اللّه «وصباغا» وهو بمعنى صبغ كما مرت إليه الإشارة ومنه دبغ ودباغ ونصبه بالعطف على موضع بِالدُّهْنِ وفي تفسير ابن عطية وقرأ عامر بن عبد قيس ومتاعا للآكلين وهو محمول على التفسير.
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً بيان للنعم الواصلة إليهم من جهة الحيوان إثر بيان النعم الفائضة من جهة الماء والنبات وقد بين أنها مع كونها في نفسها نعمة ينتفعون بها على وجوه شتى عبرة لا بد من أن يعتبروا بها ويستدلوا بأحوالها على عظم قدرة اللّه عز وجل وسابغ رحمته ويشكروه ولا يكفروه ، وخص هذا بالحيوان لما أن محل العبرة فيه أظهر.
وقوله تعالى : نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها تفصيل لما فيها من مواقع العبر. وما في بطونها عبارة إما عن الألبان فمن تبعيضية والمراد بالبطون الأجواف فإن اللبن في الضروع أو عن العلف الذي يتكون منه اللبن فمن ابتدائية والبطون على حقيقتها. وأيا ما كان فضمير بُطُونِها للأنعام باعتبار نسبة ما للبعض إلى الكل لا للإناث منها على استخدام لأن عموم ما بعده يأباه ، وقرىء بفتح النون وبالتاء أي تسقيكم الأنعام.
وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ غير ما ذكر من أصوافها وأشعارها وأوبارها وَمِنْها تَأْكُلُونَ الظاهر أن الأكل على معناه الحقيقي ومن تبعيضية لأن من أجزاء الأنعام ما لا يؤكل ، وتقديم المعمول للفاصلة أو للحصر الإضافي بالنسبة إلى الحمير ونحوها أو الحصر باعتبار ما في تَأْكُلُونَ من الدلالة على العادة المستمرة ، وكان هذا بيان لانتفاعهم بأعيانها وما قبله بيان لانتفاعهم بمرافقها وما يحصل منها ويجوز عندي ولم أر من صرح به أن يكون الأكل مجازا أو كناية عن التعيش مطلقا كما سمعت قبل أي ومنها ترزقون وتحصلون معايشكم.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 226
عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
في البر والبحر بأنفسكم وأثقالكم. وضميرلَيْها
للأنعام باعتبار نسبة ما للبعض إلى الكل أيضا. ويجوز أن يكون لها باعتبار أن المراد بها الإبل على سبيل الاستخدام لأنها هي المحمول عليها عندهم والمناسبة للفلك فإنها سفائن البر قال ذو الرمة في صيدحة :
سفينة بر تحت خدي زمامها وهذا مما لا بأس به ، وأما حمل الأنعام من أول الأمر على الإبل فلا يناسب مقام الامتنان ولا سياق الكلام ، وفي الجمع بينهما وبين الفلك في إيقاع الحمل عليها مبالغة في تحملها للحمل ، قيل : وهذا هو الداعي إلى تأخير هذه المنفعة مع كونها من المنافع الحاصلة منها عن ذكر منفعة الأكل المتعلقة بعينها.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 23 إلى 63]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32)
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37)
إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42)
ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47)
فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50) يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57)
وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61) وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62)
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63)

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 227
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [المؤمنون : 23. 63] شروع في بيان إهمال الناس وتركهم النظر والاعتبار فيما عدد سبحانه من النعم وما حاقهم من زوالها وفي ذلك تخويف لقريش.
وتقديم قصة نوح عليه السلام على سائر القصص مما لا يخفى وجهه ، وفي إيرادها إثر قوله تعالى : عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
من حسن الموقع ما لا يوصف ، وتصديرها بالقسم لإظهار كمال الاعتناء بمضمونها ، والكلام في نسب نوح عليه السلام وكمية لبثه في قومه ونحو ذلك قد مر ، والأصح أنه عليه السلام لم تكن رسالته عامة بل أرسل إلى قوم مخصوصين فَقالَ متعطفا عليهم ومستميلا لهم إلى الحق يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي اعبدوه وحده كما يفصح عنه قوله تعالى في سورة [هود : 2] أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ وترك التقييد به للإيذان بأنها هي العبادة فقط وأما العبادة مع الإشراك فليست من العبادة في شيء رأسا ، وقوله تعالى : ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ استئناف مسوق لتعليل العبادة المأمور بها أو تعليل الأمر بها ، وغَيْرُهُ بالرفع صفة لإله باعتبار محله الذي هو الرفع على أنه فاعل - بلكم - أو مبتدأ خبره لَكُمْ أو محذوف ولَكُمْ للتخصيص والتبيين أي ما لكم في الوجود إله غيره تعالى.
وقرىء «غيره» بالجر اعتبارا للفظ «إله» أَفَلا تَتَّقُونَ الهمزة لإنكار الواقع واستقباحه والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أتعرفون ذلك أي مضمون قوله تعالى ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ فلا تتقون عذابه تعالى الذي يستوجبه ما أنتم عليه من ترك عبادته سبحانه وحده وإشراككم به عز وجل في العبادة ما لا يستحق الوجود لولا إيجاد اللّه تعالى إياه فضلا عن استحقاق العبادة فالمنكر عدم الاتقاء مع تحقق ما يوجبه ، ويجوز أن يكون التقدير ألا تلاحظون فلا تتقون فالمنكر كلا الأمرين فالمبالغة حينئذ في الكمية وفي الأول في الكيفية ، وتقدير مفعول تَتَّقُونَ حسبما أشرنا إليه أولى من تقدير بعضهم إياه زوال النعم ولا نسلم أن المقام يقتضيه كما لا يخفى فَقالَ الْمَلَأُ أي الإشراف الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ وصف الملإ بالكفر مع اشتراك الكل فيه للإيذان بكمال عراقتهم وشدة شكيمتهم فيه ، وليس المراد من ذلك إلا ذمهم دون التمييز عن أشراف آخرين آمنوا به عليه السلام إذ لم يؤمن به أحد من أشرافهم كما يفصح عنه قول : ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا وقال الخفاجي : يصح أن يكون الوصف بذلك للتمييز وإن لم يؤمن بعض أشرافهم وقت التكلم بهذا الكلام لأن من أهله عليه السلام المتبعين له أشرافا وأما قول ما نَراكَ [هود : 27] إلخ فعلى زعمهم أو لقلة المتبعين له من الأشراف ، وأيا ما كان فالمعنى فقال الملأ لعوامهم ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أي في الجنس والوصف من غير فرق بينكم وبينه وصفوه عليه السلام بذلك مبالغة في وضع رتبته العالية وحطها عن منصب النبوة ، ووصفوه بقوله سبحانه : يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ إغضابا للمخاطبين عليه عليه السلام وإغراء لهم على

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 228
معاداته ، والتفضل طلب الفضل وهو كناية عن السيادة كأنه قيل : يريد أن يسودكم ويتقدمكم بادعائه الرسالة مع كونه مثلكم ، وقيل : صيغة التفعل مستعارة للكمال فإنه ما يتكلف له يكون على أكمل وجه فكأنه قيل : يريد كمال الفضل عليكم وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً بيان لعدم رسالة البشر على الإطلاق على زعمهم الفاسد بعد تحقيق بشريته عليه السلام أي ولو شاء اللّه تعالى إرسال الرسول لأرسل رسلا من الملائكة ، وإنما قيل لَأَنْزَلَ لأن إرسال الملائكة لا يكون إلا بطريق الإنزال فمفعول المشيئة مطلق الإرسال المفهوم من الجواب لا نفس مضمونه كما في قوله تعالى :
وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ [النحل : 9] ولا بأس في ذلك ، وأما القول بأن مفعول المشيئة إنما يحذف إذا لم يكن أمرا غريبا وكان مضمون الجزاء فهو ضابطة للحذف المطرد فيه لا مطلقا فإنه كسائر المفاعيل يحذف ويقدر بحسب القرائن ، وعلى هذا يجوز أن يقال : التقدير ولو شاء اللّه تعالى عبادته وحده لأنزل ملائكة يبلغوننا ذلك عنه عز وجل وكان هذا منهم طعن في قوله عليه السلام لهم اعْبُدُوا اللَّهَ وكذا قوله تعالى : ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ بل هو طعن فيما ذكر على التقدير الأول أيضا وذلك بناء على أن هذا إشارة إلى الكلام المتضمن الأمر بعبادة اللّه عز وجل خاصة والكلام على تقدير مضاف أي ما سمعنا بمثل هذا الكلام في آبائنا الماضين قبل بعثته عليه السلام ، وقدر المضاف لأن عدم السماع بكلام نوح المذكور لا يصلح للرد فإن السماع بمثله كاف للقبول ، وقيل : الإشارة إلى نفس هذا الكلام مع قطع النظر عن المشخصات فلا حاجة إلى تقدير المضاف وهو كلام وجيه ثم إن قولهم هذا إما لكونهم وآبائهم في فترة وإما لفرط غلوهم في التكذيب والعناد وانهماكهم في الغي والفساد ، وأيا ما كان ينبغي أن يكون هو الصادر عنهم في مبادي دعوته عليه السلام كما ينبىء عنه الفاء الظاهرة في التعقيب في قوله تعالى : فَقالَ الْمَلَأُ إلخ.
وقيل : هذا إشارة إلى نوح عليه السلام على معنى ما سمعنا بخبر نبوته ، وقيل : إلى اسمه وهو لفظ نوح والمعنى لو كان نبيا لكان له ذكر في آبائنا الأولين ، وعلى هذين القولين يكون قولهم المذكور من متأخري قومه المولودين بعد بعثته بمدة طويلة فيكون المراد من آبائهم الأولين من مضى قبلهم في زمنه عليه الصلاة والسلام ، وصدور ذلك عنهم في أواخر أمره عليه السلام وقيل : بعد مضي آبائهم ولا يلزم أن يكون في الأواخر ، وعليهما أيضا يكون قولهم : إِنْ هُوَ أي ما هو إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ أي جنون أو جن يخبلونه ولذلك يقول ما يقول فَتَرَبَّصُوا بِهِ فاحتملوه واصبروا عليه وانتظروا حَتَّى حِينٍ لعله يفيق مما هو فيه محمولا على ترامي أحوالهم في المكابرة والعناد وإضرابهم عما وصفوه عليه السلام به من البشرية وإرادة التفضل إلى وصفه بما ترى وهم يعرفون أنه عليه السلام أرجح الناس عقلا وأرزنهم قولا ، وهو على ما تقدم محمول على تناقض مقالاتهم الفاسدة قاتلهم اللّه تعالى أنى يؤفكون قالَ استئناف بياني كأنه قيل : فماذا قال عليه السلام بعد ما سمع منهم هذه الأباطيل؟ فقيل : قال لما رآهم قد أصروا على ما هم فيه وتمادوا على الضلال حتى يئس من إيمانهم بالكلية وقد أوحي إليه أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود : 36] رَبِّ انْصُرْنِي بإهلاكهم بالمرة بناء على أنه حكاية إجمالية لقوله عليه السلام رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح : 26] إلخ ، والباء في قوله تعالى : بِما كَذَّبُونِ للسببية أو للبدل وما مصدرية أي بسبب تكذيبهم إياي أو بدل تكذيبهم ، وجوز أن تكون الباء آلية وما موصولة أي انصرني بالذي كذبوني به وهو العذاب الذي وعدتهم إياه ضمن قولي : إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأعراف : 59 ، الشعراء :
135 ، الأحقاف : 21] وحاصله انصرني بإنجاز ذلك ، ولا يخفى ما في حذف مثل هذا العائد من الكلام ، وقرأ أبو جعفر وابن محيصن «رب» بضم الباء ولا يخفى وجهه فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ عقيب ذلك ، وقيل : بسبب ذلك أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ أَنِ مفسرة لما في الوحي من معنى القول بِأَعْيُنِنا ملتبسا بمزيد حفظنا ورعايتنا لك من التعدي أو من

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 229
الزيغ في الصنع وَوَحْيِنا وأمرنا وتعليمنا لكيفية صنعها ، والفاء في قوله تعالى : فَإِذا جاءَ أَمْرُنا لترتيب مضمون ما بعدها على إتمام صنع الفلك ، والمراد بالأمر العذاب كما في قوله تعالى : لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [هود : 43] فهو واحد الأمور لا الأمر بالركوب فهو واحد الأوامر كما قيل ، والمراد بمجيئه كمال اقترابه أي ابتداء ظهوره أي إذا جاء أثر تمام الفلك عذابنا ، وقوله سبحانه : وَفارَ التَّنُّورُ بيان وتفسير لمجيء الأمر ، روي أنه قيل له عليه السلام إذا فار التنور اركب أنت ومن معك وكان تنور آدم عليه السلام فصار إلى نوح عليه السلام فلما نبع منه الماء أخبرته امرأته فركبوا ، واختلفوا في مكانه فقيل كان في مسجد الكوفة أي في موضعه عن يمين الداخل من باب كندة اليوم ، وقيل :
كان في عين وردة من الشام ، وقيل : بالجزيرة قريبا من الموصل ، وقيل : التنور وجه الأرض ، وقيل : فار التنور مثل كحمي الوطيس ، وعن علي كرّم اللّه تعالى وجهه أنه فسر فارَ التَّنُّورُ بطلع الفجر
فقيل : معناه إن فوران التنور كان عند طلوع الفجر وفيه بعد وتمام الكلام في ذلك قد تقدم لك.
فَاسْلُكْ فِيها أي ادخل فيها يقال سلك فيه أي دخل فيه وسلكه فيه أي أدخله فيه ، ومنه قوله تعالى : ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر : 42] مِنْ كُلٍّ أي من كل أمة زَوْجَيْنِ أي فردين مزدوجين كما يعرب عنه قوله تعالى : ا
وقرأ أكثر القراء من «كل زوجين» بالإضافة على أن المفعول «اثناعتناء بشأن المأمور به أو على أن ذلك هو الأمر السابق بعينه لكن لما كان الأمر التعليقي قبل تحقق المعلق به في حق إيجاب المأمور به بمنزلة العدم جعل كأنه إنما حدث عند تحققه فحكي على صورة التنجيز وَأَهْلَكَ قيل عطف على اثْنَيْنِ على قراءة الإضافة وعلى زَوْجَيْنِ على قراءة التنوين ، ولا يخفى اختلال المعنى عليه فهو منصوب بفعل معطوف على فَاسْلُكْ أي واسلك أهلك ، والمراد بهم أمة الإجابة الذين آمنوا به عليه الصلاة والسلام سواء كانوا من ذوي قرابته أم لا وجاء إطلاق الأهل على ذلك ، وإنما حمل عليه هنا دون المعنى المشهور ليشمل من آمن ممن ليس ذا قرابة فإنهم قد ذكروا في سورة هود والقرآن يفسر بعضه بعضا ، وعلى هذا يكون قوله تعالى : إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ استثناء منقطعا ، واختار بعضهم حمل الأهل على المشهور وإرادة امرأته وبنيه منه كما في سورة هود وحينئذ يكون الاستثناء متصلا كما كان هناك ، وعدم ذكر من آمن للاكتفاء بالتصريح به ثمت مع دلالة ما في الاستثناء وكذا ما بعده على أنه ينبغي إدخاله ، وتأخير الأمر بإدخال الأهل على التقديرين عما ذكر من إدخال الأزواج لأن إدخال الأزواج يحتاج إلى مزاولة الأعمال منه عليه السلام وإلى معاونة أهله إياه وأما هم فإنما يدخلون باختيارهم ، ولأن في المؤخر ضرب تفصيل بذكر الاستثناء وغيره فتقديمه يخل بتجاوب النظم الكريم ، والمراد بالقول القول بالإهلاك ، والمراد بسبق ذلك تحققه في الأزل أو كتابة ما يدل عليه في اللوح المحفوظ قبل أن تخلق الدنيا ، وجيء بعلى لكون السابق ضارا كما جيء باللام في قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى [الأنبياء : 101] لكون السابق نافعا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا أي لا تكلمني فيهم بشفاعة وإنجاء لهم من الغرق ونحوه ، وإذا كان المراد بهم من سبق عليه القول

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 230
فالإظهار في مقام الإضمار لا يخفى وجهه إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ تعليل للنهي أو لما ينبىء عنه من عدم قبول الشفاعة لهم أي إنهم مقضي عليهم بالإغراق لا محالة لظلمهم بالإشراك وسائر المعاصي ومن هذا شأنه لا ينبغي أن يشفع له أو يشفع فيه وكيف ينبغي ذلك وهلاكه من النعم التي يؤمر بالحمد عليها كما يؤذن به قوله تعالى : فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ من أهلك وأتباعك عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فإن الحمد على الإنجاء منهم متضمن للحمد على إهلاكهم ، وإنما قيل ما ذكر ولم يقل فقل الحمد للّه الذي أهلك القوم الظالمين لأن نعمة الإنجاء أتم ، وقال الخفاجي : إن في ذلك إشارة إلى أنه لا ينبغي المسرة بمصيبة أحد ولو عدوا من حيث كونها مصيبة له بل لما تضمنته من السلامة من ضرره أو تطهير الأرض من وسخ شركه وإضلاله.
وأنت تعلم أن الحمد هنا رديف الشكر فإذا خص بالنعمة الواصلة إلى الشاكر لا يصح أن يتعلق بالمصيبة من حيث إنها مصيبة وهو ظاهر ، وفي أمره عليه السلام بالحمد على نجاة أتباعه إلى أنه نعمة عليه أيضا.
وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي في الفلك مُنْزَلًا أي إنزالا أو موضع إنزال مُبارَكاً يتسبب لمزيد الخير في الدارين وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ أي من يطلق عليه ذلك ، والدعاء بذلك إذا كان بعد الدخول فالمراد إدامة ذلك الإنزال ولعل المقصود إدامة البركة ، وجوز أن يكون دعاء بالتوفيق للنزول في أبرك منازلها لأنها واسعة ، وإن كان قبل الدخول فالأمر واضح ، وروى جماعة عن مجاهد أن هذا دعاء أمر نوح عليه السلام أن يقوله عند النزول من السفينة فالمعنى رب أنزلني منها في الأرض منزلا إلخ ، وأخذ منه قتادة. ندب أن يقول راكب السفينة عند النزول منها رَبِّ أَنْزِلْنِي إلخ ، واستظهر بعضهم الأول إذ العطف ظاهر في أن القولين وقت الاستواء. وأعاد قُلْ لتعدد الدعاء ، والأول متضمن دفع مضرة ولذا قدم وهذا لجلب منفعة.
وأمره عليه السلام أن يشفع دعاءه ما يطابقه من ثنائه عز وجل توسلا به إلى الإجابة فإن الثناء على المحسن يكون مستدعيا لإحسانه ، وقد قالوا : الثناء على الكريم يعني عن سؤاله ، وإفراده عليه السلام بالأمر مع شركة الكل في الاستواء لإظهار فضله عليه السلام وأنه لا يليق غيره منهم للقرب من اللّه تعالى والفوز بعز الحضور في مقام الإحسان مع الإيماء إلى كبريائه عز وجل وأنه سبحانه لا يخاطب كل أحد من عباده والإشعار بأن في دعائه عليه السلام وثنائه مندوحة عما عداه.
وقرأ أبو بكر والمفضل وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبان «منزلا» بفتح الميم وفتح الزاي أي مكان نزول ، وقرأ أبو بكر عن عاصم «منزلا» بفتح الميم وكسر الزاي. قال أبو علي : يحتمل أن يكون المنزل على هذه القراءة مصدرا وأن يكون موضع نزول إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكر مما فعل به عليه السلام وبقومه لَآياتٍ جليلة يستدل بها أولو الأبصار ويعتبر ذوو الاعتبار وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ إن مخففة من ان واللام فارقة بينها وبين إن النافية وليست إن نافية واللام بمعنى إلا والجملة حالية أي وإن الشأن كنا مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم وعقاب شديد أو مختبرين بهذه الآيات عبادنا لننظر من يعتبر ويتذكر ، والمراد معاملين معاملة المختبر وهذا كقوله تعالى : وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر : 15] ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد إهلاك قوم نوح عليه السلام قَرْناً آخَرِينَ هم عاد أو ثمود فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ هو هود أو صالح عليهما السلام ، والأول هو المأثور عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وإليه ذهب أكثر المفسرين ، وأيد بقوله تعالى حكاية عن هود وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الأعراف : 69] وبمجيء قصة عاد بعد قصة نوح في سورة الأعراف وسورة هود وغيرهما واختار أبو سليمان الدمشقي والطبري الثاني واستدلا عليه بذكر الصيحة آخر القصة والمعروف أن قوم صالح هم المهلكون بها دون قوم

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 231
هود ، وسيأتي الجواب عنه إن شاء اللّه تعالى ، وجعل القرن ظرفا للإرسال كما في قوله تعالى : كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ [الرعد : 30] لا غاية له كما في قوله تعالى : لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ للإيذان من أول الأمر أن من أرسل إليهم لم يأتهم من غير مكانهم بل إنما نشأ فيما بين أظهرهم ، وأَنِ في قوله تعالى : أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مفسرة لتضمن الإرسال معنى القول أي قلنا لهم على لسان الرسول اعبدوا اللّه ، وجوز كونها مصدرية ولا مانع من وصلها بفعل الأمر وقبلها جار مقدر أي أرسلنا فيهم رسولا بأن اعبدوا اللّه وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ الكلام فيه كالكلام في نظيره المار في قصة نوح عليه السلام وَقالَ الْمَلَأُ أي الأشراف مِنْ قَوْمِهِ بيان لهم ، وقوله تعالى :
الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ أي بلقاء ما فيها من الحساب والثواب والعقاب أو بالمعاد أو بالحياة الثانية صفة للملأ جيء بها ذما لهم وتنبيها على غلوهم في الكفر ، ويجوز أن تكون للتمييز إن كان في ذلك القرن من آمن من الأشراف ، وتقديم مِنْ قَوْمِهِ هنا على الصفة مع تأخيره في القصة السابقة لئلا يطول الفصل بين البيان والمبين لو جيء به بعد الصفة وما في حيزها مما تعلق بالصلة مع ما في ذلك من توهم تعلقه بالدنيا أو يفصل بين المعطوف والمعطوف عليه لو جيء به بعد الوصف وقبل العطف كذا قيل.
وتعقب بأنه لا حاجة إلى ارتكاب جعل الَّذِينَ صفة للملأ وإبداء نكتة للتقديم المذكور مع ظهور جواز جعله صفة لقومه. ورد بأن الداعي لارتكابه عطف قوله تعالى : وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي نعمناهم ووسعنا عليهم فيها على الصلة فيكون صفة معنى للموصوف بالموصول والمتعارف إنما هو وصف الأشراف بالمترفين دون غيرهم وكذا الحال إذا لم يعطف وجعل حالا من ضمير كَذَّبُوا وأنت تعلم أنا لا نسلم أن المتعارف إنما هو وصف الأشراف بالمترفين ولئن سلمنا فوصفهم بذلك قد يبقى مع جعل الموصول صفة لقومه بأن يجعل جملة أَتْرَفْناهُمْ حالا من الْمَلَأُ بدون تقدير قد أو بتقديرها أي قال الملأ في حق رسولنا ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ إلخ في حال إحساننا عليهم.
نعم الظاهر لفظا جملة أَتْرَفْناهُمْ على جملة الصلة ، والأبلغ معنى جعلها حالا من الضمير لإفادته الإساءة إلى من أحسن وهو أقوى في الذم ، وجيء بالواو العاطفة في وَقالَ الْمَلَأُ هنا ولم يجأ بها بل جيء بالجملة مستأنفة استئنافا بيانيا في موضع آخر لأن ما نحن فيه حكاية لتفاوت ما بين المقالتين أعني مقالة المرسل ومقالة المرسل إليهم لا حكاية المقاولة لأن المرسل إليهم قالوا ما قالوا بعضهم لبعض وظاهر إباء ذلك الاستئناف وأما هنالك فيحق الاستئناف لأنه في حكاية المقاولة بين المرسل والمرسل إليهم واستدعاء مقام المخاطبة ذلك بين كذا في الكشف ، ولا يحسم مادة السؤال إذ يقال معه : لم حكي هنالك المقاولة وهنا التفاوت بين المقالتين ولم يعكس؟ ومثل هذا يرد على من علل الذكر هنا والترك هناك بالتفنن بأن يقال : إنه لو عكس بأن ترك هنا وذكر هناك لحصل التفنن أيضا ، وأنا لم يظهر لي السر في ذلك ، وأما الإتيان بالواو هنا والفاء في فَقالَ الْمَلَأُ في قصة نوح عليه السلام فقد قيل : لعله لأن كلام الملأ هنا لم يتصل بكلام رسولهم بخلاف كلام قوم نوح عليه السلام واللّه تعالى أعلم بحقائق الأمور.
ولا يخفى ما في قولهم ما هذا إلخ من المبالغة في توهين أمر الرسول عليه السلام وتهوينه قاتلهم اللّه ما أجهلهم ، وقوله تعالى : يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ تقرير للمماثلة ، والظاهر أن ما الثانية موصولة والعائد إليها ضمير مجرور حذف مع الجار لدلالة ما قبله عليه الحذف هنا مثله في قولك : مررت بالذي مررت في استيفاء الشرائط ، وحسنه هنا كون تَشْرَبُونَ فاصلة.
وفي التحرير زعم الفراء حذف العائد المجرور مع الجار في هذه الآية وهذا لا يجوز عند البصريين ، والآية إما لا

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 232
حذف فيها أو فيها حذف المفعول فقط لأن ما إذا كانت مصدرية لم تحتج إلى عائد وإن كانت موصولة فالعائد المحذوف ضمير منصوب على المفعولية متصل بالفعل والتقدير مما تشربونه ا ه ، وهذا تخريج على قاعدة البصريين ويفوت عليه فصاحة معادلة التركيب على أن الوجه الأول محوج إلى تأويل المصدر باسم المفعول وبعد ذلك يحتاج إلى تكلف لصحة المعنى ويحتاج إلى ذلك التكلف على الوجه الثاني أيضا إذ لا يشرب أحد من مشروبهم ولا من الذي يشربونه وإنما يشرب من فرد آخر من الجنس فلا بد من إرادة الجنس على الوجهين.
وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ فيما ذكر من الأحوال والصفات أي إن امتثلتم بأوامره إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ عقولكم ومغبونون في آرائكم حيث أذللتم أنفسكم ، واللام موطئة للقسم وجملة إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ جواب القسم ، وإِذاً فيما أميل إليه ظرفية متعلقة بما تدل عليه النسبة بين المبتدأ والخبر من الثبوت أو بالخبر واللام لا تمنع عن العمل في مثل ذلك ، وجواب الشرط محذوف دل عليه المذكور.
قال أبو حيان : ولو كان هذا هو الجواب للزمت الفاء فيه بأن يقال : فإنكم إلخ بل لو كان بالفاء في تركيب غير القرآن الكريم لم يكن ذلك التركيب جائزا إلا عند الفراء ، والبصريون لا يجيزونه وهو عندهم خطأ ا ه.
وذكر بعضهم أن «إذا» هنا للجزاء والجواب وتكلف لذلك ولا يدعو إليه سوى ظن وجوب اتباع المشهور وأن الحق في أمثال هذه المقامات منحصر فيما عليه الجمهور ، وفي همع الهوامع وكذا في الإتقان للجلال السيوطي في هذا البحث ما ينفعك مراجعته فراجعه أَيَعِدُكُمْ استئناف مسوق لتقرير ما قبله من زجرهم عن اتباعه عليه السلام بإنكار وقوع ما يدعوهم للإيمان به واستبعاده ، وقوله تعالى : أَنَّكُمْ على تقدير حرف الجر أي بأنكم ، ويجوز أن لا يقدر ونحو وعدتك الخير إِذا مِتُّمْ بكسر الميم من مات يمات ، وقرىء بضمها من مات يموت وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أي وكان بعض أجزائكم من اللحم ونظائره ترابا وبعضها عظاما نخرة مجردة عن اللحوم والأعصاب ، وتقديم التراب لعراقته في الاستبعاد وانقلابه من الأجزاء البادية أو وكان متقدموكم ترابا صرفا ومتأخروكم عظاما ، وقوله تعالى : أَنَّكُمْ تأكيد لأنكم الأول لطول الفصل بينه وبين خبره الذي هو قوله تعالى : مُخْرَجُونَ وإذا ظرف متعلق به أي أيعدكم أنكم مخرجون من قبوركم أحياء كما كنتم أولا إذا متم وكنتم ترابا.
واختار هذا الإعراب الفراء والجرمي والمبرد ، ولا يلزم من ذلك كون الإخراج وقت الموت كما لا يخفى خلافا لما توهمه أبو نزار الملقب بملك النحاة. ورده السخاوي ونقله عنه الجلال السيوطي في الأشباه والمنقول عن سيبويه أن أَنَّكُمْ بدل من أَنَّكُمْ الأول وفيه معنى التأكيد وخبر أن الأولى محذوف لدلالة خبر الثانية عليه أي أيعدكم أنكم تبعثون إذا متم وهذا الخبر المحذوف هو العامل في إذا ، ولا يجوز أن يكون هو الخبر لأن ظرف الزمان لا يخبر به عن الجثة ، وإذا أول بحذف المضاف أي إن إخراجكم إذا متم جاز ، وكان المبرد يأبى البدل لكونه من غير مستقل إذ لم يذكر خبر أن الأولى.
وذهب الأخفش إلى أن أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ مقدر بمصدر مرفوع بفعل محذوف تقديره يحدث إخراجكم ، فعلى هذا التقدير يجوز أن تكون الجملة الشرطية خبر أَنَّكُمْ الأول ويكون جواب إِذا ذلك الفعل المحذوف ، ويجوز أن يكون ذلك الفعل هو خبر أن ويكون عاملا في إذا ، وبعضهم يحكي عن الأخفش أنه يجعل أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ فاعلا بإذا كما يجعل الخروج في قولك : يوم الجمعة الخروج فاعلا بيوم على معنى يستقر الخروج يوم الجمعة.
وجوز بعضهم أن يكون أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ مبتدأ وإِذا مِتُّمْ خبرا على معنى إخراجكم إذا متم وتجعل

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 233
الجملة خبر أن الأولى ، قال في البحر : وهذا تخريج سهل لا تكلف فيه ونسبه السخاوي في سفر السعادة إلى المبرد ، والذي يقتضيه جزالة النظم الكريم ما ذكرناه عن الفراء ومن معه ، وفي قراءة عبد اللّه «أيعدكم إذا متم» بإسقاط أَنَّكُمْ الأولى هَيْهاتَ اسم لبعد وهو في الأصل اسم صوت وفاعله مستتر فيه يرجع للتصديق أو الصحة أو الوقوع أو نحو ذلك مما يفهمه السياق فكأنه قيل بعد التصديق أو الصحة أو الوقوع ، وقوله تعالى : هَيْهاتَ تكرير لتأكيد البعد ، والغالب في هذه الكلمة مجيئها مكررة وجاءت غير مكررة في قول جرير :
وهيهات خل بالعقيق نواصله وقوله سبحانه : لِما تُوعَدُونَ بيان لمرجع ذلك الضمير فاللام متعلقة بمقدر كما في سقيا له أي التصديق أو الوقوع المتصف بالبعد كائن لما توعدون ، ولا ينبغي أن يقال : إنه متعلق بالضمير الراجع إلى المصدر كما في قوله :
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم
فإن إعمال ضمير المصدر وإن ذهب إليه الكوفيون نادر جدا لا ينبغي أن يخرج عليه كلام اللّه تعالى ، وقيل : لم يثبت والبيت قابل للتأويل وهذا كله مع كون الضمير بارزا فما ظنك إذا كان مستترا ، والقول بأن الفاعل محذوف وليس بضمير مستتر وهو مصدر كالوقوع والتصديق والجار متعلق به مما لا ينبغي أن يلتفت إليه أصلا لا سيما إذا كان ذلك المصدر المحذوف معرفا كما لا يخفى ، ويجوز أن يكون الفاعل ضمير البعد واللام للبيان كأنه قيل ، فعل البعد ووقع ثم قيل لما ذا؟ فقيل : لما توعدون ، وقيل : فاعل هَيْهاتَ ما توعدون واللام سيف خطيب ، وأيد بقراءة ابن أبي عبلة «هيهات هيهات ما توعدون» بغير لام ورد بأنها لم تعهد زيادتها في الفاعل ، وقيل : هيهات بمعنى البعد وهو مبتدأ مبني اعتبارا لأصله خبره لِما تُوعَدُونَ أي البعد كائن لما توعدون ونسب هذا التفسير للزجاج.
وتعقبه في البحر بأنه ينبغي أن يكون تفسير معنى لا تفسير إعراب لأنه لم تثبت مصدرية هَيْهاتَ وقرأ هارون عن أبي عمرو «هيهاتا هيهاتا» بفتحهما منونتين للتنكير كما في سائر أسماء الأفعال إذا نونت فهو اسم فعل نكرة ، وقيل :
هو على هذه القراءة اسم متمكن منصوب على المصدرية ، وقرأ أبو حيوة والأحمر بالضم والتنوين ، قال صاحب اللوامح : يحتمل على هذا أن تكون هَيْهاتَ اسما متمكنا مرتفعا بالابتداء ولِما تُوعَدُونَ خبره والتكرار للتأكيد ، ويحتمل أن يكون اسما للفعل والضم للبناء مثل حوب في زجر الإبل لكنه نون لكونه نكرة ا ه ، وقيل : هو اسم متمكن مرفوع على الفاعلية أي وقع بعد ، وعن سيبويه أنها جمع كبيضات ، وأخذ بعضهم منه تساوي مفرديهما في الرنة فقال مفردها هيهة كبيضة. وفي رواية عن أبي حيوة أنه ضمها من غير تنوين تشبيها لهما بقبل وبعد ذلك. وقرأ أبو جعفر وشيبة بالكسر فيهما من غير تنوين. وروي هذا عن عيسى وهو لغة في تميم وأسد وعنه أيضا وعن خالد بن الياس أنهما قرآ بكسرهما والتنوين.
وقرأ خارجة بن مصعب عن أبي عمرو والأعرج وعيسى أيضا بالإسكان فيهما ، فمنهم من يبقي التاء ويقف عليها كما في مسلمات ، ومنهم من يبدلها هاء تشبيها بتاء التأنيث ويقف على الهاء ، وقيل : الوقف على الهاء لاتباع الرسم ، والذي يفهم من مجمع البيان أن هَيْهاتَ بالفتح تكتب بالهاء كأرطاة وأصلها هيهية كزلزلة قلبت الياء الثانية ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها وكذا هيهات بالرفع والتنوين ، وهي على هذا اسم معرب مفرد ، ومتى اعتبرت جمعا كتبت بالتاء وذلك إذا كانت مكسورة منونة أو غير منونة ونقل ذلك عن ابن جني.
وقرأ «أيهاه» بإبدال الهزة من الهاء الأولى والوقف بالسكون على الهاء ، والذي أميل إليه أن جميع هذه القراءات لغات والمعنى واحد ، وفي هذه الكلمة ما يزيد على أربعين لغة وقد ذكر ذلك في التكميل لشرح التسهيل وغيره إِنْ

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 234
هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا
أصله إن الحياة إلا حياتنا الدنيا ثم وضع الضمير موضع الحياة لأن الخبر يدل عليها ويبينها فالضمير عائد على متأخر وعوده كذلك جائز في صور ، منها إذا فسر بالخبر كما هنا كذا قالوا. واعترض بأن الخبر موصوف فتلاحظ الصفة في ضميره كما هو المشهور في الضمير الراجع إلى موصوف وحينئذ يصير التقدير إن حياتنا الدنيا إلا حياتنا الدنيا.
وأجيب بأن الضمير قد يعود إلى الموصوف بدون صفته ، وهذا في الآخرة يعود إلى القول بأن الضمير عائد على ما يفهم من جنس الحياة ليفيد الحمل ما قصدوه من نفي البعث فكأنهم قالوا : لا حياة إلا حياتنا الدنيا ومن ذلك يعلم خطأ من قال : إنه كشعري شعري ، ومن هذا القبيل على رأي قولهم : هي العرب تقول ما شاءت ، وقوله :
هي النفس ما حملتها تتحمل وللدهر أيام تجور وتعدل
وفي الكشف ليس المعنى النفس النفس لأنه لا يصلح الثاني حينئذ تفسيرا والجملة بعدها بيانا بل الضمير راجع إلى معهود ذهني أشير إليه ثم أخبر بما بعده كما في هذا أخوك انتهى فتأمل ولا تغفل ، وقوله تعالى : نَمُوتُ وَنَحْيا جملة مفسرة لما ادعوه من أن الحياة هي الحياة الدنيا وأرادوا بذلك يموت بعضنا ويولد بعض وهكذا ، وليس المراد بالحياة حياة أخرى بعد الموت إذ لا تصلح الجملة حينئذ للتفسير ولا يذم قائلها وناقضت قولهم : وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وقيل : أرادوا بالموت العدم السابق على الوجود أو أرادوا بالحياة بقاء أولادهم فإن بقاء الأولاد في حكم حياة الآباء ولا يخفى بعده ، ومثله على ما قيل وأنا لا أراه كذلك أن القوم كانوا قائلين بالتناسخ فحياتهم بتعلق النفس التي فارقت أبدانهم بأبدان أخر عنصرية تنقلت في الأطوار حتى استعدت لأن تتعلق بها تلك النفس المفارقة فزيد مثلا إذا مات تتعلق نفسه ببدن آخر قد استعد في الرحم للتعلق ثم يولد فإذا مات أيضا تتعلق نفسه ببدن آخر كذلك وهكذا إلى ما لا يتناهى ، وهذا مذهب لبعض التناسخية وهم مليون ونحليون ، ويمكن أن يقال : إن هذا على حد قوله تعالى لعيسى عليه السلام : إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران : 55] على قول فإن العطف فيه بالواو وهي لا تقتضي الترتيب فيجوز أن تكون الحياة التي عنوها الحياة قبل الموت ويحتمل أنهم قالوا نحيا ونموت إلا أنه لما حكي عنهم قيل : نَمُوتُ وَنَحْيا ليكون أوفق بقوله تعالى : إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ثم المراد بقولهم وَما نَحْنُ إلخ استمرار النفي وتأكيده إِنْ هُوَ أي ما هو إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فيما يدعيه من إرساله تعالى إياه وفيما يعدنا من أن اللّه تعالى يبعثنا وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ بمصدقين فيما يقوله ، والمراد أيضا استمرار النفي وتأكيده قالَ أي رسولهم عند يأسه من
إيمانهم بعد ما سلك في دعوتهم كل مسلك متضرعا إلى اللّه عز وجل رَبِّ انْصُرْنِي عليهم وانتقم لي منهم بِما كَذَّبُونِ أي بسبب تكذيبهم إياي وإصرارهم عليه أو بدل تكذيبهم ، ويجوز أن تكون الباء آلية وما موصولة كما مر في قصة نوح عليه السلام قالَ تعالى إجابة لدعائه وعدة بما طلب عَمَّا قَلِيلٍ أي عن زمان قليل فما صلة بين الجار والمجرور جيء بها لتأكيد معنى القلة وقَلِيلٍ صفة لزمان حذف واستغني به عنه ومجيئه كذلك كثير ، وجوز أن تكون (ما) نكرة تامة وقَلِيلٍ بدلا منها ، وأن تكون نكرة موصوفة بقليل ، و(عن) بمعنى بعد هنا وهي متعلقة بقوله تعالى : لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ وتعلقها بكل من الفعل والوصف محتمل ، وجاز ذلك مع توسط لام القسم لأن الجار كالظرف يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره.
وقال أبو حيان : جمهور أصحابنا على أن لام القسم لا يتقدمها معمول ما بعدها سواء كان ظرفا أم جارا ومجرورا أم غيرهما ، وعليه يكون ذلك متعلقا بمحذوف يدل عليه ما قبله والتقدير عما قليل تنصر أو ما بعده أي يصبحون عما قليل ليصبحن إلخ ، ومذهب الفراء وأبي عبيدة أنه يجوز تقديم معمول ما في حيز هذه اللام عليها

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 235
مطلقا ، و«يصبح» بمعنى يصير أي باللّه تعالى ليصيرن نادمين على ما فعلوا من التكذيب بعد زمانقليل وذلك وقت نزول العذاب في الدنيا ومعاينتهم له ، وقيل : بعد الموت ، وفي اللوامح عن بعضهم «لتصبحن» بتاء على المخاطبة فلو ذهب ذاهب إلى أن القول من الرسول إلى الكفار بعد ما أجيب دعاؤه لكان جائزا.
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ أي صيحة جبريل عليه السلام صاح عليه السلام بهم فدمرهم ، وهذا على القول بأن القرن قوم صالح عليه السلام ظاهر ، ومن قال : إنهم قوم هود عليه السلام أشكل ظاهر هذا عليه بناء على أن المصرح به في غير هذه السورة أنهم أهلكوا بريح عاتية ، وأجاب بأن جبريل عليه السلام صاح بهم من الريح كما روي في بعض الأحاديث ، وفي ذكر كل على حدة إشارة إلى أن كلّا لو انفرد لتدميرهم لكفى ، ويجوز أن يراد بالصيحة العقوبة الهائلة والعذاب المصطلم كما في قوله :
صاح الزمان بآل برمك صيحة خروا لشدتها على الأذقان
بِالْحَقِّ متعلق بالأخذ أي بالأمر الثابت الذي لا مدافع له كما في قوله تعالى : وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ [ق : 19] أو بالعدل من اللّه عز وجل من قولك : فلان يقضي بالحق إذا كان عادلا في قضاياه أو بالوعد الصدق الذي وعده الرسول في ضمن قوله تعالى : عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً أي كغثاء السيل وهو ما يحمله من الورق والعيدان البالية ويجمع على أغثاء شذوذا وقد تشدد ثاؤه كما في قول امرئ القيس :
كأن ذرى رأس المجيمر «1» غدوة من السيل والغثاء فلكة مغزل
فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يحتمل الاخبار والدعاء ، والبعد ضد القرب والهلاك وفعلهما ككرم وفرح والمتعارف الأول في الأول والثاني في الثاني وهو منصوب بمقدر أي بعدوا بعدا من رحمة اللّه تعالى أو من كل خير أو من النجاة أو هلكوا هلاكا ، ويجب حذف ناصب هذا المصدر عند سيبويه فيما إذا كان دعائيا كما صرح به في الدر المصون ، واللام لبيان من دعي عليه أو أخبر ببعده فهي متعلقة بمحذوف لا ببعدا ، وضع الظاهر موضع الضمير إيذانا بأن إبعادهم لظلمهم ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ أي بعد هلاكهم قُرُوناً آخَرِينَ هم عند أكثر المفسرين قوم صالح وقوم لوط وقوم شعيب وغير ذلك.
ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها أي ما تتقدم أمة من الأمم المهلكة الوقت الذي عين لهلاكهم فمن سيف خطيب جيء بها لتأكيد الاستغراق المستفاد من النكرة الواقعة في سياق النفي ، وحاصل المعنى ما تهلك أمة من الأمم قبل مجيء أجلها وَما يَسْتَأْخِرُونَ ذلك الأجل ساعة ، وضمير الجمع عائد على أُمَّةٍ باعتبار المعنى.
ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا عطف على أَنْشَأْنا لكن لا على معنى أن إرسالهم متراخ عن إنشاء القرون المذكورة جميعا بل على معنى أن إرسال كل رسول متأخر عن إرسال قرن مخصوص بذلك الرسول كأنه قيل : ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين قد أرسلنا إلى كل قرن منهم رسولا خاصا به ، والفصل بين المعطوفين بالجملة المعترضة للمسارعة إلى بيان هلاك أولئك القرون على وجه إجمالي ، وتعليق الإرسال بالرسل نظير تعليق القتل بالقتيل في من قتل قتيلا وللعلماء فيه توجيهات تَتْرا من المواترة وهو التتابع مع فصل ومهلة على ما قاله الأصمعي واختاره الحريري في الدرة.
___________
(1) من جبال بني أسد ا ه منه. [.....]

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 236
وفي الصحاح المواترة المتابعة ولا تكون المواترة بين الأشياء إلا إذا وقعت بينها فترة وإلا فهي مداركة ومثله في القاموس ، وعن أبي علي أنه قال : المواترة أن يتبع الخبر الخبر والكتاب الكتاب فلا يكون بينهما فصل كثير ، ونقل في البحر عن بعض أن المواترة التتابع بغير مهلة ، وقيل : هو التتابع مطلقا ، والتاء الأولى بدل من الواو كما في تراث وتجاه ويدل على ذلك الاشتقاق ، وجمهور القراء والعرب على عدم تنوينه فألفه للتأنيث كألف دعوى وذكرى وهو مصدر في موضع الحال والظاهر أنه حال من المفعول ، والمراد كما قال أبو حيان والراغب وغيرهما ثم أرسلنا رسلنا متواترين ، وقيل : حال من الفاعل والمراد أرسلنا متواترين.
وقيل هو صفة لمصدر مقدر أي إرسالا متواترا ، وقيل مفعول مطلق لأرسلنا لأنه بمعنى واترنا وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وقتادة وأبو جعفر وشعبة وابن محيصن والإمام الشافعي عليه الرحمة «تترى» بالتنوين وهو لغة كنانة ، قال في البحر : وينبغي عند من ينون أن تكون الألف فيه للإلحاق كما في أرطى وعلقى لكن ألف الإلحاق في المصادر نادرة ، وقيل : إنها لا توجد فيها.
وقال الفراء : يقال تتر في الرفع وتتر في الجر وتترى في النصب فهو مثل صبر ونصر ووزنه فعل لا فعلى ومتى قيل تترى بالألف فألفه بدل التنوين كما في صبرت صبرا عند الوقف. ورد بأنه لم يسمع فيه إجراء الحركات الثلاث على الراء وعلى مدعيه الإثبات ، وأيضا كتبه بالياء يأبى ذلك ، وما ذكرنا من مصدرية تَتْرا هو المشهور ، وقيل :
هو جمع ، وقيل : اسم جمع وعلى القولين هو حال أيضا.
وقوله تعالى : كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ استئناف مبين لمجيء كل رسول لأمته ولما صدر عنهم عند تبليغ الرسالة ، والمراد بالمجيء إما التبليغ وإما حقيقة المجيء للإيذان بأنهم كذبوه في أول الملاقاة ، وإضافة الرسول إلى الأمة مع إضافة كلهم فيما سبق إلى نون العظمة لتحقيق أن كل رسول جاء أمته الخاصة به لا أن كلهم جاؤوا كل الأمم وللإشعار بكمال شناعة المكذبين وضلالهم حيث كذبوا الرسول المعين لهم ، وقيل : أضاف سبحانه الرسول مع الإرسال إليه عز وجل ومع المجيء إلى المرسل إليهم لأن الإرسال إليه عز وجل ومع المجيء إلى المرسل إليهم لأن الإرسال الذي هو مبدأ الأمر منه تعالى والمجيء الذي هو منتهاه إليهم فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً في الهلاك حسبما تبع بعضهم بعضا في مباشرة سببه وهو تكذيب الرسول وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ جمع أحدوثة وهو ما يتحدث به تعجبا وتلهيا كأعاجيب جمع أعجوبة وهو ما يتعجب منه أي جعلناهم أحاديث يتحدث بها على سبيل التعجب والتلهي ، ولا تقال الأحدوثة عند الأخفش إلا في الشر.
وجوز أن يكون جمع حديث وهو جمع شاذ مخالف للقياس كقطيع وأقاطيع ويسميه الزمخشري اسم جمع ، والمراد إنا أهلكناهم ولم يبق إلا خبرهم فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ اقتصر هاهنا على وصفهم بعدم الإيمان حسبما اقتصر على حكاية تكذيبهم إجمالا ، وأما القرون الأولون فحيث نقل عنهم ما مر من الغلو وتجاوز الحد في الكفر والعدوان وصفوا بالظلم ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا أي بالآيات المعهودة وهي الآيات التسع وقد تقدم الكلام في تفصيلها وما قيل فيه ، وهارُونَ بدل أو عطف بيان ، وتعرض لإخوته لموسى عليهما السلام للإشارة إلى تبعيته له في الإرسال وَسُلْطانٍ مُبِينٍ أي حجة واضحة أو مظهرة للحق ، والمراد بها عند جمع العصا ، وإفرادها بالذكر مع اندراجها في الآيات لتفردها بالمزايا حتى صارت كأنها شيء آخر ، وجوز أن يراد بها الآيات والتعاطف من تعاطف المتحدين في الماصدق لتغاير مدلوليهما كعطف الصفة على الصفة مع اتحاد الذات وقد مر نظيره آنفا أو هو من ناب قولك : مررت بالرجل والنسمة المباركة حيث جرد من نفس الآيات سلطان مبين وعطف عليه مبالغة ،

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 237
والإتيان به مفردا لأنه مصدر في الأصل أو للاتحاد في المراد ، وعن الحسن أن المراد بالآيات التكاليف الدينية وبالسلطان المبين المعجز ، وقال أبو حيان : يجوز أن يراد بالآيات نفس المعجزات وبالسلطان المبين كيفية دلالتها لأنها وإن شاركت آيات الأنبياء عليهم السلام في أصل الدلالة على الصدق فقد فارقتها في قوة دلالتها على ذلك وهو كما ترى ، وممكن أن يقال : المراد بالسلطان تسلط موسى عليه السلام في المحاورة والاستدلال على الصانع عز وجل وقوة الجأش والإقدام «إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ أي أشراف قومه خصوا بالذكر لأن إرسال بني إسرائيل وهو مما أرسلا عليهما السلام لأجله منوط بآرائهم ، ويمكن أن يراد بالملأ قومه فقد جاء استعماله بمعنى الجماعة مطلقا فَاسْتَكْبَرُوا عن الانقياد لما أمروا به ودعوا إليه من الإيمان وإرسال بني إسرائيل وترك تعذيبهم ، ليست الدعوة مختصة بإرسال بني إسرائيل وإطلاقهم من الأسر ففي سورة [النازعات : 17 - 19] اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى وأيضا فيما نحن فيه ما يدل على عدم الاختصاص.
وَكانُوا قَوْماً عالِينَ متكبرين أو متطاولين بالبغي والظلم والمراد كانوا قوما عادتهم العلو.
فَقالُوا عطف على (استكبروا) وما بينهما اعتراض مقرر للاستكبار ، والمراد فقالوا فيما بينهم بطريق المناصحة أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا ثنى البشر لأنه يطلق على الواحد كقوله تعالى : بَشَراً سَوِيًّا
[مريم : 17] ويطلق على الجمع كما في قوله تعالى : فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً [مريم : 26] ولم يثن مثل نظرا إلى كونه في حكم المصدر ، ولو أفرد البشر لصح لأنه اسم جنس يطلق على الواحد وغيره ، وكذا لو ثنى المثل فإنه جاء مثنى في قوله تعالى : يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ ومجموعا في قوله سبحانه : ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ نظرا إلى أنه في تأويل الوصف إلا أن المرجح لتثنيته الأول وإفراده الثاني الإشارة بالأول إلى قلتهما وانفرادهما عن قومهما مع كثرة الملأ واجتماعهم وبالثاني إلى شدة تماثلهم حتى كأنهم مع البشرين شيء واحد وهو أدل على ما عنوه.
وهذه القصص كما ترى تدل على أن مدار شبه المنكرين للنبوة قياس حال الأنبياء عليهم السلام على أحوالهم بناء على جهلهم بتفاصيل شؤون الحقيقة البشرية وتباين طبقات أفرادها في مراقي الكمال ومهاوي النقصان بحيث يكون بعضها في أعلى عليين وهم المختصون بالنفوس الزكية المؤيدون بالقوة القدسية المتعلقون لصفاء جواهرهم بكلا العالمين اللطيف والكثيف فيتلقون من جانب ويلقون إلى جانب ولا يعوقهم التعلق بمصالح الخلق عن التبتل إلى حضرة الحق وبعضها في أسفل سافلين وهم كأولئك الجهلة الذين هم كالأنعام بل هم أضل سبيلا.
ومن العجب أنهم لم يرضوا للنبوة ببشر ، وقد رضي أكثرهم للإلهية بحجر فقاتلهم اللّه تعالى ما أجهلهم ، والهمزة للإنكار أي لا نؤمن لبشرين مثلنا وَقَوْمُهُما يعنون سائر بني إسرائيل لَنا عابِدُونَ خادمون منقادون لنا كالعبيد ففي عابِدُونَ استعارة تبعية نظرا إلى متعارف اللغة.
ونقل الخفاجي عن الراغب أنه صرح بأن العابد بمعنى الخادم حقيقة ، وقال أبو عبيدة : العرب تسمي كل من دان للملك عابدا ، وجوز الزمخشري الحمل على حقيقة العبادة فإن فرعون كان يدعي الإلهية فادعى للناس العبادة على الحقيقة.
واعترض بأن الظاهر أن هذا القول من الملأ وهو يأبى ذلك ، وكونهم قالوه على لسان فرعون كما يقول خواص ملك : نحن ذوو رعية كثيرة وملك طويل عريض ومرادهم أن ملكنا ذو رعية إلخ خلاف الظاهر ، وقيل عليه أيضا على تقدير أن يكون القائل فرعون : لا يلزم من ادعائه الإلهية عبادة بني إسرائيل له أو كونه يعتقد أو يدعي عبادتهم على

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 238
الحقيقة له وأنت تعلم أنه متى سلم أن القائل فرعون وأنه يدعي الإلهية لا يقدح في إرادته حقيقة العباد عدم اعتقاده ذلك لأنه على ما تدل عليه بعض الآثار كثيرا ما يظهر خلاف ما يبطن حتى أنها تدل على أن دعواه الإلهية من ذلك ، نعم الأولى تفسير عابِدُونَ بخادمون وهو مما يصح إسناده إلى فرعون وملئه ، وكأنهم قصدوا بذلك التعريض بشأن الرسولين عليهما السلام وحط رتبتهما العلية عن منصب الرسالة من وجه آخر غير البشرية ، واللام في لَنا متعلقة بعابدون قدمت عليه رعاية للفواصل ، وقيل للحصر أي لنا عابدون لا لهما ، والجملة حال من فاعل نُؤْمِنُ مؤكدة لإنكار الإيمان لهما بناء على زعمهم الفاسد المؤسس على قياس الرياسة الدينية على الرياسة الدنيوية الدائرة على التقدم في نيل الحظوظ الدنيوية من المال والجاه كدأب قريش حيث قالوا : لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف : 31] وجهلهم بأن مناط الاصطفاء للرسالة هو السبق في حيازة النعوت العلية والملكات السنية التي يتفضل اللّه تعالى بها على من يشاء من خلقه فَكَذَّبُوهُما فاستمروا على تكذيبهما وأصروا واستكبروا استكبارا فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ بالغرق في بحر القلزم ، والتعقيب باعتبار آخر زمان التكذيب الذي استمروا عليه ، وقيل : تعقيب التكذيب بذلك بناء على أن المراد محكوم عليهم بالإهلاك ، وقيل : الفاء المحض السببية أي فكانوا بسبب تكذيب الرسولين من المهلكين.
وَلَقَدْ آتَيْنا بعد إهلاكهم وإنجاء بني إسرائيل من مملكتهم مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة ، وحيث كان إيتاؤه عليه السلام إياها لإرشاد قومه إلى الحق كما هو شأن الكتب الإلهية جعلوا كأنهم أوتوها فقيل : لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ أي إلى طريق الحق علما وعملا لما تضمنته من الاعتقاديات والعمليات.
وجوز أن يكون الكلام على تقدير مضاف أي أتينا قوم موسى وضمير لَعَلَّهُمْ عائد عليه ، وقيل أريد بموسى عليه السلام قومه كما يقال تميم وثقيف للقبيلة وتعقب بأن المعروف في مثله إطلاق أبي القبيلة عليهم وإطلاق موسى عليه السلام على قومه ليس من هذا القبيل وإن كان لا مانع منه ، ولم يجعل ضمير لَعَلَّهُمْ لفرعون وملئه لظهور أن التوراة إنما نزلت بعد إغراقهم لبني إسرائيل وقد يستشهد على ذلك بقوله تعالى : وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى [القصص : 43] بناء على أن المراد بالقرون الأولى ما يعم فرعون وقومه ومن قبلهم من المهلكين كقوم نوح وهود لا ما يخص من قبلهم من الأمم المهلكين لأن تقييد الأخبار بإتيانه عليه السلام الكتاب بأنه بعد إهلاك من تقدم من الأمم معلوم فلو لم يدخل فرعون وقومه لم يكن فيه فائدة كما قيل ، ولم يذكر هارون مع موسى عليهما السلام اقتصارا على من هو كالأصل في الإيتاء ، وقيل لأن الكتاب نزل بالطور وهارون عليه السلام كان غائبا مع بني إسرائيل.
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً أي آية دالة على عظيم قدرتنا بولادته منها من غير مسيس بشر فالآية أمر واحد مشترك بينهما فلذا أفردت ، وجوز أن يكون الكلام على تقدير مضاف أي جعلنا حال ابن مريم وأمه آية أو جعلنا ابن مريم وأمه ذوي آية وأن يكون على حذف آية من الأول لدلالة الثاني عليه أو بالعكس أي جعلنا ابن مريم آية لما ظهر فيه عليه السلام من الخوارق كتكلمه في المهد بما تكلم صغيرا وإحيائه الموتى وإبرائه الأكمه والأبرص وغير ذلك كبيرا وجعلنا أمة آية بأن ولدت من غير مسيس ، وقال الحسن : إنها عليها السلام تكلمت في صغرها أيضا حيث قالت :
هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ [آل عمران : 37] ولم تلتقم ثديا قط ، وقال الخفاجي : لك أن تقول : إنما يحتاج إلى توجيه إفراد الآية بما ذكر إذا أريد أنها آية على قدرة اللّه تعالى أما إذا كانت بمعنى المعجزة أو الإرهاص فلا لأنها إنما هي لعيسى عليه السلام لنبوته دون مريم ا ه. ولا يخفى ما فيه والوجه عندي ما تقدم ، والتعبير

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 239
عن عيسى عليه السلام بابن مريم وعن مريم بأمه للإيذان من أول الأمر بحيثية كونهما آية فإن نسبته عليه السلام إليها مع أن النسب إلى الآباء دالة على أن لا أب له أي جعلنا ابن مريم وحدها من غير أن يكون له أب وأمه التي ولدته خاصة من غير مشاركة الأب آية ، وتقديمه عليه السلام لأصالته فيما ذكر من كونه آية كما قيل أن تقديم أمه في قوله تعالى : وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء : 91] لأصالتها فيما نسب إليها من الإحصان والنفخ ، ثم اعلم أن الذي أجمع عليه الإسلاميون أنه ليس لمريم ابن سوى عيسى عليه السلام.
وزعم بعض النصارى قاتلهم اللّه تعالى أنها بعد أن ولدت عيسى تزوجت بيوسف النجار وولدت منه ثلاثة أبناء ، والمعتمد عليه عندهم أنها كانت في حال الصغر خطيبة يوسف النجار وعقد عليها ولم يقربها ولما رأى حملها بعيسى عليه السلام وهم بتخليتها فرأى في المنام ملكا أوقفه على حقيقة الحال فلما ولدت بقيت عنده مع عيسى عليه السلام فجعل يربيه ويتعهده مع أولاد له من زوجة غيرها فأما هي فلم يكن يقربها أصلا ، والمسلمون لا يسلمون أنها كانت معقودا عليها ليوسف ويسلمون أنها كانت خطيبته وأنه تعهدها وتعهد عيسى عليه السلام ويقولون : كان ذلك لقرابته منها وَآوَيْناهُما أي جعلناهما يأويان إِلى رَبْوَةٍ هي ما ارتفع من الأرض دون الجبل.
واختلف في المراد هنا فأخرج وكيع وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن عساكر بسند صحيح عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى : إِلى رَبْوَةٍ أنبئنا أنها دمشق ، وأخرج ابن عساكر عن عبد اللّه بن سلام وعن يزيد بن شجرة الصحابي وعن سعيد بن المسيب وعن قتادة عن الحسن أنهم قالوا : الربوة هي دمشق ، وفي ذلك حديث مرفوع أخرجه ابن عساكر عن أبي أمامة بسند ضعيف.
وأخرج جماعة عن أبي هريرة أنه قال : هي الرملة من فلسطين ، وأخرج ذلك ابن مردويه من حديثه مرفوعا ، وأخرج الطبراني في الأوسط ، وجماعة عن مرة البهزي قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : الربوة الرملة
،
وأخرج ابن جرير وغيره عن الضحاك أنه قال : هي بيت المقدس ، وأخرج هو وغيره أيضا عن قتادة أنه قال : كنا نحدث أن الربوة بيت المقدس ، وذكروا عن كعب أن أرضه كبد الأرض وأقربها إلى السماء بثمانية عشر ميلا ولذا كان المعراج ورفع عيسى عليه السلام منه ، وهذا القول أوفق بإطلاق الربوة على ما سمعت من معناها ، وأخرج ابن المنذر ، وغيره عن وهب وابن جرير وغيره عن ابن زيد الربوة مصر ، وروي عن زيد بن أسلم أنه قال : هي الاسكندرية ، وذكروا أي قرى مصر كل واحدة منها على ربوة مرتفعة لعموم النيل في زيادته جميع أرضها فلو لم تكن القرى على الربى لغرقت ، وذكر أن سبب هذا الإيواء أن ملك ذلك الزمان عزم على قتل عيسى عليه السلام ففرت به أمه إلى أحد هذه الأماكن التي ذكرت كذا في البحر ، ورأيت في إنجيل متى أن عيسى عليه السلام لما ولد في بيت لحم في أيام هيرودس الملك وافى جماعة من المجوس من المشرق إلى أورشليم يقولون : أين المولود ملك اليهود فقد رأينا نجمة في المشرق وجئنا لنسجد له فلما سمع هيرودس اضطرب وجمع رؤساء الكهنة وكتبة الشعب فسألهم أين يولد المسيح؟ فقالوا : في بيت لحم فدعا المجوس سرا وتحقق منهم الزمان الذي ظهر لهم فيه النجم وأرسلهم إلى بيت لحم وقال لهم : اجهدوا في البحث عن هذا المولود فإذا وجدتموه فأخبروني لأسجد له معكم فذهبوا فوجوده مع مريم فسجدوا وقربوا القرابين ورأوا في المنام أن لا يرجعوا إلى هيرودس فذهبوا إلى كورتهم ورأى يوسف في المنام ملكا يقول له قم فخذ الطفل وأمه واهرب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك فإن هيردوس قد عزم على أن يطلب الطفل ليهلكه فقام وأخذ الطفل وأمه ليلا ومضى إلى مصر وكان هناك وفاة هيرودس فلما توفي رأى يوسف الملك في المنام يقول له : قم فخذ الطفل وأمه واذهب إلى

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 240
أرض إسرائيل فقد مات من يطلب نفس الطفل فقام وأخذهما وجاء إلى أرض إسرائيل فلما سمع أن أرشلاوس قد ملك على اليهودية بعد أبيه هيرودس خاف أن يذهب هناك فأخبر في المنام وذهب إلى تخوم الجليل فسكن في مدينة تدعى ناصرة ا ه ، فإن صح هذا كان الظاهر أن الربوة في أرض مصر أو ناصرة من أرض الشام واللّه تعالى أعلم ، وقرأ أكثر القراء «ربوة» بضم الراء وهي لغة قريش.
وقرأ أبو إسحاق السبيعي «ربوة» بكسرها ، وابن أبي إسحاق «رباة» بضم الراء وبالألف ، وزيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما والأشهب العقيلي والفرزدق والسلمي في نقل صاحب اللوامح بفتحها وبالألف. وقرىء بكسرها وبالألف ذاتِ قَرارٍ أي مستقر من أرض منبسطة ، والمراد أنها في واد فسيح تنبسط به نفس من يأوي إليه ، وقال مجاهد : ذات ثمار وزروع ، والمراد أنها محل صالح لقرار الناس فيه لما فيه من الزروع والثمار وهو أنسب بقوله تعالى :
وَمَعِينٍ أي وماء معين أي جار ، ووزنه فعيل على أن الميم أصلية من معنى جرى ، وأصله الإبعاد في الشيء ومنه أمعن النظر.
وفي البحر معن الشيء معانة كثر أو من الماعون ، وإطلاقه على الماء الجاري لنفعه ، وجوز أن يكون وزنه مفعول كمخيط على أن الميم زائدة من عانه أدركه بعينه كركبه إذا ضربه بركبته وإطلاقه على الماء الجاري لما أنه في الأغلب يكون ظاهرا مشاهدا بالعين ، ووصف الماء بذلك لأنه الجامع لانشراح الصدر وطيب المكان وكثرة المنافع يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ حكاية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على وجه الإجمال لما خوطب به كل رسول في عصره جيء بها إثر حكاية إيواء عيسى وأمه عليهما السلام إلى الربوة إيذانا بأن ترتيب مبادي النعم لم تكن من خصائص عيسى عليه السلام بل إباحة الطيبات شرع قديم جرى عليه جميع الرسل عليهم السلام ووصوا به أي وقلنا لكل رسول كل من الطيبات واعمل صالحا فعبر عن تلك الأوامر المتعددة المتعلقة بالرسل بصيغة الجمع عند الحكاية إجمالا للإيجاز أو حكاية لما ذكر لعيسى وأمه عليهما السلام عند إيوائهما إلى الربوة ليقتديا بالرسل في تناول ما رزقا كأنه قيل آويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين وقلنا أو قائلين لهما هذا أي أعلمناهما أو معلميهما أن الرسل كلهم خوطبوا بهذا فكلا واعملا اقتداء بهم ، وجوز أن يكون نداء لعيسى عليه السلام وأمرا له بأن يأكل من الطيبات ،
فقد جاء في حديث مرسل عن حفص ابن أبي جبلة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال في قوله تعالى : يا أَيُّهَا الرُّسُلُ إلخ : ذاك عيسى ابن مريم كان يأكل «1» من غزل أمه
،
وعن الحسن ومجاهد وقتادة والسدي والكلبي أنه نداء لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وخطاب له والجمع للتعظيم واستظهر ذلك النيسابوري ، وما وقع في شرح التلخيص تبعا للرضي من أن قصد التعظيم بصيغة الجمع في غير ضمير المتكلم لم يقع في الكلام القديم خطأ لكثرته في كلام العرب مطلقا بل في جميع الألسنة وقد صرح به الثعالبي في فقه اللغة ، والمراد بالطيبات على ما اختاره شيخ الإسلام وغيره ما يستطاب ويستلذ من مباحات المأكل والفواكه ، واستدل له بأن السياق يقتضيه والأمر عليه للإباحة والترفيه وفيه إبطال للرهبانية التي ابتدعتها النصارى ، وقيل المراد بالطيبات ما حل والأمر تكليفي ، وأيد بتعقيبه بقوله تعالى : وَاعْمَلُوا صالِحاً أي عملا صالحا ، وقد يؤيد بما
أخرجه أحمد في الزهد وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه عن أم عبد اللّه أخت شداد بن أوس رضي اللّه تعالى عنها أنها بعثت إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بقدح لبن عند فطره وهو صائم فرد إليها رسولها أنى لك هذا اللبن؟ قالت : من شاة لي فرد إليها رسولها أنى لك الشاة؟ فقالت : اشتريتها من مالي فشرب منه عليه الصلاة والسلام فلما كان من الغد أتته أم
___________
(1) والمشهور أنه عليه السلام كان يأكل من بطن البرية ا ه منه.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 241
عبد اللّه فقالت : يا رسول اللّه بعثت إليك بلبن فرددت إليّ الرسول فيه فقال صلّى اللّه عليه وسلّم لها : «بذلك أمرت الرسل قبلي أن لا تأكل إلا طيبا ولا تعمل إلا صالحا»
وكذا بما
أخرجه مسلم والترمذي وغيرهما عن أبي هريرة قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يا أيها الناس إن اللّه تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا وإن اللّه تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المسلمين فقال : يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً وقال : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ [البقرة : 172] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب فأنى يستجاب لذلك»
وتقديم الأمر بأكل الحلال لأن أكل الحلال معين على العمل الصالح.
وجاء في بعض الأخبار أن اللّه تعالى لا يقبل عبادة من في جوفه لقمة من حرام ، وصح أيما لحم نبت من سحت فالنار أولى به. ولعل تقديم الأمر الأول على تقدير حمل الطيب على ما يستلذ من المباحات لأنه أوفق بقوله تعالى : وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ وفي الأمر بعده بالعمل الصالح حث على الشكر.
إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ من الأعمال الظاهرة والباطنة عَلِيمٌ فأجازيكم عليه ، وفي البحر أن هذا تحذير للرسل عليهم السلام في الظاهر والمراد أتباعهم وَإِنَّ هذِهِ أي الملة والشريعة ، وأشير إليها بهذه للإشارة إلى كمال ظهور أمرها في الصحة والسداد وانتظامها بسبب ذلك في سلك الأمور المشاهدة أُمَّتُكُمْ أي ملتكم وشريعتكم والخطاب للرسل عليهم السلام على نحو ما مر وقيل عام لهم ولغيرهم وروي ذلك عن مجاهد ، والجملة على ما قال الخفاجي عطف على الجملة إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ فالواو من المحكي ، وقيل هي من الحكاية وقد عطفت قولا على قول ، والتقدير قلنا يا أيها الرسل كلوا إلخ وقلنا لهم إن هذه أمتكم ولا يخفى بعده.
وقيل : الواو ليست للعطف والجملة بعدها مستأنفة غير معطوفة على ما قبلها وهو كما ترى ، وقوله سبحانه أُمَّةً واحِدَةً حال مبنية من الخبر والعامل فيها معنى الإشارة أي أشير إليها في حال كونها شريعة متحدة في الأصول التي لا تتبدل بتبدل الأعصار وقيل هذِهِ إشارة إلى الأمم الماضية للرسل ، والمعنى أن هذه جماعتكم جماعة واحدة متفقة على الإيمان والتوحيد في العبادة وَأَنَا رَبُّكُمْ أي من غير أن يكون لي شريك في الربوبية ، وهذه الجملة عطف على جملة «إن هذه» إلخ المعطوفة على ما تقدم وهما داخلان في حيز التعليل للعمل الصالح لأن الظاهر أن قوله سبحانه : إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ تعليل لذلك ، ولعل المراد بالعمل الصالح ما يشمل العقائد الحقة والأعمال الصحيحة ، واقتضاء المجازاة والربوبية لذلك ظاهر وأما اقتضاء اتحاد الشريعة في الأصول التي لا تتبدل لذلك فباعتبار أنه دليل حقية العقائد وحقيقتها تقتضي الإتيان بها والإتيان بها يقتضي الإتيان بغيرها من الأعمال الصالحة بل قيل لا يصح الاعتقاد مع ترك العمل ، وعلى هذا يكون قوله تعالى : فَاتَّقُونِ كالتصريح بالنتيجة فيكون الكلام نظير قولك : العالم حادث لأنه متغير وكل متغير حادث فالعالم حادث.
وفي إرشاد العقل السليم أن ضمير الخطاب في قوله تعالى : رَبُّكُمْ وفي قوله سبحانه : فَاتَّقُونِ للرسل والأمم جميعا على أن الأمر في حق الرسل للتهييج والإلهاب وفي حق الأمة للتحذير والإيجاب ، والفاء لترتيب الأمر أو وجوب الامتثال به على ما قبله من اختصاص الربوبية به سبحانه واتحاد الأمة فإن كلّا منهما موجب للاتقاء حتما ، والمعنى فاتقون في شق العصا والمخالفة بالإخلال بموجب ما ذكر.
وقرأ الحرميان وأبو عمرو «وأن» بفتح الهمزة وتشديد النون ، وخرج على تقدير حرف الجر أي ولأن هذه إلخ ، والجار والمجرور متعلق باتقون ، قال الخفاجي : والكلام في الفاء الداخلة عليه كالكلام في فاء قوله تعالى : فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وهي للسببية وللعطف على ما قبله وهو اعْمَلُوا والمعنى اتقوني لأن العقول متفقة على ربوبيتي والعقائد

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 242
الحقة الموجبة للتقوى انتهى ، ولا يخلو عن شيء ، وجوز أن تكون إِنَّ هذِهِ إلخ على هذه القراءة معطوفا على ما تَعْمَلُونَ والمعنى إني عليم بما تعملون وبأن هذه أمتكم أمة واحدة إلخ فهو داخل في حيز المعلوم. وضعف بأنه لا جزالة في المعنى عليه ، وقيل : هو معمول لفعل محذوف أي واعلموا أن هذه أمتكم إلخ وهذا المحذوف معطوف على «اعملوا» ولا يخفى أن هذا التقدير خلاف الظاهر.
وقرأ ابن عامر «وأن» بفتح الهمزة وتخفيف النون على أنها المخففة من الثقيلة ويعلم توجيه الفتح مما ذكرنا.
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ الضمير لما دل عليه الأمة من أربابها إن كانت بمعنى الملة أو لها وإن كانت بمعنى الجماعة ، وجوز أن يراد بالأمة أولا الملة وعند عود الضمير عليها الجماعة على أن ذلك من باب الاستخدام ، والمراد حكاية ما ظهر من أمم الرسل عليهم السلام من مخالفة الأمر ، والفاء لترتيب عصيانهم على الأمر لزيادة تقبيح حالهم ، وتقطع بمعنى قطع كتقدم بمعنى قدم والمراد بأمرهم أمر دينهم إما على تقدير مضاف أو على جعل الإضافة عهدية أي قطعوا أمر دينهم وجعلوه أديانا مختلفة مع اتحاده ، وجوز أن يراد بالتقطع التفرق ، و«أمرهم» منصوب بنزع الخافض أي فتفرقوا وتحزبوا في أمرهم ، ويجوز أن يكون أَمْرَهُمْ على هذا نصبا على التمييز عند الكوفيين المجوزين تعريف التمييز بَيْنَهُمْ زُبُراً أي قطعا جمع زبور بمعنى فرقة ، ويؤيده أنه قرىء «زبرا» بضم الزاي وفتح الباء فإنه مشهور ثابت في جمع زبرة بمعنى قطعة وهو حال من «أمرهم» أو من واو (تقطعوا) أو مفعول ثان له فإنه مضمن معنى جعلوا ، وقيل : جمع زبور بمعنى كتاب من زبرت بمعنى كتبت وهو مفعول ثان لتقطعوا المضمن معنى الجعل أي قطعوا أمر دينهم جاعلين له كتبا.
وجوز أن يكون حالا من أَمْرَهُمْ على اعتبار تقطعوا لازما أي تفرقوا في أمرهم حال كونه مثل الكتب السماوية عندهم. وقيل : إنها حال مقدرة أو منصوب بنزع الخافض أي في كتب ، وتفسير زُبُراً بكتب رواه جماعة عن قتادة كما في الدر المنثور ، ولا يخفى خفاء المعنى عليه ولا يكاد يستقيم إلا بتأويل فتدبر.
وقرىء «زبرا» بإسكان الباء للتخفيف كرسل في رسل ، وجاء فَتَقَطَّعُوا هنا بالفاء إيذانا بأن ذلك اعتقب الأمر وفيه مبالغة في الذم كما أشرنا إليه ، وجاء في سورة الأنبياء بالواو فاحتمل معنى الفاء واحتمل تأخر تقطعهم عن الأمر ، وجاء هنا وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ وهو أبلغ في التخويف والتحذير مما جاء هناك من قوله تعالى هناك : وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء : 92] لأن هذه جاءت عقيب إهلاك طوائف كثيرين قوم نوح والأمم الذين من بعدهم وفي تلك السورة وإن تقدمت أيضا قصة نوح وما قبلها فإنه جاء بعدها ما يدل على الإحسان واللطف التام في قصة أيوب وزكريا ومريم فناسب الأمر بالعبادة لمن هذه صفته عز وجل قاله أبو حيان ، وما ذكره أولا غير واف بالمقصود ، وما ذكره ثانيا قيل عليه : إنه مبني على أن الآية تذييل للقصص السابقة أو لقصة عيسى عليه السلام لابتداء كلام فإنه حينئذ لا يفيد ذلك إلا أن يراد أنه وقع في الحكاية لهذه المناسبة فتأمل.
كُلُّ حِزْبٍ من أولئك المتحزبين بِما لَدَيْهِمْ من الأمر الذي اختاروه فَرِحُونَ مسرورون منشرحو الصدر ، والمراد أنهم معجبون به معتقدون أنه الحق ، وفي هذا من ذم أولئك المتحزبين ما فيه.
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ خطاب له صلّى اللّه عليه وسلّم في شأن قريش الذين تقطعوا في أمر الدين الحق ، والغمرة الماء الذي يغمر القامة وأصلها من الستر والمراد بها الجهالة بجامع الغلبة والاستهلاك ، وكأنه لما ذكر سبحانه في ضمن ما كان من أمم الأنبياء عليهم السلام توزعهم واقتسامهم ما كان يجب اجتماعه واتفاق الكلمة عليه من الدين وفرحهم بفعلهم الباطل ومعتقدهم العاطل قال لنبيه صلّى اللّه عليه وسلّم : فإذ ذاك دعهم في جهلهم هذا الذي لا جهل فوقه تخلية وخذلانا ودلالة على

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 243
اليأس من أن ينجع القول فيهم وضمن التسلية في ذكر الغاية أعني قوله سبحانه : حَتَّى حِينٍ فإن المراد بذلك حين قتلهم وهو يوم بدر على ما روي عن مقاتل أو موتهم على الكفر الموجب للعذاب أو عذابهم ، وفي التنكير والإبهام ما لا يخفى من التهويل.
وجوز أن يقال : شبه حال هؤلاء مع ما هم عليه من محاولة الباطل والانغماس فيه بحال من يدخل في الماء الغامر للعب والجامع تضييع الوقت بعد الكدح في العمل ، والكلام حينئذ على منوال سابقه أعني قوله تعالى : كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ لما جعلوا فرحين غرورا جعلوا لاعبين أيضا والأول أظهر وقد يجعل الكلام عليه أيضا استعارة تمثيلية بل هو أولى عند البلغاء كما لا يخفى.
وقرأ عليّ كرم اللّه تعالى وجهه وأبو حيوة والسلمي «في غمراتهم»
على الجمع لأن لكل واحد غمرة.
أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ أي الذي نعطيهم إياه ونجعله مددا لهم ، فما موصولة اسم أن ولا يضر كونها موصولة لأنها في الإمام كذلك لسر لا نعرفه. وقوله تعالى : مِنْ مالٍ وَبَنِينَ بيان لها. وتقديم المال على النبيين مع كونهم أعز منه قد مر وجهه ، وقوله سبحانه : نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ خبر أن والراجع إلى الاسم محذوف أي أيحسبون أن الذي نمدهم به من المال والبنين نسارع به لهم فيما فيه خيرهم وإكرامهم على أن الهمزة لإنكار الواقع واستقباحه وحذف هذا العائد لطول الكلام مع تقدم نظيره في الصلة إلا أن حذف مثله قليل ، وقال هشام بن معاوية :
الرابط هو الاسم الظاهر وهو الْخَيْراتِ وكأن المعنى نسارع لهم فيه ثم أظهر فقيل في الخيرات ، وهذا يتمشى على مذهب الأخفش في إجازته نحو زيد قام أبو عبد اللّه إذا كان أبو عبد اللّه كنية لزيد ، قيل : ولا يجوز أن يكون الخبر مِنْ مالٍ وَبَنِينَ لأن اللّه تعالى أمدهم بذلك فلا يعاب ولا ينكر عليهم اعتقاد المدد به كما يفيده الاستفهام الانكاري وتعقب بأنه لا يبعد أن يكون المراد ما نجعله مددا نافعا لهم في الآخرة ليس المال والبنين بل الاعتقاد والعمل الصالح كقوله تعالى : يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء : 88] وفيه ما فيه. وما ذكرنا من كون ما موصولة هو الظاهر ، ومن جوز كونها مصدرية وجعل المصدر الحاصل بعد السبك اسم أن وخبرها نُسارِعُ على تقدير مسارعة بناء على أن الأصل أن نسارع فحذفت أن وارتفع الفعل لم يوف القرآن الكريم حقه ، وكذا من جعلها كافة كالكسائي ونقل ذلك عنه أبو حيان ، وجوز عليه الوقف على بَنِينَ معللا بأن ما بعد يحسب قد انتظم مسندا ومسندا إليه من حيث المعنى وإن كان في تأويل مفرد وهو كما ترى ، وقرأ ابن وثاب «إنما نمدهم» بكسر همزة إن ، وقرأ ابن كثير في رواية «يمدهم» بالياء.
وقرأ السلمي وعبد الرحمن بن أبي بكرة «يسارع» بالياء وكسر الراء فإن كان فاعله ضميره تعالى فالكلام في الرابط ، على ما سمعت ، وإن كان ضمير الموصول فهو الرابط وعن ابن أبي بكرة المذكور أنه قرأ «يسارع» بالياء وفتح الراء مبنيا للمفعول ، وقرأ الحر النحوي «نسرع» بالنون مضارع أسرع ، وقرىء على ما في الكشاف «يسرع» بالياء مضارع أسرع أيضا وفي فاعله الاحتمالان المشار إليهما آنفا بَلْ لا يَشْعُرُونَ عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي كلا لا نفعل ذلك بل لا يشعرون أي ليس من شأنهم الشعور أن هم إلا كالأنعام بل هم أضل حتى يتأملوا ويتفكروا في ذلك هو استدراج أم مسارعة ومبادرة في الخيرات ومن هنا قيل : من يعص اللّه تعالى ولم ير نقصانا فيما أعطاه سبحانه من الدنيا فليعلم أنه مستدرج قد مكر به ، وقال قتادة : لا تعتبروا الناس بأموالهم وأولادهم ولكن اعتبروهم بالإيمان والعمل الصالح.
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ الكلام فيه نظير ما مر في نظيره في سورة الأنبياء بيد أن استمرار

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 244
الإشفاق هنا في الدنيا والآخرة للمؤمنين ترددا وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ المنزلة والمنصوبة في الآفاق والأنفس ، والباء للملابسة وهي متعلقة بقوله تعالى : يُؤْمِنُونَ أي يصدقون ، والمراد التصديق بمدلولها إذ لا مدح في التصديق بوجودها ، والتعبير بالمضارع دون الاسم للإشارة إلى أنه كلما وقفوا على آية آمنوا بها وصدقوا بمدلولها وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ فيخلصون بالعبادة له عز وجل فالمراد نفي الشرك الخفي كالرياء بالعبادة كذا قيل ، وقد اختار بعض المحققين التعميم أي لا يشركون به تعالى شركا جليا ولا خفيا ولعله الأولى ، ولا يغني عن ذلك وصفهم بالإيمان بآيات اللّه تعالى.
وجوز أن يراد مما سبق وصفهم بتوحيد الربوبية ومما هنا وصفهم بتوحيد الألوهية ، ولم يقتصر على الأول لأن أكثر الكفار متصفون بتوحيد الربوبية وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان : 25 ، الزمر :
38] ولا يأباه التعرض لعنوان الربوبية فإنه في المواضع الثلاثة للإشعار بالعلية وذلك العنوان يصلح لأن يكون علة لتوحيد الألوهية كما لا يخفى.
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا أي يعطون ما أعطوا من الصدقات وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ خائفة من أن لا يقبل منهم وأن لا يقع على الوجه اللائق فيؤاخذوا به. وقرأت عائشة وابن عباس وقتادة والأعمش والحسن والنخعي
يأتون ما اتوا من الإتيان لا الإيتاء فيهما ، وأخرج ابن مردويه وسعيد بن منصور عن عائشة أنه صلّى اللّه عليه وسلّم قرأ كذلك
وأطلق عليها المفسرون قراءة رسول اللّه عليه الصلاة والسلام يعنون أن المحدثين نقلوها عنه صلّى اللّه عليه وسلّم ولم يروها القراء من طرقهم والمعنى عليها يفعلون من العبادات ما فعلوه وقلوبهم وجلة ، وروي نحو هذا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
فقد أخرج أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم وصححه وابن المنذر وابن جرير وجماعة عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت : قلت يا رسول اللّه قول اللّه وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو مع ذلك يخاف اللّه تعالى؟ قال : لا ولكنه الرجل يصوم ويتصدق ويصلي وهو مع ذلك يخاف اللّه تعالى أن لا يتقبل منه
،
وجملة قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ في القراءتين في موضع الحال من ضمير الجمع في الصلة الأولى ، والتعبير بالمضارع فيها للدلالة على الاستمرار وفي الثانية للدلالة على التحقق ، وقوله تعالى : أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ بتقدير اللام التعليلية وهي متعلقة بوجلة أي خائفة من عدم القبول وعدم الوقوع على الوجه اللائق لأنهم راجعون إليه تعالى ومبعوثون يوم القيامة وحينئذ تنكشف الحقائق ويحتاج العبد إلى عمل مقبول لائق فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة : 7 ، 8].
وجوز أن يكون بتقدير من الابتدائية التي يتعدى بها الوجل أي وجلة من أن رجوعهم إليه عز وجل على أن مناط الوجل أن لا يقبل ذلك منهم وأن لا يقع على الوجه اللائق فيؤاخذوا به حينئذ لا مجرد رجوعهم إليه عز وجل ، وقد يؤيد الوجه الأول بقراءة الأعمش أَنَّهُمْ بكسر الهمزة ، ولعل التعبير بالجملة الاسمية المخبر فيها بالوصف دون الفعل المضارع للمبالغة في تحقق الرجوع حتى كأنه من الأمور الثابتة المستمرة كذا قيل.
وجوز على بعد أن يكون المراد من الرجوع المذكور الرجوع إليه عز وجل بالعبودية ، فوجه التعبير بالجملة الاسمية عليه أظهر من أن يخفى ، ووجه تعليل الخوف من عدم القبول وعدم وقوع فعلهم كائنا ما كان على الوجه اللائق بأنهم راجعون إليه تعالى بالعبودية عدم وجوب قبول عملهم عليه تعالى حينئذ لأنه سبحانه مالك وللمالك أن يفعل بملكه ما يشاء وظهور نقصهم كيف كانوا عن كماله جل جلاله والناقص مظنة أن لا يأتي بما يليق بالكامل لا سيما إذا كان ذلك الكامل هو اللّه عز وجل الذي لا يتناهى كماله ولا أراك ترى في هذا الوجه كلفا سوى كلف العبد

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 245
فتأمل ، ثم إن المواصلات الأربع على ما قاله شيخ الإسلام ، وغيره عبارة عن طائفة واحدة متصفة بما ذكر في حيز صلاتها من الأوصاف الأربعة لا عن طوائف كل واحدة منها متصفة بواحد من الأوصاف المذكورة كأنه قيل : إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون وبآيات ربهم يؤمنون إلخ ، وإنما كرر الموصول إيذانا باستقلال كل واحدة من تلك الصفات بفضيلة باهرة على حيالها وتنزيلا لاستقلالها منزلة استقلال الموصوف بها ، وهذا جار على كلتا القراءتين في قوله تعالى : وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وللعلامة الطيبي في هذا المقام كلام لا أظنك تستطيبه كيف وفيه القول بأن الذين هم بربهم لا يشركون والذين يأتون ما آتوا وقلوبهم وجلة هم العاصون من أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وهو في غاية البعد.
وقد ذكر الإمام أن الصفة الرابعة نهاية مقامات الصديقين أُولئِكَ إشارة إلى من ذكر باعتبار اتصافهم بتلك الصفات ، وما فيه من معنى البعد للإشعار بعد رتبتهم في الفضل وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ والجملة من المبتدأ وخبره خبر إن ، والكلام استئناف مسوق لبيان من له المسارعة في الخيرات إثر إقناط الكفار عنها وإبطال حسبانهم الكاذب أي أولئك المنعوتون بما فصل من النعوت الجليلة خاصة دون أولئك الكفرة يسارعون في نيل الخيرات التي من جملتها الخيرات العاجلة الموعودة على الأعمال الصالحة كما في قوله تعالى :
فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ [آل عمران : 148] وقوله سبحانه : وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [النحل : 122] فقد أثبت لهم ما نفي عن أضدادهم خلا أنه غير الأسلوب حيث لم يقل أولئك يسارع لهم في الخيرات بل أسند المسارعة إليهم إيماء إلى استحقاقهم لنيل الخيرات بمحاسن أعمالهم ، وإيثار كلمة في على كلمة إلى للإيذان بأنهم متقلبون في فنون الخيرات لا أنهم خارجون عنها متوجهون إليها بطريق المسارعة كما في قوله تعالى : وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ [آل عمران : 133] وَهُمْ لَها أي للخيرات التي من جملتها ما سمعت ، والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى : سابِقُونَ وهو إما منزل منزلة اللازم أي فاعلون السبق أو مفعوله محذوف أي سابقون الناس أو الكفار ، وهو يتعدى باللام وبإلى فيقال : سبقت إلى كذا ولكذا ، والمراد بسبقهم إلى الخيرات ظفرهم بها ونيلهم إياها.
وجعل أبو حيان هذه الجملة تأكيدا للجملة الأولى ، وقيل سابقون متعد للضمير بنفسه واللام مزيدة ، وحسن زيادتها كون العامل فرعيا وتقدم المعمول المضمر أي وهم سابقون إياها ، والمراد بسبقهم إياها لازم معناه أيضا وهو النيل أي وهم ينالونها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا فلا يرد ما قيل : إن سبق الشيء الشيء يدل على تقدم السابق على المسبوق فكيف يقال : هم يسبقون الخيرات والاحتياج إلى إرادة اللازم على هذا الوجه أشد منه على الوجه السابق ولهذا مع التزام الزيادة فيه قيل إنه وجه متكلف.
وجوز أن يكون المراد بالخيرات الطاعات وضمير لَها لها أيضا واللام للتعليل وهو متعلق بما بعده والمعنى يرغبون في الطاعات والعبادات أشد الرغبة وهم لأجلها فاعلون السبق أو لأجلها سابقون الناس إلى الثواب أو إلى الجنة ، وجوز على تقدير أن يراد بالخيرات الطاعات أن يكون لَها خبر المبتدأ وسابِقُونَ خبر بعد خبر ، ومعنى هُمْ لَها أنهم معدون لفعل مثلها من الأمور العظيمة ، وهذا كقولك : لمن يطلب منه حاجة لا ترجى من غيره : أنت لها وهو من بليغ كلامهم ، وعلى ذلك قوله :
مشكلات أعضلت ودهت يا رسول اللّه أنت لها
ورجح هذا الوجه الطبري بأن اللام متمكنة في هذا المعنى ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ما هو ظاهر في جعل لَها خبرا وإن لم يكن ظاهرا في جعل الضمير للخيرات بمعنى الطاعات ، ففي البحر نقلا عنه أن المعنى

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 246
سبقت لهم السعادة في الأزل فهم لها ، وأنت تعلم أن أكثر هذه الأوجه خلاف الظاهر وأن التفسير الأول للخيرات أحسن طباقا للآية المتقدمة ، ومن الناس من زعم أن ضمير لَها للجنة. ومنهم من زعم أنه للأمم وهو كما ترى. وقرأ الحر النحوي «يسرعون» مضارع أسرع يقال : أسرعت إلى الشيء وسرعت إليه بمعنى واحد و«يسارعون» كما قال الزجاج أبلغ من يسرعون ، ووجه بأن المفاعلة تكون من اثنين فنقتفي حث النفس على السبق لأن من عارضك في شيء تشتهي أن تغلبه فيه وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها جملة مستأنفة سيقت للتحريض على ما وصف به أولئك المشار إليهم من فعل الطاعات ببيان سهولته وكونه غير خارج عن حد الوسع والطاعة أي عادتنا جارية على أن لا نكلف نفسا من النفوس إلا ما في وسعها وقدر طاقتها على أن المراد استمرار النفي بمعونة المقام لا نفي الاستمرار أو للترخيص فيما هو قاصر عن درجة أعمال أولئك ببيان أنه تعالى لا يكلف عباده إلا ما في وسعهم فإن لم يبلغوا في فعل الطاعات مراتب السابقين فلا عليهم بعد أن يبذلوا طاقتهم ويستفرغوا وسعهم. قال مقاتل : من لم يستطع القيام فليصل قاعدا ومن لم يستطع القعود فليوم إيماء.
وقوله سبحانه : وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ تتمة لما قبله ببيان أحوال ما كلفوه من الأعمال وأحكامها المترتبة عليها من الحساب والثواب والعقاب ، والمراد بالكتاب صحائف الأعمال التي يقرؤونها عند الحساب حسبما يؤذن به الوصف بهو كما في قوله تعالى : هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية : 29] و(الحق) المطابق للواقع والنطق به مجاز عن إظهاره أي عندنا كتاب يظهر الحق المطابق للواقع على ما هو عليه ذاتا ووصفا ويبينه للناظر كما يبينه النطق ويظهره للسامع فيظهر هناك جلائل الأعمال ودقائقها ويترتب عليها أجزيتها إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وقيل : المراد بالكتاب صحائف يقرؤونها فيها ما ثبت لهم في اللوح المحفوظ من الجزاء وهو دون القول الأول ، وأدون منه ما قيل : إن المراد به القرآن الكريم ، وقوله تعالى : وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ لبيان فضله عز وجل وعدله في الجزاء على أتم وجه إثر بيان لطفه سبحانه في التكليف وكتب الأعمال على ما هي عليه أي لا يظلمون في الجزاء بنقص ثواب أو زيادة عذاب بل يجزون بقدر أعمالهم التي كلفوها ونطقت بها صحائفها بالحق ، وجوز أن يكون تقريرا لما قبل من التكليف وكتب الأعمال أي لا يظلمون بتكليف ما ليس في وسعهم ولا بكتب بعض أعمالهم التي من جملتها أعمال غير السابقين بناء على قصورها عن درجة أعمال السابقين بل يكتب كل منها على مقاديرها وطبقاتها.
وقوله عز وجل : بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا إضراب عما قبله ورجوع إلى بيان حال الكفرة فالضمير للكفرة أي بل قلوب الكفرة في غفلة وجهالة من هذا الذي بين في القرآن من أن لديه تعالى كتابا ينطق بالحق ويظهر لهم أعمالهم السيئة على رؤوس الأشهاد فيجزون بها كما ينبىء عنه ما سيأتي إن شاء اللّه تعالى من قوله سبحانه : قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ إلخ ، وقيل : الإشارة إلى القرآن الكريم وما بين فيه مطلقا وروي ذلك عن مجاهد ، وقيل :
إلى ما عليه أولئك الموصوفون بالأعمال الصالحة وروي هذا عن قتادة ، وقيل : إلى الدين بجملته ، وقيل إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم والأول أظهر وَلَهُمْ أَعْمالٌ سيئة كثيرة مِنْ دُونِ ذلِكَ الذي ذكر من كون قلوبهم في غمرة مما ذكر وهي فنون كفرهم ومعاصيهم التي من جملتها طعنهم في القرآن الكريم المشار إليه في قوله تعالى : مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس أن المراد بالغمرة الكفرة والشك وأن ذلِكَ إشارة إلى هذا المذكور ، والمعنى لهم أعمال دون الكفر وأخرج ابن جرير وغيره عن قتادة أن ذلِكَ كهذا إشارة إلى ما وصف به المؤمنون

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 247
من الأعمال الصالحة أي لهم أعمال متخطية لما وصف به المؤمنون أي أضداد ما وصفوا به مما وقع في حيز الصلات وهذا غاية الذم لهم هُمْ لَها عامِلُونَ أي مستمرون عليها معتادون فعلها ضارون بها لا يفطمون عنها وعامِلُونَ عامل في الضمير قبله واللام للتقوية ، هذا وقال أبو مسلم : إن الضمير في قوله تعالى : بَلْ هم إلخ عائد على المؤمنين الموصوفين بما تقدم من الصفات كأنه سبحانه قال بعد وصفهم : ولا نكلف نفسا إلا وسعها ونهايته ما أتى به هؤلاء المشفقون ولدينا كتاب يحفظ أعمالهم ينطق بالحق فلا يظلمون بل يوفي عليهم ثواب أعمالهم ، ثم وصفهم سبحانه بالحيرة في قوله تعالى : بل قلوبهم في غمرة فكأنه عز وجل قال : وهم مع ذلك الوجل والخوف كالمتحيرين في أعمالهم أهي مقبولة أم مردودة ولهم أعمال من دون ذلك أي لهم أيضا من النوافل ووجوه البرسوي ما هم عليه انتهى ، قال الإمام : وهو الأولى لأنه إذا أمكن رد الكلام إلى ما يتصل به من ذكر المشفقين كان أولى من رده إلى ما بعد منه خصوصا وقد يرغب المرء في فعل الخير بأن يذكر أن أعماله محفوظة كما يحذر بذلك من الشر ، وقد يوصف المرء لشدة فكره في أمر آخرته بأن قلبه في غمرة ويراد أنه قد استولى عليه الفكر في قبول عمله أورده وفي أنه هل أداه كما يجب أو قصر ، وهذا على هذا إشارة إلى إشفاقهم ووجلهم انتهى ، ولا يخفى ما فيه على من ليس قلبه في غمرة.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 64 إلى 118]
حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)
أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73)
وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78)
وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93)
رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)
حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103)
تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108)
إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113)
قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 248
حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ حَتَّى على ما في الكشاف هي التي يبتدأ بعدها الكلام وهي مع ذلك غاية لما قبلها كأنه قيل : لا يزالون يعملون أعمالهم إلى حيث إذا أخذنا إلخ ، وقال ابن عطية : هي ابتداء لا غير ، وإِذا الأولى والثانية يمنعان من أن تكون غاية لعاملون وفيه نظر ، وإِذا شرطية شرطها أَخَذْنا وهي مضافة إليه وجزاؤها قوله تعالى : إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ وهي معمولة له وإذا فيه فجائية نائبة مناب الفاء ، وقال الحوفي : حتى غاية وهي عاطفة وإذا ظرف يضاف إلى ما بعده فيه معنى الشرط وإذا الثانية في موضع جواب الأولى ومعنى الكلام عامل في إذا الأولى والعامل في الثانية أَخَذْنا انتهى.
وهو كلام مخبط يبعد صدوره من مثل هذا الفاضل ، والمترف المتوسع في النعمة ، والمراد بالعذاب ما أصابهم

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 249
يوم بدر من القتل والأسر كما روي عن ابن عباس ومجاهد وابن جبير وقتادة ، وقد قتل وأسر في ذلك اليوم كثير من صناديدهم ورؤسائهم والجؤار مثل الخوار يقال جأر الثور يجأر إذا صاح وجأر الرجل إلى اللّه تعالى إذا تضرع بالدعاء كما في الصحاح وفي الأساس جأر الداعي إلى اللّه تعالى ضج ورفع صوته والمراد به الصراخ إما مطلقا أو باستغاثة.
وضميرا الجمع راجعان على ما رجع إليه الضمائر السابقة في مُتْرَفِيهِمْ ولَهُمْ وقُلُوبُهُمْ وغيرها وهم كفار أهل مكة لكن بإرادة من بقي منهم بعد أخذ المترفين بالقتل. قال ابن جريج المعذبين قتلى بدر والذين يجأرون أهل مكة لأنهم ناحوا واستغاثوا ، وفي إنسان العيون أو قريشا ناحوا على قتلاهم في بدر شهرا وجز نساؤهم شعورهن وكن يأتين بفرس الرجل أو راحلته ويسترنها بالستور وينحن حولها ويخرجن بها إلى الأزقة إلى أن أشير عليهم بترك ذلك خوف الشماتة ، وقال الربيع بن أنس : المراد بالجؤار الجزع إذ هو سبب الصراخ وفيه بعد لخفاء قرينة المجاز ، وعن الضحاك أن المراد بالعذاب عذاب الجوع وذلك أنه صلّى اللّه عليه وسلّم دعا عليهم
فقال : اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين مثل سني يوسف
فاستجيب له عليه الصلاة والسلام فأصابتهم سنة أكلوا فيها الجيف والجلود والعظام المحرقة والعلهز وفي الأخبار ما يدل على أن ذلك كان قبل الهجرة. وفيها أيضا ما يدل على أنه كان قبلها. ووفق البيهقي بأنه لعله كان مرتين ، وسيأتي ذلك قريبا إن شاء اللّه تعالى وتخصيص المترفين بالذكر لأنه إذا جاع المترف جاع غيره من باب أولى ، وقيل : المراد بالعذاب عذاب الآخرة ، وتخصيص المترفين بما ذكر لغاية ظهور انعكاس حالهم وانتكاس أمرهم وكون ذلك أشق عليهم ولأنهم مع كونهم متمنعين محميين بحماية غيرهم من المنعة والحشم لقوا ما لقوا من الحالة الفظيعة فلأن يلقاها من عداهم من الحماة والخدم أولى وأقدم.
وقال شيخ الإسلام : إن هذا القول هو الحق لأن العذاب الأخروي هو الذي يفاجئون عنده الجؤار فيجابون بالرد والإقناط من النصر وأما عذاب يوم بدر فلم يوجد لهم عنده جؤار حسبما ينبىء عنه قوله تعالى : وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون : 76] فإن المراد بهذا العذاب ما جرى عليهم يوم بدر من القتل والأسر حتما وأما عذاب الجوع فإن قريشا وإن تضرعوا فيه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لكن لم يرد عليهم بالإقناط حيث
روي أنه عليه الصلاة والسلام دعا بكشفه فكشف عنهم ذلك
انتهى ، وستعلم إن شاء اللّه تعالى ما فيه ، نعم حمل العذاب على ذلك أوفق بجعل ما في حيز حَتَّى غاية لما قبلها.
لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ على تقدير القول أي قلنا لهم ذلك ، والكلام استئناف مسوق لبيان إقناطهم وعدم انتفاعهم بجؤارهم ، والمراد باليوم الوقت الحاضر الذي اعتراهم فيه ما اعتراهم ، والتقييد بذلك لزيادة إقناطهم والمبالغة في إفادة عدم نفع جؤارهم.
وقال شيخ الإسلام : إن ذلك التهويل اليوم والإيذان بتفويتهم وقت الجؤار والمراد بالقول على ما قيل : ما كان بلسان الحال كما في قوله : امتلأ الحوض وقال قطني. وجوز أن يراد به حقيقة القول وصدوره إما من اللّه تعالى وإما من الملائكة عليهم السلام ، والظاهر على هذا الوجه أن يكون القول في الآخرة وكونه في الدنيا مع عدم إسماعهم إياه لا يخلو عن شيء ، وتقديره فعل الأمر مسندا إلى ضميره صلّى اللّه عليه وسلّم أي قل لهم من قبلنا لا تجأروا بعيد جدا ، ومن الناس من جوز كون القول المقدر جواب إِذا الشرطية وحينئذ يكون إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ قيدا للشرط أو بدلا من إذا الأولى ، وعلى الأول المعنى أخذنا مترفيهم وقت جؤارهم أو حال مفاجأتهم لجواز أن تكون إِذا ظرفية أو فجائية حينئذ ، ولم يجوز جعل النهي المذكور جوابا لخلوّه عن الفاء اللازمة فيه إذا وقع كذلك. وتعقب هذا القول بأنه لا يخفى أن المقصود الأصلي من الجملة الشرطية هو الجواب فيؤدي ذلك إلى أن يكون مفاجأتهم الجؤار غير مقصود أصلي.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 250
وقوله تعالى : إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ تعليل للنهي عن الجؤار ببيان عدم نفعه ومن ابتدائية أي لا يلحقكم منا نصرة تنجيكم مما أنتم فيه ، وجوز أن تكون من صلة النصر وضمن معنى المنع أو تجوز به عنه أي لا تمنعون منا.
وتعقب بأنه لا يساعده سباق النظم الكريم لأن جؤارهم ليس إلى غيره تعالى حتى يرد عليهم بعدم منصوريتهم من قبله تعالى ولا سياقه فإن قوله تعالى : قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ إلى آخره صريح في أنه تعليل لعدم لحوق النصر من جهته تعالى بسبب كفرهم بالآيات ولو كان النصر المنفي متوهما من الغير لعلل بعجزه أو بعزة اللّه تعالى وقوته ، وأنت تعلم أنهم المشركون الذين شركاؤهم نصب أعينهم ولم يقيد الجؤار بكونه إلى اللّه تعالى وأمر التعليل سهل ، وقد يقال : المعنى على هذا الوجه دعوى الصراخ فإنه لا يمنعكم منا ولا ينفعكم عندنا فقد ارتكبتم أمرا عظيما وإثما كبيرا لا يدفعه ذلك ، ثم لا يخفى ما في كلام المتعقب بعد ، والمراد قد كانت آياتي تتلى عليكم قبل أن يأخذ مترفيكم العذاب فَكُنْتُمْ عند تلاوتها عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ أي تعرضون عن سمائها أشد الإعراض فضلا عن تصديقها والعمل بها ، والنكوص الرجوع ، والأعقاب جمع عقب وهو مؤخر الرجل ورجوع الشخص على عقبه رجوعه في طريقه الأولى كما يقال رجع عوده على بدئه ، وجعل بعضهم التقييد بالأعقاب من باب التأكيد كما في بصرته بعيني بناء على أن النكوص الرجوع قهقرى وعلى الأعقاب ، وأيا ما كان فهو مستعار للإعراض.
وقرأ عليّ كرّم اللّه تعالى وجهه «تنكصون» بضم الكاف
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ أي بالبيت الحرام. والباء للسببية ، وسوغ هذا الإضمار مع أنه لم يجر له ذكر اشتهار استكبارهم وافتخارهم بأنهم خدام البيت وقوامه وهذا ما عليه جمهور المفسرين ، وقريب منه كون الضمير للحرام ، وقال في البحر : الضمير عائد على المصدر الدال عليه «تنكصون» وتعقب بأنه لا يفيد كثير معنى فإن ذلك مفهوم من جعل مستكبرين حالا. واعترض عليه بما فيه بحث ، وذكر منذر بن سعيد أن الضمير لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، ويحسنه أن في قوله تعالى : قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ دلالة عليه عليه الصلاة والسلام ، والباء إما للتعدية على تضمين الاستكبار معنى التكذيب أو جعله مجازا عنه وإما للسببية لأن استكبارهم ظهر ببعثته صلّى اللّه عليه وسلّم. وجوز أن يعود على القرآن المفهوم من الآيات أو عليها باعتبار تأويلها به وأمر الباء كما سمعت آنفا ، وجوز أن تكون متعلقة بقوله تعالى : سامِراً أي تسمرون بذكر القرآن والطعن فيه وذلك أنهم كانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون وكانت عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميته سحرا وشعرا ، والمعنى على ذاك وإن لم يعلق به بِهِ ويجوز على تقدير تعلقه بسامرا عود الضمير على النبي عليه الصلاة والسلام ، وكذا يجوز كون المعنى عليه وإن لم يعلق به ، وقيل : هي متعلقة بتهجرون وفيه من البعد ما فيه ، ونصب «سامرا» على الحال وهو اسم جمع كالحاج والحاضر والجامل والباقر ، وقيل : هو مصدر وقع حالا على التأويل المشهور فهو يشمل القليل والكثير باعتبار أصله ولا يخفى أن مجيء المصدر على وزن فاعل نادر ومنه العافية والعاقبة.
والسمر في الأصل ظل القمر وسمي بذلك على ما في المطلع لسمرته ، وفي البحر هو ما يقع على الشجر من ضوء القمر ، وقال الراغب : هو سواد الليل ثم أطلق على الحديث بالليل ، وفسر بعضهم السامر بالليل المظلم ، وكونه هنا بهذا المعنى وجعله منصوبا بما بعده على نزع الخافض ليس بشيء ، وقرأ ابن مسعود وابن عباس وأبو حيوة وابن محيصن وعكرمة والزعفراني ومحبوب عن أبي عمرو «سمرا» بضم السين وشد الميم مفتوحة جمع سامر ، وابن عباس أيضا ، وزيد بن علي وأبو رجاء وأبو نهيك «سمارا» بزيادة ألف بعد الميم وهو جمع سامر أيضا وهما جمعان مقيسان في مثل ذلك تَهْجُرُونَ من الهجر بفتح فسكون بمعنى القطع والترك ، والجملة في موضع الحال أي تاركين الحق أو القرآن أو النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، وعن ابن عباس تهجرون البيت ولا تعمرونه بما يليق به من العبادة.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 251
وجاء الهجر بمعنى الهذيان كما في الصحاح يقال : هجر المريض يهجر هجرا إذا هذى ، وجوز أن يكون المعنى عليه أي تهذون في شأن القرآن أو النبي عليه الصلاة والسلام أو أصحابه رضي اللّه تعالى عنهم أو ما يعم جميع ذلك.
وفي الدر المصون أن ما كان بمعنى الهذيان هو الهجر بفتحتين.
وجوز أن يكون من الهجر بضم فسكون وهو الكلام القبيح ، قال الراغب : الهجر الكلام المهجور لقبحه وهجر فلان إذا أتى بهجر من الكلام عن قصد وأهجر المريض إذا أتى بذلك من غير قصد ، وفي المصباح هجر المريض في كلامه هذى والهجر بالضم اسم مصدر بمعنى الفحش من هجر كقتل وفيه لغة أخرى اهجر بالألف وعلى هذه اللغة قراءة ابن عباس وابن محيصن ونافع وحميد «تهجرون» بضم التاء وكسر الجيم وهي تبعد كون «تهجرون» في قراءة الجمهور من الهجر بمعنى القطع.
وقرأ ابن أبي عاصم بالياء على سبيل الالتفات ، وقرأ ابن مسعود وابن عباس أيضا وزيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهم ، وعكرمة وأبو نهيك. وابن محيصن أيضا وأبو حيوة «تهجّرون» بضم التاء وفتح الهاء وكسر الجيم وشدها على أنه من مضاعف هجر من الهجر بالفتح أو بالضم فالمعنى تقطعون أو تهذون أو تفحشون كثيرا.
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ
الهمزة لإنكار الواقع واستقباحه والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي افعلوا ما فعلوا من النكوص والاستكبار والهجر فلم يتدبروا القرآن ليعلموا بما فيه من وجوه الإعجاز أنه الحق من ربهم فيؤمنوا به ، و«أم» في قوله تعالى : أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ منقطعة ، وما فيها من معنى بل للإضراب والانتقال من التوبيخ بما ذكر إلى التوبيخ بآخر ، والهمزة لإنكار الوقوع لا لإنكار الواقع أي بل أجاءهم من الكتاب ما لم يأت آباءهم الأولين حتى استبعدوه فوقعوا فيما وقعوا فيه من الكفر والضلال بمعنى أن مجيء الكتب من جهته تعالى إلى الرسل عليهم السلام لينذروا بها الناس سنة قديمة له تعالى لا تكاد تنكر وأن مجيء القرآن على طريقته فمم ينكرونه ، وقيل : المعنى أفلم يتدبروا القرآن ليخافوا عند تدبر آياته وأقاصيصه مثل ما نزل بمن قبلهم من المكذبين أم جاءهم من الأمن ما لم يأت آباءهم الأولين حين خافوا اللّه تعالى فآمنوا به وبكتبه ورسله وأطاعوه فالمراد بآبائهم المؤمنون كإسماعيل عليه السلام وعدنان وقحطان ، وكأن وصفهم بالأولين على هذا الإخراج الأقربين.
وفي الخبر «لا تسبوا مضر وربيعة فإنهما كانا مسلمين ولا تسبوا قسا فإنه كان مسلما ولا تسبوا الحارث بن كعب ولا أسد بن خزيمة ولا تميم بن مر فإنهم كانوا على الإسلام وما شككتم في شيء فلا تشكوا في أن تبعا كان مسلما»
وروي أن ضبة بن أد كان مسلما وكان على شرطة سليمان بن داود عليهما السلام.
وفي الكشف أن جعل فائدة التدبر استعقاب العلم فالهمزة في المنقطعة للتقرير وإثبات أنهم مصرون على التقليد فلذلك لم يتدبروا ولم يعلموا ، وإن جعلت الاعتبار والخوف فالهمزة فيها للإنكار أو التقرير تهكما ا ه فتدبر ، ثم لا يخفى أن إسناد المجيء إلى الأمن غير ظاهر ظهور إسناده إلى الكتاب وبهذا تنحط درجة هذا الوجه عن الوجه الأول.
أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ إضراب وانتقال من التوبيخ بما ذكر إلى التوبيخ بوجه آخر ، والهمزة لإنكار الوقوع أيضا أي بل ألم يعرفوه عليه الصلاة والسلام بالأمانة والصدق وحسن الأخلاق إلى غير ذلك من الكمالات اللائقة بالأنبياء عليهم السلام.
وقد صح أن أبا طالب يوم نكاح النبي صلّى اللّه عليه وسلّم خطب بمحضر رؤساء مضر وقريش فقال : أحمد اللّه الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضىء معد وعنصر مضر وجعلنا حضنة بيته وسواس حرمه وجعل لنا بيتا محجوجا

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 252
وحرما آمنا وجعلنا الحكام على الناس ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد اللّه لا يوزن برجل إلا رجح به فإن كان في المال قل فإن المال ظل زائل وأمر حائل ومحمد من قد عرفتم قرابته وقد خطب خديجة بنت خويلد وبذل لها من الصداق ما آجله وعاجله من مالي كذا وهو واللّه بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل.
وفي هذا دليل واضح على أنهم عرفوه صلّى اللّه عليه وسلّم بغاية الكمال وإلا لأنكروا قول أبي طالب فيه عليه الصلاة والسلام ما قال.
فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ الفاء سببية لتسبب الإنكار عن عدم المعرفة فالجملة داخلة في حيز الإنكار ومآل المعنى هم عرفوه بالكمال اللائق بالأنبياء عليهم السلام فكيف ينكرونه ، واللام للتقوية ، وتقديم المعمول للتخصيص أو الفاصلة ، والكلام على تقدير مضاف أي منكرون لدعواه أو لرسالته عليه الصلاة والسلام.
أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ انتقال إلى توبيخ آخر والهمزة لإنكار الواقع كالأولى أي بل أيقولون به جنة أي جنون مع أنه عليه الصلاة والسلام أرجح الناس عقلا وأثقبهم رأيا وأوفرهم رزانة ، وقد روعي في هذه التوبيخات الأربع التي اثنان منها متعلقان بالقرآن والباقيان به عليه الصلاة والسلام الترقي من الأدنى إلى الأعلى كما يبينه شيخ الإسلام ، وقوله تعالى : بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ إضراب عما يدل عليه ما سبق أي ليس الأمر كما زعموا في حق القرآن والرسول صلّى اللّه عليه وسلّم بل جاءهم بالحق أي بالصدق الثابت الذي لا محيد عنه ، والمراد به التوحيد ودين الإسلام الذي تضمنه القرآن ويجوز أن يراد به القرآن.
وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ لما في جبلتهم من كمال الزيغ والانحراف ، والظاهر أن الضمائر لقريش ، وتقييد الحكم بأكثرهم لأن منهم من أبى الإسلام واتباع الحق حذرا من تعيير قومه أو نحو ذلك لا كراهة للحق من حيث هو حق ، فلا يرد ما قيل : إن من أحب شيئا كره ضده فمن أحب البقاء على الكفر فقد كره الانتقال إلى الإيمان ضرورة ، وقال ابن المنير : يحتمل أن يحمل الأكثر على الكل كما حمل القليل على النفي وفيه بعد ، وكذا ما اختاره من كون ضمير أَكْثَرُهُمْ للناس كافة لا لقريش فيكون الكلام نظير قوله تعالى : وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف : 103] وقد يقال : حيث كان المراد إثبات الكراهة للحق على سبيل الاستمرار وعلم اللّه تعالى أن فيهم من يؤمن ويتبع الحق لم يكن بد من تقييد الحكم بالأكثر ، والظاهر بناء على القاعدة الأغلبية في إعادة المعرفة أن الحق الثاني عين الحق الأول ، وأظهر في مقام الإضمار لأنه أظهر في الذم والضمير ربما يتوهم عوده للرسول عليه الصلاة والسلام ، وقيل : اللام في الأول للعهد وفي الثاني للاستغراق أو للجنس أي وأكثرهم للحق أي حق كان لا لهذا الحق فقط كما ينبىء عنه الإظهار كارهون ، وتخصيص أكثرهم بهذا الوصف لا يقتضي إلا عدم كراهة بعضهم لكل حق من الحقوق وذلك لا ينافي كراهتهم لهذا الحق وفيه بحث إذ لا يكاد يسلم أن أكثرهم كارهون لكل حق ، وكذا الظاهر أن يراد بالحق في قوله تعالى : وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ الحق الذي جاء به النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وجعل الاتباع حقيقيا والإسناد مجازيا ، وقيل ما آل المعنى لو اتبع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أهواءهم فجاءهم بالشرك بدل ما أرسل به لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ أي لخرب اللّه تعالى العالم وقامت القيامة لفرط غضبه سبحانه وهو فرض محال من تبديله عليه الصلاة والسلام وما أرسل
به من عنده ، وجوز أن يكون المراد بالحق الأمر المطابق للواقع في شأن الألوهية والاتباع مجازا عن الموافقة أي لو وافق الأمر المطابق للواقع أهواءهم بأن كان الشرك حقا لفسدت السموات والأرض حسبما قرر في قوله تعالى : لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء : 22] ولعل الكلام عليه اعتراض للإشارة إلى أنهم كرهوا شيئا لا يمكن خلافه أصلا فلا فائدة لهم في هذه الكراهة.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 253
واعترض بأنه لا يناسب المقام وفيه بحث ، وكذا ما قيل : إن ما يوافق أهواءهم هو الشرك في الألوهية لأن قريشا كانوا وثنية وهو لا يستلزم الفساد والذي يستلزمه إنما هو الشرك في الربوبية كما تزعمه الثنوية وهم لم يكونوا كذلك كما ينبىء عنه قوله تعالى : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان : 25 ، الزمر : 38].
وجوز أن يكون المعنى لو وافق الحق مطلقا أهواءهم لخرجت السموات والأرض عن الصلاح والانتظام بالكلية ، والكلام استطراد لتعظيم شأن الحق مطلقا بأن السموات والأرض ما قامت ولا من فيهن إلا به ولا يخلو عن حسن. وقيل : المراد بالحق هو اللّه تعالى.
وقد أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي صالح ، وحكاه بعضهم عن ابن جريج والزمخشري عن قتادة ، والمعنى عليه لو كان اللّه تعالى يتبع أهواءهم ويفعل ما يريدون فيشرع لهم الشرك ويأمرهم به لم يكن سبحانه إلها فتفسد السموات والأرض. وهذا مبني على أن شرع الشرك نقص يجب تنزيه اللّه تعالى عنه. وقد ذكر ذلك الخفاجي وذكر أنه قد قام الدليل العقلي عليه وأنه لا خلاف فيه. ولعل الكلام عليه اعتراض أيضا للإشارة إلى عدم إمكان إرسال النبي عليه الصلاة والسلام إليهم بخلاف ما جاء به مما لا يكرهونه فكراهتهم لما جاء به عليه الصلاة والسلام لا تجديهم نفعا فالقول بأنه بعيد عن مقتضى المقام ليس في محله. وقيل : المعنى عليه لو فعل اللّه تعالى ما يوافق أهواءهم لاختل نظام العالم لما أن آراءهم متناقضة ، وفيه إشارة إلى فساد عقولهم وأنهم لذلك كرهوا ما كرهوه من الحق الذي جاء به عليه الصلاة والسلام وهو كما ترى.
وقرأ ابن وثاب «ولو اتبع» بضم الواو بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ انتقال من تشنيعهم بكراهة الحق إلى تشنيعهم بالإعراض عما جبل عليه كل نفس من الرغبة فيما فيه خيرها. والمراد بالذكر القرآن الذي هو فخرهم وشرفهم حسبما ينطق به قوله تعالى : وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف : 44] أي بل أتيناهم بفخرهم وشرفهم الذي كان يجب عليهم أن يقبلوا عليه أكمل إقبال ويقبلوا ما فيه أكمل قبول فَهُمْ بما فعلوا من النكوص عَنْ ذِكْرِهِمْ أي فخرهم وشرفهم خاصة مُعْرِضُونَ لا عن غير ذلك مما لا يوجب الإقبال عليه والاعتناء به ، وفي وضع الظاهر موضع الضمير مزيد تشنيع لهم وتقريع ، والفاء لترتيب ما بعدها من إعراضهم عن ذكرهم على ما قبلها من الإتيان بذكرهم ، ومن فسر (الحق) في قوله تعالى : بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ بالقرآن الكريم قال هنا : في إسناد الإتيان بالذكر إلى نون العظمة بعد إسناده إلى ضميره عليه الصلاة والسلام تنويه بشأن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وتنبيه على كونه عليه الصلاة والسلام بمثابة عظيمة منه عز وجل ، وفي إيراد القرآن الكريم عند نسبته إليه صلّى اللّه عليه وسلّم بعنوان الحقية وعند نسبته إليه تعالى بعنوان الذكر من النكتة السرية والحكمة العبقرية ما لا يخفى فإن التصريح بحقيته المستلزمة لحقية من جاء به هو الذي يقتضيه مقام حكاية ما قاله المبطلون في شأنه وأما التشريف فإنما يليق به تعالى لا سيما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أحد المشرفين. وقيل : المراد بذكرهم ما تمنوه بقولهم : «لو أن عندنا ذكرا من الأولين لكنا عباد اللّه المخلصين» فكأنه قيل : بل أتيناهم الكتاب الذي تمنوه وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن المراد بالذكر الوعظ.
وأيد بقراءة عيسى «بذكراهم» بألف التأنيث ، ورجح القولان الأولان بأن التشنيع عليهما أشد فإن الإعراض عن وعظهم ليس بمثابة إعراضهم عن شرفهم وفخرهم أو عن كتابهم الذي تمنوه في الشناعة والقباحة.
وقيل : إن الوعظ فيه بيان ما يصلح به حال من يوعظ فالتشنيع بالإعراض عنه لا يقصر عن التشنيع بالإعراض عن أحد ذينك الأمرين ولا يخفى ما فيه من المكابرة.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 254
وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر ويونس عن أبي عمرو «بل أتيتهم» بتاء المتكلم ، وابن أبي إسحاق وعيسى أيضا وأبو حيوة والجحدري وابن قطيب وأبو رجاء «بل أتيتهم» بتاء الخطاب للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وأبو عمرو وفي رواية «أتيناهم» بالمد ولا حاجة على هذه القراءة إلى ارتكاب مجاز أو دعوى حذف مضاف كما في قراءة الجمهور على تقدير جعل الباء للمصاحبة وقرأ قتادة «نذكرهم» بالنون مضارع ذكر أَمْ تَسْأَلُهُمْ متعلق بقوله تعالى : أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ فهو انتقال إلى توبيخ آخر ، وغير للخطاب لمناسبته ما بعده ، وكان المراد أم يزعمون أنك تسألهم على أداء الرسالة خَرْجاً أي جعلا فلأجل ذلك لا يؤمنون بك ، وقوله تعالى : فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ أي رزقه في الدنيا وثوابه في الآخرة تعليل لنفي السؤال المستفاد من الإنكار أي لا تسألهم ذلك فإن ما رزقك اللّه تعالى في الدنيا والعقبى خير من ذلك لسعته ودوامه وعدم تحمل منة الرجال فيه ، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام من تعليل الحكم وتشريفه صلّى اللّه عليه وسلّم ما لا يخفى.
و«الخرج» بإزاء الدخل يقال لكل ما تخرجه إلى غيرك والخراج غالب في الضريبة على الأرض ففيه إشعار بالكثرة واللزوم فيكون أبلغ ولذلك عبر به عن عطاء اللّه تعالى ، وكذا على ما قيل من أن الخرج ما تبرعت به والخراج ما لزمك واللزوم بالنسبة إليه تعالى إنما هو لفضل وعده عز وجل ، وقيل الخرج أعم من الخراج وساوى بينهما بعضهم.
وقرأ عامر «خرجا فخرج» وحمزة والكسائي «خراجا فخراج» للمشاكلة وقرأ الحسن وعيسى «خرجا فخرج» وكأن اختيار خَرْجاً في جانبه عليه الصلاة والسلام للإشارة إلى قوة تمكنهم في الكفر واختيار «خرجا» في جانبه تعالى للمبالغة في حط قدر خراجهم حيث كان المعنى فالشيء القليل منه عز وجل خير من كثيرهم فما الظن بكثيره جل وعلا وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ تأكيد لخيرية خراجه سبحانه وتعالى فإن من كان خير الرازقين يكون رزقه خيرا من رزق غيره.
واستدل الجبائي بذلك على أنه سبحانه لا يساويه أحد في الإفضال على عباده وعلى أن العباد قد يرزق بعضهم بعضا وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تشهد العقول السليمة باستقامته ليس فيه شائبة اعوجاج توجب الاتهام ، قال الزمخشري : ولقد ألزمهم عز وجل الحجة وأزاح عللهم في هذه الآيات بأن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله مخبور سره وعلنه خليق بأن يجتبى مثله للرسالة من بين ظهرانيهم وأنه لم يعرض له حتى يدعي مثل هذه الدعوى العظيمة بباطل ولم يجعل ذلك سلما إلى النيل من دنياهم واستعطاء أموالهم ولم يدعهم إلا إلى دين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم مع إبراز المكنون من أدوائهم وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل واستهتارهم بدين الآباء الضلال من غير برهان وتعللهم بأنه مجنون بعد ظهور الحق وثبات التصديق من اللّه تعالى بالمعجزات والآيات النيرة وكراهتهم للحق وإعراضهم عما فيه حفظهم من الذكر ا ه. وهو من الحسن بمكان.
وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ هم كفرة قريش المحدث عنهم فيما مر وصفوا بذلك تشنيعا لهم مما هم عليه من الانهماك في الدنيا وزعمهم أن لا حياة بعدها وإشعار بعلة الحكم فإن الإيمان بالآخرة وخوف ما فيها من الدواهي من أقوى الدواعي إلى طلب الحق وسلوك سبيله ، وجوز أن يكون المراد بهم ما يعمهم وغيرهم من الكفرة المنكرين للحشر ويدخلون في ذلك دخولا أوليا عَنِ الصِّراطِ المستقيم الذي تدعو إليه لَناكِبُونَ أي لعادلون ، وقيل : المراد بالصراط جنسه أي إنهم عن جنس الصراط فضلا عن الصراط المستقيم الذي تدعوهم إليه لناكبون ، ورجح بأنه أدل على كمال ضلالهم وغاية غوايتهم لما أنه ينبىء عن كون ما ذهبوا إليه مما لا يطلق عليه اسم الصراط

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 255
ولو كان معوجا ، وفيه أن التعليل بمضمون الصلة لا يساعد إلا على إرادة الصراط المستقيم ، وأظن أنه قد نكب عن الصراط من زعم أن المراد هنا الصراط الممدود على متن جهنم وهو طريق الجنة أي أنهم يوم القيامة عن طريق الجنة لمائلون يمنة ويسرة إلى النار.
وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ أي من سوء حال ، قيل : هو ما عراهم بسبب أخذ مترفيهم بالعذاب يوم بدر أعني الجزع عليهم وذلك بإحيائهم وإعادتهم إلى الدنيا بعد القتل أي ولو رحمناهم وكشفنا ضرهم بإرجاع مترفيهم إليهم لَلَجُّوا لتمادوا فِي طُغْيانِهِمْ إفراطهم في الكفر والاستكبار وعداوة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم والمؤمنين يَعْمَهُونَ عامهين مترددين في الضلال يقال عمه كمنع وفرح عمها وعموها وعموهة وعمهانا ، وقيل : هو ما هم فيه من شدة الخوف من القتل والسبي ومزيد الاضطراب من ذلك لما رأوا ما حل بمترفيهم يوم بدر وكشفه بأمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بالكف عن قتالهم وسبيهم بعد أو بنحو ذلك وهو وجه ليس بالبعيد وقيل : المراد بالضر عذاب الآخرة أي إنهم في الرداءة والتمرد إلى أنهم لو رحموا وكشف عنهم عذاب النار وردوا إلى الدنيا لعادوا لشدة لجاجهم فيما هم عليه وفيه من البعد ما فيه.
واستظهر أبو حيان أن المراد به القحط والجوع الذي أصابهم بدعاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وذكر أنه مروي عن ابن عباس وابن جريج ، وقد دعا عليهم صلّى اللّه عليه وسلّم بذلك في مكة يوم ألقى عليه المشركون وهو قائم يصلي عند البيت صلى جزور
فقال : اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف
ودعا بذلك أيضا بالمدينة ، فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام مكث شهرا إذا رفع رأسه من الركعة الثانية من صلاة الفجر بعد قوله سمع اللّه لمن حمده يقول : اللهم انج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين بمكة اللهم اشدد وطأتك إلخ ، وربما فعل ذلك بعد رفعه من الركعة الأخيرة من صلاة العشاء ، وكلتا الروايتين ذكرهما برهان الدين الحلبي في سيرته ، والكثير على أنه الجوع الذي أصابهم من منع ثمامة الميرة عنهم ، وذلك أن ثمامة بن أثال الحنفي جاءت به إلى المدينة سرية محمد بن مسلمة حين بعثها صلّى اللّه عليه وسلّم إلى بني بكر بن كلاب فأسلم بعد أن امتنع من الإسلام ثلاثة أيام ثم خرج معتمرا فلما قدم مكة لبى وهو أول من دخلها ملبيا ومن هنا قال الحنفي :
ومنا الذي لبى بمكة معلنا برغم أبي سفيان في الأشهر الحرم
فأخذته قريش فقالوا : لقد اجترأت علينا وقد صبوت يا ثمامة قال : أسلمت واتبعت خير دين دين محمد صلّى اللّه عليه وسلّم واللّه لا يصل إليكم حبة من اليمامة وكانت ريفا لأهل مكة حتى يأذن فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثم خرج ثمامة إلى اليمامة فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئا حتى أضر بهم الجوع وأكلت قريش العلهز.
فكتبت قريش إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين فقد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع إنك تأمر بصلة الرحم وأنت قد قطعت أرحامنا فكتب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى ثمامة رضي اللّه تعالى عنه خل بين قومي وبين ميرتهم ففعل
، وفي رواية أن أبا سفيان جاءه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : ألست إلخ ، ووجه الجمع ظاهر وكان هذا قبل الفتح بقليل ، وعندي أن لَوْ تبعد هذا القول كما لا يخفى ، نعم أخرج ابن جرير وجماعة عن ابن عباس ما هو نص في أن قصة ثمامة سبب لنزول قوله تعالى :
وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ إلى آخره فيكون الجوع مرادا من العذاب المذكور فيه على ذلك ، ولا يرد على من قال به قوله تعالى : فَمَا اسْتَكانُوا فما خضعوا بذلك لِرَبِّهِمْ لأن له أن يقول : المراد بالخضوع له عز وجل الانقياد لأمره سبحانه والإيمان به جل وعلا وما كان منهم مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ليس منه شيء ، والمشهور أن المراد بالعذاب ما نالهم يوم بدر من القتل والأسر ، ولا يرد على من فسر العذاب في قوله سبحانه : حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 256
به أيضا لزوم المنافاة بين ما هناك من قوله تعالى : إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ وما هنا من نفي الاستكانة لربهم ونفي التضرع المستفاد من قوله سبحانه : وَما يَتَضَرَّعُونَ إذ له أن يقول : الجؤار مطلق الصراخ وهو غير الاستكانة للّه عز وجل وغير التضرع إليه سبحانه وهو ظاهر ، وكذا إذا أريد بالجؤار الصراخ باستغاثة بناء على أن المراد بالاستكانة له تعالى ما علمت آنفا من الانقياد لأمره عز وجل وأن التضرع ما كان عن صميم الفؤاد والجؤار ما لم يكن كذلك ، وكأن التعبير هناك بالجؤار للإشارة إلى أن استغاثتهم كانت أشبه شيء بأصوات الحيوانات ، وقيل : ما تقدم لبيان حال المقتولين وما هنا لبيان حال الباقين ، وعبر في التضرع بالمضارع ليفيد الدوام إلا أن المراد دوام النفي لا نفي الدوام أي وليس من عادتهم التضرع إليه تعالى أصلا ، ولو حمل ذلك على نفي الدوام كما هو الظاهر لا يرد ما يتوهم من المنافاة بين قوله تعالى : إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ وقوله سبحانه : وَما يَتَضَرَّعُونَ أيضا ، واستكان استفعل من الكون ، وأصل معناه انتقل من كون إلى كون كاستحجر ثم غلب العرف على استعماله في الانتقال من كون الكبر إلى كون الخضوع فلا إجمال فيه عرفا ، وقال أبو العباس أحمد بن فارس : سئلت عن ذلك في بغداد لما دخلتها زمن الإمام الناصر وجمع لي علماءها فقلت واستحسن مني : هو مشتق من قول العرب : كنت لك إذا خضعت وهي لغة هذيلية وقد نقلها أبو عبيدة في الغريبين وعليه يكون من باب قر واستقر ، ولا يجعل من استفعل المبني للمبالغة مثل استعصم واستحسر إلا أن يراد في الآية حينئذ المبالغة في النفي لا نفي المبالغة ، وقيل هو من الكين اللحمة المستبطنة في الفرج لذلة المستكين ، وجوز الزمخشري أن يكون افتعل من السكون والألف إشباع كما في قوله :
وأنت من الغوائل حين ترمي ومن ذم الرجال بمنتزاح
وقوله :
أعوذ بالله من العقراب الشائلات عقد الأذناب
واعترض بأن الإشباع المذكور مخصوص بضرورة الشعر وبأنه لم يعهد بكونه في جميع تصاريف الكلمة واستكان جميع تصاريفه كذلك فهو يدل على أنه ليس مما فيه إشباع حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ من عذاب الآخرة كما ينبىء عنه التهويل بفتح الباب والوصف بالشدة وإلى هذا ذهب الجبائي ، وحَتَّى مع كونها غاية للنفي السابق مبتدأ لما بعدها من مضمون الشرطية كأنه قيل : هم مستمرون على هذه الحال حتى إذا فتحنا عليهم يوم القيامة بابا ذا عذاب شديد إِذا هُمْ فِيهِ أي في ذلك الباب أو في ذلك العذاب أو بسبب الفتح أقوال مُبْلِسُونَ متحيرون آيسون من كل خير أو ذوو حزن من شدة البأس وهذا كقوله تعالى : وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ [الروم : 12] لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [الزخرف : 75] وقيل : هذا الباب استيلاء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم والمؤمنين عليهم يوم الفتح وقد أيسوا في ذلك اليوم من كل ما كانوا يتوهمونه من الخير. وأخرج ابن جرير أنه الجوع الذي أكلوا فيه العلهز ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه القتل يوم بدر ، وروت الإمامية - وهم بيت الكذب -
عن أبي جعفر رضي اللّه تعالى عنه أن ذلك عذاب يعذبون به في الرجعة
، ولعمري لقد افتروا على اللّه تعالى الكذب وضلوا ضلالا بعيدا ، والوجه في الآية عندي ما تقدم ، والظاهر أن هذه الآيات مدنية وبعض من قال بمكيتها ادعى أن فيها أخبارا عن المستقبل بالماضي للدلالة على تحقق الوقوع.
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ لتحسوا بها الآيات التنزيلية والتكوينية وَالْأَفْئِدَةَ لتتفكروا بها في الآيات وتستدلوا بها إلى غير ذلك من المنافع ، وقدم السمع لكثرة منافعه ، وأفرد لأنه مصدر في الأصل ولم يجمعه الفصحاء في الأكثر ، وقيل : أفرد لأنه يدرك به نوع واحد من المدركات وهو الأصوات بخلاف البصر فإنه يدرك به

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 257
الأضواء والألوان والأكوان والأشكال وبخلاف الفؤاد فإنه يدرك به أنواع شتى من التصورات والتصديقات. وفي الآية إشارة إلى الدليل الحسي والعقلي ، وتقديم ما يشير إلى الأول قد تقدم فتذكر فما في العهد من قدم قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي شكرا قليلا تشكرون تلك النعم الجليلة لأن العمدة في الشكر صرف تلك القوى التي هي في أنفسها نعم باهرة إلى ما خلقت هي له فنصب قَلِيلًا على أنه صفة مصدر محذوف ، والقلة على ظاهرها بناء على أن الخطاب للناس بتغليب المؤمنين ، وجوز أن تكون بمعنى النفي بناء على أن الخطاب للمشركين على سبيل الالتفات ، وقيل : هو للمؤمنين خاصة وليس بشيء ، والأولى عندي للمشركين خاصة مع جواز كون القلة على ظاهرها كما لا يخفى على المتدبر وما علا سائر الأقوال مزيدة للتأكيد.
وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي خلقكم وبثكم فيها وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي تجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم لا إلى غيره تعالى فما لكم لا تؤمنون به سبحانه وتشكرونه عز وجل وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ من غير أن يشاركه في ذلك شيء من الأشياء وَلَهُ تعالى شأنه خاصة اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي هو سبحانه وتعالى المؤثر في اختلافهما أي تعاقبهما من قولهم : فلان يختلف إلى فلان أي يتردد عليه بالمجيء والذهاب أو تخالفهما زيادة ونقصا ، وقيل : المعنى لأمره تعالى وقضائه سبحانه اختلافهما ففي الكلام مضاف مقدر ، واللام عليه يجوز أن تكون للتعليل أَفَلا تَعْقِلُونَ أي ألا تتفكرون فلا تعقلون أو أتتفكرون فلا تعقلون بالنظر والتأمل أن الكل صار منا وأن قدرتنا تعم جميع الممكنات التي من جملتها البعث ، وقرأ أبو عمرو في رواية «يعقلون» على أن الالتفات إلى الغيبة لحكاية سوء حال المخاطبين ، وقيل : على أن الخطاب الأول لتغليب المؤمنين وليس بذاك.
بَلْ قالُوا عطف على مضمر يقتضيه المقام أي فلم يعقلوا بل قالوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ أي آباؤهم ومن دان بدينهم من الكفرة المنكرين للبعث قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ تفسير لما قبله من المبهم وتفصيل لما فيه من الإجمال وقد مر الكلام فيه لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا البعث مِنْ قَبْلُ متعلق بالفعل من حيث إسناده إلى المعطوف عليه والمعطوف على ما هو الظاهر ، وصح ذلك بالنسبة إليهم لأن الأنبياء المخبرين بالبعث كانوا يخبرون به بالنسبة إلى جميع من يموت ، ويجوز أن يكون متعلقا به من حيث إسناده إلى آبائهم لا إليهم أي ووعد آباؤنا من قبل أو بمحذوف وقع حالا من آبائنا أي كائنين من قبل إِنْ هذا أي ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي أكاذيبهم التي سطروها جمع أسطورة كأحدوثة وأعجوبة وإلى هذا ذهب المبرد وجماعة ، وقيل : جمع أسطار جمع سطر كفرس وأفراس ، والأول كما قال الزمخشري أوفق لأن جمع المفرد أولى وأقيس ولأن بنية أفعولة تجيء لما فيه التلهي فيكون حينئذ كأنه قيل مكتوبات لا طائل تحتها قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها من المخلوقات تغليبا للعقلاء على غيرهم إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ جوابه محذوف ثقة بدلالة الاستفهام عليه أي إن كنتم من أهل العلم ومن العقلاء أو عالمين بذلك فأخبروني به. وفي الآية من المبالغة في الاستهانة بهم وتقرير فرط جهالتهم ما لا يخفى.
ويقوي هذا أنه أخبر عن الجواب قبل أن يجيبوا فقال سبحانه : سَيَقُولُونَ لِلَّهِ فإن بداهة العقل تضطرهم إلى الاعتراف بأنه سبحانه خلقها فاللام للملك باعتبار الخلق قُلْ أي عند اعترافهم بذلك تبكيتا لهم أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي أتعلمون أو أتقولون ذلك فلا تتذكرون أي من فطر الأرض ومن فيها ابتداء قادر على إعادتها ثانيا فإن البدء ليس بأهون من الإعادة بل الأمر بالعكس في قياس المعقول. وقرىء «تتذكرون» على الأصل قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أعيد لفظ الرب تنويها بشأن العرش ورفعا لمحله من أن يكون تبعا للسماوات وجودا وذكرا ، وقرأ ابن محيصن «العظيم» بالرفع نعتا للرب.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 258
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قرأ أبو عمرو ويعقوب بغير لام فيه. وفيما بعده ولم يقرأ على ما قيل في السابق بترك اللام والقراءة بغير لام على الظاهر وباللام على المعنى وكلا الأمرين جائزان فلو قيل : من صاحب هذه الدار؟ فقيل : زيد كان جوابا عن لفظ السؤال ، ولو قيل : لزيد لكان جوابا على المعنى لأن معنى من صاحب هذه الدار؟ لمن هذه الدار وكلا الأمرين وارد في كلامهم ، أنشد صاحب المطلع :
إذا قيل من رب المزالف والقرى ورب الجياد الجرد قلت لخالد
وأنشد الزجاج :
وقال السائلون لمن حفرتم فقال المخبرون لهم وزير
قُلْ إفحاما لهم وتوبيخا أَفَلا تَتَّقُونَ أي أتعلمون ذلك ولا تتقون أنفسكم عقابه على ترك العمل بموجب العلم حيث تكفرون به تعالى وتنكرون ما أخبر به من البعث وتثبتون له سبحانه شريكا.
قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ مما ذكر ومما لم يذكر وصيغة الملكوت للمبالغة في الملك فالمراد به الملك الشامل الظاهر ، وقيل : المالكية والمدبرية ، وقيل : الخزائن وَهُوَ يُجِيرُ أي يمنع من يشاء ممن يشاء وَلا يُجارُ عَلَيْهِ ولا يمنع أحد منه جل وعلا أحدا ، وتعدية الفعل بعلى لتضمنه معنى النصرة أو الاستعلاء إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ تكرير لاستهانتهم وتجهيلهم على ما مر سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ملكوت كل شيء والوصف بأنه الذي يجير ولا يجار عليه قُلْ تهجينا لهم وتقريعا فَأَنَّى تُسْحَرُونَ كيف أو من أين تخدعون وتصرفون عن الرشد مع علمكم به إلى ما أنتم عليه من البغي فإن من لا يكون مسحورا مختل العقل لا يكون كذلك ، وهذه الآيات الثلاث أعني قُلْ لِمَنِ إلى هنا على ما قرر في الكشف تقرير للسابق وتمهيد للاحق وقد روعي في السؤال فيها قضية الترقي فسئل عمن له الأرض ومن فيها ، وقيل : مَنْ تغليبا للعقلاء ولأنه يلزم أن يكون له غيرهم من طريق الأولى ثم سئل عمن له السموات والعرش العظيم والأرض بالنسبة إليه كلا شيء ثم سئل عمن بيده ملكوت كل شيء فأتى بأعم العام وكلمة الإحاطة وأوثر الملكوت وهو الملك الواسع ، وقيل : بِيَدِهِ تصويرا وتخييلا وكذلك روعي هذه النكتة في الفواصل فعيروا أولا بعدم التذكر فإن أيسر النظر يكفي في انحلال عقدهم ثم بعدم الاتقاء وفيه وعيد ثم بالتعجب من خدع عقولهم فتخيل الباطل حقا والحق باطلا وأنى لها التذكر والخوف.
بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ إضراب عن قولهم : إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ والمراد بالحق الوعد بالبعث وقيل : ما يعمه والتوحيد ويدل على ذلك السياق وقرىء «بل أتيتهم» بتاء المتكلم وقرأ ابن أبي إسحاق بتاء الخطاب وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في قولهم : إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أو في ذلك قولهم بما ينافي التوحيد مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ لتنزهه عز وجل عن الاحتياج وتقدسه تعالى عن مماثلة أحد.
وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ يشاركه سبحانه في الألوهية إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ أي لاستبد بالذي خلقه واستقل به تصرفا وامتاز ملكه عن ملك الآخر وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ولوقع التحارب والتغالب بينهم كما هو الجاري فيما بين الملوك والتالي باطل لما يلزم من ذلك نفي ألوهية الجميع أو ألوهية ما عدا واحدا منهم وهو خلاف المفروض أو لما أنه يلزم أن لا يكون بيده تعالى وحده ملكوت كل شيء وهو باطل في نفسه لما برهن عليه في الكلام وعند الخصم لأنه يقول باختصاص ملكوت كل شيء به تعالى كما يدل عليه السؤال والجواب السابقان آنفا كذا قيل ، ولا يخفى أن اللزوم في الشرطية المفهومة من الآية عادي لا عقلي ولذا قيل : إن الآية إشارة إلى دليل إقناعي للتوحيد لا قطعي.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 259
وفي الكشف قد لاح لنا من لطف اللّه تعالى وتأييده أن الآية برهان نير على توحيده سبحانه ، وتقريره أن مرجح الممكنات الواجب الوجود تعالى شأنه جل عن كل كثرة أما كثرة المقومات أو الأجزاء الكمية فبينة الانتفاء لإيذائها بالإمكان ، وأما التعدد مع الاتحاد في الماهية فكذلك للافتقار إلى المميز ولا يكون مقتضى الماهية لاتحادهما فيه فيلزم الإمكان ، ثم الميزان في الطرفين صفتا كمال لأن الاتصاف بما لا كمال فيه نقص فهما ناقصان ممكنان مفتقران في الوجود إلى مكمل خارج هو الواجب بالحقيقة ، وكذلك الافتقار في كمال ما للوجود يوجب الإمكان لإيجابه أن يكون فيه أمر بالفعل وأمر بالقوة واقتضائه التركيب والإمكان.
ومن هنا قال العلماء : إن واجب الوجود بذاته واجب بجميع صفاته ليس له أمر منتظر ومع الاختلاف في الماهية يلزم أن لا يكون المرجح مرجحا أي لا يكون الإله إلها لأن كل واحد واحد من الممكنات إن استقلا بترجيحه لزم توارد العلتين التامتين على معلول شخصي وهو ظاهر الاستحالة فكونه مرجحا إلها يوجب الافتقار إليه وكون غيره مستقلا بالترجيح يوجب الاستغناء عنه فيكون مرجحا غير مرجح في حالة واحدة ، وإن تعاونا فكمثل إذ ليس ولا واحد منهما بمرجح وفرضا مرجحين مع ما فيه من العجز عن الإيجاد والافتقار إلى الآخر ، وإن اختص كل منهما ببعض مع أن الافتقار إليهما على السواء لزم اختصاص ذلك المرجح بمخصص يخصصه بذلك البعض بالضرورة وليس الذات لأن الافتقار إليهما على السواء فلا أولوية للترجيح من حيث الذات ولا معلول الذات لأنه يكون ممكنا والكلام فيه عائد فيلزم المحال من الوجهين الأولين أعني الافتقار إلى مميز غير الذات ومقتضاها ولزوم النقص لكل واحد لأن هذا المميز صفة كمال ثم مخصص كل بذلك التمييز هو الواجب الخارج لا هما ، وإلى المحال الأول الإشارة بقوله تعالى : إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وهو لازم على تقدير التخالف في الماهية واختصاص كل ببعض ، وخص هذا القسم لأن ما سواه أظهر استحالة ، وإلى الثاني الإشارة بقوله سبحانه وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ أي إما مطلقا وإما من وجه فيكون العالي هو الإله أو لا يكون ثم إله أصلا وهذا لازم على تقديري التخالف والاتحاد والاختصاص وغيره فهو تكميل للبرهان من وجه وبرهان ثان من آخر ، فقد تبين ولا كفرق الفجر أنه تعالى هو الواحد الأحد جعل وجوده زائدا على الماهية أو لا فاعلا بالاختيار أو لا ، وليس برهان الوحدة مبنيا على أنه تعالى فاعل بالاختيار كما ظنه الإمام الرازي قدس سره انتهى ، وهو كلام يلوح عليه مخايل التحقيق ، وربما يورد عليه بعض مناقشات تندفع بالتأمل
الصادق ، وما أشرنا إليه من انفهام قضية شرطية من الآية ظاهر جدا على ما ذهب إليه الفراء فقد قال : إن إذا حيث جاءت بعدها اللام فقبلها لو مقدرة إن لم تكن ظاهرة نحو إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ فكأنه قيل : لو كان معه آلهة كما تزعمون لذهب كل إلخ.
وقال أبو حيان : إذا حرف جواب وجزاء ويقدر قسم يكون لَذَهَبَ جوابا له ، والتقدير واللّه إذا أي إن كان معه من إله لذهب وهو في معنى ليذهبن كقوله تعالى : وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا [الروم : 51] أي ليظلن لأن إذا تقتضي الاستقبال وهو كما ترى ، وقد يقال : إن إذا هذه ليست الكلمة المعهودة وإنما هي إذا الشرطية حذفت جملتها التي تضاف إليها وعوض عنها التنوين كما في يومئذ والأصل إذا كان معه من إله لذهب إلخ ، والتعبير بإذا من قبيل مجاراة الخصم ، وقيل : كُلُّ إِلهٍ لما أن النفي عام يفيد استغراق الجنس ومَا في بِما خَلَقَ موصولة حذف عائدها كما أشرنا إليه.
وجوز أن تكون مصدرية ويحتاج إلى نوع تكلف لا يخفى. ولم يستدل على انتفاء اتخاذ الولد إما لغاية ظهور فساده أو للاكتفاء بالدليل الذي أقيم على انتفاء أن يكون معه سبحانه إله بناء على ما قيل إن ابن الإله يلزم أن يكون

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 260
إلها إذ الولد يكون من جنس الوالد وجوهره وفيه بحث سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ مبالغة في تنزيهه تعالى عن الولد والشريك ، وما موصولة وجوز أن تكون مصدرية. وقرىء «تصفون» بتاء الخطاب وعالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي كل غيب وشهادة ، وجر عالِمِ على أنه بدل من الاسم الجليل أو صفة له لأنه أريد به الثبوت والاستمرار فيتعرف بالإضافة.
وقرأ جماعة من السبعة ، وغيرهم برفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو عالم ، والجر أجود عند الأخفش والرفع أبرع عند ابن عطية ، وأيا ما كان فهو على ما قيل إشارة إلى دليل آخر على انتفاء الشريك بناء على توافق المسلمين والمشركين في تفرده تعالى بذلك ، وفي الكشف أن في قوله سبحانه : عالِمِ إلخ إشارة إلى برهان آخر راجع إلى إثبات العلو أو لزوم الجهل الذي هو نقص وضد العلو لأن المتعددين لا سبيل لهما إلى أن يعلم كل واحد حقيقة الآخر كعلم ذلك الآخر بنفسه بالضرورة وهو نوع جهل وقصور ، ثم علمه به يكون انفعاليا تابعا لوجود المعلوم فيكون في إحدى صفات الكمال - أعني العلم - مفتقرا وهو يؤذن بالنقصان والإمكان فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ تفريع على كونه تعالى عالما بذلك فهو كالنتيجة لما أشار إليه من الدليل.
وقال ابن عطية : الفاء عاطفة كأنه قيل علم الغيب والشهادة فتعالى كما تقول زيد شجاع فعظمت منزلته على معنى شجع فعظمت ، ويحتمل أن يكون المعنى فأقول تعالى إلخ على أنه إخبار مستأنف قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي أي إن كان لا بد من أن تريني لأن ما والنون زيدتا للتأكيد ما يُوعَدُونَ أي الذي يوعدونه من العذاب الدنيوي المستأصل وأما العذاب الأخروي فلا يناسب المقام رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي قرينا لهم فيما هم فيه من العذاب ، ووضع الظاهر موضع الضمير للإشارة إلى استحقاقهم للعذاب ، وجاء الدعاء قبل الشرط وقبل الجزاء مبالغة في الابتهال والتضرع ، واختير لفظ الرب لما فيه من الإيذان بأنه سبحانه المالك الناظر في مصالح العبد ، وفي أمره صلّى اللّه عليه وسلّم أن يدعو بذلك مع أنه عليه الصلاة والسلام في حرز عظيم من أن يجعل قرينا لهم إيذان بكمال فظاعة العذاب الموعود وكونه بحيث يجب أن يستعيذ منه من لا يكاد يمكن أن يحيق به. وهو متضمن رد إنكارهم العذاب واستعجالهم به على طريقة الاستهزاء.
وقيل أمر صلّى اللّه عليه وسلّم بذلك هضما لنفسه وإظهارا لكمال العبودية ، وقيل لأن شؤم الكفرة قد يحيق بمن سواهم كقوله تعالى وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال : 25] وروي عن الحسن أنه جل شأنه أخبر نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم بأن له في أمته «1» نقمة ولم يطلعه على وقتها أهو في حياته أم بعدها فأمره بهذا الدعاء.
وقرأ الضحاك وأبو عمران الجوني «ترئني» بالهمز بدل الياء وهو كما في البحر إبدال ضعيف.
وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ من العذاب لَقادِرُونَ ولكنا لا نفعل بل نؤخره عنهم لعلمنا بأن بعضهم أو بعض أعقابهم سيؤمنون أو لأنا لا نعذبهم وأنت فيهم ، وقيل قد أراه سبحانه ذلك وهو ما أصابهم يوم بدر أو فتح مكة ، قال شيخ الإسلام : ولا يخفى بعده فإن المتبادر أن يكون ما يستحقونه من العذاب الموعود عذابا هائلا مستأصلا لا يظهر على يديه صلّى اللّه عليه وسلّم للحكمة الداعية إليه.
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي ادفع بالحسنة التي هي أحسن الحسنات التي يدفع بها السَّيِّئَةَ بأن تحسن إلى المسيء في مقابلتها ما استطعت ، ودون هذا في الحسن أن يحسن إليه في الجملة ، ودونه أن يصفح عن إساءته
___________
(1) أي أمة الدعوة ا ه منه.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 261
فقط ، وفي ذلك من الحث له صلّى اللّه عليه وسلّم إلى ما يليق بشأنه الكريم من حسن الأخلاق ما لا يخفى ، وهو أبلغ من ادفع بالحسنة السيئة لمكان أَحْسَنُ والمفاضلة فيه على حقيقتها على ما ذكرنا وهو وجه حسن في الآية ، وجوز أن تعتبر المفاضلة بين الحسنة والسيئة على معنى أن الحسنة في باب الحسنات أزيد به من السيئة في باب السيئات ويطرد هذا في كل مفاضلة بين ضدين كقولهم : العسل أحلى من الخل فإنهم يعنون أنه في الأصناف الحلوة أميز من الخل في الأصناف الحامضة ، ومن هذا القبيل ما يحكى عن أشعب الماجن أنه قال : نشأت أنا والأعمش في حجر فلان فما زال يعلو وأسفل حتى استوينا فإنه عنى استواءهما في بلوغ كل منهما الغاية حيث بلغ هو الغاية في التدلي والأعمش الغاية في التعلي ، وعلى الوجهين لا يتعين هذا الأحسن وكذا السيئة.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية عن أنس أنه قال في الآية : يقول الرجل لأخيه ما ليس فيه فيقول : إن كنت كاذبا فأنا أسأل اللّه تعالى أن يغفر لك وإن كنت صادقا فأنا أسأل اللّه تعالى أن يغفر لي.
وقيل : التي هي أحسن شهادة أن لا إله إلا اللّه والسيئة الشرك ، وقال عطاء والضحاك : التي هي أحسن السلام والسيئة الفحش ، وقيل : الأول الموعظة والثاني المنكر ، واختار بعضهم العموم وأن ما ذكر قبيل التمثيل ، والآية قيل :
منسوخة بآية السيف ، وقيل : هي محكمة لأن الدفع المذكور مطلوب ما لم يؤد إلى ثلم الدين والإزراء بالمروءة نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ أي بوصفهم إياك أو بالذي يصفونك به مما أنت بخلافه ، وفيه وعيد لهم بالجزاء والعقوبة وتسلية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وإرشاد له عليه الصلاة والسلام إلى تفويض أمره إليه عز وجل ، والظاهر من هذا أن الآية آية موادعة فافهم.
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ أي وساوسهم المغرية على خلاف ما أمرت به وهي جمع همزة ، والهمز النخس والدفع بيد أو غيرها ، ومنه مهماز الرائض لحديدة تربط على مؤخر رجله ينخس به الدابة لتسرع أو لتثب ، وإطلاق ذلك على الوسوسة والحث على المعاصي لما بينهما من الشبه الظاهر ، والجمع للمرات أو لتنوع الوساوس أو لتعدد الشياطين وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ أي من حضورهم حولي في حال من الأحوال ، وتخصيص حال الصلاة وقراءة القرآن كما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وحال حلول الأجل كما روي عن عكرمة لأنها أحرى الأحوال بالاستعاذة منها لا سيما الحال الأخيرة ولذا قيل : اللهم إني أعوذ بك من النزع عند النزع ، وإلى العموم ذهب ابن زيد ، وفي الأمر بالتعوذ من الحضور بعد الأمر بالتعوذ من همزاتهم مبالغة في التحذير من ملابستهم ، وإعادة الفعل مع تكرير النداء لإظهار كمال الاعتناء بالمأمور به وعرض نهاية الابتهال في الاستدعاء ويسن التعوذ من همزات الشياطين وحضورهم عند إرادة النوم ،
فقد أخرج أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وحسنه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يعلمنا كلمات نقولهن عند النوم من الفزع بسم اللّه أعوذ بكلمات اللّه التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون»
حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ حَتَّى ابتدائية وغاية لمقدر يدل عليه ما قبلها والتقدير فلا أكون كالكفار الذين تهمزهم الشياطين وتحضرهم حتى إذا جاء إلخ ، ونظير ذلك قوله :
فيا عجبا حتى كليب تسبني فإن التقدير يسبني كل الناس حتى كليب إلا أنه حذفت الجملة هنا لدلالة ما بعد حتى ، وقيل إن هذا الكلام مردود على يَصِفُونَ الثاني على معنى إن حتى متعلقة بمحذوف يدل عليه كأنه قيل : لا يزالون على سوء المقالة والطعن في حضرة الرسالة حتى إذا إلخ ، وقوله تعالى : وَقُلْ رَبِّ إلخ اعتراض مؤكد للإغضاء المدلول عليه بقوله سبحانه : ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلخ بالاستعاذة به تعالى من الشياطين أن يزلوه عليه الصلاة والسلام عما أمر به ،

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 262
وقيل على يَصِفُونَ الأول أو على يُشْرِكُونَ وليس بشيء.
وجوز الزمخشري أن يكون مرورا على قوله تعالى : وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ويكون من قوله سبحانه مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ إلى هذا المقام من اعتراض تحقيقا لكذبهم ولاستحقاقهم جزاءه وليس بالوجه ، ويفهم من كلام ابن عطية أنه يجوز أن تكون حَتَّى هنا ابتدائية لا غاية لما قبلها. وتعقبه أبو حيان بأنها إذا كانت ابتدائية لا تفارقها الغاية ، والظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه أن ضمير أَحَدَهُمُ راجع إلى الكفار ، والمراد من مجيء الموت ظهورا إماراته أي إذا ظهر لأحدهم أي أحد كان منهم أمارات الموت وبدت له أحوال الآخرة قالَ تحسرا على ما فرط في جنب اللّه تعالى رَبِّ ارْجِعُونِ أي ردني إلى الدنيا ، والواو لتعظم المخاطب وهو اللّه تعالى كما في قوله :
لا فارحموني يا إله محمد فإن لم أكن أهلا فأنت له أهل
وقول الآخر :
وإن شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا «1»
والحق أن التعظيم يكون في ضمير المتكلم والمخاطب بل والغائب والاسم الظاهر وإنكار ذلك غير رضي والإيهام الذي يدعيه ابن مالك هنا لا يلتفت إليه ، وقيل : الواو لكون الخطاب للملائكة عليهم السلام والكلام على تقدير مضاف أي يا ملائكة ربي ارجعوني ، وجوز أن يكون رَبِّ استغاثة به تعالى وارْجِعُونِ خطاب للملائكة عليهم السلام ، وربما يستأنس لذلك بما
أخرجه ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج قال : زعموا أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال لعائشة رضي اللّه تعالى عنها : إن المؤمن إذا عاين الملائكة قالوا : نرجعك إلى دار الدنيا؟ قال : إلى دار الهموم والأحزان بل قدوما إلى اللّه تعالى وأما الكافر فيقولون له : نرجعك؟ فيقول : رب ارجعوني
، وقال المازني : جمع الضمير ليدل على التكرار فكأنه قال : رب ارجعني ارجعني ارجعني ، ومثل ذلك تتنبه الضمير في قفا نبك ونحوه.
واستشكل ذلك الخفاجي بأنه إذا كان أصل ارجعوا مثلا ارجع ارجع إرجع لم يكن ضمير الجمع بل تركيبه الذي فيه حقيقة فإذا كان مجازا فمن أي أنواعه وكيف دلالته على المراد وما علاقته وإلا فهو مما لا وجه له ، ومن غريبه أن ضميره كان مفردا واجب الاستتار فصار غير مفرد واجب الإظهار ثم قال : لم تزل هذه الشبهة قديما في خاطري والذي خطر لي أن لنا استعارة أخرى غير ما ذكر في المعاني ولكونها لا علاقة لها بالمعنى لم تذكر وهي استعارة لفظ مكان لفظ آخر لنكتة بقطع النظر عن معناه وهو كثير في الضمائر كاستعمال الضمير المجرور الظاهر مكان المرفوع المستتر في كفى به حتى لزم انتقاله عن صفة إلى صفة أخرى ومن لفظ إلى لفظ آخر وما نحن فيه من هذا القبيل فإنه غير الضمائر المستترة إلى ضمير جمع ظاهر فلزم الاكتفاء بأحد ألفاظ الفعل وجعل دلالة ضمير الجمع على تكرر الفعل قائما مقامه في التأكيد من غير تجوز فيه ، ولابن جني في الخصائص كلام يدل على ما ذكرناه فتأمل انتهى كلامه.
ولعمري لقد أبعد جدا ، ولعل الأقرب أن يقال : أراد المازني أنه جمع الضمير للتعظيم بتنزيل المخاطب الواحد منزلة الجماعة المخاطبين ويتبع ذلك كون الفعل الصادر منه بمنزلة الفعل الصادر من الجماعة ويتبعهما كون ارْجِعُونِ مثلا بمنزلة ارجعني ارجعني أرجعني لكن إجراء نحو هذا في نحو - قفا نبك - لا يتسنى إلا إذا قيل بأنه قد يقصد بضمير التثنية التعظيم كما قد يقصد ذلك بضمير الجمع ولم يخطر لي أني رأيته فليتتبع وليتدبر
___________
(1) النقاخ هو الماء البارد والبرد النوم ا ه منه.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 263
لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ أي في الإيمان الذي تركته ، ولعل للترجي وهو إما راجع للعمل والإيمان لعلمه بعدم الرجوع أو للعمل فقط لتحقيق إيمانه إن رجع فهو كما في قولك : لعليّ أربح في هذا المال أو كقولك : لعليّ أبني على أس أي أأسس ثم أبني ، وقيل : فيما تركت من المال أو من الدنيا جعل مفارقة ذلك تركا له ، ويجوز أن تكون لعل للتعليل.
وفي البرهان حكى البغوي عن الواقدي أن جميع ما في القرآن من لعل فإنها للتعليل إلا قوله تعالى : لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ فإنها للتشبيه.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبي مالك نحوه ، ثم إن طلب الرجعة ليس من خواص الكفار. فعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن مانع الزكاة وتارك الحج المستطيع يسألان الرجعة عند الموت وأخرج الديلمي عن جابر بن عبد اللّه قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : إذا حضر الإنسان الوفاة يجمع له كل شيء يمنعه عن الحق فيجعل بين عينيه فعند ذلك يقول : رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ»
وهذا الخبر يؤيد أن المراد مما تركت المال ونحوه كَلَّا ردع عن طلب الرجعة واستبعاد لها إِنَّها أي قوله : رَبِّ ارْجِعُونِ إلخ كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها لا محالة لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة وتسلط الندم عليه فتقديم المسند إليه للتقوى أو هو قائلها وحده فالتقديم للاختصاص ، ومعنى ذلك أنه لا يجاب إليها ولا تسمع منه بتنزيل الإجابة والاعتداد منزلة قولها حتى كأن المعتد بها شريك لقائلها ، ومثل هذا متداول فيقول من كلمه صاحبه بما لا جدوى تحته : اشتغل أنت وحدك بهذه الكلمة فتكلم واستمع يعني أنها مما لا تسمع منك ولا تستحق الجواب ، والكلمة هنا بمعنى الكلام كما في قولهم : كلمة الشهادة وهي في هذا المعنى مجاز عند النحاة ، وأما عند اللغويين فقيل حقيقة ، وقيل مجاز مشهور.
والظاهر أن كَلَّا وما بعدها من كلامه تعالى ، وأبعد جدا من زعم أن كَلَّا من قول من عاين الموت وأنه يقول ذلك لنفسه على سبيل التحسر والندم وَمِنْ وَرائِهِمْ أي أمامهم وقد مر تحقيقه ، والضمير لأحدهم والجمع باعتبار المعنى لأنه في حكم كلهم كما أن الافراد في الضمائر الأول باعتبار اللفظ بَرْزَخٌ حاجز بينهم وبين الرجعة إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ من قبورهم وهو يوم القيامة ، وهذا تعليق لرجعتهم إلى الدنيا بالمحال كتعليق دخولهم الجنة بقوله سبحانه : حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الأعراف : 40] وعن ابن زيد أن المراد من ورائهم حاجز بين الموت والبعث في القيامة من القبور باق إلى يوم يبعثون ، وقيل : حاجز بينهم وبين الجزاء التام باق إلى يوم القيامة فإذا جاء ذلك اليوم جوزوا على أتم وجه فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ لقيام الساعة وهي النفخة الثانية التي يقع عندها البعث والنشور ، وقيل : المعنى فإذا نفخ في الأجساد أرواحها على أن الصور جمع صورة على نحو بسر وبسرة لا القرن ، وأيد بقراءة ابن عباس والحسن وابن عياض «في الصور» بضم الصاد وفتح الواو ، وقراءة ابن رزين «في الصور» بكسر الصاد وفتح الواو فإن المذكور في هاتين القراءتين جمع صورة لا بمعنى القرن قطعا والأصل توافق معاني القراءات ، ولا تنافي بين النفخ في الصور بمعنى القرن الذي جاء في الخبر ودلت عليه آيات أخر وبين النفخ في الصور جمع صورة فقد جاء أن هذا النفخ عند ذاك فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ نفخ في الصور كما هي بينهم اليوم ، والمراد أنها لا تنفعهم شيئا فهي منزلة منزلة العدم لعظم الهول واشتغال كل بنفسه بحيث يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه.
وقد أخرج ابن المبارك في الزهد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية وابن عساكر عن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه قال : إذا كان يوم القيامة جمع اللّه تعالى الأولين والآخرين وفي لفظ «يؤخذ بيد العبد أو الأمة يوم القيامة على رؤوس الأولين والآخرين ثم ينادي مناد ألا إن هذا فلان ابن فلان فمن كان له حق قبله فليأت إلى

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 264
حقه - وفي لفظ - من كان له مظلمة فليجىء ليأخذ حقه فيفرح واللّه المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته وإن كان صغيرا
ومصداق ذلك في كتاب اللّه تعالى فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ» وهذا الأثر يدل على أن هذا الحكم غير خاص بالكفرة بل يعمهم وغيرهم ، وقيل : هو خاص بهم كما يقتضيه سياق الآية ، وقيل لا ينفع نسب يومئذ إلا نسبه صلّى اللّه عليه وسلّم.
فقد أخرج البزار والطبراني والبيهقي وأبو نعيم والحاكم والضياء في المختارة عن عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه قال : «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي».
وقد أخرج جماعة نحوه عن مسور بن مخرمة رضي اللّه تعالى عنه مرفوعا ، وأخرج ابن عساكر نحوه مرفوعا أيضا عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما
وهو خبر مقبول لا يكاد يرده إلا من في قلبه شائبة نصب ، نعم ينبغي القول بأن نفع نسبه صلّى اللّه عليه وسلّم إنما هو بالنسبة للمؤمنين الذين تشرفوا به وأما الكافر والعياذ باللّه تعالى فلا نفع له بذلك أصلا ، وقد يقال : إن هذا الخبر لا ينافي إرادة العموم في الآية بأن يكون المراد نفي الالتفات إلى الأنساب عقيب النفخة الثانية من غير فصل حسبما يؤذن به الفاء الجزائية فإنها على المختار تدل على التعقيب ويكون المراد تهويل شأن ذلك الوقت ببيان أنه يذهل فيه كل أحد عمن بينه وبينه نسب ولا يلتفت إليه ولا يخطر هو بباله فضلا عن أنه ينفعه أو لا ينفعه ، وهذا لا يدل على عدم نفع كل نسب فضلا عن عدم نفع نسبه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وحكي عن الجبائي أن المراد أنه لا يفتخر يومئذ بالأنساب كما يفتخر بها في الدنيا وإنما يفتخر هناك بالأعمال والنجاة من الأهوال فحيث لم يفتخر بها ثمت كانت كأنها لم تكن ، فعلى هذا وكذا على ما تقدم يكون قوله تعالى : فَلا أَنْسابَ من باب المجاز.
وجوز أن يكون صفة مقدرة أي فلا أنساب نافعة أو ملتفتا إليها أو مفتخرا بها وليس بذاك ، والظاهر أن العامل في يَوْمَئِذٍ هو العامل في بَيْنَهُمْ لا أَنْسابَ لما لا يخفى وَلا يَتَساءَلُونَ أي ولا يسأل بعضهم بعضا عن حاله وممن هو ونحو ذلك لاشتغال كل منهم بنفسه عن الالتفات إلى أبناء جنسه وذلك عقيب النفخة الثانية من غير فصل أيضا فهو مقيد بيومئذ وإن لم يذكر بعده اكتفاء بما تقدم ، وكأن كلا الحكمين بعد تحقق أمر تلك النفخة لديهم ومعرفة أنها لما ذا كانت ، وحينئذ يجوز أن يقال : إن قولهم مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا [يس : 52] قبل تحقق أمر تلك النفخة لديهم فلا إشكال ، ويحتمل أن كلا الحكمين في مبدأ الأمر قبل القول المذكور كأنهم حين يسمعون الصيحة يذهلون عن كل شيء الأنساب وغيرها كالنائم إذا صيح به صيحة مفزعة فهب من منامه فزعا ذاهلا عمن عنده مثلا فإذا سكن روعهم في الجملة قال قائلهم : مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا وقيل : لا نسلم أن قولهم مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا أنه كان بطريق التساؤل ، وعلى الاحتمالين لا يشكل هذا مع قوله تعالى في شأن الكفرة يوم القيامة وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات : 27 ، الطور : 25] وفي شأن المؤمنين فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات : 50] فإن تساؤل الكفرة المنفي في موطن وتساؤلهم المثبت في موطن آخر ولعله عند جهنم وهو بعد النفخة الثانية بكثير ، وكذا تساؤل المؤمنين بعدها بكثير أيضا فإنه في الجنة كما يرشد إليه الرجوع إلى ما قبل الآية ، وقد يقال : إن التساؤل المنفي هنا تساؤل التعارف ونحوه مما يترتب عليه دفع مضرة أو جلب منفعة والتساؤل المثبت لأهل النار تساؤل وراء ذلك وقد بينه سبحانه بقوله عز من قائل : قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ [الصافات : 28] الآية ، وقد بين جل وعلا تساؤل أهل الجنة بقوله
سبحانه : قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ [الصافات : 51] الآية ، وهو أيضا نوع آخر من التساؤل ليس فيه أكثر من الاستئناس دون دفع مضرة عمن يتكلم معه أو جلب منفعة له.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 265
وقيل المنفي التساؤل بالأنساب فكأنه قيل لا أنساب بينهم ولا يسأل بعضهم بعضا بها ، والمراد أنها لا تنفع في نفسها وعندهم والآية في شأن الكفرة وتساؤلهم المثبت في آية أخرى ليس تساؤلا بالأنساب وهو ظاهر فلا إشكال. وروى جماعة عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه سئل عن وجه الجمع بين النفي هنا والإثبات في قوله سبحانه : وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات : 27] فقال : إن نفي التساؤل في النفخة الأولى حين لا يبقى على وجه الأرض شيء وإثباته في النفخة الثانية ، وعلى هذا فالمراد عنده بقوله تعالى : فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فإذا نفخ النفخة الأولى وهذه إحدى روايتين عنه رضي اللّه تعالى عنه ، والرواية الثانية حمله على النفخة الثانية ، وحينئذ يختار في وجه الجمع أحد الأوجه التي أشرنا إليها ، وقرأ ابن مسعود «ولا يسّاءلون» بتشديد السين فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ أي موزونات حسناته من العقائد والأعمال ، ويجوز أن تكون الموازين جمع ميزان ووجه جمعه قد مر.
والمعنى عليه من ثقلت موازينه بالحسنات فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بكل مطلوب الناجون عن كل مهروب وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ أي موازين أعماله الحسنة أو أعماله التي لا وزن لها ولا اعتداد بها وهي أعماله السيئة كذا قيل وهو مبني على اختلافهم في وزن أعمال الكفرة فمن قال به قال بالأول ومن لم يقل به قال بالثاني ، وقد تقدم الكلام في نظير هذه الآية في سورة الأعراف فتذكر.
فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ضيعوها بتضييع زمان استكمالها وأبطلوا استعدادها لنيل كمالها ، واسم الإشارة في الموضعين عبارة عن الموصول ، وجمعه باعتبار معناه كما أن افراد الضميرين في الصلتين باعتبار لفظه.
فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ خبر ثان لأولئك ، وجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هم خالدون في جهنم ، والجملة إما استئنافية جيء بها لبيان خسرانهم أنفسهم ، وإما خبر ثان لأولئك أيضا ، وجوز أن يكون «الذين» نعتا لاسم الإشارة خالِدُونَ وهو الخبر ، وقيل : خالِدُونَ مع معموله بدل من الصلة ، قال الخفاجي : أي بدل اشتمال لأن خلودهم في جهنم مشتمل على خسرانهم ، وجعل كذلك نظرا لأنه بمعنى يخلدون في جهنم وبذلك يصلح لأن يكون صلة كما يقتضيه الإبدال من الصلة ، وظاهر صنيع الزمخشري يقتضي ترجيح هذا الوجه وليس عندي بالوجه كما لا يخفى وجهه. وتعقب أبو حيان القول بأن فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ بدل فقال : هذا بدل غريب وحقيقته أن يكون البدل ما يتعلق به فِي جَهَنَّمَ أي استقروا ، وكأنه من بدل الشيء من الشيء وهما لمسمى واحد على سبيل المجاز لأن من خسر نفسه استقر في جهنم ، وأنت تعلم أن الظاهر تعلق فِي جَهَنَّمَ بخالدون وأن تعليقه بمحذوف وجعل ذلك المحذوف بدلا وإبقاء خالِدُونَ مفلتا مما لا ينبغي أن يلتفت إليه مع ظهور الوجه الذي لا تكلف فيه ، وقوله تعالى : تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ جملة حالية أو مستأنفة ، واللفح مس لهب النار الشيء وهو كما قال الزجاج أشد من النفح تأثيرا ، والمراد تحرق وجوههم النار ، وتخصيص الوجوه بذلك لأنها أشرف الأعضاء فبيان حالها أزجر عن المعاصي المؤدية إلى النار وهو السر في تقديمها على الفاعل.
وَهُمْ فِيها كالِحُونَ متقلصو الشفاه عن الأسنان من أثر ذلك اللفح ، وقد صح من رواية الترمذي وجماعة عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه تعالى عنه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال في الآية : «تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته»
وأخرج ابن مردويه والضياء في صفة النار عن أبي الدرداء قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في قوله تعالى : تَلْفَحُ إلخ : تلفحهم لفحة فتسيل لحومهم على أعقابهم
، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن الكلوح بسور الوجه وتقطيبه ، وقرأ أبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة «كلحون» بغير ألف جمع كلح كحذر أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ على إضمار القول أي يقال لهم تعنيفا وتوبيخا وتذكيرا لما به

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 266
استحقوا ما ابتلوا به من العذاب ألم تكن آياتي تتلى عليكم في الدنيا فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ حينئذ قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا أي استولت علينا وملكتنا شقاوتنا التي اقتضاها سوء استعدادنا كما يومىء إلى ذلك إضافتها إلى أنفسهم. وقرأ شبل في اختياره «شقوتنا» بفتح الشين ، وقرأ عبد اللّه والحسن وقتادة وحمزة والكسائي والمفضل عن عاصم وأبان والزعفراني وابن مقسم «شقاوتنا» بفتح الشين وألف بعد القاف ، وقرأ قتادة أيضا والحسن في رواية خالد بن حوشب عنه «شقاوتنا» بالألف وكسر الشين وهي في جميع ذلك مصدر ومعناها ضد السعادة ، وفسرها جماعة بسوء العاقبة التي علم اللّه تعالى أنهم يستحقونها بسوء أعمالهم ونسب ذلك لجمهور المعتزلة ، وعن الأشاعرة أن المراد بها ما كتبه اللّه تعالى عليهم في الأزل من الكفر والمعاصي ، وقال الجبائي : المراد بها الهوى وقضاء اللذات مجازا من باب إطلاق المسبب على السبب ، وأيا ما كان فنسبة الغلب إليها لاعتبار تشبيهها بمن يتحقق منه ذلك ففي الكلام استعارة مكنية تخييلية ولعل الأولى أن يخرج الكلام مخرج التمثيل ومرادهم بذلك على جميع الأقوال في الشقوة الاعتراف بقيام حجة اللّه تعالى عليهم لأن منشأها على جميع الأقوال عند التحقيق ما هم عليه في أنفسهم فكأنهم قالوا : ربنا غلب علينا أمر منشؤه ذواتنا وَكُنَّا بسبب ذلك قَوْماً ضالِّينَ عن الحق مكذبين بما يتلى من الآيات فما تنسب إلى حيف في تعذيبنا ، ولا يجوز أن يكون اعتذارا بما علمه اللّه تعالى فيهم وكتبه عليهم من الكفر أي غلب علينا ما كتبته علينا من الشقاوة وكنا في علمك قوما ضالين أو غلب علينا ما علمته وكتبته وكنا بسبب ذلك قوما ضالين فما وقع منا من التكذيب بآياتك لا قدرة لنا على رفعه والإلزام انقلاب العلم جهلا وهو محال لأن ذلك باطل في نفسه لا يصلح للاعتذار فإنه سبحانه ما كتب إلا ما علم وما علم إلا
ما هم عليه في نفس الأمر من سوء الاستعداد المؤدي إلى سوء الاختيار فإن العلم على ما حقق في موضعه تابع للمعلوم ، ويؤيد دعوى الاعتراف قوله تعالى حكاية عنهم.
رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ أي ربنا أخرجنا من النار وأرجعنا إلى الدنيا فإن عدنا بعد ذلك إلى ما كنا عليه فيها من الكفر والمعاصي فإنا متجاوزون الحد في الظلم لأن اجتراءهم على هذا الطلب أوفق بكون ما قبله اعترافا فإنه كثيرا ما يهون به المذنب غضب من أذنب إليه ، والاعتذار وإن كان كذلك بل أعظم إلا أن هذا الاعتذار أشبه شيء بالاعتراض الموجب لشدة الغضب الذي لا يحسن معه الإقدام على مثل هذا الطلب ، هذا مع أنهم لو لم يعتقدوا أن ذلك عذر مقبول والاعتذار به نافع لم يقدموا عليه ومع هذا الاعتقاد لا حاجة بهم إلى طلب الإخراج والإرجاع ، ولا يقال مثل هذا على تقدير كونه اعترافا لأنهم إنما قالوه تمهيدا للطلب المذكور لما أنه مظنة تسكين لهب نار الغضب على ما سمعت ، ثم إن القوم لعلهم ظنوا تغير ما هم عليه من سوء الاستعداد لو عادوا لما شاهدوا من حالهم في ذلك اليوم ولذلك طلبوا ما طلبوا.
وفي قولهم : عُدْنا إشارة إلى أنهم حين الطلب على الإيمان والطاعة فيكون الموعود على تقدير الرجعة إلى الدنيا الثبات عليهما لينتفعوا بهما بعد أن يموتوا ويحشروا فتأمل قالَ اللّه سبحانه إقناطا لهم أشد إقناط اخْسَؤُا فِيها أي ذلوا وانزجروا انزجار الكلاب إذا زجرت من خسأت الكلب إذا زجرته فخسأ أي انزجر أو اسكتوا سكوت هوان ففيه استعارة مكنية قرينتها تصريحية وَلا تُكَلِّمُونِ باستدعاء الإخراج من النار والرجع إلى الدنيا ، وقيل : لا تكلمون في رفع العذاب ، ولعل الأول أوفق بما قبله وبالتعليل الآتي ، وقيل : لا تكلمون أبدا وهو آخر كلام يتكلمون به.
أخرج ابن أبي الدنيا في صفة النار عن حذيفة «أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : إن اللّه تعالى إذا قال لأهل النار اخسؤوا فيها

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 267
ولا تكلمون عادت وجوههم قطعة لحم ليس فيها أفواه ولا مناخر يتردد النفس في أجوافهم»
وأخرج الطبراني والبيهقي في البعث وعبد اللّه بن أحمد في زوائد الزهد والحاكم وصححه وجماعة عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال : إن أهل جهنم ينادون مالكا ليقض علينا ربك فيذرهم أربعين عاما لا يجيبهم ثم يجيبهم إنكم ماكثون ثم ينادون ربهم ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون فيذرهم مثلي الدنيا لا يجيبهم ثم يجيبهم اخسؤوا فيها ولا تكلمون قال : فما يبس القوم بعدها بكلمة وما هو إلا الزفير والشهيق.
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وغيرهما عن محمد بن كعب قال : لأهل النار خمس دعوات يجيبهم اللّه تعالى في أربعة فإذا كانت الخامسة لم يتكلموا بعدها أبدا يقولون : رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [غافر : 11] فيجيبهم اللّه تعالى ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [غافر : 12] ثم يقولون : رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة :
12] فيجيبهم اللّه تعالى : فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [السجدة : 14] ثم يقولون رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ [إبراهيم : 44] فيجيبهم اللّه تعالى : أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ [إبراهيم : 44] ثم يقولون : رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر : 37] فيجيبهم اللّه تعالى : أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر : 37] ثم يقولون : رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ فيجيبهم اللّه تعالى : اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ فلا يتكلمون بعدها أبدا ، وفي بعض الآثار أنهم يلهجون بكل دعاء ألف سنة ، ويشكل على هذه الأخبار ظواهر الخطابات الآتية كما لا يخفى ولعلها لا يصح منها شيء وتصحيح الحاكم محكوم عليه بعدم الاعتبار واللّه تعالى أعلم.
إِنَّهُ تعليل لما قبله من الزجر عن الدعاء أي إن الشأن ، وقرأ أبي وهارون العتكي «أنه» بفتح الهمزة أي لأن الشأن كانَ في الدنيا التي تريدون الرجعة إليها فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي وهم المؤمنون ، وقيل : هم الصحابة ، وقيل :
أهل الصفة رضي اللّه تعالى عنهم أجمعين.
يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا أي هزوا أي اسكتوا عن الدعاء بقولكم رَبَّنا إلخ لأنكم كنتم تستهزئون بالداعين خوفا من هذا اليوم بقولهم رَبَّنا آمَنَّا إلخ حَتَّى أَنْسَوْكُمْ بتشاغلكم بالاستهزاء بهم ذِكْرِي أي خوف عقابي في هذا اليوم.
وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ وذلك غاية الاستهزاء ، وقيل : التعليل على معنى إنما خسأناكم كالكلب ولم نحتفلكم إذ دعوتم لأنكم استهزأتم غاية الاستهزاء بأوليائي حين دعوا واستمر ذلك منكم حتى نسيتم ذكري بالكلية ولم تخافوا عقابي فهذا جزاؤكم ، وقيل : خلاصة معنى الآية أنه كان فريق من عبادي يدعون فتشاغلتم بهم ساخرين واستمر تشاغلكم باستهزائهم إلى أن جركم ذلك إلى ترك ذكري في أوليائي فلم تخافوني في الاستهزاء بهم ، ثم قيل : وهذا التذنيب لازم ليصح قوله تعالى : إِنَّهُ كانَ إلخ تعليلا ويرتبط الكلام ويتلاءم مع قوله سبحانه : وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ولو لم يرد به ذلك يكون إنساء الذكر كالأجنبي في هذا المقام ، وفيه تسخط عظيم لفعلهم ذلك ودلالة على اختصاص بالغ لأولئك العباد المسخور منهم كما نبه عليه أولا في قوله تعالى : مِنْ عِبادِي وختمه بقوله سبحانه : إِنِّي جَزَيْتُهُمُ إلى قوله تعالى : هُمُ الْفائِزُونَ وزاد في خسئهم بإعزاز أضدادهم انتهى ولا يخلو عن بحث.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 268
وقرأ نافع وحمزة والكسائي «سخريا» بضم السين وباقي السبعة بكسرها ، والمعنى عليهما واحد وهو الهزو عند الخليل وأبي زيد الأنصاري وسيبويه وقال أبو عبيدة والكسائي والفراء : مضموم السين بمعنى الاستخدام من غير أجرة ومكسورها بمعنى الاستهزاء ، وقال يونس : إذا أريد الاستخدام ضم السين لا غير وإذا أريد الهزؤ جاز الضم والكسر ، وهو في الحالين مصدر زيدت فيه ياء النسبة للمبالغة كما في أحمري.
وقوله تعالى : إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أي بسبب صبرهم على أذيتكم استئناف لبيان حسن حالهم وأنهم انتفعوا بما آذوهم ، وفيه إغاظة لهم ، وقوله سبحانه : أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ إما في موضع المفعول الثاني للجزاء وهو يتعدى له بنفسه وبالباء كما قال الراغب أي جزيتهم فوزهم بمجامع مراداتهم كما يؤذن به معمول الوصف حال كونهم مخصوصين بذلك كما يؤذن به توسيط ضمير الفصل ، وأما في موضع جر بلام تعليل مقدرة أي لفوزهم بالتوحيد المؤدي إلى كل سعادة ، ولا يمنع من ذلك تعليل الجزاء بالصبر لأن الأسباب لكونها ليست عللا تامة يجوز تعددها.
وقرأ زيد بن علي وحمزة والكسائي وخارجة عن نافع «إنهم» بالكسر على أن الجملة استئناف معلل للجزاء ، وقيل : مبين لكيفيته فتدبر ، قالَ اللّه تعالى شأنه أو الملك المأمور بذلك لا بعض رؤساء أهل النار كما قيل تذكيرا لما لبثوا فيما سألوا الرجعة إليه من الدنيا بعد التنبيه على استحالته وفيه توبيخ على إنكارهم الآخرة ، وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير «قل» على الأمر للملك لا لبعض الرؤساء كما قيل ولا لجميع الكفار على إقامة الواحد مقام الجماعة كما زعمه الثعالبي كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ التي تدعون أن ترجعوا إليها أي كم أقمتم فيها أحياء عَدَدَ سِنِينَ تمييز لكم وهي ظرف زمان للبثتم ، وقال أبو البقاء : «عددا» بدل من كَمْ ، وقرأ الأعمش والمفضل عن عاصم «عددا» بالتنوين فقال أبو الفضل الرازي «سنين» نصب على الظرف و«عددا» مصدر أقيم مقام الاسم فهو نعت مقدم على المنعوت ، وتجويز أن يكون معنى «لبثتم» عددتم بعيد ، وقال أبو البقاء : «سنين» على هذه القراءة بدل من «عددا».
قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ استقصارا لمدة لبثهم بالنسبة إلى ما تحققوه من طول زمان خلودهم في النار ، وقيل : استقصروها لأنها كانت أيام سرورهم بالنسبة إلى ما هم فيه وأيام السرور قصار ، وقيل : لأنها كانت منقضية والمنقضي لا يعتنى بشأنه فلا يدرى مقداره طولا وقصرا فيظن أنه كان قصيرا فَسْئَلِ الْعادِّينَ أي المتمكنين من العد فإنا بما ذهمنا من العذاب بمعزل من ذلك أو الملائكة العادين لأعمار العباد وأعمالهم على ما رواه جماعة عن مجاهد.
وقرأ الحسن والكسائي في رواية «العادين» بتخفيف الدال أي الظلمة فإنهم يقولون كما نقول كان الأتباع يسمون الرؤساء بذلك لظلمهم إياهم بإضلالهم ، وقرىء «العاديّين» بتشديد الياء جمع عادي نسبة إلى قوم عاد والمراد بهم المعمرون لأن قوم عاد كانوا يعمرون كثيرا أي فاسأل القدماء المعمرين فإنهم أيضا يستقصرون مدة لبثهم قالَ أي اللّه تعالى أو الملك وقرأ الإخوان «قل» على الأمر كما قرأ فيما مر كذلك.
وفي الدر المصون الفعلان في مصاحف الكوفة بغير ألف وبألف في مصاحف مكة والمدينة : والشام والبصرة ، ونقل مثله عن ابن عطية ، وفي الكشاف عكس ذلك وكأن الرسم بدون ألف يحتمل حذفها من الماضي على خلاف القياس وفي رسم المصحف من الغرائب ما لا يخفى فلا تغفل.
إِنْ لَبِثْتُمْ أي ما لبثتم إِلَّا قَلِيلًا تصديق لهم في مقالتهم لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي تعلمون شيئا أو

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 269
لو كنتم من أهل العلم ، ولَوْ شرطية وجوابها محذوف ثقة بدلالة الكلام عليه أي لو كنتم تعلمون لعلمتم يومئذ قصر أيام الدنيا كما علمتم اليوم ولعلمتم بموجب ذلك ولم يصدر منكم ما أوجب خلودكم في النار وقولنا لكم اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ وقيل المعنى لو كنتم تعلمون قلة لبثكم في الدنيا بالنسبة للآخرة ما اغتررتم بها وعصيتم ، وكأن نفي العلم بذلك عنهم على هذا لعدم عملهم بموجبه ومن لم يعمل بعلمه فهو والجاهل سواء.
وقدر أبو البقاء الجواب لما أجبتم بهذه المدة ، ولعله يجعل الكلام السابق ردا عليهم لا تصديقا وإلا لا يصح هذا التقدير ، وجوز أن تكون لَوْ للتمني فلا تحتاج لجواب ، ولا ينبغي أن تجعل وصلية لأنها بدون الواو نادرة أو غير موجودة ، هذا وقال غير واحد من المفسرين : المراد سؤالهم عن مدة لبثهم في القبور حيث إنهم كانوا يزعمون أنهم بعد الموت يصيرون ترابا ولا يقومون من قبورهم أبدا.
وزعم ابن عطية أن هذا هو الأصوب وأن قوله سبحانه فيما بعد وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ يقتضيه وفيه منع ظاهر ، ويؤيد ما ذهبنا إليه ما
روي مرفوعا «أن اللّه تعالى إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار قال : يا أهل الجنة كم لبثم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قال : لنعم ما أنجزتم في يوم أو بعض يوم رحمتي ورضواني وجنتي امكثوا فيها خالدين مخلدين ثم يقول : يا أهل النار كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فيقول بئسما انجزتم في يوم أو بعض يوم ناري وسخطي امكثوا فيها خالدين مخلدين
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً أي ألم تعلموا شيئا فحسبتم أنما خلقناكم بغير حكمة حتى أنكرتم البعث فعبثا حال من نون العظمة أي عابثين أو مفعول له أي أفحسبتم أنما خلقناكم للعبث وهو ما خلا عن الفائدة مطلقا أو عن الفائدة المعتد بها أو عما يقاوم الفعل كما ذكره الأصوليون.
واستظهر الخفاجي إرادة المعنى الأول هنا واختار بعض المحققين الثاني وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ عطف على أَنَّما خَلَقْناكُمْ أي أفحسبتم ذلك وحسبتم أنكم لا تبعثون.
وجوز أن يكون عطفا على عَبَثاً والمعنى أفحسبتم أنما خلقناكم للعبث ولترككم غير مرجوعين أو عابثين ومقدرين أنكم إلينا لا ترجعون ، وفي الآية توبيخ لهم على تغافلهم وإشارة إلى أن الحكمة تقتضي تكليفهم وبعثهم للجزاء ، وقرأ الأخوان «ترجعون» بفتح التاء من الرجوع فَتَعالَى اللَّهُ استعظام له تعالى ولشؤونه سبحانه التي يصرف عليها عباده جل وعلا من البدء والإعادة والإثابة والعقاب بموجب الحكمة البالغة أي ارتفع سبحانه بذاته وتنزه عن مماثلة المخلوقين في ذاته وصفاته وأفعاله وعن خلو أفعاله عن الحكم والمصالح الحميدة.
الْمَلِكُ الْحَقُّ أي الحقيق بالمالكية على الإطلاق إيجادا وإعداما بدءا وإعادة إحياء وإماتة عقابا وإثابة وكل ما سواه مملوك له مقهور تحت ملكوتيته ، وقيل : الحق أي الثابت الذي لا يزول ولا يزول ملكه ، وهذا وإن كان أشهر إلا أن الأول أوفق بالمقام لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فإن كل ما عداه عبيده تعالى : رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ وهو جرم عظيم وراء عالم الأجسام والأجرام وهو أعظمها وقد جاء في وصف عظمة ما يبهر العقول فيلزم من كونه تعالى ربه كونه سبحانه رب كل الأجسام والأجرام ، ووصف بالكريم لشرفه وكل ما شرف في بابه وصف بالكرم كما في قوله تعالى :
وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ [الدخان : 26] وقوله سبحانه : وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً [الإسراء : 23] إلى غير ذلك.
وقد شرف بما أودع اللّه تعالى فيه من الأسرار ، وأعظم شرف له تخصيصه باستوائه سبحانه عليه ، وقيل إسناد الكرم إليه مجازي والمراد الكريم ربه أو المراد ذلك على سبيل الكناية ، وقيل : هو على تشبيه العرش لنزول الرحمة والبركة منه بشخص كريم ولعل ما ذكرناه هو الأظهر.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 270
وقرأ أبان بن تغلب وابن محيصن وأبو جعفر وإسماعيل عن ابن كثير «الكريم» بالرفع على أنه صفة الرب ، وجوز أن يكون صفة للعرش على القطع وقد يرجح بأنه أوفق بقراءة الجمهور وَمَنْ يَدْعُ أي يعبد مَعَ اللَّهِ أي مع وجوده تعالى وتحققه سبحانه إِلهاً آخَرَ إفرادا أو إشراكا أو من يعبد مع عبادة اللّه تعالى إلها آخر كذلك ، ويتحقق هذا في الكافر إذا أفرد معبوده الباطل بالعبادة تارة وأشركه مع اللّه تعالى أخرى ، وقد يقتصر على إرادة الإشراك في الوجهين ويعلم حال من عبد غير اللّه سبحانه افرادا بالأولى.
وذكر آخَرَ قيل إنه للتصريح بألوهيته تعالى وللدلالة على الشريك فيها وهو المقصود فليس ذكره تأكيدا لما تدل عليه المعية وإن جوز ذلك فتأمل.
نعم قوله تعالى : لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ صفة لازمة لإلها لا مقيدة جيء بها للتأكيد ، وبناء الحكم المستفاد من جزاء الشرط من الوعيد بالجزاء على قدر ما يستحق تنبيها على أن التدين بما لا دليل عليه ممنوع فضلا عما دل الدليل على خلافه ، ويجوز أن يكون اعتراضا بين الشرط والجزاء جيء به للتأكيد كما في قولك : من أحسن إلى زيد لا أحق منه بالإحسان فاللّه تعالى مثيبه.
ومن الناس من زعم أنه جواب الشرط دون قوله تعالى : فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وجعله تفريعا على الجملة وليس بصحيح لأنه يلزم عليه حذف الفاء في جواب الشرط ولا يجوز ذلك كما قال أبو حيان إلا في الشعر.
والحساب كناية عن المجازاة كأنه قيل : من يعبد إلها مع اللّه تعالى فاللّه سبحانه مجاز له على قدر ما يستحقه إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ أي إن الشأن لا يفلح إلخ.
وقرأ الحسن وقتادة «أنه» بالفتح على التعليل أو جعل الحاصل من السبك خبر حِسابُهُ أي حسابه عدم الفلاح ، وهذا على ما قال الخفاجي من باب. تحية بينهم ضرب وجيع. وبهذا مع عدم الاحتياج إلى التقدير رجح هذا الوجه على سابقه وتوافق القراءتين عليه في حاصل المعنى ، ورجح الأول بأن التوافق عليه أتم ، وأصل الكلام على الأخبار فإنما حسابه عند ربه أنه لا يفلح هو فوضع الْكافِرُونَ موضع الضمير لأن مَنْ يَدْعُ في معنى الجمع وكذلك حسابه أنه لا يفلح في معنى حسابهم أنهم لا يفلحون.
وقرأ الحسن «يفلح» بفتح الياء واللام ، وما ألطف افتتاح هذه السورة بتقدير فلاح المؤمنين وإيراد عدم فلاح الكافرين في اختتامها ، ولا يخفى ما في هذه الجمل من تسلية رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وكأنه سبحانه بعد ما سلاه بذكر مآل من لا ينجع دعاؤه فيه أمره بما يرمز إلى متاركة مخالفيه فقال جل وعلا : وَقُلْ رَبِّ وقرأ ابن محيصن «ربّ» بالضم اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ والظاهر أن طلب كل من المغفرة والرحمة على وجه العموم له عليه الصلاة والسلام ولمتبعيه وهو أيضا أعم من طلب أصل الفعل والمداومة عليه فلا إشكال ، وقد يقال في دفعه غير ذلك ، وفي تخصيص هذا الدعاء بالذكر ما يدل على أهمية ما فيه ، وقد علم صلّى اللّه عليه وسلّم أبا بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه أن يقول نحوه في صلاته.
فقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة وابن حبان وجماعة عن أبي بكر رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : يا رسول اللّه علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال : قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا وأنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 271
ولقراءة هذه الآيات أعني قوله تعالى : أَفَحَسِبْتُمْ إلى آخر السورة على المصاب نفع عظيم وكذا المداومة على قراءة بعضها في السفر.
أخرج الحكيم الترمذي وابن المنذر وأبو نعيم في الحلية وآخرون عن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه أنه قرأ في أذن مصاب أَفَحَسِبْتُمْ حتى ختم السورة فبرأ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «والذي نفسي بيده لو أن رجلا موقنا قرأ بها على جبل لزال».
وأخرج ابن السني وابن منده وأبو نعيم في المعرفة بسند حسن من طريق محمد بن إبراهيم بن الحارث التميمي عن أبيه قال : «بعثنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في سرية وأمرنا أن نقول إذا أمسينا وأصبحنا أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ فقرأناها فغنمنا وسلمنا»
هذا واللّه تعالى المسئول لكل خير.
ومن باب الإشارة في الآيات قيل : قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ أي وصلوا إلى المحل الأعلى والقربة والسعادة الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ظاهرا وباطنا ، والخشوع في الظاهر انتكاس الرأس والنظر إلى موضع السجود وإلى ما بين يديه وترك الالتفات والطمأنينة في الأركان ونحو ذلك ، والخشوع في الباطن سكون النفس عن الخواطر والهواجس الدنيوية بالكلية أو ترك الاسترسال معها وحضور القلب لمعاني القراءة والأذكار ومراقبة السر بترك الالتفات إلى المكونات واستغراق الروح في بحر المحبة ، والخشوع شرط لصحة الصلاة عند بعض الخواص نقل الغزالي عن أبي طالب المكي عن بشر الحافي من لم يخشع فسدت صلاته وهو قول لبعض الفقهاء وتفصيله في كتبهم ، ولا خلاف في أنه لا ثواب في قول أو فعل من أقوال أو أفعال الصلاة أدى مع الغفلة وما أقبح مصل يقول الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة : 2] وهو غافل عن الرب جل شأنه متوجه بشراشره إلى الدرهم والدينار ثم يقول : إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة : 5] وليس في قلبه وفكره غيرهما ونحو هذا كثير ، ومن هنا قال الحسن : كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع.
وقد ذكروا أن الصلاة معراج المؤمن افترى مثل صلاة هذا تصلح لذلك حاش للّه تعالى من زعم ذلك فقد افترى وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ قال بعضهم : اللغو كل ما يشغل عن الحق عز وجل.
وقال أبو عثمان : كل شيء فيه للنفس حظ فهو لغو ، وقال أبو بكر بن طاهر : كل ما سوى اللّه تعالى فهو لغو وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ هي تزكية النفس عن الأخلاق الذميمة وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ إشارة إلى استيلائهم على القوة الشهوية فلا يتجاوزون فيها ما حد لهم ، وقيل : الإشارة فيه إلى حفظ الأسرار أي والذين هم ساترون لما يقبح كشفه من الأسرار عن الأغيار إلا على أقرانهم ومن ازدوج معهم أو على مريديهم الذين هم كالعبيد لهم وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ.
قال محمد بن الفضل : سائر جوارحهم وَعَهْدِهِمْ الميثاق الأزلي راعُونَ فهم حسنو الأفعال والأقوال والاعتقادات وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ فيؤدونها بشرائطها ولا يفعلون فيها وبعدها ما يضيعها كالرياء والعجب وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ قيل المخلوق من ذلك هو الهيكل المحسوس وأما الروح فهي مخلوقة من نور إلهي يعز على العقول إدراك حقيقته ، وفي قوله سبحانه : ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ إشارة إلى نفخ تلك الروح المخلوقة من ذلك النور وهي الحقيقة الآدمية المرادة في
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم «خلق اللّه تعالى آدم على صورته»
أي على صفته سبحانه من كونه حيا عالما مريدا قادرا إلى غير ذلك من الصفات وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ إشارة إلى مراتب النفس التي بعضها فوق بعض وكل مرتبة سفلى

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 272
منها تحجب العليا أو إشارة إلى حجب الحواس الخمس الظاهرة وحاستي الوهم والخيال ، وقيل غير ذلك وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ قيل أي سماء العناية ماءً أي ماء الرحمة بِقَدَرٍ أي بمقدار استعداد السالك فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ أي أرض وجوده فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ أي نخيل المعارف وَأَعْنابٍ أي أعناب الكشوف ، وقيل النخيل إشارة إلى علوم الشريعة والأعناب إشارة إلى علوم الطريقة لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ هي ما كان منها زائدا على الواجب وَمِنْها تَأْكُلُونَ إشارة إلى ما كان واجبا لا يتم قوام الشريعة والطريقة بدونه وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ إشارة إلى النور الذي يشرق من طور القلب بواسطة ما حصل له من التجلي الإلهي تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ أي تنبت بالجامع لهذين الوصفين وهو الاستعداد ، والآكلين إشارة إلى المتغذين بأطعمة المعارف ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ فيه من الأمر بمكارم الأخلاق ما فيه. وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فيه إشارة إلى أنه لا ينبغي الاغترار بالأعمال وإرشاد إلى التشبث برحمة الملك المتعال ، نسأل اللّه تعالى أن يوفقنا لطاعته ويغفر لنا ما ارتكبناه من مخالفته ويتفضل علينا بأعظم مما نؤمله من رحمته كرامة لنبيه الكريم وحبيبه الذي هو بالمؤمنين رؤوف رحيم صلى اللّه تعالى عليه وعلى آله وصحبه وسلم وشرف وعظم وكرم.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 273
سورة النّور
مدنية كما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير رضي اللّه تعالى عنهم ، وحكى أبو حيان الإجماع على مدنيتها ولم يستثن الكثير من آيها شيئا ، وعن القرطبي أن آية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ [النور : 58] إلخ مكية ، وهي اثنتان وستون آية ، وقيل أربع وستون آية ، ووجه اتصالها بسورة المؤمنين أنه سبحانه لما قال فيها وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ [المؤمنون : 5] ذكر في هذه أحكام من لم يحفظ فرجه من الزانية والزاني وما اتصل بذلك من شأن القذف وقصة الإفك والأمر بغض البصر الذي هو داعية الزنا والاستئذان الذي إنما جعل من أجل النظر وأمر فيها بالإنكاح حفظا للفرج وأمر من لم يقدر على النكاح بالاستعفاف ونهى عن إكراه الفتيات على الزنا.
وقال الطبرسي في ذلك : إنه تعالى لما ذكر فيما تقدم أنه لم يخلق الخلق للعبث بل للأمر والنهي ذكر جل وعلا هاهنا جملة من الأوامر والنواهي ولعل الأول أولى ، وجاء عن مجاهد قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : علموا رجالكم سورة المائدة وعلموا نساءكم سورة النور»
وعن حارثة بن مضرب رضي اللّه تعالى عنه قال : كتب إلينا عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه أن تعلموا سورة النساء والأحزاب والنور.
[سورة النور (24) : الآيات 1 إلى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4)
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
سُورَةٌ خبر مبتدأ محذوف أي هذه سورة وأشير إليها بهذه تنزيلا لها منزلة الحاضر المشاهد ، وقوله تعالى :
أَنْزَلْناها مع ما عطف عليه صفات لها مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة من حيث الذات بالفخامة من حيث الصفات على ما ذكره شيخ الإسلام ، والقول بجواز أن تكون للتخصيص احترازا عما هو قائم بذاته تعالى ليس بشيء أصلا كما لا يخفى.
وجوز أن تكون سُورَةٌ مبتدأ محذوف الخبر أي ما يتلى عليكم أو فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها إلخ ، وذكر بعضهم أنه قصد من هذه الجملة الامتنان والمدح والترغيب لا فائدة الخبر ولا لازمها وهو كون المخبر عالما

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 274
بالحكم للعلم بكل ذلك ، والكلام فيما إذا قصد به مثل هذا إنشاء على ما اختاره في الكشف وهو ظاهر قول الإمام المرزوقي في قوله قومي هم قتلوا أميم أخي هذا الكلام تحزن وتفجع وليس بإخبار ، واختار آخرون أن الجملة خبرية مراد بها معناها إلا أنها إنما أوردت لغرض سوى إفادة الحكم أو لازمه وإليه ذهب السالكوتي ، وأول كلام المروزي بأن المراد بالإخبار فيه الإعلام ، وتحقيق ذلك في موضعه ، واعترض شيخ الإسلام هذا الوجه بما بحث فيه.
وجوز ابن عطية أن تكون سُورَةٌ مبتدأ والخبر قوله تعالى : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي إلخ وفيه من البعد ما فيه والوجه الوجيه هو الأول ، وعندي في أمثال هذه الجمل أن الإثبات فيها متوجه إلى القيد ، وقد ذكر ذلك الشيخ عبد القاهر وهو هنا إنزالها وفرضها ، وإنزال آيات بينات فيها لأجل أن يتذكر المخاطبون أو مرجوا تذكرهم فتأمل.
وقرأ عمر بن عبد العزيز ومجاهد وعيسى بن عمر الثقفي البصري وعيسى بن عمر الهمداني الكوفي وابن أبي عبلة وأبو حيوة ومحبوب عن أبي عمرو وأم الدرداء «سورة» بالنصب على أنها مفعول فعل محذوف أي اتل ، وقدر بعضهم اتلوا بضمير الجمع لأن الخطابات الآتية بعده كذلك وليس بلازم لأن الفعل متضمن معنى القول فيكون الكلام حينئذ نظير قوله تعالى : قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ [آل عمران : 32] ولا شك في جوازه.
وجوز الزمخشري أن تكون نصبا على الإغراء أي دونك سورة ، ورده أبو حيان بأنه لا يجوز حذف أداة الإغراء لضعفها في العمل لما أن عملها بالحمل على الفعل ، وكلام ابن مالك يقتضي جوازه وزعم أنه مذهب سيبويه وفيه بحث ، وجوز غير واحد كون ذلك من باب الاشتغال وهو ظاهر على مذهب من لا يشترط في المنصوب على الاشتغال صحة الرفع على الابتداء وأما على مذهب من يشترط ذلك فغير ظاهر لأن «سورة» نكرة لا مسوغ لها فلا يجوز رفعها على الابتداء ، ولعل من يشترط ذلك ويقول بالنصب على الاشتغال هنا يجعل النكرة موصوفة بما يدل عليه التنوين كأنه قيل : سورة عظيمة كما قيل : - شر أهر ذا ناب - .
وقال الفراء : نصب «سورة» على أنها حال من ضمير النصب في أَنْزَلْناها والحال من الضمير يجوز أن يتقدم عليه انتهى ، ولعل الضمير على هذا للأحكام المفهومة من الكلام فكأنه قيل : أنزلنا الأحكام سورة أي في حال كونها سورة من سور القرآن وإلى هذا ذهب في البحر ، وربما يقال : يجوز أن يكون الضمير للسورة الموجودة في العلم من غير ملاحظة تقييدها بوصف ، و«سورة» المذكورة موصوفة بما يدل عليه تنوينها فكأنه قيل : أنزلنا السورة حال كونها سورة عظيمة ، ولا يخفى أن كل ذلك تكلف لا داعي إليه مع وجود الوجه الذي لا غبار عليه ، وقوله تعالى :
وَفَرَضْناها إما على تقدير مضاف أي فرضنا أحكامها وإما على اعتبار المجاز في الإسناد حيث أسند ما للمدلول للدال لملابسة بينهما ، تشبه الظرفية ، ويحتمل على بعد أن يكون في الكلام استخدام بأن يراد بسورة معناها الحقيقي وبضميرها معناها المجازي أعني الأحكام المدلول عليها بها ، والفرض في الأصل قطع الشيء الصلب والتأثير فيه ، والمراد به هنا الإيجاب على أتم وجه فكأنه قيل : أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجابا قطعيا وفي ذكر ذلك براعة استهلال على ما قيل.
وقرأ عبد اللّه وعمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة وأبو عمرو وابن كثير «وفرّضناها» بتشديد الراء لتأكيد الإيجاب ، والإشارة إلى زيادة لزومه أو لتعدد الفرائض وكثرتها أو لكثرة المفروض عليهم من السلف والخلف ، وفي

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 275
الحواشي الشهابية قد فسر فَرَضْناها بفصلناها ويجري فيه ما ذكر أيضا وَأَنْزَلْنا فِيها أي في هذه السورة آياتٍ بَيِّناتٍ يحتمل أن يراد بها الآيات التي نيطت بها الأحكام المفروضة وأمر الظرفية عليه ظاهر ، ومعنى كونها بينات وضوح دلالتها على أحكامها لا على معانيها مطلقا لأنها أسوة لأكثر الآيات في ذلك ، وتكرير أَنْزَلْنا مع استلزام إنزال السورة إنزالها إبراز كمال العناية بشأنها ، ويحتمل أن يراد بها جميع آيات السورة والظرفية حينئذ باعتبار اشتمال الكل على كل واحد من أجزائه ، ومعنى كونه بينات أنها لا إشكال فيها يحوج إلى تأويل كبعض الآيات ، وتكرير أَنْزَلْنا مع ظهور أن إنزال جميع الآيات عين إنزال السورة لاستقلالها بعنوان رائق داع إلى تخصيص إنزالها بالذكر إبانة لخطرها ورفعا لمحلها كقوله تعالى : وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ [هود : 58] بعد قوله سبحانه :
نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا [هود : 58] والاحتمال الأول أظهر ، وقال الإمام : إنه تعالى ذكر في أول السورة أنواعا من الأحكام والحدود وفي آخرها دلائل التوحيد فقوله تعالى : فَرَضْناها إشارة إلى الأحكام المبنية أولا ، وقوله سبحانه : وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ إشارة إلى ما بين من دلائل التوحيد ويؤيده قوله عز وجل : لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فإن الأحكام لم تكن معلومة حتى يتذكرونها انتهى ، وهو عندي وجه حسن ، نعم قيل فيما ذكره من التأييد نظر إذ لمن ذهب إلى الاحتمال أن يقول : المراد من التذكر غايته وهو اتقاء المحارم بالعمل بموجب تلك الآيات ، ولقائل أن يقول : إن هذا محوج إلى ارتكاب المجاز في التذكر دون ما ذكره الإمام فإن التذكر عليه على معناه المتبادر ويكفي هذا القدر في كونه مؤيدا ، وأصل تَذَكَّرُونَ تتذكرون حذف إحدى التاءين وقرىء بإدغام الثانية منهما في الذال الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي شروع في تفصيل الأحكام التي أشير إليها أولا ، ورفع «الزانية» على أنها خبر مبتدأ محذوف والكلام على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه والأصل مما يتلى عليكم أو في الفرائض أي المشار إليها في قوله تعالى : وَفَرَضْناها حكم الزانية والزاني ، والفاء في قوله تعالى : فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ سببية وقيل سيف خطيب ، وذهب الفراء والمبرد والزجاج إلى أن الخبر جملة «فاجلدوا» إلخ ، والفاء في المشهور لتضمن المبتدأ معنى الشرط إذ اللام فيه وفيما عطف عليه موصولة أي التي زنت والذي زنى فاجلدوا إلخ ، وبعضهم يجوز دخول الفاء في الخبر إذا كان في المبتدأ معنى يستحق به أن يترتب عليه الخبر وإن لم يكن هناك موصول كما في قوله : «وقائلة خولان فانكح فتاتهم» فإن هذه القبيلة مشهورة بالشرف والحسن شهرة حاتم بالسخاء وعنترة بالشجاعة وذلك معنى يستحق به أن يترتب عليه
الأمر بالنكاح وعلى هذا يقوى أمر دخول الفاء هنا كما لا يخفى ، وقال العلامة القطب : جيء بالفاء لوقوع المبتدأ بعد أما تقديرا أي أما الزانية والزاني فاجلدوا إلخ ، ونقل عن الأخفش أنها سيف خطيب ، والداعي لسيبويه على ما ذهب إليه ما يفهم من الكتاب كما قيل من أن النهج المألوف في كلام العرب إذا أريد بيان معنى وتفصيله اعتناء بشأنه أن يذكر قبله ما هو عنوان وترجمة له وهذا لا يكون إلا بأن يبنى على جملتين فما ذهب إليه في الآية أولى لذلك مما ذهب إليه غيره ، وأيضا هو سالم من وقوع الإنشاء خبرا والدغدغة التي فيه ، وأمر الفاء عليه ظاهر لا يحتاج إلى تكلف ، وقال أبو حيان : سبب الخلاف أن سيبويه والخليل يشترطان في دخول الفاء الخبر كون المبتدأ موصولا لا بما يقبل مباشرة أداة الشرط وغيرهما لا يشترط ذلك.
وقرأ عبد اللّه «والزان» بلا ياء تخفيفا ، وقرأ عيسى الثقفي ويحيى بن يعمر وعمرو بن قائد وأبو جعفر وشيبة وأبو السمال ورويس «الزانية والزاني» بنصبهما على إضمار فعل يفسره الظاهر ، والفاء على ما قال ابن جني لأن مآل المعنى إلى الشرط والأمر في الجواب يقترن بها فيجوز زيدا فأضربه لذلك ولا يجوز زيدا فضربته بالفاء لأنها لا تدخل في جواب الشرط إذا كان ماضيا.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 276
والمراد هنا على ما في بعض شروح الكشاف إن أردتم معرفة حكم الزانية والزاني فاجلدوا إلخ ، وقيل : إن جلدتم الزانية والزاني فاجلدوا إلخ وهو لا يدل على الوجوب المراد وقيل دخلت الفاء لأن حق المفسر أن يذكر عقب المفسر كالتفصيل بعد الإجمال في قوله تعالى : فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة : 54] ويجوز أن تكون عاطفة والمراد جلد بعد جلد وذلك لا ينافي كونه مفسرا للمعطوف عليه لأنه باعتبار الاتحاد النوعي انتهى.
وأنت تعلم أنه لم يعهد العطف بالفاء فيما اتحد فيه لفظ المفسر والمفسر وقد نصوا على عدم جواز زيدا فضربته بالاتفاق فلو ساغ العطف فيما ذكر لجاز هذا على معنى ضرب بعد ضرب ، على أن كون المراد فيما نحن فيه جلد بعد جلد مما لا يخفى ما فيه فالظاهر ما نقل عن ابن جني ، والمشهور أن سيبويه والخليل يفضلان قراءة النصب لمكان الأمر ، وغيرهما من البصريين والكوفيين يفضلون الرفع لأنه كالإجماع في القراءة وهو أقوى في العربية لأن المعنى عليه من زنى فاجلدوه كذا قال الزجاج ، وقال الخفاجي بعد نقله كلام سيبويه في هذا المقام : ليس في كلام سيبويه شيء مما يدل على التفضيل كما سمعت بل يفهم منه أن الرفع في نحو ذلك أفصح وأبلغ من النصب من جهة المعنى وأفصح من الرفع على أن الكلام جملة واحدة من جهة المعنى واللفظ معا فليراجع وليتأمل والجلد ضرب الجلد وقد طرد صوغ فعل المفتوح العين الثلاثي من أسماء الأعيان فيقال رأسه وظهره وبطنه ، وجوز الراغب أن يكون معنى جلده ضربه بالجلد نحو عصاه ضربه بالعصا ، والمراد هنا المعنى الأول فإن الأخبار قد دلت على أن الزانية والزاني يضربان بسوط لا عقدة عليه ولا فرع له ، وقيل : إن كون الجلد بسوط كذلك كان في زمن عمر رضي اللّه تعالى عنه بإجماع الصحابة وأما قبله فكان تارة باليد وتارة بالنعل وتارة بالجريدة الرطبة وتارة بالعصا ، ثم الظاهر من ضرب الجلد أعم من أن يكون بلا واسطة أو بواسطة ، وزعم بعضهم وليس بشيء أن الظاهر أن يكون بلا واسطة وأنه ربما يستأنس به لما ذهب إليه أصحابنا وبه قال مالك من أنه ينزع عن الزاني عند الجلد ثيابه إلا الإزار فإنه لا ينزع لستر عورته به ، وعن الشافعي ، وأحمد أنه يترك عليه قميص أو قميصان ، وروى عبد الرزاق بسنده عن علي كرم اللّه تعالى وجهه أنه أتي برجل في حد فضربه وعليه كساء قسطلاني ، وعن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه لا يحل في هذه الأمة تجريد ولا
مد ، وأما الامرأة فلا ينزع عنها ثيابها عندنا إلا الفرو والمحشو ووجه ظاهر.
وفي بعض الأخبار ما يدل على أن الرجل والمرأة في عدم نزع الثياب إلا الفرو والمحشو سواء ، وكأن من لا يقول بنزع الثياب يقول : إن الجلد في العرف الضرب مطلقا وليس خاصا بضرب الجلد بلا واسطة ، نعم ربما يقال : إن في اختياره على الضرب إشارة إلى أن المراد ضرب يؤلم الجلد وكأنه لهذا قيل ينزع الفرو والمحشو فإن الضرب في الأغلب لا يؤلم جلد من عليه واحد منهما ، وينبغي أن لا يكون الضرب مبرحا لأن الإهلاك غير مطلوب ، ومن هنا قالوا :
إذا كان من وجب عليه الحد ضعيف الخلقة فخيف عليه الهلاك يجلد جلدا ضعيفا يحتمله ، وكذا قالوا : يفرق الضرب على أعضاء المحدود لأن جمعه في عضو قد يفسده وربما يفضي إلى الهلاك ، وينبغي أن يتقى الوجه والمذاكير لما
روي موقوفا على عليّ كرّم اللّه تعالى وجهه أنه أتي برجل سكران أو في حد فقال : اضرب وأعط كل عضو حقه واتق الوجه والمذاكير
، وكذا الرأس لأنه مجمع الحواس الباطنة فربما يفسد وهو إهلاك معنى ، وكان أبو يوسف يقول باتقائه ثم رجع وقال يضرب ضربة واحدة ، وروي عنه أنه استثنى البطن والصدر وفيه نظر إلا أن يقال : كان الضرب في زمانه كالضرب الذي يفعله ظلمة زماننا وحينئذ ينبغي أن يقول باستثناء الرأس قطعا ، وعن مالك أنه خص الظهر وما يليه بالجلد لما صح من
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم لهلال بن أمية : «البينة وإلا فحد في ظهرك»
وأجيب بأن المراد بالظهر فيه نفسه أي فحد

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 277
ثابت عليك بدليل ما ثبت عن كبار الصحابة من عمر وعلي وابن مسعود رضي اللّه تعالى عنهم ، وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه»
فإنه في نحو الحد فما سواه داخل في الضرب ، ثم خص منه الفرج بدليل الإجماع ، وعن محمد في التعزيز ضرب الظهر وفي الحدود ضرب الأعضاء ، ثم هذا الضرب يكون للرجل قائما غير ممدود وللمرأة قاعدة وجاء ذلك عن عليّ كرم اللّه تعالى وجهه ، وكأن وجهه أن مبني الحد على التشهير زجرا للعامة عن مثله والقيام أبلغ فيه ، والمرأة مبني أمرها على الستر فيكتفى بتشهير الحد فقط من غير زيادة ، وإن امتنع الرجل ولم يقف أو لم يصبر فلا بأس بربطه على أسطوانة أو إمساك أحد له ، والمراد من العدد المفروض في جلد كل واحد منهما أعني مائة جلدة ما يقال له مائة جلدة بوجه من الوجوه وإن لم تتعين الأولى والثانية والثالثة وهكذا إلى تمام المائة فلو ضربه مائة رجل بمائة سوط دفعة واحدة كفى في الحد بل قالوا : جاز أن تجمع الأسواط فيضرب مرة واحدة بحيث يصيبه كل واحد منها وروي عن علي كرم اللّه تعالى وجهه أنه ضرب في حد بسوط له طرفان أربعين ضربة فحسب كل ضربة بضربتين
، وقدمت الزانية على الزاني مع أن العادة تقديم الزاني عليها لأنها هي الأصل إذ الباعثة فيها أقوى ولولا تمكينها لم يزن ، واشتقاقهما من الزنا وهو مقصور في اللغة الفصحى وهي لغة أهل الحجاز وقد يمد في لغة أهل نجد وعليها قال الفرزدق.
أبا طاهر من يزن يعرف زناؤه ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكرا
والزنا في عرف اللغة والشرع على ما قيل وطء الرجل المرأة في القبل في غير الملك وشبهة الملك ، وفيه أنه يرد عليه زنى المرأة فإنه زنى ولا يصدق عليه التعريف ، وما قيل في الجواب عنه : إنه فعل الوطء أمر مشترك بين الرجل والمرأة فإذا وجد بينهما يتصف كل منهما به وتسمى هي واطئة ولذا سماها سبحانه وتعالى زانية لا يخفى ما فيه مع أن في التعريف ما لا يصلحه هذا الجواب لو كان صحيحا ، والحق أن زناها لغة تمكينها من زنى الرجل بها وأنه إذا أريد تعريف الزنا المراد في الآية بحيث يشمل زناها فلا بد من زيادة التمكين بالنسبة إليها بل زيادته بالنسبة إلى كل منهما وأن يقال : هو إدخال المكلف الطائع قدر حشفته قبل مشتهاة حالا أو ماضيا بلا ملك أو شبهة أو تمكينه من ذلك أو تمكينها في دار الإسلام ليصدق على ما لو كان مستلقيا فقعدت على ذكره فتركها حتى أدخلته فإنهما يحدان في هذه الصورة وليس الموجود منه سوى التمكين ، ويعلم من هذا التعريف أنه لا حد على الصبي والمجنون ومن أكرهه السلطان ، ولا على من أولج في دبر أو في فرج صغير غير مشتهاة أو ميتة أو بهيمة بخلاف من أولج في فرج عجوز ، ولا على من زنى في دار الحرب ، ولا على من زنى مع شبهة ، وفي بعض ما ذكر كلام يطلب من كتب الفقه ، والحكم عام فيمن زنى وهو محصن وفي غيره لكن نسخ في حق المحصن قطعا فإن الحكم في حقه الرجم ، ويكفينا في تعيين الناسخ القطع بأمره صلّى اللّه عليه وسلّم بالرجم وفعله في زمانه عليه الصلاة والسلام مرات فيكون من نسخ الكتاب بالسنة القطعية.
وقد أجمع الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم ومن تقدم من السلف وعلماء الأمة وأئمة المسلمين على أن المحصن يرجم بالحجارة حتى يموت ، وإنكار الخوارج ذلك باطل لأنهم إن أنكروا حجية إجماع الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم فجهل مركب ، وإن أنكروا وقوعه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لإنكارهم حجية خبر الواحد فهو بعد بطلانه بالدليل ليس ما نحن فيه لأن ثبوت الرجم منه عليه الصلاة والسلام متواتر المعنى كشجاعة عليّ كرم اللّه تعالى وجهه وجود حاتم ، والآحاد في تفاصيل صوره وخصوصياته وهم كسائر المسلمين يوجبون العمل بالمتواتر معنى كالمتواتر لفظا إلا أن انحرافهم عن الصحابة والمسلمين وترك التردد إلى علماء المسلمين والرواة أوقعهم في جهالات كثيرة لخفاء السمع عنهم والشهرة ، ولذا حين عابوا على عمر بن عبد العزيز في القول بالرجم من كونه ليس في كتاب اللّه تعالى

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 278
ألزمهم بأعداد الركعات ومقادير الزكوات فقالوا : ذلك من فعله صلّى اللّه عليه وسلّم والمسلمين فقال لهم : وهذا أيضا كذلك ، وقد كوشف بهم عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه وكاشف بهم حيث قال كما روى البخاري : خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل : لا نجد الرجم في كتاب اللّه تعالى عز وجل فيضلوا بترك فريضة أنزلها اللّه عز وجل ألا وإن الرجم حق على من زنى وقد أحصن إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف ، وروى أبو داود أنه رضي اللّه تعالى عنه خطب وقال : «إن اللّه عز وجل بعث محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم بالحق وأنزل عليه كتابا فكان فيما أنزل عليه آية الرجم يعني بها قوله تعالى : «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من اللّه واللّه عزيز حكيم» فقرأناها وو عيناها إلى أن قال :
وإني خشيت أن يطول بالناس زمان فيقول قائل : «لا نجد الرجم» الحديث بطرقه ، وقال : لولا أن يقال : إن عمر زاد في الكتاب لكتبتها على حاشية المصحف الشريف ومن الناس من ذهب إلى أن الناسخ الآية المنسوخة التي ذكرها عمر رضي اللّه تعالى عنه.
وقال العلامة ابن الهمام : إن كون الناسخ السنة القطعية أولى من كون الناسخ ما ذكر من الآية لعدم القطع بثبوتها قرآنا ، ثم نسخ تلاوتها وإن ذكرها عمر رضي اللّه تعالى عنه وسكت الناس فإن كون الإجماع السكوتي حجة مختلف فيه وبتقدير حجيته لا نقطع بأن جميع المجتهدين من الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم كانوا إذ ذاك حضورا ثم لا شك في أن الطريق في ذلك إلى عمر رضي اللّه تعالى عنه ظني ولهذا واللّه تعالى أعلم
قال علي كرّم اللّه تعالى وجهه حين جلد شراحة ثم رجمها : جلدتها بكتاب اللّه تعالى ورجمتها بسنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم
ولم يعلل الرجم بالقرآن المنسوخ التلاوة ، ويعلم من قوله المذكور كرم اللّه تعالى وجهه أنه قائل بعدم نسخ عموم الآية فيكون رأيه أن الرجم حكم زائد في حق المحصن ثبت بالسنة وبذلك قال أهل الظاهر وهو رواية عن أحمد ، واستدلوا على ذلك بما
رواه أبو داود من قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «الثيب بالثيب جلد مائة ورمي الحجارة»
وفي رواية غيره «ورجم بالحجارة»
وعند الحنفية لا يجمع بين الرجم والجلد في المحصن وهو قول مالك والشافعي ورواية أخرى عن أحمد لأن الجلد يعري عن المقصود الذي شرع الحد له وهو الانزجار أو قصده إذا كان القتل لاحقا له ، والعمدة في استدلالهم على ذلك أنه صلّى اللّه عليه وسلّم لم يجمع بينهما قطعا ،
فقد تظافرت الطرق أنه صلّى اللّه عليه وسلّم بعد سؤاله ماعزا عن الإحصان وتلقينه الرجوع لم يزد على الأمر بالرجم فقال : اذهبوا به فارجموه
، وقال أيضا عليه الصلاة والسلام : «اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت بذلك فارجمها»
ولم يقل فاجلدها ثم ارجمها ، وجاء في باقي الحديث الشريف «فاعترفت فأمر بها صلّى اللّه عليه وسلّم فرجمت»
وقد تكرر الرجم في زمانه صلّى اللّه عليه وسلّم ولم يرو أحد أنه جمع بينه وبين الجلد فقطعنا بأنه لم يكن إلا الرجم فوجب كون الخبر السابق منسوخا وإن لم يعلم خصوص الناسخ ، وأجيب عما فعل عليّ كرم اللّه تعالى وجهه من الجمع بأنه رأي لا يقاوم ما ذكر من القطع عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وكذا لا يقاوم إجماع الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم ، ويحتمل أن يقال : إنه كرم اللّه تعالى وجهه لم يثبت عنده الإحصان إلا بعد الجلد وهو بعيد جدا كما يظهر من الرجوع إلى القصة واللّه تعالى أعلم ، وإحصان الرجم يتحقق بأشياء نظمها بعضهم فقال :
شروط «1» إحصان أتت ستة فخذها عن النص مستفهما
بلوغ وعقل وحرية ورابعها كونه مسلما
وعقد صحيح ووطء مباح متى اختل شرط فلن يرجما
___________
(1) قوله : شروط إحصان كذا بالأصل وهو غير متزن ولعله هكذا - شروط حصان.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 279
وزاد غير واحد كون واحد من الزوجين مساويا الآخر في شرائط الإحصان وقت الإصابة بحكم النكاح فلو تزوج الحر المسلم البالغ العاقل أمة أو صبية أو مجنونة أو كتابية ودخل بها لا يصير محصنا بهذا الدخول حتى لو زنى من بعد لا يرجم ، وكذا لو تزوجت الحرة البالغة العاقلة المسلمة من عبد أو مجنون أو صبي ودخل بها لا تصير محصنة فلا ترجم لو زنت بعد.
وذكر ابن الكمال شرطا آخر وهو أن لا يبطل إحصانهما بالارتداد فلو ارتد والعياذ باللّه تعالى ثم أسلما لم يعد إلا بالدخول بعده ولو بطل بجنون أو عته عاد بالإفاقة ، وقيل بالوطء بعده. والشافعي لا يشترط المساواة في شرائط الإحصان وقت الإصابة فلا رجم عنده في المسألتين السابقتين ، وكذا لا يشترط الإسلام فلو زنى الذمي الثيب الحر يجلد عندنا ويرجم عنده وهو رواية عن أبي يوسف وبه قال أحمد ، وقول مالك كقولنا.
واستدل المخالف بما
في الصحيحين من حديث عبد اللّه بن عمر رضي اللّه تعالى عنهما أن اليهود جاؤوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فذكروا له أن امرأة منهم ورجلا زنيا فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟
فقالوا : نفضحهم ويجلدون فقال عبد اللّه بن سلام : كذبتم فيما زعمتم أن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فسردوها فوضع أحدهم يعني عبد اللّه بن صور يا يده على آية الرجم وقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له عبد اللّه بن سلام : ارفع يدك فرفع يده فإذا آية الرجم فقالوا : صدق يا محمد فأمر بهما النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فرجما.
ودليلنا ما
رواه إسحاق بن رهوايه في مسنده قال : أخبرنا عبد العزيز بن محمد حدثنا عبيد اللّه عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «من أشرك باللّه فليس بمحصن»
وقد رفع هذا الخبر كما قال إسحاق مرة ووقف أخرى ، ورواه الدارقطني في سننه وقال : لم يرفعه غير راهويه بن راهويه ، ويقال : إنه رجع عن ذلك والصواب أنه موقوف ا ه.
وفي العناية أن لفظ إسحاق كما تراه ليس فيه رجوع وإنما ذكر عن الراوي أنه مرة رفعه ومرة أخرجه مخرج الفتوى ولم يرفعه ولا شك في أن مثله بعد صحة الطريق إليه محكوم برفعه على ما هو المختار في علم الحديث من أنه إذا تعارض الرفع والوقف حكم بالرفع وبعد ذلك إذا خرج من طرق فيها ضعف لا يضر.
وأجاب بعض أجلة أصحابنا بأنه كان الرجم مشروعا بدون اشتراط الإسلام حين رجم صلّى اللّه عليه وسلّم الرجل والمرأة اليهوديين وذلك بما أنزله اللّه تعالى إليه عليه الصلاة والسلام ، وسؤاله صلّى اللّه عليه وسلّم اليهود عما يجدونه في التوراة في شأنه ليس لأن يعلم حكمه من ذلك.
والقول بأنه عليه الصلاة والسلام كان أول ما قدم المدينة مأمورا بالحكم بما في التوراة ممنوع بل ليس ذلك إلا ليبكتهم بترك الحكم بما أنزل اللّه تعالى عليهم فلما حصل الغرض حكم صلّى اللّه عليه وسلّم برجمهما بشرعه الموافق لشرعهم وإذا علم أن الرجم كان ثابتا في شرعنا حال رجمها بلا اشتراط الإسلام. وقد ثبت حديث ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما المفيد لاشتراط الإسلام وليس تاريخ يعرف به تقدم اشتراط الإسلام على عدم اشتراطه أو تأخره عنه حصل التعارض بين فعله صلّى اللّه عليه وسلّم رجم اليهوديين وقوله المذكور فيطلب الترجيح ، وقد قالوا : إذا تعارض القول والفعل ولم يعلم المتقدم من المتأخر يقدم القول على الفعل ، وفيه وجه آخر وهو أن تقديم هذا القول موجب لدرء الحد وتقديم ذلك الفعل يوجب الاحتياط في إيجاب الحد والأولى في الحدود ترجيح الرافع عند التعارض.
ولا يخفى أن كل مترجح فهو محكوم بتأخره اجتهادا فيكون المعول عليه في الحكم حديث ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما ، وقول المخالف : إن المراد بالمحصن فيه المحصن الذي يقتص له من المسلم خلاف الظاهر لأن أكثر استعمال الإحصان في إحصان الرجم.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 280
ورد بعضهم بالآية على القائلين : إن حد زنا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب سنة وهم الإمام الشافعي والإمام أحمد والثوري والحسن بن صالح ، ووجه الرد أن قوله تعالى : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي إلخ شروع في بيان حكم الزنا ما هو فكان المذكور تمام حكمه وإلا كان تجهيلا لا بيانا وتفصيلا إذ يفهم منه أنه تمام وليس بتمام في الواقع فكان مع الشروع في البيان أبعد من البيان ، لأنه أوقع في الجهل المركب وقبله كان الجهل بسيطا فيفهم بمقتضى ذلك أن حد الزانية والزاني ليس إلا الجلد ، وأخصر من هذا أن المقام مقام البيان فالسكوت فيه يفيد الحصر ، وقال المخالف : لو سلمنا الدلالة على الحصر وأن المذكور تمام الحكم ليكون المعنى أن حد كل ليس إلا الجلد فذلك منسوخ بما صح من
رواية عبادة بن الصامت عنه صلّى اللّه عليه وسلّم «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام»
وأجيب بأنه بعد التسليم لا تصح دعوى النسخ بما ذكر لأنه خبر الواحد وعندنا لا يجوز نسخ الكتاب به والقول بأن الخبر المذكور قد تلقته الأمة بالقبول لا يجدي نفعا لأنه إن أريد بتلقيه بالقبول إجماعهم على العمل به فممنوع ،
فقد صح عن عليّ كرم اللّه تعالى وجهه أنه لا يقول بتغريبهما وقال : حسبهما من الفتنة أن ينفيا
، وفي رواية كفى بالنفي فتنة ، وإن أريد إجماعهم على صحته بمعنى صحة سنده فكثير من أخبار الآحاد كذلك ولم تخرج بذلك عن كونها آحادا ، على أنه ليس فيه أكثر من كون التغريب واجبا ولا يدل على أنه واجب بطريق الحد بل ما
في صحيح البخاري من قول أبي هريرة : إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفي عام وإقامة الحد
ظاهر في أن النفي ليس من الحد لعطفه عليه ، وكونه استعمل الحد في جزء مسماه وعطف على الجزء الآخر بعيد فجاز كونه تعزيرا لمصلحة ، وقد يغرب الإمام لمصلحة يراها في غير ما ذكر كما صح أن عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه غرب نصر بن حجاج إلى البصرة بسبب أنه لجماله افتتن بعض النساء به فسمع قائلة يقال : إنها أم الحجاج الثقفي ولذا قال له عبد الملك يوما يا ابن المتمنية تقول :
هل من سبيل إلى خمر فأشربها أو هل سبيل إلى نصر بن حجاج
إلى فتى ماجد الأعراق «1» مقتبل سهل المحيا كريم غير ملجاج
والقول بأنه لا يجتمع التعزير مع الحد لا يخفى ما فيه ، وادعى الفقيه المرغيناني أن الخبر المذكور منسوخ فإن شطره الثاني الدال على الجمع بين الجلد والرجم منسوخ كما علمت ، وفيه أنه لا لزوم فيجوز أن تروى جمل نسخ بعضها وبعضها لم ينسخ ، نعم ربما يكون نسخ أحد الشطرين مسهلا لتطرق احتمال نسخ الشطر الآخر فيكون هذا الاحتمال قائما فيما نحن فيه فيضعف عن درجة الآحاد التي لم يتطرق ذلك الاحتمال إليها فيكون أحرى أن لا ينسخ ما أفاده الكتاب من أن الحد هو الجلد لا غير على ما سمعت تقريره فتأمل.
ثم إن التغريب ليس مخصوصا بالرجل عند أولئك الأئمة فقد قالوا : تغرب المرأة مع محرم وأجرته عليها في قول وفي بيت المال في آخر ، ولو امتنع ففي قول يجبره الإمام وفي آخر لا ، ولو كانت الطريق آمنة ففي تغريبها بلا محرم قولان ، وعند مالك والأوزاعي إنما ينفى الرجل ولا تنفى المرأة
لقوله عليه الصلاة والسلام : «البكر بالبكر»
إلخ ، وقال غيرهما ممن تقدم : إن الحديث يجب أن يشملها فإن أوله
«خذوا عني قد جعل اللّه تعالى لهن سبيلا البكر بالبكر»
إلخ وهو نص على أن النفي والجلد سبيل للنساء والبكر يقال : على الأنثى ألا ترى إلى
قوله عليه الصلاة والسلام : «البكر تستأذن»
ومع قطع النظر عن كل ذلك قد يقال : إن هذا من المواضع التي تثبت الأحكام فيه في النساء بالنصوص المفيدة إياها للرجال بتنقيح المناط ، هذا ثم لا يخفى أن الظاهر من الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي ما يشمل الرقيق وغيره فيكون
___________
(1) هو الذي لم يظهر فيه أثر كبر انتهى منه.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 281
مقدار الحد في الجميع واحدا لكن قوله تعالى : فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النساء : 25] الآية أخرجت الإماء فإن الآية نزلت فيهن ، وكذا أخرجت العبيد إذ لا فرق بين الذكر والأنثى بتنقيح المناط فيرجع في ذلك إلى دلالة النص بناء على أنه لا يشترط في الدلالة أولوية المسكوت بالحكم من المذكور بل المساواة تكفي فيه وقيل تدخل العبيد بطريق التغليب عكس القاعدة وهي تغليب الذكور.
ولا يشترط الإحصان في الرقيق لما
روى مسلم وأبو داود والنسائي عن علي كرم اللّه تعالى وجهه قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم من أحصن ومن لم يحصن»
وفيه دليل على أن الشرط أعني الإحصان في الآية الدالة على تنصيف الحد لا مفهوم له ، ونقل عن ابن عباس وطاوس أنه لا حد على الأمة حتى تحصن بزوج ، وفيه اعتبار المفهوم ، ثم هذا الإحصان شرط للجلد لأن الرجم لا يتنصف ، وللشافعي في تغريب العبد أقوال : يغرب سنة يغرب نصف سنة لا يغرب أصلا والخطاب في قوله تعالى : فَاجْلِدُوا لأئمة المسلمين ونوابهم.
واختلف في إقامة المولى الحد على عبده فعندنا لا يقيمه إلا بإذن الإمام والشافعي ومالك وأحمد يقيمه من غير إذن ، وعن مالك إلا في الأمة المزوجة ، واستثنى الشافعي من المولى الذمي والمكاتب والمرأة ، وكذا اختلف في إقامة الخارجي المتغلب الحد فقيل يقيم وقيل لا ، وأدلة الأقوال المذكورة وتحقيق ما هو الحق منها في محله ، والظاهر أن إقامة الحد المذكور بعد تحقق الزنا بإحدى الطرق المعلومة ، وقال إسحاق :
إذا وجد رجل وامرأة في ثوب واحد يجلد كل واحد منهما مائة جلدة وروي ذلك عن عمر وعلي رضي اللّه تعالى عنهما
، وقال عطاء والثوري ومالك وأحمد : يؤديان على مذاهبهم في الأدب وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ تلطف ومعاملة برفق وشفقة فِي دِينِ اللَّهِ في طاعته وإقامة حده الذي شرعه عز وجل ، والمراد النهي عن التخفيف في الجلد بأن يجلدوهما جلدا غير مؤلم أو بأن يكون أقل من مائة جلدة.
وقال أبو مجلز ومجاهد وعكرمة وعطاء : المراد النهي عن إسقاط الحد بنحو شفاعة كأنه قيل : أقيموا عليهما الحد ولا بد ، وروي معنى ذلك عن عمر وابن جبير ، وفي هذا دليل على أنه لا يجوز الشفاعة في إسقاط الحد ، والظاهر أن المراد عدم جواز ذلك بعد ثبوت الحد عند الحاكم ، وأما قبل الوصول إليه والثبوت فإن الشفاعة عند الرافع لمن اتصف بسبب الحد إلى الحاكم ليطلقه قبل الوصول وقبل الثبوت تجوز ، ولم يخصوا ذلك بالزنا لما
صح أنه عليه الصلاة والسلام أنكر على حبه أسامة بن زيد حين شفع في فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد المخزومية السارقة قطيفة وقيل حليا فقال له : «أتشفع في حد من حدود اللّه تعالى؟ ثم قام فخطب فقال : أيها الناس إنما ضل من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد وايم اللّه تعالى لو أن فاطمة بنت محمد سرقت وحاشاها لقطعت يدها»
وكما تحرم الشفاعة يحرم قبولها فعن الزبير بن العوام رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : إذا بلغ الحد إلى الإمام فلا عفا اللّه تعالى عنه إن عفا ، وبِهِما قيل متعلق بمحذوف على البيان أي أعني بهما ، وقيل بترأفوا محذوفا أي ولا ترأفوا بهما ، ويفهم صنيع أبي البقاء اختيار تعلقه بتأخذ والباء للسببية أي ولا تأخذكم بسببهما رأفة ولم يجوز تعلقه برأفة معللا بأن المصدر لا يتقدم معموله عليه ، وعندي هو متعلق بالمصدر ويتوسع في الظرف ما لا يتوسع في غيره.
وقد حقق ذلك العلامة سعد الملة والدين في أول شرح التلخيص بما لا مزيد عليه ، وفِي دِينِ قيل متعلق بتأخذ وعليه أبو البقاء ، وقيل متعلق بمحذوف وقع صفة لرأفة. وقرأ عليّ كرم اللّه تعالى وجهه والسلمي وابن مقسم وداود بن أبي هند عن مجاهد «ولا يأخذكم» بالياء التحتية لأن تأنيث رَأْفَةٌ مجازي وحسن ذلك الفصل وقرأ ابن

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 282
كثير «رأفة» بفتح الهمزة ، وابن جريج «رافة» بألف بعد الهمزة على وزن فعالة وروي ذلك عن عاصم وابن كثير ، ونقل أبو البقاء أنه قرأ «رافة» بقلب الهمزة الفا وهي في كل ذلك مصدر مسموع إلا أن الأشهر في الاستعمال ما وافق قراءة الجمهور.
إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ من باب التهييج والإلهاب كما يقال : إن كنت رجلا فافعل كذا ولا شك في رجوليته وكذا المخاطبون هنا مقطوع بإيمانهم لكن قصد تهييجهم وتحريك حميتهم ليجدوا في طاعة اللّه تعالى ويجتهدوا في إجراء أحكامه على وجهها ، وذكر الْيَوْمِ الْآخِرِ لتذكير ما فيه من العقاب في مقابلة الرأفة بهما وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي ليحضره زيادة في التنكيل فإن التفضيح قد ينكل أكثر من التعذيب أو لذلك وللعبرة والموعظة ، وعن نصر بن علقمة أن ذلك ليدعى لهما بالتوبة والرحمة لا للتفضيح وهو في غاية البعد من السياق ، والأمر هنا على ما يدل عليه كلام الفقهاء للندب.
واختلف في هذه الطائفة فأخرج عبد بن حميد وغيره عن ابن عباس أنه قال : الطائفة الرجل فما فوقه وبه قال أحمد وقال عطاء وعكرمة وإسحاق بن راهويه : اثنان فصاعدا وهو القول المشهور لمالك وقال قتادة والزهري : ثلاثة فصاعدا ، وقال الحسن : عشرة ، وعن الشافعي وزيد : أربعة وهو قول لمالك قال الخفاجي : وتحقيق المقام أن الطائفة في الأصل اسم فاعل مؤنث من الطواف الدوران أو الإحاطة فهي إما صفة نفس أي نفس طائفة فتطلق على الواحد أو صفة جماعة أي جماعة طائفة فتطلق على ما فوقه فهي كالمشترك بين تلك المعاني فتحمل في كل مقام على ما يناسبه.
وذكر الراغب أنها إذا أريد بها الواحد يصح أن تكون جمعا كني به عن الواحد ، ويصح أن تكون مفردا والتاء فيها كما في رواية ، وفي حواشي العضد للهروي يصح أن يقال للواحد طائفة ويراد نفس طائفة فهي من الطواف بمعنى الدوران.
وفي شرح البخاري حمل الشافعي الطائفة في مواضع من القرآن على أوجه مختلفة بحسب المواضع فهي في قوله تعالى : فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ [التوبة : 122] واحد فأكثر واحتج به على قبول خبر الواحد وفي قوله تعالى : وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ أربعة وفي قوله سبحانه : فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النساء : 102] ثلاثة ، وفرقوا في هذه المواضع بحسب القرائن ، أما في الأولى فلأن الإنذار يحصل به ، وأما في الثانية فلأن التشنيع فيه أشد ، وأما في الثالثة فلضمير الجمع بعد في قوله تعالى : وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ [النساء : 102] وأقله ثلاثة ، وكونها مشتقة من الطواف لا ينافيه لأنه يكون بمعنى الدوران أو هو الأصل وقد لا ينظر إليه بعد الغلبة فلذا قيل : إن تاءها للنقل انتهى ولا يخلو عن بحث.
والحق أن المراد بالطائفة هنا جماعة يحصل بهم التشهير ، والزجر وتختلف قلة وكثرة بحسب اختلاف الأماكن والأشخاص فرب شخص يحصل تشهيره وزجره بثلاثة وآخر لا يحصل تشهيره وزجره بعشرة ، وللقائل بالأربعة هنا وجه وجيه كما لا يخفى.
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً تقبيح لأمر الزاني أشد تقبيح ببيان أنه بعد أن رضي بالزنا لا يليق به أن ينكح العفيفة المؤمنة فبينهما كما بين سهيل والثريا فترى هذه شامية إذا ما استقلت وترى ذاك إذا ما استقل يمانيا وإنما يليق به أن ينكح زانية هي في ذلك طبقه ليوافق - كما قيل - شن طبقه أو مشركة هي أسوأ منه حالا وأقبح أفعالا «فلا ينكح» خبر مراد منه لا يليق به أن ينكح كما تقول : السلطان لا يكذب أي لا يليق به أن يكذب نزل فيه عدم لياقة

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 283
الفعل منزلة عدمه وهو كثير في الكلام ، ثم المراد اللياقة وعدم اللياقة من حيث الزنا فيكون فيه من تقبيح الزنا ما فيه.
ولا يشكل صحة نكاح الزاني المسلم الزانية المسلمة وكذا العفيفة المسلمة وعدم صحة نكاحه المشركة المذكورة في الآية إذا فسرت بالوثنية بالإجماع لأن ذلك ليس من اللياقة وعدم اللياقة من حيث الزنا بل من حيثية أخرى يعلمها الشارع كما لا يخفى ، وعلى هذا الطرز قوله تعالى : وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ أي الزانية بعد أن رضيت بالزنا فولغ فيها كلب شهوة الزاني لا يليق أن ينكحها من حيث إنها كذلك إلا من هو مثلها وهو الزاني أو من هو أسوأ حالا منها وهو المشرك ، وأما المسلم العفيف فإن غيرته تأبى ورود جفرتها.
تجتنب الأسود ورود ماء إذا كان الكلاب يلغن فيه
ولا يشكل على هذا صحة نكاحه إياها وعدم صحة نكاح المشرك سواء فسر بالوثني أو بالكتابي ليحتاج إلى الجواب وهو ظاهر والإشارة في قوله سبحانه : وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يحتمل أن تكون للزنا المفهوم مما تقدم والتحريم عليه على ظاهره وكذا المؤمنين ، ولعل هذه الجملة وما قبلها متضمنة لتعليل ما تقدم من الأمر والنهي ولذا لم يعطف قوله سبحانه : الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلخ عليه كما عطف قوله عز وجل الآتي : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ إلخ ، وأمر إشعار ما تقدم بالتحريم سهل ، وتخصيص المؤمنين بالتحريم عليهم على رأي من يقول : إن الكفار غير مكلفين بالفروع ظاهر ، وأما على رأي من يقول بتكليفهم بها كالأصول وإن لم تصح منهم إلا بعد الإيمان فتخصيصهم بالذكر لشرفهم ، ويحتمل أن تكون لنكاح الزانية وعليه فالمراد من التحريم المنع وبالمؤمنين المؤمنون الكاملون ، ومعنى منعهم عن نكاح الزواني جعل نفوسهم أبية عن الميل إليه فلا يليق ذلك بهم ، ولا يأبى حمل الآية على ما قرر فيها ما
روي في سبب نزولها مما أخرج أبو داود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه والبيهقي وابن المنذر وغيرهم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : «كان رجل يقال له مرثد يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها عناق وكانت صديقة له وأنه وعد رجلا من أسارى مكة بحمله قال فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة فجاءت عناق فأبصرت سواد ظل تحت الحائط فلما انتهت إلى غرفتي فقالت : مرثد؟ فقلت : مرثد فقالت : مرحبا وأهلا هلم فبت عندنا الليلة قلت : يا عناق حرم اللّه تعالى الزنا قالت : يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم قال فتبعني ثمانية وسلكت الخندمة فانتهيت إلى غار أو كهف فدخلت فجاؤوا حتى قاموا على رأسي فطل بولهم على رأسي وعماهم اللّه تعالى عني ثم رجعوا ورجعت إلى صاحبي فحملته حتى قدمت المدينة فأتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقلت : يا رسول اللّه أنكح عناق؟ فأمسك فلم يرد عليّ شيئا حتى نزل الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً الآية فقال رسول اللّه عليه الصلاة والسلام : يا مرثد الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فلا تنكحها
لأن تفريع النهي فيه عن نكاح تلك البغي مما لا شبهة في صحته على تقدير كون الآية المفرع عليها لتقبيح أمر الزاني والزانية فكأنه قيل : إذا علمت أمر الزانية وأنها بلغت في القبح إلى حيث لا يليق أن ينكحها إلا مثلها أو من هو أسوأ حالا فلا تنكحها.
نعم في هذا الخبر ما هو أوفق بجعل الإشارة فيما مر إلى نكاح الزانية ويعلم منه وجه تقديم الزَّانِي والأخبار عن الزانية بأنه لا ينكحها إلا زان أو مشرك على خلاف ما تقتضيه المقابلة ، هذا وللعلماء في هذه الآية الجليلة كلام كثير لا بأس بنقل ما تيسر منه وإبداء بعض ما قيل فيه ثم انظر فيه وفيما قدمناه واختر لنفسك ما يحلو فأقول : نقل عن الضحاك والقفال ، وقال النيسابوري : إنه أحسن الوجوه في الآية أن قوله سبحانه : الزَّانِي لا

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 284
يَنْكِحُ
إلخ حكم مؤسس على الغالب المعتاد جيء به لزجر المؤمنين عن نكاح الزواني بعد زجرهم عن الزنا وذلك أن الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنا والتقحب لا يرغب غالبا في نكاح الصوالح من النساء اللاتي على خلاف صفته وإنما يرغب في فاسقة خبيثة من شكله أو في مشركة والفاسقة الخبيثة المسافحة كذلك لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال وينفرون عنها وإنما يرغب فيها من هو من شكلها من الفسقة والمشركين ، ونظير هذا الكلام لا يفعل الخير إلا تقي فإنه جار مجرى الغالب ، ومعنى التحريم على المؤمنين على هذا قيل التنزيه وعبر به عنه للتغليظ ، ووجه ذلك أن نكاح الزواني متضمن التشبه بالفساق والتعرض للتهمة والتسبب لسوء القالة والطعن في النسب إلى كثير من المفاسد ، وقيل : التحريم على ظاهره وذلك الفعل يتضمن محرمات والحرمة ليست راجعة إلى نفس العقد ليكون العقد باطلا وعلى القولين الآية محكمة ، ولا يخفى أن حمل الزاني والزانية على من شأنهما الزنا والتقحب لا يخلو عن بعد لأنهما فيما تقدم لم يكونا بهذا المعنى والظاهر الموافقة ، وأيضا لا يكاد يسلم أن الغالب عدم رغبة من شأنه الزنا في نكاح العفائف ورغبته في الزواني أو المشركات فكثيرا ما شاهدنا كثيرا من الزناة يتحرون في النكاح أكثر من تحري غيرهم فلا يكاد أحدهم ينكح من في أقاربها شبهة زنا فضلا عن أن تكون فيها وقليلا ما سمعنا برغبة الزاني في نكاح زانية أو مشركة ، وأيضا في حمل التحريم على التنزيه نوع بعد وكذا حمله على ظاهره مع التزام أن الحرمة ليست راجعة إلى نفس العقد.
وفي البحر روي عن ابن عمر وابن عباس وأصحابه أن الآية في قوم مخصوصين كانوا يزنون في جاهليتهم ببغايا مشهورات فلما جاء الإسلام وأسلموا لم يمكنهم الزنا فأرادوا لفقرهم زواج أولئك النسوة إذ كان من عادتهن الإنفاق على من تزوجهن فنزلت الآية لذلك ، والإشارة بالزاني إلى أحد أولئك القوم أطلق عليه اسم الزنا الذي كان في الجاهلية للتوبيخ ، ومعنى لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً لا يريد أن يتزوج إلا زانية أو مشركة أي لا تنزع نفسه إلا إلى هذه الخسائس لقلة انضباطها ، والإشارة - بذلك - إلى نكاح أولئك البغايا والتحريم على ظاهره ، ويرد على هذا التأويل أن الإجماع على أن الزانية لا يجوز أن يتزوجها مشرك انتهى.
وأنت تعلم أن هذا لا يرد بعد حمل نفي النكاح على نفي إرادة التزوج إذ يكون المعنى حينئذ الزانية لا يريد أن يتزوجها إلا زان أو مشرك وليس في الإجماع ما يأباه ، وفيه أيضا كلام ستعلمه قريبا إن شاء اللّه تعالى ، نعم كون الزَّانِي إشارة إلى أحد أولئك القوم وهم من المهاجرين رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين كما جاء في آثار كثيرة وقد أسلموا وتابوا من الزنا محل تردد إذ يبعد كل البعد أن يسم اللّه عز وجل بالزنا صحابيا كان قد زنى قبل إسلامه ثم أسلم وتاب فخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ويطلق سبحانه عليه هذا الوصف الشنيع الذي غفره تبارك وتعالى له بمجرد أنه مال إلى نكاح زانية بسبب ما به من الفقر قبل العلم بحظر ذلك مع أنهم كانوا نادين على فراق من ينكحونهن إذا وجدوا عنهن غنى.
فقد أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل أنه قال : لما قدم المهاجرون المدينة قدموها وهم بجهد إلا قليل منهم والمدينة غالية السعر شديدة الجهد وفي السوق زوان متعالنات من أهل الكتاب وإماء لبعض الأنصار قد رفعت كل امرأة منهن على بابها علامة لتعرف أنها زانية وكن من أخصب أهل المدينة وأكثرهم خيرا فرغب أناس من مهاجري المسلمين فيما يكتسبن للذي فيهم من الجهد فأشار بعضهم على بعض لو تزوجنا بعض هؤلاء الزواني فنصيب من فضول ما يكتسبن فقال بعضهم : نستأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأتوه فقالوا : يا رسول اللّه قد شق علينا الجهد ولا نجد ما نأكل وفي السوق بغايا نساء أهل الكتاب وولائدهن وولائد الأنصار يكتسبن لأنفسهن فيصلح لنا أن نتزوج منهن

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 285
فنصيب من فضول ما يكتسبن فإذا وجدنا عنهن غنى تركناهن فأنزل اللّه تعالى الآية
، وأيضا إطلاق الزاني عليه بهذا المعنى لا يوافق إطلاق الزانية على إحدى صاحبات الرايات ، وكذا لا يوافق إطلاق الزاني على من أطلق عليه في قوله سبحانه : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا إلخ.
وقال أبو مسلم وأبو حيان وأخرجه أبو داود في ناسخه والبيهقي في سننه ، والضياء في المختارة وجماعة من طريق ابن جبير عن ابن عباس أن النكاح بمعنى الوطء أي الزنا وذلِكَ إشارة إليه ، والمعنى الزاني لا يطأ في وقت زناه إلا زانية من المسلمين أو أخس منها وهي المشركة والزانية لا يطؤها حين زناها إلا زان من المسلمين أو أخس منه وهو المشرك وحرم اللّه تعالى الزنا على المؤمنين.
وتعقب بأنه لا يعرف النكاح في كتاب اللّه تعالى إلا بمعنى التزويج وبأنه يؤدي إلى قولك الزاني لا يزني إلا بزانية والزانية لا تزني إلا بزان وهو غير مسلم إذ قد يزني الزاني بغير زانية يعلم أحدهما بالزنا والآخر جاهل به يظن الحل ، وإذا ادعى أن ذلك خارج مخرج الغالب كان من الأخبار بالواضحات ، وإن حمل النفي على النهي كان المعنى نهي الزاني عن الزنا إلا بزانية وبالعكس وهو ظاهر الفساد.
وأجيب عن الأول بأن جل العلماء على أن النكاح في قوله تعالى : حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة : 230] بمعنى الوطء دون العقد وردوا على من فسره بالعقد وزعم أن المطلقة ثلاثا تحل لزوجها الأول بعقد الثاني عليها دون وطء ، وعن الثاني بأنه إخبار خارج مخرج الغالب أريد به تشنيع أمر الزنا ولذلك زيدت المشركة ، والاعتراض بالوضوح ليس بشيء.
وللفاضل سري الدين المصري كلام طويل في ذلك ، وما قيل : إنه حينئذ يكون كقوله تعالى : الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ [النور : 26] إلخ فيحصل التكرار ستعلم إن شاء اللّه تعالى أنه لا يتم إلا في قول ، وقيل : النكاح بمعنى التزوج والنفي بمعنى النهي وعبر به عنه للمبالغة ، وأيد بقراءة عمرو بن عبيد «لا ينكح» بالجزم والتحريم على ظاهره.
قال ابن المسيب : وكان الحكم عاما في الزناة أن لا يتزوج أحدهم إلا زانية ثم جاءت الرخصة ونسخ ذلك بقوله تعالى : وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ [النور : 32] وقوله سبحانه : فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء : 3] وروي القول بالنسخ عن مجاهد ، وإلى ذلك ذهب الإمام الشافعي قال في الأم : اختلف أهل التفسير في قوله تعالى :
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً إلخ اختلافا متباينا ، قيل : هي عامة ولكنها نسخت أخبرنا سفيان عن يحيى عن سعيد بن المسيب أنه قال : هي منسوخة نسختها وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ فهي أي الزانية من أيامي المسلمين كما قال ابن المسيب إن شاء اللّه تعالى ، ولنا دلائل من الكتاب والسنة على فساد غير هذا القول وبسط الكلام ، وقد نقل هذا عن الإمام الشافعي البقاعي ثم قال : إن الشافعي لم يرد أن هذا الحكم نسخ بآية الأيامى فقط بل مع ما انضم إليها من الإجماع وغيره من الآيات والأحاديث بحيث صير ذلك دلالتها على ما تناولته متيقنا كدلالة الخاص على ما تناوله فلا يقال : إنه خالف أصله في أن الخاص لا ينسخ بالعام بل العام المتأخر محمول على الخاص لأن ما تناوله الخاص متيقن وما تناوله العام مظنون ا ه.
والجبائي يزعم أن النسخ بالإجماع ولعله أراد أنه كاشف عن ناسخ وإلا فالإجماع لا يكون ناسخا كما بين في علم الأصول ، نعم في تحقق الإجماع هنا كلام ، واعترض هذا الوجه بأنه يلزم عليه حل نكاح المشرك للمسلمة ، وأقول : إن نكاح الكافر للمسلمة كان حلالا قبل الهجرة وبعدها إلى سنة الست وفيها بعد الحديبية نزلت آية التحريم كما صرح بذلك العلامة ابن حجر الهيتمي وغيره ، وقد صح أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم زوج بنته زينب رضي اللّه تعالى عنها لأبي

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 286
العاص بن الربيع قبل البعثة وبعث عليه الصلاة والسلام ثم هاجر وهاجرت معه وهي في نكاح أبي العاص ولم يكن مؤمنا إذ ذاك واستمر الأمر على ذلك إلى سنة الست فلما نزلت آية التحريم لم يلبث إلا يسيرا حتى جاء وأظهر إسلامه رضي اللّه تعالى عنه فردها صلّى اللّه عليه وسلّم له بنكاحه الأول.
فيحتمل أن يكون النكاح المذكور حلالا عند نزول الآية التي من فيها بأن يكون نزولها قبل سنة الست ثم نسخ ، وفي هذه السورة آيات نصوا على أن نزولها كان قبل ذلك وهي قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ [النور :
11] إلخ قال : إنها نزلت عام غزوة بني المصطلق وكانت سنة خمس لليلتين خلتا من شعبان فلعل هذه الآية من هذا القبيل بل في أثر رواه ابن أبي شيبة عن ابن جبير وذكره العراقي وابن حجر ما ظاهره أن هذه الآية مكية فإذا انضم هذا إلى ما روي عن ابن المسيب وقال به الشافعي يكون فيها نسخان لكن لم أر من نبه على ذلك ، وإذا صح كان هذا الوجه أقل من الأوجه السابقة مؤنة وكأني بك لا تفضل عليه غيره.
وذهب قوم إلى أن حرمة التزوج بالزانية أو من الزاني إن لم تظهر التوبة من الزنا باقية إلى الآن ، وعندهم أنه إن زنى أحد الزوجين يفسد النكاح بينهما ، وقال بعضهم : لا ينفسخ إلا أن الرجل يؤمر بطلاق زوجته إذا زنت فإن أمسكها أثم ، وعند بعض من العلماء أن الزنا عيب من العيوب التي يثبت بها الخبار فلو تزوجت برجل فبان لها أنه ممن يعرف بالزنا ثبت لها الخيار في البقاء معه أو فراقه ، وعن الحسن أن حرمة نكاح الزاني للعفيفة إنما هي فيما إذا كان مجلودا وكذا حرمة نكاح العفيف للزانية إنما هي إذا كانت مجلودة فالمجلود عنده لا يتزوج إلا مجلودة والمجلودة لا يتزوجها إلا مجلود وهو موافق لما في بعض الأخبار.
فقد أخرج أبو داود وابن المنذر وجماعة عن أبي هريرة قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله»
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر «أن رجلا تزوج امرأة ثم إنه زنى فأقيم عليه الحد فجاؤوا به إلى عليّ كرم اللّه تعالى وجهه ففرق بينه وبين امرأته وقال له : لا تتزوج إلا مجلودة مثلك
،
وعن ابن مسعود والبراء بن عازب أن من زنى بامرأة لا يجوز له أن يتزوجها أصلا ، وأبو بكر الصديق وابن عمر وابن عباس وجابر وجماعة من التابعين والأئمة على خلافه.
واستدل على ذلك بما
أخرجه الطبراني والدارقطني من حديث عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت : «سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن رجل زنى بامرأة وأراد أن يتزوجها فقال : الحرام لا يحرم الحلال»
هذا ومن أضعف ما قيل في الآية : إنه يجوز أن يكون معناها ما في الحديث من أن من زنى تزني امرأته ومن زنت يزني زوجها فتأمل جميع ذاك واللّه عز وجل يتولى سداك.
وقرأ أبو البرهسم «وحرّم» بالبناء للفاعل وهو اللّه تعالى ، وزيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما «وحرم» بفتح الحرم وضم الراء وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ شروع في بيان حكم من نسب الزنا إلى غيره بعد بيان حكم من فعله ، والموصول على ما اختاره العلامة الثاني في التلويح منصوب بفعل محذوف يدل فعل الأمر بعد عليه أي اجلدوا الذين ، ويجوز أن يكون في محل رفع على الابتداء ولا يخفى عليك خبره والآية نزلت في امرأة عويمر كما في صحيح البخاري ، وعن سعيد بن جبير أنها نزلت بسبب قصة الإفك والرمي مجاز عن الشتم.
وجرح اللسان كجرح اليد والمراد الرمي بالزنا كما يدل عليه إيراد ذلك عقيب الزواني مع جعل المفعول الْمُحْصَناتِ الدال على النزاهة عن الزنا وهذا كالصريح في ذلك ، وربما يدعى أن اشتراط أربعة من الشهود يشهدون بتحقق ما رمي به كما يدل عليه قوله تعالى : ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً قرينة

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 287
على المراد بناء على العلم بأنه لا شيء يتوقف ثبوته بالشهادة على شهادة أربعة إلا الزنا ، والظاهر أن المراد النساء المحصنات وعليه يكون ثبوت وجوب جلد رامي المحصن بدلالة النص للقطع بإلغاء الفارق وهو صفة الأنوثة واستقلال دفع عار ما نسب إليه بالتأثير بحيث لا يتوقف فهمه على ثبوت أهلية الاجتهاد ، وكذا ثبوت وجوب جلد رامية المحصن أو المحصنة بتلك الدلالة وإلا فالذين يرمون للجمع المذكر ، وتخصيص الذكور في جانب الرامي والإناث في جانب المرمي لخصوص الواقعة ، وقيل المراد الفروج المحصنات وفيه أن إسناد الرمي يأباه مع ما فيه من التوصيف بالمحصنات من مخالفة الظاهر.
وقال ابن حزم وحكاه الزهراوي : المراد الأنفس المحصنات واستدل له أبو حيان بقوله تعالى : وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ [النساء : 24] فإنه لولا أن المحصنات صالح للعموم لم يقيد وتعقب بأن من النساء هناك قرينة على العموم ولا قرينة هنا ، وجعل كون حكم الرجال كذلك قرينة لا يخلو عن شيء فالأولى الاعتماد على ما تقدم والإحصان هنا ، وجعل كون حكم الرجال كذلك قرينة لا يخلو عن شيء فالأولى الاعتماد على ما تقدم والإحصان هنا لا يتحقق إلا بتحقق العفة عن الزنا وهو معناه المشهور وبالحرية والبلوغ والعقل والإسلام.
قال أبو بكر الرازي : ولا نعلم خلافا بين الفقهاء في ذلك ، ولعل غيره علم كما ستعلم إن شاء اللّه تعالى ، وثبوته بإقرار القاذف أو شهادة رجلين أو رجل وامرأتين خلافا لزفر ، ووجه اعتبار العفة عن الزنا ظاهر لكن في شرح الطحاوي في الكلام على العفة عدم الاقتصار على كونها عن الزنا حيث قال فيها : بأن لم يكن وطئ امرأة بالزنا ولا بشبهة ولا بنكاح فاسد في عمره فإن كان فعل ذلك مرة يريد النكاح الفاسد تسقط عدالته ولا حد على قاذفه ، وكذا لو وطئ في غير الملك كما إذا وطئ جارية مشتركة بينه وبين غيره سقطت عدالته ، ولو وطئ في الملك إلا أنه محرم فإنه ينظر إن كانت الحرمة مؤقتة لا تسقط عدالته كما إذا وطئ امرأته في الحيض أو أمته المجوسية ، وإن كانت مؤبدة سقطت عدالته كما إذا وطئ أمته وهي أخته من الرضاعة.
ولو مس امرأة أو نظر إلى فرجها بشهوة ثم تزوج بنتها فدخل بها أو أمها لا يسقط إحصانه عند أبي حنيفة عليه الرحمة «1» وعندهما يسقط ، ولو وطئ امرأة بالنكاح ثم تزوج بها سقط إحصانه انتهى.
والمذكور في غير كتاب أن أبا حنيفة يشترط في سقوط الحد عن قاذف الواطئ في الحرمة المؤبدة كون تلك الحرمة ثابتة بحديث مشهور كحرمة وطء المنكوحة بلا شهود الثابتة
بقوله عليه الصلاة والسلام : «لا نكاح إلا بشهود»
وهو حديث مشهور أو ثابتة بالإجماع كموطوءة أبيه بالنكاح أو بملك اليمين لو تزوجها الابن أو اشتراها فوطئها ، ومثل ذلك عنده وطء مزنيته فإنه لا يعتبر الخلاف عند ثبوت الحرمة بالنص وهنا قد ثبتت به لقوله تعالى :
وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء : 22] وإنما يعتبره إذا ثبتت بقياس أو احتياط كثبوتها بالنظر إلى الفرج والمس بشهوة فإن ثبوتها فيما ذكر لإقامة السبب مقام المسبب احتياطا ، ومن هذا يعلم حال فروع كثيرة فليحفظ ، وما ذكر من سقوط إحصان من وطئ أمته وهي أخته من الرضاع فيه خلاف الكرخي فإنه قال : لا يسقط الإحصان بوطئها وهو قول الشافعي ومالك وأحمد لقيام الملك فكان كوطء أمته المجوسية ، وفيه أن الحرمة في وطء المجوسية يمكن ارتفاعها فتكون مؤقتة وحرمة الرضاع لا يمكن ارتفاعها فلم يكن المحل قابلا للحل أصلا ، واشترط في الملك أن لا يظهر فساده بالاستحقاق فلو اشترى جارية فوطئها ثم استحقت فقذفه إنسان لا يحد. وفي كافي
___________
(1) وكذا عند الأئمة الثلاثة ا ه منه.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 288
الحاكم والقهستاني والفتح أن الوطء في الشراء الفاسد يسقط الحد عن القاذف وحمله بعضهم على ما ذكرنا ، وقال بعض الأجلة : كما يشترط العفة عن الزنا يشترط السلامة عن تهمته ويحترز به عن قذف ذات ولد ليس له أب معروف فإنهم ذكروا أنه لا يحد قاذفها لمكان التهمة ، وقد ذكر ذلك الحصكفي في باب اللعان من شرح تنوير الأبصار ، ولا تقاس اللواطة على الزنا فلو قذف بها لا يحد القاذف خلافا لأبي يوسف ومحمد وقد اختلفا في أحكام كثيرة ذكرها زين الدين في بحره ، وأما اعتبار الحرية فلأنها يطلق عليها اسم الإحصان قال اللّه تعالى : فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ فإن المراد بالمحصنات فيه الحرائر فالرقيق ليس محصنا بهذا المعنى وكونه محصنا بمعنى آخر كالإسلام وغيره فيكون محصنا من وجه دون وجه وذلك شبهة في إحصانه فوجب درء الحد عن قاذفه فلا يحد حتى يكون محصنا بجميع المفهومات التي يطلق عليها لفظ الإحصان إلا ما أجمع على عدم اعتباره في تحقق الإحصان وهو كون المقذوفة زوجة أو كون المقذوف زوجا فإنه جاء بمعناه في قوله تعالى : وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ [النساء : 24] أي المتزوجات ولا يعتبر في إحصان القذف بل في إحصان الرجم ، ثم لا شك في أن الإحصان أطلق بمعنى الحرية كما سمعت وبمعنى الإسلام في قوله عز وجل : فَإِذا أُحْصِنَّ [النساء : 25] قال ابن مسعود :
أسلمن وهذا يكفي في إثبات اعتبار الإسلام في الإحصان ، وعن داود عدم اشتراط الحرية وأنه يحد قاذف العبد وأما اعتبار العقل والبلوغ ففيه إجماع إلا ما روي عن أحمد عليه الرحمة من أن الصبي الذي يجامع مثله محصن فيحد قاذفه ، والأصح عنه موافقة الجماعة ، وقول مالك في الصبية التي يجامع مثلها يحد قاذفها خصوصا إذا كانت مراهقة فإن الحد لعلة إلحاق العار ومثلها يلحقه العار ، وكذا قوله وقول الليث : إنه يحد قاذف المجنون لذلك والجماعة يمنعون كون الصبي والمجنون يلحقهما العار بنسبتهما إلى الزنا بل ربما يضحك من ناسبهما إليه إما لعدم صحة قصده منهما وإما لعدم مخاطبتهما بالمحرمات وما أشبه ذلك ، ولو فرضنا لحوق عار بالمراهق فليس ذلك على الكمال فيندرئ الحد ، ومثل الصبي والمجنون في أنه ربما يضحك من نسبة الزنا إليهما الرتقاء والمجبوب بل هما أولى بذلك لعدم تصوره فيهما ولذا لا يحد بقذفهما ، وإلا ما روي عن سعيد وابن أبي ليلى من أنه يحد بقذف الذمية إذا كان لها ولد مسلم ، وكذا ما قيل : إنه يحد بقذفها إذا كانت تحت مسلم ، ثم إن الإسلام والحرية إذا لم يكونا موجودين وقت الزنا المقذوف به بل كانا موجودين وقت القذف لا يفيدان شيئا فلو قذف امرأة مسلمة زنت في نصرانيتها أو رجلا مسلما زنى في نصرانيته وقال : زنيت وأنت كافرة أو زنيت وأنت كافر أو قذف معتقا زنى وهو عبد أو معتقة زنت وهي أمة وقال : زنيت أو زنيت وأنت عبد أو أنت أمة لا يحد ، وكذا المكاتب والمكاتبة والكافر الحربي إذا زنى في دار الحرب ثم أسلم ، ويفهم من كلامهم أن البلوغ والعقل كالإسلام والحرية في ذلك ، فقد صرحوا فيما إذا قال : زنيت وأنت صغيرة أو زنيت وأنت مجنون بأنه لا يحد ، وكان المدار في درء الحد الصدق في كل ذلك ، ومن هنا قال في المبسوط : إن الموطوءة إذا كانت مكرهة يسقط إحصانها ولا يحد قاذفها كما يسقط إحصان المكره الواطئ ولا يحد قاذفه لأن
الإكراه يسقط الإثم ولا يخرج الفعل به من أن يكون زنى ، لكن ذكر فيه أن من قذف زانيا لا حد عليه سواء قذفه بذلك الزنا بعينه أو بزنى آخر من جنسه أو أبهم في حالة القذف ، ووجه أن اللّه تعالى أوجب الحد على من رمى المتصف بالإحصان وبالزنا لا يبقى إحصان فلا يثبت الحد خلافا لإبراهيم وابن أبي ليلى ، نعم إذا كان القذف بزنا تاب عنه المقذوف يعزر القاذف ، وهذا يقتضي أنه لا يحتاج سقوط الحد في المسائل السابقة إلى التقييد فليتأمل ، ولو تزوج مجوسي بأمه أو بنته ثم أسلم ففسخ النكاح فقذفه مسلم في حال إسلامه يحد عند أبي حنيفة عليه الرحمة بناء على ما يراه من أن أنكحة المجوس لها حكم الصحة.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 289
وقال الإمامان : لا يحد بناء على أن ليس لها حكم الصحة وهو قول الأئمة الثلاثة ، ولا يعلم خلاف بين من يعتبر الحرية في الإحصان في أنه لا حد على من قذف مكاتبا مات وترك وفاء لتمكن الشبهة في شرط الحد وهو الإحصان لاختلاف الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم في أنه مات حرا أو عبدا وذلك يوجب درء الحد ولأنه يدرأ بالشبهة ، لا يحد من قذف أخرس فإن هناك احتمال أن يصدقه لو نطق ولا يعول على إشارته هنا وإن قالوا : إنها تقوم مقام عبارته في بعض الأحكام لقيام الاحتمال فيها ، واشترطوا أيضا أن يوجد الإحصان وقت الحد حتى لو ارتد المقذوف سقط الحد ولو أسلم بعد ، وكذا لو زنى أو وطئ وطأ حراما أو صار معتوها أو أخرس وبقي ذلك لم يحد كما في كافي الحاكم ، واشترطوا أيضا أن لا يموت قبل أن يحد القاذف لأن الحد لا يورث ، وأن لا يكون المقذوف ولد القاذف أو ولد ولده فلا يحد من قذف أحدهما إلى غير ذلك مما ستعلم بعضه إن شاء اللّه تعالى ، ولم يصرح أكثر الفقهاء بشروط القاذف ، ويفهم من كلامهم أنه يشترط فيه أن يكون - بالغا - فلا يحد الصبي إذا قذف ويعزر - عاقلا - فلا يحد المجنون ولا لسكران إلا إذا سكر بمحرم - ناطقا - فلا يحد الأخرس لعدم التصريح بالزنا ، وصرح بهذا ابن الشلبي عن النهاية - طائعا - فلا يحد المكره - قاذفا - في دار العدل. فلا يحد القاذف في دار
الحرب أو البغي ، وفي الآية إشارة إلى بعض ذلك ، ويحتمل أن يعد من الشروط كونه عالما بالحرمة حقيقة أو حكما بأن يكون ناشئا في دار الإسلام ، لكن في كافي الحاكم حربي دخل دار الإسلام بأمان فقذف مسلما يحد في قوله الأخير وهو قول صاحبيه ، وظاهره أنه يحد ولو كان قذفه في فور دخوله ، ولعل وجهه أن الزنا حرام في كل ملة فيحرم القذف به أيضا فلا يصدق بالجهل ، ويشترط أن يكون القذف بصريح الزنا بأي لسان كان كما صرح به جمع من الفقهاء وألحقوا به بعض ألفاظ ثبت الحد بها بالأثر والإجماع فيحد بقوله : زنيت أو زاني بياء ساكنة وكذا يا زانىء بهمزة مضمومة عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلافا لمحمد فلا يحد بذلك عنده لأنه حقيقة عنده في الصعود.
وتعقب بأن ذلك إنما يفهم منه إذا ذكر مقرونا بمحل الصعود ، على أنه ينبغي أن يكون المذهب أنه لو قيل مع ذكر محل الصعود في حالة الغضب والسباب يكون قذفا ، فقد جزم في المبسوط بالحد فيما إذا قال : زنأت في الجبل أو على الجبل في حالة الغضب ولو قال لامرأة : يا زاني حد اتفاقا ، وعلله في الجوهرة بأن الأصل في الكلام التذكير ، ولو قال للرجل : يا زانية لا يحد عند الإمام وأبي يوسف لأنه أحال كلامه فوصف الرجل بصفة المرأة ، وقال محمد : يحد لأن الهاء تدخل للمبالغة كما في علامة ، وأجيب بأن كونها للمبالغة مجاز بل هي لما عهد لها من التأنيث ولو كانت في ذلك حقيقة فالحد لا يجب للشك ، ويحد بقوله : أنت أزنى من فلان أو مني على ما في الظهيرية وهو الظاهر ، لكن في الفتح عن المبسوط أنه لا حد في أنت أزنى من فلان أو أزنى الناس ، وعلله في الجوهرة بأن معناه أنت أقدر على الزنا ، وفي الفتح بأن أفعل في مثله يستعمل للترجيح في العلم فكأنه قال : أنت أعلم بالزنا ، ولا يخفى أن قصد ذلك في حالة السباب بعيد ، وفي الخانية في أنت أزنى الناس أو أزنى من فلان الحد ، وفي أنت أزنى مني لا حد ، ولا يخفى أن التفرقة غير ظاهرة ، وقد يقال : إن قوله : أنت أزنى من فلان فيه نسبة فلان إلى الزنا وتشريك المخاطب معه في ذلك بخلاف أنت أزنى مني لأن فيه نسبة نفسه إلى الزنا وذلك غير قذف فلا يكون قذفا للمخاطب لأنه تشريك له فيما ليس بقذف ، ويحد بلست لأبيك لما فيه من نسبة الزنا إلى الأم ولما جاء في الأثر عن ابن مسعود لا حد إلا في قذف محصنة أو نفي رجل من أبيه ، وقيد بكونه في حالة الغضب إذ هو في حالة الرضا يراد به المعاتبة بنفي مشابهته له ، وذكر أن مقتضى القياس أن لا حد به مطلقا لجواز أن ينفى النسب من أبيه من غير أن تكون الأم زانية من كل وجه بأن تكون موطوءة بشبهة ولدت في عدة الواطئ لكن ترك ذلك للأثر ، ولا حد بالتعريض كأن يقول ما أنا بزان أو ليست أمي
زانية وبه قال الشافعي وسفيان الثوري وابن شبرمة والحسن بن صالح وهو الرواية المشهورة عن أحمد ، وقال مالك وهو رواية عن أحمد : يحد

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 290
بالتعريض لما روى الزهري عن سالم عن ابن عمر قال : كان عمر رضي اللّه تعالى عنه يضرب الحد بالتعريض ، وعن علي كرّم اللّه تعالى وجهه أنه جلد رجلا بالتعريض
، ولأنه إذا عرف المراد بدليله من القرينة صار كالصريح ، وللجماعة أن الشارع لم يعتبر مثله فإنه حرم صريح خطبة المتوفى عنها زوجها في العدة وأباح التعريض فقال سبحانه : وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا [البقرة : 235] وقال تعالى : وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ [البقرة :
235] فإذا ثبت من الشرع عدم اتحاد حكمهما في غير الحد لم يجز أن يعتبر مثله على وجه يوجب الحد المحتاط في درئه ، وهو أولى من الاستدلال بأنه صلّى اللّه عليه وسلّم لم يلزم الحد للذي قال : يا رسول اللّه إن امرأتي ولدت غلاما أسود يعرض بنفسه لأن إلزام حد القذف متوقف على الدعوى والمرأة لم تدع ذلك ، ولا حد بوطئك فلان وطأ حراما أو جامعك حراما أو فجرت بفلانة أو يا حرام زاده أو اذهب فقل لفلان : إنك زان فذهب الرسول فقال له ذلك عنه بأن قال : فلان يقول إنك زان لا إذا قال له : إنك زان فإنه يحد الرسول حينئذ ، واستيفاء ما فيه حد وما لا حد فيه في كتب الفقه ، وقولنا في كذا حد على إرادة إذا تحقق الشرط المفهوم من قوله سبحانه : ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا إلخ ، واشترط الإتيان بأربعة شهداء تشديدا على القاذف ، ويشترط كونهم رجالا لما صرحوا به من أنه لا مدخل لشهادة النساء في الحدود ، وظاهر إتيان التاء في العدد مشعر باشتراط كونهم كذلك ، ولا يشترط فيهم العدالة ليلزم من عدم الإتيان بأربعة شهداء عدول الجلد لما صرح به في الملتقط من أنه لو أتى بأربعة فساق فشهدوا أن الأمر كما قال درىء الحد عن القاذف والمقذوف والشهود ، ووجه ذلك أن في الفاسق نوع قصور وإن كان من أهل الأداء والتحمل ولذا لو قضى بشهادته نفذ عندنا فيثبت بشهادتهم شبهة الزنا فيسقط الحد عنهم وعن القاذف وكذا عن المقذوف لاشتراط العدالة في الثبوت ، ولو كانوا عميانا أو عبيدا أو محدودين في قذف فإنهم يحدون للقذف دون المشهود عليه لعدم أهلية الشهادة فيهم كما قيل.
والظاهر أن القاذف يحد أيضا لأن الشهود إذا حدوا مع أنهم إنما تكلموا على وجه الشهادة دون القذف فحد القاذف أولى ، والظاهر أن المراد ثم لم يأتوا بأربعة شهداء يشهدون على من رمي بأنه زنى ، والمتبادر أن يكون ذلك عن معاينة لكن قال في الفتح : لو شهد رجلان أو رجل وامرأتان على إقرار المقذوف بالزنا يدرأ عن القاذف الحد وكذا عن الثلاثة أي الرجل والمرأتين لأن الثابت بالبينة كالثابت فكأنا سمعنا إقراره بالزنا انتهى.
وأنت تعلم أن البينة على الإقرار لا تعتبر بالنسبة إلى حد المقذوف لأنه إن كان منكرا فقد رجع بالإنكار عن الإقرار وهو موجب لدرء الحد فتلغو البينة ، وإن أقر بشرطه لا تسمع فإنها إنما تسمع مع الإقرار في سبعة مواضع ليس هذا الموضع منها ، ويشترط اجتماع شهود الزنا في مجلس الحاكم بأن يأتوا إليه مجتمعين أو فرادى ويجتمعوا فيه ويقوم منهم إلى الحاكم واحد بعد واحد فإن لم يأتوا كذلك بأن أتوا متفرقين أو اجتمعوا خارج مجلس الحاكم ودخلوا واحدا بعد واحد لم تعتبر شهادتهم وحدوا حد القذف.
والظاهر أنه يجوز أن يكون أحد الشهود زوج المقذوفة لاندراجه في أربعة شُهَداءَ وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وروي ذلك عن الحسن والشعبي وقال مالك والشافعي : يلاعن الزوج وتحد الثلاثة ، وروي مثله عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وظاهر الآية أنه إذا لم يأت القاذف بتمام العدة بأن أتى باثنين أو ثلاثة منها جلد وحده ولا يجلد الشاهد إلا أن المأثور جلده ، فقد روي أنه شهد على المغيرة بالزنا شبل بن معبد البجلي وأبو بكرة وأخوه نافع وتوقف زياد فحد الثلاثة عمر رضي اللّه تعالى عنه بمحضر من الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم ولم ينكروا عليه وهم هم وفي كلمة ثُمَّ إشعار بجواز تأخير الإتيان بالشهود كما أن في كلمة لَمْ إشارة إلى تحقق العجز عن الإتيان بهم وتقرره.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 291
وفي غير كتاب من كتب الفروع لأصحابنا أن القاذف إذا عجز عن الشهود للحال واستأجل لإحضارهم زاعما أنهم في المصر يؤجل مقدار قيام الحاكم من مجلسه فإن عجز حد ولا يكفل ليذهب لطلبهم بل يحبس ويقال : ابعث إليهم من يحضرهم عند الإمام ، وأبي يوسف في أحد قوليه لأن سبب وجوب الحد ظهر عند الحاكم فلا يكون له أن يؤخر الحد لتضرر المقذوف بتأخير دفع العار عنه والتأخير مقدار قيامه من المجلس قليل لا يتضرر به ، وفي قول أبي يوسف الآخر وهو قول محمد يكفل أي بالنفس إلى ثلاثة أيام.
وكان أبو بكر الرازي يقول : مراد أبي حنيفة أن الحاكم لا يجبره على إعطاء الكفيل فأما إذا سمحت نفسه به فلا بأس لأن تسليم نفسه مستحق عليه والكفيل بالنفس إنما يطالب بهذا القدر ، وذكر ابن رستم عن محمد أنه إذا لم يكن له من يأتي بالشهود يبعث معه الحاكم واحدا ليرده عليه ، والأمر في قوله سبحانه : فَاجْلِدُوهُمْ لولاة الأمر ونوابهم.
والظاهر وجوب الجلد إن لم يطالب المقذوف وبه قال ابن ليلى ، وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي : لا يحد إلا بمطالبته. وقال مالك : كذلك إلا أن يكون الإمام سمعه يقذفه فيحده إن كان مع الإمام شهود عدول وإن لم يطالب المقذوف كذا قال أبو حيان وللمقذوف المطالبة وإن كان آمرا للقاذف بقذفه لأن بالأمر لا يسقط الحد كما نقل الحصكفي ذلك عن شرح التكملة ثم لا يخفى أن القول بأن القاذف لا يحد إلا بمطالبة المقذوف ظاهر في أن الحد حق العبد ويشهد لذلك أحكام كثيرة ذكرها أصحابنا. منها أنه لا تبطل الشهادة على ما يوجبه بالتقادم ، ومنها أنه لا يدفعه الرجوع عن الإقرار بموجبه. ومنها أنه يقام على المستأمن وإنما يؤاخذ المستأمن بما هو من حقوق العباد ، ومنها أنه يقدم استيفاؤه على استيفاء حد الزنا وحد السرقة وشرب الخمر ومنها أنه يقيمه القاضي بعلمه إذا علمه في أيام قضائه ولذا لو قذف بحضرته يحده.
وعندنا أحكام تشهد بأنه حق اللّه عز وجل. منها أن استيفاءه إلى الإمام وهو إنّما يتعين نائبا في استيفاء حق اللّه تعالى وأما حق العبد فاستيفاؤه إليه. ومنها أنه لا يحلف القاذف إذا أنكر سببه وهو القذف ولم تقم عليه بينة. ومنها أنه لا ينقلب مالا عند السقوط. ومنها أنه يتصف بالرق كسائر العقوبات الواجبة حقا له عز وجل ، وذكر ابن الهمام أنه لا خلاف في أن فيه حق اللّه تعالى وحق العبد إلا أن الشافعي مال إلى تغليب حق العبد باعتبار حاجته وغنى الحق سبحانه وتعالى ونحن صرنا إلى تغليب حق اللّه تعالى لأن ما للعبد من الحقوق يتولى استيفاءه مولاه فيصير حق العبد موجبا لتغليب حق اللّه تعالى لا مهدرا ولا كذلك عكسه أي لو غلب حق العبد لزم أن لا يستوفي حق اللّه عز وجل إلا بأن يجعل ولاية استيفائه إليه وذلك لا يجوز إلا بدليل ينصبه الشرع على إنابة العبد في الاستيفاء ولم يثبت ذلك بل الثابت هو استنابة الإمام حتى كان هو الذي يستوفيه كسائر الحدود التي هي حقه سبحانه وتعالى. ويتفرع على الخلاف أن من ثبت أنه قذف فمات قبل إقامة الحد على القاذف لا يورث عنه إقامة الحدّ عندنا إذ الإرث يجري في حقوق العباد بشرط كونها مالا أو ما يتصل بالمال «1» أو ما ينقلب إليه «2» وتورث عنده ، وأن الحد لا يسقط عندنا بعد ثبوته إلا أن يقول المقذوف : لم يقذفني أو كذب شهودي وحينئذ يظهر أن القذف لم يقع موجبا للحد لا أنه وقع ثم سقط بقوله ذلك وهو كما إذا صدقه المقذوف ، وقال زين الدين : إن المقذوف إذا عفا لم يكن للإمام استيفاء الحد
___________
(1) كالكفالة.
(2) كالقصاص.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 292
لعدم الطلب فإذا عاد وطلب يقيمه ويلغو العفو ، وعند الشافعي يصح العفو وعن أبي يوسف مثله ، وكأن المراد أنه إذا عفا سقط الحد ولا ينفع العود إلى المطالبة وأنه لا يجوز الاعتياض عنه عندنا وبه قال مالك ، وعنده يجوز وهو قول أحمد وأنه يجري فيه التداخل عندنا لا عنده وبقولنا قال مالك والثوري والشعبي والنخعي والزهري وقتادة وطاوس وحماد وأحمد في رواية حتى إذا حد إلا سوطا فقذف آخر فإنه يتم الأول ولا شيء للثاني.
وكذا إذا قذف واحدا مرات أو جماعة بكلمة مثل أنتم زناة أو بكلمات مثل أنت يا زيد زان وأنت يا عمرو زان وأنت يا بشر زان في يوم أو أيام يحد حدا واحدا إذا لم يتخلل حد بين القذفين.
ووافقنا الشافعي في الحد الواحد لقاذف جماعة بكلمة مرة واحدة ، وفي الظهيرية من قذف إنسانا فحد ثم قذفه ثانيا لم يحد ، والأصل فيه ما روي أن أبا بكرة لما شهد على المغيرة فحد لما سمعت كان يقول بعد ذلك في المحافل : أشهد إن المغيرة لزان فأراد عمر رضي اللّه تعالى عنه أن يحده ثانيا فمنعه علي كرم اللّه تعالى وجهه فرجع إلى قوله وصارت المسألة إجماعا ا ه ، والظاهر أن هذا فيما إذا قذفه ثانيا بالزنا الأول أو أطلق لحمل إطلاقه على الأول لأن المحدود بالقذف يكرر كلامه لإظهار صدقه فيما حد به كما فعل أبو بكرة فإنه لم يرد أن المغيرة لزان أنه زان غير الزنا الأول ، أما إذا قذفه بعد الحد بزنا آخر فإنه يحد به كما في الفتح.
وذكر صدر الإسلام أبو اليسر في مبسوطه الصحيح أن الغالب في هذا الحد حق العبد كما قال الشافعي لأن أكثر الأحكام تدل عليه والمعقول يشهد له وهو أن العبد ينتفع به على الخصوص ، وقد نص محمد في الأصل على أن حد القذف كالقصاص حق العبد ، وتفويضه إلى الإمام لأن كل أحد لا يهتدي إلى إقامته ولأنه ربما يريد المقذوف موته لحنقه فيقع متلفا ، وإنما لا يورث لأنه مجرد حق ليس مالا ولا بمنزلته فهو كخيار الشرط وحق الشفعة بخلاف القصاص فإنه ينقلب إلى المال ، وأيضا هو في معنى ملك العين لأن من له القصاص يملك إتلاف العين وملك الإتلاف ملك العين عند الناس فصار من عليه القصاص كالملك لمن له القصاص فيملكه الوارث في حق استيفاء القصاص ، وإنما لا يصح عفوه لأنه متعنت فيه لأنه رضا بالعار والرضا بالعار عار ولا يخفى ما في ذلك من الأبحاث.
والشافعي يستدل بالآية لعدم التدخل فإن مقتضاها ترتب الحكم على الوصف المشعر بالعلية فيتكرر بتكرره ويجاب بأن الإجماع لما كان على دفع الحدود بالشبهات كان مقيدا لما اقتضته الآية من التكرر عند التكرر بالتكرر الواقع من بعد الحد الأول بل هذا ضروري لظهور أن المخاطبين بالإقامة في قوله تعالى : فَاجْلِدُوهُمْ هم الحكام ولا يتعلق بهم هذا الخطاب إلا بعد الثبوت عندهم فكان حاصل الآية إيجاب الحد إذا ثبت عندهم السبب وهو الرمي وهو أعم من كونه بوصف الكثرة أو القلة فإذا ثبت وقوعه منه كثيرا كان موجبا للجلد ثمانين ليس غير فإذا جلد ذلك وقع الامتثال ، ثم هو عليه الرحمة ترك مقتضى التكرر بالتكرر فيما إذا قذف واحدا مرة ثم قذفه ثانيا بذلك الزنا فإنه لا يحد مرتين عنده أيضا ، وكذا في حد الزنا والشرب فإنه إذا زنى ألف مرة أو شرب كذلك لا يحد إلا مرة ، فالحق أن استدلاله بالآية لا يخلص فإنه ملجىء إلى ترك منها من آية أخرى وهي آية حد الزنا فيعود إلى أن هذا حق آدمي بخلاف الزنا فكان المبني هو إثبات أنه حق اللّه عز وجل أو حق العبد ، والنظر الدقيق يقتضي أن الغالب فيه حق اللّه سبحانه وتعالى فتدبر.
ثم الظاهر أن الرمي المراد في الآية لا يتوقف على حضور المرمي وخطابه فقذف المحصن حاضرا أو غائبا له الحكم المذكور كما في التتار خانية نقلا عن المضمرات واعتمده في الدرر ، ويدل على أن الغيبة كالحضور حده صلّى اللّه عليه وسلّم أهل الإفك مع أنه لم يشافه أحد منهم به من نزهها اللّه تعالى عنه ، فما في حاوي الزاهدي سمع من أناس كثيرة أن

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 293
فلانا يزني بفلانة فتكلم بما سمعه منهم مع آخر في غيبة فلان لا يجب حد القذف لأنه غيبة لا رمي وقذف بالزنا لأن الرمي والقذف به إنما يكون بالخطاب كقوله : يا زاني يا زانية ضعيف لا يعول عليه.
والظاهر أيضا أنه لا فرق بين رمي الحي ورمي الميت فإذا قال : أبوك زان أو أمك زانية كان قاذفا ويحد عند تحقق الشرط لا لو قال : جدك زان فإنه لا حد عليه لما في الظهيرية من أنه لا يدري أي جد هو ، وفي الفتح لأن في أجداده من هو كافر فلا يكون قاذفا ما لم يعين محصنا. ويطالب بحد القذف للميت من يقع القدح في نسبه بالقذف وهو الوالد وإن علا والولد وإن سفل ، ولا يطالبان عن غائب خلافا لابن أبي ليلى لعدم اليأس عن مطالبته ولأنه يجوز أن يصدق القاذف ، وولد البنت كولد الابن في هذا الفصل خلافا لما روي عن محمد ، وتثبت المطالبة للمحروم عن الميراث بقتل أو رق أو كفر ، نعم ليس للعبد أن يطالب مولاه بقذف أمه الحرة التي قذفها في حال موتها ، وعند زفر إذا كان الولد عبدا أو كافرا لا حق له فيها مطلقا ، وتثبت للأبعد مع وجود الأقرب فيطالب ولد الولد مع وجود الولد خلافا لزفر ولو عفا بعضهم كان لغيره المطالبة لأنها لدفع العار عن نفسه ، والأم كالأب تطالب بحد قذف ولدها لا أم الأم وأبوها ، ولا يطالب الابن أباه وجده وإن علا بقذف أمه وهو قول الشافعي وأحمد ورواية عن مالك ، والمشهور عنه أن للابن أن يطالب الأب بقذف الأم فيقيم عليه الحد وهو قول أبي ثور وابن المنذر لعموم الآية أو إطلاقها ولأنه حد هو حق اللّه عز وجل ولا يمنع من إقامته قرابة الولاد.
وأجيب بأن عموم قوله تعالى : فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ [الإسراء : 23] مانع من إقامة الولد الحد على أبيه ولا فائدة للمطالبة سوى ذلك والمانع مقدم وقد صح أنه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «لا يقاد الوالد بولده ولا السيد بعبده»
وأجمعوا على أنه لا يقتص منه بقتل ولده ولا شك أن إهدار جنايته على نفس الولد توجب إهدارها في عرضه بطريق الأولى مع أن القصاص متيقن سببه والمغلب فيه حق العبد بخلاف حد القذف فيهما ، ولا حق لأخي الميت وعمه وعمته وخاله وخالته في المطالبة بحد قذفه.
وعند الشافعي ومالك عليهما الرحمة تثبت المطالبة لكل وارث وهو رواية غريبة عن محمد ، وللشافعية فيمن يرثه ثلاثة أوجه ، الأول جميع الورثة. والثاني غير الوارث بالزوجية. والثالث ذكور العصبات لا غير. والظاهر أن مطالبة من له المطالبة بالحد غير واجبة عليه بل في التتار خانية وحسن أن لا يرفع القاذف إلى القاضي ولا يطالب بالحد وحسن من الإمام أن يقول للمطالب أعرض عنه ودعه ا ه.
وكأنه لا فرق في هذا بين أن يعلم الطالب صدق القاذف وأن يعلم كذبه وما نقل في القنية من أن المقذوف إذا كان غير عفيف في السر له مطالبة القاذف ديانة فيه نظر لا يخفى ، وظاهر الآية أنه لا فرق بين أن يكون الرامي حرا وأن يكون عبدا فيجلد كل منهما إذا قذف وتحقق الشرط ثمانين جلدة ، وبذلك قال عبد اللّه بن مسعود والأوزاعي وجمهور الأئمة على أن العبد ينصف له الحد لما علمت أول السورة وإذا أريد إقامة الحد على القاذف لا يجرد من ثيابه إلا في قول مالك لأن سببه هو النسبة إلى الزنا كذبا غير مقطوع به لجواز كونه صادقا غير أنه عاجز عن البيان.
نعم ينزع عنه الفرو والثوب المحشو لأنهما يمنعان من وصول الألم إليه كذا في عامة الكتب ، ومقتضاه أنه لو كان عليه ثوب ذو بطانة غير محشو لا ينزع ، والظاهر كما في الفتح أنه لو كان هذا الثوب فوق قميص نزع لأنه يصير مع القميص كالمحشو أو قريبا من ذلك ويمنع إيصال الألم وكيف لا والضرب هنا أخف من ضرب الزنا ، هذا وقرأ أبو

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 294
زرعة وعبد اللّه بن مسلم «بأربعة» بالتنوين فشهداء بدل أو صفة ، وقيل حال أو تمييز وليس بذاك ، وهي قراءة فصيحة ورجحها ابن جني على قراءة الجمهور بناء على إطلاق قولهم : إنه إذا اجتمع اسم العدد والصفة كان الإتباع أجود من الإضافة.
وتعقب بأن ذاك إذا لم تجر الصفة مجرى الأسماء في مباشرتها العوامل وأما إذا جرت ذلك المجرى فحكمها حكمها في العدد وغيره غاية ما في الباب أنه يجوز فيها الإبدال بعد العدد نظرا إلى أنها غير متمحضة الاسمية وشُهَداءَ من ذلك القبيل. فأربعة شهداء. بالإضافة أفصح من «أربعة شهداء» بالتنوين والاتباع. وقال ابن عطية :
وسيبويه يرى أن تنوين العدد وترك إضافته إنما يجوز في الشعر انتهى ، وكأنه أراد الطعن في هذه القراءة على هذا القول ، وفيه أن سيبويه إنما يرى ذلك في العدد الذي بعده اسم نحو ثلاثة رجال دون الذي بعده صفة فإنه على التفصيل الذي ذكر كما قال أبو حيان.
وقوله سبحانه : وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً أي مدة حياتهم كما هو الظاهر عطف على فَاجْلِدُوا داخل في حكمه تتمة له كأنه قيل : فاجلدوهم وردوا شهادتهم أي فاجمعوا لهم الجلد والرد ، ورد شهادتهم عند الإمام أبي حنيفة عليه الرحمة معلق باستيفاء الجلد فلو شهدوا قبل الجلد أو قبل تمام استيفائه قبلت شهادتهم ، وقيل : ترد إذا ضربوا سوطا ، وقيل : ترد إذا أقيم عليهم الأكثر ، ومن الغريب ما روى ابن الهمام عن مالك أنه مع قوله : إن للابن أن يطالب بحد والده إذا قذف أمه قال : إنه إذا حد الأب سقطت عدالة الابن لمباشرته سبب عقوبة أبيه أي وكذا عدالة الأب وهذا ظاهر ، وقوله تعالى : وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ كلام مستأنف مبين لسوء حالهم في حكم اللّه عز وجل ، وما في اسم الإشارة من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الشر والفساد أي أولئك هم المحكوم عليهم بالفسق والخروج عن الطاعة والتجاوز عن الحدود الكاملون فيه كأنهم المستحقون لإطلاق اسم الفاسق عليهم لا غيرهم من الفسقة ، ويعلم مما أشرنا إليه أنهم فسقة عند الشرع الحاكم بالظاهر لا أنهم كذلك في نفس الأمر وعند اللّه عز وجل العالم بالسرائر لاحتمال صدقهم مع عجزهم عن الإتيان بالشهداء كما لا يخفى ، وصرح بهذا بعض المفسرين.
وجوز أن يكون المراد الإخبار عن فسقهم عند اللّه تعالى وفي علمه ، ووجهه إذا كانوا كاذبين ظاهر ، وأما وجهه إذا كانوا صادقين فهو أنهم هتكوا ستر المؤمنين وأوقعوا السامع في الشك من غير مصلحة دينية بذلك والعرض مما أمر اللّه تعالى بصونه إذا لم يتعلق بهتكه مصلحة فكانوا فسقة غير ممتثلين أمره عز وجل ، ولا يخفى حسن حمل الآية على هذا المعنى وهو أوفق لما ذكره الحصكفي في شرح الملتقى نقلا عن النجم الغزي من أن الرمي بالزنا من الكبائر وإن كان الرامي صادقا ولا شهود له عليه ولو من الوالد لولده وإن لم يحد به بل يعزر ولو غير محصن وشرط الفقهاء الإحصان إنما هو لوجوب الحد لا لكونه كبيرة ، وقد روى الطبراني عن واثلة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : «من قذف ذميا حد له يوم القيامة بسياط من نار»
وهذه مسألة مختلف فيها ، ففي شرح جمع الجوامع للعلامة المحلي قال الحليمي :
قذف الصغيرة والمملوكة والحرة المتهتكة من الصغائر لأن الإيذاء في قذفهن دونه الحرة الكبيرة المستترة ، وقال ابن عبد السلام : قذف المحصن في خلوة بحيث لا يسمعه إلا اللّه تعالى والحفظة ليس بكبيرة موجبة للحد لانتفاء المفسدة أما قذف الرجل زوجته إذا أتت بولد يعلم أنه ليس منه فمباح ، وكذا جرح الراوي والشاهد بالزنا إذا علم بل هو واجب انتهى ، وظاهر ما نقل عن ابن عبد السلام ففي إيجاب الحد لا نفي كونه كبيرة أيضا لشيوع توجه النفي إلى القيد في مثله ، وإن قلنا : إنه هنا لنفي القيد والمقيد فهو ظاهر كما قال الزركشي فيما إذا كان صادقا لا فيما إذا كان كاذبا لجرأته على اللّه تعالى جل شأنه فهو كبيرة وإن كان في الخلوة ، ولعل ما ذكره من وجوب جرح الشاهد بالزنا

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 295
إذا علم مقيد بما إذا قدر على الإتيان بالشهود ، والأولى عندي فيما إذا كان الضرر في قبول شهادته عليه يسيرا عدم الجرح بذلك وإن قدر على إثباته ، وما ذكره في جرح الراوي لا يتم فيما أرى على رأي من يعتبر الجرح المجرد عن بيان السبب ، ولا يبعد القول بأن الرمي منه ما هو كفر كرمي عائشة رضي اللّه تعالى عنها سواء كان جهرا أو سرا وسواء كان بخصوص الذي برأها اللّه تعالى منه أو بغيره وكذا رمي سائر أمهات المؤمنين رضي اللّه تعالى عنهن وكذا القول في مريم عليها السلام ، ومنه ما هو كبيرة دون الكفر ومثاله ظاهر ، ومنه ما هو صغيرة كرمي المملوكة والصغيرة ، ومنه ما هو واجب كرمي شاهد على مسلم معصوم الدم بما يكون سببا لقتله لو قبلت شهادته وعلم كونها زورا وتعين ذلك لرد شهادته وصيانة ذلك المسلم من القتل ولو كان رميه مع إقامة البينة عليه بالزنا موجبا لرجمه ، ومنه ما هو سنة كرمي ترتبت عليه مصلحة دون مصلحة الرمي الواجب ، وقوله تعالى : إِلَّا الَّذِينَ تابُوا أي رجعوا عما قالوا وندموا على ما تكلموا استثناء من الفاسقين كما صرح به أكثر الأصحاب ، وقال بعضهم : المستثنى منه في الحقيقة أُولئِكَ وسيأتي إن شاء اللّه تعالى ما يتعلق بذلك ، ومحل المستثنى النصب لأنه عن موجب ، وقوله عز وجل : مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لتهويل المتوب عنه أي من بعد ما اقترفوا ذلك الذنب العظيم الهائل ، وقوله تعالى : وَأَصْلَحُوا على معنى وأصلحوا أعمالهم بالاستحلال ممن رموه. وهذا ظاهر إن كان قد بقي حيا فإن كان قد مات فلعل الاستغفار له يقوم مقام الاستحلال منه كما قيل في نظير المسألة. فإن كانوا قد رموا أمواتا فالظاهر أنهم يستحلون ممن خاصمهم وطلب إقامة الحد عليهم ، ويحتمل أن يغني عنه الاستغفار لمن رموه. والجمع بين الاستحلال من أولئك المخاصمين والاستغفار للمرميين أولى ولم أر من تعرض لذلك.
وكون الاستثناء من الجملة الأخيرة مذهب الحنفية فعندهم لا تقبل شهادة المحدود في قذف وإن تاب وأصلح لكن قالوا : إن حد الكافر ثم أسلم قبلت شهادته وإن لم تكن تقبل قبل على أهل الذمة ، ووجهه أن النص موجب لرد شهادته الناشئة عن أهليته الثابتة له عند القذف ولذا قيل : وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً دون ولا تقبلوا شهادتهم أي ولا تقبلوا منهم شهادة من الشهادات حال كونها حاصلة لهم عند الرمي والشهادة التي كانت حاصلة للكافر عند الرمي هي الشهادة على أبناء جنسه فتدخل تحت الرد ، وأما الشهادة التي اعتبرت بعد الإسلام فغير تلك الشهادة ولهذا قبلت على أهل الإسلام وغيرهم فلم تدخل تحت الرد ، وهذا بخلاف العبد إذا حد في قذف ثم أعتق فإنه لا تقبل شهادته لأنه لم تكن له شهادة من قبل للرق فلزم كون تتميم حده بر شهادته التي تجددت له ، وقد طلب الفرق بينه وبين من زنى في دار الحرب ثم خرج إلى دار الإسلام فإنه لا يحد حيث توقف حكم الموجب في العبد إلى أن أمكن ولم يتوقف في الزنا في دار الحرب إلى الإمكان بالخروج إلى دار الإسلام.
وأجيب بأن الزنا في دار الحرب لم يقع موجبا أصلا لعدم قدرة الإمام فلم يكن الإمام مخاطبا بإقامته أصلا لأن القدرة شرط التكليف فلو حد بعد خروجه من غير سبب آخر كان بلا موجب وغير الموجب لا ينقلب موجبا بنفسه خصوصا في الحد المطلوب درؤه ، وأما قذف العبد فموجب حال صدوره للحد غير أنه لم يكن تمامه في الحال فتوقف تتميمه على حدوث ذلك بعد العتق كذا قيل ، وقال في المبسوط في الفرق بين الكافر إذا أسلم بعد الحد والعبد إذا أعتق بعده : إن الكافر استفاد بالإسلام عدالة لم تكن موجودة له عند إقامة الحد وهذه العدالة لم تكن مجروحة بخلاف العبد فإنه بالعتق لا يستفيد عدالة لم تكن من قبل وقد صارت عدالته مجروحة بإقامة الحد ، ثم لا فرق في العبد بين أن يكون حد ثم أعتق وبين أن يكون أعتق ثم حد حيث لم تقبل شهادته في الصورتين ، وأما الكافر فإنه لو قذف محصنا ثم أسلم ثم حد لا تقبل شهادته ، ومقتضى الآية عدم قبول كل شهادة للمحدود حادثة كانت أو

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 296
قديمة لما أن شَهادَةً نكرة وهي واقعة في حيز النهي فتفيد العموم كالنكرة الواقعة في حيز النفي ، وهذا يعكر على ما مر من قبول شهادة الكافر المحدود إذا أسلم ، وأجاب العلامة ابن الهمام بأن التكليف بما في الوسع وقد كلف الحكام برد شهادته فالامتثال إنما يتحقق برد شهادة قائمة فحيث ردت تحقق الامتثال وتم وقد حدثت أخرى فلو ردت كانت غير مقتضى إذ الموجب أخذ مقتضاه وللبحث فيه مجال ، ومقتضى العموم أيضا عدم قبول شهادة المحدود في الديانات غيرها وهي رواية المنتقى ، وفي رواية أخرى أنها تقبل في الديانات وكأنهم اعتبروها رواية وخبرا لا شهادة ورب شخص ترد شهادته وتقبل روايته ، وأورد على العموم أنهم اكتفوا في النكاح بشهادة المحدودين.
وأجيب بأن الشهادة هناك بمعنى الحضور وإنما يكتفى به في انعقاد النكاح وقد صرحوا بأن للنكاح حكمين حكم الانعقاد وحكم الإظهار ولا يقبل في الثاني إلا شهادة من تقبل شهادته في سائر الأحكام كما في شرح الطحاوي والحاصل أن الآية تدل على وجوب رد شهادة المحدود على الحكام بمعنى أنه إذا شهد عندهم على حكم وجب عليهم رد شهادته ويندرج في ذلك شهادته في النكاح لأنه يشهد عندهم إذا وقع التجاحد فلا يعكر على العموم اعتبار حضوره مجلس النكاح في صحة انعقاده إذ ذلك أمر وراء ما نحن فيه كذا قيل فليتدبر ، وذهب الشافعي إلى قبول شهادة المحدود إذا تاب ، والمراد بتوبته أن يكذب نفسه في قذفه ، ومبنى الخلاف على المشهور الخلاف فيما إذا جاء استثناء بعد جمل مقترنة بالواو هل ينصرف للجملة الأخيرة أو إلى الكل أو هناك تفصيل فالذي ذهب إليه أصحاب الشافعي انصرافه إلى الكل ، والذي ذهب إليه أصحاب أبي حنيفة انصرافه للجملة الأخيرة ، وقال القاضي عبد الجبار وأبو الحسين البصري وجماعة من المعتزلة إن كان الشروع في الجملة الثانية إضرابا عن الأولى ولا يضمر فيها شيء مما في الأولى فالاستثناء مختص بالجملة الأخيرة لأن الظاهر أنه لم ينتقل عن الجملة الأولى مع استقلالها بنفسها إلى غيرها إلا وقد تم مقصوده منها وذلك على أربعة أقسام ، الأول أن تختلف الجملتان نوعا كما لو قال : أكرم بني تميم والنحاة البصريون إلا البغاددة إذ الجملة الأولى أمر والثانية خبر ، الثاني أن يتحدا نوعا ويختلفا اسما وحكما كما لو قال : أكرم بني تميم واضرب ربيعة إلا الطوال إذ هما أمران ، الثالث أن يتحدا نوعا ويشتركا حكما لا اسما كما لو قال :
سلم على بني تميم وسلم على بني ربيعة إلا الطوال ، الرابع أن يتحدا نوعا ويشتركا اسما لا حكما ولا يشترك الحكمان في غرض من الأغراض كما لو قال : سلم علي بني تميم واستأجر بني تميم إلا الطوال ، وقوة اقتضاء اختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة في هذه الأقسام على هذا الترتيب وإن لم يكن الشروع في الجملة الثانية إضرابا عن الأولى بأن كان بين الجملتين نوع تعلق فالاستثناء ينصرف إلى الكل وذلك على أربعة أقسام ، الأول أن يتحد الجملتان نوعا واسما لا حكما غير أن الحكمين قد اشتركا في غرض واحد كما لو قال : أكرم بني تميم وسلم على بني تميم إلا الطوال لاشتراكهما في غرض الإعظام ، الثاني أن يتحد الجملتان نوعا ويختلفا حكما واسم الأولى مضمر في الثانية كما لو قال : أكرم بني تميم واستأجرهم إلا الطوال ، الثالث بعكس ما قبله كما لو قال : أكرم بني تميم وربيعة إلا الطوال ، الرابع أن يختلف نوع الجمل إلا أنه قد أضمر في الأخيرة ما تقدم أو كان غرض الأحكام المختلفة فيها واحدا ، وجعل آية الرمي التي نحن فيها من ذلك حيث قيل : إن جملها مختلفة النوع من حيث إن قوله تعالى :
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً أمر وقوله سبحانه : وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً نهي وقوله جل وعلا : وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ خبر وهي داخلة أيضا تحت القسم الأول من هذه الأقسام الأربعة لاشتراك أحكام هذه الجمل في غرض الانتقام والإهانة وداخلة أيضا تحت القسم الثاني من جهة إضمار الاسم المتقدم فيها ، وذهب الشريف المرتضى من الشيعة إلى القول بالاشتراك وذهب القاضي أبو بكر والغزالي وجماعة إلى الوقف ، وقال الآمدي : المختار أنه مهما ظهر كون الواو للابتداء فالاستثناء يكون مختصا بالجملة الأخيرة كما في القسم الأول من الأقسام الثمانية لعدم تعلق إحدى

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 297
الجملتين بالأخرى وهو ظاهر وحيث أمكن أن تكون الواو للعطف أو للابتداء كما في باقي الأقسام السبعة فالواجب الوقف ، وذكر حجج المذاهب بما لها وعليها في الأحكام ، وفي التلويح وغيره أنه لا خلاف في جواز رجوع الاستثناء إلى كل وإنما الخلاف في الأظهر وفيه نظر فإن بعض حجج القائلين برجوعه إلى الجملة الأخيرة قد استدل بما يدل على عدم جواز رجوعه للجميع ، قال القلانسي : إن نصب ما بعد الاستثناء في الإثبات إنما كان بالفعل المتقدم بإعانة إلا على ما ذهب إليه أكابر البصريين فلو قيل برجوعه إلى الجميع لكان ما بعد إلا منتصبا بالأفعال المقدرة في كل جملة ويلزم منه اجتماع عاملين على معمول واحد وذلك لا يجوز لأنه بتقدير مضادة أحدهما للآخر في العمل يلزم أن يكون المعمول الواحد مرفوعا منصوبا معا وهو محال ولأنه إن كان كل منهما مستقلا في العمل لزم عدم استقلاله ضرورة أنه لا معنى لكون كل مستقلا إلا أن الحكم ثبت به دون غيره وإن لم يكن كل منهما مستقلا لزم خلاف المفروض ، وإن كان المستقل البعض دون البعض لزم الترجيح بلا مرجح ، ووجه دلالته وإن بحث فيه على عدم جواز رجوعه للجميع ظاهر وكما اختلف الأصوليون في ذلك اختلف النحاة فيه ففي شرح اللمع أنه يختص بالأخيرة وأن تعليقه بالجميع خطأ للزوم تعدد العامل في معمول واحد إلا على القول بأن العامل إلا أو تمام الكلام.
وقال أبو حيان : لم أر من تكلم على هذه المسألة من النحاة غير المهاباذي وابن مالك فاختار ابن مالك عود الاستثناء إلى الجمل كلها كالشرط ، واختار المهاباذي عوده إلى الجملة الأخيرة ، وقال الولي بن العراقي : لم يطلق ابن مالك عوده إلى الجمل كلها بل استثنى من ذلك ما إذا اختلف العامل والمعمول كقولك : اكس الفقراء وأطعم أبناء السبيل إلا من كان مبتدعا فقال في هذه الصورة : إنه يعود إلى الأخيرة خاصة ، ونقل عن أبي علي الفارسي القول برجوعه إلى الأخيرة مطلقا وهذا كقول الحنفية في المشهور ، والحق أنهم إنما يقولون برجوعه إلى الأخيرة فقط إذا تجرد الكلام عن دليل رجوعه إلى الكل أما إذا وجد الدليل عمل به وذلك كما في قوله تعالى في المحاربين : أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا إلى قوله سبحانه : إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فإن قوله تعالى : مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [المائدة : 33 ، 34] يقتضي رجوعه إلى الكل فإنه لو عاد إلى الأخيرة أعني قوله سبحانه : وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ لم يبق للتقييد بذلك فائدة للعلم لأن التوبة تسقط العذاب فليس فائدة «من قبل» إلخ إلا سقوط الحد وعلى مثل ذلك ينبغي حمل قول الشافعية بأن يقال : إنهم أرادوا رجوع الاستثناء إلى الكل إذا لم يكن دليل يقتضي رجوعه إلى الأخيرة.
وذكر بعض أجلة المحققين أن الحنفية إنما قالوا برجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة هنا لأن الجملتين الأوليين وردتا جزاء لأنهما أخرجتا بلفظ الطلب مخاطبا بهما الأئمة ولا يضر اختلافهما أمرا ونهيا والجملة الأخيرة مستأنفة بصيغة الإخبار دفعا لتوهم استبعاد كون القذف سببا لوجوب العقوبة التي تندرئ بالشبهة وهي قائمة هنا لأن القذف خبر يحتمل الصدق وربما يكون حسبة ، ووجه الدفع أنهم فسقوا بهتك ستر العفة بلا فائدة حيث عجزوا عن الإثبات فلذا استحقوا العقوبة وحيث كانت مستأنفة توجه الاستثناء إليها.
ونقل عن الشافعي أنه جعل وَلا تَقْبَلُوا استئنافا منقطعا عن الجملة السابقة وأبى أن يكون من تتمة الحد لأنه لا مناسبة بين الجلد وعدم قبول الشهادة وجعل الاستثناء مصروفا إليه بجعل من تاب مستثنى من ضمير لَهُمْ ويكون قوله تعالى : وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ اعتراضا جاريا مجرى التعليل لعدم قبول الشهادة غير منقطع عما قبله ولهذا جاز توسطه بين المستثنى والمستثنى منه ولا تعلق للاستثناء به ، وآثر ذلك ابن الحاجب في أماليه حيث قال : إن الاستثناء لا يرجع إلى الكل أما الجلد فبالاتفاق ، وأما قوله تعالى : وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ فلأنه إنما جيء به لتقرير

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 298
منع الشهادة فلم يبق إلا الجملة الثانية فيرجع إليها ، وتعقب بأن استئناف وَلا تَقْبَلُوا إلخ في غاية البعد ، والمراد من عدم قبول الشهادة ردها ومناسبته للجلد ظاهرة لأن كلّا منهما مؤلم زاجر عن ارتكاب جريمة الرمي وكم من شخص لا يتألم بالضرب كما يتألم برد شهادته ، وربما يقال : إن رد الشهادة قطع للآلة الخائنة معنى وهي اللسان فيكون كقطع اليد حقيقة في السرقة ، ومن أنصف رأى مناسبته للجلد أتم من مناسبة التغريب له لأن التغريب ربما يكون سببا لزيادة الوقوع في الزنا لقلة من يراقب ويستحي منه في الغربة وقد تضطر المرأة إذا غربت إلى ما يسد رمقها فتسلم نفسها لتحصيل ذلك ، وأيضا الجلد فعل يلزم على الإمام فعله والرد المراد من عدم القبول كذلك وقد خوطب بكلتا الجملتين الإنشائيتين لفظا ومعنى الأئمة وبهذا يقوى أمر المناسبة.
واعترض الزيلعي على القول بأن جملة وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ تعليل لرد الشهادة فقال : لا جائز أن يكون رد شهادته لفسقه لأن الثابت بالنص في خبر الفاسق هو التوقف لقوله تعالى : إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات :
6] لا الرد وعلة الرد هنا ليست إلا أنه حد انتهى ، وفيه نظر ولم يجعل الشافعي على هذا النقل الجملة المذكورة مع كونها جارية مجرى التعليل لما قبلها معطوفة عليه لما قال غير واحد من أن العطف بالواو يمنع قصد التعليل لرد الشهادة بسبب الفسق لأن العلة لا تعطف على الحكم بالواو بل إنما تذكر بالفاء ، وكذا ينبغي أن لا تكون معطوفة على ما أشير إليه سابقا من أنها علة لاستحقاق العقوبة إذ ذلك غير منطوق ، وانتصر للشافعي عليه الرحمة فيما ذهب إليه من قبول شهادته إذا تاب بأنه إذا جعلت الجملة تعليلا للرد يتم ذلك ولو سلم رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة من الجمل المتعاقبة بالواو وجوب زوال الحكم بزوال العلة ، ولا أظنه يدفع إلا بالتزام أنها ليست للتعليل.
وقال بعضهم : لا انقطاع بين الجمل عند الشافعي ومقتضى أصله المشهور رجوع الاستثناء إلى الجميع فيلزم حينئذ سقوط الجلد بالتوبة لكنه لا يقول بذلك لأن تحقيق مذهبه أن الرجوع إلى الكل قد يعدل عنه وذلك عند قيام الدليل وظهور المانع والمانع هنا من رجوعه إلى الجملة الأولى على ما قيل الإجماع على عدم سقوط الجلد بالتوبة لما فيه من حق العبد ، وأولى منه ما أومأ إليه القاضي البيضاوي من أن الاستسلام للجلد من تتمة التوبة فكيف يعود إليه ، ولا يمكن أن يقال : إن عدم قبول الشهادة والتفسيق من تتمتها أيضا كما لا يخفى ، وقيل يجوز أن تخرج الآية على أصله المشهور ، ولا مانع من رجوع الاستثناء إلى الجملة الأولى أيضا لما أن المستثنى هو الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا ومن جملة الإصلاح الاستحلال وطلب العفو من المقذوف وعند وقوع ذلك يسقط الجلد أيضا ، وفيه أن كون طلب العفو من الإصلاح غير نافع لأن الجلد لا يسقط بطلب العفو بل العفو وهو ليس من جملة هذا الإصلاح إذ العفو فعل المقذوف وهذا الإصلاح فعل القاذف فلم يصح صرف الاستثناء إلى الكل كما هو أصله المشهور.
وقال الزمخشري : الذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن يكون الجمل الثلاث بمجموعهن جزاء الشرط ، والمعنى من قذف فاجمعوا لهم بين الأجزئة الثلاثة إلا الذين تابوا منهم فيعودون غير مجلودين ولا مردودي الشهادة ولا مفسقين ، قال في الكشف : وهذا جار على أصل الشافعي من أن الاستثناء يرجع إلى الكل وانضم إليه هاهنا أن الجمل دخلت في حيز الشرط فصرن كالمفردات ، وتعقب القول بدخول قوله تعالى : وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ في حيز الجزاء بأن دليل عدم المشاركة في الشرط يقتضي عدم الدخول فإنه جملة خبرية غير مخاطب بها الأئمة لإفراد الكاف في أُولئِكَ فهو عطف على الجملة الاسمية أي الذين يرمون إلخ أو مستأنف لحكاية حال الرامين عند الشرع ، وأورد عليه أن عطف الخبر على الإنشاء وعكسه لاختلاف الأغراض شائعان في الكلام وأن إفراد كاف الخطاب مع

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 299
الإشارة جائز في خطاب الجماعة كقوله تعالى : ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ [البقرة : 52] على أن التحقيق أن الَّذِينَ يَرْمُونَ منصوب بفعل محذوف أي اجلدوا الذين إلخ فهو أيضا جملة فعلية إنشائية مخاطب بها الأئمة فالمانع المذكور قائم هنا زيادة العدول عن الأقرب إلى الأبعد ولو سلم أن الَّذِينَ مبتدأ فلا بد في الإنشائية الواقعة موقع الخبر من تأويل وصرف عن الإنشائية عند الأكثر وحينئذ يصح عطف أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ عليه ، وقال الزمخشري : معنى أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ فسقوهم والإنصاف يحكم بعدم ظهور دخول الجملة الأخيرة في حيز الجزاء وجميع ما ذكروه إنما يفيد الصحة لا الظهور.
ولعل الظاهر أنها استئناف تذييلي لبيان سوء حال الرامين في حكم اللّه تعالى وحينئذ عود الاستئناف إليه ظاهر ، لا يقال ، إن ذلك ينفي الفائدة لأنه معلوم شرعا أن التوبة تزيل الفسق من غير هذه الآية لأنا نقول : لا شبهة في أن العلم بذلك من طريق السمع وقد ذكر الدال عليه منه وكون آية أخرى تفيده لا يضر للقطع بأن طريق القرآن تكرار الدوال خصوصا إذا كان التأكيد مطلوبا ، هذا وإلى ما ذهب إليه أبو حنيفة من عدم قبول شهادة المحدود في القذف إذا تاب ذهب الحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وقد روى ذلك عن كل الجلال السيوطي في الدر المنثور وإلى ما ذهب إليه الشافعي من قبول شهادته ذهب مالك وأحمد ، وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز وطاوس ومجاهد والشعبي والزهري ومحارب وشريح ومعاوية بن قرة وعكرمة وسعيد بن جبير على ما ذكره الطيبي وعد ابن جبير من القائلين كقول الشافعي يخالفه ما سمعت آنفا ، وعد ابن الهمام شريحا ممن قال كقول أبي حنيفة وعن ابن عباس روايتان ، وفي صحيح البخاري جلد عمر رضي اللّه عنه أبا بكرة وشبل بن معبد ونافعا بقذف المغيرة ثم استتابهم ، وقال من تاب قبلت شهادته ، ومن تتبع تحقق أن أكثر الفقهاء قائلون كقول الشافعي عليه الرحمة ودعوى إجماع فقهاء التابعين عليه غير صحيحة كما لا يخفى واللّه تعالى أعلم ، ووجه التعليل المستفاد من قوله تعالى : فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ على القولين ظاهر لكن قيل إنه على قول أبي حنيفة أظهر وهو تعليل لما يفيده الاستثناء ولا محل من الإعراب ، وجوز أبو البقاء كون الَّذِينَ مبتدأ وهذه الجملة خبره والرابط محذوف أي لهم.
واختار الجمهور الاستئناف والاستثناء وهو على ما ذهب إليه أصحابنا منقطع ، وبينه أبو زيد الدبوسي في التقويم بما حاصله أن المستثنى وإن دخل في الصدر لكن لم يقصد إخراجه من حكمه على ما هو معنى الاستثناء المتصل بل قصد إثبات حكم آخر له وهو أن التائب لا يبقى فاسقا ، وتعقبه العلامة الثاني بأنه إنما يتم إذا لم يكن معنى هُمُ الْفاسِقُونَ الثبات والدوام وإلا فلا تعذر للاتصال فلا وجه للانقطاع ، وبينه فخر الإسلام بأن المستثنى غير داخل في صدر الكلام لأن التائب ليس بفاسق ضرورة إنه عبارة عمن قام به الفسق والتائب ليس كذلك لزوال الفسق بالتوبة ، وهذا مبني على أنه يشترط في حقيقة اسم الفاعل بقاء معنى الفعل ، وأما إذا لم يشترط ذلك فيتحقق التناول لكن لا يصح الإخراج لأن التائب ليس بمخرج ممن كان فاسقا في الزمان الماضي.
واعترض بأن المستثنى منه على تقدير اتصال الاستثناء ليس هو الفاسقين بل الذين حكم عليهم بذلك وهم الذين يرمون المشار إليه بقوله تعالى : وَأُولئِكَ ولا شك أن التائبين داخلون فيهم مخرجون عن حكمهم وهو الفسق كأنه قيل جميع القاذفين فاسقون إلا التائبين منهم كما يقال القوم منطلقون إلا زيدا استثناء متصلا بناء على أن زيدا داخل في القوم مخرج عن حكم الانطلاق فيصح الاستثناء المتصل سواء جعل المستثنى منه بحسب اللفظ هو القوم أو الضمير المستتر في منطلقون بناء على أنه أقرب وأن عمل الصفة في المستثنى أظهر ، وليس المراد أن المستثنى منه لفظا هو لفظ القوم البتة وإذا جعل المستثنى منه ضمير منطلقون فمعنى الكلام إن زيدا داخل في الذوات المحكوم

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 300
عليهم بالإطلاق مخرج عن حكم الانطلاق كما في قولنا : انطلق القوم إلا زيدا وكذا الكلام في الآية.
وأجيب بأن الفاسقين هاهنا إما أن يكون بمعنى الفاسق على قصد الدوام والثبات أو بمعنى من صدر عنه الفسق في الزمان الماضي أو من قام به الفسق في الجملة ماضيا كان أو حالا فإن أريد الأول فالتائب ليس بفاسق ضرورة قضاء الشارع بأن التائب ليس بفاسق حقيقة ، ومن شرط الاستثناء المتصل أن يكون الحكم متناولا للمستثنى على تقدير السكوت عن الاستثناء وهذا مراد فخر الإسلام بعدم تناول الفاسقين للتائبين بخلاف منطلقون فإنه يدخل فيه زيد على تقدير عدم الاستثناء وإن أريد الثاني أو الثالث فلا صحة لإخراج التائب عن الفاسقين لأنه فاسق بمعنى صدور الفسق عنه في الجملة ضرورة أنه قاذف والقذف فسق.
ولا يخفى أن منع عدم دخول التائبين في الفاسقين بالمعنى الذي ذكرنا ومنع عدم صحة إخراجهم عنهم بالمعنى الآخر غير موجه وأن الاستدلال على دخولهم بأنه قد حكم بالفسق على أُولئِكَ المشار به إلى الَّذِينَ يَرْمُونَ وهو عام ليس بصحيح للإجماع القاطع على أنه لا فسق مع التوبة ، وكفى به مخصصا ا ه. وفيه أن الإجماع لا يكون مخصصا فيما نحن فيه لكونه متراخيا عن النص ضرورة أنه لا إجماع إلا بعد زمان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فالحكم بالفسق على أُولئِكَ المشار به إلى الَّذِينَ يَرْمُونَ وهو عام فيتم الاستدلال.
وأجيب عن هذا بأن المراد بالتخصيص قصر العام على بعض ما يتناوله اللفظ لا التخصيص المصطلح وهو كما ترى وفي قوله : ومن شرط الاستثناء المتصل إلخ بحث يعلم مما سيأتي إن شاء اللّه تعالى قريبا ، وقال العلامة : الظاهر كون الاستثناء متصلا أي أولئك الذين يرمون محكوم عليهم بالفسق إلا التائبين منهم فإنه غير محكوم عليهم بالفسق لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له وكأنه أراد أنهم غير محكوم عليهم بالفسق الدائم وهو المحكوم به عليهم في الصدر بقرينة الجملة الاسمية.
وذكر بعض الأفاضل في توجيه كونه متصلا أن دخول المستثنى في المستثنى منه إنما يكون باعتبار تناول المستثنى منه وشموله إياه لا بحسب ثبوته له في الواقع كيف ولو ثبت الحكم له صح استثناؤه فهاهنا الَّذِينَ يَرْمُونَ شامل للتائبين منهم فلا يضر في صحة الاستثناء أنهم ليسوا بفاسقين وأن التوبة تنافي ثبوت الفسق كما إذا لم يدخل زيد في الانطلاق فإنه يصح استثناؤه باعتبار دخوله في القوم مثل انطلق القوم إلا زيدا.
والحاصل أنه يكفي في الاستثناء دخول المستثنى في حكم المستثنى منه بحسب دلالة اللفظ وإن لم يدخل فيه بحسب دليل خارج كما يقال : خلق اللّه تعالى كل شيء إلا ذاته سبحانه وصفاته العلى ، قال العلامة : ويمكن الجواب عن هذا بأنه لا فائدة للاستثناء المتصل على هذا التقدير لأن خروج المستثنى من حكم المستثنى منه معلوم فيحمل على المنقطع المفيد لفائدة جديدة وهذا مراد فخر الإسلام بعدم دخول التائبين في صدر الكلام وبحث فيه بأن عدم التناول الشرعي مستفاد من الاستثناء المذكور في الآية والحديث أعني التائب من الذنب كمن لا ذنب له مبين له فلا وجه لمنع وجود الفائدة وبأن كون خروج المستثنى من حكم المستثنى منه معلوما هنا غير معلوم لمكان الخلاف في اشتراط بقاء الفعل وبأن الفائدة الجديدة في المنقطع التي يعرى عنها المتصل غير ظاهرة ، وقال أيضا : لا يقال لم لا يجوز أن يكون المستثنى منه هو الفاسقون ويكون الاستثناء لإخراج التائبين منهم في الحكم الذي هو الحمل على أولئك القاذفين والإثبات له فإن الاستثناء كما يجوز من المحكوم به يجوز من غيره كما يقال : كرام أهل بلدتنا أغنياؤهم إلا زيدا بمعنى أن زيدا وإن كان غنيا لكنه خارج عن الحمل على الكرام لأنا نقول : فحينئذ يلزم أن يكون التائبون من الفاسقين ولا يكونوا من القاذفين والأمر بالعكس ، وقد يقال : إن الاستثناء منقطع على معنى أنهم

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 301
فاسقون في جميع الأحوال إلا حال التوبة ، ولا يخفى أنه يحتاج إلى تكليف في التقدير أي إلا حال توبة الذين إلخ أو إلا توبة القاذفين أي وقت توبتهم على أن يجعل الَّذِينَ حرفا مصدريا لا اسما موصولا وضمير تابُوا عائدا على أُولئِكَ وبعد اللتيا والتي يكون الاستثناء مفرغا متصلا لا منقطعا انتهى فتأمل.
[سورة النور (24) : الآيات 6 إلى 20]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ [النور : 6. 20] بيان لحكم الرامين لأزواجهم خاصة وهو ناسخ لعموم المحصنات وكانوا قبل نزول هذه الآية يفهمون من آية وَالَّذِينَ يَرْمُونَ إلخ أن حكم [النور : 4] من رمى الأجنبية وحكم من رمى زوجته سواء
فقد أخرج أبو داود وجماعة عن ابن عباس قال : لما نزلت والَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ [النور : 4] الآية قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار : أهكذا أنزلت يا رسول اللّه؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم؟ قالوا : يا رسول اللّه لا تلمه فإنه رجل غيور واللّه ما تزوج امرأة قط إلا بكرا وما طلق امرأة فاجترأ رجل منا على أن يتزوجها من شدة غيرته فقال : سعد واللّه يا رسول اللّه إني لأعلم أنها حق وأنها من عند اللّه تعالى ولكني تعجبت أني لو وجدت لكاعا قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء فو اللّه لا آتي بهم حتى يقضي حاجته قال : فما لبثوا يسيرا حتى جاء هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم فغدا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : يا رسول إني جئت أهلي «1» عشاء فوجدت عندها رجلا «2» فرأيت بعيني
___________
(1) اسمها خولة بنت عاصم ا ه منه.
(2) هو شريك بن سحماء كما في صحيح البخاري ا ه منه.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 302
وسمعت بأذني فكره رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما جاء به واشتد عليه واجتمعت الأنصار فقالوا : قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة الآن يضرب رسول اللّه عليه الصلاة والسلام هلال بن أمية وتبطل شهادته في المسلمين فقال هلال : واللّه إني لأرجو أن يجعل اللّه تعالى لي منها مخرجا فقال : يا رسول اللّه إني قد أرى ما اشتد عليك مما جئت به واللّه تعالى يعلم إني لصادق فو اللّه إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يريد أن يأمر بضربه إذ نزل على رسول اللّه عليه الصلاة والسلام الوحي وكان إذا نزل عليه عليه الصلاة والسلام الوحي عرفوا ذلك في تربد جلده فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي فنزلت وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ الآية فسري عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال أبشر يا هلال قد كنت أرجو ذلك من ربي ، وقال عليه الصلاة والسلام أرسلوا إليها فجاءت فتلاها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عليهما وذكرهما وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا فقال :
هلال واللّه يا رسول اللّه لقد صدقت عليها فقالت : كذب فقال : رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «لاعنوا بينهما» الحديث
،
ومنه وكذا من رواية أخرى ذكرها البخاري في صحيحه والترمذي : وابن ماجة يعلم أن قصة هلال سبب نزول الآية ، وقيل : نزلت في عاصم بن عدي ، وقيل : في عويمر بن نصر العجلاني وفي صحيح البخاري ما يشهد له بل قال السهيلي إن هذا هو الصحيح ونسب غيره للخطأ ، والمشهور كما في البحر أن نازلة هلال قبل نازلة عويمر ، وأخرج أبو يعلى. وابن مردويه عن أنس أنه قال : لأول لعان كان في الإسلام ما وقع بين هلال بن أمية وزوجته ، ونقل الخفاجي هنا عن السبكي إشكالا وأنه قال : إنه إشكال صعب وارد على آية اللعان والسرقة والزنا وهو أن ما تضمن الشرط نص في العلية مع الفاء ومحتمل لها بدونها ولتنزيله منزلة الشرط يكون ما تضمنه من الحدث مستقبلا لا ماضيا فلا ينسحب حكمه على ما قبله ولا يشمل ما قبله من سبب النزول ، وتعقبه بأنه لا صعوبة فيه بل هو أسهل من شرب الماء البارد في حر الصيف لأن هذا وأمثاله معناه إن أردتم معرفة هذا الحكم فهو كذا فالمستقبل معرفة حكمه وتنفيذه وهو مستقبل في سبب النزول وغيره ، والقرينة على أن المراد هذا أنها نزلت في أمر ماض أريد بين حكمه ولذا قالوا : دخول سبب النزول قطعي.
ولا حاجة إلى القول بأن الشرط قد يدخل على الماضي ولا أن ما تضمن الشرط لا يلزمه مساواته لصريحه من كل وجه ولا أن دخول ما ذكر بدلالة النص لفساده هنا انتهى ، ثم إن المراد هنا نظير ما مر والذين يرمون بالزنا أزواجهم المدخول بهن وغير المدخول بهن وكذا المعتدات في طلاق رجعي وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ أربعة يشهدون بما رموهن به من الزنا. وقرىء «تكن» بالتاء الفوقية وقراءة الجمهور أفصح إِلَّا أَنْفُسُهُمْ بدل من شُهَداءُ لأن الكلام غير موجب والمختار فيه الإبدال أو إلا بمعنى غير صفة لشهداء ظهر إعرابها على ما بعدها لكونها على صورة الحرف كما قالوا في أل الموصولة الداخلة على أسماء الفاعلين مثلا ، وفي جعلهم من جملة الشهداء إيذان كما قيل من أول الأمر بعدم إلغاء قولهم بالمرة ونظمه في سلك الشهادة وبذلك ازداد حسن إضافة الشهادة إليهم في قوله تعالى :
فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أي شهادة كل واحد منهم وهو مبتدأ وقوله سبحانه : أَرْبَعُ شَهاداتٍ خبره أي فشهادتهم المشروعة أربع شهادات بِاللَّهِ متعلق بشهادات ، وجوز بعضهم تعلقه بشهادة.
وتعقب بأنه يلزم حينئذ الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي وهو الخبر ، وأنت تعلم أن في كون الخبر أجنبيا كلاما وأن بعض النحويين أجاز الفصل مطلقا وبعضهم أجازه فيما إذا كان المعمول ظرفا كما هنا.
وقرأ الأكثر «أربع» بالنصب على المصدرية والعامل فيه «شهادة» وهي خبر مبتدأ محذوف أي فالواجب شهادة أو مبتدأ خبره محذوف أي فعليهم شهادة أو فشهادة أحدهم أربع شهادات باللّه واجبة أو كافية ، ولا خلاف في جواز تعلق الجار على هذه القراءة بكل من الشهادة والشهادات وإنما الخلاف في الأولى إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ أي فيما

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 303
رماها به من الزنا ، والأصل على أنه إلخ فحذف الجار وكسرت إن وعلق العامل عنها باللام للتأكيد ، ولا يختص التعليق بأفعال القلوب بل يكون فيما يجري مجراها ومنه الشهادة لإفادتها العلم ، وجوز أن تكون الجملة جوابا للقسم بناء على أن الشهادة هنا بمعنى القسم حتى قال الراغب. إنه يفهم منها ذلك وإن لم يذكر بِاللَّهِ وسيأتي إن شاء اللّه تعالى تحقيق ذلك وَالْخامِسَةُ أي والشهادة الخامسة للأربع المتقدمة أي الجاعلة لها خمسا بانضمامها إليهن ، وإفرادها مع كونها شهادة أيضا لاستقلالها بالفحوى ووكادتها في إفادتها ما يقصده بالشهادة من تحقيق الخبر وإظهار الصدق ، وهي مبتدأ خبره قوله تعالى : أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ فيما رماها به من الزنا وَيَدْرَؤُا أي يدفع عَنْهَا الْعَذابَ أي العذاب الدنيوي وهو الحبس عندنا والحد عند الشافعي ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى تحقيق الكلام فيه أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ أي الزوج لَمِنَ الْكاذِبِينَ فيما رماها به من الزنا وَالْخامِسَةَ بالنصب عطفا على أَرْبَعَ شَهاداتٍ وقوله تعالى : أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ أي الزوج مِنَ الصَّادِقِينَ فيما رماها به من الزنا بتقدير حرف الجر أي بأن غضب إلخ ، وجوز أن تكون أَنَّ وما بعدها بدلا من الْخامِسَةَ وتخصيص الغضب بجانب المرأة للتغليظ عليها لما أنها مادة الفجور ولأن النساء كثيرا ما يستعملن اللعن فربما يتجرين على التفوه به لسقوط وقعه عن قلوبهن بخلاف غضبه جل جلاله.
وقرأ طلحة والحسن والأعمش وخالد بن إياس بنصب الْخامِسَةُ في الموضعين وقد علمت وجه النصب في الثاني ، وأما وجه النصب في الأول فهو عطف الْخامِسَةَ على أَرْبَعَ شَهاداتٍ على قراءة من نصب أَرْبَعَ وجعلها مفعولا لفعل محذوف يدل عليه المعنى على قراءة من رفع أَرْبَعَ أي ويشهد الخامسة ، والكلام في أَنَّ لَعْنَتَ إلخ كما سمعت في أَنَّ غَضَبَ إلخ. وقرأ نافع أن لعنة بتخفيف أن ورفع لعنة وأن غضب بتخفيف أن وغضب فعل ماض والجلالة بعد مرفوعة ، وأن في الموضعين مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن ولم يؤت بأحد الفواصل بين قد والسين ولا بينها وبين الفعل في الموضع الثاني لكون الفعل في معنى الدعاء فما هناك نظير قوله تعالى : أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ [النمل : 8] فلا غرابة في هذه القراءة خلافا لما يوهمه كلام ابن عطية.
وقرأ الحسن وأبو رجاء ، وقتادة وعيسى وسلام وعمرو بن ميمون والأعرج ويعقوب بخلاف عنهما «أن لعنة» كقراءة نافع و«أن غضب» بتخفيف «أن» و«غضب» مصدر مرفوع ، هذا ظاهر قوله تعالى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ العموم والمذكور في كتب الأصحاب أنه يشترط في القاذف وزوجته التي قذفها أن يكون لهما أهلية أداء الشهادة على المسلم فلا يجري اللعان بين الكافرين والمملوكين ولا إذا كان أحدهما مملوكا أو صبيا أو مجنونا أو محدودا في قذف ، ويشترط في الزوجة كونها مع ذلك عفيفة عن الزنا وتهمته بأن لم توطأ حراما لعينه ولو مرة بشبهة أو بنكاح فاسد ولم يكن لها ولد بلا أب معروف في بلد القذف ، واشتراط هذا لأن اللعان قائم مقام حد القذف في حق الزوج كما يشير إليه ما قدمناه من الخبر لكن بالنسبة إلى كل زوجة على حدة لا مطلقا ألا ترى أنه لو قذف بكلمة أو كلمات أربع وزوجات له بالزنا لا يجزيه لعان واحد لهن بل لا بد أن يلاعن كلا منهن ، ولو قذف أربع أجنبيات كذلك حد حدا واحدا بهن ، فمتى لم تكن الزوجة ممن يحد قاذفها كما إذا لم تكن عفيفة لم يتحقق في قذفها ما يوجب الحد ليقام اللعان مقامه ، وأما اشتراط كونهما ممن له أهلية أداء الشهادة فلأن اللعان شهادات مؤكدات بالأيمان عندنا خلافا للشافعي فإنه عنده أيمان مؤكدة وهو الظاهر من قول مالك وأحمد فيقع ممن كان أهلا لليمين وهو ممن يملك الطلاق فكل من يملكه فهو أهل اللعان عنده فيكون من كل زوج عاقل وإن كان كافرا أو عبدا.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 304
واستدل على أن اللعان أيمان مؤكدة بقوله سبحانه : فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ وذلك أن قوله تعالى : بِاللَّهِ محكم في اليمين والشهادة محتملة لليمين ألا يرى أنه لو قال : أشهد ينوي به اليمين كان يمينا فيحمل المحتمل على المحكم لأن حمله على حقيقته متعذر لأن المعهود في الشرع عدم قبول شهادة الإنسان لنفسه بخلاف يمينه ، وكذا المعهود شرعا عدم تكرر الشهادة في موضع بخلاف اليمين فإن تكرره معهود في القسامة ، ولأن الشهادة محلها الإثبات واليمين للنفي فلا يتصور تعلق حقيقتهما بأمر واحد فوجب العمل بحقيقة أحدهما ومجاز الآخر فليكن المجاز لفظ الشهادة لما سمعت من الموجبين.
واستدل أصحابنا على أنه شهادات مؤكدة بأيمان بالآية أيضا لأن الحمل على الحقيقة يجب عند الإمكان وقوله سبحانه وتعالى : وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ أثبت أنهم شهداء لأن الاستثناء من النفي إثبات وجعل الشهداء مجازا عن الحالفين يصير المعنى ولم يكن لهم حالفون إلا أنفسهم وهو غير مستقيم لأنه يفيد أنه إذا لم يكن للذين يرمون أزواجهم من يحلف لهم يحلفون لأنفسهم وهذا فرع تصور حلف الإنسان لغيره ولا وجود له أصلا فلو كان معنى اليمين حقيقيا للفظ الشهادة كان هذا صارفا عنه إلى مجازه كيف وهو مجازي لها ولو لم يكن هذا كان إمكان العمل بالحقيقة موجبا لعدم الحمل على اليمين فكيف وهذا صارف عن المجاز وما توهم كونه صارفا مما ذكر غير لازم قوله قبول الشهادة لنفسه وتكرر الأداء لا عهد بهما قلنا : وكل من الحلف لغيره والحلف لإيجاب الحكم لا عهد به بل اليمين لرفع الحكم فإن جاز شرعية هذين الأمرين في محل بعينه ابتداء جاز أيضا شرعية ذلك ابتداء بل هي أقرب لعقلية كون التعدد في ذلك أربعا بدلا عما عجز عنه من إقامة شهود الزنا وهم أربع وعدم قبول الشهادة له عند التهمة ولذا تثبت عند عدمها أعظم ثبوت قال اللّه عز وجل : شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران : 18] فغير بعيد أن تشرع عند ضعفها بواسطة تأكيدها باليمين وإلزام اللعنة والغضب إن كان كاذبا مع عدم ترتب موجبها في حق كل من الشاهدين إذ موجب شهادة كل إقامة حد على الآخر وليس ذلك بثابت هنا بل الثابت عند الشهادتين هو الثابت بالأيمان وهو اندفاع موجب دعوى كل عن الآخر ، وإنما قيل عندهما ولم يقل بهما لأن هذا الاندفاع ليس موجب الشهادتين بل هو موجب تعارضهما ، وأما قوله : واليمين للنفي إلخ فمحله ما إذا وقعت في إنكار دعوى مدع وإلا فقد يحلف على إخبار بأمر نفي أو إثبات وهنا كذلك فإنها على صدقه في الشهادة ، والحق أنها على ما
وقعت الشهادة به وهو كونه من الصادقين فيما رماها به كما إذا جمع أيمانا على أمر واحد يخبر به فإن هذا هو حقيقة كونها مؤكدة للشهادة إذ لو اختلف متعلقهما لم يكن أحدهما مؤكدا للآخر.
وأورد على اشتراط الأهلية لأداء الشهادة أنهم قالوا : إن اللعان يجري بين الأعميين والفاسقين مع أنه لا أهلية لهما لذلك. ودفع بأنهما من أهل الأداء إلا أنه لا يقبل للفسق ولعدم تمييز الأعمى بين المشهود له وعليه وهنا هو قادر على أن يفصل بين نفسه وزوجته فيكون أهلا لهذه الشهادة دون غيرها ، وروى ابن المبارك عن أبي حنيفة أن الأعمى لا يلاعن وعمم القهستاني الأهلية فقال : ولو بحكم القاضي والفاسق يصح القضاء بشهادته وكذا الأعمى على القول بصحتها فيما يثبت بالتسامع كالموت والنكاح والنسب وهذا بخلاف المحدود بالقذف فإنه لا يصح القضاء بشهادته ، ولعل مراد ابن كمال باشا بقوله : لو قضى بشهادة المحدود بالقذف نفذ نفاذ الحكم بصحتها ممن يراها كشافعي على ما قيل وهو خلاف ظاهر كلامه كما لا يخفى على من رجع إليه ، ويشترط كون القذف في دار الإسلام وكونه بصريح الزنا فلا لعان بالقذف باللواط عند الإمام وعندهما فيه لعان ولا لعان بالقذف كناية وتعريضا والقذف بصريحه نحو أن يقال : أنت زانية أو يا زانية أو رأيتك تزنين ، والمشهور عن مالك أن القذف بالأولين يوجب الحد

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 305
والذي يوجب اللعان القذف بالأخير وهو قول الليث وعثمان ويحيى بن سعيد ، وضعف بأن الكل رمي بالزنا وهو السبب كما تدل عليه الآية فلا فرق ، وبمنزلة القذف بالصريح نفي نسب ولدها منه أو من غيره.
وفي المحيط والمبتغى إذا نفى الولد فقال : ليس هذا بابني ولم يقذفها بالزنا لا لعان بينهما لأن النفي ليس بقذف لها بالزنا يقينا لاحتمال أن يكون الولد من غيره بوطء شبهة وهو احتمال ساقط لا يلتفت إليه كما حققه زين في البحر ، ويشترط في وجوب اللعان طلب الزوجة في مجلس القاضي كما في البدائع إذا كان القذف بصريح الزنا لأن اللعان حقها فإنه لدفع العار عنها وبذلك قالت الأئمة الثلاثة أيضا ، وإذا كان القذف بنفي الولد فيشترط طلب القاذف لأنه حقه أيضا لاحتياجه إلى نفي من ليس ولده عنه ويجب عليه هذا النفي إذا تيقن أن الولد ليس منه لما في السكوت أو الإقرار من استلحاق نسب من ليس منه وهو حرام كنفي نسب من هو منه ، فقد روى أبو داود والنسائي أنه عليه الصلاة والسلام قال حين نزلت آية الملاعنة : «أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من اللّه تعالى في شيء ولن يدخلها اللّه تعالى جنته وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب اللّه عز وجل عنه يوم القيامة وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين» وإن احتمل أن يكون الولد منه فلا يجب بل قد يباح وقد يكون خلاف الأولى بحسب قوة الاحتمال وضعفه ، وقد يضعف الاحتمال إلى حد لا يباح معه النفي كأن أتت امرأته المعروفة بالعفاف بولد لا يشبهه
فعن أبي هريرة «أن رجلا قال للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم إن امرأتي ولدت غلاما أسود فقال : هل لك من إبل؟ قال : نعم قال ما ألوانها؟ قال : حمر قال : فهل فيها أورق؟ قال : نعم قال : فكيف ذلك؟ قال : نزعه عرق قال : فلعل هذا نزعه عرق»
وذكروا فيما إذا كانت متهمة برجل فأتت بولد يشبهه وجهين إباحة النفي وعدمها ، وأما القذف بصريح الزنا فمع التحقق يباح ويجوز أن يستر عليها ويمسكها لظاهر ما
روي من «أن رجلا قال : يا رسول اللّه إن امرأتي لا ترديد لامس قال طلقها قال : إني أحبها قال فأمسكها»
وفيه احتمال آخر ذكره شراح الحديث مع عدم التحقق لا يباح ذلك ، والأفضل للزوجة أن لا تطالب باللعان وتستر الأمر وللحاكم أن يأمرها وإذا طلبت وقد أقر الزوج بقذفها أو ثبت بالبينة وهي رجلان لا رجل وامرأتان إذ لا شهادة للنساء في الحدود ، وما في النهر والدر المنتقى من جواز ذلك سبق قلم لاعن إن كان مصرا وعجز عن البينة على زناها أو على إقرارها به أو على تصديقها له أو أقام البينة على ذلك ثم عمي الشاهدان أو فسقا أو ارتدا وهذا بخلاف ما إذا ماتا أو غابا بعد ما عدلا فإنه حينئذ لا يقضى باللعان فإن امتنع حد حد القذف وكذا إذا لاعن فامتنعت تحد عنده حد الزنا وعندنا تحبس حتى تلاعن أو تصدقه فيرتفع سبب وجوب لعانهما وهو التكاذب على ما قيل ، والأوجه كون السبب القذف والتكاذب شرطه : وكما لا لعان مع التصديق إذا كان بلفظ صدقت لا حد عليها ولو أعادت ذلك أربع مرات في مجالس متفرقة لأن التصديق المذكور ليس بإقرار قصدا وبالذات فلا يعتبر في وجوب الحد بل في درئه فيندفع به اللعان ولا يجب به الحد وكذا يندفع بذلك كما في كافي الحاكم الحد عن قاذفها بعد ولو صدقته في نفي الولد فلا حد ولا لعان أيضا وهو ولدهما لأن النسب إنما ينقطع بحكم اللعان ولم يوجد وهو حق الولد فلا يصدقان في إبطاله وما في شرحي الوقاية والنقاية من أنها إذا صدقته ينتفي غير صحيح كما نبه عليه في شرح الدرر والغرر.
ووجه قول الشافعي بالحد عند الامتناع أن الواجب بالقذف مطلقا الحد لعموم قوله سبحانه : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ إلخ إلا أنه يتمكن من دفعه فيما إذا كانت المقذوفة زوجة باللعان تخفيفا عليه فإذا لم يدفعه به يحد وكذا المرأة تلاعن بعد ما أوجب الزوج عليها اللعان بلعانه فإذا امتنعت حدت للزنا ويشير إليه قوله سبحانه وتعالى :
وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ ووجه قولنا إن قوله تعالى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ إلى قوله تعالى : فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 306
إلخ يفهم منه كيفما كانت القراءة أن الواجب في قذف الزوجات اللعان ولا ينكر ذلك إلا مكابر فإما أن يكون ناسخا أو مخصصا لعموم ذلك العام والظاهر عندنا كونه ناسخا لتراخي نزوله كما تشهد له الأخبار الصحيحة والمخصص لا يكون متراخي النزول وعلى التقديرين يلزم كون الحكم الثابت في قذف الزوجات إنما هو ما تضمنته الآية من اللعان حال قيام الزوجية كما هو الظاهر فلا يجب غيره عند الامتناع عن إيفائه بل يحبس لإيفائه كما في كل حق امتنع من هو عليه عن إيفائه ولم يتعين كون المراد من العذاب في الآية الحد لجواز كونه الحبس وإذا قام الدليل على أن اللعان هو الواجب وجب حمله عليه.
قيل : والعجب من الشافعي عليه الرحمة لا يقبل شهادة الزوج عليها بالزنا مع ثلاثة عدول ثم يوجب الحد عليها بقوله وحده وإن كان عبدا فاسقا ، وأعجب منه أن اللعان يمين عنده وهو لا يصلح لإيجاب المال ولا لإسقاطه بعد الوجوب وأسقط به كل من الرجل والمرأة الحد عن نفسه وأوجب به الرجم الذي هو أغلظ الحدود على المرأة ، فإن قال : إنما يوجب عليها لنكولها بامتناعها عن اللعان قلنا : هو أيضا من ذلك العجب فإن كون النكول إقرارا فيه شبهة والحد مما يندفع بها مع أنه غاية ما يكون بمنزلة إقراره مرة ، ثم إن هذه الشبهة أثرت عنده في منع إيجاب المال مع أنه يثبت مع الشبهة فكيف يوجب الرجم به وهو أغلظ الحدود وأصعبها إثباتا وأكثرها شروطا انتهى ، وليراجع في ذلك كتب الشافعية. وفي النهر نقلا عن الأسبيجابي أنهما يحبسان إذا امتنعا عن اللعان بعد الثبوت ، ثم قال : وينبغي حمله على ماذا لم تعف المرأة كما في البحر ، وعندي في حبسها بعد امتناعه نوع إشكال لأن اللعان لا يجب عليها إلا بعد لعانه فقبله ليس امتناعا لحق وجب عليها انتهى.
وأجاب الطحاوي بأنه بعد الترافع منهما صار إمضاء اللعان حق الشرع فإذا لم تعف وأظهرت الامتناع تحبس بخلاف ما إذا أبى هو فقط فلا تحبس انتهى.
وقيل : ليس المراد امتناعهما في آن واحد بل المراد امتناعه بعد المطالبة به وامتناعها بعد لعانه فتأمل.
والمتبادر من الشهادة ما كان قولا حقيقة ، ولذا قالوا : لا لعان لو كانا أخرسين أو أحدهما لفقد الركن وهو لفظ أشهد ، وعلل أيضا بأن هناك شبهة احتمال تصديق أحدهما للآخر لو كان ناطقا والحد يدرأ بالشبهة وكتابة الأخرس في هذا الفصل كإشارته لا يعول عليها ، وذكروا لو طرأ الخرس بعد اللعان قبل التفريق فلا تفريق ولا حد ، ويشعر ظاهر الآية بتقديم لعان الزوج وهو المأثور في السنة فلو بدأ القاضي بأمرها فلاعنت قبله فقد أخطأ السنة ولا يجب كما في الغاية أن تعيد لعانها بعد وبه قال مالك.
وفي البدائع ينبغي أن تعيد لأن اللعان شهادة المرأة وشهادتها تقدح في شهادة الزوج فلا تصح إلا بعد وجود شهادته ولهذا يبدأ بشهادة المدعي في باب الدعوى ثم بشهادة المدعى عليه بطريق الدفع له ، ونقل ذلك عن الشافعي وأحمد عليهما الرحمة وأشهب من المالكية ، والوجه ما تقدم فقد أعقب في الآية الرمي بشهادة أحدهم وشهادتها الدارئة عنها العذاب فيكون هذا المجموع بعد الرمي ، وليس في الآية ما يدل على الترتيب بين أجزاء المجموع ، وهذا نظير ما قرره بعض أجلّة الأصحاب في قوله تعالى : إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ [المائدة : 6] الآية في بيان أنه لا يدل على فرضية الترتيب كما يقوله الشافعية ، وظاهر الآية أنه لا يجب في لعانه أن يأتي بضمير المخاطبة ولا في لعانها أن تأتي بضمير المخاطب ، ففي الهداية صفة للعان أن يبتدىء به القاضي فيشهد أربع مرات يقول في كل مرة : أشهد باللّه إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا ويقول في الخامسة : لعنة اللّه عليه إن كان من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا يشير في جميع ذلك ثم تشهد المرأة أربع مرات تقول في كل مرة أشهد

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 307
باللّه إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا وتقول في الخامسة : غضب اللّه عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنا والأصل فيه الآية ، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يأتي بلفظة المواجهة ويقول فيما رميتك به من الزنا أي وتأتي هي بذلك أيضا وتقول : إنك لمن الكاذبين فيما رميتني به من الزنا لأنه أقطع للاحتمال وهو احتمال إضمار مرجع للضمير الغائب غير المراد ، ووجه الأول أن لفظة المغايبة إذا انضمت إليها الإشارة انقطع الاحتمال ، وعن الليث أنه يكتفى في اللعان بالكيفية المذكورة في الآية ويأتي الملاعن مكان ضمير الغائب بضمير المتكلم في شهادته مطلقا وتأتي الملاعنة بذلك في شهادتها الخامسة فتدخل على (علي) ياء الضمير ، والمراد من الاكتفاء بالكيفية المذكورة أنه لا يحتاج إلى زيادة فيما رميتها به من الزنا في شهادته وإلى زيادة فيما رماني به من الزنا في شهادتها ، وما ذكر من الإتيان بضمير المتكلم هو الظاهر ولم يؤت به في النظم الكريم لتتسق الضمائر وتكون في جميع الآية على طرز واحد مع ما في ذلك من نكتة رعاية التالي على ما قيل ، وليس في الآية التفات أصلا كما توهم بعض من أدركناه من فضلاء العصر ، وأما ما أشير من عدم الاحتياج إلى زيادة ما تقدم فالظاهر أن الأحوط خلافه وقد جاءت تلك الزيادة فيما وقع في زمانه صلّى اللّه عليه وسلّم من اللعان بين هلال وزوجته على ما في بعض الروايات ، وذكر الأصحاب أنه يزيد في صورة اللعان بالقذف بنفي الولد بعد قوله : لمن الصادقين قوله فيما رميتك به من نفي الولد وأنها تزيد بعد لمن الكاذبين قولها : فيما رميتني به من نفي الولد : ولو كان القذف بالزنا ونفي الولد ذكر في اللعان الأمران ، ونقل أبو حيان عن مالك أن الملاعن يقول : أشهد باللّه إني رأيتها تزني والملاعنة تقول أشهد باللّه ما رآني أزني وعن الشافعي أن الزوج يقول : أشهد باللّه إني لصادق فيما رميت به زوجتي فلانة
بنت فلان ويشير إليها إن كانت حاضرة أربع مرات ثم يقعده الإمام ويذكره اللّه تعالى فإن رآه يريد أن يمضي أمر من يضع يده على فيه فإن لم يمتنع تركه وحينئذ يقول الخامسة ويأتي بياء الضمير مع (على) وإن كان قد قذفها بأحد يسميه بعينه واحدا أو اثنين في كل شهادة ، وإن نفى ولدها زاد وإن هذا الولد ولد زنا ما هو مني ، والتخويف باللّه عز وجل مشروع في حق المتلاعنين ، فقد صح في قصة هلال أنه لما كان الخامسة قيل له : اتق اللّه تعالى واحذر عقابه فإن عذاب الدنيا أسهل من عذاب الآخرة وإن هذه هي الموجبة التي توجب عليك العقاب ، وقيل : نحو ذلك لامرأته عند الخامسة أيضا.
وفي ظاهر الآية رد على الشافعي عليه الرحمة حيث قال إنه بمجرد لعان الزوج تثبت الفرقة بينهما وذلك لأن المتبادر أنها تشهد الشهادات وهي زوجة ومتى كانت الفرقة بلعان الزوج لم تبق زوجة عند لعانها ، والذي ذهب إليه أبو حنيفة عليه الرحمة أنه إذا وقع التلاعن تثبت حرمة الوطء ودواعيه عن الملاعن فإن طلقها فذاك وإن لم يطلقها بانت بتفريق الحاكم وإن لم يرضيا بالفرقة ، ولو فرق خطأ بعد وجود الأكثر من كل منهما صح ، ويشترط كون التفريق بحضورهما وحضور الوكيل كحضور الأصيل ويتوارثان قبله ، ولو زالت أهلية اللعان بعده فإن كان بما يرجى زواله كجنون فرق وإلّا لا ، وقال زفر : تقع الفرقة بتلاعنهما وإن أكذب نفسه من بعد اللعان والتفريق وحد أم لم يحد يحل له تزوجها عند أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف إذا افترق المتلاعنان فلا يجتمعان أبدا وتثبت بينهما حرمة كحرمة الرضاع وبه قالت الأئمة الثلاثة ، وأدلة هذه الأقوال وما لها وما عليها تطلب من كتب الفقه المبسوطة ، واستدل بمشروعية اللعان على جواز الدعاء باللعن على كاذب معين فإن قوله : لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ دعاء على نفسه باللعن على تقدير كذبه وتعليقه على ذلك لا يخرجه عن التعيين ، نعم يقال إن مشروعيته إن كان صادقا فلو كان كاذبا فلا يحل له ، واستدل الخوارج على أن الكذب كفر لاستحقاق من يتصف به اللعن وكذا الزنا كفر لاستحقاق فاعله الغضب فإن كلا من اللعن والغضب لا يستحقه إلا الكافر لأن اللعن الطرد عن الرحمة وهو لا يكون

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 308
إلا لكافر والغضب أعظم منه ، وفيه أنه لا يسلم أن اللعن في أي موضع وقع بمعنى الطرد عن الرحمة فإنه قد يكون بمعنى الإسقاط عن درجة الأبرار وقد يقصد به إظهار خساسة الملعون ، وكذا لا يسلم اختصاص الغضب بالكافر وإن كان أشد من اللعن واللّه تعالى أعلم.
وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ التفات إلى خطاب الرامين والمرميات بطريق التغليب لتوفية مقام الامتنان حقه ، وجواب لَوْلا محذوف لتهويله حتى كأنه لا توجد عبارة تحيط ببيانه ، وهذا الحذف شائع في كلامهم.
قال جرير :
كذب العواذل لو رأين مناخنا بحزيز رامة والمطي سوام
ومن أمثالهم لو ذات سوار لطمتني فكأنه قيل : لولا تفضله تعالى عليكم ورحمته سبحانه وأنه تعالى مبالغ في قبول التوبة حكيم في جميع أفعاله وأحكامه التي من جملتها ما شرع لكم من حكم اللعان لكان مما لا يحيط به نطاق البيان ، ومن جملته أنه تعالى لو لم يشرع لهم ذلك لوجب على الزوج حد القذف مع أن الظاهر صدقه لأنه أعرف بحال زوجته وأنه لا يفتري عليها لاشتراكهما في الفضاحة ، وبعد ما شرع لهم لو جعل شهاداته موجبة لحد الزنا عليها لفات النظر إليها ، ولو جعل شهاداته موجبة لحد القذف عليه لفات النظر له ، ولا ريب في خروج الكل عن سنن الحكمة والفضل والرحمة ، فجعل شهادات كل منهما مع الجزم بكذب أحدهما حتما دارئة لما توجه إليه من الغائلة الدنيوية ، وقد ابتلي الكاذب منهما في تضاعيف شهاداته من العذاب بما هو أتم مما درأته عنه وأطم وفي ذلك من أحكام الحكم البالغة وآثار التفضل والرحمة ما لا يخفى أما على الصادق فظاهر وأما على الكاذب فهو إمهاله والستر عليه في الدنيا ودرء الحد عنه وتعريضه للتوبة حسبما ينبىء عنه التعرض لعنوان توابيته تعالى فسبحانه ما أعظم شأنه وأوسع رحمته وأدق حكمته قال شيخ الإسلام ، وعن ابن سلام تفسير الفضل بالإسلام ولا يخفى أنه مما لا يقتضيه المقام ، وعن أبي مسلم أنه أدخل في الفضل النهي عن الزنا ويحسن ذلك لو جعلت الجملة تذييلا لجميع ما تقدم من الآيات وفيه من البعد ما فيه إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ أي بأبلغ ما يكون من الكذب والافتراء وكثيرا ما يفسر بالكذب مطلقا ، وقيل : هو البهتان لا تشعر به حتى يفجأك ، وجوز فيه فتح الهمزة والفاء وأصله من الأفك بفتح فسكون وهو القلب والصرف لأن الكذب مصروف عن الوجه الذي يحق ، والمراد به ما افك به الصديقة أم المؤمنين رضي اللّه تعالى عنها على أن اللام فيه للعهد ، وجوز حمله على الجنس قيل فيفيد القصر كأنه لا إفك إلا ذلك الإفك ، وفي لفظ
المجيء إشارة إلى أنهم أظهروه من عند أنفسهم من غير أن يكون له أصل ، وتفصيل القصة ما
أخرجه البخاري وغيره عن عروة عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت : «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا أراد أن يخرج أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم معه. قالت عائشة. فأقرع بيننا في غزوة «1» غزاها فخرج سهمي فخرجت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعد ما نزل الحجاب فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من تلك وقفل ودنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع فالتمست عقدي وحبسني ابتغاؤه وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت ركبت وهم يحسبون أني فيه وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهن اللحم إنما
___________
(1) هي غزوة بني المصطلق وكانت في سنة ست ا ه منه.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 309
نأكل العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب فأممت منزلي الذي كنت به وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إليّ فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني وكان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي واللّه ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلته فوطئ على يديها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة فهلك فيّ من هلك وكان الذي تولى الإفك عبد اللّه بن أبيّ ابن سلول فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي إنما يدخل علي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيسلم ثم يقول : كيف تيكم؟ ثم ينصرف فذاك الذي يريبني ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعد ما نقهت فخرجت معي أم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل ، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط فكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا فانطلقت أنا وأم مسطح وهي ابنة أبي رهم بن عبد مناف وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق وابنها مسطح بن أثاثة فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي قد فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح فقلت لها : بئس ما قلت أتسبين رجلا شهد بدرا؟ قالت : أي هنتاه أولم تسمعي ما قال؟ قالت : قلت وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي فلما رجعت إلى بيتي ودخل عليّ رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثم قال : كيف تيكم؟ فقلت : أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قالت : وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما قالت : فأذن لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فجئت أبوي فقلت لأمي «1» : يا أمتاه ما يتحدث الناس؟ قالت : يا بنية هوني عليك فو اللّه لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل ولها ضرائر إلا كثرن عليها قالت : فقلت سبحان اللّه ولقد تحدث الناس بهذا قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم حتى أصبحت أبكي فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله قالت : فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه من الود فقال : يا رسول اللّه أهلك وما نعلم إلا خيرا وأما عليّ بن أبي طالب فقال : يا رسول اللّه لم يضيق اللّه عليك والنساء سواها كثير وإن تسأل الجارية تصدقك قالت : فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بريرة فقال : أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك؟ قالت بريرة : لا والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فاستعذر يومئذ من عبد اللّه بن أبي ابن سلول قالت : فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو على المنبر : يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي؟ فو اللّه ما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال : يا رسول اللّه أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك قالت : فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد : كذبت
لعمر اللّه لا تقتله ولا تقدر على قتله فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر اللّه لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن
المنافقين فثار الحيان
___________
(1) هي أم رومان زينب بنت دهمان ا ه منه.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 310
من الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قائم على المنبر فلم يزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يخفضهم حتى سكتوا وسكت قالت : فمكثت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم قالت : فأصبح أبواي عندي قد وبكيت ليلتين ويوما لا أكتحل بنوم ولا يرقأ لي دمع يظناني أن البكاء فالق كبدي قالت : فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي فاستأذنت عليّ امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي قالت : فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فسلم ثم جلس قالت : ولم يجلس عندي منذ قيل فيّ ما قيل قبلها وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني قالت :
فتشهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين جلس ثم قال : أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك اللّه وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري اللّه وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى اللّه تاب اللّه عليه قالت : فلما قضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة فقلت لأبي : أجب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيما قال قال : واللّه ما أدري ما أقول لرسول اللّه فقلت لأمي : أجيبي رسول اللّه قالت : ما أدري ما أقول لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قالت : فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن : إني واللّه لقد علمت أنكم سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به فلئن قلت لكم : إني برية واللّه يعلم أني برية لا تصدقوني ولئن اعترفت لكم بأمر واللّه يعلم أني منه برية لتصدقني واللّه لا أجد لي ولكم مثلا إلا قول أبي يوسف فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ [يوسف :
18] فاضطجعت على فراشي وأنا حينئذ أعلم أني برية وأن اللّه مبرئني ببراءتي ولكن ما كنت أظن أن اللّه منزل في شأني وحيا يتلى ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم اللّه فيّ بأمر يتلى ولكن كنت أرجو أن يرى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في النوم رؤيا يبرئني اللّه بها قالت : فو اللّه ما رام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق وهو في يوم شات من ثقل القول الذي ينزل عليه قالت : فلما سري عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سري عنه وهو يضحك فكان أول كلمة تكلم بها : يا عائشة أما اللّه فقد برأك فقالت أمي : قومي إليه فقلت : واللّه لا أقوم ولا أحمد إلا اللّه وأنزل اللّه إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ العشر الآيات كلها ،
والظاهر أن قوله تعالى :
عُصْبَةٌ مِنْكُمْ خبر إن وإليه ذهب الحوفي وأبو البقاء ، وقال ابن عطية : هو بدل من ضمير «جاؤوا» والخبر جملة قوله تعالى : لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ والتقدير إن فعل الذين وهذا أنسق في المعنى وأكثر فائدة من أن يكون عُصْبَةٌ الخبر انتهى ، ولا يخفى أنه تكلف ، والفائدة في الاخبار على الأول قيل : التسلية بأن الجائين بذلك الإفك فرقة متعصبة متعاونة وذلك من أمارات كونه إفكا لا أصل له ، وقيل : الأولى أن تكون التسلية بأن ذلك مما لم يجمع عليه بل جاء به شرذمة منكم ، وزعم أبو البقاء أنه بوصف العصبة بكونها منهم أفاد الخبر ، وفيه نظر.
والخطاب في مِنْكُمْ على ما أميل إليه لمن ساءه ذلك من المؤمنين ويدخل فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأبو بكر وأم رومان وعائشة وصفوان دخولا أوليا ، وأصل العصبة الفرقة المتعصبة قلت أو كثرت وكثر إطلاقها على العشرة فما فوقها إلى الأربعين وعليه اقتصر في الصحاح ، وتطلق على أقل من ذلك ففي مصحف حفصة عصبة أربعة. وقد صح أن عائشة رضي اللّه تعالى عنها عدت المنافق عبد اللّه بن أبي ابن سلول وحمنة بنت جحش أخت أم المؤمنين زينب رضي اللّه تعالى عنها وزوجة طلحة بن عبيد اللّه ومسطح بن أثاثة. وحسان بن ثابت ، ومن الناس من برأ حسان وهو خلاف ما في صحيح البخاري وغيره.
نعم الظاهر أنه رضي اللّه تعالى عنه لم يتكلم به عن صميم قلب وإنما نقله عن ابن أبيّ لعنه اللّه تعالى ، وقد جاء أنه رضي اللّه تعالى عنه اعتذر عما نسب إليه في شأن عائشة رضي اللّه تعالى عنها فقال :

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 311
حصان رزان ما تزنّ بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
حليلة خير الناس دينا ومنصبا نبي الهدى ذي المكرمات الفواضل
عقيلة حي من لؤي بن غالب كرام المساعي مجدهم غير زائل
مهذبة قد طيب اللّه خيمها وطهرها من كل سوء وباطل
فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتمو فلا رفعت سوطي إليّ أناملي
وكيف وودي ما حييت ونصرتي لآل رسول الله زين المحافل
له رتب عال على الناس كلهم تقاصر عنه سورة المتطاول
فإن الذي قد قيل ليس بلائط ولكنه قول امرئ بي «1» ماحل
وكانت عائشة رضي اللّه تعالى عنها تكرمه بعد ذلك وتذكره بخير وإن صح أنها قالت له حين أنشدها أول هذه الأبيات : لكنك لست كذلك ، فقد أخرج ابن سعد عن محمد بن سيرين أن عائشة رضي اللّه تعالى عنها كانت تأذن لحسان وتدعو له بالوسادة وتقول : لا تؤذوا حسانا فإنه كان ينصر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بلسانه.
وأخرج ابن جرير من طريق الشعبي عنها أنها قالت : ما سمعت بشيء أحسن من شعر حسان وما تمثلت به إلا رجوت له الجنة قوله لأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب :
هجوت محمدا وأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء
فإن أبي ووالدتي وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
أتشتمه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء
لساني صارم لا عيب فيه وبحري لا تكدره الدلاء
وعد بعضهم مع الأربعة المذكورين زيد بن رفاعة ولم نر فيه نقلا صحيحا ، وقيل إنه خطأ ، ومعنى «منكم» من أهل ملتكم وممن ينتمي إلى الإسلام سواء كان كذلك في نفس الأمر أم لا فيشمل ابن أبيّ لأنه ممن ينتمي إلى الإسلام ظاهرا وإن كان كافرا في نفس الأمر : وقيل إن قوله تعالى : مِنْكُمْ خارج مخرج الأغلب وأغلب أولئك العصبة مؤمنون مخلصون ، وكذا الخطاب في لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ وقيل : الخطاب في الأول للمسلمين وفي هذا لسيد المخاطبين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ولأبي بكر وعائشة وصفوان رضي اللّه تعالى عنهم والكلام مسوق لتسليتهم.
وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن سعيد بن جبير أن الخطاب في الثاني لعائشة وصفوان ، وأبعد عن الحق من زعم أنه للذين جاؤوا بالإفك وتكلف للخيرية ما تكلف ، ولعل نسبته إلى الحسن لا تصح ، والظاهر أن ضمير الغائب في لا تَحْسَبُوهُ عائد على الإفك.
وجوز أن يعود على القذف وعلى المصدر المفهوم من جاؤُ وعلى ما نال المسلمين من الغم والكل كما ترى ، وعلى ما ذهب إليه ابن عطية يعود على المحذوف المضاف إلى اسم إن الذي هو الاسم في الحقيقة ونهوا عن حسبان ذلك شرا لهم إراحة لبالهم بإزاحة ما يوجب استمرار بلبالهم ، وأردف سبحانه النهي عن ذلك بالإضراب بقوله عز وجل : بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ اعتناء بأمر التسلية ، والمراد بل هو خير عظيم لكم لنيلكم بالصبر عليه الثواب العظيم وظهور كرامتكم على اللّه عز وجل بإنزال ما فيه تعظيم شأنكم وتشديد الوعيد فيمن تكلم بما أحزنكم ، والآيات
___________
(1) يقال محل به إذا سعى إلى السلطان فهو ماحل ا ه منه

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 312
المنزلة في ذلك على ما سمعت آنفا عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها عشر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه قال : نزلت ثماني عشرة آية متواليات بتكذيب من قذف عائشة وبراءتها. وأخرج الطبراني عن الحكم بن عتيبة قال : إنه سبحانه أنزل فيها خمس عشرة آية من سورة النور ثم قرأ حتى بلغ الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ [النور : 26] وكأن الخلاف مبني على الخلاف في رؤوس الآي ، وفي كتاب العدد للداني ما يوافق المروي عن ابن جبير.
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أي من الذين جاؤوا بالإفك مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ أي جزاء ما اكتسب وذلك بقدر ما خاض فيه فإن بعضهم تكلم وبعضهم ضحك كالمعجب الراضي بما سمع وبعضهم أكثر وبعضهم أقل.
وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ بكسر الكاف. وقرأ الحسن والزهري وأبو رجاء ومجاهد والأعمش وأبو البرهسم وحميد وابن أبي عبلة وسفيان الثوري ويزيد بن قطيب ويعقوب والزعفراني وابن مقسم وعمرة بنت عبد الرحمن وسورة عن الكسائي ومحبوب عن أبي عمرو «كبره» بضم الكاف وهو ومكسورها مصدران لكبر الشيء عظم ومعناهما واحد ، وقيل : الكبر بالضم المعظم وبالكسر البداءة بالشيء ، وقيل : الإثم ، والجمهور على الأول أي والذي تحمل معظمه مِنْهُمْ أي من الجائين به لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ في الدنيا والآخرة أو في الآخرة فقط ، وفي التعبير بالموصول وتكرير الإسناد وتنكير العذاب ووصفه بالعظم من تهويل الخطب ما لا يخفى ، والمراد بالذي تولى كبره كما في صحيح البخاري عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها عبد اللّه بن أبي عليه اللعنة وعلى ذلك أكثر المحدثين.
وكان لعنه اللّه تعالى يجمع الناس عنده ويذكر لهم ما يذكر من الإفك وهو أول من اختلقه وأشاعه لإمعانه في عداوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وعذابه في الآخرة بعد جعله في الدرك الأسفل من النار لا يقدر قدره إلا اللّه عز وجل ، وأما في الدنيا فوسمه بميسم الذل وإظهار نفاقه على رؤوس الأشهاد وحده حدين على ما أخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما من أنه صلّى اللّه عليه وسلّم بعد أن نزلت الآيات خرج إلى المسجد فدعا أبا عبيدة بن الجراح فجمع الناس ثم تلا عليهم ما أنزل اللّه تعالى من البراءة لعائشة وبعث إلى عبد اللّه بن أبيّ فجيء به فضربه عليه الصلاة والسلام حدين وبعث إلى حسان ومسطح وحمنة فضربوا ضربا وجيعا ووجئوا في رقابهم ، وقيل : حد حدا واحدا ، فقد أخرج الطبراني عن ابن عباس أنه فسر العذاب في الدنيا بجلد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إياه ثمانين جلدة وعذابه في الآخرة بمصيره إلى النار ، وقيل : إنه لم يحد أصلا لأنه لم يقر ولم يلتزم إقامة البينة عليه تأخيرا لجزائه إلى يوم القيامة كما أنه لم يلتزم إقامة البينة على نفاقه وصدور ما يوجب قتله لذلك وفيه نظر.
وزعم بعضهم أنه لم يحد مسطح ، وآخرون أنه لم يحد أحدا ممن جاء بالإفك إذ لم يكن إقرار ولم يلتزم إقامة بينة. وفي البحر أن المشهور حد حسان ومسطح وحمنة ، وقد أخرجه البزار وابن مردويه بسند حسن عن أبي هريرة ، وقد جاء ذلك في أبيات ذكرها ابن هشام في ملخص السيرة لابن إسحاق وهي :
لقد ذاق حسان الذي كان أهله وحمنة إذ قالوا هجيرا ومسطح
تعاطوا برجم الغيب أمر نبيهم وسخطة ذي العرش الكريم فأنزحوا
وآذوا رسول الله فيها فجللوا مخازي بغي يمحوها وفضحوا
وصب عليهم محصدات كأنها شآبيب قطر من ذرى المزن تسفح
وقيل : الذي تولى كبره حسان واستدل بما في صحيح البخاري أيضا عن مسروق قال : دخل حسان على عائشة فشبب وقال : حصان «البيت» قالت : لكنك لست كذلك قلت : تدعين مثل هذا يدخل عليك وقد أنزل اللّه

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 313
تعالى وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ فقالت : وأي عذاب أشد من العمى ، وجاء في بعض الأخبار أنها قيل لها : أليس اللّه تعالى يقول : وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ الآية؟ فقالت : أليس أصابه عذاب عظيم أليس قد ذهب بصره وكسع بالسيف؟ تعني الضربة التي ضربها إياه صفوان حين بلغه عنه أنه يتكلم في ذلك ، فإنه يروى أنه ضربه بالسيف على رأسه لذلك والأبيات «1» عرض فيها به وبمن أسلم من العرب من مضر وأنشد :
تلقّ ذباب السيف مني فإنني غلام إذا هوجيت لست بشاعر
ولكنني أحمي حماي وأتقي من الباهت الرأي البريء الظواهر
وكاد يقتله بتلك الضربة.
فقد روى ابن إسحاق أنه لما ضربه وثب عليه ثابت بن قيس بن شماس فجمع يديه إلى عنقه بحبل ثم انطلق به إلى دار بني الحارث بن الخزرج فلقيه عبد اللّه بن رواحة فقال : ما هذا؟ قال : أما أعجبك ضرب حسان بالسيف واللّه ما أراه إلا قد قتله فقال له عبد اللّه : هل علم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بذلك وبما صنعت؟ قال : لا واللّه قال : لقد اجترأت أطلق الرجل فأطلقه فأتوا رسول اللّه عليه الصلاة والسلام فذكروا ذلك له فدعا حسان وصفوان فقال صفوان : يا رسول اللّه آذاني وهجاني فاحتملني الغضب فضربته فقال صلّى اللّه عليه وسلّم : يا حسان أتشوهت على قومي بعد أن هداهم اللّه تعالى للإسلام ثم قال : أحسن يا حسان في الذي أصابك فقال : هي لك يا رسول اللّه فعوضه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم منها بيرحاء وكان أبو طلحة بن سهل أعطاها إياه عليه الصلاة والسلام ووهبه أيضا سيرين أمة قبطية فولدت له عبد الرحمن بن حسان.
وفي رواية في صحيح البخاري عن عائشة أيضا رضي اللّه تعالى عنها أنها قالت في الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ هو أي المنافق ابن أبيّ وحمنة ، وقيل : هو وحسان ومسطح ، وعذاب المنافق الطرد وظهور نفاقه وعذاب الأخيرين بذهاب البصر ، ولا يأبى إرادة المتعدد إفراد الموصول لما في الكشف من أن الَّذِي يكون جمعا وإفراد ضميره جائز باعتبار إرادة الجمع أو الفوج أو الفريق أو نظرا إلى أن صورته صورة المفرد ، وقد جاء إفراده في قوله تعالى : وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ [الزمر : 33] وجمعه في قوله سبحانه : وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا [التوبة : 69] والمشهور جواز استعمال «الذي» جمعا مطلقا. واشترط ابن مالك في التسهيل أن يراد به الجنس لا جمع مخصوص فإن أريد الخصوص قصر على الضرورة هذا ولا يخفى أن إرادة الجمع هنا لا تخلو عن بعد ، والذي اختاره إرادة الواحد وأن ذلك الواحد هو عدو اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم والمؤمنين ابن أبيّ ، وقد روى ذلك الزهري عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن أبي وقاص وعبد اللّه بن عتبة وكلهم سمع عائشة تقول : الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ عبد اللّه بن أبي ، وقد تظافرت روايات كثيرة على ذلك ، والذاهبون إليه من المفسرين أكثر من الذاهبين منهم إلى غيره. ومن الإفك الناشئ من النصب قول هشام بن عبد الملك عليه من اللّه تعالى ما يستحق حين سئل الزهري عن الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ فقال له : هو ابن أبيّ كذبت هو علي. يعني به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم اللّه تعالى وجهه. وقد روى ذلك عن هشام البخاري والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل ، ولا بدع من أمويّ الافتراء على أمير المؤمنين عليّ كرم اللّه تعالى وجهه ورضي عنه.
وأنت تعلم أن قصارى ما روي عن الأمير رضي اللّه تعالى عنه أنه قال لأخيه وابن عمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين استشاره يا رسول اللّه لم يضيق اللّه تعالى عليك والنساء سواها كثير وإن تسأل الجارية تصدقك.
___________
(1) ذكر ابن هشام في السيرة ا ه منه. [.....]

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 314
وفي رواية أنه قال : يا رسول اللّه قد قال الناس وقد حل لك طلاقها ، وفي رواية أنه رضي اللّه تعالى عنه ضرب بريرة وقال : اصدقي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وليس في ذلك شيء مما يصلح مستندا لذلك الأموي الناصبي ، وجل غرض الأمير مما ذكر أن يسري عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما هو فيه من الغم غاية ما في الباب أنه لم يسلك في ذلك مسلك أسامة وهو أمر غير متعين ، ومن دقق النظر عرف مغزى الأمير كرم اللّه تعالى وجهه وأنه بعيد عما يزعمه النواصب بعد ما بين المشرق والمغرب فليتدبر لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ التفات إلى خطاب الخائضين ما عدا من تولى كبره منهم ، واستظهر أبو حيان كون الخطاب للمؤمنين دونه ، واختير الخطاب لتشديد ما في لولا التحضيضية من التوبيخ ، ولتأكيد التوبيخ عدل إلى الغيبة في قوله تعالى : ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً لكن لا بطريق الإعراض عن المخاطبين وحكاية جناياتهم لغيرهم بل بالتوسل بذلك إلى وصفهم بما يوجب الإتيان بالمحضض عليه ويقتضيه اقتضاء تاما ويزجرهم عن ضده زجرا بليغا وهو الإيمان وكونه مما يحملهم على إحسان الظن ويكفهم عن إساءته بأنفسهم أي بأبناء جنسهم وأهل ملتهم النازلين منزلة أنفسهم كقوله تعالى : وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات : 11] وقوله سبحانه :
ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة : 85] ولا حاجة إلى تقدير مضاف أي ظن بعض المؤمنين والمؤمنات بأنفس بعضهم الآخر وإن قيل بجوازه مما لا ريب فيه فإخلالهم بموجب ذلك الوصف أقبح وأشنع والتوبيخ عليه أدخل مع ما فيه من التوسل به إلى توبيخ الخائضات والمشهور منهن حمنة ثم إن كان المراد بالإيمان الإيمان الحقيقي فإيجابه لما ذكر واضح والتوبيخ خاص بالمتصفين به ، وإن كان مطلق الإيمان الشامل لما يظهره المنافقون أيضا فإيجابه له من حيث إنهم كانوا يحترزون عن إظهار ما ينافي مدعاهم فالتوبيخ حينئذ متوجه إلى الكل ، والنكتة في توسيط معمول الفعل المحضض عليه بينه وبين أداة التخصيص وإن جاز ذلك مطلقا أي سواء كان المعمول الوسط ظرفا أو غيره تخصيص التخضيض بأول وقت السماع وقصر التوبيخ واللوم على تأخير الإتيان بالمحضض عليه عن ذلك الآن والتردد فيه ليفيد أن عدم الإتيان به رأسا في غاية ما يكون من القباحة والشناعة أي كان الواجب على المؤمنين والمؤمنات أن يظنوا أول ما سمعوا ذلك الإفك ممن اخترعه بالذات أو بالواسطة من غير تلعثم وتردد بأهل ملتهم من آحاد المؤمنين والمؤمنات خيرا وَقالُوا في ذلك الآن هذا إِفْكٌ مُبِينٌ أي ظاهر مكشوف كونه إفكا فكيف بأم المؤمنين حليلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بنت المهاجرين رضي اللّه تعالى عنهما.
ويجوز أن يكون المعنى هلا ظن المؤمنون والمؤمنات أول ما سمعوا ذلك خيرا بأهل ملتهم عائشة وصفوان وقالوا إلخ لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ إما من تمام القول المحضض عليه مسوق لتوبيخ السامعين على ترك الزام الخائضين أي هلا جاء الخائضون بأربعة شهداء يشهدون على ثبوت ما قالوا : فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ الأربعة ، وكان الظاهر فإذا لم يأتوا بهم إلا أنه عدل إلى ما في النظم الجليل لزيادة التقرير فَأُولئِكَ إشارة إلى الخائضين ، وما فيها من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الفساد أي فأولئك المفسدون عِنْدَ اللَّهِ أي في حكمه وشريعته هُمُ الْكاذِبُونَ أي المحكوم عليهم بالكذب شرعا أي بأن خبرهم لم يطابق في الشرع الواقع ، وقيل : المعنى فأولئك في علم اللّه تعالى هم الكاذبون الذين لم يطابق خبرهم الواقع في نفس الأمر لأن الآية في خصوص عائشة رضي اللّه تعالى عنها وخبر أهل الإفك فيها غير مطابق للواقع في نفس الأمر في علمه عز وجل.
وتعقب بأن خصوص السبب لا ينافي عموم الحكم مع أن ظاهر التقييد بالظرف يأبى ذلك ، وجعله من قبيل قوله تعالى : الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً [الأنفال : 66] خلاف الظاهر ، وأيا ما كان فالحصر للمبالغة ، وإما كلام مبتدأ مسوق من جهته سبحانه وتعالى تقريرا لكون ذلك إفكا وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ أي تفضله سبحانه

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 315
عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ إياكم فِي الدُّنْيا بفنون النعم التي من جملتها الإمهال للتوبة وَفي الْآخِرَةِ بضروب الآلاء التي من جملتها العفو والمغفرة بعد التوبة ، وفي الكلام نشر على ترتيب اللف ، وجوز أن يتعلق فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ بكل من فضل اللّه تعالى ورحمته ، والمعنى لولا الفضل العام والرحمة العامة في كلا الدارين لَمَسَّكُمْ عاجلا فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ أي بسبب ما خضتم فيه من حديث الإفك.
والإبهام لتهويل أمره واستهجان ذكره يقال أفاض في الحديث وخاض وهضب واندفع بمعنى ، والإفاضة في ذلك مستعارة من إفاضة الماء في الإناء ، ولَوْ لا امتناعية وجوابها لَمَسَّكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ يستحقر دونه التوبيخ والجلد ، والخطاب لغير ابن أبي من الخائضين ، وجوز أن يكون لهم جميعا.
وتعقب بأن ابن أبي رأس المنافقين لا حظ له من رحمة اللّه تعالى في الآخرة لأنه مخلد في الدرك الأسفل من النار إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ بحذف إحدى التاءين وإِذْ ظرف للمس ، وجوز أن يكون ظرفا لأفضتم وليس بذاك ، والضمير المنصوب لما أي لمسكم ذلك العذاب العظيم وقت تلقيكم ما أفضتم فيه من الإفك وأخذ بعضكم إياه من بعض بالسؤال عنه ، والتلقي والتلقف والتلقن متقاربة المعاني إلا أن في التلقي معنى الاستقبال وفي التلقف معنى الخطف والأخذ بسرعة وفي التلقن معنى الحذق والمهارة. وقرأ أبيّ رضي اللّه تعالى عنه : «تتلقونه» على الأصل ، وشد التاء البزي ، وأدغم الذال في التاء النحويان وحمزة.
وقرأ ابن السميفع «تلقونه» بضم التاء والقاف وسكون اللام مضارع ألقى ، وعنه «تلقونه» بفتح التاء والقاف وسكون اللام مضارع لقي ، وقرأت عائشة وابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وعيسى وابن يعمر وزيد بن علي بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف من ولق الكلام كذبه حكاه السرقسطي ، وفيه رد على من زعم أن ولق إذا كان بمعنى كذب لا يكون متعديا وهو ظاهر كلام ابن سيده وارتضاءه أبو حيان ولذا جعل ذلك من باب الحذف والإيصال والأصل تلقون فيه ، وروي عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها أنها كانت تقرأ ذلك وتقول : الولق الكذب ، وقال ابن أبي مليكة :
وكانت أعلم بذلك من غيرها لأنه نزل فيها.
وقال ابن الأنباري : من ولق الحديث أنشأه واخترعه ، وقيل : من ولق الكلام دبره ، وحكى الطبري وغيره أن هذه اللفظة مأخوذة من الولق الذي هو الإسراع بالشيء بعد الشيء كعدد في أثر عدد وكلام في أثر كلام ويقال : ناقة ولقى سريعة ، ومنه الأولق للمجنون لأن العقل باب من السكون والتماسك والجنون باب من السرعة والتهافت.
وعن ابن جني أنه فسر ما في الآية بما ذكر يكون ذلك من باب الحذف والإيصال والأصلتسرعون فيه أو إليه ، قرأ زيد بن أسلم وأبو جعفر «تألقونه» بفتح التاء وهمزة ساكنة بعدها لام ساكنة من الألق وهو الكذب. وقرأ يعقوب في رواية المازني «تيلقونه» بتاء فوقانية مكسورة بعدها ياء ولام مفتوحة كأنه مضارع ولق بكسر اللام كما قالوا تيجل مضارع وجل ، وعن سفيان بن عيينة سمعت أمي تقرأ «إذ تثقفونه» من ثقفت الشيء إذا طلبته فأدركته جاء مثقلا ومخففا أي تتصيدون الكلام في الإفك من هاهنا ومن هاهنا.
وقرىء «تقفونه» من قفاه إذا تبعه أي تتبعونه.
وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ أي تقولون قولا مختصا بالأفواه من غير أن يكون له مصداق ومنشأ في القلوب لأنه ليس تعبيرا عن علم به في قلوبكم فهذا كقوله تعالى : يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران : 167].

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 316
وقال ابن المنير : يجوز أن يكون قوله سبحانه : تَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ توبيخا كقولك : أتقول ذلك بملء فيك فإن القائل ربما رمز وعرض وربما تشدق جازما كالعالم ، وقد قيل هذا في قوله سبحانه : بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ [آل عمران : 118] وقال صاحب الفرائد : يمكن أن يقال فائدة ذكر بِأَفْواهِكُمْ أن لا يظن أنهم قالوا ذلك بالقلب لأن القول يطلق على غير الصادر من الأفواه كما في قوله تعالى : قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت : 11] وقول الشاعر :
امتلأ الحوض وقال قطني مهلا رويدا قد ملأت بطني
فهو تأكيد لدفع المجاز. وأنت تعلم أن السياق يقتضي الأول وإليه ذهب الزمخشري ، وكان الظاهر وتقولونه بأفواهكم إلا أنه عدل عنه إلى ما في النظم الجليل لما لا يخفى وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً سهلا لا تبعة له : وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ أي والحال أنه عند اللّه عز وجل أمر عظيم لا يقادر قدره في الوزر واستجرار العذاب ، والجملتان الفعليتان معطوفتان على جملة تَلَقَّوْنَهُ داخلتان معها في حيز إِذْ فيكون قد علق مس العذاب العظيم بتلقي الإفك بألسنتهم والتحدث به من غير روية وفكر وحسبانهم ذلك مما لا يعبأ به وهو عند اللّه عز وجل عظيم.
وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ممن اخترعه أو المتابع له قُلْتُمْ تكذيبا له وتهويلا لما ارتكبه ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ أي ما يمكننا وما يصدر عنا بوجه من الوجوه التكلم بِهذا إشارة إلى القول الذي سمعوه باعتبار شخصه.
وجوز أن يكون إشارة إلى نوعه فإن قذف آحاد الناس المتصفين بالإحصان محرم شرعا ، وجاء عن حذيفة مرفوعا أنه يهدم عمل مائة سنة فضلا عن تعرض الصديقة حرمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، والكلام في توسيط الظرف على نحو ما مر سُبْحانَكَ تعجب ممن تفوه به ، وأصله أن يذكر عند معاينة العجيب من صنائعه تعالى شأنه تنزيها له سبحانه من أن يصعب عليه أمثاله ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه واستعماله فيما ذكر مجاز متفرع على الكناية ، ومثله في استعماله للتعجب لا إله إلا اللّه ، والعوام يستعملون الصلاة على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في ذلك المقام أيضا ولم يسمع في لسان الشرع بل قد صرح بعض الفقهاء بالمنع منه.
وجوز أن يكون سُبْحانَكَ هنا مستعملا في حقيقته والمراد تنزيه اللّه تعالى شأنه من أن يصم نبيه عليه الصلاة والسلام ويشينه فإن فجور الزوجة وصمة في الزوج تنفر عنه القلوب وتمنع عن اتباعه النفوس ولذا صان اللّه تعالى أزواج الأنبياء عليهم السلام عن ذلك ، وهذا بخلاف الكفر فإن كفر الزوجة ليس وصمة في الزوج ، وقد ثبت كفر زوجتي نوح ولوط عليهما السلام كذا قيل ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى قريبا ما يتعلق به ، وعلى هذا يكون سُبْحانَكَ تقريرا لما قبله وتمهيدا لقوله سبحانه : هذا بُهْتانٌ أي كذب يبهت ويحير سامعه لفظاعته عَظِيمٌ لا يقدر قدره لعظمة المبهوت عليه فإن حقارة الذنوب وعظمها كثيرا ما يكونان باعتبار متعلقاتها ، والظاهر أن التوبيخ للسامعين الخائضين لا للسامعين مطلقا ،
فقد روي عن سعيد بن جبير أن سعد بن معاذ لما سمع ما قيل في أمر عائشة رضي اللّه تعالى عنها قال : سبحانك هذا بهتان عظيم. وعن سعيد بن المسيب أنه قال : كان رجلان من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إذا سمعا شيئا من ذلك قالا ما ذكر أسامة بن زيد بن حارثة وأبو أيوب رضي اللّه تعالى عنهما. وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها أنها قالت : إن امرأة أبي أيوب الأنصاري قالت له : يا أبا أيوب ألا تسمع ما يتحدث به الناس؟ فقال : ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم ، ومنشأ هذا الجزم على ما قاله الإمام الرازي العلم بأن زوجة الرسول عليه الصلاة والسلام لا يجوز أن تكون فاجرة ، وعلل بأن ذلك ينفر عن الاتباع فيخل بحكمة البعثة كدناءة الآباء وعهر الأمهات ، وقد نص العلامة الثاني على أن من شروط النبوة السلامة عن ذلك بل عن كل ما ينفر عن الاتباع. واستشكل ذلك بأنه إذا كان ما ذكر شرطا فكيف علمه من سمعت حتى قالوا ما قالوا وخفي الأمر على رسول

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 317
اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتى قال كما في صحيح البخاري وغيره : «يا عائشة إنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك اللّه تعالى وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري اللّه تعالى وتوبي إليه».
وجاء في بعض الروايات «يا عائشة إن كنت فعلت هذا الأمر فقولي لي حتى أستغفر اللّه تعالى لك»
وكذا خفي على صاحبه أبي بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه ، فقد أخرج البزار بسند صحيح عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها أنه لما نزل عذرها قبل أبو بكر رضي اللّه تعالى عنه رأسها فقالت : ألا عذرتني فقال : أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن قلت ما لا أعلم؟.
وأجيب بأن ذلك ليس من الشروط العقلية للنبوة كالأمانة والصدق بل هو من الشروط الشرعية والعادية ، كما قال اللقاني فيجوز أن يقال : إنه لم يكن معلوما قبل وإنما علم بعد نزول آيات براءة عائشة رضي اللّه تعالى عنها ، وعدم العلم بمثل ذلك لا يقدح في منصب النبوة ، وأما دعوى علم من ذكر به فلا دليل عليها ، وقولهم ذلك يجوز أن يكون ناشئا عن حسن الظن لا عن علم بكون السلامة من المنفر عن الاتباع من شروط النبوة ، ويشهد لهذا نظرا إلى بعض القائلين والظاهر تساويهم ما أخرجه ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن بعض الأنصار أن امرأة أبي أيوب قالت له حين قال أهل الإفك ما قالوا : ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة رضي اللّه تعالى عنها؟ قال : بلى وذلك الكذب أكنت أنت فاعلة يا أم أيوب؟ قالت : لا واللّه فقال : فعائشة رضي اللّه تعالى عنها واللّه خير منك وأطيب إنما هذا كذب وإفك باطل ، وروى قريبا منه الحاكم وابن عساكر أيضا عن أفلح مولى أبي أيوب ، ولعله المعني ببعض الأنصار في الخبر السابق ، ولم يقل صلّى اللّه عليه وسلّم نحو ذلك لحسن الظن لشدة غيرته عليه الصلاة والسلام والغيور لا يكاد يعول في مثل ذلك على حسن الظن ، ويمكن أن يكون قولهم ذلك ناشئا عن العلم بكون السلامة من المنفر عن الاتباع من شروط النبوة بأن يكونوا قد تفطنوا لكون حكمة البعثة تقتضي تلك السلامة وقد يتفطن العالم لما لا يتفطن له من هو أعلم منه.
وجوز أن يدعى أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان عالما بعدم جواز فجور نساء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لما فيه من النفرة المخلة بحكمة البعثة لكن أراد عليه الصلاة والسلام أن يظهر أمر براءة الصديقة رضي اللّه تعالى عنها ظهور الشمس في رابعة النهار بحيث لا يبقى فيه خفاء عند أحد من الصحابة الكرام رضي اللّه تعالى عنهم ، وما عراه من الهم إنما هو أمر طبيعي حصل بسبب خوض المنافقين ومن تبعهم وشيوع ما لا أصل له من الباطل بين الناس ، ويحتمل أنه صلّى اللّه عليه وسلّم كان عالما بأن السلامة من المنفر من شروط النبوة لكن خشي من اللّه عز وجل الذي لا يجب عليه شيء أن لا يجعل ما خاض المنافقون وأتباعهم فيه من المنفر بأن لا يرتب سبحانه خلق النفرة في القلوب عليه ليمنع من الاتباع فتختل حكمة البعثة فداخله عليه الصلاة والسلام من الهم ما داخله وجعل يتتبع الأمر على أتم وجه وما ذلك إلا من مزيد العلم ونهاية الحزم ، ونظيره من وجه خوفه عليه الصلاة والسلام من قيام الساعة عند اشتداد الريح بحيث لا يستطيع أن ينام ما دام الأمر كذلك حتى تمطر السماء.
وقيل يجوز أن لا يعد فجور الزوجة منفرا إلا إذا أمسكت بعد العلم به فلم لا يجوز أن يقع فيجب طلاقها وإذا طلقت لا يتحقق المنفر المخل بالحكمة ، هذا ولا يخفى عليك ما في بعض الاحتمالات من البحث بل بعضها في غاية البعد عن ساحة القبول ، ولعل الحق أنه عليه الصلاة والسلام قد أخفي عليه أمر الشرطية إلى أن اتضح أمر البراءة ونزلت الآيات فيها لحكمة الابتلاء وغيره مما اللّه تعالى أعلم به. وإن قول أولئك الأصحاب رضي اللّه تعالى عنهم :
سبحانك هذا بهتان عظيم لم يكن ناشئا إلا عن حسن الظن ، ولم يتمسك به صلّى اللّه عليه وسلّم لأنه لا يحسم القال والقيل ولا يرد

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 318
به شيء من الأباطيل ، ولا ينبغي لمن يؤمن باللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم أن يخالج قلبه بعد الوقوف على الآيات والأخبار شك في طهارة نساء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن الفجور في حياة أزواجهن وبعد وفاتهم عنهن ، ونسب للشيعة قذف عائشة رضي اللّه تعالى عنها بما برأها اللّه تعالى منه وهم ينكرون ذلك أشد الإنكار وليس في كتبهم المعول عليها عندهم عين منه ولا أثر أصلا ، وكذلك ينكرون ما نسب إليهم من القول بوقوع ذلك منها بعد وفاته صلّى اللّه عليه وسلّم وليس له أيضا في كتبهم عين ولا أثر.
والظاهر أنه ليس في الفرق الإسلامية من يختلج في قلبه ذلك فضلا عن الإفك الذي برأها اللّه عز وجل منه.
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أي ينصحكم أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً أي كراهة أن تعودوا أو لئلا تعودوا أو يعظمكم في العود أي في شأنه وما فيه من الإثم والمضار كما يقال وعظته في الخمر وما فيها من المعار أو يزجركم عن العود على تضمين الوعظ معنى الزجر ، ويقال عاده وعاد إليه وعاد له وعاد فيه بمعنى ، والمراد بأبدا مدة الحياة.
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ من باب إن كنت أبا لك فلم لا تحسن إليّ يتضمن تذكيرهم بالإيمان الذي هو العلة في الترك والتهييج لإبرازه في معرض الشك وفيه طرف من التوبيخ.
وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي ينزلها مبينة ظاهرة الدلالة على معانيها ، والمراد بها الآيات الدالة على الشرائع ومحاسن آداب معاملة المسلمين ، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتفخيم شأن البيان.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوال جميع مخلوقاته جلها ودقها حَكِيمٌ في جميع أفعاله فأنى يمكن صدق ما قيل في حق حرم من اصطفاه لرسالته وبعثه إلى كافة الخلق ليرشدهم إلى الحق ويزكيهم ويطهرهم تطهيرا ، وإظهار الاسم الجليل هاهنا لتأكيد استقلال الاعتراض التذييلي والإشعار بعلية الألوهية للعلم والحكمة إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أي يريدون ويقصدون أَنْ تَشِيعَ أن تنتشر الْفاحِشَةُ أي الخصلة المفرطة في القبح وهي الفرية والرمي بالزنا أو نفس الزنا كما روي عن قتادة ، والمراد بشيوعها شيوع خبرها فِي الَّذِينَ آمَنُوا متعلق بتشيع أي تشيع فيما بين الناس.
وذكر المؤمنين لأنهم العمدة فيهم أو بمضمر هو حال من الفاحشة أي كائنة في حق المؤمنين وفي شأنهم والمراد بهم المحصنون والمحصنات كما روي عن ابن عباس لَهُمْ بسبب ذلك عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا مما يصيبه من البلاء كالشلل والعمى وَفي الْآخِرَةِ من عذاب النار ونحوه ، وترتب ذلك على المحبة ظاهر على ما نقل عن الكرماني من أن أعمال القلب السيئة كالحقد والحسد ومحبة شيوع الفاحشة يؤاخذ العبد إذا وطن نفسه عليها ، ويعلم من الآية على أتم وجه سوء حال من نزلت الآية فيهم كابن أبيّ ومن وافقه قلبا وقالبا. وأن لهم الحظ الأوفر من العذابين حيث أحبوا الشيوع وأشاعوا.
وقال بعضهم : المراد من محبة الشيوع الإشاعة بقرينة ترتب العذاب عليها فإنه لا يترتب إلا على الإشاعة دون المحبة التي لا اختيار فيها ، وإن سلم أن المراد بها محبة تدخل تحت الاختيار وهي مما يترتب عليها العذاب قلنا : إن ذلك هو العذاب الأخروي دون العذاب الدنيوي مثل الحد ، وقد فسر ابن عباس وابن جبير العذاب الأليم في الدنيا هنا بالحد وهو لا يترتب على المحبة مطلقا بالاتفاق ، ومن هنا قيل أيضا : إن ذكر المحبة من قبيل الاكتفاء عن ذكر الشيء وهو الإشاعة بذكر مقتضيه تنبيها على قوة المقتضى ، وقيل : إن الكلام على التضمين أي يشيعون الفاحشة محبين شيوعها لأن كلا معنى المحبة والإشاعة مقصودان.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 319
واستشكل تفسير العذاب الأليم في الدنيا بالحد بأنه لا يضم إليه العذاب الأليم في الآخرة لأن الحدود مكفرة.
وأجيب بأن حكم الآية مخصوص بمن أشاع ذلك في حق أم المؤمنين ، وقيل : الحد لمن نقل الإفك من المسلمين والعذاب الأخروي لأبي عذرته ابن أبيّ والموصول عام لهما ، على أن في كون الحدود مطلقا مكفرة خلافا فبعضهم قال به فيما عدا الردة وبعضهم أنكره وبعضهم توقف فيه
لحديث أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال : «لا أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا»
ولعل الأنسب بمساق النظم الكريم من تقبيح الخائضين في الإفك المشيعين له هو ما ذكرناه أولا ، والمراد بالموصول إما هم على أن يكون للعهد الخارجي كما روي عن مجاهد وابن زيد والتعبير بالمضارع في الصلة للإشارة إلى زيادة تقبيحهم بأنه قد صارت محبتهم لشيوع الفاحشة عادة مستمرة ، وإما ما يعمهم وغيرهم من كل من يتصف بمضمون الصلة على إرادة الجنس ويدخل أولئك المشيعون دخولا أوليا كما قيل : وَاللَّهُ يَعْلَمُ جميع الأمور التي من جملتها ما في الضمائر من المحبة المذكورة وكذا وجه الحكمة في تغليظ الوعيد وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ما يعلمه سبحانه وتعالى.
والجملة اعتراض تذييلي جيء به تقريرا لثبوت العذاب لهم وتعليلا له ، قيل : المعنى واللّه يعلم ما في ضمائرهم فيعاقبهم عليه في الآخرة وأنتم لا تعلمون ذلك بل تعلمون ما يظهر لكم من أقوالهم فعاقبوا عليه في الدنيا.
وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ الخطاب على ما أخرج الطبراني عن ابن عباس لمسطح وحسان وحمنة أو لمن عدا ابن أبيّ وأضرابه من المنافقين الخائضين ، وهذا تكرير للمنة بترك المعاجلة بالعقاب للتنبيه على كمال عظم الجريرة وقوله سبحانه وتعالى : وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ عطف على فَضْلُ اللَّهِ وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة والإشعار باستتباع صفة الألوهية للرأفة والرحمة ، وتغيير سبكه وتصديره بحرف التحقيق لما أنه المراد بيان اتصافه تعالى في ذاته بهاتين الصفتين الجليلتين على الدوام والاستمرار لا بيان حدوث تعلقهما بهم كما أن المراد بالمعطوف عليه وجواب لَوْلا محذوف كما مر وهذه نظير الآية المارة في آخر حديث اللعان إلا أن في التعقيب بالرؤوف الرحيم بدل التواب الحكيم هنالك ما يؤذن بأن الذنب في هذا أعظم وكأنه لا يرتفع إلا بمحض رأفته تعالى وهو أعظم من أن يرتفع بالتوبة كما روي عن ابن عباس من خاض في حديث الإفك وتاب لم تقبل توبته والغرض التغليظ فلا تغفل.
[سورة النور (24) : الآيات 21 إلى 28]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 320
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ [النور : 21. 28] أي لا تسلكوا مسالكه في كل ما تأتون وما تذرون والكلام كناية عن اتباع الشيطان وامتثال وساوسه فكأنه قيل : لا تتبعوا الشيطان في شيء من الأفاعيل التي من جملتها إشاعة الفاحشة وحبها.
وقرأ نافع والبزي في رواية ابن ربيعة عنه وأبو عمرو وأبو بكر وحمزة «خطوات» بسكون الطاء وقرىء بفتحها وهو في جميع ذلك جمع خطوة بضم الخاء وسكون الطاء اسم لما بين القدمين ، وأما الخطوة بفتح الخاء فهو مصدر خطا ، والأصل في الاسم إذا جمع أن تحرك عينه فرقا بينه وبين الصفة فيضم اتباعا للفاء أو بفتح تخفيفا وقد يسكن وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ وضع الظاهران موضع ضميري الخطوات والشيطان حيث لم يقل ومن يتبعها أو من يتبع خطواته لزيادة التقرير والمبالغة فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ هو ما أفرط قبحه كالفاحشة وَالْمُنْكَرِ هو ما ينكره الشرع ، وضمير إنه للشيطان وقيل للشأن وجواب الشرط مقدر سد ما بعد الفاء مسده وهو في الأصل تعليل للجملة الشرطية وبيان لعلة النهي كأنه قيل : من يتبع الشيطان ارتكب الفحشاء والمنكر فإنه لا يأمر إلا بهما ومن كان كذلك لا يجوز اتباعه وطاعته ، وقد قرر ذلك النسفي وابن هشام في الباب الخامس من المغني. وتعقب بأنه يأباه ما نص عليه النحاة من أن الجواب لا يحذف إلا إذا كان الشرط ماضيا حتى عدوا من الضرورة قوله :
لئن تك قد ضاقت علي بيوتكم ليعلم ربي أن بيتي أوسع
وأجيب بأن الآية ليست من قبيل ما ذكروه في البيت فإنه مما حذف فيه الجواب رأسا وهذا مما أقيم مقامه ما يصح جعله جوابا بحسب الظاهر ، وقال أبو حيان : الضمير عائد على من الشرطية ولم يعتبر في الكلام حذفا أصلا ، والمعنى على ذلك من يتبع الشيطان فإنه يصير رأسا في الضلال بحيث يكون آمرا بالفحشاء والمنكر وهو مبني على اشتراط ضمير في جواب الشرط الاسمي يعود إليه وسيأتي إن شاء اللّه تعالى ما فيه.
وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بما من جملته إنزال هاتيك الآيات البينات والتوفيق للتوبة الممحصة من الذنوب وكذا شرع الحدود المكفر لما عدا الردة منها على ما ذهب إليه جمع وأجابوا عن حديث أبي هريرة السابق آنفا بأنه كان قبل أن يوحى إليه صلّى اللّه عليه وسلّم بذلك ما زَكى أي ما طهر من دنس الذنوب.
وقرأ روح والأعمش «ما زكى» بالتشديد والإمالة ، وكتب «زكي» المخفف بالياء مع أنه من ذوات الواو وحقها أن تكتب بالألف ، قال أبو حيان : لأنه قد يمال أو حملا على المشدد ، ومن في قوله تعالى : مِنْكُمْ بيانية ، وفي قوله سبحانه : مِنْ أَحَدٍ سيف خطيب وأَحَدٍ في حيز الرفع على الفاعلية على القراءة الأولى وفي محل النصب على المفعولية على القراءة الثانية والفاعل عليها ضميره تعالى أي ما زكى اللّه تعالى منكم أحدا أَبَداً لا إلى غاية وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي يطهر مَنْ يَشاءُ من عباده بإفاضة آثار فضله ورحمته عليه وحمله على التوبة وقبولها منه كما فعل سبحانه بمن سلم عن داء النفاق ممن وقع في شرك الإفك منكم.
وَاللَّهُ سَمِيعٌ مبالغ في سمعه الأقوال التي من جملتها ما أظهروه من التوبة عَلِيمٌ بجميع المعلومات التي من جملتها نياتهم ، وفيه حث لهم على الإخلاص في التوبة ، وإظهار الاسم الجليل للإيذان باستدعاء الألوهية للسمع والعلم مع ما فيه من تأكيد الاستقلال التذييلي وَلا يَأْتَلِ أي لا يحلف افتعال من الألية.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 321
وقال أبو عبيدة. واختاره أبو مسلم : أي لا يقصر من الألو بوزن الدلو والألو بوزن العتو ، قيل : والأول أوفق بسبب النزول وذلك أنه صح عن عائشة وغيرها أن أبا بكر رضي اللّه تعالى عنه حلف لما رأى براءة ابنته أن لا ينفق على مسطح شيئا أبدا وكان من فقراء المهاجرين الأولين الذين شهدوا بدرا وكان ابن خالته ، وقيل : ابن أخته رضي اللّه تعالى عنه فنزلت وَلا يَأْتَلِ إلخ وهذا هو المشهور.
وعن محمد بن سيرين أن أبا بكر حلف لا ينفق على رجلين كانا يتيمين في حجره حيث خاضا في أمر عائشة أحدهما مسطح فنزلت ، وعن ابن عباس ، والضحاك أنه قطع جماعة من المؤمنين منهم أبو بكر رضي اللّه تعالى عنه منافعهم عمن قال في الإفك وقالوا : واللّه لا نصل من تكلم فيه فنزلت ، وقرأ عبد اللّه بن عباس بن ربيعة وأبو جعفر مولاه وزيد بن أسلم «يتال» مضارع تالى بمعنى حلف ، قال الشاعر :
تالى ابن أوس حلفة ليردني إلى نسوة لي كأنهن مقائد
وهذه القراءة تؤيد المعنى الأول ليأتل أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ أي الزيادة في الدين وَالسَّعَةِ أي في المال أَنْ يُؤْتُوا أي على أن لا يؤتوا أو كراهة أن يؤتوا أو لا يقصروا في أن يؤتوا.
وقرأ أبو حيوة وابن قطيب وأبو البرهسم «تؤتوا» بتاء الخطاب على الالتفات.
أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صفات لموصوف واحد بناء على ما علمت من أن الآية نزلت على الصحيح بسبب حلف أبي بكر أن لا ينفق على مسطح وهو متصف كما سمعت بها فالعطف لتنزيل تغاير الصفات منزلة تغاير الموصوفات ، والجمع وإن كان السبب خاصا لقصد العموم وعدم الاكتفاء بصفة للمبالغة في إثبات استحقاق مسطح ونحوه الإيتاء فإن من اتصف بواحدة من هذه الصفات إذا استحقه فمن جمعها بالطريق الأولى ، وقيل : هي لموصوفات أقيمت هي مقامها وحذف المفعول الثاني لغاية ظهوره أي أن يؤتوهم شيئا وَلْيَعْفُوا ما فرط منهم وَلْيَصْفَحُوا بالإغضاء عنه ، وقرأ عبد اللّه والحسن وسفيان بن الحسين وأسماء بنت يزيد «ولتعفو ولتصفحوا» بتاء الخطاب على وفق قوله تعالى :
أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ أي بمقابلة عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ مبالغ في المغفرة والرحمة مع كمال قدرته سبحانه على المؤاخذة وكثرة ذنوب العباد الداعية إليها ، وفيه ترغيب عظيم في العفو ووعد كريم بمقابلته كأنه قيل : ألا تحبون أن يغفر اللّه لكم فهذا من موجباته ، وصح أن أبا بكر لما سمع الآية قال : بلى واللّه يا ربنا إنا لنحب أن تغفر لنا وأعاد له نفقته ، وفي رواية أنه صار يعطيه ضعفي ما كان يعطيه أولا ، ونزلت هذه الآية على ما أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بعد أن أقبل مسطح إلى أبي بكر معتذرا فقال : جعلني اللّه تعالى فداك واللّه الذي أنزل على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ما قذفتها وما تكلمت بشيء مما قيل لها أي خال فقال أبو بكر ولكن قد ضحكت وأعجبك الذي قيل فيها فقال مسطح لعله يكون قد كان بعض ذلك ، وفي الآية من الحث على مكارم الأخلاق ما فيها. واستدل بها على فضل الصديق رضي اللّه تعالى عنه لأنه داخل في أولي الفضل قطعا لأنه وحده أو مع جماعة سبب النزول ، ولا يضر في ذلك عموم الحكم لجميع المؤمنين كما هو الظاهر ، ولا حاجة إلى دعوى أنها فيه خاصة والجمع للتعظيم ، وكونه مخصوصا بضمير المتكلم مردود على أن فيها من ارتكاب خلاف الظاهر ما فيها ، وأجاب الرافضة بأن المراد بالفضل الزيادة في المال ، ويرد عليه أنه حينئذ يتكرر مع قوله سبحانه : وَالسَّعَةِ وادعى الإمام أنها تدل على أن الصديق رضي اللّه تعالى عنه أفضل جميع الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم وبين ذلك بما هو بعيد عن فضله ، وذكر أيضا دلالتها على وجوه من مدحه رضي اللّه تعالى عنه وأكثرها للبحث فيها مجال ، واستدل بها

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 322
على أن ما لا يكون ردة من المعاصي لا يحبط العمل وإلا لما سمى اللّه تعالى مسطحا مهاجرا مع أنه صدر منه ما صدر ، وعلى أن الحلف على ترك الطاعة غير جائز لأنه تعالى نهى عنه بقوله سبحانه : لا يَأْتَلِ ومعناه على ما يقتضيه سبب النزول لا يحلف ، وظاهر هذا حمل النهي على التحريم ، وقيل : هو للكراهة ، وقيل : الحق أن الحلف على ترك الطاعة قد يكون حراما ، وقد يكون مكروها ، فالنهي هنا لطلب الترك مطلقا وفيه بحث.
وذكر جمهور الفقهاء أنه
إذا حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه كما جاء في الحديث
، وقال بعضهم.
إذا حلف فليأت الذي هو خير وذلك كفارته كما جاء في حديث آخر.
وتعقب بأن المراد من الكفارة في ذلك الحديث تكفير الذنب لا الكفارة الشرعية التي هي بإحدى الخصال.
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ قد تقدم تفسيرها الْغافِلاتِ عما يرمين به بمعنى أنه لم يخطر لهن ببال أصلا لكونهن مطبوعات على الخير مخلوقات من عنصر الطهارة ففي هذا الوصف من الدلالة على كمال النزاهة ما ليس في المحصنات الْمُؤْمِناتِ أي المتصفات بالإيمان بكل ما يجب أن يؤمن به من الواجبات والمحظورات وغيرها إيمانا حقيقيا تفصيليا كما ينبىء عنه تأخير المؤمنات عما قبلها مع أصالة وصف الإيمان فإنه للإيذان بأن المراد بها المعنى الوصفي المعرب عما ذكر لا المعنى الاسمي المصحح لإطلاق الاسم في الجملة كما هو المتبادر على تقدير التقديم كذا في إرشاد العقل السليم.
وفرع عليه كون المراد بذلك عائشة الصديقة رضي اللّه تعالى عنها وروي ما ظاهره ذلك عن ابن عباس وابن جبير ، والجمع على هذا باعتبار أن رميها رمي لسائر أمهات المؤمنين لاشتراك الكل في النزاهة والانتساب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، ونظير ذلك جمع «المرسلين» في قوله سبحانه وتعالى : كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء : 105] وقيل : المراد أمهات المؤمنين فيدخل فيهن الصديقة دخولا أوليا. وروي ما يؤيده عن أبي الجوزاء والضحاك وجاء أيضا عن ابن عباس ما يقتضيه ، فقد أخرج عند سعيد بن منصور وابن جرير والطبراني وابن مردويه أنه رضي اللّه تعالى عنه قرأ سورة النور ففسرها فلما أتى على هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ إلخ قال : هذه في عائشة وأزواج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ولم يجعل لمن فعل ذلك توبة وجعل لمن رمى امرأة من المؤمنات من غير أزواج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم التوبة ثم قرأ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ إلى قوله تعالى : إِلَّا الَّذِينَ تابُوا [النور : 4. 5] الخبر ، وظاهره أنه لا تقبل توبة من قذف إحدى الأزواج الطاهرات رضي اللّه تعالى عنهن.
وقد جاء عنه في بعض الروايات التصريح بعدم قبول توبة من خاض في أمر عائشة رضي اللّه تعالى عنها ، ولعل ذلك منه خارج مخرج المبالغة في تعظيم أمر الإفك كما ذكرنا أولا وإلا فظاهر الآيات قبول توبته وقد تاب من تاب من الخائضين كمسطح وحسان وحمنة ولو علموا أن توبتهم لا تقبل لم يتوبوا ، نعم ظاهر هذه الآية على ما سمعت من المراد من الموصوف بتلك الصفات كفر قاذف أمهات المؤمنين رضي اللّه تعالى عنهن لأن اللّه عز وجل رتب على رميهن عقوبات مختصة بالكفار والمنافقين فقال سبحانه لُعِنُوا أي بسبب رميهم إياهن فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ حيث يلعنهم اللاعنون والملائكة في الدارين وَلَهُمْ مع ما ذكر من اللعن عَذابٌ عَظِيمٌ هائل لا يقادر قدره لغاية عظم ما اقترفوه من الجناية.
وكذا ذكر سبحانه أحوالا مختصة بأولئك فقال عز وجل : يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ إلخ ، ودليل الاختصاص قوله

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 323
سبحانه : وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ [فصلت : 19] إلى آخر الآيات الثلاث ، ومن هنا قيل : إنه لا يجوز أن يراد بالمحصنات إلخ المتصفات بالصفات المذكورة أمهات المؤمنين وغيرهن من نساء الأمة لأنه لا ريب في أن رمي غير أمهات المؤمنين ليس بكفر ، والذي ينبغي أن يعول الحكم عليه بكفر من رمى إحدى أمهات المؤمنين بعد نزول الآيات وتبين أنهن طيبات سواء استباح الرمي أم قصد الطعن برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أم لم يستبح ولم يقصد ، وأما من رمى قبل فالحكم بكفره مطلقا غير ظاهر.
والظاهر أنه يحكم بكفره إن كان مستبيحا أو قاصدا الطعن به عليه الصلاة والسلام كابن أبيّ لعنه اللّه تعالى فإن ذلك مما يقتضيه إمعانه في عداوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ولا يحكم بكفره إن لم يكن كذلك كحسان ومسطح وحمنة فإن الظاهر أنهم لم يكونوا مستحلين ولا قاصدين الطعن بسيد المرسلين صلى اللّه تعالى عليه وعلى آله أجمعين وإنما قالوا ما قالوا تقليدا فوبخوا على ذلك توبيخا شديدا ، ومما يدل دلالة واضحة على عدم كفر الرامين قبل بالرمي أنه عليه الصلاة والسلام لم يعاملهم معاملة المرتدين بالإجماع وإنما أقام عليهم حد القذف على ما جاء في بعض الروايات فالآية بناء على القول بخصوص المحصنات وهو الذي تعضده أكثر الروايات إن كانت لبيان حكم من يرمي عائشة أو إحدى أمهات المؤمنين مطلقا بعد تلك القصة كما هو ظاهر الفعل المضارع الواقع صلة الموصول فأمر الوعيد المذكور فيها على القول بأنه مختص بالكفار والمنافقين ظاهر لما سمعت من القول بكفر الرامي لإحدى أمهات المؤمنين بعد مطلقا ، وإن كانت لبيان حكم من رمى قبل احتاج أمر الوعيد إلى القول بأن المراد بالموصول أناس مخصوصون رموا عائشة رضي اللّه تعالى عنها استباحة لعرضها وقصد إلى الطعن برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كابن أبيّ وإخوانه المنافقين عليهم اللعنة ، وعلى هذا يكون التعبير بالمضارع لاستحضار الصورة التي هي من أغرب الغرائب أو للإشارة كما قيل إلى أن شأنهم الرمي وأنه يتجدد منهم آنا فآنا. وعلى هذا يمكن أن يقال المراد بيان حكم من لم يتب من الرمي فإن التائب من فعل قلما يقال فيه إن شأنه ذلك الفعل فيكون الوعيد مخصوصا بمن لم يتب.
والذي تقتضيه الأخبار أن كل من وقع في تلك المعصية تاب سوى اللعين ابن أبيّ وأشياعه من المنافقين. وعن ابن عباس أنها نزلت فيه خاصة ولا يخفى وجه الجمع عليه ، وقيل المراد بيان حكم من رمى والوعيد مشروط بعدم التوبة ولم يذكر للعلم به من القواعد المستقرة إذ الذنب كيفما كان يغفر بالتوبة ، فلا حاجة إلى أن يقال : المراد إن الذين شأنهم الرمي ليشعر بعدم التوبة ، والظاهر أن من لم يتب بعد نزول هذه الآيات كافر وليس هو إلا اللعين وأشياعه المنافقين.
واختار جمع وقال النحاس : هو أحسن ما قيل أن الحكم عام فيمن يرمي الموصوفات بالصفات المذكورة من نساء الأمة ، ورميهن إن كان مع استحلال فهو كفر فيستحق فاعله الوعيد المذكور وإن لم يتب على ما علم من القواعد وإن كان بدون استحلال فهو كبيرة وليس بكفر ، ويحتاج إلى منع اختصاص تلك العقوبات والأحوال بالكفار والمنافقين أو التزام القول بأن ذلك ثابت للجنس ويكفي في ثبوته لبعض أفراده ولا شك أن فيها من يموت كافرا. وفي البحر يناسب أن تكون هذه الآية كما قيل نزلت في مشركي مكة كانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفوها وقالوا : خرجت لتفجر قاله أبو حمزة اليماني ، ويؤيده قوله تعالى : يَوْمَ تَشْهَدُ إلخ ا ه.
وأنت تعلم أن الأوفق بالسياق والسباق ما عليه الأكثر من نزولها في شأن أم المؤمنين عائشة رضي اللّه تعالى عنها وحكم رمي سائر أمهاتهم حكم رميها وكذا حكم رمي سائر أزواج الأنبياء عليهم السلام وكذا أمهاتهم ، وعندي أن حكم رمي بنات النبي عليه الصلاة والسلام كذلك لا سيما بضعته الطاهرة الكريمة فاطمة الزهراء صلى اللّه تعالى

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 324
على أبيها وعليها وسلم ولم أر من تعرض لذلك فتدبر ، واعلم أنه لا خلاف في جواز لعن كافر معين تحقق موته على الكفر إن لم يتضمن إيذاء مسلم أو ذمي إذا قلنا باستوائه مع المسلم في حرمة الإيذاء أما إن تضمن ذلك حرم.
ومن الحرام لعن أبي طالب على القول بموته كافرا بل هو من أعظم ما يتضمن ما فيه إيذاء من يحرم إيذاؤه ، ثم إن لعن من يجوز لعنه لا أرى أنه يعد عبادة إلا إذا تضمن مصلحة شرعية ، وأما لعن كافر معين حي فالمشهور أنه حرام ومقتضى كلام حجة الإسلام الغزالي أنه كفر لما فيه من سؤال تثبيته على الكفر الذي هو سبب اللعنة وسؤال ذلك كفر ونص الزركشي على ارتضائه حيث قال عقبة : فتفطن لهذه المسألة فإنها غريبة وحكمها متجه وقد زل فيه جماعة ، وقال العلامة ابن حجر في ذلك : ينبغي أن يقال : إن أراد بلعنه الدعاء عليه بتشديد الأمر أو أطلق لم يكفر وإن أراد سؤال بقائه على الكفر أو الرضى ببقائه عليه كفر : ثم قال : فتدبر ذلك حق التدبر فإنه تفصيل متجه قضت به كلماتهم ا ه.
وكلعن الكافر الحي المعين بالشخص في الحرمة لعن الفاسق كذلك ، وقال السراج البلقيني : بجواز لعن العاصي المعين واحتج على ذلك
بحديث الصحيحين «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح»
وهو ظاهر فيما يدعيه وقول ولده الجلال البلقيني في بحثه معه : يحتمل أن يكون لعن الملائكة لها ليس بالخصوص بل بالعموم بأن يقولوا : لعن اللّه من دعاها زوجها إلى فراشه فأبت فبات غضبان بعيد جدا. ومما يؤيد قول السراج
خبر مسلم أنه صلّى اللّه عليه وسلّم مرّ بحمار وسم في وجهه فقال : «لعن اللّه من فعل هذا»
وهو أبعد عن الاحتمال الذي ذكره ولده ، وقد صح أنه صلّى اللّه عليه وسلّم لعن قبائل من العرب بأعيانهم فقال : «اللهم العن رعلا وذكوان وعصية عصوا اللّه تعالى ورسوله»
،
وفيه نوع تأييد لذلك أيضا ، لكن قيل : إنه يجوز أن يكون قد علم عليه الصلاة والسلام موتهم أو موت أكثرهم على الكفر فلم يلعن صلّى اللّه عليه وسلّم إلا من علم موته عليه ، ولا يخفى عليك الأحوط في هذا الباب ،
فقد صح «من لعن شيئا ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه»
وأرى الدعاء للعاصي المعين بالصلاح أحب من لعنه على القول بجوازه ، وأرى لعن من لعنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالوصف أو بالشخص عبادة من حيث إن فيه اقتداء برسول اللّه عليه الصلاة والسلام ، وكذا لعن من لعنه اللّه تعالى على الوجه الذي لعنه سبحانه به ، هذا وقوله عز وجل : يَوْمَ تَشْهَدُ إلخ إما متصل بما قبله مسوق لتقرير العذاب العظيم بتعيين وقت حلوله وتهويله ببيان ظهور جناية الرامين المستتبعة لعقوباتها على كيفية هائلة وهيئة خارقة للعادات فيوم ظرف لما في لَهُمْ من معنى الاستقرار لا لعذاب كما ذهب إليه الحوفي لما في جواز إعمال المصدر الموصوف من الخلاف ، وقيل : لإخلاله بجزالة المعنى وفيه نظر ، وإما منقطع عنه على أنه ظرف لا ذكر محذوفا أو ليوفيهم الآتي كما قيل بكل ، واختير أنه ظرف لفعل مؤخر وقد ضرب عنه الذكر صفحا للإيذان بأن العبارة لا تكاد تحيط بتفصيل ما يقع فيه من العظائم والكلام مسوق لتهويل اليوم بتهويل ما يحويه كأنه قيل : يوم تشهد عليهم أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يظهر من الأحوال والأهوال ما لا يحيط به نطاق المقال على أن الموصول المذكور عبارة عن جمع أعمالهم السيئة وجناياتهم القبيحة لا عن جناياتهم المعهودة فقط.
ومعنى شهادة الجوارح المذكورة بها أنه عز وجل ينطقها بقدرته فتخبر كل جارحة منها بما صدر عنها من أفاعيل صاحبها لا أن كلا منها يخبر بجنايتهم المعهودة فحسب. والموصول المحذوف عبارة عنها وعن فنون العقوبات المترتبة عليها كافة لا عن إحداها خاصة ففيه من ضروب التهويل بالإجمال والتفصيل ما لا مزيد عليه قاله شيخ الإسلام ، ثم قال : وجعل الموصول المذكور عبارة عن جناياتهم المعودة وحمل شهادة الجوارح على إخبار الكل

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 325
بها فقط تحجير للواسع وتهوين للأمر الرادع. والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرارهم على هاتيك الأعمال في الدنيا وتجددها منهم آنا فآنا. وتقديم عَلَيْهِمْ على الفاعل للمسارعة إلى كون الشهادة ضارة لهم مع ما فيه من التشويق إلى المؤخر ا ه ولا يخلو عن حسن.
وجوز أن تكون الشهادة بما ذكر مجازا عن ظهور آثاره على هاتيك الأعضاء بحيث يعلم من يشاهدهم ما عملوه وذلك بكيفية يعلمها اللّه تعالى. واعترض بأنه معارض بقوله تعالى : أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت :
21].
وأجيب بأن مجوز ما ذكر يجعل النطق مجازا عن الدلالة الواضحة كما قيل به في قولهم نطقت الحال أو يقول : هذا في حال وذاك في حال أو كل منهما في قوم.
ولا يخفى أن الظاهر بقاء الشهادة على حقيقتها إلا أنه استشكل ذلك بأنه حينئذ يلزم التعارض بين ما هنا وقوله تعالى في سورة يس الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ الآية [يس : 65] لأن الختم على الأفواه ينافي شهادة الألسن.
وأجيب بأن المراد من الختم على الأفواه منعهم عن التكلم بالألسنة التي فيها وذلك لا ينافي الألسنة نفسها الذي هو المراد من الشهادة كما أشرنا إليها فإن الألسنة في الأول آلة للفعل وفي الثاني فاعلة له فيجتمع الختم على الأفواه وشهادة الألسن بأن يمنعوا عن التكلم بالألسنة وتجعل الألسنة نفسها ناطقة متكلمة كما جعل سبحانه الذراع المسموم ناطقا متكلما حتى أخبر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بأنه مسموم وللمعتزلة في ذلك كلام ، وقيل في التوفيق يجوز أن يكون كل من الختم والشهادة في موطن وحال ، وأن يكون الشهادة في حق الرامين والختم في حق الكفرة ، وكأنه لما كانت هذه الآية في حق القاذف بلسانه وهو مطالب معه بأربعة شهداء ذكر فيها خمسة أيضا وصرح باللسان الذي به عمله ليفضحه جزاء له من جنس عمله قاله الخفاجي وقال : إنها نكتة سرية واللّه تعالى أعلم بأسرار كتابه فتدبر.
وقرأ الأخوان والزعفراني وابن مقسم وابن سعدان «يشهد» بالياء آخر الحروف ووجهه ظاهر.
وقوله تعالى : يَوْمَئِذٍ ظرف لقوله سبحانه : يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ والتنوين عوض عن الجملة المضافة إليها ، والتوفية إعطاء الشيء وافيا ، والدين هنا الجزاء ومنه كما تدين تدان ، والحق الموجد بحسب مقتضى الحكمة ، وقريب منه تفسيره بالثابت الذي يحق أن يثبت لهم لا محالة أي يومئذ تشهد عليهم أعضاؤهم المذكورة بأعمالهم القبيحة يعطيهم اللّه تعالى جزاءهم المطابق لمقتضى الحكمة وافيا تاما ، والكلام استئناف مسوق لبيان ترتيب حكم الشهادة عليها متضمن لبيان ذلك المبهم المحذوف فيما سبق على وجه الإجمال ، وجوز أن يكون يَوْمَئِذٍ بدلا من يَوْمَ تَشْهَدُ من جوز تعلق ذاك بيوفيهم. وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما «يوفيهم» مخففا ، وقرأ عبد اللّه ومجاهد وأبو روق وأبو حيوة «الحقّ» بالرفع على أنه صفة للاسم الجليل ، ويجوز الفصل بالمفعول بين الموصوف وصفته ، ومعنى الحق على هذه القراءة على ما قال الراغب الموجد للشيء بحسب ما تقتضيه الحكمة ، وفسره بعضهم بالعادل ، والأكثرون على تفسيره بالواجب لذاته ، وكذا في قوله سبحانه : وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ والمبين إما من أبان اللازم أي الظاهر حقيته على تقدير جعله نعتا للحق أو الظاهر ألوهيته عز وجل على تقدير جعله خبرا ثانيا أو من أبان المعتدي أي المظهر للأشياء كما هي في أنفسها ، وجملة يَعْلَمُونَ معطوفة على جملة يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ فإن كانت مقيدة بما قيدت به الأولى فالمعنى يوم إذ تشهد عليهم أعضاؤهم المذكورة بأعمالهم القبيحة يعلمون أن اللّه إلخ ، وإن لم تكن مقيدة بذلك جاز أن يكون المعنى ويعلمون عند معاينتهم الأهوال والخطوب أن اللّه إلخ ، والظاهر أن الشهادة على الأول وللمعاينة على الثاني دخلا في حصول العلم بمضمون ما في حيز

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 326
يَعْلَمُونَ فتأمل لتعرف كيفية الاستدلال على ذلك فإن فيه خفاء لا سيما مع ملاحظة الحصر المأخوذ من تعريف الطرفين وضمير الفصل ، وقيل : إن علم الخلق بصفاته تعالى يوم القيامة ضروري : وإن تفاوتوا في ذلك من بعض الوجوه فيعلمون ما ذكر من غير مدخلية أحد الأمرين ، ولعل فائدة هذا العلم يأسهم من إنقاذ أحد إياهم مما هم فيه أو انسداد باب الاعتراض المروح للقلب في الجملة عليهم أو تبين خطئهم في رميهم حرم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالباطل لما أن حقيته تأبى كونه عز وجل حقا أي موجدا للأشياء بحسب ما تقتضيه الحكمة لما قدمنا من أن فجور زوجات الأنبياء عليهم السلام مخل بحكمة البعثة ، وكذا تأبى كونه عز وجل حقا أي واجبا لذاته بناء على أن الوجوب الذاتي يستتبع الإنصاف بالحكمة بل بجميع الصفات الكاملة ، وهذه الجملة ظاهرة جدا في أن الآية في ابن أبيّ وأضرابه من المنافقين الرامين حرم الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم لأن المؤمن عالم أن اللّه تعالى هو الحق المبين منذ كان في الدنيا لا أنه يحدث له علم ذلك يوم القيامة. ومن ذهب إلى أنها في الرامين من المؤمنين أو فيهم وفي غيرهم من المنافقين قال : يحتمل أن يكون المراد من العلم بذلك التفات الذهن وتوجهه إليه ولا يأبى ذلك كونه حاصلا قبل. قد حمل السيد السند قدس سره في حواشي المطالع العلم في قولهم في تعريف الدلالة كون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر على ذلك لئلا يرد أنه يلزم على الظاهر أن لا يكون للفظ دلالة عند التكرار لامتناع علم المعلوم ويحتمل أن يكون قد نزل علمهم الحاصل قبل منزلة غير الحاصل لعدم ترتب ما يقتضيه من الكف عن الرمي عليه ومثل هذا التنزيل شائع في الكتاب الجليل ، ويحتمل أن يكون المراد يعلمون عيانا مقتضى أن اللّه هو الحق المبين. أعني الانتقام من الظالم للمظلوم. ويحتمل غير ذلك.
وأنت تعلم أن الكل خلاف الظاهر فتدبر ، وقوله تعالى : الْخَبِيثاتُ إلخ كلام مستأنف مؤسس على السنة الجارية فيما بين الخلق على موجب أن للّه تعالى ملكا يسوق الأهل إلى الأهل ، وقول القائل : «إن الطيور على أشباهها تقع» أي الخبيثات من النساء لِلْخَبِيثِينَ من الرجال أي مختصات بهم لا يتجاوزنهم إلى غيرهم على أن اللام للاختصاص وَالْخَبِيثُونَ أيضا لِلْخَبِيثاتِ لأن المجانسة من دواعي الانضمام وَالطَّيِّباتُ منهن لِلطَّيِّبِينَ منهم وَالطَّيِّبُونَ أيضا لِلطَّيِّباتِ منهن بحيث لا يتجاوزونهن إلى من عداهن وحيث كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أطيب الأطيبين وخيرة الأولين والآخرين تبين كون الصديقة رضي اللّه تعالى عنها من أطيب الطيبات بالضرورة واتضح بطلان ما قيل فيها من الخرافات حسبما نطق به قوله سبحانه : أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ على أن الإشارة إلى أهل البيت النبوي رجالا ونساء ويدخل في ذلك الصديقة رضي اللّه تعالى عنها دخولا أوليا ، وقيل : إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والصديقة وصفوان وقال الفراء : إشارة إلى الصديقة وصفوان والجمع يطلق على ما زاد على الواحد.
وفي الآية على جميع الأقوال تغليب أي أولئك منزهون مما يقوله أهل الإفك في حقهم من الأكاذيب الباطلة.
وجعل الموصوف للصفات المذكورة النساء والرجال حسبما سمعت رواه الطبراني عن ابن عباس ضمن خبر طويل ورواه الإمامية عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنهما واختاره أبو مسلم والجبائي وجماعة وهو الأظهر عندي وجاء في رواية أخرى عن ابن عباس أخرجها الطبراني أيضا وابن مردويه وغيرهما أن الْخَبِيثاتُ والطَّيِّباتُ صفتان للكلم وَالْخَبِيثُونَ والطَّيِّبُونَ صفتان للخبيثين من الناس وروي ذلك عن الضحاك والحسن والْخَبِيثُونَ عليه شامل للرجال والنساء على سبيل التغليب وكذا الطَّيِّبُونَ وأُولئِكَ إشارة إلى الطيبين وضمير يَقُولُونَ للخبيثين ، وقيل للآفكين أي الخبيثات من الكلم للخبيثين من الرجال والنساء أي مختصة ولا صقة بهم لا ينبغي أن تقال في حق غيرهم وكذا الخبيثون من الفريقين أحقاء بأن يقال في حقهم خبائث الكلم

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 327
والطيبات من الكلم للطيبين من الفريقين مختصة وحقيقة بهم وهم أحقاء بأن يقال في شأنهم طيبات الكلم أولئك الطيبون مبرؤون عن الاتصاف مما يقول الخبيثون وقيل الآفكون في حقهم فمآله تنزيه الصديقة رضي اللّه تعالى عنها أيضا.
وقيل : المراد الخبيثات من القول مختصة بالخبيثين من فريقي الرجال والنساء لا تصدر عن غيرهم والخبيثون من الفريقين مختصون بالخبيثات من القول متعرضون لها والطيبات من القول للطيبين من الفريقين أي مختصة بهم لا تصدر عن غيرهم والطيبون من الفريقين مختصون بالطيبات من القول لا يصدر عنهم غيرها أولئك الطيبون مبرؤون مما يقول الخبيثون أي لا يصدر عنهم مثل ذلك ، وروي ذلك عن مجاهد ، والكلام عليه على حذف مضاف إلى ما ، ومآله الحط على الآفكين وتنزيه القائلين سبحانك هذا بهتان عظيم لَهُمْ مَغْفِرَةٌ عظيمة لما لا يخلو البشر عنه من الذنب ، وحسنات الأبرار سيئات المقربين وَرِزْقٌ كَرِيمٌ هو الجنة كما قاله أكثر المفسرين ، ويشهد له قوله تعالى في سورة الأحزاب في أمهات المؤمنين وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً [الأحزاب : 31] فإن المراد به ثمت الجنة بقرينة أَعْتَدْنا والقرآن يفسر بعضه بعضا ، وفي هذه الآيات من الدلالة على فضل الصديقة ما فيها ، ولو قلبت القرآن كله وفتشت عما أوعد به العصاة لم تر اللّه عز وجل قد غلظ في شيء تغليظه في الإفك وهو دال على فضلها أيضا ، وكانت رضي اللّه تعالى عنها تتحدث بنعمة اللّه تعالى عليها بنزول ذلك في شأنها.
فقد أخرج ابن أبي شيبة عنها أنها قالت : خلال فيّ لم تكن في أحد من الناس إلا ما آتى اللّه تعالى مريم ابنة عمران واللّه ما أقول هذا اني أفتخر على صواحباتي قيل : وما هن؟ قالت : نزل الملك بصورتي وتزوجني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لسبع سنين وأهديت له لتسع سنين وتزوجني بكرا لم يشركه فيّ أحد من الناس وأتاه الوحي وأنا وإياه في لحاف واحد وكنت من أحب الناس إليه ونزل فيّ آيات من القرآن كادت الأمة تهلك فيهن ورأيت جبريل عليه السلام ولم يره أحد من نسائه غيري وقبض في بيتي لم يله أحد غير الملك وأنا.
وأخرج ابن مردويه عنها أنها قالت : لقد نزل عذري من السماء ولقد خلقت «1» طيبة عند طيب ولقد وعدت مغفرة وأجرا عظيما ، وفي قوله سبحانه : لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ بناء على شموله عائشة رضي اللّه تعالى عنها رد على الرافضة القائلين بكفرها وموتها على ذلك وحاشاها لقصة وقعة الجمل مع أشياء افتروها ونسبوها إليها ، ومما يرد زعم ذلك أيضا قول عمار بن ياسر في خطبته حين بعثه الأمير كرّم اللّه تعالى وجهه مع الحسن رضي اللّه تعالى عنه يستنفران أهل المدينة وأهل الكوفة : إني لأعلم أنها زوجة نبيكم عليه الصلاة والسلام في الدنيا والآخرة ولكن اللّه تعالى ابتلاكم ليعلم أتطيعونه أم تطيعونها ، ومما يقضى منه العجب ما رأيته في بعض كتب الشيعة من أنها خرجت من أمهات المؤمنين بعد تلك الوقعة لأن
النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال للأمير كرم اللّه تعالى وجهه : قد أذنت لك أن تخرج بعد وفاتي من الزوجية من شئت من أزواجي
فأخرجها كرم اللّه تعالى وجهه من ذلك لما صدر منها معه ما صدر ، ولعمري إنّ هذا مما يكاد يضحك الثكلى ، وفي حسن معاملة الأمير كرم اللّه تعالى وجهه إياها رضي اللّه تعالى عنها بعد استيلائه على العسكر الذي صحبها الثابت عند الفريقين ما يكذب ذلك ، ونحن لا نشك في فضلها رضي اللّه تعالى عنها لهذه الآيات ولما جاء في مدحها عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، ولو لم يكن من ذلك سوى ما
أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أنس رضي اللّه تعالى عنه قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إن فضل عائشة على
___________
(1) بالقاف ويروى بالفاء وتشديد اللام أي تركت عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعد وفاته طيبة ا ه منه.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 328
النساء كفضل الثريد على الطعام»
لكني مع هذا لا أقول بأنها أفضل من بضعته صلّى اللّه عليه وسلّم الكريمة فاطمة الزهراء رضي اللّه تعالى عنها والوجه لا يخفى ، وفي هذا المقام أبحاث تطلب من محلها ، ثم إن الذي أراه أن إنزال هذه الآيات في أمرها لمزيد الاعتناء بشأن الرسول عليه الصلاة والسلام ولجبر قلب صاحبه الصديق رضي اللّه تعالى عنه وكذا قلب زوجته أم رومان فقد اعتراهما من ذلك الإفك ما اللّه تعالى أعلم به. ولمزيد انقطاع عائشة رضي اللّه تعالى عنها إليه عز وجل مع فضلها وطهارتها في نفسها. وقد جاء في خبر غريب ذكره ابن النجار «1» في تاريخ بغداد بسنده عن أنس بن مالك رضي اللّه تعالى عنه قال : «كنت جالسا عند أم المؤمنين عائشة رضي اللّه تعالى عنها لأقر عينها بالبراءة وهي تبكي فقالت : هجرني القريب والبعيد حتى هجرتني الهرة وما عرض عليّ طعام ولا شراب فكنت أرقد وأنا جائعة ظامئة فرأيت في منامي فتى فقال لي : ما لك؟ فقلت : حزينة مما ذكر الناس فقال : ادعي بهذه الدعوات يفرج اللّه تعالى عنك فقلت : وما هي؟ فقال قولي : يا سابغ النعم ويا دافع النقم ويا فارج الغمم ويا كاشف الظلم يا أعدل من حكم يا حسب من ظلم يا ولي من ظلم يا أول بلا بداية ويا آخر بلا نهاية يا من له اسم بلا كنية اللهم اجعل لي من أمري فرجا ومخرجا قالت : فانتبهت وأنا ريانة شبعانة وقد أنزل اللّه تعالى فرجي
،
ويسمى هذا الدعاء دعاء الفرج فليحفظ وليستعمل ، ثم إنه عز وجل إثر ما فصل الزواجر عن الزنا وعن رمي العفائف عنه شرع في تفصيل الزواجر عما عسى يؤدي إلى أحدهما من مخالطة الرجال بالنساء ودخولهم عليهن في أوقات الخلوات وتعليم الآداب الجميلة والأفاعيل المرضية المستتبعة لسعادة الدارين فقال سبحانه : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ إلخ ، وسبب النزول على ما أخرج الفريابي وغيره من طريق عدي بن ثابت عن رجل من الأنصار أن امرأة قالت : يا رسول اللّه إني أكون في بيتي على الحالة التي لا أحب أن يراني عليها أحد لا ولد ولا والد فيأتيني آت فيدخل عليّ فكيف أصنع؟
فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ ، وإضافة البيوت إلى ضمير المخاطبين لامية اختصاصية ، والمراد عند بعض الاختصاص الملكي ، ووصف البيوت بمغايرة بيوتهم بهذا المعنى خارج مخرج العادة التي هي سكنى كل أحد في ملكه وإلا فالآجر والمعير أيضا منهيان عن الدخول بغير إذن.
وقال بعضهم : المراد اختصاص السكنى أي غير بيوتكم التي تسكنونها لأن كون الآجر والمعير منهيين كغيرهما عن الدخول بغير إذن دليل على عدم إرادة الاختصاص الملكي فيحمل ذلك على الاختصاص المذكور فلا حاجة إلى القول بأن ذاك خارج مخرج العادة ، وقرىء بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ بكسر الباء لأجل الياء حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا أي تستأذنوا من يملك الإذن من أصحابها ، وتفسيره بذلك أخرجه ابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، ويخالفه ما روى الحاكم وصححه والضياء في المختارة والبيهقي في شعب الإيمان وناس آخرون عنه أنه قال في حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا أخطأ الكاتب وإنما هي «حتى تستأذنوا» لكن قال أبو حيان : من روى عن ابن عباس أنه قال ذلك فهو طاعن في الإسلام ملحد في الدين وابن عباس بريء من ذلك القول انتهى.
وأنت تعلم أن تصحيح الحاكم لا يعول عليه عند أئمة الحديث لكن للخبر المذكور طرق كثيرة ، وكتاب الأحاديث المختارة للضياء كتاب معتبر ، فقد قال السخاوي في فتح المغيث في تقسيم أهل المسانيد ومنهم من يقتصر على الصالح للحجة كالضياء في مختارته ، والسيوطي بعد ما عد في ديباجة جمع الجوامع الكتب الخمسة
___________
(1) ونقله السيوطي في الدر المنثور ا ه منه.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 329
وهي صحيح البخاري وصحيح مسلم وصحيح ابن حبان والمستدرك والمختارة للضياء قال وجميع ما في هذه الكتب الخمسة صحيح.
ونقل الحافظ ابن رجب في طبقات الحنابلة عن بعض الأئمة أنه قال : كتاب المختارة خير من صحيح الحاكم فوجود هذا الخبر هناك مع ما ذكر من تعدد طرقه يبعد ما قاله أبو حيان ، وابن الأنباري أجاب عن هذا الخبر ونحوه من الأخبار الطاعنة بحسب الظاهر في تواتر القرآن المروية عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما. وسيأتي في تفسير هذه السورة إن شاء اللّه تعالى بعضها أيضا. بأن الروايات ضعيفة ومعارضة بروايات أخر عن ابن عباس أيضا وغيره وهذا دون طعن أبي حيان. وأجاب ابن اشته عن جميع ذلك بأن المراد الخطأ في الاختيار وترك ما هو الأولى بحسب ظنه رضي اللّه تعالى عنه لجمع الناس عليه من الأحرف السبعة لا أن الذي كتب خطأ خارج عن القرآن.
واختار الجلال السيوطي هذا الجواب وقال : هو أولى وأقعد من جواب ابن الأنباري ، ولا يخفى عليك أن حمل كلام ابن عباس على ذلك لا يخلو عن بعد لما أن ما ذكر خلاف ظاهر كلامه ، وأيضا ظن ابن عباس أولوية ما أجمع سائر الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم على خلافه مما سمع من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في العرضة الأخيرة بعيده وكأنهم رأوا أن التزام ذلك أهون من إنكار ثبوت الخبر عن ابن عباس مع تعدد طرقه وإخراج الضياء إياه في مختارته ، ويشجع على هذا الإنكار اعتقاد جلالة ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وثبوت الإجماع على تواتر خلاف ما يقتضيه ظاهر كلامه فتأمل.
واستعمال الاستئناس بمعنى الاستئذان بناء على أنه استفعال من آنس الشيء بالمد علمه أو أبصره وإبصاره طريق إلى العلم فالاستئناس استعلام والمستأذن طالب العلم بالحال مستكشف أنه هل يراد دخوله أو لا.
وقيل الاستئناس خلاف الاستيحاش فهو من الأنس بالضم خلاف الوحشة. والمراد به المأذونية فكأنه قيل :
حتى يؤذن لكم فإن من يطرق بيت غيره لا يدري أيؤذن له أم لا؟ فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه فإذا أذن له استأنس ، وهو في ذلك كناية أو مجاز ، وقيل : الاستئناس من الإنس بالكسر بمعنى الناس أي حتى تطلبوا معرفة من في البيوت من الإنس. وضعف بأن فيه اشتقاقا من جامد كما في المسرج أنه مشتق من السراج وبأن معرفة من في البيت لا تكفي بدون الإذن فيوهم جواز الدخول بلا إذن. ومن الناس من رجحه بمناسبته لقوله تعالى : فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً ولا يكافىء التضعيف بما سمعت.
وذهب الطبري إلى أن المعنى حتى تؤنسوا أهل البيت من أنفسكم بالاستئذان ونحوه وتؤنسوا أنفسكم بأن تعلموا أن قد شعر بكم ولا يخفى ما فيه ، وقيل : المعنى حتى تطلبوا علم أهل البيت ، والمراد حتى تعلموهم على أتم وجه ، ويرشد إلى ذلك ما
روي عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال : قلنا يا رسول اللّه ما الاستئناس؟ فقال : «يتكلم الرجل بالتسبيحة والتكبيرة والتحميدة يتنحنح يؤذن أهل البيت»
وما
أخرجه ابن المنذر وجماعة عن مجاهد أنه قال : تستأنسوا تنحنحوا وتنخموا ،
وقيل المراد حتى تؤنسوا أهل البيت بإعلامهم بالتسبيح أو نحوه ، والخبران المذكوران لا يأبيانه وكلا القولين كما ترى ، وفي دلالة ما ذكر من تفسير الاستئناس في الخبر على ما سبق له بحث سنشير إليه إن شاء اللّه تعالى وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها أي الساكنين فيها ، وظاهر الآية بأن الاستئذان قبل التسليم وبه قال بعضهم.
وقال النووي : الصحيح المختار تقديم التسليم على الاستئذان ،
فقد أخرج الترمذي عن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنه قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم السلام قبل الكلام»
وابن أبي شيبة والبخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة فيمن يستأذن قبل أن يسلم قال : لا يؤذن له حتى يسلم ، وأخرج ابن أبي شيبة وابن وهب في كتاب المجالس عن زيد بن أسلم قال : أرسلني أبي إلى ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما فجئته فقلت : أألج؟ فقال : ادخل فلما دخلت قال :

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 330
مرحبا يا ابن أخي لا تقل أألج ولكن قل : السلام عليكم فإذا قيل : وعليك فقل : أأدخل؟ فإذا قالوا : ادخل فادخل.
وأخرج قاسم بن أصبغ وابن عبد البر في التمهيد عن ابن عباس قال : استأذن عمر رضي اللّه تعالى عنه على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : السلام على رسول اللّه السلام عليكم أيدخل عمر؟ واختار الماوردي التفصيل وهو أنه إن وقعت عين المستأذن على من في البيت قبل دخوله قدم السلام وإلا قدم الاستئذان ، والظاهر أن الاستئذان بما يدل على طلب الإذن صريحا والمأثور المشهور في ذلك أأدخل؟ كما سمعت ، وجوز أن يكون بما يفهم منه ذلك مطلقا وجعلوا منه التسبيح والتكبير ونحوهما مما يحصل به إيذان أهل البيت بالجائي فإن في إيذانهم دلالة على ما طلب الإذن منهم ، وحملوا ما تقدم من حديث أبي أيوب وكلام مجاهد على ذلك ، وهو على ما روي عن عطاء واجب على كل محتلم ويكفي فيه المرة الواحدة على ما يقتضيه ظاهر الآية ، وأخرج البيهقي في الشعب وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال :
كان يقال الاستئذان ثلاثا فمن لم يؤذن له فيهن فليرجع ، أما الأولى فيسمع الحي ، وأما الثانية فيأخذوا حذرهم ، وأما الثالثة فإن شاؤوا أذنوا وإن شاؤوا ردوا. وفي الأمر بالرجوع بعد الثلاث حديث مرفوع أخرجه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود عن أبي سعيد الخدري.
وذكر أبو حيان أنه لا يزيد على الثلاث إلا إن تحقق أن من في البيت لم يسمع ، وظاهر الآية مشروعية الاستئذان إذا أريد الدخول على المحارم ، وقد أخرج مالك في الموطأ عن عطاء بن يسار «أن رجلا قال للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم : أأستأذن على أمي؟ قال : نعم قال : ليس لها خادم غيري أأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال : أتحب أن تراها عريانة؟ قال الرجل : لا قال : فاستأذن عليها»
وأخرج ابن جرير ، والبيهقي عن ابن مسعود عليكم أن تستأذنوا على أمهاتكم وأخواتكم ، وهو أيضا على ما يقتضيه بعض الآثار مشروع للنساء إذا أردن دخول بيوت غير بيوتهن. فقد أخرج ابن أبي حاتم عن أم إياس قالت : كنت في أربع نسوة نستأذن على عائشة رضي اللّه عنها تعالى عنها فقلت : ندخل؟ فقالت : لا فقال واحد :
السلام عليكم أندخل؟ قالت : ادخلوا ثم قالت : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ إلخ وإذا صح ذلك ففي الآية نوع تغليب ، ووجه مشروعية الاستئذان لهن نحو وجه مشروعيته للرجال فإن أهل البيت قد يكونون على حال لا يحبون اطلاع النساء عليه كما لا يحبون اطلاع الرجال.
وصح من حديث أخرجه الشيخان. وغيرهما «إنما جعل الاستئذان من أجل النظر»
ومن هنا لا ينبغي النظر في قعر البيت قبل الاستئذان ، وقد أخرج الطبراني عن أبي أمامة رضي اللّه تعالى عنه عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «من كان يشهد أني رسول اللّه فلا يدخل على أهل بيت حتى يستأذن ويسلم فإذا نظر في قعر البيت فقد دخل»
وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كما أخرج أبو داود والبخاري في الأدب المفرد عن عبد اللّه بن بشر إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ويقول السلام عليكم» وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور فاستقبال الباب ربما يفضي إلى النظر ، وظاهر الآية أيضا مشروعية الاستئذان للأعمى لدخوله في عموم الموصول ، ووجهها كراهة اطلاعه بواسطة السمع على ما لا يجب أهل البيت اطلاعه عليه من الكلام مثلا.
وفي الكشاف إنما شرع الاستئذان لئلا يوقف على الأحوال التي يطويها الناس في العادة عن غيرهم ويتحفظون من اطلاع أحد عليها ولم يشرع لئلا يطلع الدامر على عورة أحد ولا تسبق عينه إلى ما لا يحل النظر إليه فقط ، وهو تعليل حسن إلا أنه يحتاج القول بذلك إلى القول بأن عليه الصلاة والسلام إنما جعل الاستئذان من أجل النظر» خارج مخرج الغالب.
وجيء بإنما لمزيد الاعتناء لا للحصر وقد صرحوا بمجيء إنما لذلك فلا تغفل ثم اعلم أن الاستئذان والتسليم

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 331
متغايران لكن ظاهر بعض الأخبار يقتضي أن الاستئذان داخل في التسليم كما أن بعضها يقتضي مغايرته له وعدم دخوله فيه ، ووجه جعله من التسليم أنه بدونه كالعدم لما أن السنة فيه أن يقرن بالتسليم. هذا وفي مصحف عبد اللّه كما أخرج ابن جرير وغيره عن إبراهيم «حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا» ذلِكُمْ إشارة على ما قيل إلى الدخول بالاستئذان والتسليم المفهوم من الكلام ، وقيل : إشارة إلى المذكور في ضمن الفعلين المغيا بهما أي الاستئذان والتسليم خَيْرٌ لَكُمْ من الدخول بغتة والدخول على تحية الجاهلية ، فقد كان الرجل منهم إذا أراد أن يدخل بيتا غير بيته يقول : حييتم صباحا حييتم مساء فيدخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف ، وخيرية المفضل عليه قيل على زعمهم لما في الانتظار من المذلة ولعدم تحية الجاهلية حسنة كما هو عادة الناس اليوم في قولهم : صباح الخير ومساء الخير ، ولعل الأولى أن يقال : إن ذلك من قبيل الخل أحلى من العسل.
وجوز أن يكون خَيْرٌ صفة فلا تقدير ، وقوله تعالى : لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ تعليل على ما اختاره جمع لمحذوف أي أرشدتم إلى ذلك أو قيل لكم هذا كي تتذكروا وتتعظوا وتعملوا بموجبه فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً بأن كانت خالية من الأهل فَلا تَدْخُلُوها واصبروا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ من جهة من يملك الإذن عند وجدانكم إياه ، ووجه ذلك أن الدخول في البيوت الخالية من غير إذن سبب للقيل والقال ، وفيه تصرف بملك الغير بغير رضاه وهو يشبه الغضب ، وهذه الآية لبيان حكم البيوت الخالية عن أهلها كما أن الآية الأولى لبيان حكم البيوت التي فيها أهلها.
وجوز أن تكون هذه تأكيدا لأمر الاستئناس وأنه لا بدّ منه والأمر دائر عليه ، والمعنى فإن لم تجدوا فيها أحدا من الآذنين أي ممن يملك الإذن فلا تدخلوها إلخ ويفيد هذا حرمة دخول ما فيه من لا يملك الإذن كعبد وصبي من دون إذن من يملكه ، ومن اختار الأول قال : إن حرمة ما ذكر ثابتة بدلالة النص فتأمل. وقال سبحانه : فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا إلى آخره دون فإن لم يكن فيها أحد لأن المعتبر وجد أنها خالية من الأهل مطلقا أو ممن يملك ذلك الإذن سواء كان فيها أحد في الواقع أم لم يكن كذا قيل : وعليه فالمراد من قولهم في تفسير ذلك ، بأن كانت خالية كونها خالية بحسب الاعتقاد ، وكذا يقال في نظيره فلا تغفل ، ثم إن ما أفادته الآيتان من الحكم قد خصصه الشرع فجوز الدخول لإزالة منكر توقفت على الدخول من غير إذن أهل البيت والدخول في البيت الخالي لإطفاء حريق فيه أو نحو ذلك.
وقد ذكر الفقهاء السور التي فيها الدخول من غير إذن ممن يملك الإذن فلتراجع ، وقيل : المراد بالإذن في قوله سبحانه : حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ ما يعم الإذن دلالة وشرعا ولذا وقع بصيغة المجهول وحينئذ لا حاجة إلى القول بالتخصيص وفيه خفاء وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا أي إن أمرتم من جهة أهل البيت بالرجوع سواء كان الآمر من يملك الإذن أم لا فارجعوا ولا تلحوا هُوَ أي الرجوع أَزْكى لَكُمْ أي أطهر مما لا يخلو عنه اللج والعناد والوقوف على الأبواب بعد القول المذكور من دنس الدناءة والرذالة أو أنفع لدينكم ودنياكم على أن أَزْكى من الزكاة بمعنى النمو.
والظاهر أن صيغة أفعل في الوجهين للمبالغة ، وقيدنا الوقوف على الأبواب بما سمعت لأنه ليس فيه دناءة مطلقا ، فقد روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه كان يأتي دور الأنصار لطلب الحديث فيقعد على الباب ولا يستأذن حتى يخرج إليه فإذا خرج ورآه قال : يا ابن عم رسول اللّه لو أخبرتني بمكانك فيقول : هكذا أمرنا أن نطلب العلم ، وكأنه رضي اللّه تعالى عنه عد ذلك من التواضع وهو من أقوى أسباب الفتوح لطالب العلم ، وقد أعطاني اللّه عز

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 332
وجل نصيبا وافيا منه فكنت أكثر التلامذة تواضعا وخدمة للمشايخ والحمد للّه تعالى على ذلك وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ فيعلم ما تأتون وما تذرون مما كلفتموه فيجازيكم عليه.
[سورة النور (24) : الآيات 29 إلى 33]
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ
إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا أي بغير استئذان بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ أي موضوعة لسكنى طائفة مخصوصة فقط بل ليتمتع بها من يحتاج إليها كائنا من كان من غير أن يتخذها سكنا كالربط والخانات والحوانيت والحمامات وغيرها فإنها معدة لمصالح الناس كافة كما ينبىء عنه قوله تعالى : فِيها مَتاعٌ لَكُمْ فإنه صفة للبيوت أو استئناف جار مجرى التعليل لنفي الجناح أي فيها حق تمتع لكم كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء الأمتعة والرحال والشراء والبيع والاغتسال وغيرها مما يليق بحال البيوت وداخليها فلا بأس بدخولها بغير استئذان من داخليها من قبل ولا ممن يتولى أمرها ويقوم بتدبيرها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل أنه لما نزل قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا إلخ قال أبو بكر رضي اللّه تعالى عنه : يا رسول اللّه فكيف بتجار قريش الذين يختلفون من مكة والمدينة والشام وبيت المقدس ولهم بيوت معلومة على الطريق فكيف يستأذنون ويسلمون وليس فيها سكان؟ فرخص سبحانه في ذلك فأنزل قوله تعالى :
لَيْسَ عَلَيْكُمْ
إلخ ، وعنى الصديق رضي اللّه تعالى عنه بالبيوت المعلومة الخانات التي في الطرق وهي في الآية أعم من ذلك ، ولا عبرة بخصوص السبب فما روي عن ابن جبير ومحمد بن الحنفية والضحاك وغيرهم من تفسيرها فيها بذلك من باب التمثيل ، وكذا ما أخرجه جماعة عن عطاء وعبد بن حميد وإبراهيم النخعي أنها البيوت الخربة التي تدخل للتبرز ، وأما ما روي عن ابن الحنفية أيضا من أنها دور مكة فهو من باب التمثيل أيضا لكن صحة ذلك مبنية

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 333
على القول بأن دور مكة غير مملوكة والناس فيها شركاء وقد علمت ما في المسألة من الخلاف.
وأخرج أبو داود في الناسخ وابن جرير عن ابن عباس أن قوله سبحانه : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها قد نسخ بقوله تعالى : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ إلخ واستثنى منه البيوت الغير المسكونة ، وروي حديث الاستثناء عن عكرمة والحسن وهو الذي يقتضيه ظاهر خبر مقاتل وإليه ذهب الزمخشري وتعقبه أبو حيان بأنه لا يظهر ذلك الآن الآية الأولى في البيوت المملوكة والمسكونة وهذه الآية في البيوت المباحة التي لا اختصاص لها بواحد دون واحد. والذي يقتضيه النظر الجليل أن البيوت فيما تقدم أعم من هذه البيوت فيكون ما ذكر تخصيصا لذلك وهو المعني بالاستثناء فتدبر ولا تغفل.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ وعيد لمن يدخل مدخلا من هذه المداخل لفساد أو اطلاع على عورات قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ شروع في بيان أحكام كلية شاملة للمؤمنين كافة يندرج فيها حكم المستأذنين عند دخولهم البيوت اندراجا أوليا. وتلوين الخطاب وتوجيهه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وتفويض ما في حيزه من الأوامر والنواهي إليه عليه الصلاة والسلام قيل لأنها تكاليف متعلقة بأمور جزئية كثيرة الوقوع حرية بأن يكون الآمر بها والمتصدي لتدبيرها حافظا ومهيمنا عليهم. وقيل : إن ذلك لما أن بعض المؤمنين جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كالمستدعي لأن يقول له ما في حيز القول.
فقد أخرج ابن مردويه عن عليّ كرّم اللّه تعالى وجهه قال : مر رجل على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في طريق من طرقات المدينة فنظر إلى امرأة ونظرت إليه فوسوس لهما الشيطان أنه لم ينظر أحدهما إلى الآخر إلا إعجابا به فبينما الرجل يمشي إلى جنب حائط وهو ينظر إليها إذ استقبله الحائط فشق أنفه فقال : واللّه لا أغسل الدم حتى آتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأخبره أمري فأتاه فقص عليه قصته فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : هذا عقوبة ذنبك وأنزل اللّه تعالى قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ
ومفعول القول مقدر ، ويَغُضُّوا جواب لقل لتضمنه معنى حرف الشرط كأنه قيل : إن تقل لهم غضوا يغضوا ، وفيه إيذان بأنهم لفرط مطاوعتهم لا ينفك فعلهم عن أمره عليه الصلاة والسلام وأنه كالسبب الموجب له وهذا هو المشهور.
وجوز أن يكون يَغُضُّوا جوابا للأمر المقدر المقول للقول. وتعقب بأن الجواب لا بد أن يخالف المجاب إما في الفعل والفاعل نحو ائتني أكرمك أو في الفعل نحو أسلم تدخل الجنة أو في الفاعل نحو قم أقم ولا يجوز أن يتوافقا فيه ، وأيضا الأمر للمواجهة ويَغُضُّوا غائب ومثله لا يجوز ، وقيل عليه : إنه لم لا يجوز أن يكون من قبيل «من كانت هجرته» الحديث ولا نسلم أنه لا يجاب الأمر بلفظ الغيبة إذا كان محكيا بالقول لجواز التلوين حينئذ وفيه بحث ، ومن أنصف لا يرى هذا الوجه وجيها وهو على ما فيه خلاف الظاهر جدا ، وجوز الطبرسي. وغيره أن يكون يَغُضُّوا مجزوما بلام أمر مقدرة لدلالة قُلْ أي قل لهم ليغضوا والجملة نصب على المفعولية للقول ، وغض البصر إطباق الجفن على الجفن ، ومِنْ قيل صلة وسيبويه يأبى ذلك في مثل هذا الكلام والجواز مذهب الأخفش ، وقال ابن عطية : يصح أن تكون من لبيان الجنس ويصح أن تكون لابتداء الغاية. وتعقبه في البحر بأنه لم يتقدم مبهم لتكون من لبيان الجنس على أن الصحيح أنها ليس من موضوعاتها أن تكون لبيان الجنس انتهى ، والجل على أنها هنا تبعيضية والمراد غض البصر عما يحرم والاقتصار به على ما يحل ، وجعل الغض عن بعض المبصر غض بعض البصر وفيه كما في الكشف كناية حسنة ثم إن غض البصر عما يحرم النظر إليه واجب ونظرة الفجأة التي لا تعمد فيها معفو عنها ،
فقد أخرج أبو داود والترمذي وغيرهما عن بريدة رضي اللّه تعالى عنه قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «لا تتبع النظرة

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 334
النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة»
وبدأ سبحانه بالإرشاد إلى غض البصر لما في ذلك من سد باب الشر فإن النظر باب إلى كثير من الشرور وهو بريد الزنا وراء الفجور ، وقال بعضهم :
كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين العين موقوف على الخطر
كم نظرة فعلت في قلب فاعلها فعل السهام بلا قوس ولا وتر
يسر ناظره ما ضر خاطره لا مرحبا بسرور عاد بالضرر
والظاهر أن الإرشاد لكل واحد من المؤمنين ولفظ الجمع لا يأبى ذلك ، والظاهر أيضا أن المؤمنين أعم من العباد وغيرهم ، وزعم بعضهم جواز أن يكون المراد بهم العباد والمؤمنين المخلصين على أن يكون المعنى قل للمؤمنين الكاملين يغضوا من أبصارهم وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ أي عما لا يحل لهم من الزنا واللواطة ، ولم يؤت هنا بمن التبعيضية كما أتى بها فيما تقدم لما أنه ليس فيه حسن كناية كما في ذلك. وفي الكشاف دخلت مِنْ في غض البصر دون حفظ الفرج دلالة على أن أمر النظر أوسع ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن وصدورهن وثديهن وأعضادهن وسوقهن وأقدامهن وكذلك الجواري المستعرضات للبيع والأجنبية ينظر إلى وجهها وكفيها وقدميها في إحدى الروايتين وأما أمر الفرج فمضيق ، وكفاك فرقا أن أبيح النظر إلا ما استثني منه وحظر الجماع إلا ما استثنى منه انتهى ، وقال صاحب الفرائد : يمكن أن يقال : المراد غض البصر عن الأجنبية والأجنبية يحل النظر إلى بعضها وأما الفرج فلا طريق إلى الحل فيه أصلا بالنسبة إلى الأجنبية فلا وجه لدخول مِنْ فيه وفيه تأمل ، وقيل : لم يؤت بمن هنا لأن المراد من حفظ الفروج سترها.
فقد أخرج ابن المنذر وجماعة عن أبي العالية أنه قال : كل آية يذكر فيها حفظ الفرج فهو من الزنا إلا هذه الآية في النور وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ فهو أن لا يراها أحد ، وروي نحوه عن أبي زيد ، والستر مأمور به مطلقا.
وتعقب بأنه يجوز الكشف في مواضع فلو جيء بمن لكان فيه إشارة إلى ذلك ، وتفسير حفظ الفروج هنا خاصة بسترها قيل لا يخلو عن بعد لمخالفته لما وقع في القرآن الكريم كما اعترف به من فسره بما ذكر.
واختار بعض المدققين أن المراد من ذلك حفظ الفروج عن الإفضاء إلى ما لا يحل وحفظها عن الإبداء لأن الحفظ لعدم ذكر صلته يتناول القسمين ، وذكر أن الحفظ عن الإبداء يستلزم الآخر من وجهين عدم خلوه عن الإبداء عادة وكون الحفظ عن الإبداء بل الأمر بالتستر مطلقا للحفظ عن الإفضاء ، ومن هنا تعلم أن من ضعف ما روي عن أبي العالية. وابن زيد بعدم تعرض الآية عليه بحفظ الفرج عن الزنا لم يصب المحز.
ذلِكَ أي ما ذكر من الغض والحفظ أَزْكى لَهُمْ أي أطهر من دنس الريبة أو انفع من حيث الدين والدنيا فإن النظر بريد الزنا وفيه من المضار الدينية أو الدنيوية ما لا يخفى وأفعل للمبالغة دون التفضيل.
وجوز أن تكون للتفضيل على معنى أزكى من كل شيء نافع أو مبعد عن الريبة ، وقيل على معنى أنه أنفع من الزنا والنظر الحرام فإنهم يتوهمون لذة ذلك نفعا إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ لا يخفى عليه شيء مما يصدر عنهم من الأفاعيل التي من جملتها إجالة النظر واستعمال سائر الحواس وتحريك الجوارح وما يقصدون بذلك فليكونوا على حذر منه عز وجل في كل ما يأتون وما يذرون وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ فلا ينظرن إلى ما لا يحل لهن النظر إليه كالعورات من الرجال والنساء وهي ما بين السرة والركبة ، وفي الزواجر لابن حجر المكي كما يحرم نظر

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 335
الرجل للمرأة يحرم نظرها إليه ولو بلا شهوة ولا خوف فتنة ، نعم إن كان بينهما محرمية نسب أو رضاع أو مصاهرة نظر كل إلى ما عدا ما بين سرة الآخر وركبته. والمذكور في بعض كتب الأصحاب إن كان نظرها إلى ما عدا السرة والركبة بشهوة حرم وإن بدونها لا يحرم نعم غضها بصرها من الأجانب أصلا أولى بها وأحسن ،
فقد أخرج أبو داود والترمذي وصححه. والنسائي. والبيهقي في سننه عن أم سلمة أنها كانت عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وميمونة قالت : فبينما نحن عنده أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه الصلاة والسلام فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : احتجبا منه فقلت : يا رسول اللّه هو أعمى لا يبصر قال : أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه؟
، واستدل به من قال بحرمة نظر المرأة إلى شيء من الرجل الأجنبي مطلقا ، ولا يبعد القول بحرمة نظر المرأة المرأة إلى ما عدا ما بين السرة والركبة إذا كان بشهوة ولا تستبعد وقوع هذا النظر فإنه كثير ممن يستعملن السحاق من النساء والعياذ باللّه تعالى وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ أي عما لا يحل لهن من الزنا والسحاق أو من الإبداء أو مما يعم ذلك والإبداء وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ أي ما يتزين به من الحلي ونحوه إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها أي إلا ما جرت العادة والجبلة على ظهوره والأصل فيه الظهور كالخاتم والفتخة والكحل والخضاب فلا مؤاخذة في إبدائه للأجانب وإنما المؤاخذة في إبداء ما خفي من الزينة كالسوار والخلخال والدملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط.
وذكر الزينة دون مواقعها للمبالغة في الأمر بالتستر لأن هذه الزين واقعة على مواضع من الجسد لا يحل النظر إليها إلا لمن استثني في الآية بعد وهي الذراع والساق والعضد والعنق والرأس والصدر والأذن فنهى عن إبداء الزين نفسها ليعلم أن النظر إذا لم يحل إليها لملابستها تلك المواقع بدليل أن النظر إليها غير ملابسة لها كالنظر إلى سوار امرأة يباع في السوق لا مقال في حله كان النظر إلى المواقع أنفسها متمكنا في الخطر ثابت القدم في الحرمة شاهدا على أن النساء حقهن أن يحتطن في سترها ويتقين اللّه تعالى في الكشف عنها كذا في الكشاف ، وهو على ما قال الطيبي مشعر بأن ما ذكر من باب الكناية على نحو قولهم : فلان طاهر الجيب طاهر الذيل.
وقال صاحب الفرائد : هو من باب اطلاق اسم الحالّ على المحل فالمراد بالزينة مواقعها فيكون حرمة النظر إلى المواقع بعبارة النص بدلالته وهي أقوى ، وفيه بحث.
وقيل : الكلام على تقدير مضاف أي لا يبدين مواقع زينتهن ، وقال ابن المنير : الزينة على حقيقتها وما يأتي إن شاء اللّه تعالى من قوله عز وجل : وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ الآية يحقق أن إبداء الزينة مقصود بالنهي ، وأيضا لو كان المراد من الزينة موقعها للزم أن يحل للأجانب النظر إلى ما ظهر من مواقع الزين الظاهرة وهذا باطل لأن كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة ، وأنت تعلم أن ابن المنير مالكي وما ذكره مبني على مذهبه وما ذكره الزمخشري مبني على المشهور من مذهب الإمام أبي حنيفة من أن مواقع الزين الظاهرة من الوجه والكفين «1» والقدمين ليست بعورة مطلقا فلا يحرم النظر إليها ، وقد أخرج أبو داود وابن مردويه والبيهقي عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها ، وقال يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وأشار إلى وجهه وكفه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى : إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها رقعة الوجه وباطن
___________
(1) وفي رواية أن الذراعين ليستا بعورة ا ه منه.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 336
الكف ، وأخرجا عن ابن عمر أنه قال : الوجه والكفان ولعل القدمين عندهما كالكفين إلا أنهما لم يذكراهما اكتفاء بالعلم بالمقايسة فإن الحرج في سترهما أشد من الحرج في ستر الكفين لا سيما بالنسبة إلى أكثر نساء العرب الفقيرات اللاتي يمشين لقضاء مصالحهن في الطرقات. ومذهب الشافعي عليه الرحمة كما في الزواجر أن الوجه والكفين ظهرهما وبطنهما إلى الكوعين عورة في النظر من المرأة ولو أمه على الأصح وإن كانا ليسا عورة من الحرة في الصلاة ، وفي المنهاج وشرحه لابن حجر في باب شروط الصلاة عورة الأمة ولو مبعضة ومكاتبة وأم ولد كعورة الرجل ما بين السرة والركبة في الأصح وعورة الحرة ولو غير مميزة والخنثى الحر ما سوى الوجه والكفين وإنما حرم نظرهما كالزائد على عورة الأمة لأن ذلك مظنة الفتنة ، ويجب في الخلوة ستر سوأة الأمة كالرجل وما بين سرة وركبة الحرة فقط إلا لأدنى غرض كتبريد وخشية غبار على ثوب تجمل انتهى.
وذكر في الزواجر حرمة نظر سائر ما انفصل من المرأة لأن رؤية البعض ربما جر إلى رؤية الكل فكان اللائق حرمة نظره أيضا بل قال : حرم أئمتنا النظر لقلامة ظفر المرأة المنفصلة ولو من يدها ، وذهب بعض الشافعية إلى حلّ النظر إلى الوجه والكف إن أمنت الفتنة وليس يعول عليه عندهم ، وفسر بعض أجلتهم ما ظهر بالوجه والكفين بعد أن ساق الآية دليلا على أن عورة الحرة ما سواهما ، وعلل حرمة نظرهما بمظنة الفتنة فدل ذلك على أنه ليس كل ما يحرم نظره عورة ، وأنت تعلم أن إباحة إبداء الوجه والكفين حسبما تقتضيه الآية عندهم مع القول بحرمة النظر إليهما مطلقا في غاية البعد فتأمل. واعلم أنه إذا كان المراد النهي عن إبداء مواقع الزينة ، وقيل : بعمومها الوجه والكفين والتزم القول بكونهما عورة وحرمة إبدائهما لغير من استثنى بعد يجوز أن يكون الاستثناء في قوله تعالى : إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها من الحكم الثابت بطريق الإشارة وهو المؤاخذة في دار الجزاء ، ويكون المعنى أن ما ظهر منها من غير إظهار كأن كشفته الريح مثلا فهن غير مؤاخذات به في دار الجزاء ، وفي حكم ذلك ما لزم إظهاره لنحو تحمل شهادة ومعالجة طبيب ، وروى الطبراني والحاكم وصححه وابن المنذر وجمع آخرون عن ابن مسعود أن ما ظهر الثياب والجلباب ، وفي رواية الاقتصار على الثياب وعليها اقتصر ايضا الإمام أحمد. وقد جاء إطلاق الزينة عليها في قوله تعالى : خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف : 31] على ما في البحر ، وجاء في بعض الروايات عن ابن عباس أن ما ظهر الكحل والخاتم والقرط والقلادة.
وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة أنه الكف وثغرة النحر ، وعن الحسن أنه الخاتم والسوار. وروي غير ذلك ، ولا يخفى أن بعض الأخبار ظاهر في حمل الزينة على المعنى المتبادر منها وبعضها ظاهر في حملها على مواقعها ، وقال ابن بحر : الزينة تقع على محاسن الخلق التي فعلها اللّه تعالى وعلى ما يتزين به من فضل لباس ، والمراد في الآية النهي عن إبداء ذلك لمن ليس بمحرم واستثنى ما لا يمكن إخفاؤه في بعض الأوقات كالوجه والأطرف ، وأنكر بعضهم إطلاق الزينة على الخلقة ، قال في البحر : والأقرب دخولها في الزينة وأي زينة أحسن من الخلقة المعتدلة وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ إرشاد إلى كيفية إخفاء بعض مواقع الزينة بعد النهي عن إبدائها ، والخمر جمع خمار ويجمع في القلة على أخمرة وكلا الجمعين مقيس وهو المقنعة التي تلقيها المرأة على رأسها من الخمر وهو الستر ، والجيوب جمع جيب وهو فتح في أعلى القميص يبدو منه بعض الجسد ، وأصله على ما قيل من الجيب بمعنى القطع وفي الصحاح تقول : جبت القميص أجوبه وأجيبه إذا قورت جيبه ، قال الراجز :
باتت تجيب أدعج الظلام جيب البيطر مدرع الهمام
وإطلاقه على ما ذكر هو المعروف لغة ، وأما إطلاقه على ما يكون في الجنب لوضع الدراهم ونحوها كما هو

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 337
الشائع بيننا اليوم فليس من كلام العرب كما ذكره ابن تيمية لكنه ليس بخطأ بحسب المعنى ، والمراد من الآية كما روى ابن أبي حاتم عن ابن جبير أمرهن بستر نحورهنّ وصدورهن بخمرهن لئلا يرى منها شيء وكان النساء يغطين رؤوسهن بالخمر ويسدلنها كعادة الجاهلية من وراء الظهر فيبدو نحورهن وبعض صدورهن ، وصح أنه لما نزلت هذه الآية سارع نساء المهاجرين إلى امتثال ما فيها فشققن مروطهن فاختمرن بها تصديقا وإيمانا بما أنزل اللّه تعالى من كتابه ، وعدي يضرب بعلى على ما قال أبو حيان لتضمينه معنى الوضع والإلقاء ، وقيل : معنى الشد ، وظاهر كلام الراغب أنه يتعدى بعلى بدون تضمين ، وقرأ عباس عن أبي عمرو «وليضربن» بكسر اللام وقرأ غير واحد من السبعة «جيوبهن» بكسر الجيم والضم هو الأصل لأن فعلا بجمع على فعول في الصحيح والمعتل كفلوس وبيوت والكسر لمناسبة الياء ، وزعم الزجاج أنها لغة رديئة.
وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ كرر النهي لاستثناء بعض مواد الرخصة عنه باعتبار الناظر بعد ما استثنى عنه بعض مواد الضرورة باعتبار المنظور إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أي أزواجهن فإنهم المقصودون بالزينة والمأمورات نساؤهم بها لهم حتى أن لهم ضربهن على تركها ولهم النظر إلى جميع بدنهن حتى المحل المعهود كما في إرشاد العقل السليم.
وكره النظر إلى ذلك أكثر الشافعية وحرمه بعضهم ، وقيل : إنه خلاف الأولى وهو على ما قال الخفاجي :
مذهب الحنفية وتفصيله في الهداية وفيما ذكرنا إشارة إلى وجه تقديم بعولتهن.
أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ لكثرة المخالطة الضرورية بينهم وبينهن وقلة توقع الفتنة من قبلهم ولهم أن ينظروا منهن ما يبدو عند المهنة والخدمة وهذا الحكم ليس خاصا بالآباء الأقربين بل آباء الآباء وإن علوا كذلك ومثلهم آباء الأمهات وكذا ليس خاصا بالأبناء والبنين الصلبيين بل يعمهم وأبناء الأبناء وبني البنين وإن سفلوا ، والمراد بالإخوان ما يشمل الأعيان وهم الإخوة لأب واحد وأم واحدة وبني العلات وهم أولاد الرجل من نسوة شتى والأخياف وهم أولاد المرأة من آباء شتى ونظير ذلك يقال في الأخوات ، واستعمل بَنِي معهم دون أبناء لأنه أوفق بالعموم وأكثر استعمالا في الجماعة ينتمون إلى شخص مع عدم اتحاد صنف قرابتهم فيما بينهم ألا ترى أنك كثيرا ما تسمع بني آدم وبني تميم وقلما تسمع أبناء آدم وأبناء تميم وفيما نحن فيه قد يجتمع للمرأة ابن أخ شقيق وابن أخ لأب وابن أخ لأم بل قد يجتمع لها أبناء أخ شقيق أو إخوة أشقاء أعيان وبنو علات وأبناء أخ أو إخوة لأب وأبناء أخ أو إخوة لأم كذلك ويتأتى مثل ذلك في ابن الأخت لكن لا يتصور هنا بنو العلات كما لا يتصور في أبناء الأخ الأخياف والاجتماع في أبنائهن وأبناء بعولتهن وإن اتفق لكنه ليس بتلك المثابة.
وقيل اختير في الأخيرين بَنِي لأنه لو جيء بأبناء تلاقت همزتان إحداهما همزة أبناء والثانية همزة إخوان أو أخوات وهو على ما فيه لا يحسم مادة السؤال إذ للسائل أن يقول بعد : لم اختبر في الأولين أَبْناءِ دون بَنِي ويحتاج إلى نحو أن يقال اختير ذلك لأنه أوفق بآباء ، وقيل اختير أَبْناءِ في الأولين لهذا ، واختير بني في بَنِي أَخَواتِهِنَّ ليكون المضاف والمضاف إليه من نوع واحد ، وفي بني اخوانهن للمشاكلة وفيه ما فيه ، ولم يذكر سبحانه الأعمام والأخوال مع أنهم كما قال الحسن. وابن جبير كسائر المحارم في جواز إبداء الزينة لهم قيل لأنهم في معنى الإخوان من حيث كون الجد سواء كان أب الأب أو أب الأم في معنى الأب فيكون ابنه في معنى الأخ ، وقيل لم يذكرهم سبحانه لما أن الأحوط أن يستترن عنهم حذرا من أن يصفوهن لأبنائهم فيؤدي ذلك إلى نظر الأبناء إليهن.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 338
وأخرج ذلك ابن المنذر وابن أبي شيبة عن الشعبي وفيه من الدلالة على وجوب التستر من الأجانب ما فيه.
وضعف بأنه يجري في آباء البعولة إذ لو رأوا زينتهن لربما وصفوهن لأبنائهم وهم ليسوا محارم فيؤدي إلى نظرهم إليهن لا سيما إذا كن خليات ، وقيل لم يذكروا اكتفاء بذكر الآباء فإنهم عند الناس بمنزلتهم لا سيما الأعمام وكثيرا ما يطلق الأب على العم ، ومنه قوله تعالى : وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ [الأنعام : 74] ثم إن المحرمية المبيحة للإبداء كما تكون من جهة النسب تكون من جهة الرضاع فيجوز أن يبدين زينتهنّ لآبائهن وأبنائهن مثلا من الرضاع أَوْ نِسائِهِنَّ المختصات بهن بالصحبة والخدمة من حرائر المؤمنات فإن الكوافر لا يتحرجن أن يصفنهن للرجال فهن في إبداء الزينة لهن كالرجال الأجانب ، ولا فرق في ذلك بين الدمية وغيرها وإلى هذا ذهب أكثر السلف.
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن المنذر والبيهقي في سننه عن عمر رضي اللّه تعالى عنه أنه كتب إلى أبي عبيدة رضي اللّه تعالى عنه أما بعد فإنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء أهل الشرك فانه من قبلك عن ذلك فإنه لا يحل لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تنظر إلى عورتها إلا من كانت من أهل ملتها. وفي روضة النووي في نظر الذمية إلى المسلمة وجهان أصحهما عند الغزالي أنها كالمسلمة وأصحهما عند البغوي المنع ، وفي المنهاج له الأصح تحريم نظر ذمية إلى مسلمة ، ومقتضاه أنها معها كالأجنبي واعتمده جمع من الشافعية ، وقال ابن حجر : الأصح تحريم نظرها إلى ما لا يبدو في المهنة من مسلمة غير سيدتها ومحرمها ودخول الذميات على أمهات المؤمنين الوارد في الأحاديث الصحيحة دليل لحل نظرها منها ما يبدو في المهنة. وقال الإمام الرازي : المذهب أنها كالمسلمة ، والمراد بنسائهن جميع النساء. وقول السلف محمول على الاستحباب وهذا القول أرفق بالناس اليوم فإنه لا يكاد يمكن احتجاب المسلمات عن الذميات.
أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أي من الإماء ولو كوافر وأما العبيد فهم كالأجانب ، وهذا مذهب أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه ، وأحد قولين في مذهب الشافعي عليه الرحمة وصححه كثير من الشافعية والقول الآخر أنهم كالمحارم ، وصحح أيضا ، ففي المنهاج وشرحه لابن حجر والأصح أن نظر العبد العدل ولا يكفي العفة عن الزنا فقط غير المشترك والمبعض وغير المكاتب كما في الروضة عن القاضي وأقره وإن أطالوا في رده إلى سيدته المتصفة بالعدالة كالنظر إلى محرم فينظر منها ما عدا بين السرة والركبة وتنظر منه ذلك ويلحق بالمحرم أيضا في الخلوة والسفر ا ه بتلخيص ، وإلى كون العبد كالأمة ذهب ابن المسيب ثم رجع عنه وقال : لا يغرنكم آية النور فإنها في الإناث دون الذكور ، وعلل بأنهم فحول ليسوا أزواجا ولا محارم والشهوة متحققة فيهم لجواز النكاح في الجملة كما في الهداية.
وروي عن ابن مسعود والحسن وابن سيرين أنهم قالوا : لا ينظر العبد إلى شعر مولاته ، وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن طاوس أنه سئل هل يرى غلام المرأة رأسها وقدمها؟ قال : ما أحب ذلك إلا أن يكون غلاما يسيرا فأما رجل ذو لحية فلا ، ومذهب عائشة وأم سلمة رضي اللّه تعالى عنهما ، وروي عن بعض أئمة أهل البيت رضي اللّه تعالى عنهم أنه يجوز للعبد أن ينظر من سيدته ما ينظر أولئك المستثنون : وروي عن عائشة أنها كانت تمتشط وعبدها ينظر إليها وأنها قالت لذكوان : إذا وضعتني في القبر وخرجت فأنت حر ، وعن مجاهد كانت أمهات المؤمنين لا يحتجبن عن مكاتبهن ما بقي عليه درهم.
وأخرج أحمد في مسنده وأبو داود وابن مردويه والبيهقي عن أنس رضي اللّه تعالى عنه أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أتى فاطمة رضي اللّه تعالى عنها بعبد قد وهبه لها وعلى فاطمة رضي اللّه تعالى عنها ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها فلما رأى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ما تلقى قال : إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك
.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 339
والذي يقتضيه ظاهر الآية عدم الفرق بين الذكر والأنثى لعموم «ما» ولأنه لو كان المراد الإناث خاصة لقيل أو إمائهن فإنه أخصر ونص في المقصود ، وإذا ضم الخبر المذكور إلى ذلك قوي القول بعدم الفرق والتفصي عن ذلك صعب ، وأحسن ما قيل في الجواب عن الخبر أن الغلام فيه كان صبيا إذ الغلام يختص حقيقة به فتأمل ، وخرج بإضافة الملك إليهن عبد الزوج فهو والأجنبي سواء قيل : وجعله بعضهم كالمحرم لقراءة «أو ما ملكت أيمانكم» أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أي الذين يتبعون ليصيبوا من فضل الطعام غير أصحاب الحاجة إلى النساء وهم الشيوخ الطاعنون في السن الذين فنيت شهواتهم والممسوحون الذين قطعت ذكورهم وخصاهم ، وفي المجبوب وهو الذي قطع ذكره والخصي وهو من قطع خصاه خلاف واختير أنهما في حرمة النظر كغيرهما من الأجانب وكان معاوية يرى جواز نظر الخصي ولا يعتد برأيه وهو على ما قيل أول من اتخذ الخصيان ، وعن ميسون الكلبية أن معاوية دخل عليها ومعه خصي فتقنعت منه فقال : هو خصي فقالت : يا معاوية أترى أن المثلة به تحلل ما حرم اللّه تعالى ، وليس له أن يستدل بما روي أن المقوقس أهدى للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم خصيا فقبله إذ لا دلالة فيه على جواز إدخاله على النساء.
وأخرج ابن جرير وجماعة عن مجاهد أن غير أولي الإربة الأبله الذي لا يعرف أمر النساء وروي ذلك عن أبي عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنه
وعن ابن جبير أنه المعتوه ومثله المجنون كما قال ابن عطية.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه المخنث الذي لا يقوم زبه لكن
أخرج مسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت : كان رجل يدخل على أزواج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مخنث فكانوا يعدونه من غير أولي الإربة فدخل النبي عليه الصلاة والسلام يوما وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة قال : إذا أقبلت أقبلت بأربع وإذا أدبرت أدبرت بثمان فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : ألا ترى هذا يعرف ما هاهنا لا يدخل عليكن فحجبوه
، وجاء أنه عليه الصلاة والسلام أخرجه فكان بالبيداء يدخل كل جمعة يستطعم
، ولعل الأولى حمل غير أولي الإربة على الذين لا حاجة لهم بالنساء ولا يعرفون شيئا من أمورهن بحيث لا تحدثهم أنفسهم بفاحشة ولا يصفونهن للأجانب ولا أرى الاكتفاء في غير أولي الاربة بعدم الحاجة إلى النساء إذ لا تنتفي به مفسدة الإبداء بالكلية كما لا يخفى.
ولعل في الخبر نوع إيماء إلى هذا وفي المنهاج وشرحه لابن حجر عليه الرحمة ، والأصح أن نظر الممسوح ذكره كله وأنثياه بشرط أن لا يبقى فيه ميل للنساء أصلا وإسلامه في المسلمة ولو أجنبيا لأجنبية متصفة بالعدالة كالنظر إلى محرم فينظر منها ما عدا ما بين السرة والركبة وتنظر منه ذلك ويلحق بالمحرم أيضا في الخلوة والسفر ويعلم منه أن التمثيل بالممسوح فيما سبق ليس على إطلاقه ، وأما الشيخ الهم والمخنث فهما عند الشافعية في النظر إلى الأجنبيات ليسا كالممسوح ، وصححوا أيضا أن المجنون يجب الاحتجاب منه فلا تغفل ، وجر غَيْرِ قيل على البدلية لا الوصفية لاحتياجها إلى تكلف جعل التابعين لعدم تعينهم كالنكرة كما قال الزجاج أو جعل غَيْرِ متعرفا بالإضافة هنا مثلها في الفاتحة وفيه نظر وقرأ ابن عامر وأبو بكر غَيْرِ بالنصب على الحال والاستثناء.
أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ أي الأطفال الذين لم يعرفوا ما العورة ولم يميزوا بينها وبين غيرها على أن لَمْ يَظْهَرُوا إلخ من قولهم ظهر على الشيء إذا اطلع عليه فجعل كناية عن ذلك أو الذين لم يبلغوا حد الشهوة والقدرة على الجماع على أنه من ظهر على فلان إذا قوي عليه ومنه قوله تعالى : فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ [الصف : 14] ويشمل الطفل الموصوف بالصفة المذكورة بهذا المعنى المراهق الذي لم يظهر منه تشوق للنساء ، وقد ذكر بعض أئمة الشافعية أنه كالبالغ فيلزم الاحتجاب منه على الأصح كالمراهق الذي ظهر منه ذلك ،

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 340
ويشمل أيضا من دون المراهق لكنه بحيث يحكي ما يراه على وجهه. وذكروا في غير المراهق أنه إن كان بهذه الحيثية فكالمحرم وإلا فكالعدم فيباح بحضوره ما يباح في الخلوة فلا تغفل.
والظاهر أن الطِّفْلِ عطف على قوله تعالى : لِبُعُولَتِهِنَّ أو على ما بعده من نظائره لا على الرِّجالِ وكلام أبي حيان ظاهر في أنه عطف عليه وليس بشيء ، ثم هو مفرد محلى بأل الجنسية فيعم ولهذا كما قال في البحر : وصف بالجمع فكأنه قيل : أو الأطفال كما هو المروي عن مصحف حفصة ، ومثل ذلك قولهم : أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض ، وقيل هو مفرد وضع موضع الجمع ، ونحوه قوله تعالى : ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غافر :
67].
وتعقب بأن وضع المفرد موضع الجمع لا ينقاس عند سيبويه وما هنا عنده من باب المفرد المعرف بلام الجنس وهو يعم بدليل صحة الاستثناء منه ، والآية المذكور يحتمل أن تكون عنده على معنى ثم يخرج كل واحد منكم طفلا كما قيل في قوله تعالى : وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً [يوسف : 31] أنه على معنى واعتدت لكل واحدة منهن متكأ فلا يتعين كون «طفلا» فيها مما لا ينقاس عنده ، وقال الراغب : إن «طفلا» يقع على الجمع كما يقع على المفرد ونص على ذلك الجوهري ، وكذا قال بعض النحاة : إنه في الأصل مصدر فيقع على القليل والكثير والأمر على هذا ظاهر جدا ، والعورات جمع عورة وهي في الأصل ما يحترز من الاطلاع عليه وغلبت في سوأة الرجل والمرأة ولغة أكثر العرب تسكين الواو في الجمع وهي قراءة الجمهور.
وروي عن ابن عامر أنه قرأ «عورات» بفتح الواو ، والمشهور أن تحريك الواو وكذا الياء في مثل هذا الجمع لغة هذيل بن مدركة. ونقل ابن خالويه في كتاب شواذ القراءات أن ابن أبي إسحاق والأعمش قرأ «عورات» بالفتح ثم قال :
وسمعنا ابن مجاهد يقول : هو لحن ، وإنما جعله لحنا وخطأ من قبل الرواية وإلا فله مذهب في العربية فإن بني تميم يقولون : روضات وجوزات وعورات بالفتح فيها وسائر العرب بالإسكان ، وقال الفراء : العرب على تخفيف ذلك إلا هذيلا فتثقل ما كان من هذا النوع من ذوات الياء والواو وأنشدني بعضهم :
أبو بيضات رائح متأدب رفيق بمسح المنكبين سبوح
وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ أي ما يسترنه عن الرؤية مِنْ زِينَتِهِنَّ أي لا يضربن بأرجلهن الأرض ليتقعقع خلاخلهن فيعلم أن هن ذوات خلاخل فإن ذلك مما يورث الرجال ميلا إليهن ويوهم أن لهن ميلا إليهم. أخرج ابن جرير عن حضرمي أن امرأة اتخذت خلخالا من فضة واتخذت جزعا فمرت على قوم فضربت برجلها فوقع الخلخال على الجزع فصوت فأنزل اللّه تعالى وَلا يَضْرِبْنَ إلخ ، والنساء اليوم على جعل الخرز ونحوها في جوف الخلخال فإذا مشين به ولو هونا صوت ، ولهن من أنواع الحلي غير الخلخال ما يصوت عند المشي أيضا لا سيما إذا كان مع ضرب الرجل وشدة الوطء ، ومن الناس من يحرك شهوته وسوسة الحلي أكثر من رؤيته. وفي النهي عن إبداء صوت الحلي بعد النهي عن إبداء عينه من النهي عن إبداء مواضعه ما لا يخفى. وربما يستدل بهذا النهي على النهي عن استماع صوتهن.
والمذكور في معتبرات كتب الشافعية وإليه أميل أن صوتهن ليس بعورة فلا يحرم سماعه إلا إن خشي منه فتنة ، وكذا إن التذ به كما بحثه الزركشي. وأما عند الحنفية فقال الإمام ابن الهمام : صرح في النوازل أن نغمة المرأة عورة ولذا
قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : «والتكبير للرجال والتصفيق للنساء»
فلا يحسن أن يسمعها الرجل ا ه.
ثم اعلم أن عندي مما يلحق بالزينة المنهي عن إبدائها ما يلبسه أكثر مترفات النساء في زماننا فوق ثيابهن

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 341
ويتسترن به إذا خرجن من بيوتهن وهو غطاء منسوج من حرير ذي عدة ألوان وفيه من النقوش الذهبية أو الفضية ما يبهر العيون ، وأرى أن تمكين أزواجهن ونحوهم لهن من الخروج بذلك ومشيهن به بين الأجانب من قلة الغيرة وقد عمت البلوى بذلك ، ومثله ما عمت به البلوى أيضا من عدم احتجاب أكثر النساء من إخوان بعولتهن وعدم مبالاة بعولتهن بذلك وكثيرا ما يأمرونهن به.
وقد تحتجب المرأة منهم بعد الدخول أياما إلى أن يعطوها شيئا من الحلي ونحوه فتبدو لهم ولا تحتجب منهم بعد وكل ذلك ما لم يأذن به اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم وأمثال ذلك كثير ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً تلوين للخطاب وصرف له عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى الكل بطريق التغليب لإبراز كمال العناية بما في حيزه من أمر التوبة وأنها من معظمات المهمات الحقيقية بأن يكون سبحانه وتعالى الآمر بها لما أنه لا يكاد يخلو أحد من المكلفين عن نوع تفريط في إقامة مواجب التكاليف كما ينبغي لا سيما في الكف عن الشهوات.
وقد أخرج أحمد والبخاري في الأدب المفرد ومسلم وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن الأغر رضي اللّه تعالى عنه قال : «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : يا أيها الناس توبوا إلإلى اللّه فإني أتوب إليه كل يوم مائة مرة»
والمراد بالتوبة على هذا التوبة عما في الحال ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن المراد التوبة عما كانوا يفعلونه قبل من إرسال النظر وغير ذلك وهو وإن جب بالإسلام لكنه يلزم الندم عليه والعزم على الكف عنه كلما يتذكر ، وقد قالوا : إن هذا يلزم كل تائب عن خطيئة إذا تذكرها ، ومنه يعلم أن ما يفعله كثير ممن يزعمون التوبة من نقل ما فعلوه من الذنوب على وجه التبجح والاستلذاذ دليل عن عدم صدق توبتهم.
وفي تكرير الخطاب بقوله تعالى : أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ تأكيد للإيجاب وإيذان بأن وصف الإيمان موجب للامتثال حتما ، وفي دليل على أن المعاصي لا تخرج عن الإيمان. وقرأ ابن عامر «أيه المؤمنون» بضم الهاء ، ووجهه أنها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف فلما سقطت الألف لالتقاء الساكنين أتبعت حركتها حركة ما قبلها ، وضم ها التي للتنبيه بعد أي لغة لبني مالك رهط شقيق بن مسلمة ووقف بعضهم بسكون الهاء لأنها كتبت في المصحف بلا ألف بعدها.
ووقف أبو عمرو والكسائي ويعقوب. كما في النشر. بالألف على خلاف الرسم لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لكي تفوزوا بذلك بسعادة الدارين أو مرجوا فلا حكم.
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ بعد ما زجر سبحانه عن السفاح ومباديه القريبة والبعيدة أمر بالنكاح فإنه مع كونه مقصودا بالذات من حيث كونه مناطا لبقاء النوع على وجه سالم من اختلاط الأنساب مزجرة من ذلك.
والْأَيامى . كما نقل في التحرير عن أبي عمرو وإليه ذهب الزمخشري. مقلوب أيايم جمع أيم لأن فيعل لا يجمع على فعالى أي إن أصله ذلك فقدمت الميم وفتحت للتخفيف فقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها وذهب ابن مالك ومن تبعه إلى أنه جمع شاذ لا قلب فيه ووزنه فعالى وهو ظاهر كلام سيبويه ، والأيم قال النضر بن شميل : كل ذكر لا أنثى معه وكل أنثى لا ذكر معها بكرا أو ثيبا ويقال : آم وآمت إذا لم يتزوجا بكرين كانا أو ثيبين وقال :
فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي وإن كنت أفتى منكم أتأيم
وقال التبريزي في شرح ديوان أبي تمام : قد كثر استعمال هذه الكلمة في الرجل إذا ماتت امرأته وفي المرأة إذا مات زوجها ، وفي الشعر القديم ما يدل على أن ذلك بالموت وبترك الزوج من غير موت قال الشماخ :
يقر لعيني أن أحدث أنها وإن لم أنلها أيم لم تزوج
انتهى ، وفي شرح كتاب سيبويه لأبي بكر الخفاف : الأيم التي لا زوج لها وأصله التي كانت متزوجة ففقدت

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 342
زوجها برزء طرأ عليها ثم قيل في البكر مجازا لأنها لا زوج لها ، وعن محمد أنها الثيب واستدل له بما
روي أنه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها»
حيث قابلها بالبكر ، وفيه أنه يجوز أن تكون مشتركة لكن أريد منها ذلك لقرينة المقابلة والأكثرون على ما قاله النضر أي زوجوا من لا زوج له من الأحرار والحرائر وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ على أن الخطاب للأولياء والسادات ، والمراد بالصلاح معناه الشرعي ، واعتباره في الأرقاء لأن من لا صلاح له منهم بمعزل من أن يكون خليقا بأن يعتني مولاه بشأنه ويشفق عليه ويتكلف في نظم مصالحه بما لا بد منه شرعا وعادة من بذل المال والمنافع بل ربما يحصل له ضرر منه بتزويجه فحقه أن يستبقيه عنده ولما لم يكن من لا صلاح له من الأحرار والحرائر بهذه المثابة لم يعتبر صلاحهم ، وقيل المراد بالصلاح معناه اللغوي أي الصالحين للنكاح والقيام بحقوقه ، والأمر هنا قيل للوجوب وإليه ذهب أهل الظاهر ، وقيل للندب وإليه ذهب الجمهور.
ونقل الإمام عن أبي بكر الرازي أن الآية وإن اقتضت الإيجاب إلا أنه أجمع السلف على أنه لم يرد الإيجاب ، ويدل عليه أمور ، أحدها أن الانكاح ولو كان واجبا لكان النقل بفعله من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ومن السلف مستفيضا شائعا لعموم الحاجة فلما وجدنا عصره عليه الصلاة والسلام وسائر الأعصار بعده قد كانت فيه أيامى من الرجال والنساء ولم ينكر ذلك ثبت أنه لم يرد بالأمر والإيجاب ، وثانيها أنا أجمعنا على أن الأيم الثيب لو أبت التزويج لم يكن للولي إجبارها ، وثالثها اتفاق الكل على أنه لا يجب على السيد تزويج أمته وعبده فيقتضي للعطف عدم الوجوب في الجميع ، ورابعها أن اسم الأيامى ينتظم الرجال والنساء فلما لزم في الرجال تزويجهم بإذنهم لزم ذلك في النساء انتهى ، وقال الإمام نفسه :
ظاهر الأمر للوجوب فيدل على أن الولي يجب عليه تزويج موليته وإذا ثبت هذا وجب أن لا يجوز النكاح إلّا بولي وإلا لفوتت المولية على الولي المكنة من أداء هذا الواجب وإنه غير جائز. والجواب عما نقل عن أبي بكر أن جميع ما ذكره تخصيصات تطرقت إلى الآية والعام بعد التخصيص يبقى حجة فوجب إذا التمست المرأة الأيم من الولي التزويج وجب انتهى. وفي الإكليل استدل بعموم الآية من أباح نكاح الإماء بلا شرط ونكاح العبد الحرة.
وأنت تعلم أنها لم تبق على العموم ، والذي أميل إليه أن الأمر لمطلق الطلب وأن المراد من الإنكاح المعاونة والتوسط في النكاح أو التمكين فيه ، وتوقف صحته في بعض الصور على الولي يعلم من دليل آخر.
والاستدلال بهذه الآية على اشتراط الولي وعلى أن له الجبر في بعض الصور لا يخلو عن بحث ودون تمامه خرط القتاد فتدبر وقرأ الحسن ومجاهد «من عبيدكم» بالياء مكان الألف وفتح العين وهو كالعباد جمع عبد إلا أن استعماله في المماليك أكثر من استعمال العباد فيهم إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ الظاهر أنه وعد من اللّه عز وجل بالإغناء ، وأخرج ذلك ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ولا يبعد أن يكون في ذلك سد لباب التعلل بالفقر وعده مانعا من المناكحة.
وفي الآية شرط مضمر وهو المشيئة فلا يرد أن كثيرا من الفقراء تزوج ولم يحصل له الغنى ودليل الإضمار قوله تعالى : وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ [التوبة : 28] وكونه واردا في منع الكفار عن الحرم لا يأبى الدلالة كما توهم أو قوله تعالى : وَاللَّهُ واسِعٌ أي غني ذو سعة لا يرزأه إغناء الخلائق إذ لا نفاد لنعمته ولا غاية لقدرته عَلِيمٌ يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة فإن مآل هذا إلى المشيئة وهو السر في اختيار عَلِيمٌ يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة فإن مآل هذا إلى المشيئة وهو السر في اختيار عَلِيمٌ دون كريم مع أنه أوفق بواسع نظرا إلى الظاهر. وفي الانتصاف فإن قيل العزب كذلك

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 343
فإن غناه معلق بالمشيئة أيضا فلا وجه للتخصيص ، فالجواب أنه قد تقرر في الطباع الساكنة إلى الأسباب أن العيال سبب للفقر وعدمهم سبب توفر المال فأريد قطع هذا التوهم المتمكن بأن اللّه تعالى قد ينمي المال مع كثرة العيال التي هي في الوهم سبب لقلة المال وقد يحصل الإقلال مع العزوبة والواقع يشهد فدل على أن ذلك الارتباط الوهمي باطل وأن الغنى والفقر بفعل اللّه تعالى مسبب الأسباب ولا توقف لهما إلا على المشيئة فإذا علم الناكح أن النكاح لا يؤثر في الإقتار لم يمنعه في الشروع فيه ، ومعنى الآية حينئذ أن النكاح لا يمنعهم الغنى من فضل اللّه تعالى فعبر عن نفي كونه مانعا عن الغنى بوجوده معه ، ومنه قوله تعالى : فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [الجمعة : 10] فإن ظاهره الأمر بالانتشار عند انقضاء الصلاة والمراد تحقيق زوال المانع وأن الصلاة إذا قضيت فلا مانع من الانتشار فعبر عن نفي مانع الانتشار بما يقتضي تقاضي الانتشار مبالغة انتهى ، وقال بعضهم في الفرق بين المتزوج والعزب أن الغنى للمتزوج أقرب وتعلق المشيئة به أرجى للنص على وعده دون العزب وكذلك يوجد الحال إذا استقرىء.
وتعقب بأن فيه غفلة عن قوله تعالى : وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ [النساء : 130] وكذا عن قوله سبحانه : وَلْيَسْتَعْفِفِ إلخ ، وأشار صاحب الكشف إلى أن في هذه الآية والتي بعدها وعدا للمتزوج والعزب معا بالغنى فلا ورود للسؤال قال : إنه تعالى أمر الأولياء أن لا يبالوا بفقر الخاطب بعد وجود الصلاح ثقة بلطف اللّه تعالى في الإغناء ثم أمر الفقراء بالاستعفاف إلى وجدان الغنى تأميلا لهم وأدمج سبحانه أن مدار الأمر على العفة والصلاح على التقديرين وهو الجواب عن سؤال المعترض انتهى ، ولا يخفى عليك أن الأخبار الدالة على وعد الناكح بالغنى كثيرة ولم نجد في وعد العزب الذي ليس بصدد النكاح من حيث هو كذلك خبرا.
فقد أخرج عبد الرزاق وأحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن أبي هريرة قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «ثلاثة حق على اللّه تعالى عونهم الناكح يريد العفاف والمكاتب يريد الأداء والغازي في سبيل اللّه تعالى».
وأخرج الخطيب في تاريخه عن جابر قال : «جاء رجل إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يشكو إليه الفاقة فأمره أن يتزوج
. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه قال : أطيعوا اللّه تعالى فيما أمركم «1» به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى قال تعالى : إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ.
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة في المصنف عن عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه قال : ابتغوا الغنى في الباءة. وفي لفظ. ابتغوا الغنى في النكاح يقول اللّه تعالى : إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ.
وأخرج الثعلبي والديلمي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما «أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : التمسوا الرزق بالنكاح»
إلى غير ذلك من الأخبار ، ولغنى الفقير إذا تزوج سبب عادي وهو مزيد اهتمامه في الكسب والجد التام في السعي حيث ابتلي بمن تلزمه نفقتها شرعا وعرفا وينضم إلى ذلك مساعدة المرأة له وإعانتها إياه على أمر دنياه ، وهذا كثير في العرب وأهل القرى فقد وجدنا فيهم من تكفيه امرأته أمر معاشه ومعاشها بشغلها ، وقد ينضم إلى ذلك حصول أولاد له فيقوى أمر التساعد والتعاضد ، وربما يكون للمرأة أقارب يحصل له منهم الإعانة بحسب مصاهرته إياهم ولا يوجد ذلك
___________
(1) يعني ضمنا فلا تغفل ا ه.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 344
في العزب ، ويشارك هذا الفقير المتزوج الفقير الذي هو بصدد التزوج بمزيد الاهتمام في الكسب لكن هذا الاهتمام لتحصيل ما يتزوج به وربما يكون لذلك ولتحصيل ما يحسن به حاله بعد التزوج ، ولا يخفى أن حال الامرأة المتزوجة وحال الامرأة التي بصدد التزوج على نحو حال الرجل والفرق يسير.
هذا والظاهر من كلام بعضهم أن ما ذكر في الأيامى والصالحين مطلقا وأمر تذكير الضمير ظاهر ، وقيل : هو في الأحرار والحرائر خاصة وبذلك صرح الطبرسي لأن الأرقاء لا يملكون وإن ملكوا ولذا لا يرثون ولا يورثون ، والمتبادر من الإغناء بالفضل أن يملكوا ما به يحصل الغنى ويدفع الحاجة وهو لا يتحقق مع بقاء الرق ، نعم إذا أريد بالإغناء التوسعة ودفع الحاجة سواء كان ذلك بما يملك أم لا فلا بأس بالعموم فتدبر.
وجوز أن تكون الآية في الأحرار خاصة بأن يكون المراد منها نهي الأولياء عن التعلل بفقرهم إذا استنكحوهم ، وأن تكون في المستنكحين من الرجال مطلقا والمراد نهي الأولياء عن ذلك أيضا فتدبر جميع ذلك.
واحتج بعضهم. كما قال ابن الفرس. بالآية على أن النكاح لا يفسخ بالعجز عن النفقة لأنه سبحانه وعد فيها بالغنى ، وفيه مناقشة لا تخفى وَلْيَسْتَعْفِفِ إرشاد للتائقين العاجزين عن مبادي النكاح وأسبابه إلى ما هو أولى لهم وأحرى بهم أي وليجتهد في العفة وصون النفس الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً أي أسباب نكاح أو لا يتمكنون مما ينكح به من المال على أن فعالا اسم آلة كركاب لما يركب به حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عدة كريمة بالتفضل عليهم بالغنى ولطف بهم في استعفافهم وربط على قلوبهم وإيذان بأن فضله تعالى أولى بالإعفاء وأدنى من الصلحاء.
واستدل بالآية بعض الشافعية على ندب ترك النكاح لمن لا يملك أهبته مع التوقان وكثير من الناس ذهب إلى استحبابه له لآية إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وحملوا الأمر بالاستعفاف في هذه الآية على من لم يجد زوجة بجعل فعال صفة بمعنى مفعول ككتاب بمعنى مكتوب ، ولا يخفى أن الغاية المذكورة تبعده ، ولا يلزم من الفقر وجدان الأهبة المفسرة عندهم بالمهر وكسوة فصل التمكين ونفقة يومه ، والمذكور في معتبرات كتبنا أن النكاح يكون واجبا عند التوقان أي شدة الاشتياق بحيث يخاف الوقوع في الزنا لو لم يتزوج وكذا فيما يظهر لو كان لا يمكنه منع نفسه عن النظر المحرم أو عن الاستمناء بالكف ويكون فرضا بأن كان لا يمكنه الاحتراز عن الزنا إلا به بأن لم يقدر على التسري أو الصوم الكاسر للشهوة كما يدل عليه
حديث «ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء»
فلو قدر على شيء من ذلك لم يبق النكاح فرضا أو واجبا عينا بل هو أو غيره مما يمنعه من الوقوع في المحرم ، وكلا القسمين مشروط بملك المهر والنفقة ، وزاد في البحر شرطا آخر فيهما وهو عدم خوف الجور ثم قال : فإن تعارض خوف الوقوع في الزنا لو لم يتزوج وخوف الجور لو تزوج قدم الثاني ويكره التزوج حينئذ كما أفاده الكمال في الفتح ولعله لأن الجور معصية متعلقة بالعباد دون المنع من الزنا وحق العبد مقدم عند التعارض لاحتياجه وغنى المولى عز وجل انتهى ، ومقتضاه الكراهة أيضا عند عدم ملك المهر والنفقة لأنهما حق عبد أيضا وإن خاف الزنا لكن ذكروا أنه يندب استدانة المهر ومقتضاه أنه يجب إذا خاف الزنا وإن لم يملك المهر إذا قدر على استدانته ، وهذا مناف للاشتراط السابق إلا أن يقال : الشرط ملك النفقة والمهر ولو بالاستدانة أو يقال : هذا في العاجز عن الكسب ومن ليس له جهة وفاء.
وذكر بعض الأجلة أنه ينبغي حمل ما ذكروا من ندب الاستدانة على ندبها إذا ظن القدرة على الوفاء وحينئذ فإذا كانت مندوبة مع هذا الظن عند أمنه من الوقوع في الزنا ينبغي وجوبها عند تيقن الزنا بل ينبغي وجوبها حينئذ وإن لم

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 345
يغلب على ظنه قدرة الوفاء وهو معذور فيما أرى عند اللّه عز وجل إذا فعل ومات ولم يترك وفاء فتأمل ، ويكون مكروها عند خوف الجور كما سمعت ، وحراما عند تيقنه لأن النكاح إنما شرع لمصلحة تحصين النفس وتحصيل الثواب وبالجور يأثم ويرتكب المحرمات فتنعدم المصالح لرجحان هذه المفاسد ، ويكون سنة مؤكدة في الأصح حالة القدرة على الوطء والمهر والنفقة مع عدم الخوف من الزنا والجور وترك الفرائض والسنن فلو لم يقدر على واحد من الثلاثة الأول أو خاف واحدا من الثلاثة الأخيرة فلا يكون النكاح سنة في حقه كما أفاده في البدائع ، ويفهم من أشباه ابن نجيم توقف كونه سنة على النية ، وذكر في الفتح أنه إذا لم يقترن بها كان مباحا لأن المقصود منه حينئذ مجرد قضاء الشهوة ومبنى العبادة على خلافه فلا يثاب والنية التي يثاب بها أن ينوي منع نفسه وزوجته عن الحرام ، وكذا نية تحصيل ولد تكثر به المسلمون وكذا نية الإتباع وامتثال الأمر وهو عندنا أفضل من الاشتغال بتعلم وتعليم كما في درر البحار وأفضل من التخلي للنوافل كما نص عليه غير واحد ، وفي بعض معتبرات كتب الشافعية أن النكاح مستحب لمحتاج إليه يجد أهبته من مهر وكسوة فصل التمكين ونفقة يومه ولا يستحب لمن في دار الحرب النكاح مطلقا خوفا على ولده التدين بدينهم والاسترقاق ويتعين حمله على من لم يغلب على ظنه الزنا لو لم يتزوج إذ المصلحة المحققة الناجزة مقدمة على المصلحة المستقبلة المتوهمة وإنه إن فقد الأهبة استحب تركه لقوله تعالى : وَلْيَسْتَعْفِفِ الآية ويكسر شهوته بالصوم للحديث ، وكونه يثير الحرارة والشهوة إنما هو بابتدائه فإن لم تنكسر به تزوج ، ولا يكسرها بنحو كافور فيكره بل يحرم على الرجل والمرأة إن أدى إلى اليأس من النسل ، وقول جمع : إن الحديث يدل على حل قطع العاجز الباءة بالأدوية مردود على أن الأدوية خطيرة وقد استعمل قوم الكافور فأورثهم عللا مزمنة ثم
أرادوا الاحتيال لعود الباءة بالأدوية الثمينة فلم تنفعهم ، فإن لم يحتج للنكاح كره له إن فقد الأهبة وإلا يفقدها مع عدم حاجته له فلا يكره له لقدرته عليه ومقاصده لا تنحصر في الوطء والتخلي للعبادة أفضل منه فإن لم يتعبد فالنكاح أفضل في الأصح كما قال النووي لأن البطالة تفضي إلى الفواحش فإن وجد الأهبة وبه علة كهرم أو مرض دائم أو تعنن كذلك كره له لعدم حاجته مع عدم تحصين المرأة المؤدي غالبا إلى فسادها ، وبه يندفع قول الإحياء يسن لنحو الممسوح تشبها بالصالحين كما يسن إمرار الموسى على رأس الأصلع ، وقول الفزاري : أي نهى ورد في نحو المجبوب والحاجة لا تنحصر في الجماع. ولو طرأت هذه الأحوال بعد العقد فهل يلحق بالابتداء أولا لقوة الدوام تردد فيه الزركشي والثاني هو الوجه كما هو ظاهر انتهى ، وفيه ما لم يتعرض له في كتب أصحابنا فيما علمت لكن لا تأباه قواعدنا ، ثم إن الظاهر أن الآية خاصة بالرجال فهم المأمورون بالاستعفاف عند العجز عن مبادي النكاح وأسبابه ، نعم يمكن القول بعمومها واعتبار التغليب إذا أريد بالنكاح ما ينكح لكن قد علمت ما فيه ولا تتوهمن من هذا أنه لا يندب الاستعفاف للنساء أصلا لظهور أنه قد يندب في بعض الصور بل من تأمل أدنى تأمل يرى جريان الأحكام في نكاحهن لكن لم أر من صرح به من أصحابنا ، نعم نقل بعض الشافعية عن الأم ندب النكاح للتائقة وألحق بها محتاجة للنفقة وخائفة من اقتحام فجرة.
وفي التنبيه من جاز لها النكاح إن احتاجته ندب لها ، ونقله الأذرعي عن أصحاب الشافعي ثم بحث وجوبه عليها إذا لم تندفع عنها الفجرة إلا به ولا دخل للصوم فيها ، وبما ذكر علم ضعف قول الزنجاني : يسن لها مطلقا إذ لا شيء عليها مع ما فيه من القيام بأمرها وسترها ، وقول غيره : لا يسن لها مطلقا لأن عليها حقوقا للزوج خطيرة لا يتيسر لها القيام بها بل لو علمت من نفسها عدم القيام بها ولم تحتج له حرم عليها ا ه ، ولا يخفى أن ما ذكره بعد بل متجه واستدل بعضهم بالآية على بطلان نكاح المتعة لأنه لو صح لم يتعين الاستعفاف على فاقد المهر ، وظاهر الآية تعينه ولا يلزم من ذلك تحريم ملك اليمين لأن من لا يقدر على النكاح لعدم المهر لا يقدر على شراء الجارية غالبا ذكره

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 346
الكيا وهو كما ترى وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ بعد ما أمر سبحانه بإنكاح صالحي المماليك الأحقاء بالإنكاح أمر جل وعلا بكتابة من يستحقها منهم ليصير حرا فيتصرف في نفسه ، وأخرج ابن السكن في معرفة الصحابة عن عبد اللّه بن صبيح قال : كنت مملوكا لحويطب بن عبد العزى فسألته الكتابة فأبى فنزلت وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ إلخ ويلوح من هذا أن عبد اللّه المذكور أول من كوتب ، وربما يتخيل منه أن الكتابة كانت معلومة من قبل لكن نقل الخفاجي عن الدميري أنه قال : الكتابة لفظة إسلامية وأول من كاتبه المسلمون عبد لعمر رضي اللّه تعالى عنه يسمى أبا أمية.
وصرح ابن حجر أيضا بأنها لفظة إسلامية لا تعرفها الجاهلية ، واللّه تعالى أعلم ، والكتاب مصدر كاتب كالمكاتبة ونظيره العتاب والمعاتبة أي والذين يطلبون منكم المكاتبة مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذكورا كانوا أو إناثا ، وهو عندنا شرعا اعتاق المملوك يدا حالا ورقبة مآلا وركنه الإيجاب بلفظ الكتابة أو ما يؤدي معناه والقبول نحو أن يقول المولى : كاتبتك على كذا درهما تؤديه إليّ وتعتق ويقول المملوك : قبلته وبذلك يخرج من يد المولى دون ملكه فإذا أدى كل البدل عتق وخرج من ملكه ، ومعناه كتب الحروف أي جمعها وإطلاقه على ما ذكر لأن فيه ضم حرية اليد إلى حرية الرقبة أو لأن البدل يكون في الأغلب منجما بنجوم يضم بعضها إلى بعض أو لأنه يكتب المملوك على نفسه لمولاه ثمنه ويكتب المولى له عليه العتق وهذا أوفق بصيغة المفاعلة أعني المكاتبة.
وفي إرشاد العقل السليم قالوا : معناه كتبت لك على نفسي أن تعتق مني إذا وفيت بالمال وكتبت لي على نفسك أن تفي بذلك أو كتبت عليك الوفاء بالمال وكتبت على العتق عنده ، ثم قال : والتحقيق أن المكاتبة اسم للعقد الحاصل من مجموع كلامي المالك والمملوك كسائر العقود الشرعية المنعقدة بالإيجاب والقبول.
ولا ريب في أن ذلك لا يصدر حقيقة إلا من المتعاقدين وليس وظيفة كل منهما في الحقيقة إلا الإتيان بأحد شطريه معربا عما يتم من قبله ويصدر عنه من الفعل الخاص به من غير تعرض لما يتم من قبل صاحبه ويصدر عنه من فعله الخاص به إلا أن كلا من ذينك الفعلين لما كان بحيث لا يمكن تحققه في نفسه إلا منوطا بتحقق الآخر ضرورة أن التزام العتق بمقابلة البدل من جهة المولى لا يتصور تحققه وتحصله إلا بالتزام البدل من طرف العبد كما أن عقد البيع الذي هو تمليك المبيع بالثمن من جهة البائع لا يمكن تحققه إلا بتملكه به من جانب المشتري لم يكن بد من تضمين أحدهما الآخر وقت الإنشاء فكما أن قول البائع بعت إنشاء لعقد البيع على معنى أنه إيقاع لما يتم من قبله أصالة ولما يتم من قبل المشتري ضمنا إيقاعا متوقفا على رأيه توقفا شبيها بتوقف عقد الفضولي كذلك قول المولى كاتبتك على كذا إنشاء لعقد الكتابة أي إيقاع لما يتم من قبله من التزام العتق بمقابلة البدل أصالة ولما يتم من قبل العبد من التزام البدل ضمنا إيقاعا متوقفا على قبوله فإذا قبل تم العقد ا ه وبه ينحل إشكال صعب وارد على إسناد أفعال العقود وهو أنه إذا كان ركن كل منها الإيجاب والقبول يلزم أن لا يصح نحو بعت كذا بكذا مثلا لأن المتكلم به لم يوقع إلا ما يتم من قبله وليس ذلك بيعا شرعيا إذ لا بد في البيع الشرعي من فعل آخر أعني قبول المشتري وهو مما لم يوقعه المتكلم المذكور.
والحاصل أن إسناد باع إلى ضمير المتكلم يقتضي أنه أوقع البيع مع أنه لم يوقع إلا أحد ركنيه فكيف يصح الاسناد ، ووجه انحلال هذا بما ذكر ظاهر إلا أنه أورد عليه أن فيه دعوى يكذبها وجدان كل عاقد عاقل ألا ترى أنك إذا قلت بعت مثلا لا يخطر ببالك إيقاع ضمني منك لشراء غيرك إيقاعا متوقفا على رأيه أصلا بل قصارى ما يخطر بالبال إيقاعه الشراء دون إيقاعك لشرائه على نحو فعل الفضولي ومن ادعى ذلك فقد كابر وجدانه. وأجيب بأن الأمور

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 347
الضمنية قد تعتبر شرعا وان لم تقصد كما يرشد إلى ذلك أنهم اعتبروا في قول القائل لآخر : أعتق عبدك عني بكذا فأعتقه البيع الضمني بركنيه وإن لم يكن القائل خاطرا بباله ذلك وقاصدا له.
وبحث فيه بانهم إنما اعتبروا أولا العتق الذي هو مدلول اللفظ والمقصود منه ترجيحا لجانب الحرية ثم لما رأوا أن ذلك موقوف على الملك الموقوف على البيع حسب العادة الغالبة اعتبروا البيع ليتم لهم الاعتبار الأول ولم يعتبروه مدلولا للفظ العتق أصلا ليشترط القصد وإن أوهمه تسميتهم إياه بيعا ضمنيا بخلاف ما نحن فيه على ما سمعت فإن إيقاع القبول قد توقف عليه ماهية البيع الشرعي واعتبر مدلولا ضمنيا له بحيث صار عندهم كما يقتضيه ظاهر كلام الإرشاد نحو بعت بمعنى أوقعت إيجابا مني أصالة وقبولا منك نيابة وظاهر في مثل ذلك تحقق القصد وحيث نفى بالوجدان قصد إيقاع القبول نيابة علم أنه ليس مدلولا ضمنيا.
ومن الناس من تفصى عن الاشكال بالتزام أن البيع هو الإيجاب والقبول شرط صحته فقول القائل بعت إنشاء لبيع يحتمل الصحة وعدمها ومتى قال الآخر اشتريت تعينت الصحة وأن قولهم ركن البيع الإيجاب والقبول من المسامحات الشائعة أو بالتزام أن للبيع ونحوه إطلاقين ، أحدهما العقد الحاصل من مجموع الإيجاب والقبول كما في نحو قولك : وقع البيع بين زيد وعمرو وثانيهما الإيجاب فقط كما في نحو قولك بعته كذا فلم يشتر والبيع الدال عليه بعت الانشائي من هذا القبيل فلا إشكال في إسناده إلى المتكلم فتأمل وتدبر.
وفي هذا المقام أبحاث تركناها خوفا مزيد البعد عما نحن بصدده واللّه تعالى الموفق ، والَّذِينَ يحتمل أن يكون في محل رفع على الابتداء والخبر قوله تعالى : فَكاتِبُوهُمْ وهو بتقدير القول بناء على المشهور من أن الجملة الانشائية لا تقع خبرا عن المبتدأ إلا كذلك ، وقال بعض المحققين : لا حاجة في مثل هذا إلى التأويل لأنه في معنى الشرط والجزاء ولذا جيء في الخبر بالفاء.
ويحتمل أن يكون في محل نصب على أنه مفعول لمحذوف يفسره المذكور والفاء فيه لتضمن الشرط أيضا وفي البحر يجوز أن تقول : زيدا فاضرب وزيدا اضرب فإذا دخلت الفاء كان التقدير تنبه فاضرب فالفاء في جواب أمر محذوف ا ه. وأنت تعلم أنه لا يحتاج إلى هذا في الآية ، وذكر بعض الأفاضل أن الفاء فيها على الاحتمال الثاني لأن حق المفسر أن يعقب المفسر ، والمراد كتابة بعد كتابة فإن في الموالي كثرة وكذا في المكاتبين فليس الأمر به للمولى بالنسبة إلى مكاتب واحد ا ه. وهو يشبه الرطانة بالأعجمية.
والأمر للندب على الصحيح ، وقيل هو للوجوب وهو مذهب عطاء وعمرو بن دينار والضحاك وابن سيرين وداود ، وما أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن أنس بن مالك قال : سألني سيرين المكاتبة فأبيت عليه فأتى عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه فأقبل عليّ بالدرة وتلا قوله تعالى : فَكاتِبُوهُمْ إلخ وفي رواية كاتبه أو لأضربنك بالدرة ظاهر في القول بالوجوب ، وجمهور الأئمة كمالك والشافعي ، وغيرهما على أن المكاتبة بعد الطلب وتحقق الشرط الآتي إن شاء اللّه تعالى مندوبة بيد أن من قال منهم بأن ظاهر الأمر للوجوب كالشافعي لم يقل بظاهره هنا لأنه بعد الحظر وهو بيع ماله بماله للاباحة ، وادعى أن ندبها من دليل آخر ، وظاهر الآية جواز الكتابة سواء كان البدل حالا أو مؤجلا أو منجما أو غير منجم لمكان الإطلاق وإلى ذلك ذهب الحنفية.
وذهب جمهور الشافعية إلى أنه يشترط أن يكون منجما بنجمين فأكثر فلا تجوز بدون أجل وتنجيم مطلقا ،

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 348
وقيل إن ملك السيد بعض العبد وباقيه حر لم يشترط أجل وتنجيم ، ورده محققوهم وأجابوا عن دعوى إطلاق الآية بأن الكتابة تشعر بالتنجيم فتغني عن التقييد لأنه «1» يكتب أنه يعتق إذا أدى ما عليه ومثله لا يكون في الحال.
واعترضوا أيضا على القول بصحة الكتابة الحالة بأن الكتابة لو عقدت حالة توجهت المطالبة عليه في الحال وليس له مال يؤديه فيه فيعجز عن الأداء فيرد إلى الرق فلا يحصل مقصود العقد ، وهذا كما لو أسلم فيما لا يوجد عند حلول الأجل فإنه لا يجوز. وأنت تعلم ما في دعوى إشعار الكتابة بالتنجيم وأنها تضر الشافعية لأن التنجيم الذي تشعر به الكتابة على زعمهم يتحقق بنجم واحد فيقتضي أن تجوز به كما ذهب إليه أكثر العلماء وهم لا يجوزون ذلك ويشترطون نجمين فأكثر. وما ذكروه في الاعتراض ليس بشيء فإنه لا عجز مع أمر المسلمين بإعانته بالصدقة والهبة والقرض ، والقياس على السلم لا يصح لظهور الفارق ، ولعل ما ذكر كالبيع لمن لا يملك الثمن ولا شك في صحته كذا قيل وفيه بحث.
وقال ابن خويزمنداد : إذا كانت الكتابة على مال معجل كانت عتقا على مال ولم تكن كتابة ، والفرق بين العتق على مال والكتابة مذكور في موضعه إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً أي أمانة وقدرة على الكسب ، وبهما الخير فسره الشافعي. وذكر البيضاوي أنه روي هذا التفسير مرفوعا وجاء نحو ذلك في بعض الروايات عن ابن عباس ، وفسرت الأمانة بعدم تضييع المال ، قيل ويحتمل أن يكون المراد بها العدالة لكن يشترط على هذا الاستحباب المكاتبة أن لا يكون العبد معروفا بانفاق ما بيده بالطاعة لأن مثل هذا لا يرجى له عتق بالكتابة. وأخرج أبو داود في المراسيل والبيهقي في سننه عن يحيى بن أبي كثير قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في قوله تعالى : فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً إن علمتم فيهم حرفة
، وظاهره الاكتفاء بالقدرة على الكسب وعدم اشتراط الأمانة ، وهو قول نقله ابن حجر عن بعضهم ، وتعقبه بأن المكاتب إذا لم يكن أمينا يضيع ما كسبه فلا يحصل المقصود.
وأخرج عبد بن حميد عن عبيدة السلماني وقتادة وابراهيم وأبي صالح أنهم فسروا الخير بالأمانة وظاهر كلامهم الاكتفاء بها وعدم اشتراط القدرة على الكسب ، ونقله أيضا ابن حجر عن بعضهم وتعقبه بأن المكاتب إذا لم يكن قادرا على الكسب كان في مكاتبته ضرر على السيد ولا وثوق بإعانته بنحو الصدقة والزكاة. وأخرج ابن مردويه عن علي كرّم اللّه تعالى وجهه أنه فسر الخير بالمال
، وأخرجه جماعة عن ابن عباس وعن ابن جريج وروي عن مجاهد وعطاء والضحاك ، وتعقب بأن ذلك ضعيف لفظا ومعنى أما لفظا فلأنه لا يقال فيه مال بل عنده أو له مال ، وأما معنى فلأن العبد لا مال له ولأن المتبادر من الخير غيره وإن أطلق الخير على المال في قوله تعالى : كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ [البقرة : 180]. وأجيب بأنه يمكن أن يكون المراد بالخير عند هؤلاء الأجلة القدرة على كسب المال إلا أنهم ذكروا ما هو المقصود الأصلي منه تساهلا في العبارة ومثله كثير.
وقال أبو حيان : الذي يظهر من الاستعمال أنه الدين تقول : فلان فيه خير فلا يتبادر إلى الذهن إلا الصلاح.
وتعقب بأنه لا يناسب المقام ويقتضي أن لا يكاتب غير المسلم ، وفسره كثير من أصحابنا بأن لا يضروا المسلمين بعد العتق وقالوا : إن غلب ظن الضرر بهم بعد العتق فالأفضل ترك مكاتبتهم ، وظاهر التعليق بالشرط أنه إذا لم يعلموا فيه خيرا لا يستحب لهم مكاتبتهم أو لا تجب عليهم ، وهذا للخلاف في أن الأمر هل هو للندب أو للوجوب فلا تفيد الآية عدم الجواز عند انتفاء الشرط فإن غاية ما يلزم انتفاءه انتفاء المشروط وليس هو فيها إلا الأمر الدال على الوجوب
___________
(1) أي الشأن ا ه منه.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 349
أو الندب ، ومن قال : إنه للاباحة التزم أن الشرط هنا لا مفهوم له لجريه على العادة في مكاتبة من علم خيريته كذا قيل ، والذي أراه حرمه المكاتبة إذا علم السيد أن المكاتب لو عتق أضر المسلمين.
ففي التحفة لابن حجر في باب الكتابة عند قول النووي هي مستحبة إن طلبها رقيق أمين قوي على كسب ولا تكره بحال ما نصه : لكن بحث البلقيني كراهتها لفاسق يضيع كسبه في الفسق ولو استولى عليه السيد لامتنع من ذلك ، وقال هو وغيره : بل ينتهي الحال للتحريم أي وهو قياس حرمة الصدقة والقرض إذا علم أن من أخذهما يصرفهما في محرم ، ثم رأيت الأذرعي بحثه فيمن علم أنه يكتسب بطريق الفسق وهو صريح فيما ذكرته إذ المدار على تمكينه بسببها من المحرم ا ه ، وما ذكر من المدار موجود فيها قلنا ، ثم المراد من العلم الظن القوي وهو مدار أكثر الأحكام الشرعية وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ الظاهر أنه أمر للموالي بإيتاء المكاتبين شيئا من أموالهم إعانة لهم ، وفي حكمه حط شيء من مال الكتابة ويكفي في ذلك أقل ما يتمول.
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهما من طريق عبد اللّه بن حبيب عن علي كرّم اللّه وجهه عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : «يترك للمكاتب الربع» وجاء هذا أيضا في بعض الروايات موقوفا على علي كرّم اللّه تعالى وجهه ،
وقال ابن حجر الهيتمي : هو الأصح ولعل ذلك اجتهاد منه رضي اللّه تعالى عنه.
وادعاء أن هذا لا يقال من قبل الرأي فهو في حكم المرفوع ممنوع ، ولهذا الخبر وقول ابن راهويه : أجمع أهل التأويل على أن الربع هو المراد بالآية قالوا : إن الأفضل إيتاء الربع ، واستحسن ابن مسعود والحسن إيتاء الثلث ، وابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما إيتاء السبع ، وقتادة إيتاء العشر والأمر بالايتاء عندنا للندب وقال الشافعية : للوجوب إذ لا صارف عنه ، وصرحوا بأنه يلزم السيد أو وارثه مقدما له على مؤن التجهيز. أما الحط عن المكاتب كتابة صحيحة لجزء من المال المكاتب عليه أو دفع جزء من المعقود عليه بعد أخذه أو من جنسه إليه وأن الحط أولى من الدفع لأنه المأثور عن الصحابة ولأن الاعانة فيه محققة والمدفوع قد ينفقه في جهة أخرى ، وهو في النجم الأخير أفضل ، والأصح أن وقت الوجوب قبل العتق ويتضيق إذا بقي من النجم قدر ما يفي به من مال الكتابة ، وشاع أنهم يقولون بوجوب الحط. ويرده
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم»
إذ لو وجب الحط لسقط عنه الباقي حتما وأيضا لو وجب الحط لكان وجوبه معلقا بالعقد فيكون العقد موجبا ومسقطا معا ، وأيضا هو عقد معاوضة فلا يجبر على الحطيطة كالبيع ، قيل : معنى آتُوهُمْ أقرضوهم ، وقيل : هو أمر لهم بالإنفاق عليهم بعد أن يؤدوا ويعتقوا ، وإضافة المال إليه تعالى ووصفه بإيتائه تعالى إياهم للحث على الامتثال بالأمر بتحقيق المأمور به فإن ملاحظة وصول المال إليهم من جهته سبحانه مع كونه عزّ وجلّ هو المالك الحقيقي له من أقوى الدواعي إلى صرفه إلى الجهة المأمور بها ، وقيل : هو أمر ندب لعامة المسلمين إعانة المكاتبين بالتصدق عليهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أنه أمر للولاة أن يعطوهم من الزكاة وهذا نحو ما ذكر في الكشاف من أنه أمر للمسلمين على وجه الوجوب بإعانة المكاتبين وإعطائهم سهمهم الذي جعل اللّه تعالى لهم في بيت المال كقوله سبحانه : وَفِي الرِّقابِ [البقرة : 177 ، التوبة :
60 ، محمد : 4] عند أبي حنيفة وأصحابه ، ويحل للمولى إذا كان غنيا أن يأخذ ما تصدق به على المكاتب لتبدل الملك كما فيما إذا اشترى الصدقة من فقير أو وهبها الفقير له فإن المكاتب يتملكه صدقة والمولى عوضا عن العتق ، وكذا الحكم لو عجز بعد أداء البعض عن الباقي فأعيد إلى الرق أو أعتق من غير جهة الكتابة ، والعلة تبدل الملك أيضا عند محمد وفيه خفاء لأن ما أخذ لم يقع عوضا عن العتق ، أما فيما إذا أعيد إلى الرق فظاهر ، وأما فيما إذا أعتق من غير جهة الكتابة فلأن العتق لم يكن مشروطا بأداء ذلك فتدبر.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 350
وعلل أبو يوسف المسألة بأنه لا خبث في نفس الصدقة وإنما الخبث في فعل الآخذ لكونه إذلالا بالآخذ ولا يجوز ذلك له من غير حاجة والأخذ لم يوجد من السيد. وأورد عليه أنه ينافي جعلها أوساخ الناس في الحديث. ونقل عن الشافعي أنه إذا أعيد المكاتب إلى الرق أو أعتق من غير جهة الكتابة يلزم السيد رد ما أخذه إلا أن يتلف قبله لأن ما دفع للمكاتب لم يقع موقعه ولم يترتب عليه الغرض المطلوب.
قال الطيبي : وبهذا يظهر أن قياس ذلك على الصدقة التي اشتريت من الفقير غير صحيح ، والمدار عندي اختلاف جهتي الملك فمتى تحقق لم تبق شبهة في الحل ، وقد صح أن بريرة مولاة عائشة رضي اللّه تعالى عنها جاءت بعد العتق بلحم بقر فقالت عائشة للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم : هذا ما تصدق به على بريرة فقال عليه الصلاة والسلام : هو لها صدقة ولنا هدية
فأشار عليه الصلاة والسلام إلى حله لآل البيت الذين لا تحل لهم الصدقة باختلاف جهتي الملك فتأمل ، وللمكاتبة أحكام كثيرة تطلب من كتب الفقه.
وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ
أخرج مسلم وأبو داود عن جابر رضي اللّه تعالى عنه أن جارية لعبد اللّه بن أبي ابن سلول يقال لها مسيكة وأخرى يقال لها أميمة كان يكرههما على الزنا فشكتا ذلك إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فنزلت.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : كان لعبد اللّه بن أبيّ جارية تدعى معاذة فكان إذا نزل ضيف أرسلها له ليواقعها إرادة الثواب منه والكرامة له فأقبلت الجارية إلى أبي بكر رضي اللّه تعالى عنه فشكت ذلك إليه فذكره أبو بكر للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم فأمره بقبضها فصاح عبد اللّه بن أبيّ من يعذرنا من محمد صلّى اللّه عليه وسلّم يغلبنا على مماليكنا؟ فنزلت
، وقيل : كانت لهذا اللعين ست جوار معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة يكرههن على البغاء وضرب عليهن ضرائب فشكت ثنتان منهن إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فنزلت
. وقيل : نزلت في رجلين كانا يكرهان أمتين لهما على الزنا أحدهما ابن أبيّ ، وأخرج ابن مردويه عن علي كرّم اللّه تعالى وجهه أنهم كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا يأخذون أجورهن فنهوا عن ذلك في الإسلام
. ونزلت الآية ، وروي نحوه عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وعلى جميع الروايات لا اختصاص للخطاب بمن نزلت فيه الآية بل هي عامة في سائر المكلفين.
والفتيات جمع فتاة وكل من الفتى والفتاة كناية مشهورة عن العبد والأمة مطلقا وقد أمر الشارع صلّى اللّه عليه وسلّم بالتعبير بهما مضافين إلى ياء المتكلم دون العبد والأمة مضافين إليه
فقال عليه الصلاة والسلام : «لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي ولكن فتاي وفتاتي»
وكأنه صلّى اللّه عليه وسلّم كره العبودية لغيره عزّ وجلّ ولا حجر عليه سبحانه في إضافة الأخيرين إلى غيره تعالى شأنه ، وللعبارة المذكورة في هذا المقال باعتبار مفهومها الأصلي حسن موقع ومزيد مناسبة لقوله سبحانه : عَلَى الْبِغاءِ وهو زنا النساء كما في البحر من حيث صدوره عن شوابهن لأنهن اللاتي يتوقع منهن ذلك غالبا دون من عداهن من العجائز والصغائر.
وقوله عزّ وجلّ : إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ليس لتخصيص النهي بصورة إرادتهن التعفف عن الزنا وإخراج ما عداها عن حكمه كما إذا كان الإكراه بسبب كراهتهن الزنا لخصوص الزاني أو لخصوص الزمان أو لخصوص المكان أو لغير ذلك من الأمور المصححة للاكراه في الجملة بل هو للمحافظة على عادة من نزلت فيهم الآية حيث كانوا يكرهونهن على البغاء وهن يردن التعفف عنه مع وفور شهوتهن الآمرة بالفجور وقصورهن في معرفة الأمور الداعية إلى المحاسن الزاجرة عن تعاطي القبائح ، وفيه من الزيادة لتقبيح حالهم وتشنيعهم على ما كانوا يفعلونه من القبائح ما لا يخفى فإن من له أدنى مروءة لا يكاد يرضى بفجور من يحويه بيته من إمائه فضلا عن أمرهن به أو إكراههن عليه لا سيما عند إرادة التعفف ووفر الرغبة فيها كما يشعر به التعبير بأردن بلفظ الماضي ، وإيثار كلمة إِنْ على إذا لأن

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 351
إرادة التحصن من الإماء كالشاذ النادر أو للايذان بوجوب الانتهاء عن الإكراه عند كون إرادة التحصن في حيز التردد والشك فكيف إذا كانت محققة الوقوع كما هو الواقع ، ويعلم من توجيه هذا الشرط مع ما أشرنا إليه من بيان حسن موقع الفتيات هنا باعتبار مفهومها الأصلي أنه لا مفهوم لها ولو فرضت صفة لأن شرط اعتبار المفهوم عند القائلين به أن لا يكون المذكور خرج مخرج الغالب ، وقد تمسك جمع بالآية لإبطال القول بالمفهوم فقالوا : إنه لو اعتبر يلزم جواز الإكراه عند عدم إرادة التحصن والإكراه على الزنا غير جائز بحال من الأحوال إجماعا ومما ذكرنا يعلم الجواب عنه.
وفي شرح المختصر الحاجبي للعلامة العضد الجواب عن ذلك ، أولا أنه مما خرج مخرج الأغلب إذا الغالب «1» أن الإكراه عند إرادة التحصن ولا مفهوم في مثله ، وثانيا أن المفهوم اقتضى ذلك وقد انتفى لمعارض أقوى منه وهو الإجماع ، وقد يجاب عنه بأنه يدل على عدم الحرمة «2» عند عدم الارادة وأنه ثابت إذ لا يمكن الإكراه حينئذ لأنهن إذ لم يردن التحصن لم يكرهن البغاء والإكراه إنما هو إلزام فعل مكروه وإذا لم يكن لم يتعلق به التحريم لأن شرط التكليف الإمكان ولا يلزم من عدم التحريم الإباحة انتهى ، ولعل ما ذكرناه أولا هو الأولى ، وجعل غير واحد زيادة التقبيح والتشنيع جوابا مستقلا بتغيير يسير ولا بأس به.
وزعم بعضهم أن إِنْ أَرَدْنَ راجع إلى قوله تعالى : وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وهو مما يقضي منه العجب وبالجملة لا حجة في ذلك لمبطلي القول بالمفهوم وكذا لا حجة لهم في قوله تعالى : لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فإنه كما في إرشاد العقل السليم قيد للاكراه لا باعتبار أنه مدار للنهي عنه بل باعتبار أنه المعتاد فيما بينهم أيضا جيء به تشنيعا لهم فيما همعليه من احتمال الوزر الكبير لأجل النزر الحقير أي لا تفعلوا ما أنتم عليه من إكراههن على البغاء لطلب المتاع السريع الزوال الوشيك الاضمحلال ، فالمراد بالابتغاء الطلب المقارن لنيل المطلوب واستيفائه بالفعل إذ هو الصالح لكونه غاية للاكراه مترتبا عليه لا المطلق المتناول للطلب السابق الباعث عليه ولا اختصاص لعرض الحياة الدنيا بكسبهن أعني أجورهن التي يأخذنها على الزنا بهن وإن كان ظاهر كثير من الأخبار يقتضي ذلك بل ما يعمه وأولادهن من الزنا وبذلك فسره سعيد بن جبير كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم وفي بعض الأخبار ما يشعر بأنهم كانوا يكرهونهن على ذلك للأولاد.
أخرج الطبراني والبزار وابن مردويه بسند صحيح عن ابن عباس أن جارية لعبد اللّه بن أبيّ كانت تزني في الجاهلية فولدت له أولادا من الزنا فلما حرم اللّه تعالى الزنا قال لها : ما لك لا تزنين؟ قالت : واللّه لا أزني أبدا فضربها فأنزل اللّه تعالى وَلا تُكْرِهُوا الآية ، ولا يقتضي هذا وأمثاله تخصيص العرض بالأولاد كما لا يخفى.
وسمعت أن بعض قبائل أعراب العراق كآل عزة يأمرون جواريهم بالزنا للأولاد كفعل الجاهلية ولا يستغرب ذلك من الاعراب لا سيما في مثل هذه الأعصار التي عرا فيها كثيرا من رياض الأحكام الشرعية في كثير من المواضع إعصار فإنهم أجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل اللّه ولا حول ولا قوة إلا باللّه.
قوله تعالى : وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ إلى آخره جملة مستأنفة سيقت لتقرير النهي وتأكيد وجوب العمل ببيان خلاص المكرهات من عقوبة المكره عليه عبارة ورجوع غائلة الإكراه إلى المكرهين إشارة أي ومن يكرههن على ما ذكر من
___________
(1) الظاهر أنه أراد بالغالب الراجح ا ه ميرزاجان.
(2) أو عدم طلب الكف عن الإكراه فتأمل ا ه منه.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 352
البغاء فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ لهن كما في قراءة ابن مسعود وقد أخرجها عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عنه لكن بتقديم لهن غَفُورٌ رَحِيمٌ ورويت كذلك أيضا عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وينبىء عنه على ما قيل قوله تعالى : مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ أي كونهن مكرهات على أن الإكراه مصدر المبني للمفعول فإن توسيطه بين اسم إن وخبرها للإيذان بأن ذلك هو السبب للمغفرة والرحمة.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وغيرهما عن مجاهد أنه قال : غفور رحيم لهن وليست لهم ، وكان الحسن إذا قرأ الآية يقول : لهن واللّه لهن ، وفي تخصيص ذلك بهن وتعيين مداره على ما سمعت مع سبق ذكر المكرهين أيضا في الشرطية دلالة على كونهم محرومين من المغفرة والرحمة بالكلية كأنه قيل : لا لهم أو لا له ولظهور هذا التقدير اكتفى به عن العائد إلى اسم الشرط اللازم في الجملة الشرطية على الأصح كما في المغني ، وقيل : في توجيه أمر العائد : إن إِكْراهِهِنَّ مصدر مضاف إلى المفعول وفاعل المصدر ضمير محذوف عائد على اسم الشرط والمحذوف كالملفوظ والتقدير من بعد إكراههم إياهن. ورده أبو حيان بأنهم لم يعدوا في الروابط الفاعل المحذوف للمصدر في نحو هند عجبت من ضرب زيد وإن كان المعنى من ضربها زيدا فلم يجوزوا هذا التركيب ولا فرق بينه وبين ما نحن فيه ، وقيل : جواب الشرط محذوف والمذكور تعليل لما يفهم من ذلك المحذوف والتقدير ومن يكرههن فعليه وبال إكراههن لا يتعدى إليهن فإن اللّه من بعد إكراههن غفور رحيم لهن ، وفيه عدول عن الظاهر وارتكاب مزيد إضمار بلا ضرورة ، وكون ذلك لتسبب الجزاء على الشرط ليس بشيء.
وقال في البحر : الصحيح أن التقدير غَفُورٌ رَحِيمٌ لهم ليكون في جواب الشرط ضمير يعود على اسم الشرط المخبر عنه بجملة الجواب ويكون ذلك مشروطا بالتوبة ، وفيه إخلال بجزالة النظم الجليل وتهوين لأمر النهي في مقام التهويل وأمر الربط لا يتوقف على ذلك ، ومثله ما قيل : إن التقدير لهما فالوجه ما تقدم ، والجار والمجرور في قراءة من سمعت قال ابن جني : متعلق بغفور لأنه أدنى إليه ولأن فعولا أقعد في التعدي من فعيل ، ويجوز أن يتعلق برحيم لأجل حرف الجر إذا قدر خبرا بعد خبر ، ولم يقدر صفة لغفور لامتناع تقدم الصفة على موصوفها والمعمول إنما يصح وقوعه حيث يقع عامله وليس الخبر كذلك ، وأيضا يحسن في الخبر لأن رتبة الرحمة أعلى من رتبة المغفرة لأن المغفرة مسببة عنها فكأنها متقدمة معنى وإن تأخرت لفظا والمعنى على تعلقه بهما كما لا يخفى ، وتعليق المغفرة لهن مع كونهن مكرهات لا إثم لهن بناء على أن المكره غير مكلف ولا إثم بدون تكليف ، وتفصيل المسألة في الأصول قيل : لشدة المعاقبة على المكره لأن المكرهة مع قيام العذر إذا كانت بصدد المعاقبة حتى احتاجت إلى المغفرة فما حال المكره وللدلالة على أن حد الإكراه الشرعي والمصابرة إلى أن ينتهي إليه فيرتكب ضيق واللّه تعالى يغفر ذلك بلطفه. وقيل : لغاية تهويل أمر الزنا وحث المكرهات على التشبث في التجافي عنه أو لاعتبار أنهن وإن كن مكرهات لا يخلون في تضاعيف الزنا عن شائبة مطاوعة بحكم الجبلة البشرية.
[سورة النور (24) : الآيات 34 إلى 40]
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40)

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 353
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ [34. 40] كلام مستأنف جيء به في تضاعيف ما ورد من الآيات السابقة واللاحقة لبيان جلالة شؤونها المستوجبة للإقبال الكلي على العمل بمضمونها ، وصدر بالقسم المعربة عنه اللام لإبراز كمال العناية بشأنه أي وباللّه لقد أنزلنا إليكم في هذه السورة الكريمة آيات مبينات لكل مالكم حاجة إلى بيانه من الحدود وسائر الأحكام والآداب وغير ذلك مما هو من مبادي بيانها على أن مُبَيِّناتٍ من بين المتعدي والمفعول محذوف وإسناد التبيين إلى الآيات مجازي أو آيات واضحات صدقتها الكتب القديمة والعقول السليمة على أنها من بين بمعنى تبين اللازم أي آيات تبين كونها آيات من اللّه تعالى ، ومنه المثل قد بين الصبح لذي عينين.
وقرأ الحرميان وأبو عمرو وأبو بكر «مبينات» على صيغة المفعول أي آيات بينها اللّه تعالى وجعلها واضحة الدلالة على الأحكام والحدود وغيرها ، وجوز أن يكون الأصل مبينا فيها الأحكام فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول.
وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ عطف على آياتٍ أي وأنزلنا مثلا كائنا من قبيل أمثال الذين مضوا من قبلكم من القصص العجيبة والأمثال المضروبة لهم في الكتب السابقة والكلمات الجارية على ألسنة الأنبياء عليهم السلام فينتظم قصة عائشة رضي اللّه تعالى عنها المحاكية لقصة يوسف عليه السلام وقصة مريم رضي اللّه تعالى عنها حيث أسند إليهما مثل ما أسند إلى عائشة من الإفك فبرأهما اللّه تعالى منه وسائر الأمثال الواردة في هذه السورة الكريمة انتظاما أوليا ، وهذا أوفق بتعقيب الكلام بما سيأتي إن شاء اللّه تعالى من التمثيلات من تخصيص الآيات بالسوابق وحمل المثل على القصة العجيبة فقط وَمَوْعِظَةً تتعظون بها وتنزجرون عما لا ينبغي من المحرمات والمكروهات وسائر ما يخل بمحاسن الآداب فهي عبارة عما سبق من الآيات والمثل لظهور كونها من المواعظ بالمعنى المذكور ، ويكفي في العطف التغاير العنواني المنزل منزلة التغاير الذاتي ، وقد خصت الآيات بما يبين الحدود والأحكام والموعظة بما يتعظ به كقوله تعالى وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور : 2] وقوله سبحانه : لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ [النور : 12] إلخ وغير ذلك من الآيات الواردة في شأن الآداب وقيدت الموعظة بقوله سبحانه :
لِلْمُتَّقِينَ مع شمولها للكل حسب شمول الإنزال حثا للمخاطبين على الاغتنام بالانتظام في سلك المتقين ببيان أنهم المغتنمون لآثارها المقتبسون من أنوارها فحسب ، وقيل : المراد بالآيات المبينات والمثل والموعظة جميع ما في القرآن المجيد من الآيات والأمثال والمواعظ اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ النور في اللغة - على ما قال ابن السكيت - الضياء وهذا ظاهر في عدم الفرق بين النور والضياء ، وفرق بينهما جمع وإن كان إطلاق أحدهما على الآخر شائعا فقال الإمام السهيلي في الروض في قول ورقة :
ويظهر في البلاد ضياء نور يقيم به البرية أن يموجا

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 354
إنه يوضح معنى النور والضياء وإن الضياء هو المنتشر عن النور والنور هو الأصل ، وفي التنزيل فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة : 17] هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً [يونس : 5] لأن نور القمر لا ينتشر عنه ما ينتشر عن الشمس لا سيما في طرفي الشهر ، وقال الفلاسفة : الضياء ما يكون للشيء من ذاته والنور ما يفيض عليه من مقابلة المضيء وعلى هذا جاء فيما زعم إسلاميوهم قوله تعالى : هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً فإن اختلاف تشكلات القمر بالقرب والبعد من الشمس مع خسوفه وقت حيلولة الأرض بينه وبينها دليل على أن نوره فائض عليه من مقابلتها ، وأنت تعلم أن في هذا مقالا لعلماء الإسلام وقد قدمنا ما فيه في غير هذا المقام ، ولعل الأولى في وجه الفرق ما تقدم آنفا في كلام السهيلي.
وذكر بعض المحققين أنه يعلم من كلامهم أن لكل من النور والضياء جهة أبلغية فجهة أبلغية النور كونه أصلا ومبدأ للضياء وجهة أبلغية الضياء أن الابصار بالفعل بمدخليته. وادعى بعضهم أن النور على الإطلاق أبلغ من الضياء للآية التي نحن فيها ، وفيه بحث يعلم إن شاء اللّه تعالى أثناء تفسيرها ، واعلم أن الفلاسفة اختلفوا في حقيقة النور فمنهم من زعم أنه أجسام صغار تنفصل عن المضيء وتتصل بالمستضيء وأبطل بعدة أوجه ، الأول أنه لو كان جسما متحركا لكانت حركته طبيعية والحركة الطبيعية إلى جهة واحدة دون سائر الجهات لكن النور يقع على الجسم في كل جهة كانت له ، والثاني أنه إذا دخل من كوة ثم سددناها دفعة فتلك الأجزاء النورانية إما أن تكون باقية في البيت فيلزم أن يكون البيت مستنيرا كما كان قبل السد وليس كذلك وإما أن تكون خارجة من الكوة قبل انسدادها وهو محال لأن السد كان سبب انقطاعها فلا بد أن يكون سابقا عليه بالذات أو بالزمان وإما أن تكون غير باقية أصلا فيلزم أن يكون تخلل جسم بين جسمين موجبا انعدام أحدهما وهو معلوم الفساد ، والثالث أن كون تلك الأجسام الصغار أنوارا إما أن يكون هو عين كونها أجساما وهو باطل لأن المفهوم من النورية مغاير للمفهوم من الجسمية وإما أن يكون مغايرا لها بأن تكون تلك الأجسام حاملة لتلك الكيفية منفصلة من المضيء متصلة بالمستضيء فإن لم تكن تلك الأجسام محسوسة فهو ظاهر البطلان لأنها حينئذ كيف تكون واسطة لإحساس غيرها وإن كانت محسوسة كانت ساترة لما وراءها ويجب أنها كلما ازدادت اجتماعا ازدادت سترا لكن الأمر بالعكس فإن النور كلما ازداد قوة ازداد إظهارا ، والرابع أن الشمس إذا طلعت من الأفق يستنير وجه الأرض كله دفعة ومن البعيد أن تنتقل تلك الأجزاء من الفلك الرابع إلى وجه الأرض في تلك اللحظة اللطيفة ، ولا يخفى حاله على القول باستحالة الخرق على الأفلاك ، والخامس أن انفصال
الأجزاء من الأجرام الكوكبية يستلزم الذبول والانتقاص وخلو مواضعها عن تمام مقدارها أو مقدار أجزائها أو كونها دائمة التحليل مع إيراد البدل عما يتحلل عن جرمها فتكون أجسامها أجساما مستحيلة غذائية كائنة فاسدة وذلك محال في الفلكيات.
وتعقبها بعض متأخريهم بأنها في غاية الضعف أما الأول فلأن كون النور جسما لا يستلزم كونه متحركا ولا كون حدوثه بالحركة بل هو مما يوجد دفعة بلا حركة ، وأما الثاني فلقائل أن يقول : إن قيام المجعول بلا مادة إنما يكون بالفاعل الجاعل إياه مع اشتراط عدم الحجاب المانع عن الإفاضة فإذا طرأ المانع لم تقع الإفاضة فينعدم المفاض بلا مادة باقية عنه لأن وجوده لم يكن بشركة المادة فكذا عدمه فعند انسداد الباب المانع عن الإفاضة ينعدم الشعاع عن البيت دفعة ، ولا فرق في ذلك بين كونه عرضا أو جوهرا والسر فيهما جميعا أن النور مطلقا ليس حصوله من جهة انفعال المادة وشركة الهيولى كسائر الجواهر والأعراض الانفعاليات ولذلك لا ينعدم شيء منها دفعة لو فرض حجاب بينها وبين المبدأ الفاعلي إلا بعد زمان واستحالة وأما الذي ذكر ثالثا فجوابه أن المغايرة في المفهوم لا تنافي

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 355
الاتحاد والعينية في الوجود فما ذكر مغالطة من باب الاشتباه بين مفهوم الشيء وحقيقته ، وأما المذكور رابعا وخامسا فلأن مبناه على الانفصال والقطع للمسافة لا على مجرد الجوهرية والجسمية.
هذا وذهب بعضهم إلى أنه عرض من الكيفيات المحسوسة وقالوا : هو غني عن التعريف كسائر المحسوسات ، وتعريفه بأنه كمال أول للشفاف من حيث إنه شفاف أو بأنه كيفية لا يتوقف الإبصار بها على الإبصار بشيء آخر تعريف بما هو أخفى وكأن المراد به التنبيه على بعض خواصه. ومن هؤلاء من قال : إنه نفس ظهور اللون ، ومنهم من قال بمغايرتهما واستدلوا بأوجه ، الأول أن ظهور اللون إشارة إلى تجدد أمر فهو إما اللون أو صفة نسبية أو غير نسبية والأول باطل لأن النور إما أن يجعل عبارة عن تجدد اللون أو اللون المتجدد ، والأول يقتضي أن لا يكون مستنيرا إلا في آن تجدده ، والثاني يوجب كون الضوء نفس اللون فلا يبقى لقولهم : الضوء هو ظهور اللون معنى ، وإن جعلوا الضوء كيفية ثبوتية زائدة على ذات اللون وسموه بالظهور فذلك نزاع لفظي ، وإن زعموا أن ذلك الظهور تجدد حالة نسبية فهو باطل لأن الضوء أمر غير نسبي وإلا لكان أمرا عقليا واقعا تحت مقولة المضاف فلم يكن محسوسا أصلا لكن الحس البصري مما ينفعل عنه ويتضرر بالشديد منه حتى يبطل.
والأمور الذهنية لا تؤثر مثل هذا التأثير فإذا لم يمكن أمرا نسبيا لم يمكن تفسيره بالحالة النسبية ، والثاني أن البياض قد يكون مضيئا مشرقا وكذا السواد فلو كان ضوء كل منهما عين ذاته لزم أن يكون بعض الضوء ضد بعضه وهو محال لأن ضد الضوء الظلمة ، والثالث أن اللون يوجد بدون الضوء كما في الجسم الملون في الظلمة وكذا الضوء يوجد بدون اللون كما في البلور إذا وقع عليه الضوء فهما متغايران لوجود كل منهما بدون الآخر ، والرابع أن الجسم الأحمر مثلا المضيء إذا انعكس عنه إلى مقابله فتارة ينعكس الضوء عنه إلى جسم آخر وتارة ينعكس منه اللون والضوء معا إذا قريا حتى يحمر المنعكس إليه فلو كان مجرد ظهور اللون لاستحال أن يفيد غيره لمعانا ساذجا ، وليس لقائل أن يقول : هذا البريق عبارة عن إظهار اللون في ذلك القابل لأنه يقال : فلما ذا إذا اشتد لون الجسم المنعكس منه ضوءه أخفى ضوء المنعكس إليه وأبطله وأعطاه لون نفسه.
وقال بعض المتأخرين : استقر الرأي على أن النور المحسوس بما هو محسوس عبارة عن نحو وجود الجوهر المبصر الحاضر عند النفس في غير هذا العالم وأما الذي في الخارج بإزائه فلا يزيد وجوده على وجود اللون والأوجه التي ذكرت لمغايرتهما مقدوحة ، أما الوجه الأول فهو مقدوح بأن ظهور اللون عبارة عن وجوده وهو صفة حقيقية من شأنها أن ينسب ويضاف إلى القوة المدركة وبهذا الاعتبار يقع له التجدد قولهم : يوجب أن يكون الضوء نفس اللون قلنا : نعم ولكنهما متغايران بالاعتبار كما أن الماهية والوجود في كل شيء متحدان بالذات متغايران بالاعتبار فإن النور والضوء يرجع معناه إلى وجود خاص عارض لبعض الأجسام والظلمة عبارة عن عدم الوجود الخاص بالكلية والظل عبارة عن عدمه في الجملة واللون عبارة عن امتزاج يقع بين حامل هذا الوجود النوري وحامل عدمه على أنحاء مختلفة فليست الألوان إلا مراتب تراكيب الأنوار والأدلة الموردة على إبطال ذلك ضعيفة فعلى هذا صح قولهم : النور هو ظهور اللون وصح أيضا قول من يقول إنه غير اللون لأن النور بما هو نور لا يختلف إذ لا يعتبر فيه امتزاج ولا شوب مع عدم أو ظلمة والألوان مختلفة ، وأما الوجه الثاني فهو أيضا مندفع بما مهد وبأن اللون وإن لم يكن غير النور إلا أن مراتب الأنوار مختلفة شدة وضعفا ، ومع هذا الاختلاف قد تختلف بوجوه أخر بحسب تركيبات وامتزاجات كثيرة تقع بين أعداد من النور وإمكانها وفعليتها وأصلها وفرعها واعداد من الظلمة أعني عدم ذلك النور وإمكانها وفعليتها وأصلها وفرعها فإن هذه الألوان أمور مادية في الأكثر أو متعلقة بها والمادة منيع الانقسام والتركيب بين الوجودات والإعدام والإمكانات

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 356
فليس بعجب أن يحصل من ضروب تركيبات النور بالظلمة هذه الألوان التي نراها فتقع تلك الأقسام في محالها على الوجه المذكور ثم يقع عليها نور آخر بمقابلة المنير.
ومن قال بأن النور عين اللون لم يقل بأن كل نور عين كل لون كما أن من قال بأن الوجود عين الماهية لم يقل بأن كل وجود عين كل ماهية ليلزمه أن لا يطرد وجود على وجود ولا تضاد وجود لوجود فالألوان متخالفة الأحكام وبعضها أمور متضادة لكن بما هي ألوان لا بما هي أنوار كما أن الموجودات متخالفة الأحكام وبعضها أشياء متضادة لكن بما هي ماهيات لا بما هي موجودات مع أن الوجود والماهية واحد ، وأما الوجه الثالث فسبيل دفعه سهل بما بين وكذا الوجه الرابع بأدنى أعمال روية فإن عدم ظهور اللون قد يكون لضعف اللمعان الواقع على شيء وقد يكون لشدة اللمعان فالواقع على المقابل من عكس المضيء الملون قد يكون ضوءه فقط وذلك عند قصور الضوء واللون أو قصور استعداد القابل المقابل وقد يكون كلاهما لقوتهما وقوة استعداد المنعكس إليه ، على أن الكلام في مباحث العكوس طويل ، وكون المنعكس من الجسم المضيء إلى جسم آخر ضوءه دون لونه ربما كان لأجل صقالته فإن الصقيل قد يكون ذا لون وضوء ولكن المنعكس منه إلى مقابله ليس إلا ما حصل من نير آخر بتوسطه على نسبة وضعية مخصوصة بينهما له إليهما لا اللون والضوء اللذان يستقران فيه فالمنعكس في ذلك المقابل ليس إلا الضوء فقط من ذلك النير لا من المنعكس منه إلا أن يكون المنعكس إليه أيضا جسما صقيلا فيقع فيه حكاية منهما أي الضوء واللون أو من أحدهما أيضا.
هذا غاية ما قالوه في النور المحسوس الذي يظهر به الأجسام على الأبصار ولهم في النور إطلاق آخر وهو الظاهر بذاته والمظهر لغيره وقالوا : هو بهذا المعنى مساو للوجود بل نفسه فيكون حقيقة بسيطة كالوجود منقسما كانقسامه ، فمنه نور واجب لذاته قاهر على ما سواه ، ومنه أنوار عقلية ونفسية وجسمية ، والواجب تعالى نور الأنوار غير متناهي الشدة وما سواه سبحانه أنوار متناهية الشدة بمعنى أن فوقها ما هو أشد منها وإن كان بعضها كالأنوار العقلية لا تقف آثارها عند حد ، والكل من لمعات نوره عز وجل حتى الأجسام الكثيفة فإنها أيضا من حيث الوجود لا تخلو عن نور لكنه مشوب بظلمات الإعدام والإمكانات ، إذ علمت هذا فاعلم أن إطلاق النور على اللّه سبحانه وتعالى بالمعنى اللغوي والحكمي السابق غير صحيح لكمال تنزهه جل وعلا عن الجسمية والكيفية ولوازمهما ، وإطلاقه عليه سبحانه بالمعنى المذكور وهو الظاهر بذاته والمظهر لغيره قد جوزه جماعة منهم حجة الإسلام الغزالي فإنه قدس سره بعد أن ذكر في رسالته مشكاة الأنوار ومعنى النور ومراتبه قال : إذا عرفت أن النور يرجع إلى الظهور والإظهار فاعلم أن لا ظلمة أشد من كتم العدم لأن المظلم سمي مظلما لأنه ليس بظاهر للابصار مع أنه موجود في نفسه فما ليس موجودا أصلا كيف لا يستحق أن يكون هو الغاية في الظلمة.
وفي مقابلته الوجود وهو النور فإن الشيء ما لم يظهر في ذاته لا يظهر لغيره ، والوجود ينقسم إلى ما للشيء من ذاته وإلى ما له من غيره ، فما له الوجود من غيره فوجوده مستعار لأقوام له بنفسه بل إذا اعتبر ذاته من حيث ذاته فهو عدم محض وإنما هو وجود من حيث نسبته إلى غيره وذلك ليس بوجود حقيقي ، فالوجود الحق هو اللّه تعالى كما أن النور الحق هو اللّه عز وجل ، وقد قال قبل هذا. أقول ولا أبالي إن إطلاق اسم النور على غير النور الأول مجاز محض إذ كل ما سواه سبحانه إذا اعتبر ذاته فهو في ذاته من حيث ذاته لا نور له بل نورانيته مستعارة من غيره ولا قوام لنورانيته المستعارة بنفسها بل بغيرها ونسبة المستعار إلى المستعير مجاز محض ، وفسر النور في هذه الآية أعني قوله تعالى :
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بذلك ، ثم أشار إلى وجه الإضافة إلى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بقوله : لا ينبغي أن

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 357
يخفى عليك ذلك بعد أن عرفت أنه تعالى هو النور ولا نور سواه وإنه كل الأنوار والنور الكلي لأن النور عبارة عما تنكشف به الأشياء وأعلى منه ما تنكشف به وله ومنه وليس فوقه نور منه اقتباسه واستمداده بل ذلك له في ذاته لذاته لا من غيره ، ثم عرفت أن هذا لا يتصف به إلا النور الأول ، ثم عرفت أن السماوات والأرض مشحونة نورا من طبقتين النور أعني المنسوب إلى البصر والمنسوب إلى البصيرة أي إلى الحسن والعقل كنور الكواكب وجواهر الملائكة وكالأنوار المشاهدة المنبسطة على كل ما على الأرض وكأنوار النبوة والقرآن إلى غير ذلك.
وهذا منزع صوفي والصوفية لا يتحاشون من القول بأنه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا هو الكل بل هو هو لا هوية لغيره إلا بالمجاز ويقولون : لا إله إلا اللّه توحيد العوام ولا إله إلا هو توحيد الخواص لأنه أتم وأخص وأشمل وأحق وأدق وأدخل لصاحبه في الفردانية المحضة والوحدانية الصرفة ، وقد قال بذلك الغزالي في رسالته المذكورة أيضا ، وأنت تعلم أنه مما لا يهتدى إليه بنور الاستدلال بل هو طور وراء طور العقل لا يهتدى إليه إلا بنور اللّه عز وجل.
وجوز بعض المحققين كون المراد من النور في الآية الموجد كأنه قيل : اللّه موجد السماوات والأرض ، ووجه ذلك بأنه مجاز مرسل باعتبار لازم معنى النور وهو الظهور في نفسه وإظهاره لغيره وقيل : هو استعارة والمستعار منه النور بمعنى الظاهر بنفسه المظهر لما سواه والمستعار له الواجب الوجود الموجد لما عداه ، وكون المراد به مفيض الإدراك ومعطيه مجازا مرسلا أو استعارة والكلام على حذف مضاف أي نور أهل والسماوات والأرض ، وهذا قريب مما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : اللّه نور السماوات والأرض هادي أهل السماوات والأرض وهو وجه حسن ، وجاء في رواية أخرى أخرجها ابن جرير عنه رضي اللّه تعالى عنه أنه فسر النور بالمدبر فقال : اللّه نور السماوات والأرض يدبر الأمر فيهما ، وروي ذلك عن مجاهد أيضا ، وجعل ذلك بعضهم من التشبيه البليغ.
ووجه الشبه كون كل من التدبير والنور سبب الاهتداء إلى المصالح. وجوز أن يكون هناك استعارة تصريحية.
وتعقب بأن ذكر طرفي التشبيه وهو اللّه تعالى والنور ينافي ذلك وأجيب بأن ذكرهما إنما ينافيه إذا كان على وجه ينبىء عن التشبيه وكان كل من المشبه والمشبه به مذكورا بعينه وهنا لم يشبه اللّه سبحانه بالنور بل شبه المدبر به وذكر جزئي يصدق عليه المشبه أو كلي يشمله لا ينافي ذلك كما أشار إليه صاحب الكشاف في مواضع منه وصرح به أهل المعاني ، وقيل : المراد به المنزه من كل عيب ، ومن ذلك قولهم : امرأة نوار أي بريئة من الريبة بالفحشاء وهو من باب المجاز أيضا ، وقيل : الكلام على حذف مضاف كما في زيد كرم أي ذو نور ، ويؤيده كما قيل قوله تعالى بعد مَثَلُ نُورِهِ ويَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ.
وقيل : نور بمعنى منور وروي ذلك عن الحسن وأبي العالية والضحاك وعليه جماعة من المفسرين ، ويؤيده قراءة بعضهم «منور» وكذا قراءة علي كرم اللّه تعالى وجهه وأبي جعفر وعبد العزيز المكي وزيد بن علي وثابت بن أبي حفصة والقورصي ومسلمة بن عبد الملك وأبي عبد الرحمن السلمي وعبد اللّه بن عباس بن أبي ربيعة «نوّر» فعلا ماضيا «والأرض» بالنصب ، وتنويره سبحانه السماوات والأرض قيل بالشمس والقمر وسائر الكواكب ونسب إلى الحسن ومن معه ، وقيل : تنوير السماوات بالملائكة عليهم السلام وتنوير الأرض بالأنبياء عليهم السلام والعلماء ونسب إلى أبيّ بن كعب ، والتنوير على الأول حسي وعلى الثاني عقلي. وقيل وهو الذي اختاره : تنويره سبحانه إياهما بما فيهما من الآيات التكوينية والتنزيلية الدالة على وجوده ووحدانيته وسائر صفاته عز وجل والهادية إلى صلاح

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 358
المعاش والمعاد ، والجملة استئناف مسوق إما لتحقيق أن بيانه تعالى المؤذن به قوله سبحانه : وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ الآية ليس مقصورا على ما ورد في هذه السورة الكريمة. وإما لتقرير ما في القرآن الجليل من البيان ، ويتأتى نحو هذا على بعض الأقوال السابقة في بيان المراد بالنور وهو وجه قوي في مناسبة الآية لما قبلها ولا يكاد يظهر مثله على بعض آخر منها. وذكر العلامة الطيبي في بيان المناسبة كلاما فيه الغث والسمين إن أردته فارجع إليه.
وتخصيص السماوات والأرض بالذكر لأنهما المقر المعروف للمكلفين المحتاجين لما يدلهما ويهديهما لما سبق.
وقال العلامة البيضاوي بعد ذكر عدة احتمالات في المراد بالنور : إن إضافته إليهما للدلالة على سعة إشراقه أو لاشتمالهما على الأنوار الحسية والعقلية وقصور الإدراكات البشرية عليهما وعلى المتعلق بهما والمدلول لهما ، وقيل :
المراد بهما العالم كله كإطلاق المهاجرين والأنصار على جميع الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم.
وتعقب بأن هذا من إطلاق اسم البعض على الكل مجازا وقد اشترط في التلويح أن يكون الكل مركبا تركيبا حقيقيا ولم يثبت في اللغة إطلاق الأرض على مجموع الأرض والسماء والإنسان على الآدمي والسبع.
وأجيب بأنه لا يتعين كونه مجازا لجواز كونه كناية ولو سلم فما في التلويح غير مسلم أو هو أغلبي ، فقد ذكر الزمخشري في قوله تعالى : لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ [آل عمران : 5] أنه عبر عن جميع العالم بالسماء والأرض ، وقال العلامة في شرحه : إنه من إطلاق الجزء على الكل فالمعنى حينئذ اللّه نور العالم كله مَثَلُ نُورِهِ أي أدلته سبحانه العقلية والسمعية في السماوات والأرض التي هدى بها من شاء إلى ما فيه صلاحه وحكي هذا عن أبي مسلم وينتظم ذلك القرآن انتظاما أوليا ، وعن ابن عباس والحسن وزيد بن أسلم أن المراد بالنور هنا القرآن كما يعرب عنه ما قبل من وصف آياته بالإنزال والتبيين ، وقد صرح بكونه نورا أيضا في قوله تعالى : وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً [النساء : 174] وقيل المراد به الحق فقد جاء استعارة النور له كاستعارة الظلمة للباطل في قوله سبحانه : اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [البقرة : 257] أي من أنواع الباطل إلى الحق ووجه الشبه الظهور ، ومن أمثالهم الحق أبلج ، ويكفي ذلك في جواز الاستعارة ولا تتوقف على تحقق ما في النور من معنى الإظهار في الحق ، نعم إذا تحقق ذلك أيضا فهو نور على نور لكن رجح ضعف تفسيره بما ذكر دون القرآن بأنه يأباه مقام بيان شأن الآيات ووصفها بما ذكر من التبيين مع عدم سبق ذكر الحق.
وفي الكشف المراد بالحق الذي فسر النور به ما يقابل الباطل وهو يتناول التوحيد والشرائع وما دل عليه بدليل السمع والعقل ، وليس المراد به كون السماوات والأرض دليلين على وجود فاطرهما بل ذلك أيضا داخل في عموم اللفظ انتهى ، ويضعف عليه أمر هذا التضعيف ، وقيل المراد به الهدى الذي دل عليه الآيات المبينات ، وقيل : الهدى مطلقا ، فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس أنه قال : مثل نوره مثل هداه في قلب المؤمن ، وأخرج ابن جرير عن أنس قال : إن إلهي يقول نوري هداي وذكر بعضهم أن تفسيره بالهدى مختار الأكثرين وأن تفسيره بالحق بالمعنى العام يوافقه ، وقيل : المراد به المعارف والعلوم التي أفاضها عز وجل على قلب المؤمن وإضافة ذلك إليه سبحانه لأنه مفاضه تعالى ، وعن أبيّ بن كعب والضحاك تفسيره بالإيمان الذي أعطاه ، سبحانه المؤمن ووفقه إليه. وجاء في بعض الروايات عن ابن عباس تفسيره بالطاعات التي حلى بها جل شأنه قلب المؤمن فيشمل الإيمان وسائر الأعمال القلبية الحميدة ، وقيل المراد بنوره رسوله محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وقد جاء إطلاق النور عليه عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى : قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ [المائدة : 15] على

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 359
قول ، وقيل : غير ذلك مما ستعلمه إن شاء اللّه تعالى ، والضمير على جميع هذه الأقوال راجع إليه تعالى كما هو الظاهر.
وجوز رجوع الضمير إلى المؤمن وروي ذلك عن عكرمة وهو إحدى الروايات وصححها الحاكم عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وروي أيضا عن أبيّ بن كعب بل أخرج عبد بن حميد وابن الأنباري في المصاحف عن الشعبي أنه قال قرأ أبيّ بن كعب «مثل نور المؤمن» وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن أبي العالية أن أبيا قرأ «مثل نور من آمن به» أو قال : «مثل من آمن به».
وفي البحر روي عن أبيّ أنه قرأ «مثل نور المؤمنين» وقيل : الضمير راجع إلى محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وروى ذلك جماعة عن ابن عباس عن كعب الأحبار ، وحكاه أبو حيان عن ابن جبير أيضا ، وقيل : هو راجع إلى القرآن ، وقيل : إلى الإيمان ، ولا يخفى أن رجوع الضمير إلى غير مذكور في الكلام إذا لم يكن في الكلام ما يدل عليه أو كان لكن كانت دلالته عليه خفية خلاف الظاهر جدا لا سيما إذا فات المقصود من الكلام على ذلك ، والمراد بالمثل بالصفة العجيبة أي صفة نوره سبحانه العجيبة الشأن كَمِشْكاةٍ أي كصفتها في الإنارة والتنوير ، وقال أبو حيان : أي كنور مشكاة وهي الكوة غير النافذة كما قال ابن عباس وأبو مالك وابن جبير وسعيد بن عياض والجمهور ، وقال أبو موسى :
هي الحديدة أو الرصاصة التي تكون فيها الفتيلة في جوف الزجاجة وعن مجاهد أنها الحديدة التي يعلق بها القنديل وهو كما ترى ، والمعول عليه قول الجمهور ، وعن ابن عطية أنه أصح الأقوال وعلى جميعها هو لفظ حبشي معرب كما قال ابن قتيبة والكلبي وغيرهما ، وقيل : رومي معرب ، وقال الزجاج كما في مجمع البيان : يجوز أن يكون عربيا فيكون مفعلة والأصل مشكوة فقلبت الواو الفا لتحركها وانفتاح ما قبلها وإلى أن أصل ألفها الواو ذهب ابن جني واستدل عليه بأن العرب قد نحوا بها منحاة الواو كما فعلوا بالصلاة.
وقرأ الكسائي برواية الدوري بالإمالة فِيها مِصْباحٌ سراج ضخم ثاقب ، وقيل الفتيلة المشتعلة الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ في قنديل من الزجاج الصافي الأزهر وضم الزاي لغة الحجاز وكسرها وفتحها لغة قيس ، بالفتح قرأ أبو رجاء ونصر بن عاصم في رواية ابن مجاهد.
وقرأ بعضهم بالكسر أيضا وكذا قرىء بهما في قوله تعالى : الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ مضيء متلألىء كالزهرة في صفائه وزهرته منسوب إلى الدر فوزنه فعلي ، وجوز أن يكون أصله درىء بهمزة آخره كما قرأ به حمزة وأبو بكر فقلبت ياء وأدغمت في الياء فوزنه فعيل وهو من الدرء بمعنى الدفع فإنه يدفع الظلام بضوئه أو يدفع بعض ضوئه بعضا من لمعانه ، وجوز أن يكون من الدرء بمعنى الجري وليس بذاك ومثله ما قيل إنه من درأ إذا طلع وفاجأ ولا يخفى على المتتبع أن فعيلا قليل في كلامهم ففي اللباب فعيل غريب لا نظير له إلا مريق لحب المصفر أو ما سمن من الخيل وعلية وسرية وذرية قاله أبو علي ، وفي البحر سمع أيضا مريخ الذي في داخل القرن اليابس وفيه لغتان ضم الميم وكسرها. وقال الفراء : لم يسمع إلا مريق وهو أعجمي وسيبويه عد ذلك من أبنية العرب ولم يثبت بعضهم هذا الوزن أصلا.
وقال أبو عبيد : أصل «دري ء» دروء كسبوح فجعلت الضمة كسرة للاستثقال والواو ياء لانكسار ما قبلها كما قالوا في عتو عتى فوزنه فعول وكذا قيل في سرية وذرية ، وجعل بعضهم سرية من السر وهو النكاح أو الإخفاء والضم من تغييرات النسب فوزنه فعلية كما في الصحاح ، والأخفش يرى أنه من السرور وقد أبدلت الراء الأخيرة ياء وهو معهود في الفعل فقد قالوا : تسررت جارية وتسريت كما قالوا : تظننت وتظنيت فوزنه على هذا كما قال الخفاجي

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 360
فعليلة ، وجعل بعضهم ذرية نسبة إلى الذر على غير القياس لإخراجهم كالذر من ظهر آدم عليه السلام.
وقرأ قتادة وزيد بن علي والضحاك «دري» بفتح الدال وروي ذلك عن نصر بن عاصم وأبي رجاء وابن المسيب وقرأ الزهري «دري» بكسر الراء وقرأ أبو عمرو والكسائي «دري ء» بالكسر والهمزة آخره ، وهو بناء كثير في الأسماء نحو سكين وفي الأوصاف نحو سكير. وقرأ قتادة أيضا وأبان بن عثمان وابن المسيب وأبو رجاء وعمرو بن قائد والأعمش ونصر بن عاصم «درى ء» بالهمز وفتح الدال ، قال ابن جني : وهذا عزيز لم يحفظ منه إلا السكينة بفتح السين وشد الكاف في لغة حكاها أبو زيد. وقرىء «دءري» بتقديم الهمزة ساكنة على الراء وهي من نادر الشواذ وفي إعادة الْمِصْباحُ والزُّجاجَةُ معرفين أثر سبقهما منكرين والإخبار عنهما بما بعدهما مع انتظام الكلام بأن يقال :
كمشكاة فيها مصباح في زجاجة كأنها كوكب دري من تفخيم شأنهما ورفع مكانتهما بالتفسير إثر الإبهام والتفصيل بعد الإجمال وبإثبات ما بعدهما لهما بطريق الإخبار المنبئ عن القصد الأصلي دون الوصف المبني عن الإشارة إلى الثبوت في الجملة ما لا يخفى ، والجملة الأولى في محل الرفع على أنها صفة لمصباح والجملة الثانية في محل الجر على أنها صفة لزجاجة واللام مغنية كما في مجمع البيان وإرشاد العقل السليم عن الرابط كأنه قيل : فيها مصباح هو في زجاجة هي كأنها كوكب دري يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ أي يبتدأ إيقاد المصباح من شجرة مُبارَكَةٍ أي كثيرة المنافع بأن رويت ذبالته بزيتها ، وقيل إنما وصفت بالبركة لأنها تثبت في الأرض التي بارك اللّه تعالى فيها للعالمين ، وقيل بارك فيها سبعون نبيا منهم إبراهيم عليه السلام زَيْتُونَةٍ بدل من شَجَرَةٍ وقال أبو علي : عطف بيان عليها وقيل بارك فيها سبعون نبيا منهم إبراهيم عليه السلام زَيْتُونَةٍ بدل من شَجَرَةٍ وقال أبو علي : عطف بيان عليها وهو مبني على مذهب الكوفيين من تجويزهم عطف البيان في النكرات ، وأما البصريون فلا يجوزونه إلا في المعارف.
وفي إبهام الشجرة ووصفها بالبركة ثم الإبدال عنها أو بيانها تفخيم لشأنها ، وقد جاء في الحديث مدح الزيت لأنه منها
، أخرج عبد بن حميد في مسنده. والترمذي وابن ماجة عن عمر رضي اللّه تعالى عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة».
وأخرج البيهقي عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها أنها ذكر عندها الزيت فقالت : «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يأمر أن يؤكل ويدهن ويسعط به ويقول إنه من شجرة مباركة
وهو في حد ذاته ممدوح ،
ففي الحديث أنه مصحة من الباسور
وذكر له الأطباء منافع كثيرة ، وكان صلّى اللّه عليه وسلّم يأكل الخبز به وأكل عليه الصلاة والسلام اللسان مطبوخا بالشعير وفيه الزيت والتوابل «1» فليحفظ. وقرأ الأخوان وأبو بكر والحسن وزيد بن علي وقتادة وابن وثاب وطلحة وعيسى والأعمش «توقت» بالتاء المثناة من فرق مضارع أوقدت مبنيا للمفعول على أن الضمير القائم مقام الفاعل للزجاجة وإسناد الفعل إليها قيل على سبيل المبالغة ، وقيل هو بتقدير مضاف أي مصباحها. وقرأ الحسن والسلمي وقتادة أيضا وابن محيصن وسلام ومجاهد وابن أبي إسحاق والمفضل عن عاصم «توقد» بالتاء الفوقية أيضا مضارع توقد وأصله نتوقد بتاءين فخفف بحذف أحدهما.
وذكر الخفاجي أنها قراءة أبي عمرو وابن كثير والإسناد فيها للزجاجة على ما مر. وقرأ السلمي وقتادة وسلام أيضا «يوقد» بالياء التحتية على أنه مضارع توقد أيضا ، وجاء كذلك عن الحسن وابن محيصن ، وأصله يتوقد أي المصباح فحذفت التاء وهو غير معروف مع الياء وإنما المعروف هو الحذف عند اجتماع التاءين المتماثلين.
ووجه ذلك على ما قال ابن جني أنه شبه فيه حرف مضارعة بحرف مضارعة يعني الياء بالتاء فعومل معاملته
___________
(1) كالفلفل ونحوه ا ه منه.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 361
كما شبهت التاء والنون في تعد ونعد بياء يعد فحذف الواو معهما كما حذفت فيه لوقوعها بين ياء وكسرة.
وقرىء «توقد» بالتاء من فوق على صيغة الماضي من التفعل والضمير للمصباح أي ابتداء توقد المصباح من شجرة.
لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ أي ضاحية للشمس لا يظلها جبل ولا شجر ولا يحجبها عنها شيء من حين تطلع إلى أن تغرب وذلك أحسن لزيتها ، وروي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والكلبي وهو تفسير بلازم المعنى أعني به كونها بين الشرق والغرب. وعن ابن زيد أي ليست من شجر الشرق ولا من شجر الغرب لأن ما اختص بإحدى الجهتين كان أقل زيتا وأضعف ضوءا لكنها من شجر الشام وهي ما بين المشرق والمغرب وزيتونها أجود ما يكون ، وقال أبو حيان في تذكرته : المعنى ليست في مشرقة أبدا أي في موضع لا يصيبه ظل وليست في مقناة أبدا أي في موضع لا تصيبه الشمس ، وحاصله ليست الزيتونة تصيبها الشمس خاصة ولا الظل خاصة ولكن يصيبها هذا في وقت وهذا في وقت ، وقال الفراء والزجاج : المعنى لا شرقية فقط ولا غربية فقط لكنها شرقية غربية أي تصيبها الشمس عند طلوعها وغروبها ، وأنت تعلم أنه لا بد من تقدير قيد فقط بعد كل من شَرْقِيَّةٍ وغَرْبِيَّةٍ كما سمعت ليتوجه النفي إليه فيفيد التركيب اجتماع الأمرين وإلا فظاهره نفيهما ، وعن المطلع أن هذا كقول الفرزدق :
بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم ولم تكثر القتلى بها حين سلت
إذ معناه شاموا سيوفهم وأكثروا بها القتلى ، وتعقبه في الكشف بأنه لا استدلال بالبيت على ذلك لجواز أن يريد لم يشيموا غير مكثري القتلى على الحال وإفادته المعنى المذكور واضحة حينئذ ، وعن ابن عباس أنها في دوحة أحاطت بها فليست منكشفة لا من جهة الشرق ولا من جهة الغرب ، وتعقب بأن هذا لا يصح عن ابن عباس لأنها إذا كانت بهذه الصفة فسد جناها ، وعن الحسن أن هذا مثل وليست من شجر الدنيا إذ لو كانت في الدنيا لكانت شرقية أو غربية ، وعن عكرمة أنها من شجر الجنة ولعله إنما جزم بذلك لما ذكر الحسن ولا يخفى ما فيه ، وقرأ الضحاك «لا شرقية ولا غربية» بالرفع أي هي لا شرقية ولا غربية.
وقال أبو حيان : أي لا هي شرقية ولا غربية ، ولعل ما ذكرنا أولى ، والجملة في موضع الصفة لزيتونة.
يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ أي هو في الصفاء والإنارة بحيث يكاد يضيء بنفسه من غير مساس نار أصلا ، وكلمة لَوْ في أمثال هذه المواقع ليست لبيان انتفاء الشيء لانتفاء غيره في الزمان الماضي فلا يلاحظ لها جواب قد حذف ثقة بدلالة ما قبلها عليه ملاحظة قصدية إلا عند القصد إلى بيان الإعراب على القواعد الصناعية بل هي لبيان تحقق ما يفيده الكلام السابق من الحكم الموجب أو المنفي على كل حال مفروض من الأحوال المقارنة له إجمالا بإدخالها على أبعدها منه ، والواو الداخلة عليها لعطف الجملة المذكورة على جملة محذوفة مقابلة لها عند الجزولي ومن وافقه ، ومجموع الجملتين في حيز النصب على الحالية من المستكن في الفعل الموجب أو المنفي ، وتقدير الآية الكريمة يكاد زيتها يضيء لو مسته نار ولو لم تمسسه نار أي يضيء كائنا على كل حال من وجود شرط الإضاءة وعدمه ، وحذفت الجملة الأولى حسبما هو المطرد في الباب ثقة بدلالة الثانية عليها دلالة واضحة.
وقال الزمخشري : الواو للحال ومقتضاه أن لَوْ مع ما بعدها حال فالتقدير والحال لو كان أو لم يكن كذا أي مفروضا ثبوته أو انتفاؤه ، لكن الزمخشري ومثله المرزوقي يقدر ولو كان الحال كذا. وتعقب ذلك بأن أدوات الشرط لا تصلح للحالية لأنها تقتضي عدم التحقق والحال يقتضي خلافه. والتزم لذلك أنه انسلخ عنها الشرطية وأنها مؤولة

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 362
بالحال كما أن الحال تكون في معنى الشرط نحو لأفعلنه كائنا ما كان أي إن كان هذا أو غيره ولذا لا تحتاج إلى الجزاء أصلا ، وإنما قدر الحال بعد لو على ما قيل : إشارة إلى أنه قصد إلى جعل الجملة حالا قبل دخول الشرط المنافي له ثم دخلت لَوْ تنبيها على أنها حال غير محققة واعترض الرضي للقول بأنها عاطفة بأنه لو كان كذلك لوقع التصريح بالمعطوف عليه في الاستعمال وليس كذلك وذهب إلى أنها اعتراضية.
ويجوز الاعتراض في آخر الكلام والمقصود منه التأكيد. وأجيب عن اعتراضه بأن ظهور ترتب الجزاء على المعطوف عليه أغنى عن ذكره حتى كان ذكره تكرارا ، وبالجملة الذي عطف عليه الأكثرون وارتضوه كونها عاطفة ، ويجعل مجموع الجملتين في موضع الحال على ما سمعت يندفع ما يتوهم من أن كاد تنافي اعتبار العطف هنا فتأمل ، وقرأ ابن عباس والحسن «يمسسه» بالياء التحتية وحسنه الفصل وكون الفاعل غير حقيقي التأنيث نُورٌ عَلى نُورٍ أي هو نور عظيم كائن على نور على أن يكون نُورُ خبر مبتدأ محذوف والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة له مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة ، والجملة فذلكة للتمثيل وتصريح بما حصل منه وتمهيد لما يعقبه فالمراد من الضمير النور الذي مثلت صفته العظيمة الشأن بما سمعت لا النور المشبه به وحمله عليه لا يليق كما قيل بشأن التنزيل الجليل ، وليس معنى كونه نورا فوق نور أنه نور واحد معين أو غير معين فوق نور آخر مثله ولا أنه مجموع نورين اثنين فقط بل إنه نور متضاعف من غير تحديد لتضاعفه بحد معين وتحديد مراتب تضاعف ما مثل به من نور المشكاة بما ذكر لكونه أقصى مراتب تضاعفه عادة فإن المصباح إذا كان في مكان متضايق كالمشكاة كان أضوأ له وأجمع لنوره بسبب انضمام الشعاع المنعكس منه إلى أصل الشعاع بخلاف المكان المتسع فإن الضوء ينبث فيه وينتشر والقنديل أعون شيء على زيادة الإنارة وكذلك الزيت وصفاؤه وليس وراء هذه المراتب مما يزيد نورها إشراقا ويمده بإضاءة مرتبة أخرى عادة.
والظاهر عندي أن التشبيه الذي تضمنته الآية الكريمة من تشبيه المعقول وهو نوره تعالى بمعنى أدلته سبحانه لكن من حيث إنها أدلة أو القرآن أو التوحيد والشرائع وما دل عليه بدليل السمع والعقل أو الهدى أو نحو ذلك بالمحسوس وهو نور المشكاة المبالغ في نعته وأنه ليس في المشبه به أجزاء ينتزع منها الشبه ليبني عليه أنه مركب أو مفرق ، وذكر أنه إذا كان المراد تشبيه النور بمعنى الهدى الذي دلت عليه الآيات المبينات فهو من التشبيه المركب العقلي وقد شبه فيه الهيئة المنتزعة بأخرى فإن النور وإن كان لفظه مفردا دال على متعدد وكذا إذا كان المراد تشبيه ما نور اللّه تعالى به قلب المؤمن من المعارف والعلوم بنور المشكاة المنبث فيها من مصباحها ، وفي الحواشي الطيبة الطيبية بعد اختيار أن المراد بالنور الهداية بوحي ينزله ورسول يبعثه ما هو ظاهر في أن التشبيه من التشبيه المفرق بل صرح بذلك أخيرا ، واستدل عليه بأن التكرير في الآية يستدعي ذلك وقد أطال الكلام في هذا المقام ، ومنه أن المشبهات المناسبة على هذا المعنى صدر الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وقلبه الشريف واللطيفة الربانية فيه والقرآن وما يتأثر منه القلب عند استمداده.
والتفصيل أنه شبه صدره عليه الصلاة والسلام بالمشكاة لأنه كالكوة ذو وجهين فمن وجه يقتبس النور من القلب المستنير ومن آخر يفيض ذلك النور المقتبس على الخلق وذلك لاستعداده بانشراحه مرتين مرة في صباه وأخرى عند إسرائه قال اللّه تعالى : أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزمر : 22] وهذا تشبيه صحيح قد اشتهر عن جماعة من المفسرين ، روى محيي السنة عن كعب هذا مثل ضربه اللّه تعالى لنبيه صلّى اللّه عليه وسلّم المشكاة صدره والزجاجة قلبه والمصباح فيه النبوة والشجرة المباركة شجرة النبوة ، وروى الإمام عن بعضهم أن المشكاة صدر محمد عليه الصلاة والسلام والزجاجة قلبه والمصباح ما في قلبه من الدين ، وفي حقائق السلمي عن أبي سعيد الخزاز

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 363
المشكاة حوف محمد صلّى اللّه عليه وسلّم والزجاجة قلبه الشريف والمصباح النور الذي فيه ، وشبه قلبه صلوات اللّه تعالى وسلامه عليه بالزجاجة المنعوتة بالكوكب الدري لصفائه وإشراقه وخلوصه عن كدورة الهوى ولوث النفس الأمّارة وانعكاس نور اللطيفة إليه. وشبهت اللطيفة القدسية المزهرة في القلب بالمصباح الثاقب.
أخرج الإمام أحمد في مسنده عن أبي سعيد الخدري قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : القلوب أربعة قلب أجود فيه مثل السراج يزهر - وفيه - أما القلب الأجود فقلب المؤمن سراجه فيه نوره» الحديث ،
وشبه نفس القرآن بالشجرة المباركة لثبات أصلها وتشعب فروعها وتأديها إلى ثمرات لا نهاية لها قال اللّه تعالى : كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها [إبراهيم : 24 ، 25] الآية. وروى محيي السنة عن الحسن وابن زيد الشجرة المباركة شجرة الوحي يكاد زيتها يضيء تكاد حجة القرآن تتضح وإن لم تقرأ. وشبه ما يستمده نور قلبه الشريف صلوات اللّه تعالى وسلامه عليه من القرآن وابتداء تقويته منه بالزيت الصافي قال اللّه تعالى : وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا [الشورى : 52] فكما جعل سبحانه القرآن سبب توقده منه في قوله تعالى : يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ جعل ضوءه مستفادا من انعكاس نور اللطيفة إليه في قوله عز وجل وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ.
والمعنى على ما ذكر في انسان العين يكاد سر القرآن يظهر للخلق قبل دعوة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وفيه مسحة من معنى قوله :
رق الزجاج ورقت الخمر فتشابها وتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح وكأنما قدح ولا خمر
ومنه وصفت الشجرة بكونها لا شرقية ولا غربية. وعن ابن عباس تشبيه فؤاده صلّى اللّه عليه وسلّم بالكوكب الدري وأن الشجرة المباركة إبراهيم عليه السلام. ومعنى لا شرقية ولا غربية أنه ليس بنصراني فيصلي نحو المشرق ولا يهودي فيصلي نحو المغرب. والزيت الصافي دين إبراهيم عليه السلام ، وقد يقال على تفريق التشبيه لكن على مشرع آخر شبه القرآن بالمصباح على ما سبق ونفسه صلّى اللّه عليه وسلّم الزكية الطاهرة بالشجرة لكونها نابتة من أرض الدين متشعبة فروعها إلى سماء الإيمان متدلية أثمارها إلى فضاء الإخلاص والإحسان وذلك لاستقامتها بمقتضى قوله تعالى : فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود : 112] غير مائلة إلى طرفي الإفراط والتفريط وذلك معنى قوله تعالى : لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ويشبه ما محض من تلك الثمرات بعد التصفية التامة للتهيئة وقبول الآثار بالزيت الصافي لوفور قوة استعدادها للاستضاءة للدهنية القابلة للاشتعال ، ومن ثم خصت شجرة الزيتون لأن لب ثمرتها الزيت الذي تشتعل به المصابيح ، وخص هذا الدهن لمزيد إشراقه مع قلة الدخان يكاد زيت استعداده صلوات اللّه تعالى وسلامه عليه لصفائه وزكائه يضيء ولو لم يمسسه نور القرآن ، روى البغوي عن محمد بن كعب القرظي تكاد محاسن محمد صلّى اللّه عليه وسلّم تظهر للناس قبل أن يوحى إليه ، قال ابن رواحة :
لو لم يكن فيه آيات مبينة كانت بداهته تنبيك عن خبره
وفي حقائق السلمي مثل نوره في عبده المخلص والمشكاة القلب والمصباح النور الذي قذف فيه والمعرفة تضيء في قلب العارف بنور التوفيق يوقد من شجرة مباركة يضيء على شخص مبارك تتبين أنوار باطنة على آداب ظاهرة وحسن معاملته زيتونة لا شرقية ولا غربية جوهرة صافية لا لها حظ في الدنيا ولا في الآخرة لاختصاصها بموالاة

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 364
العزيز الغفار وتفردها بالفرد الجبار إلى غير ذلك ، وجعل بعضهم التشبيه من المركب الوهمي بناء على أن المراد من النور المشبه الهدى من حيث إنه محفوف بظلمات أوهام الناس وخيالاتهم.
وكان الظاهر على هذا دخول الكاف على المصباح دون المشكاة المشتملة عليه ، ومن هنا قيل إن في الآية قلبا ، ووجه بعضهم دخولها على المشكاة بأن المشتمل مقدم على المشتمل عليه في رأي العين فقدم لفظا ودخل الكاف عليه رعاية لذلك ، وقيل إنه على هذا أيضا تشبيه مفرق لأنه شبه الهدى بالمصباح والجهالات بظلم استلزمتها وهو كما ترى.
ومن الناس من جعل التشبيه مفرقا لكن بنى كلامه على ما أسسه الفلاسفة فجعل النور المشبه ما منح اللّه تعالى به عباده من القوى الخمس الدراكة المترتبة التي نيط بها المعاش وهي القوة الحساسة أعني الحس المشترك الذي يدرك المحسوسات بجواسيس الحواس الخمس الظاهرة والقوة الخيالية التي تحفظ صور تلك المحسوسات لتعرضها على القوة العقلية متى شاء والقوة العقلية المدركة للحقائق الكلية والقوة الفكرية التي تأخذ المعارف العقلية فتؤلفها على وجه يحصل به العلم بالمجهولات والقوة القدسية التي يختص بها الأنبياء والأولياء وتنجلي فيها لوائح الغيب وأسرار الملكوت ، وجعل ما في حيز الكاف عبارة عن أمور شبه بكل منها واحد من هذه الخمس فقال : شبهت القوة الحساسة بالمشكاة من حيث إن محلها تجويف في مقدم الدماغ كالكوة تضع فيه الحواس الظاهرة ما تحس به وبذلك يضيء ، وشبهت القوة الخيالية بالزجاجة من حيث إنها تقبل الصور المدركة من الجوانب كما تقبل الزجاجة الأنوار الحسية من الجوانب ومن حيث إنها تضبط الأنوار العقلية وتحفظها كما تحفظ الزجاجة الأنوار الحسية ، ومن حيث إنها تستنير بما يشتمل عليها من المعقولات ، وشبهت القوة العقلية بالمصباح لإضاءتها بالإدراكات والمعارف وشبهت القوة الفكرية بالشجرة المباركة من حيث إنها تؤدي إلى نتائج كثيرة هي بمنزلة ثمرات الشجرة ، واعتبرت زيتونة لأن لها فضيلة على سائر الأشجار من حيث إن لب ثمرتها هو الزيت الذي له منافع جمة ، منها أنه مادة المصابيح والأنوار الحسية وله من بين سائر الأدهان خاصة زيادة الإشراق وقلة الدخان ، واعتبار وصف لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ في جانب المشبه من حيث إن القوة الفكرية مجردة عن اللواحق الجسمية أو من حيث إن انتفاعها ليس مختصا بجانب الصور ولا بجانب المعاني ، وشبهت القوة القدسية بالزيت الذي يكاد يضيء من غير أن تمسسه نار من حيث إنها لكمال صفائها وشدة
استعدادها لا تحتاج إلى تعليم أو تفكر. واعترض بأن حق النظم الكريم على هذا أن يقال : مثل نوره كمشكاة وزجاجة ومصباح وشجرة مباركة زيتونة وزيت يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار حتى يفيد تشبيه كل واحد بكل واحد. وأجيب بأنه لما كان كل من هذه الحواس يأخذ ما يدركه مما قبله كما يأخذ المظروف من ظرفه أشار سبحانه إلى ذلك بأداة الظرفية دلالة على بديع صنعه سبحانه وحكمته جل شأنه.
وجوز أن يراد تشبيه النور المراد به القوة العقلية للنفس بمراتبها بذلك ومراتبها أربع ، الأولى أن تكون النفس خالية عن جميع العلوم الضرورية والنظرية مستعدة لها كما في مبدأ الطفولية وتسمى القوة العقلية في هذه المرتبة بالعقل الهيولاني لأنها كالهيولى في أنها في ذاتها خالية عن جميع الصور قابلة لها ، وثانيتها أن تستعمل آلاتها أي الحواس مطلقا فيحصل لها علوم أولية ، وتستعد لاكتساب علوم نظرية وتسمى القوة المذكورة في هذه المرتبة عقلا بالملكة لحصول ملكة الانتقال إلى النظريات لها بسبب تلك الأوليات ، وثالثتها أن تصير النظريات مخزونة عندها وتحصل لها ملكة استحضارها متى شاءت من غير تجشم كسب جديد وتسمى تلك القوة في هذه المرتبة عقلا بالفعل لحصول تلك العلوم لها بالقوة القريبة من الفعل ، ورابعتها أن ترتب العلوم الأولية وتدرك العلوم النظرية مشاهدة

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 365
إياها بالفعل وتسمى تلك القوة في هذه المرتبة عقلا مستفادا لاستفادتها من العقل الفعال فشبهت القوة بالمرتبة الأولى بالمشكاة الخالية في بدء الأمر عن الأنوار الحسية المستعدة للاستنارة بها وبالمرتبة الثانية بالزجاجة المتلألئة في نفسها القابلة للأنوار الفائضة عليها من الغير الخارجي وبالمرتبة الثالثة بالمصباح الذي اشتعلت فتيلته المشبعة من الزيت وبالمرتبة الرابعة بالنور المتضاعف المشار إليه بقوله تعالى : نُورٌ عَلى نُورٍ والشيخ ابن سينا بعد أن بين المراتب حمل مفردات التنزيل عليها ، وحقق في المحاكمات وجه الترتيب فيها حيث جعل الزجاجة في المشكاة والمصباح في الزجاجة بأن هناك استعدادا محضا كما في المرتبة الأولى واستعداد اكتساب كما في المرتبة الثانية واستعداد استحضار كما في المرتبة الثالثة ولا شك أن استعداد الاكتساب بحسب الاستعداد المحض واستعداد الاستحضار بحسب استعداد الاكتساب فتكون الزجاجة التي هي عبارة عن العقل بالملكة كأنما هي في المشكاة التي هي عبارة عن العقل الهيولاني والمصباح وهو العقل بالفعل في الزجاجة التي هي العقل بالملكة لأنه إنما يحصل باعتبار حصول العقل أولا وحيث إن العقل بالملكة إنما يخرج من القوة إلى الفعل بالفكر أو بالحدس أو بالقوة القدسية أشير إلى الفكر بالشجرة الزيتونة وإلى الحدس بالزيت وإلى القوة القدسية بيكاد زيتها يضيء ودفع ما يظهر من عدم انطباق ما ذكر على النظم الجليل لأنه وصف فيه الشجرة بما سمعت من الصفات ، وهذه أمور متباينة لا يجوز وصف أحدها بالآخر بأن الشجرة الزيتونة شيء واحد فإذا ترقت في أطوارها حصل لها زيت إذا ترقى وصفا كاد يضيء وكذلك الاكتساب قوة نفسية هي فكرة فإذا ترقت كانت حدسا ، ثم قوة قدسية فهي وإن كانت متباينة ترجع إلى شيء واحد كالشجرة وذكر أن قوله تعالى : لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ إشارة إلى أنها ليست من عالم الحس الذي لا يخلو عن
أحد الأمرين ، ولا يخفى عليك أن هذا مع تكلفه وابتنائه على ما أسسه الفلاسفة الذين هم في عمى عن نور الشريعة وللّه تعالى در من قال فيهم :
قطعت الأخوة عن معشر بهم مرض من كتاب الشفا
فماتوا على دين رسطالس وعشنا على سنة المصطفى
لا يناسب المقام ولا ينتظم معه أطراف الكلام ، وفيه ما يقتضي أن قوله تعالى : نُورٌ عَلى نُورٍ داخل في التمثيل وفيه خلاف ، ثم اعلم أنه يعلم بمعونة ما ذكرنا حال التشبيه على سائر الأقوال في المراد بالنور ، ولعل ما ذكرناه فيه أتم نورا وأشد ظهورا واللّه تعالى أعلم بحقائق الأمور ، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [النور :
40] يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ [النور : 35] أي يهدي سبحانه هداية خاصة موصلة إلى المطلوب حتما لذلك النور المتضاعف العظيم الشأن ، وإظهاره في مقام الإضمار لزيادة تقريره وتأكيد فخامته الذاتية بفخامته الإضافية الناشئة من إضافته إلى ضميره عز وجل مَنْ يَشاءُ هدايته من عباده بأن يوفقهم سبحانه لفهم وجوه دلالة الأدلة العقلية والسمعية التي نور بها السماوات والأرض على وجه ينتفعون به أو بأن يوفقهم لفهم ما في القرآن من دلائل حقيته وكونه من عنده عز وجل من الإعجاز والإخبار عن الغيب وغير ذلك من موجبات الإيمان وفيه احتمالات أخر بحسب ما في النور من الأقوال ، وأيا ما كان ففيه إيذان بأن مناط هذه الهداية وملاكها ليس إلا مشيئته تعالى وأن إظهار الأسباب بدونها بمعزل عن الإفضاء إلى المطالب :
إذا لم يك التوفيق عونا لطالب طريق الهدى أعيت عليه مطالبه
وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ في تضاعيف الهداية حسبما يقتضيه حالهم فإن لضرب المثل دخلا عظيما في باب الإرشاد لأنه إبراز للمعقول في هيئة المحسوس وتصوير لأوابد المعاني بصورة المأنوس ولذلك مثل جل وعلا

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 366
نوره المراد به ما يشمل القرآن أو القرآن المبين فقط بنور المشكاة ، وإظهار الاسم الجليل في مقام الإضمار على ما في إرشاد العقل السليم للإيذان باختلاف ما أسند إليه تعالى من الهداية الخاصة وضرب الأمثال الذي هو من قبيل الهداية العامة كما يفصح عنه تعليق الأولى بمن شاء والثانية بالناس كافة.
وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ معقولا كان أو محسوسا ظاهرا كان أو باطنا ومن قضيته أن تتعلق مشيئته تعالى بهداية من يليق بها ويستحقها من الناس دون من عداهم لمخالفته الحكمة التي هي مبنى التكوين والتشريع وأن تكون هدايته سبحانه العامة على فنون مختلفة وطرائق شتى حسبما تقتضيه أحوالهم وتقوم به الحجة له تعالى عليهم ، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله ، وقيل جيء بها لوعد من تدبر الأمثال ووعيد من لم يكترث بها ، وقيل لبيان أن فائدة ضرب الأمثال التي هي للتوضيح إنما هي للناس وليس بذاك ، وإظهار الاسم الجليل لتأكيد استقلال الجملة والاشعار بعلة الحكم وبما ذكر آنفا من اختلاف حال المحكوم به ذاتا وتعلقا.
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ إلخ استئناف لبيان حال من حصلت لهم الهداية لذلك النور وذكر بعض أعمالهم القلبية والقالبية ، فالجار والمجرور - أعني متعلق قوله تعالى : فِي بُيُوتٍ بيسبح وفيها تكرير لذلك جيء به للتأكيد والتذكير بما بعد في الجملة وللإيذان بأن التقديم للاهتمام دون الحصر ، ومثل ما ذكر في التكرير للتأكيد وقوله تعالى : فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [آل عمران :
107] وقولك مررت بزيد به ، وبعض النحاة أعرب نحو ذلك بدلا كما في شرح التسهيل ، وفي المغني هو من توكيد الحرف بإعادة ما دخل عليه مضمرا وليس الجار والمجرور توكيدا للجار والمجرور لأن الظاهر لكونه أقوى لا يؤكد بالضمير ، وليس المجرور بدلا بإعادة الجار لأنه لا يبدل مضمر من مظهر وإنما جوزه بعض النحاة قياسا ، وأنت تعلم أن ما ذكر غير وارد لأن المجموع بدل أو توكيد ، وأتي بالظاهر هربا من التكرار ، ورِجالٌ فاعل يُسَبِّحُ وتأخيره عن الظروف لأن في وصفه نوع طول فيخل تقديمه بحسن الانتظام وقال الرماني فِي بُيُوتٍ متعلق بيوقد ، وقال الحوفي : متعلق بمحذوف وقع صفة لمشكاة ، وقيل هو صفة لمصباح ، وقيل صفة لزجاجة ، وهو على هذه الأقوال الأربعة تقييد للممثل به للمبالغة فيه ، والتنوين في الموصوف للنوعية لا للفردية لينافي ذلك في جمع البيوت. وأورد على ما ذكر أن شيئا منه لا يليق بشأن التنزيل الجليل كيف لا وأن ما بعد قوله تعالى وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ على ما هو الحق أو بعد قوله سبحانه نُورٌ عَلى نُورٍ على ما قيل إلى قوله تعالى بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ كلام متعلق بالممثل قطعا فتوسطيه بين أجزاء التمثيل مع كونه من قبيل الفصل بين الشجرة ولحائه بالأجنبي يؤدي إلى كون ذكر حال المنتفعين بالتمثيل المهديين لنوره تعالى بطريق الاستتباع والاستطراد مع كون بيان حال أضدادهم مقصودا بالذات ومثل هذا مما لا عهد به في كلام الناس فضلا أن يحمل عليه الكلام المعجز.
وتعقبه الخفاجي بأنه زخرف من القول إذ لا فصل فيه وما قبله إلى هنا من المثل ، والظاهر عندي أن التمثيل قد تم عند قوله تعالى : وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ وقيل هو متعلق بسبحوا أو نحوه محذوفا ، وتلك الجملة على ما قيل مترتبة على ما قبلها وترك الفاء للعلم به كما في نحو قم يدعوك ، ومنعوا تعلقه بيذكر لأنه من صلة أن فلا يعمل فيما قبله ، والمراد بالبيوت المساجد كلها كما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وقتادة ومجاهد.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال : إنما هي أربع مساجد لم يبنهن إلا نبي ، الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وبيت المقدس بناه داود وسليمان عليهما السلام ومسجد المدينة ومسجد قباء بناهما رسول

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 367
اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وعن الحسن أن المراد بها بيت المقدس والجمع من حيث إن فيه مواضع يتميز بعضها عن بعض وهو خلاف الظاهر جدا.
وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك وبريدة قال : «قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : هذه الآية فِي بُيُوتٍ إلخ فقام إليه عليه الصلاة والسلام رجل فقال : أي بيوت هذه يا رسول اللّه؟ فقال صلّى اللّه عليه وسلّم : «بيوت الأنبياء عليهم السلام فقام إليه أبو بكر رضي اللّه تعالى فقال : يا رسول اللّه هذا البيت منها لبيت علي وفاطمة رضي اللّه تعالى عنهما قال : نعم من أفاضلها»
وهذا إن صح لا ينبغي العدول عنه.
وقال أبو حيان : الظاهر أنها مطلقة تصدق على المساجد والبيوت التي تقع فيها الصلاة والعلم ، وجوز أن يراد بها صلاة المؤمنين أو أبدانهم بأن تشبه صلاتهم الجامعة للعبادات القولية والفعلية أو أبدانهم المحيطة بالأنوار بالبيوت المذكورة - أعني المساجد - ثم يستعار اسمها لذلك. وتعقب بأنه لا حسن فيما ذكر وأظنك لا تكتفي بهذا المقدار من الجرح ، والمراد بالإذن الأمر وبالرفع التعظيم أي أمر سبحانه بتعظيم قدرها ، وروي هذا عن الحسن والضحاك ولا يخفى أنه إذا أريد بها المساجد فتعظيم قدرها يكون بأشياء شتى كصيانتها عن دخول الجنب والحائض والنفساء ولو على وجه العبور وقد قالوا بتحريم ذلك وإدخال بحاسة فيها يخاف منها التلويث ولذا قالوا : ينبغي لمن أراد أن يدخل المسجد أن يتعاهد النعل والخف عن النجاسة ثم يدخل فيه احترازا عن تلويث المسجد ، ومنع إدخال الميت فيها ومنع إدخال الصبيان والمجانين وهو حرام حيث غلب تنجيسهم وإلا فهو مكروه ، وقد جاء الأمر بتجنيبهم عن المساجد مطلقا.
أخرج ابن ماجة عنواثلة بن الأسقع عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم وسل سيوفكم واتخذوا على أبوابها المطاهر وجمروها في الجمع ومنع إنشاد الضالة وإنشاد الأشعار
، فقد أخرج الطبراني وابن السني وابن منده عن ثوبان قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : «من رأيتموه ينشد شعرا في المسجد فقولوا فض اللّه تعالى فاك ثلاث مرات ومن رأيتموه ينشد ضالة في المسجد فقولوا : لا وجدتها ثلاث مرات» الحديث.
وينبغي أن يقيد المنع من إنشاد الشعر بما إذا كان فيه شيء مذموم كهجو المسلم وصفة الخمر وذكر النساء والمردان وغير ذلك مما هو مذموم شرعا ، وأما إذا كان مشتملا على مدح النبوة والإسلام أو كان مشتملا على حكمة أو باعثا على مكارم الأخلاق والزهد ونحو ذلك من أنواع الخير فلا بأس بإنشاده فيها ، ومنع إلقاء القملة فيه بعد قتلها وهو مكروه تنزيها على ما صرح به بعض المتأخرين ، ويندب أن لا تلقى حية في المسجد ،
فقد أخرج ابن أبي شيبة وأحمد عن رجل من الأنصار قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «إذا وجد أحدكم القملة في المسجد فليصرها في ثوبه حتى يخرجها»
ومنع البول فيها ولو في إناء وقد صرحوا بحرمة ذلك ، وفي الأشباه وأما الفصد في المسجد في إناء فلم أره ، وينبغي أن لا فرق أي لأن كلّا من البول والدم نجس مغلظ ، ومنع إلقاء البصاق فيها.
وفي البدائع يكره التوضي في المسجد لأنه مستقذر طبعا فيجب تنزيه المسجد عنه كما يجب تنزيهه عن المخاط والبلغم ، وأخرج ابن أبي شيبة عن الشعبي «أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم رأى في قبلة المسجد نخامة فقام إليها فحكها بيده الشريفة صلّى اللّه عليه وسلّم ثم دعا بخلوق فلطخ مكانها»
فقال الشعبي : هو سنة ، وذكروا أن إلقاء النخام فوق الحصير أخف من وضعها تحته فإن اضطر إليه دفنها ، وفي حديث أخرجه ابن أبي شيبة عن أنس مرفوعا «التفل في المسجد خطيئة وكفارته أن يواريه»
وروى الطبراني في الأوسط عن ابن عباس مرفوعا أيضا نحوه ، ومنع الوطء فيها وفوقها كالتخلي==

26. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ( نسخة محققة )
المؤلف : شهاب الدين محمود ابن عبد الله الحسيني الآلوسي

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 368
وصرحوا بحرمة ذلك ، ومنع دخول من أكل ذا رائحة كريهة فيها كالثوم والبصل والكراث وأكل الفجل إذا تجشأ كذلك ، وقد كان الرجل في زمان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إذا وجد منه ريح الثوم يؤخذ بيده ويخرج إلى البقيع ، والظاهر أن الأبخر أو من به صنان مستحكم حكمه حكم آكل الثوم والبصل ، وكذا حكم من رائحة ثيابه كريهة كثياب الزياتين والدباغين ، وعن مالك أن الزياتين يتأخرون ولا يتقدمون إلى الصف الأول ويقعدون في أخريات الناس ، ومنع الثوم والأكل فيها لغير معتكف ، ومنع الجلوس فيها للمصيبة أو للتحدث بكلام الدنيا ، ومنع اتخاذها طريقا وهو مكروه أو حرام ، وقد جاء النهي عن ذلك في حديث رواه ابن ماجة عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما مرفوعا.
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود أن اتخاذها طريقا من أشراط الساعة وفي القنية معتاد ذلك يأثم ويفسق ، نعم إن كان هناك عذر لم يكره المرور ، ومن تعظيمها رشها وقمها ، فقد أخرج ابن أبي شيبة عن زيد بن أسلم قال : كان المسجد يرش ويقم على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. وأخرج عن يعقوب بن زيد أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يتبع غبار المسجد بجريدة وكذا تعليق القناديل فيها وفرشها بالآجر والحصير ، وفي مفتاح السعادة ولأهل المسجد أن يفرشوا المسجد بالآجر والحصير ويعلقوا القناديل لكن من مال أنفسهم لا من مال المسجد إلا بأمر الحاكم ، ولعل محل ذلك ما لم يعين الواقف شيئا من ريع الوقف لذلك ، وينبغي أن يكون إيقاد القناديل الكثيرة فيها في ليالي معروفة من السنة كليلة السابع والعشرين من رمضان الموجب لاجتماع الصبيان وأهل البطالة ولعبهم ورفع أصواتهم وامتهانهم بالمساجد بدعة منكرة ، وكذا ينبغي أن يكون فرشها بالقطائف المنقوشة التي تشوش على المصلين وتذهب خشوعهم كذلك ، ومن التعظيم أيضا تقديم الرجل اليمنى عند دخولها واليسرى عند الخروج منها ، وصلاة الداخل ركعتين قبل الجلوس إذا كان دخوله لغير الصلاة على ما ذكره بعضهم ، وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي قتادة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «أعطوا المساجد حقها : قيل وما حقها؟ قال : ركعتان قبل أن تجلس»
ومن ذلك أيضا بناؤها رفيعة عالية لا كسائر البيوت لكن لا ينبغي تزيينها بما يشوش على المصلين ، وفي حديث أخرجه ابن ماجة والطبراني عن جبير بن مطعم مرفوعا أنها لا تبنى بالتصاوير ولا تزين بالقوارير. وفسر بعضهم الرفع ببنائها رفيعة كما في قوله تعالى : وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ [البقرة : 127] والأولى عندي تفسيره بما سبق وجعل بنائها كذلك داخلا في العموم ويدخل فيه أمور كثيرة غير ما ذكرنا وقد ذكرها الفقهاء وأطالوا الكلام فيها.
زعم بعض المفسرين أن إسناد الرفع إليها مجاز ، والمراد ترفع الحوائج فيها إلى اللّه تعالى ، وقيل : ترفع الأصوات بذكر اللّه عز وجل فيها ، ولا يخفى مافيه ، وفي التعبير عن الآمر بالإذن تلويح بأن اللائق بحال المأمور أن يكون متوجها إلى المأمور به قبل الآمر به ناويا لتحقيقه كأنه مستأذن في ذلك فيقع الأمر به موقع الأمر فيه ، والمراد بذكر اسمه تعالى شأنه ما يعم جميع أذكاره تعالى ، وجعل من ذلك المباحث العلمية المتعلقة به عز وجل ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما المراد به توحيده عز وجل وهو قول : لا إله إلا اللّه ، وعنه أيضا المراد تلاوة كتابه سبحانه.
وقيل : ذكر أسمائه تعالى الحسنى. والظاهر ما قدمنا ، وعطف الذكر على الرفع من قبيل عطف الخاص على العام فإن ذكر اسمه تعالى فيها من أنواع تعظيمها ، وليس من عطف التفسير في شيء خلافا لمن توهمه ، والتسبيح التنزيه والتقديس ويستعمل باللام وبدونها كما في قوله تعالى : سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى : 1] والمراد به إما ظاهره أو الصلاة لاشتمالها عليه وروي هذا عن ابن عباس والحسن والضحاك.
وعن ابن عباس كل تسبيح في القرآن صلاة ، وأيد إرادة الصلاة هنا تعيين الأوقات بقوله سبحانه : بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ والغدو جمع غداة كفتى وفتاة أو مصدر أطلق على الوقت الغدو ، وأيد بأن أبا مجلز قرأ «والإيصال» مصدرا

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 369
أي الدخول في وقت الأصيل ، والْآصالِ كما قال الجوهري جمع أصيل كشريف وأشراف ، واختاره جماعة مع أن جمع فعيل على أفعال ليس بقياسي.
واختار الزمخشري أنه جمع أصل كعنق وأعناق والأصل كالأصيل العشي وهو من زوال الشمس إلى الصباح فيشمل الأوقات ما عدا الغداة وهي من أول النهار إلى الزوال ويطلقان على أول النهار وآخره ، وإفرادهما بالذكر لشرفهما وكونهما أشهر ما يقع فيه المباشرة للأعمال والاشتغال بالأشغال. وعن ابن عباس أنه حمل الغداة على وقت الضحى وهو مقتضى ما أخرج ابن أبي شيبة والبيهقي في شعب الإيمان عنه رضي اللّه تعالى عنه من قوله : «إن صلاة الضحى لفي القرآن وما يغوص عليها الأغواص وتلا الآية حتى بلغ الآصال.
وقرأ ابن عامر وأبو بكر والبحتري عن حفص ومحبوب عن أبي عمرو والمنهال عن يعقوب والمفضل وأبان «يسبح» بالياء التحتية والبناء للمفعول ونائب الفاعل لَهُ أو فِيهَا إن لم يتعلق فِي بُيُوتٍ به أو بِالْغُدُوِّ والأولية للأول لأنه ولي الفعل والإسناد إليه حقيقي دون الأخيرين. وجوز أن يكون المجرور فيما ذكر نائب الفاعل والجار فيه زائدا ، وفيه ارتكاب لما لا داعي إليه ، ورفع «رجال» على هذه القراءة على أنه فاعل لفعل محذوف أو خبر مبتدأ محذوف على ما في البحر أي يسبح له أو المسبح له رجال. والجملة استئناف بياني وقع جوابا لسؤال نشأ من الكلام السابق. وهذا نظير قوله :
ليبك يزيد ضارع لخصومة متخبط مما تطيح الطوائح
وهو قياسي عند الكثير فيجوز عندهم أن يقال : ضربت هند زيد بتقدير ضربها أو ضاربها زيد. وليس هذا كذكر الفاعل تمييزا بعد الفعل المبني للمفعول نحو ضرب أخوك رجلا المصرح بعدم جوازه ابن هشام في الباب الخامس من المغني وإن أوهمت العلة أنه مثله فتأمل.
وقرأ أبو حيوة وابن وثاب «تسبح» بالتاء الفوقية والبناء للفاعل وهو «رجال» والتأنيث لأن جمع التكثير كثيرا ما يعامل معاملة المؤنث ، وقرأ أبو جعفر «تسبيح» بالتاء الفوقية والبناء للمفعول وهو قوله تعالى : بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ على أن الباء زائدة والإسناد مجازي بجعل الأوقات المسبح فيها ربها مسبحة ، وجوز أبو حيان أن يكون الإسناد إلى ضمير التسبيحة الدال عليه «تسبح» أي تسبح هي أي التسبيحة كما قالوا في قوله تعالى : لِيَجْزِيَ قَوْماً [الجاثية : 14] على قراءة من بنى يجزي للمفعول أي ليجزي هو أي الجزاء. قال في إرشاد العقل السليم : وهذا أولى من التوجيه الأول إذ ليس هنا مفعول صريح. وضعفه بعضهم هنا بأن الوحدة لا تناسب المقام ، وأجيب بالتزام كون الوحدة جنسية.
وأيا ما كان فرفع «رجال» على هذه القراءة على الفاعلية أو الخبرية كما سمعت آنفا. والتنوين فيه على جميع القراءات للتفخيم ، وقوله سبحانه : لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ صفة له مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة مفيدة لكمال تبتلهم إلى اللّه تعالى من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم كائنا ما كان. وتخصيص الرجال بالذكر لأنهم الأحقاء بالمساجد.
فقد أخرج أحمد والبيهقي عن أم سلمة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم «خير مساجد النساء قعر بيوتهن»
وتخصيص التجارة التي هي المعاوضة مطلقا بذلك لكونها أقوى الصوارف عندهم وأشهرها أي لا يشغلهم نوع من أنواع التجارة وَلا بَيْعٌ أي ولا فرد من أفراد البياعات وإن كان في غاية الريح. وإفراده بالذكر مع اندراجه تحت التجارة للإيذان بإنافته على سائر أنواعها لأن ربحه متيقن ناجز وربح ما عداه متوقع في ثاني الحال عند البيع فلم يلزم من نفي إلهاء ما عداه نفي إلهائه ولذلك كرر كلمة لا لتذكير النفي وتأكيده ، وجوز أن يراد بالتجارة المعاوضة الرابحة بالبيع المعاوضة مطلقا فيكون ذكره بعدها من باب التعميم بعد التخصيص للمبالغة ، ونقل عن الواقدي أن المراد بالتجارة هو الشراء لأنه

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 370
أصلها ومبدؤها فلا تخصيص ولا تعميم ، وقيل : المراد بالتجارة الجلب لأنه الغالب فيها فهو لازم لها عادة. ومنه يقال :
تجر في كذا أي جلبه. ويؤيد هذا ما
أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال في هؤلاء الموصوفين بما ذكر : هم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل اللّه تعالى.
وأخرج الديلمي وغيره عن أبي سعيد الخدري مرفوعا نحوه
، وفي ذلك أيضا ما يقتضي أنهم كانوا تجارا وهو الذي يدل عليه ظاهر الآية لأنه لا يقال فلان لا تلهيه التجارة إلا إذا كان تاجرا وروي ذلك عن ابن عباس.
أخرج الطبراني وابن مردويه عنه أنه قال : أما واللّه لقد كانوا تجارا فلم تكن تجارتهم ولا بيعهم يلهيهم عن ذكر اللّه تعالى ، وبه قال الضحاك ، وقيل إنهم لم يكونوا تجارا والنفي راجع للقيد والمقيد كما في قوله :
على لاحب لا يهتدى بمناره كأنه قيل : لا تجارة لهم ولا بيع فيلهيهم فإن الآية نزلت فيمن فرغ عن الدنيا كأهل الصفة ، وأنت تعلم أن الآية على الأول المؤيد بما سمعت أمدح ولم نجد لنزولها فيمن فرغ عن الدنيا سندا قويا أو ضعيفا ولا يكتفى في هذا الباب بمجرد الاحتمال عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ بالتسبيح والتحميد ونحوهما وَإِقامِ الصَّلاةِ أي إقامتها لمواقيتها من غير تأخير.
والأصل أقوام فنقلت حركة الواو لما قبلها فالتقى ساكنان فحذفت فقيل : إقام ، وعن الزجاج أنه قلبت الواو ألفا ثم حذف لاجتماع ألفين. وأورد عليه أنه لا داعي إلى قلبها ألفا مع فقد شرطه وهو أن لا يسكن ما بعدها. وأوجب الفراء لجواز هذا الحذف تعويض التاء فيقال : إقامة أو الإضافة كما هنا. وعلى هذا جاء قوله :
إن الخليط أجدوا البين وانجردوا وأخلفوك عدا الأمر الذي وعدوا
فإنه أراد عدة الأمر. وتأول خالد بن كلثوم ما في البيت على أن عدا جمع عدوة بمعنى ناحية كأن الشاعر أراد نواحي الأمر وجوانبه. ومذهب سيبويه جواز الحذف من غير تعويض التاء أو الإضافة وَإِيتاءِ الزَّكاةِ أي المال الذي فرض إخراجه للمستحقين كما روي عن الحسن. ويدل على تفسير الزكاة بذلك دون الفعل ظاهر إضافة الإيتاء إليها.
وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما تفسير إيتاء الزكاة بإخلاص طاعة اللّه تعالى وفيه بعد كما ترى ، وإيراد هذا الفعل هاهنا وإن لم يكن مما يفعل في البيوت لكونه قرينة لا تفارق إقامة الصلاة في عامة المواضع مع ما فيه من التنبيه على أن محاسن أعمالهم غير منحصرة فيما يقع في المساجد. وكذا قوله تعالى : يَخافُونَ إلى آخره فإنه صفة أخرى لرجال أو حال من مفعول لا تُلْهِيهِمْ أو استئناف مسوق للتعليل. وأيا ما كان فليس خوفهم مقصورا على كونهم في المساجد.
وقوله تعالى : يَوْماً مفعول ليخافون على تقدير مضاف أي عقاب يوم وهو له أو بدونه وجعله ظرفا لمفعول محذوف بعيد. وأما جعله ظرفا ليخافون والمفعول محذوف فليس بشيء أصلا إذ المراد أنهم يخافون في الدنيا يوما تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ لا أنهم يخافون شيئا في ذلك اليوم الموصوف بأنه تتقلب فيه إلخ ، والمراد به يوم القيامة ومعنى تقلب القلوب والأبصار فيه اضطرابها وتغيرها أنفسها فيه من الهول والفزع كما في قوله تعالى : وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الأحزاب : 10] أو تغير أحوالها بأن تفقه القلوب ما لم تكن تفقه وتبصر الأبصار ما لم تكن تبصر أو بأن تتوقع القلوب النجاة تارة وتخاف الهلاك أخرى وتنظر الأبصار يمينا تارة وشمالا أخرى لما أن أغلب أهل الجمع لا يدرون من أي ناحية يؤخذ بهم ولا من أي وجهة يؤتون كتبهم ، وقيل : المراد تقلب فيه القلوب والأبصار على جمر جهنم وليس بشيء ، ومثله قول الجبائي : إن المراد تنتقل من حال إلى حال فتلفحها النار ثم تنضجها ثم تحرقها ، وقرأ ابن محيصن «تنقلب» بإسكان التاء الثانية.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 371
وقوله سبحانه لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ متعلق على ما استظهره أبو حيان بيسبح وجوز أبو البقاء أن يتعلق بلا تلهيهم أو بيخافون ولا يخفى أن تعلقه بأحد المذكورين محوج إلى تأويل ، ولعل تعلقه بفعل محذوف يدل عليه ما حكي عنهم أولى من جميع ذلك أي يفعلون ما يفعلون من التسبيح والذكر وإيتاء الزكاة والخوف من غير صارف لهم عن ذلك ليجزيهم اللّه تعالى أَحْسَنَ ما عَمِلُوا واللام على سائر الأوجه للتعليل. وقال أبو البقاء : يجوز أن تكون لام الصيرورة كالتي في قوله تعالى : لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص : 8] وموضع الجملة حال والتقدير يخافون ملهمين ليجزيهم اللّه وهو كما ترى ، والجزاء المقابلة والمكافأة على ما يحمد ويتعدى إلى الشخص المجزي بعن قال تعالى :
لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [البقرة : 48 ، 123] وإلى ما فعله ابتداء بعلى تقول جزيتة على فعله وقد يتعدى إليه بالباء فيقال جزيته بفعله وإلى ما وقع في مقابلته بنفسه وبالباء ، قال الراغب : يقال جزيته كذا وبكذا ، والظاهر أن أحسن هو ما وقع في المقابلة فيكون الجزاء قد تعدى إليه بنفسه ويحتاج إلى تقدير مضاف أي ليجزيهم أحسن جزاء عملهم أو الذي عملوه حسبما وعد لهم بمقابلة حسنة واحدة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف ليكون الأحسن من جنس الجزاء.
وجوز أن يكون الأحسن هو الفعل المجزى عليه أو به الشخص وليس هناك مضاف محذوف والكلام على حذف الجار أي ليجزيهم على أحسن أو بأحسن ما عملوا ، وأحسن العمل أدناه المندوب فاحترز به عن الحسن وهو المباح إذ لا جزاء له ورجح الأول بسلامته عن حذف الجار الذي هو غير مقيس في مثل ما نحن فيه بخلاف حذف المضاف فإنه كثير مقيس ، وجوز أن يكون المضاف المحذوف قبل «أحسن» أي جزاء أحسن ما عملوا ، والظاهر أن المراد بما عملوا أعم مما سبق وبعضهم فسره به وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي يتفضل عليهم بأشياء لم توعد لهم بخصوصياتها أو بمقاديرها ولم يخطر ببالهم كيفياتها ولا كميتها بل إنما وعدت بطريق الإجمال في مثل قوله تعالى :
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس : 26] وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم حكاية عنه عز وجل «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»
إلى غير ذلك من المواعيد الكريمة التي من جملتها قوله سبحانه :
وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ فإنه تذييل مقرر للزيادة ووعد كريم بأنه تعالى يعطيهم غير أجزية أعمالهم من الخيرات ما لا يفي به الحساب والموصول عبارة عمن ذكرت صفاتهم الجميلة كأنه قيل واللّه يرزقهم بغير حساب ، ووضعه موضع ضميرهم للتنبيه بما في حيز الصلة على أن مناط الرزق المذكور محض مشيئته تعالى لا أعمالهم المحكية كما أنها المناط لما سبق من الهداية لنوره عز وجل وللإيذان بأنهم ممن شاء اللّه تعالى أن يرزقهم كما أنهم ممن شاء سبحانه أن يهديهم لنوره حسبما يعرب عنه ما فصل من أعمالهم الحسنة فإن جميعها من آثار تلك الهداية وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلى آخره عطف على ما قبله عطف القصة على القصة أو على مقدر ينساق إليه ما قبله كأنه قيل الذين آمنوا أعمالهم حالا ومآلا كما وصف الذين كفروا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ أي أعمالهم التي هي من أبواب البر كصلة الأرحام وفك العناة سقاية الحاج وعمارة البيت وإغاثة الملهوفين وقرى الأضياف ونحو ذلك على ما قيل ، وقيل أعمالهم التي يظنون الانتفاع بها سواء كان مما يشترط فيها الإيمان كالحج أم كانت مما لا يشترط فيها ذلك كسقاية الحاج وسائر ما تقدم ، وقيل المراد بها ما يشمل الحسن والقبيح ليتأتى التشبيهان ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى الكلام في ذلك ، والسراب بخار رقيق يرتفع من قعور القيعان فإذا اتصل به ضوء الشمس أشبه من بعيد الماء السارب أي الجاري واشترط فيه الفراء اللصوق في الأرض ، وقيل هو ما ترقرق من الهواء في الهجير في فيافي الأرض المنبسطة ، وقيل : هو الشعاع الذي يرى نصف النهار عند اشتداد الحر في البر يخيل للناظر أنه ماء سارب ، قال الشاعر :

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 372
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم كلمع سراب في الفلا متألق
وإلى هذا ذهب الطبرسي ، وفسر الآل بأنه شعاع يرتفع بين السماء والأرض كالماء ضحوة النهار بِقِيعَةٍ متعلق بمحذوف هو صفة سراب أي كائن بقيعة وهي الأرض المنبسطة المستوية ، وقيل هي جمع قاع كجيرة في جار ونيرة في نار ، وقرأ مسلمة بن محارب «بقيعات» بتاء طويلة على أنه جمع قيعة كديمات وقيمات في ديمة وقيمة ، وعنه أيضا قرأ «بقيعاة» بتاء مدورة ويقف عليها بالهاء فيحتمل أن يكون جمع قيعة ووقف بالهاء على لغة طيىء كما قالوا : البناه والاخواه ، ويحتمل كما قال صاحب اللوامح أن يكون مفردا وأصله قيعة كما في قراءة الجمهور لكنه أشبع الفتحة فتولدت منها الألف يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً صفة أخرى لسراب.
وجوز أن يكون هو الصفة وبقيعة ظرفا لما يتعلق به الكاف وهو الخبر والحسبان الظن على المشهور وفرق بينهم الراغب بأن الظن أن يخطر النقيضان بباله ويغلب أحدهما على الآخر والحسبان أن يحكم بأحدهما من غير أن يخطر الآخر بباله فيعقد عليه الأصبع ويكون بعرض أن يعتريه فيه شك ، وتخصيص الحسبان بالظمئان مع شموله كل من يراه كائنا من كان من العطشان والريان لتكميل التشبيه بتحقيق شركة طرفيه في وجه الشبه الذي هو المطلع والمقطع المؤيس.
وقرأ شيبة وأبو جعفر ونافع بخلاف عنهما «الظمآن» بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الميم حَتَّى إِذا جاءَهُ أي إذا جاء العطشان ما حسبه ما ، وقيل : إذا جاء موضعه لَمْ يَجِدْهُ أي لم يجد ما حسبه ماء وعلق رجاءه به شَيْئاً أصلا لا محققا ولا مظنونا كان يراه من قبل فضلا عن وجه أنه ماء ، ونصب شَيْئاً قيل على الحالية ، وأمر الاشتقاق سهل ، وقيل على أنه مفعول ثان لوجد بناء على أنها من أخوات ظن ، وجوز أن يكون منصوبا على البدلية من الضمير ، ويجوز إبدال النكرة من المعرفة بلا نعت إذا كان مفيدا كما صرح به الرضي ، واختار أبو البقاء أنه منصوب على المصدرية كأنه قيل لم يجده وجدانا وهو كما ترى وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ عطف على جملة لَمْ يَجِدْهُ فهو داخل في التشبيه أي ووجد الظمآن مقدوره تعالى من الهلاك عند السراب المذكور ، وقيل أي وجد اللّه تعالى محاسبا إياه على أن العندية بمعنى الحساب لذكر التوفية بعد بقوله سبحانه : فَوَفَّاهُ حِسابَهُ أي أعطاه وافيا كاملا حساب عمله وجزاءه أو أتم حسابه بعرض الكتبة ما قدمه وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ لا يشغله حساب عن حساب.
وفي إرشاد العقل السليم أن بيان أحوال الكفرة بطريق التمثيل قد تم بقوله سبحانه : لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ، وقوله تعالى : وَوَجَدَ إلخ بيان لبقية أحوالهم العارضة لهم بعد ذلك بطريق التكملة لئلا يتوهم أن قصارى أمرهم هو الخيبة والقنوط فقط كما هو شأن الظمآن ، ويظهر أنه يعتريهم بعد ذلك من سوء الحال ما لا قدر للخيبة عنده أصلا فليست الجملة معطوفة على لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً بل على ما يفهم منه بطريق التمثيل من عدم وجدان الكفرة من أعمالهم عينا ولا أثرا كما في قوله تعالى : وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان : 23] كيف لا وأن الحكم بأن أعمال الكفرة كسراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا حكم بأنها بحيث يحسبونها في الدنيا نافعة لهم في الآخرة حتى إذا جاؤوها لم يجدوها شيئا كأنه قيل : حتى إذا جاء الكفرة يوم القيامة أعمالهم التي كانوا في الدنيا يحسبونها نافعة لهم في الآخرة لم يجدوها شيئا ووجدوا اللّه أي حكمه وقضاءه عند المجيء ، وقيل : عند العمل فوفاهم أي أعطاهم وافيا حسابهم أي حساب أعمالهم المذكورة وجزاءها فإن اعتقادهم لنفعها بغير إيمان وعملهم بموجبه كفر على كفر موجب للعقاب قطعا ، وإفراد الضميرين الراجعين إلى الذين كفروا إما لإرادة الجنس كالظمآن

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 373
الواقع في التمثيل وإما للحمل على كل واحد منهم ، وكذا إفراد ما يرجع إلى أعمالهم انتهى ، ولا يخفى ما فيه من البعد وارتكاب خلاف الظاهر.
وأيا ما كان فالمراد بالظمئان مطلق الظمآن ، وقيل المراد به الكافر ، وإليه ذهب الزمخشري قال : شبه سبحانه ما يعمله من لا يعتقد الإيمان بسراب يراه الكافر بالساهرة وقد غلبه عطش القيامة فيحسبه ماء فيأتيه فلا يجده ويجد زبانية اللّه تعالى عنده يأخذونه فيسقونه الحميم والغساق وكأنه مأخوذ مما
أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق السدي في غرائبه عن أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «إن الكفار يبعثون يوم القيامة وردا عطاشا فيقولون أين الماء فيمثل لهم السراب فيحسبونه ماء فينطلقون إليه فيجدون اللّه تعالى عنده فيوفيهم حسابهم واللّه سريع الحساب»
، واستطيب ذلك العلامة الطيبي حيث قال : إنما قيد المشبه به برؤية الكافر وجعل أحواله ما يلقاه يوم القيامة ولم يطلق لقوله تعالى : وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ إلخ لأنه من تتمة أحوال المشبه به ، وهذا الأسلوب أبلغ لأن خيبة الكافر أدخل وحصوله على خلاف ما يؤمله أعرق.
وتعقبه أبو حيان بأنه يلزم من حمل الظمآن على الكافر تشبيه الشيء نفسه ، ورد بأن التشبيه على ما ذكره جار اللّه تمثيلي أو مقيد لا مفرق كما توهم فلا يلزم من اتحاد بعض المفردات في الطرفين تشبيه الشيء بنفسه كاتحاد الفاعل في - أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى - ، وبالجملة هو أحسن مما في الإرشاد كما لا يخفى على من سلم ذهنه من غبار العتاد.
والآية على ما روي عن مقاتل نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية كان تعبد وليس المسوح والتمس الدين في الجاهلية ثم كفر في الإسلام ولا يأبى ذلك قوله تعالى : وَالَّذِينَ كَفَرُوا لأنه غير خاص بسبب النزول وإن دخل فيه دخولا أوليا ، ولا يرد عليه أن الآية مدنية نزلت بعد بدر وعتبة قتل في بدر فإن كثيرا من الآيات نزل بسبب الأموات وليس في ذلك محذور أصلا ، ثم لا يبعد أن يكون في حكم هؤلاء الكفرة الفلاسفة ومتبعوهم من المتزينين بزي الإسلام فإن اعتقادهم وأعمالهم حيث لم تكن على وفق الشرع كسراب بقيعة. أَوْ كَظُلُماتٍ عطف على كَسَرابٍ ، وكلمة أو قيل لتقسيم حال أعمالهم الحسنة ، وجوز الإطلاق باعتبار وقتين فإنها كالسراب في الآخرة من حيث عدم نفعها وكالظلمات في الدنيا من حيث خلوها عن نور الحق ، وخص هذا بالدنيا لقوله تعالى : وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ فإنه ظاهر في الهداية والتوفيق المخصوص بها ، والأول بالآخرة لقوله تعالى :
وَوَجَدَ إلخ وقدم أحوال الآخرة التي هي أعظم وأهم لاتصال ذلك بما يتعلق بها من قوله سبحانه : لِيَجْزِيَهُمُ إلخ ثم ذكر أحوال الدنيا تتميما لها.
وجوز أن يعكس ذلك فيكون المراد من الأول تشبيه أعمالهم بالسراب في الدنيا حال الموت ، ومن الثاني تشبيهها بالظلمات في القيامة كما
في الحديث «الظلم ظلمات يوم القيامة»
ويكون ذلك ترقيا مناسبا للترتيب الوقوعي وليس بذلك لما سمعت ، وقيل للتنويع ، وذلك أنه أثر ما مثلت أعمالهم التي كانوا يعتمدون عليها أقوى اعتماد ويفتخرون بها في كل واد وناد بما ذكر من حال السراب مثلت أعمالهم القبيحة التي ليس فيها شائبة خيرية يغتر بها المغترون بالظلمات المذكورة ، وزعم الجرجاني أن المراد هنا تشبيه كفرهم فقط وهو كما ترى. والظاهر على التنويع أن يراد من الأعمال في قوله تعالى : أَعْمالُهُمْ ما يشمل النوعين.
واعترض بأنه يأبى ذلك قوله تعالى : وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ بناء على دخوله في التشبيه لأن أعمالهم الصالحة وإن سلم أنها لا تنفع مع الكفرة لا وخامة في عاقبتها كما يؤذن به قوله سبحانه : وَوَجَدَ إلخ. وأجيب بأنه ليس فيه ما

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 374
يدل على أن سبب العقاب الأعمال الصالحة بل وجد أن العقاب بسبب قبائح أعمالهم لكنها ذكرت جميعها لبيان أن بعضها جعل هباء منثورا وبعضها معاقب به ، وجوز أن تكون للتخيير في التشبيه لمشابهة أعمالهم الحسنة أو مطلقا السراب لكونها لاغية لا منفعة فيها ، والظلمات المذكورة لكونها خالية عن نور الحق ، واختاره الكرماني.
واعترض بأن الرضي كغيره ذكر أنها لا تكون للتخيير إلا في الطلب. وأجيب بأنه وإن اشتهر ذلك فقد ذهب كثير إلى عدم اختصاصه به كابن مالك والزمخشري ووقوعه في التشبيه كثير ، وأيا ما كان فليس في الكلام مضاف محذوف. وقال أبو علي الفارسي : فيه مضاف محذوف والتقدير أو كذي ظلمات ، ودل عليه ما يأتي من قوله سبحانه : إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ والتشبيه عنده هنا يحتمل أن يكون للأعمال على نمط التشبيه السابق ويقدر أو كأعمال ذي ظلمات. ويحتمل أن يكون للكفرة ويقدر أو هم كذي ظلمات والكل خلاف الظاهر ، وأمر الضمير سيظهر لك إن شاء اللّه تعالى.
وقرأ سفيان بن حسين «أوكظلمات» بفتح الواو ، ووجه ذلك في البحر بأنه جعلها واو عطف تقدمت عليها الهمزة التي لتقرير التشبيه الخالي عن محض الاستفهام. وقيل هي أَوْ التي في قراءة الجمهور وفتحت الواو للمجاورة كما كسرت الدال لها في قوله تعالى : الْحَمْدُ لِلَّهِ على بعض القراءات فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ أي عميق كثير الماء منسوب إلى اللج وهو معظم ماء البحر. وقيل اللجة وهي أيضا معظمه وهو صفة بَحْرٍ وكذا جملة قوله تعالى : يَغْشاهُ أي يغطي ذلك البحر ويستره بالكلية مَوْجٌ وقدمت الأولى لإفرادها. وقيل الجملة صفة ذي المقدر والضمير راجع إليه ، وقد علمت حال ذلك التقدير وقوله تعالى : مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ جملة من مبتدأ وخبر محلها الرفع على أنها صفة لموج أو الصفة الجار والمجرور وما بعده فاعل له لاعتماده على الموصوف. والمراد يغشاه أمواج متراكمة متراكبة بعضها على بعض ، وقوله تعالى : مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ صفة لموج الثاني على أحد الوجهين المذكورين أي من فوق ذلك الموج سحاب ظلماني ستر أضواء النجوم ، وفيه إيماء إلى غاية تراكم الأمواج وتضاعفها حتى كأنها بلغت السحاب ظُلُماتٌ خبر مبتدأ محذوف أي هي ظلمات بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ أي متكاثفة متراكمة ، وهذا بيان لكمال شدة الظلمات كما أن قوله تعالى : نُورٌ عَلى نُورٍ بيان لغاية قوة النور خلا أن ذلك متعلق بالمشبه وهذا بالمشبه به كما يعرب عنه ما بعده.
وأجاز الحوفي أن يكون ظُلُماتٌ مبتدأ خبره قوله تعالى : بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ. وتعقبه أبو حيان وتبعه ابن هشام بأن الظاهر أنه لا يجوز لما فيه من الابتداء بالنكرة من غير مسوغ إلا أن يقدر صفة لها يؤذن بها التنوين أي ظلمات كثيرة أو عظيمة وهو تكلف. وأجاز أيضا أن يكون بَعْضُها بدلا من ظُلُماتٌ. وتعقب بأنه لا يجوز من جهة المعنى لأن المراد واللّه تعالى أعلم الإخبار بأنها ظلمات وأن بعض تلك الظلمات فوق بعض أي هي ظلمات متراكمة لا الإخبار بأن بعض ظلمات فوق بعض من غير إخبار بأن تلك الظلمات السابقة متراكمة. وقرأ قنبل «ظلمات» بالجر على أنه بدل من ظُلُماتٌ الأولى لا تأكيد لها. وجملة بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ في موضع الصفة له. وقرأ البزي «سحاب ظلمات» بإضافة سحاب إلى ظلمات وهذه الإضافة كالإضافة في لجين الماء أو لبيان أن ذلك السحاب ليس سحاب مطر ورحمة.
إِذا أَخْرَجَ أي من ابتلى بها ، وإضماره من غير ذكر لدلالة المعنى عليه دلالة واضحة. وكذا تقدير ضمير يرجع إلى ظُلُماتٌ واحتج إليه لأن جملة إِذا أَخْرَجَ إلخ في موضع الصفة لظلمات ولا بد لها من رابط ولا يتعين ما أشرنا إليه. وقيل : ضمير الفاعل عائد على اسم الفاعل المفهوم من الفعل على حد
«لا يشرب الخمر وهو

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 375
مؤمن»
أي إذا أخرج المخرج فيها يَدَهُ وجعلها بمرأى منه قريبة من عينيه لينظر إليها لَمْ يَكَدْ يَراها أي لم يقرب من رؤيتها وهي أقرب شيء إليه فضلا عن أن يراها. وزعم ابن الأنباري زيادة يَكَدْ. وزعم الفراء والمبرد أن المعنى لم يرها إلا بعد الجهد فإنه قد جرى العرف أن يقال : ما كاد يفعل ولم يكد يفعل في فعل قد فعل بجهد مع استبعاد فعله وعليه جاء قوله تعالى : فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة : 71] ومن هنا خطأ ابن شبرمة ذا الرمة بقوله :
ذا غير النأي المحبين لم يكد رسيس الهوى من حب مية يبرح
وناداه يا أبا غيلان أراه قد برح ففك وسلم له ذو الرمة ذلك فغير لم يكد بل لم يكن أو لم أجد ، والتحقيق أن الذي يقتضيه لم يكد وما كاد يفعل أن الفعل لم يكن من أصله ولا قارب في الظن أن يكون ولا يشك في هذا.
وقد علم أن كاد موضوعة لشدة قرب الفعل من الوقوع ومشارفته فمحال أن يوجب نفيه وجود الفعل لأنه يؤدي إلى أن يكون ما قارب كذلك فالنظر إلى أنه إذا لم يكن المعنى على أن ثمت حالا يبعد معها أن تكون ثم تغيرت كما في قوله تعالى : فَذَبَحُوها إلخ يلتزم الظاهر ويجعل المعنى أن الفعل لم يقارب أن يكون فضلا عن أن يكون والآية على ذلك وكذا البيت ، وقد ذكر أن لم يكد فيهما جواب إِذا فيكون مستقبلا وإذا قلت : إذا خرجت لم أخرج فقد نفيت خروجا في المستقبل فاستحال أن يكون المعنى فيهما على أن الفعل قد كان.
وهذا التحقيق خلاصة ما حقق الشيخ في دلائل الإعجاز ، ومنه يعلم تخطئة من زعم أن كاد نفيها إثبات وإثباتها نفي.
وفي الحواشي الشهابية أن نفي كاد على التحقيق المذكور أبلغ من نفي الفعل الداخلة عليه لأن نفي مقاربته يدل على نفيه بطريق برهاني إلا أنه إذا وقع في الماضي لا ينافي ثبوته في المستقبل وربما أشعر بأنه وقع بعد اليأس منه كما في آية البقرة ، وإذا وقع في المستقبل لا ينافي وقوعه في الماضي فإن قامت قرينة على ثبوته فيه أشعر بأنه انتفى وأيس منه بعد ما كان ليس كذلك كما في هذه الآية فإنه لشدة الظلمة لا يمكنه رؤية يده التي كانت نصب عينيه ، ثم فرع على هذا أن لك أن تقول : إن مراد من قال : إن نفيها إثبات وإثباتها نفي أن نفيها في الماضي يشعر بالثبوت في المستقبل وعكسه كما سمعت ، وهذا وجه تخطئة ابن شبرمة وتغيير ذي الرمة لأن مراده أن قديم هواها لم يقرب من الزوال في جميع الأزمان ونفيه في المستقبل يوهم ثبوته في الماضي فلا يقال : إنهما من فصحاء العرب المستشهد بكلامهم فكيف خفي ذلك عليهما ولذا استبعده في الكشف وذهب إلى أن قصتهما موضوعة أوصى بحفظ ذلك حيث قال : فاحفظه فإنه تحقيق أنيق وتوفيق دقيق سنح بمحض اللطف والتوفيق انتهى.
ولعمري أن ما أول به كلام القائل بعيد غاية البعد ولا أظنه يقع موقع القبول عنده ونفى كل فعل في الماضي لا ينافي ثبوته في المستقبل ونفيه في المستقبل لا ينافي وقوعه في الماضي ولا اختصاص لكاد بذلك فيا ليت شعري هل دفع الإيهام ما غير إليه ذو الرمة بيته فتأمل ذاك واللّه تعالى يتولى هداك ، ثم إن ظاهر الآية يقتضي أن مانع الرؤية شدة الظلمة وهو كذلك لأن شرط الرؤية بحسب العادة في هذه النشأة الضوء سواء كانت بمحض خلق اللّه تعالى كما ذهب إليه أهل الحق أو كانت بخروج الشعاع من العين على هيئة مخروط مصمت أو مؤلف من خطوط مجتمعة في الجانب الذي يلي الرأس أو لا على هيئة مخروط بل على استواء لكن مع ثبوت طرفه الذي يلي العين واتصاله بالمرئي أو بتكيف الشعاع الذي في العين بكيفية الهواء وصيرورة الكل آلة للرؤية كما ذهب إليه فرق الرياضيين أو كانت

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 376
بانطباع شبح المرئي في جزء من الرطوبة الجليدية التي تشبه البرد والجمد كما ذهب إليه الطبيعيون ، وهذان المذهبان هما المشهوران للفلاسفة ونسب للإشراقيين منهم.
واختاره شهاب الدين القتيل أن الرؤية بمقابلة المستنير للعضو الباصر الذي فيه رطوبة صقلية وإذا وجدت هذه الشروط مع زوال المانع يقع للنفس علم إشراقي حضوري على المبصر فتدركه النفس مشاهدة ظاهرة جلية بلا شعاع ولا انطباع ، واختار الملا صدرا أنها بإنشاء صورة مماثلة للمرئي بقدرة اللّه تعالى من عالم الملكوت النفساني مجردة عن المادة الخارجية حاضرة عند النفس المدركة قائمة بها قيام الفعل بفاعله لا قيام المقبول بقابله ، وتحقيق ذلك بما له وما عليه في مبسوطات كتب الفلسفة. وربما يظن أن الظلمة سواء كانت وجودية أو عدم ملكة من شروط الرؤية كالضوء لكن بالنسبة إلى بعض الأجسام كالأشياء التي تلمع بالليل. ونفى ابن سينا ذلك وقال : لا يمكن أن تكون الظلمة شرطا لوجود اللوامع مبصرة وذلك لأن المضيء مرئي سواء كان الرائي في الظلمة أو في الضوء كالنار نراها مطلقا ، وأما الشمس فإنما لا يمكننا أن نراها في الظلمة لأنها متى طلعت لم تبق الظلمة ، وأما الكواكب واللوامع فإنما ترى في الظلمة دون النهار لأن ضوء الشمس غالب على ضوئها وإذا انفعل الحس عن الضوء القوي لا جرم لا ينفعل عن الضعيف ، فأما في الليل فليس هناك ضوء غالب على ضوئها فلا جرم ترى ، وبالجملة فصيرورتها غير مرئية ليس لتوقف ذلك على الظلمة بل لوجود المانع عن الرؤية وهو وجود الضوء الغالب انتهى ، ويمكن أن يقال : إن ضوء الشمس على ما ذكر مانع عن رؤية اللوامع ورفع مانع الرؤية شرط لها ودفع الضوء هو الظلمة فالظلمة شرط رؤية اللوامع بالليل وهو المطلوب فتدبر ولا تغفل واللّه تعالى أعلم بحقائق الأمور.
وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ اعتراض تذييلي جيء به لتقرير ما أفاده التمثيل من كون أعمال الكفار كما فصل وتحقيق أن ذلك لعدم هدايته تعالى إياهم لنوره ، وإيراد الموصول للإشارة بما في حيز الصلة إلى علة الحكم وأنهم ممن لم يشأ اللّه تعالى هدايتهم أي من لم يشأ اللّه تعالى أن يهديه اللّه سبحانه لنور في الدنيا فما له هداية ما من أحد أصلا فيها ، وقيل : معنى الآية من لم يكن له نور في الدنيا فلا نور له في الآخرة. وقيل : كلا الأمرين في الآخرة ، والمعنى من لم ينوره اللّه تعالى بعفوه ويرحمه برحمته يوم القيامة فلا رحمة له من أحد فيها والمعول عليه ما تقدم. والظاهر أن المراد تشبيه أعمال الكفرة بالظلمات المتكاثفة من غير اعتبار أجزاء في طرفي التشبيه يعتبر تشبيه بعضها ببعض ، ومنهم من اعتبر ذلك فقال : الظلمات الأعمال الفاسدة والمعتقدات الباطلة والبحر اللجي صدر الكافر وقلبه والموج الضلال والجهالة التي قد غمرت قلبه والموج الثاني الفكر المعوجة والسحاب شهوته في الكفر وإعراضه عن الإيمان. وقيل : الظلمات أعمال الكافر والبحر هواه العميق القعر الكثير لخطر الغريق هو فيه والموج ما يغشى قلبه من الجهل والغفلة. والموج الثاني ما يغشاه من شك وشبهة والسحاب ما يغشاه من شرك وحيرة فيمنعه من الاهتداء والكل كما ترى ولو جعل من باب الإشارة لهان الأمر.
ومن باب الإشارة ما قيل إن في قوله تعالى : وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إشارة إلى أنه ينبغي للشيخ إذا أراد تأديب المريد وكسر نفسه الأمارة أن يؤدبه بمحضر طائفة من المريدين الذين لا يحتاجون إلى تأديب.
ومن هنا قال أبو بكر بن طاهر : لا يشهد مواضع التأديب إلا من لا يستحق التأديب وهم طائفة من المؤمنين لا المؤمنون أجمع ، والزنا عندهم إشارة إلى الميل للدنيا وشهواتها ، وفي قوله تعالى : الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً إلخ. وقوله تعالى : الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ إلخ إشارة إلى أنه لا ينبغي للأخيار معاشرة الأشرار إن الطيور على أشباهها تقع. وفي

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 377
قوله تعالى : لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إشارة إلى أنه لا ينبغي لمن يشنع عليه المنكرون من المشايخ أن يحزن من ذلك ويظنه شرا له فإنه خير له موجب لترقيه.
وفي قوله تعالى : وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ إلخ إشارة إلى أنه ينبغي للشيوخ والأكابر أن لا يهجروا أصحاب العثرات وأهل الزلات من المريدين وأن لا يقطعوا إحسانهم وفيوضاتهم عنهم ، وفي قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها إشارة إلى أنه لا ينبغي لمن يريد الدخول على الأولياء أن يدخل حتى يجد روح القبول والإذن بإفاضة المدد الروحاني على قلبه المشار إليه بالاستئناس فإنه قد يكون للولي حال لا يليق للداخل أن يحضره فيه وربما يضره ذلك ، وأطرد بعض الصوفية ذلك فيمن يريد الدخول لزيارة قبور الأولياء قدس اللّه تعالى أسرارهم فقال : ينبغي لمن أراد ذلك أن يقف بالباب على أكمل ما يكون من الأدب ويجمع حواسه ويعتمد بقلبه طالبا الإذن ويجعل شيخه واسطة بينه وبين الولي المزور في ذلك فإن حصل له انشراح صدر ومدد روحاني وفيض باطني فليدخل وإلّا فليرجع ، وهذا هو المعني بأدب الزيارة عندهم ولم نجد ذلك عن أحد من السلف الصالح. والشيعة عند زيارتهم للأئمة رضي اللّه تعالى عنهم ينادي أحدهم أأدخل يا أمير المؤمنين أو يا ابن بنت رسول اللّه عليه الصلاة والسلام أو نحوه ذلك ويزعمون أن علامة الإذن حصول رقة القلب ودمع العين وهو أيضا مما لم نعرفه عن أحد من السلف ولا ذكره فقهاؤنا وما أظنه إلا بدعة ولا يعد فاعلها إلا مضحكة للعقلاء ، وكون المزور حيا في قبره لا يستدعي الاستئذان في الدخول لزيارته ، وكذا ما ذكره بعض الفقهاء من أنه ينبغي للزائر التأدب مع المزور كما يتأدب معه حيا كما لا يخفى. وقد رأيت بعد كتابتي هذه في الجوهر المنتظم في زيارة القبر المعظم صلى اللّه تعالى على صاحبه وسلم لابن حجر المكي ما نصه ، قال بعضهم : وينبغي أن يقف - يعني الزائر - بالباب وقفة لطيفة كالمستأذن في الدخول على العظماء انتهى.
وفيه أنه لا أصل لذلك ولا حال ولا أدب يقتضيه انتهى. ومنه يعلم أنه إذا لم يشرع ذلك في زيارة قبره عليه الصلاة والسلام فعدم مشروعيته في زيارة غيره من باب أولى فاحفظ ذاك واللّه تعالى يعصمنا من البدع وإياك. وقيل في قوله تعالى : قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ إلخ إن فيه أمرا بغض بصر النفس عن مشتهيات الدنيا وبصر القلب عن رؤية الأعمال ونعيم الآخرة وبصر السر عن الدرجات والقربات وبصر الروح عن الالتفات إلى ما سوى اللّه تعالى وبصر الهمة عن أن يرى نفسه أهلا لشهود الحق تنزيها له تعالى وإجلالا ، وأمرا بحفظ فرج الباطن عن تصرفات الكونين فيه ، والإشارة بأمر النساء بعدم إبداء الزينة إلا لمن استثنى إلى أنه لا ينبغي لمن تزين بزينة الأسرار أن يظهرها لغير المحارم ومن لم يسترها عن الأجانب. وبقوله تعالى : وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ إلخ إلى النكاح المعنوي وهو أن يودع الشيخ الكامل في رحم القلب من صلب الولاية نطفة استعداد قبول الفيض الإلهي. وقد أشير إلى هذا الاستعداد بقوله سبحانه : إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ثم قال جل وعلا : وَلْيَسْتَعْفِفِ أي ليحفظ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ شيخا في الحال أرحام قلوبهم عن تصرفات الدنيا والهوى والشيطان حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ بأن يوفق لهم شيخا كاملا أو يخصهم سبحانه بجذبة من جذباته ، وأشير بقوله تعالى : وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ إلخ إلى أن المريد إذا طلب الخلاص عن قيد الرياضة لزم إجابته إن علم فيه الخير وهو التوحيد والمعرفة والتوكل والرضا والقناعة وصدق العمل والوفاء بالعهد ووجب أن يؤتي بعض المواهب «1» التي خصها اللّه تعالى بها الشيخ ، وأشير بقوله تعالى :
___________
(1) قوله خصها الله تعالى بها الشيخ كذا بالأصل ا ه.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 378
وَلا تُكْرِهُوا إلخ إلى أن النفس إذا لم تكن مائلة إلى التصرف في الدنيا لم تكره عليه. ولهم في قوله تعالى : اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كلام طويل عريض وفيما قدمنا ما يصح أن يكون من هذا الباب ، وذكر أن قوله تعالى : رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ مما يدخل في عمومه أهل الطريقة العلية النقشبندية الذين حصل لهم الذكر القلبي ورسخ في قلوبهم بحيث لا يغفلون عنه سبحانه في حال من الأحوال وهذا وإن ثبت لغيرهم أيضا من أرباب الطرائق فإنما يثبت في النهايات دون المبادي كما يثبت لأهل تلك الطريقة. وفي مكتوبات الإمام الرباني قدس سره ما يغني عن الإطالة في شرح أحوال هؤلاء القوم وبيان منزلتهم في الذكر والحضور بين سائر الأقوام حشرنا اللّه تعالى وإياهم تحت لواء النبي عليه الصلاة والسلام ، وقيل إن قوله تعالى : وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ إشارة لما
ورد في حديث «خلق اللّه تعالى الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه منه اهتدى ومن أخطأه ضل»
واللّه تعالى الموفق لصالح العمل.
[سورة النور (24) : الآيات 41 إلى 57]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55)
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 379
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلخ استئناف خوطب به النبي صلّى اللّه عليه وسلّم للإيذان كما في إرشاد العقل السليم بأن اللّه تعالى قد أفاض عليه أعلى مراتب النور وأجلاها وبين له من أسرار الملك والملكوت أدقها وأخفاها. وقال الطبرسي : هو بيان للآيات التي جعلها نورا والخطاب له عليه الصلاة والسلام والمراد به جميع المكلفين والهمزة للتقرير والرؤية هنا بمعنى العلم والظاهر أن إطلاقها عليه حقيقة.
وقيل هي حقيقة في الأبصار وإطلاقها على العلم استعارة أو مجاز لعلاقة اللزوم ، وأيا ما كان فالمراد ألم تعلم بالوحي أو بالمكاشفة أو بالاستدلال إن اللّه تعالى ينزهه آنا فآنا في ذاته وصفاته وأفعاله عن كل ما لا يليق بشأنه الجليل من نقص أو خلل تنزيها معنويا تفهمه العقول السليمة جميع من في السموات والأرض من العقلاء وغيرهم كائنا ما كان فإن كل موجود من الموجودات الممكنة مركبا كان أو بسيطا فهو من حيث ذاته ووجوده وأحواله المتجددة له يدل على صانع واجب الوجود متصف بصفات الكمال منزه عن كل ما لا يليق بشأن من شؤونه الجليلة وقد نبه سبحانه على كمال قوة تلك الدلالة وغاية وضوحها حيث عبر عنها بما يخص العقلاء من التسبيح الذي هو أقوى مراتب التنزيه وأظهرها تنزيلا للسان الحال منزلة لسان المقال وتخصيص التنزيه بالذكر مع دلالة ما فيهما على اتصافه تعالى بنعوت الكمال أيضا لما أن مساق الكلام لتقبيح حال الكفرة في إخلالهم بالتنزيه بجعلهم الجمادات شركاء له سبحانه في الألوهية ونسبتهم إياه عز وجل إلى اتخاذ الولد ونحو ذلك مما تعالى اللّه عنه علوا كبيرا ، وإطلاق من على العقلاء وغيرهم بطريق التغليب ، ولا يغني عن اعتباره أو اعتبار مجاز مثله إسناد التسبيح المختص بالعقلاء بحسب الظاهر كما توهمه بعض الأجلة ، وحمل بعضهم التسبيح على معنى مجازي شامل لتسبيح العقلاء وغيرهم ويسمى عموم المجاز. ورد بأن بعضا من العقلاء وهم الكفرة من الثقلين لا يسبحونه بذلك المعنى قطعا وإنما تسبيحهم ما ذكر من الدلالة التي يشاركهم فيها غير العقلاء أيضا.
وفي ذلك من تخطئتهم وتعبيرهم ما فيه ، والقول بأن الكفرة يسبحون كالمؤمنين لكن من حيث لا يشعرون كما قال الحلاج : جحودي لك تقديس مما لا يقبله ذوو العقول وحري بأن لا يكون من المقبول ، وقال بعضهم : إذا كانت من للتغليب يندرج في عمومها العقلاء المطيعون والعقلاء العاصون وغير العقلاء مطلقا فيحمل التسبيح على معنى مجازي يصح نسبته إلى كل ما ذكر وأي مانع من ذلك وهو كما ترى.
واستظهر أبو حيان إبقاء التسبيح على ظاهره وتخصيص من بالعقلاء المطيعين وما ذكر أولا أولى.
وَالطَّيْرُ بالرفع عطفا على مَنْ وتخصيصها بالذكر عليه مع اندراجها في جملة ما في الأرض لعدم استمرار قرارها فيها واستقلالها بصنع بارع وإنشاء رائع قصد بيان تسبيحها من تلك الجهة لوضوح أنبائها عن كمال قدرة صانعها ولطف تدبير مبدعها حسبما يعرب عنه التقييد بقوله تعالى : صَافَّاتٍ أي تسبيحه الطير أي حال كونها صافات أجنحتها فإن إعطاءه تعالى للأجرام الثقيلة ما يتمكن به من الوقوف في الجو والحركة كيف شاء من الأجنحة والأذناب الخفيفة وإرشادها إلى كيفية استعمالها بالقبض والبسط والتحريك يمينا وشمالا ونحو ذلك حجة واضحة الدلالة على كمال قدرة الصانع المجيد ، وغاية حكمة المبدئ المعيد ، والعطف على ما استظهره أبو حيان على مَنْ أيضا وقد صرح بذلك ، ونقل عن الجمهور أن تسبيحها حقيقي وظاهره أنه على نحو تسبيح العقلاء من الثقلين ، ولعل ملتزم ذلك لا يلتزم وجوب كون التسبيح الحقيقي بالألفاظ المألوفة لنا وإلا لا يتسنى القول بأن تسبيحها حقيقي مع هذا الوجوب لفقد الألفاظ المألوفة لنا منها ، ويجوز أن يقال : إنه تعالى ألهم الطير تسبيحا مخصوصا يليق

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 380
بها هو غير التسبيح الحالي الذي هو الدلالة السابقة ويقدر فعل رافع لها يراد منه ذلك المعنى الملهم أي ويسبح الطير ، وتخصيص تسبيحها بذلك المعنى بالذكر لما أن أصواتها أظهر وجودا وأقرب حملا على التسبيح لكن التقييد بالحال على هذا حاله في الحسن دون حاله على ما سبق.
وقرأ الأعرج «والطير» بالنصب على أنه مفعول معه ، وقرأ الحسن وخارجة عن نافع «والطير صافات» برفعهما على الابتداء والخبرية ، والظاهر على هذه القراءة أن قوله تعالى : كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ خبر بعد خبر وعلى قراءة الجمهور استئناف جيء به لبيان كمال عراقة كل واحد مما ذكر من الطير وما اندرج في عموم مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ في التنزيه ورسوخ قدمه فيه بتمثيل حاله بحال من يعلم ما يصدر عنه من الأفاعيل فيفعلها عن قصد ونية لا عن اتفاق بلا روية ، وقد أدمج سبحانه في تضاعيفه الإشارة إلى أن لكل واحد من الأشياء المذكورة مع ما ذكر من التنزيه حاجة ذاتية إليه تعالى واستفاضة منه عز وجل لما يهمه بلسان استعداده ، وتحقيقه أن كل واحد من الموجودات الممكنة في حد ذاته بمعزل عن استحقاق الوجود لكنه مستعد لأن يفيض عليه منه تعالى ما يليق بشأنه من الوجود وما يتبعه من الكمالات ابتداء وبقاء فهو مستفيض منه تعالى على الاستمرار فيفيض عليه في كل آن من فنون الفيوض المتعلقة بذاته وصفاته ما لا يحيط به نطاق البيان بحيث لو انقطع ما بينه وبين العناية الربانية من العلاقة لانعدم بالمرة ، وقد عبر عن تلك الاستفاضة المعنوية بالصلاة التي هي الدعاء والابتهال لتكميل التمثيل ، وتقديمها على التسبيح في الذكر لتقدمها عليه في الرتبة كذا في إرشاد العقل السليم ، والكلام عليه استعارة تمثيلية والمضاف إليه الذي ناب عنه تنوين كُلٌّ ما يشمل المذكور المصرح به والمندرج تحت العموم حتى الجماد وضمير عَلِمَ وكذا ضميرا صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ
لكل واحد وإليه ذهب الزجاج.
وزعم بعضهم أنه يكون في عَلِمَ على ذلك استعارة تبعية وقال في بيان ذلك : إنه يشبه دلالة كل واحد من المذكورين على الحق بلسان الحق والمقال وميل كل منهم إلى النفع اختيارا أو طبعا بعلم التسبيح والصلاة فيطلق على كل واحد من تلك الدلالة والميل اسم العلم على سبيل الاستعارة ويشتق منه لفظ علم ، ومن له أدنى ذوق لا يرتضيه ، وجوز أيضا أن يكون الصلاة مجازا عن الميل والتسبيح مجازا عن الدلالة ومع هذا قيل إنه وإن صح غير مناسب للتمثيل ، وزعم بعض أن الأولى أن يجعل المضاف إليه غير شامل للجماد وليس بذاك ، وجوز أن يكون ضميرا صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ للّه تعالى على أن الإضافة للمفعول ، وجوز أن يكون لكل واحد مما في السموات والأرض ويكون ضمير عَلِمَ للّه عز وجل ، وقال غير واحد : يجوز أن لا يكون هناك استعارة والعلم على حقيقته ويراد به مطلق الإدراك ويراد بما ناب عنه التنوين أنواع الطير أو أفرادها وبالصلاة والتسبيح ما ألهمه اللّه عز وجل كل واحد من الدعاء والتسبيح المخصوصين به ، ولا بعد في هذا الإلهام فقد ألهم سبحانه كل نوع من أنواع الحيوانات علوما دقيقة لا يكاد يهتدي إليها جهابذة العقلاء وهذا مما لا سبيل إلى إنكاره أصلا كيف لا وأن القنفذ مع كونه أبعد الحيوانات من الإدراك قالوا : إنه يحس بالشمال والجنوب قبل هبوبهما فيغير المدخل إلى جحره ، والجملة على هذا لبيان كمال الرسوخ في الأمرين وأن صدورهما عن الطير ليس بطريق الاتفاق بلا روية بل عن علم وإتقان نظير ما مر لكن لا على سبيل التمثيل ، وقدر فعل رافع للطير عليه أي ويسبح الطير كما تقدم ولم تجعل معطوفة على مَنْ مرفوعة برافعها قيل لأنه يؤدي إلى أن يراد بالتسبيح الدال عليه الفعل المذكور معنى مجازي شامل للتسبيح المقالي والحالي من العقلاء وغيرهم ، وقد تقدم ما فيه ، وجوز جعل ما ناب عنه التنوين ما يشمل الطير وغيره من المندرج في العموم السابق ، وفيه أن مما اندرج في العموم الجماد ولا ينسب إليه العلم وإن كان بمعنى مطلق الإدراك والتزم أن له علما وأنه

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 381
سبحانه ألهمه صلاة وتسبيحا لائقين به مما لا يرتضيه كثير من الناس ، وقد تقدم لك ما يتعلق بهذا المقام في سورة الإسراء فتذكر.
وجوز بعضهم على تقدير حمل العلم على المعنى الحقيقي أن يكون عطف التسبيح على الصلاة من عطف التفسير ، وأنت تعلم أنه إذا قبل ذلك على ذلك التقدير فما المانع من قبوله على التقدير السابق من جعل الاستعارة تمثيلية ، نعم يفوت حينئذ الإدماج الذي أشير إليه فيما مر وهو ليس بمانع ، والحق أن احتمال التفسير بعيد ولا داعي إلى ارتكابه بل يفوت عليه ما يفوت كما لا يخفى ، وقوله تعالى : وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ أي بالذي يفعلونه اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله ، و(ما) إما عبارة عن الدلالة الشاملة لجميع الموجودات من العقلاء وغيرهم والتعبير عنها بالفعل مسندا إلى ضمير العقلاء لما أشرنا إليه أول الكلام ، وأما عبارة عنها وعن التسبيح الخاص بالطير معا أو عن تسبيح الطير فقط فالفعل على حقيقته وإسناده إلى ضمير العقلاء لما مر ، والاعتراض حينئذ مقرر لتسبيح الطير فقط وعلى الأولين لتسبيح الكل ، وإما عبارة عن الأعم من الصلاة والتسبيح وغيرهما من الأفعال الصادرة عمن في السموات والأرض والأحوال العارضة له والاعتراض حينئذ مقرر لمضمون كُلٌّ قَدْ عَلِمَ أي اللّه تعالى صلاته وتسبيحه ، وأمر التعبير بالفعل والإسناد إلى ضمير العقلاء لا يخفى ، ولتعدد الأوجه فيما مر تعددت الاحتمالات هنا فتأمل ولا تغفل.
وقرأ الحسن وعيسى وسلام وهارون عن أبي عمرو «تفعلون» بتاء الخطاب ، وفيه كما قيل وعيد وتخويف ولعل الظاهر أن الخطاب فيه للكفرة ، وربما يجوز أن يكون ضمير الجمع على قراءة الجمهور لهم أيضا على أن المراد بالجملة تخويفهم لإعراضهم عن تسبيحه تعالى بعد أن أخبر سبحانه عمن أخبر بأنه قد علم صلاته وتسبيحه ، وهذا وإن كان بعيدا إلا أن في القراءة المذكورة نوع تأييد له وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا لغيره تعالى استقلالا أو اشتراكا لأنه سبحانه الخالق لهما ولما فيهما من الذوات والصفات وهو المتصرف في جميعها إيجادا وإعداما إبداء وإعادة ، وقوله تعالى : وَإِلَى اللَّهِ أي إليه عز وجل خاصة لا إلى غيره أصلا الْمَصِيرُ أي رجوع الكل بالفناء والبعث بيان لاختصاص الملك به تعالى في المنتهى إثر بيان اختصاصه به تعالى في المبتدأ ، وقيل : إن الجملة لبيان أن ما يرى من ظهور بعض الآثار على أيدي المخلوقات لا ينافي الحصر السابق بإفادة أن الانتهاء إليه تعالى لا إلى غيره ويكفي ذلك في الحصر ولعل الأول أولى ، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتربية المهابة والإشعار بعلة الحكم ، وقوله تعالى : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً إلخ كالتأكيد لما قبله والتنوير والإزجاء له سوق الشيء برفق وسهولة ، وقيل : سوق الثقيل برفق وغلب على ما ذكر بعض الأجلة في سوق شيء يسير أو غير معتد به ، ومنه البضاعة المزجاة أي المسوقة شيئا بعد شيء على قلة وضعف ، وقيل : أي التي تزجى أي تدفع للرغبة عنها ، وفي التعبير بيزجي على ما ذكر إيماء إلى أن السحاب بالنسبة إلى قدرته تعالى مما لا يعتد به ، وهو اسم جنس جمعي واحده سحابه ، والمعنى كما في البحر يسوق سحابة إلى سحابة ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ بأن يوصل سحابة بسحابة ، وقال غير واحد :
السحاب واحد كالعماء والمراد يؤلف بين أجزائه وقطعه وهذا لأن بين لا تضاف لغير متعدد وبهذا التأويل يحصل التعدد كما قيل به في قوله : بين الدخول فحومل ، واستغنى بعضهم عنه بجعل السحاب اسم جنس جمعي على ما سمعت.
وقرأ ورش عن نافع «يولف» غير مهموز ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً أي متراكما بعضه فوق بعض فَتَرَى الْوَدْقَ أي المطر شديدا كان أو ضعيفا إثر تراكمه وتكاثفه ، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بجيلة عن أبيه أنه فسر الودق بالبرق

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 382
ولم نره لغيره والذي رأيناه في معظم التفاسير وكتب اللغة أنه المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ أي من فتوقه ومخارجه التي حدثت بالتراكم والانعصار وهو جمع خلل كجبال وجبل ، وقيل : هو مفرد كحجاب وحجاز ، وأيد بقراءة ابن عباس وابن مسعود وابن زيد والضحاك ومعاذ العنبري عن أبي عمرو والزعفراني من «خلله» والمراد حينئذ الجنس ، والجملة في موضع الحال من الْوَدْقَ لأن الرؤية بصرية ، وفي تعقيب الجعل المذكور برؤيته خارجا لا بخروجه من المبالغة في سرعة الخروج على طريقة قوله تعالى : فقلنا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشعراء : 63] ومن الاعتناء بتقرير الرؤية ما لا يخفى وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ أي من السحاب فإن كل ما علاك سماء ، وكأن العدول عنه إلى السماء للإيماء إلى أن للسمو مدخلا فيما ينزل بناء على المشهور في سبب تكون البرد ، وجوز أن يراد بها جهة العلو وللإيماء المذكور ذكرت مع التنزيل مِنْ جِبالٍ أي من قطع عظام تشبه الجبال في العظم على التشبيه البليغ كما في قوله تعالى : حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً [الكهف : 96] والمراد بها قطع السحاب ، ومن الغريب الذي لا تساعده اللغة كما في الدرر والغرر الرضوية قول الأصبهاني : إن الجبال ما جبله اللّه تعالى أي خلقه من البرد فِيها أي في السماء ، والجار والمجرور في موضع الصفة لجبال ، وقوله تعالى : مِنْ بَرَدٍ وهو معروف ، وسمي بردا لأنه يبرد وجه الأرض أي يقشره من بردت الشيء بالمبرد مفعول يُنَزِّلُ على أن من تبعيضية ، وقيل : زائدة على رأي الأخفش والأوليان لابتداء الغاية ، والجار والمجرور الثاني بدل من الأول بدل اشتمال أو بعض أي ينزل مبتدأ من السماء من جبال كائنة فيها بعض برد أو بردا.
وزعم الحوفي أن من الثانية للتبعيض كالثالثة مع قوله بالبدلية وهو خطأ ظاهر ، وقيل : من الأولى ابتدائية والثانية للتبعيض واقعة موقع المفعول ، وقيل : زائدة على رأي الأخفش أيضا والثالثة للبيان أي ينزل مبتدأ من السماء بعض جبال أو جبالا كائنة فيها التي هي برد فالمنزل برد ، عن الأخفش أن مِنْ الثانية ومن الثالثة زائدتان وكل من المجرورين في محل نصب أما الأول فعلى المفعولية لينزل وأما الثاني فعلى البدلية منه أي ينزل من السماء جبالا لا بردا ومآله ينزل من السماء بردا.
وقال الفراء : هما زائدتان إلا أن المجرور بأولاهما في موضع نصب على المفعولية والمجرور بثانيتهما في موضع رفع إما على أنه مبتدأ وفِيها خبره والضمير من فِيها للجبال أي ينزل من السماء جبالا في تلك الجبال برد لا شيء آخر من حصى وغيره ، وإما على أنه فاعل فِيها لأنه قد اعتمد على الموصوف أعني الجبال وضمير راجع إليها أيضا. والمراد بالجبال على غير ما قول الكثرة مجازا وقد جاء استعمالها فيها كذلك في قول ابن مقبل :
إذا مت عن ذكر القوافي فلن ترى لها شاعرا مني أطلب وأشعرا
وأكثر بيتا شاعر ضربت له بطون جبال الشعر حتى تيسرا
ويقال : عنده جبل من ذهب وجبل من علم ، وعن مجاهد والكلبي وأكثر المفسرين أن المراد بالسماء المظلة وبالجبال حقيقتها قالوا : إن اللّه تعالى خلق في السماء جبالا من برد كما خلق في الأرض جبالا من حجر وليس في العقل ما ينفيه من قاطع فيجوز إبقاء الآية على ظاهرها كما قيل ، والمشهور بين أهل الحكمة أن انبعاث قوى السماويات وأشعتها قد يوجب تصعيد أجسام لطيفة مرتفعة عن الماء ممتزجة مع الهواء وهي التي سمي بخارا ولثقله بالنسبة إلى الدخان لرطوبته ويبس الدخان يقف في حيز الهواء بحيث لا يكون واصلا إليه الحرارة الكائنة من الشعاع المنعكس عن جرم الأرض ويكون متباعدا عن المتسخن بحرارة النار فيبقى في الطبقة الباردة من الهواء فيبرد ويتكاثف

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 383
بالتصاعد شيئا فشيئا فيرتكم منه سحاب فيقطر مطرا إما كله أو بعضه ويتفرق بعضه لبقائه على صورته الهوائية واستحالة ما قطر إلى صورته المائية فإن طالت مسافتها اتصلت فكانت قطراتها أكبر وإن اشتد البرد عليها صارت بردا أو نزلت ثلجا وامتنع تصاعد البخار عند ذلك فيبرد وجه الأرض مع برد الجو فيكون من ذلك البرد القوي فإن صادف ريحا اشتد البرد لإزالتها البخار الأرضي وإن لم يصادف ريحا أذاب البخار الثلج وسخن وجه الأرض ، وذكروا أنه كلما طالت المسافة حتى اتصلت وكبرت القطرات وصادف البرد كان البرد أكبر مقدارا وقد ينعقد المطر بردا داخل السحاب ثم ينزل وذلك في الربيع عند ما يصيبه سخونة من خارجه فتبطن البرودة في داخله عند انحلاله قطرات فيجمد وقد يكون البخار أكثر تكاثفا فلا يقوى على الارتفاع ويبرد بسرعة بما يوافيه من برد الليل لعدم الشعاع ، وليس بحيث يصير سحابا فيكون منه الظل وقد يجمد في الأعالي قبل تراكمه فيكون منه الصقيع وقد يتكاثف الهواء لإفراط البرد فينعقد سحابا ويمطر بحاله ، والحق أن كل ذلك مستندا إلى إرادة اللّه عز وجل ومشيئته سبحانه المبنية على الحكم والمصالح والأسباب التي ذكرت عادية ولا أرى بأسا بالقول بذلك وباعتبار أن أول الأسباب القوى السماوية وأشعتها صح أن يقال : إن الإنزال مبتدأ من السماء على ما أشار إليه العلامة البيضاوي في الكلام على سورة البقرة ، وحمل الآية على ما يوافق المشهورة لا يخل بجزالتها بل هي عليه أجزل وعن شكوك العوام أبعد لا سيما أهل الجبال الذين قد يمطرون وينزل على أرضهم البرد وهم فوق الجبال في الشمس فَيُصِيبُ بِهِ أي بما ينزل من البرد مَنْ يَشاءُ أي يصيبه فيناله ما يناله من ضرر في ماله ونفسه وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ أن يصرفه عنه فينجو من غائلته ، ورجوع الضميرين إلى البرد هو الظاهر.
وفي البحر يحتمل رجوعهما إلى الْوَدْقَ والبرد وجرى فيهما مجرى اسم الإشارة كأنه قيل فيصيب بذلك ويصرف ذلك والمطر أغلب في الإصابة والصرف وأبلغ في المنفعة والامتنان ا ه وفيه بعد ومنع ظاهر.
يَكادُ سَنا بَرْقِهِ أي ضوء برق السحاب الموصوف بما مر من الإزجاء والتأليف وغيرهما ، وإضافة البرق إليه قبل الإخبار بوجوده فيه للإيذان بظهور أمره واستغنائه على التصريح به وعلى ما سمعت عن أبي بجيلة لا يحتاج إلى هذا ورجوع الضمير إلى البرد أي برق البرد الذي يكون معه ليس بشيء ، وتقدم الكلام في حقيقة البرق فتذكر.
وقرأ طلحة بن مصرف «سناء» ممدودا «برقه» بضم الباء وفتح الراء جمع برقة بضم الباء وهي المقدار من البرق كالغرفة. واللقمة ، وعنه أيضا أنه قرأ «برقه» بضم الباء والراء أتبع حركة الراء لحركة الباء كما قيل نظيره في ظُلُماتٌ والسناء ممدودا بمعنى العلو وارتفاع الشأن ، وهو هنا كناية عن قوة الضوء ، وقرىء «يكاد سنا» بإدغام الدال في السين يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ أي يخطفها من فرط الإضاءة وسرعة ورودها وفي إطلاق الأبصار مزيد تهويل لأمره وبيان لشدة تأثيره فيها كأنه يكاد يذهب بها ولو عند الإغماض وهذا من أقوى الدلائل على كمال القدرة من حيث إنه توليد للضد من الضد.
وقرأ أبو جعفر «يذهب» بضم الياء وكسر الهاء ، وذهب الأخفش وأبو حاتم إلى تخطئته في هذه القراءة قالا : لأن الباء تعاقب الهمزة ، ولا يجوز اجتماع أداتي تعدية ، وقد أخطئا في ذلك لأنه لم يكن ليقرأ إلا بما روي وقد أخذ القراءة عن سادات التابعين الآخذين عن جلة الصحابة أبيّ وغيره رضي اللّه تعالى عنهم ولم ينفرد هو بها كما زعم الزجاج بل قرأ أيضا كذلك شيبة وخرج ذلك على زيادة الباء أي يذهب الأبصار وعلى أن الباء بمعنى من كما في قوله :
فلثمت فاها قابضا بقورنها شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
والمفعول محذوف أي يذهب النور من الأبصار ، وأجاز الحريري كما نقل عنه الطيبي الجمع بين أداتي تعدية.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 384
يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ بإتيان أحدهما بعد الآخر أو بنقص أحدهما وزيادة الآخر أو بتغيير أحوالهما بالحر والبرد وغيرهما مما يقع فيهما من الأمور التي من جملتها ما ذكر من إزجاء السحاب وما ترتب عليه ، وكأن الجملة على هذا استئناف لبيان الحكمة فيما مر ، وعلى الأولين استئناف لبيان أنه عز وجل لا يتعاصاه ما تقدم من الإزجاء وما بعده ، وقيل هي معطوفة على ما تقدم داخلة في حيز الرؤية وأسقط حرف العطف لقصد التعداد وهو كما ترى إِنَّ فِي ذلِكَ إشارة إلى ما فصل آنفا ، وما فيه من معنى البعد مع قرب المشار إليه للإيذان بعلو رتبته وبعد منزلته لَعِبْرَةً لدلالة واضحة على وجود الصانع القديم ووحدته وكمال قدرته وإحاطة علمه بجميع الأشياء ونفاذ مشيئته وتنزهه عما لا يليق بشأنه العلي ، ودلالة ذلك على الوحدة بواسطة برهان التمانع وإلا ففيه خفاء بخلاف دلالته على ما عدا ذلك فإنها واضحة لِأُولِي الْأَبْصارِ أي لكل من له بصيرة يراجعها ويعلمها فالأبصار هنا جمع بصر بمعنى البصيرة بخلافها فيما سبق. وقيل : هو بمعنى البصر الظاهر كما هو المتبادر منه ، والتعبير بذلك دون البصائر للإيذان بوضوح الدلالة.
وتعقب بأنه يلزم عليه ذهاب حسن التجنيس وارتكاب ما هو كالإيطاء ، واشتهر أنه ليس في القرآن جناس تام غير ما في قوله تعالى : وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ [الروم : 55] وفيه كلام نقله السيوطي في الإتقان ناشىء عند من دقق النظر من عدم الإتقان ، واستنبط شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني موضعا آخر وهو هذه الآية الكريمة وهو لا يتم إلا على ما قلنا ، وأشار إليه البيضاوي وغيره «1» ولعل من اختار المتبادر راعى أن حسن تلك الإشارة فوق حسن التجنيس فتأمل وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ أي كل حيوان يدب على الأرض وأدخلوا في ذلك الطير والسمك ، وظاهر كلام بعض أئمة التفسير أن الملائكة والجن يدخلون في عموم الدابة ، ولعلها عنده كل ما دب وتحرك مطلقا ومعظم اللغويين يفسرها بما سمعت ، والتاء فيها للنقل إلى الاسمية لا للتأنيث ، وقيل دابة واحد داب كخائنة وخائن.
وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب والأعمش «خالق» اسم فاعل «كل دابة» بالجر بالإضافة مِنْ ماءٍ هو جزء مادته وخصه بالذكر لظهور مزيد احتياج الحيوان بعد كمال تركيبه إليه وأن امتزاج الأجزاء الترابية به إلى غير ذلك أو ماء مخصوص هو النطفة فالتنكير على الأول للإفراد النوعي ، وعلى الثاني للإفراد الشخصي.
وجوز أن يكون عليهما لذلك ، وكلمة كُلَّ على الثاني للتكثير كما في قوله تعالى : يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ [القصص : 57] لأن من الدواب ما يتولد لا عن نطفة. وزعم بعضهم أنها على الأول لذلك أيضا بناء على شمول الدابة للملائكة المخلوقين من نور وللجن المخلوقين من نار ، وادعى أيضا أن من الإنس من لم يخلق من ماء أيضا وهو آدم وعيسى عليهما السلام فإن الأول خلق من التراب والثاني خلق من الروح ولا يخفى ما فيه ، وجوز أن يعتبر العموم في «كل» ويراد بالدابة ما يخلق بالتوالد بقرينة من ماء أي نطفة وفيه بحث ، وقيل ما من شيء دابة كان أو غيره إلا وهو مخلوق من الماء فهو أصل جميع المخلوقات لما
روي أن أول ما خلق اللّه تعالى جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء ثم خلق من ذلك الماء النار والهواء والنور وخلق منها الخلق
، وأيا ما كان فمن متعلقة بخلق ، وقال القفال واستحسنه الإمام : هي متعلقة بمحذوف وقع صفة لدابة فالمراد الإخبار بأنه تعالى خلق كل دابة كائنة أو متولدة من الماء فعموم الدابة عنده مخصص بالصفة وعموم كُلَّ على ظاهره.
___________
(1) كالثعالبي ا ه منه.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 385
والظاهر أنه متعلق بخلق وهو أوفق بالمقام كما لا يخفى على ذوي الأفهام ، وتنكير الماء هنا وتعريفه في قوله تعالى : وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء : 30] لأن القصد هنا إلى معنى الإفراد شخصا أو نوعا والقصد هناك إلى معنى الجنس وأن حقيقة الماء مبدأ كل شيء حي فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ كالحيات والسمك وتسمية حركتها مشيا مع كونها زحفا مجاز للمبالغة في إظهار القدرة وأنها تزحف بلا آلة كشبه المشي وأقوى ، ويزيد ذلك حسنا ما فيه من المشاكلة لذكر الزاحف مع الماشين ، ونظير ما هنا من وجه قوله تعالى : يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح : 10] على رأي وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ كالإنس والطير وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ كالنعم والوحش.
والظاهر أنه المراد أربع أرجل فيفيد إطلاق الرجل على ما تقدم من قوائم ذوات القوائم الأربع وقد جاء إطلاق اليد عليه وعدم ذكر من يمشي على أكثر من أربع كالعناكب وأم أربع وأربعين وغير ذلك من الحشرات لعدم الاعتداد بها مع الإشارة إليها بقوله سبحانه : يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ أي مما ذكر ومما لم يذكر بسيطا كان أو مركبا على ما يشاء من الصور والأعضاء والحركات والطبائع والقوى والأفاعيل. وزعم الفلاسفة أن اعتماد ما له أكثر من أربع من الحيوان إنما هو على أربع ولا دليل لهم على ذلك. وفي مصحف أبي ومنهم من يمشي على أكثر وهو ظاهر في خلاف ما يزعمون لكنه لم يثبت قرآنا ، وتذكير الضمير في مِنْهُمْ لتغليب العقلاء ، وبني على تغليبهم في الضمير التعبير بمن واقعة على ما لا يعقل قاله الرضي ، وظاهر بعض العبارات يشعر باعتبار التغليب في كُلَّ دَابَّةٍ وليس بمراد بل المراد أن ذلك لما شمل العقلاء وغيرهم على طريق الاختلاط لزم اعتبار ذلك في الضمير العائد عليه وتغليب العقلاء فيه ، ويفهم من كلام بعض المحققين أن لا تغليب في مِنْ الأولى والثالثة بل هو في الثانية فقط ، وقد يقال :
لا تغليب في الثلاثة بعد اعتباره في الضمير فتدبر. وترتيب الأصناف حسبما رتبت لتقديم ما هو أعرف في القدرة ولا ينافي ذلك كون المشي على البطن بمعنى الزحف مجازا كما توهم ، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتفخيم شأن الخلق المذكور والإيذان بأنه من أحكام الألوهية ، والإظهار في قوله سبحانه : إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي فيفعل ما يشاء كما يشاء لذلك أيضا مع تأكيد استقلال الاستئناف التعليلي لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ أي لكل ما يليق بيانه من الأحكام الدينية والأسرار التكوينية أو واضحات في أنفسها ، وهذا كالمقدمة لما بعده ولذا لم يأت بالعاطف فيه كما أتى سبحانه به فيما مر من قوله تعالى : وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا [النور : 34] الآية ، ومن اختلاف المساق يعلم وجه ذكر إِلَيْكُمْ هناك وعدم ذكره هنا.
وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ هدايته بتوفيقه للنظر الصحيح فيها والتدبر لمعانيها إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل إلى حقيقة الحق والفوز بالجنة وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ شروع في بيان أحوال بعض من لم يشأ اللّه تعالى هدايته إلى صراط مستقيم وهم صنف من الكفرة الذي سبق وصف أعمالهم. أخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة أنها نزلت في المنافقين وروي عن الحسن نحوه ، وقيل نزلت في بشر المنافق دعاه يهودي في خصومة بينهما إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ودعا هو اليهودي إلى كعب بن الأشرف ثم تحاكما إلى رسول اللّه عليه الصلاة والسلام فحكم لليهودي فلم يرض المنافق بقضائه عليه الصلاة والسلام وقال : نتحاكم إلى عمر رضي اللّه تعالى عنه فلما ذهبا إليه قال له اليهودي :
قضى لي النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فلم يرض بقضائه فقال عمر للمنافق : أكذلك؟ فقال : نعم فقال : مكانكما حتى أخرج إليكما فدخل رضي اللّه تعالى عنه بيته وخرج بسيفه فضرب عنق ذلك المنافق حتى برد وقال : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء اللّه ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم فنزلت
، وقال جبريل عليه السلام : إن عمر فرق بين الحق والباطل فسمي لذلك الفاروق ، وروي هذا عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 386
وقال الضحاك : نزلت في المغيرة بن وائل كان بينه وبين علي كرم اللّه تعالى وجهه خصومة في أرض فتقاسما فوقع لعلي ما لا يصيبه الماء إلا بمشقة فقال المغيرة : بعني أرضك فباعها إياه وتقابضا فقيل للمغيرة : أخذت سبخة لا ينالها الماء فقال لعليّ كرم اللّه تعالى وجهه : اقبض أرضك فإنما اشتريتها إن رضيتها ولم أرضها فإن الماء لا ينالها فقال علي : قد اشتريتها ورضيتها وقبضتها وأنت تعرف حالها لا أقبلها منك ودعاه إلى أن يخاصمه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال :
أما محمد فلست آتيه فإنه يبغضني وأنا أخاف أن يحيف عليّ فنزلت
،
وعلى هذا وما قبله جمع الضمير لعموم الحكم أو لأن مع القائل طائفة يساعدونه ويشايعونه في تلك المقالة كما في قولهم بنو فلان قتلوا قتيلا والقاتل واحد منهم ، وإعادة الباء للمبالغة في دعوى الإيمان وكذا التعبير عنه صلّى اللّه عليه وسلّم بعنوان الرسول وقولهم مع ذلك وَأَطَعْنا أي وأطعنا اللّه تعالى والرسول صلّى اللّه عليه وسلّم في الأمر والنهي ثُمَّ يَتَوَلَّى أي يعرض عما يقتضيه هذا القول من قبول الحكم الشرعي عليه فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد ما صدر عنهم من ادعاء الإيمان باللّه تعالى وبالرسول صلّى اللّه عليه وسلّم والطاعة لهما ، وما في ذلك من معنى البعد للإيذان بكونه أمرا معتدا به واجب المراعاة وَما أُولئِكَ إشارة إلى القائلين آمَنَّا إلخ وهم المنافقون جميعهم لا إلى الفريق المتولي منهم فقط ، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الكفر والفساد أي وما أولئك الذين يدعون الإيمان والطاعة ثم يتولى بعضهم الذين يشاركونهم في العقد والعمل بِالْمُؤْمِنِينَ أي المؤمنين حقيقة كما يعرب عنه اللام أي ليسوا بالمؤمنين المعهودين بالإخلاص والثبات عليه ، ونفي الإيمان بهذا المعنى عنهم مقتض لنفيه عن الفريق على أبلغ وجه وآكده ولذا اختير كون الإشارة إليهم ، وجوز أن تكون للفريق على أن المراد بهم فريق منافقون ، وضمير يَقُولُونَ للمؤمنين مطلقا ، والحكم على أولئك الفريق بنفي الإيمان لظهور أمارة التكذيب الذي هو التولي منهم ، وثُمَّ على هذا حسبما قرره الطيبي للاستبعاد كأنه قيل كيف يدخلون في زمرة المؤمنين الذين يقولون آمنا باللّه وبالرسول وأطعنا ثم يعرضون ويتجاوزون عن الفريق المؤمنين ويرغبون عن تلك المقالة وهذا بعيد عن العاقل المميز ، وعلى الأول حسبما قرره أيضا للتراخي في الرتبة إيذانا بارتفاع درجة كفر الفريق المتولي عنهم انحطاط درجة أولئك.
وفي الكشف أن الكلام على تقدير كون الإشارة إلى القائلين لا إلى الفريق المتولي وحده كالاستدراك وفيه دلالة على توغل المتولين في الكفر وأصل الكفر شامل للطائفتين ، وأما على تقدير اختصاص الإشارة بالمتولين ففائدة ثُمَّ استبعاد التولي بعد تلك المقالة ، وفائدة الإخبار إظهار أنهم لم يثبتوا على قولهم كأنه قيل : يقولون هذا ثم يوجد فيهم ما يضاده فلا يكون في دليل خطابه أن غيرهم مؤمن انتهى ، وعليه فضمير يَقُولُونَ للمنافقين الشاملين للفريق المتولي لا للمؤمنين مطلقا على الوجهين فتأمل.
وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أي وبين خصومهم ، وضمير (يحكم) للرسول عليه الصلاة والسلام ، وجوز أن يكون الضمير عائدا إلى ما يفهم من الكلام أي المدعو إليه وهو شامل للّه تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام لكن المباشر للحكم هو الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، وذكر اللّه تعالى على الوجهين لتفخيمه عليه الصلاة والسلام والإيذان بجلالة محله عنده تعالى وأن حكمه في الحقيقة حكم اللّه عز وجل فقد قالوا : إنه إذا ذكر اسمان متعاطفان والحكم إنما هو لأحدهما كما في نحو قوله تعالى : يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا [البقرة : 9] أفاد قوة اختصاص المعطوف بالمعطوف عليه وإنهما بمنزلة شيء واحد بحيث يصح نسبة أوصاف أحدهما وأحواله إلى الآخر ، وضمير دُعُوا يعود إلى ما يعود إليه ضمير يَقُولُونَ أي وإذا دعي المنافقون أو المؤمنون مطلقا إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ أي فاجأ فريق منهم الإعراض عن المحاكمة إليه عليه الصلاة والسلام لكون الحق عليهم وعلمهم

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 387
بأنه صلّى اللّه عليه وسلّم لا يحكم إلا بالحق ، والجملة الشرطية شرح للتولي ومبالغة فيه حيث أفادت مفاجأتهم الإعراض عقب الدعوة دون الحكم عليهم مع ما في الجملة الاسمية الواقعة جزاء من الدلالة على الثبوت والاستمرار على ما هو المشهور ، والتعبير بَيْنَهُمْ دون عليهم لأن المتعارف قول أحد المتخاصمين للآخر : اذهب معي إلى فلان ليحكم بيننا لا عليك وهو الطريق المنصف ، وقيل : هذا الإعراض إذا اشتبه عليهم الأمر ، ولذا قال سبحانه : بَيْنَهُمْ لا عليهم وفي ذلك زيادة في المبالغة في ذمهم وفيه بحث.
وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ أي لا عليهم كما يؤذن به تقديم الخبر يَأْتُوا إِلَيْهِ أي إلى الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم مُذْعِنِينَ منقادين لعلمهم بأنه عليه الصلاة والسلام يحكم لهم ، والظاهر تعلق إلى بيأتوا ، وجوز تعلقها بمذعنين على أنها بمعنى اللام أو على تضمين الإذعان معنى الإسراع وفسره الزجاج بالإسراع مع الطاعة ، وتقديم المعمول للاختصاص أو للفاصلة أو لهما ، وعبر بإذا فيما مر إشارة إلى تحقق الشرط وبأن هنا إشارة إلى عدم تحققه وفي ذلك أيضا ذم لهم.
وقوله تعالى : أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ ترديد لسبب الإعراض المذكور فمدار الاستفهام ما يفهم من الكلام كأنه قيل : أسبب إعراضهم عن المحاكمة إليه صلّى اللّه عليه وسلّم أنهم مرضى القلوب لكفرهم ونفاقهم أم سببة أنهم ارتابوا وشكوا في أمر نبوته عليه الصلاة والسلام مع ظهور حقيتها أم سببة أنهم يخافون أن يحيف ويجور اللّه تعالى شأنه عليهم ورسوله صلى اللّه تعالى عليه وسلّم.
وهذا نظير قولك أفيه مرض أم غاب عن البلد أم يخاف من الواشي بعد قول : هجر الحبيب مثلا فإن كون المعنى أسبب هجره أن فيه مرضا أم سببه أنه غاب عن البلد أم سببه أنه يخاف من الواشي ظاهر جدا وهو كثير في المحاورات إلا أن الاستفهام في الآية إنكاري وهو لإنكار السببية ، وقوله تعالى :
بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ تعيين للسبب بعد إبطال سببية جميع ما تقدم ففيه تأكيد لما يفيده الاستفهام كأنه قيل : ليس شيء مما ذكر سببا لذلك الإعراض ، أما الأولان فلأنه لو كان شيء منهما سببا له لأعرضوا عن المحاكمة إليه صلى اللّه تعالى عليه وسلّم عند كون الحق لهم ولما أتوا إليه عليه الصلاة والسلام مذعنين لحكمه لتحقق نفاقهم وارتيابهم حينئذ أيضا ، وأما الثالث فلانتفائه رأسا حيث كانوا لا يخافون الحيف أصلا لمعرفتهم بتفاصيل أحواله عليه الصلاة والسلام في الأمانة والثبات على الحق بل سبب ذلك أنهم هم الظالمون يريدون أن يظلموا من الحق له عليهم ولا يتأتى مرامهم مع الانقياد إلى المحاكمة إليه عليه الصلاة والسلام فيعرضون عنها لأنه صلى اللّه تعالى عليه وسلّم يقضي بالحق عليهم ، فمناط النفي المستفاد من الاستفهام الإنكاري والإضراب الإبطالي في الأولين وهو وصف سببيتهما للإعراض فقط مع تحققهما في نفسهما ، وفي الثالث هو الأصل والوصف جميعا ، وإذا خص الارتياب بما له جهة مصححة لعروضه لهم في الجملة كما فعل البعض حيث جعل المعنى أم ارتابوا بأن رأوا منه صلى اللّه تعالى عليه وسلّم تهمة فزالت ثقتهم ويقينهم به عليه الصلاة والسلام كان مناط النفي في الثاني كما في الثالث كذا قرره بعض الأجلة ، وأَمِ عليه متصلة.
وقد ذهب إلى أنها كذلك الزمخشري والبيضاوي حيث جعلا ما تقدم تقسيما لسبب الإعراض إلا أن الأول جعل الإضراب عن الأخير من الأمور الثلاثة ووجه بأنه أدل على ما كانوا عليه وأدخل في الإنكار من حيث إنه يناقض تسرعهم إليه صلى اللّه تعالى عليه وسلّم إذا كان الحق لهم على الغير ، والثاني جعله إضرابا عن الأخيرين منها لتحقيق القسم الأول ، وقال : وجه التقسيم أن امتناعهم عن المحاكمة إليه صلى اللّه تعالى عليه وسلّم إما أن يكون لخلل فيهم أو في الحاكم ، والثاني إما أن يكون محققا أو متوقعا وفسر الارتياب برؤية مثل تهمة تزيل يقينهم

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 388
ثم قال : وكلاهما باطلان فتعين الأول. أما الأول فظاهر. وأما الثاني فلأن منصب النبوة وفرط أمانته عليه الصلاة والسلام يمنعه وظلمهم يعم خلل عقيدتهم وميل نفوسهم إلى الحيف.
وقال العلامة الطيبي : الحق أن بل إضراب عن نفس التقسيم وهو إضراب انتقالي كأنه قيل : دع التقسيم فإنهم هم الكاملون في الظلم الجامعون لتلك الأوصاف فلذلك صدوا عن حكومتك يدل عليه الإتيان باسم الإشارة.
والخطاب وتعريف الخبر بلام الجنس وتوسيط ضمير الفصل ، ونقل عن الإمام ما يدل على أن أم منقطعة قال : أثبتهم على كل واحد من هذه الأوصاف فكان في قلوبهم مرض وهو النفاق فكان فيها ارتياب فكانوا يخافون الحيف ، ووجه الإضراب أن كلّا مسبب عن الآخر علم على وجوده وزيادة ، واعترض بأنه لا يجب التسبب إلا أن يدعي في هذه المادة خصوصا ، وصرح أبو حيان بأنها منقطعة وبأن الاستفهام للتوقيف والتوبيخ ليقروا بأحد هذه الأوجه التي عليهم في الإقرار بها ما عليهم ويستعمل في الذم والمدح كما في قوله :
ألست من القوم الذين تعاهدوا على اللؤم والفحشاء في سالف الدهر
وقوله :
ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح
ولا يخفى أن الأظهر أنها متصلة والتلازم بين الأمور الثلاثة ممنوع على أنه لا يضر وأن معنى الآية ما ذكرناه أولا ، وتقديم عَلَيْهِمْ على الرسول لتأكيد أن حكمه عليه الصلاة والسلام هو حكم اللّه تعالى ، ووجه اختلاف أساليب الجمل يظهر بأدنى تأمل.
وقوله سبحانه : إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا جار على عادته تعالى في اتباع ذكر المحق المبطل والتنبيه على ما ينبغي بعد إنكاره لما لا ينبغي ، ونصب قَوْلَ على أنه خبر كان وأن مع ما في حيزها في تأويل مصدر اسمها ، ونص سيبويه في مثل ذلك على جواز العكس فيرفع قَوْلَ على الاسمية وينصب المصدر الحاصل من السبك على الخبرية.
وقد قرأ عليّ كرم اللّه تعالى وجهه وابن أبي إسحاق والحسن : برفع «قول» على ذلك قال الزمخشري : والنصب أقوى لأن الأولى للاسمية ما هو أوغل في التعريف وذلك هو المصدر الذي أول به أن يقولوا لأنه لا سبيل عليه للتنكير بخلاف قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ فإنه يحتمله كما إذا اختزلت عنه الإضافة ، وقيل في وجه أعرفيته إنه لا يوصف كالضمير ، ولا يخفى أنه لا دخل له في الأعرفية ، ثم أنت تعلم أن المصدر الحاصل من سبك أن والفعل لا يجب كونه مضافا في كل موضع ألا ترى أنهم قالوا في قوله تعالى : ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى [يونس : 37] إنه بمعنى ما كان هذا القرآن افتراء.
وذكر أن جواز تنكيره مذهب الفارسي وهو ومتعين في نحو أن يقوم رجل إذ هو مؤول قطعا بقيام رجل وهو نكرة بلا ريب. وفي إرشاد العقل السليم أن النصب أقوى صناعة لكن الرفع أقعد معنى وأوفى لمقتضى المقام لما أن مصب الفائدة وموقع البيان في الجمل هو الخبر فالأحق بالخبرية ما هو أكثر إفادة وأظهر دلالة على الحدوث وأوفر اشتمالا على نسب خاصة بعيدة من الوقوع في الخارج وفي ذهن السامع ولا ريب في أن ذلك هاهنا في أن مع ما في حيزها أتم وأكمل فإذن هو أحق بالخبرية ، وأما ما تفيده الإضافة من النسبة المطلقة الإجمالية فحيث كانت قليلة الجدوى سهلة الحصول خارجا وذهنا كان حقها أن تلاحظ ملاحظة مجملة وتجعل عنوانا للموضوع فالمعنى إنما كان مطلق القول الصادر عن المؤمنين إذا دعوا إلى اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم ليحكم بينهم وبين خصومهم أن يقولوا

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 389
سمعنا إلخ أي خصوصية هذا القول المحكي عنهم لا قولا آخر أصلا ، وأما النصب فالمعنى عليه إنما كان قولا للمؤمنين خصوصية قولهم سَمِعْنا إلخ ففيه من جعل أخص النسبتين وأبعدهما وقوعا وحضورا في الأذهان وأحقهما بالبيان مفروغا عنها عنوانا للموضوع وإبراز ما هو بخلافها في معرض القصد الأصلي ما لا يخفى انتهى ، وبحث فيه بعضهم بأن مساق الآية يقتضي أن يكون قول المؤمنين سمعنا وأطعنا في مقابلة إعراض المنافقين فحيث ذم ذلك على أتم وجه ناسب أن يمدح هذا ، ولا شك أن الأنسب في مدحه الإخبار عنه لا الإخبار به فينبغي أن يجعل أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا اسم كان وقَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ خبرها وفي ذلك مدح لقولهم سمعنا وأطعنا إذ معنى كونه قول المؤمنين أنه قول لائق بهم ومن شأنهم على أن الأهم بالإفادة كون ذلك القول الخاص هو قولهم إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أي قولهم المقيد بما ذكر ليظهر أتم ظهور مخالفة حال قولهم سمعنا وأطعنا وحال قول المنافقين آمنا باللّه وبالرسول وأطعنا فتدبر فإنه لا يخلو عن دغدغة ، والظاهر أن المراد من أَطَعْنا هنا غير المراد منه فيما سبق فكأنهم أرادوا سمعنا كلامكم وأطعنا أمركم بالذهاب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ليحكم بينكم وبيننا ، وقيل المعنى قبلنا قولكم وانقدنا له وأجبنا إلى حكم اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم ، وعن ابن عباس ومقاتل أن المعنى سمعنا قول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأطعنا أمره ، وقيل المراد من الطاعة الثبوت أو الإخلاص لتغاير ما مر وهو كما ترى.
وقرأ الجحدري وخالد بن الياس «ليحكم» بالبناء للمفعول مجاوبا لدعوا ، وكذلك قرأ أبو جعفر هنا وفيما مر ونائب الفاعل ضمير المصدر أي ليحكم هو أي الحكم ، والمعنى ليفعل الحكم كما في قوله تعالى : وَحِيلَ بَيْنَهُمْ [سبأ : 54].
وَأُولئِكَ إشارة إلى المؤمنين باعتبار صدور القول المذكور عنهم ، وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبتهم وبعد منزلتهم في الفضل أي وأولئك المنعوتون بما ذكر من النعت الجليل هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي هم الفائزون بكل مطلوب والناجون عن كل محذور.
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ استئناف جيء به لتقرير مضمون ما قبله من حسن حال المؤمنين وترغيب من عداهم في الانتظام في سلكهم أي ومن يطع اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم كائنا من كان فيما أمر به من الأحكام اللازمة والمتعدية ، وعن ابن عباس أنه قال : ومن يطع اللّه ورسوله في الفرائض والسنن وهو يحتمل اللف والنشر وعلى ذلك جرى في البحر وَيَخْشَ اللَّهَ على ما مضى من ذنوبه وَيَتَّقْهِ فيما يستقبل فَأُولئِكَ الموصوفون بما ذكر من الطاعة والخشية والاتقاء هُمُ الْفائِزُونَ بالنعيم المقيم لا من عدهم.
وقرأ أبو جعفر وقالون عن نافع ويعقوب «ويتقه» بكسر القاف وكسر الهاء من غير إشباع. وقرأ أبو عمرو وحمزة في رواية العجلي وخلاد وأبو بكر في رواية حماد ويحيى بكسر القاف وسكون الهاء. وقرأ حفص بسكون القاف وكسر الهاء غير مشبعة والباقون بكسر القاف وكسر الهاء مشبعة بحيث يتولد ياء ، ووجه ذلك أبو علي بأن الأصل في هاء الضمير إذا كان ما قبلها متحركا أن تشبع حركتها كما في يؤته ويؤده ووجه عدم الإشباع أن ما قبل الضمير ساكن تقديرا ولا إشباع بحركته فيما إذا سكن ما قبله كفيه ومنه ، ووجه إسكان الهاء أنها هاء السكت وهي تسكن في كلامهم ، وقيل : هي هاء الضمير لكن أجريت مجرى هاء السكت فسكنت وكثيرا ما يجري الوصل مجرى الوقف ، وقد حكي عن سيبويه أنه سمع من يقول : هذه أمة اللّه في الوصل والوقف ، ووجه قراءة حفص أنه أعطى «يتقه» حكم

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 390
كتف لكونه على وزنه فخفف بسكون وسطه لجعله ككلمة واحدة كما خفف يلدا في قوله : «وذي ولد لم يلده أبوان» وعن ابن الأنباري أنه لغة لبعض العرب في كل معتل حذف آخره فيقولون لم أر زيدا يسقطون الحرف للجزم ثم يسكنون ما قبل ، وعلى ذلك قوله :
ومن يتق فإن الله معه ورزق الله مؤتاب وغاد
وقوله :
قالت سليمى اشتر لنا سويقا وهات خبز البر أو دقيقا
والهاء إما للسكت وحركت لالتقاء الساكنين أو ضمير ، وكان القياس ضمها حينئذ كما في منه لكن السكون لعروضه لم يعتد به ولئلا ينتقل من كسر لضم تقديرا ، وضعف الأول لتحريك هاء السكت وإثباتها في الوصل كذا قيل فلا تغفل وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ
حكاية لبعض آخر من أكاذيب الكفرة المنافقين مؤكدا بالأيمان الفاجرة فهو عود على بدء ، والقسم الحلف وأصله من القسامة وهي أيمان تقسم على متهمين بقتل حسبما بين في كتب الفقه ثم صار اسما لكل حلف ، وقوله سبحانه : جَهْدَ أَيْمانِهِمْ
نصب على أنه مصدر مؤكد لفعله المحذوف ، وجملة ذلك الفعل مع فاعله في موضع الحال أو هو نصب على الحال أي حلفوا به تعالى يجهدون أيمانهم جهدا أو جاهدين أيمانهم ، ومعنى جهد اليمين بلوغ غايتها بطريق الاستعارة من قولهم : جهد نفسه إذا بلغ أقصى وسعها وطاقتها ، والمراد أقسموا بالغين أقصى مراتب اليمين في الشدة والوكادة ، وجوز أن يكون مصدرا مؤكدا لأقسموا أي أقسموا أقسام اجتهاد في اليمين ، قال مقاتل : من حلف باللّه تعالى فقد اجتهد في اليمين.
والظاهر هنا أنهم غلظوا الأيمان وشددوها ولم يكتفوا بقول واللّه لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ
أي بالخروج كما يدل عليه قوله تعالى : لَيَخْرُجُنَ
والمراد بهذا الخروج الخروج للجهاد كما أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ما يدل على أن المراد الخروج من الأموال.
وأيا ما كان فالجملة جواب لأقسموا وجواب الشرط محذوف لدلالة هذه الجملة عليه وهي حكاية بالمعنى والأصل لنخرجن بصيغة المتكلم مع الغير ، وقيل الأصل لخرجنا إلا أنه أريد حكاية الحال الماضية فعبر بذلك. وتعقب بأن المعتبر زمان الحكم هو مستقبل قُلْ
أي ردا عليهم وزجرا لهم عن التفوه بتلك الأيمان وإظهارا لعدم القبول لكونهم كاذبين فيها لا تُقْسِمُوا
على ما ينبىء عنه كلامكم من الطاعة طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
خبر مبتدأ محذوف أي طاعتكم طاعة ، والجملة تعليل للنهي كأنه قيل لا تقسموا على ما تدعون من الطاعة لأن طاعتكم طاعة معروفة بأنها واقعة باللسان فقط من غير مواطأة من القلب لا يجهلها أحد من الناس ، وقيل التقدير المطلوب منكم طاعة معروفة معلومة لا يشك فيها كطاعة الخلص من المؤمنين ، وقيل طاعَةٌ
مبتدأ خبره محذوف أي طاعة معروفة متوسطة على قدر الاستطاعة أمثل وأولى بكم من قسمكم. واختاره الزجاج ، وقيل : مرفوع بفعل مقدر أي لتكن طاعة معروفة منكم ، وضعف الكل بأنه مما لا يساعده المقام والأخير بأن فيه حذف الفعل في غير موضع الحذف.
وقال البقاعي : لا تقدير في الكلام وطاعَةٌ
مبتدأ خبره مَعْرُوفَةٌ
وسوغ الابتداء بالنكرة أنها أريد بها الحقيقة فتعم والعموم من المسوغات ، ولم تعرف لئلا يتوهم أن تعريفها للعهد ، والجملة تعليل للنهي أي لا تقسموا فإن الطاعة معروفة منكم ومن غيركم لا تخفى فقد جرت سنة اللّه تعالى على أن العبد وإن اجتهد في إخفاء الطاعة لا بد وأن يظهر سبحانه مخايلها على شمائله ، وكذا المعصية فلا فائدة في إظهار ما يخالف الواقع ، وفي الأحاديث ما يشهد لما ذكر ،
فقد روى الطبراني عن جندب «ما أسر عبد سريرة إلا ألبسه اللّه تعالى رداءها»
وروى الحاكم وقال صحيح

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 391
الإسناد عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : «لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله لإنسان كائنا من كان»
وهذا المعنى على ما قيل حسن لكنه خلاف الظاهر.
وقرأ زيد بن علي واليزيدي «طاعة معروفة» بالنصب على تقدير تطيعون طاعة معروفة نفاقية ، وقيل أطيعوا طاعة معروفة حقيقية وطاعة بمعنى إطاعة كما في قوله تعالى : أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح : 17] إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ
من الأعمال الظاهرة والباطنة التي من جملتها ما تظهرونه من الأكاذيب المؤكدة بالأيمان الفاجرة وما تضمرونه من الكفر والنفاق والعزيمة على مخادعة المؤمنين وغيرها من فنون الشر والفساد والمراد الوعيد بأنه تعالى مجازيهم بجميع أعمالهم السيئة التي منها نفاقهم ، وفي الإرشاد أن الجملة تعليل للحكم بأن طاعتهم طاعة نفاقية مشعر بأن مدار شهرة أمرها فيما بين المؤمنين إخباره تعالى بذلك ووعيد لهم بالمجازاة.
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ كرر الأمر بالقول لإبراز كمال العناية به والإشعار باختلافهما حيث إن المقول الأول نهي بطريق الرد والتبكيت ، وفي الثاني أمر بطريق التكليف والتشريع ، وفي تكرر فعل الإطاعة والعدول عن اطيعوني إلى أطيعوا الرسول ما لا يخفى من الحث على الطاعة وإطلاقها عن وصف الصحة والإخلاص ونحوهما بعد وصف طاعتهم بما تقدم للتنبيه على أنها ليست من الطاعة في شيء.
وقوله تعالى : فَإِنْ تَوَلَّوْا خطاب للمنافقين الذين أمر عليه الصلاة والسلام أن يقول لهم ما سمعت وارد من قبله عز وجل غير داخل في حيز قُلْ على ما اختاره صاحب التقريب وغيره وفيه تأكيد للأمر السابق والمبالغة في إيجاب الامتثال به والحمل عليه بالترهيب والترغيب لما أن تغيير الكلام المسوق لمعنى من المعاني وصرفه عن سننه المسلوك ينبىء عن اهتمام جديد بشأنه من المتكلم ويستجلب مزيد رغبة فيه من السامع لا سيما إذا كان ذلك بتغيير الخطاب بالواسطة بالذات كما هنا ، والفاء لترتيب ما بعدها على تبليغه عليه الصلاة والسلام للمأمور به إليهم ، وعدم التصريح للإيذان بغاية مسارعته صلّى اللّه عليه وسلّم إلى تبليغ ما أمر به وعدم الحاجة إلى الذكر أي إن تتولوا عن الطاعة إثر ما أمركم الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم بها فَإِنَّما عَلَيْهِ أي على الرسول عليه الصلاة والسلام ما حُمِّلَ أي ما أمر به من التبليغ وقد شاهدتموه عند قوله : أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ أي ما أمرتم به من الطاعة ، ولعل التعبير بالتحميل أولا للإشعار بثقل الوحي في نفسه ، وثانيا للإشعار بثقل الأمر عليهم ، وقيل : لعل التعبير بذلك في جانبهم للإشعار بثقله وكون مؤنه باقية في عهدتهم بعد كأنه قيل : وحيث توليتم عن ذلك فقد بقيتم تحت ذلك الحمل الثقيل ، والتعبير به في جانبه عليه الصلاة والسلام للمشاكلة والفاء واقعة في جواب الشرط وما بعدها قائم مقام الجواب أو جواب على حد ما في قوله تعالى : وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل : 53] كأنه قيل فإن تتولوا فاعلموا أنما عليه إلخ. هذا واختار بعضهم دخول الجملة الشرطية في حيز القول.
قال الطيبي : الظاهر أنه تعالى أمر رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم بأن يقول لهم : أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول ولا يخاف مضرتهم فكان أصل الكلام قل أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليك ما حملت وعليهم ما حملوا بمعنى فما يضرونك شيئا وإنما يضرون أنفسهم على الماضي والغيبة في تَوَلَّوْا فصرف الكلام إلى المضارع ، والخطاب في تتولوا بحذف إحدى التاءين بمعنى فما ضررتموه وإنما ضررتم أنفسكم لتكون المواجهة بالخطاب أبلغ في تبكيتهم ، وجعل ذلك جاريا مجرى الالتفات وجعله غيره التفاتا حقيقيا من حيث إنهم جعلوا أولا غيبا حيث أمر الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم بخطابهم بقل لهم. ثم خوطبوا بأن تتولوا استقلالا من اللّه تعالى لا من رسوله صلى اللّه تعالى عليه وسلّم ، ولا يخفى أن حمل الآية على الخطاب الاستقلالي الغير الداخل تحت القول أدخل في التبكيت.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 392
وفي الأحكام أنه استدل بهذه الآية على أن الأمر للوجوب لأنه تعالى أمر بالإطاعة ثم هدد بقوله تعالى : فَإِنْ تَوَلَّوْا إلخ والتهديد على المخالفة دليل الوجوب. وتعقب بأنه لا نسلم أن ذلك للتهديد بل للإخبار وإن سلمنا أنه للتهديد فهو دليل على الوجوب فيما هدد على تركه ومخالفته من الأوامر وليس فيه ما يدل على أن كل أمر مهدد بمخالفته بدليل أمر الندب فإن المندوب مأمور به وليس مهددا على مخالفته وإذا انقسم الأمر إلى مهدد عليه وغير مهدد عليه وجب اعتقاد الوجوب فيما هدد عليه دون غيره وبه يخرج الجواب عن كل صيغة أمر هدد على مخالفتها وحذر منها ووصف مخالفها بكونه عاصيا وبه يدفع أكثر ما ذكره القائلون بالوجوب في معرض الاستدلال على دعواهم فتدبر.
وَإِنْ تُطِيعُوهُ فيما أمركم به عليه الصلاة والسلام من الطاعة تَهْتَدُوا إلى الحق الذي هو المقصد الأصلي الموصل إلى كل خير المنجي عن كل شر ، ولعل في تقديم الشق الأول وتأخير هذا إشارة إلى أن الترهيب أولى بهم وأنهم ملابسون لما يقتضيه ، وفي الإرشاد تأخير بيان حكم الإطاعة عن بيان حكم التولي لما في تقديم الترهيب من تأكيد الترغيب وتقريبه مما هو من بابه من الوعد الكريم ، وقوله تعالى : وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ اعتراض تذييلي مقرر لما قبله من أن غائلة التولي وفائدة الإطاعة مقصورتان على المخاطبين ، وأل إما للجنس المنتظم له صلّى اللّه عليه وسلّم انتظاما أوليا أو للعهد أي ما على جنس الرسول كائنا من كان أو ما على رسولنا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم إلا التبليغ الموضح لكل ما يحتاج إلى الإيضاح أو الواضح في نفسه على أن المبين من أبان المتعدي بمعنى بان اللازم ، وقد علمتم أنه عليه الصلاة والسلام قد فعله بما لا مزيد عليه وإنما بقي ما عليكم ، وقوله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ خطاب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ومن آمن معه ففي الآية تنويع الخطاب حيث خاطب سبحانه المقسمين على تقدير التولي ثم صرفه تعالى عنهم إلى المؤمنين الثابتين وهو كالاعتراض بناء على ما سيأتي إن شاء اللّه تعالى من كون وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ عطفا على قوله سبحانه : أَطِيعُوا اللَّهَ وفائدته أنه لما أفاد الكلام السابق أنه ينبغي أن يأمرهم بالطاعة كفاحا ولا يخاف مضرتهم أكد بأنه عليه الصلاة والسلام هو الغالب ومن معه فأنى للخوف مجال ، وإن شئت فاجعله استئنافا جيء به لتأكيد ما يفيده الكلام من نفي المضرة على أبلغ وجه من غير اعتبار كونه اعتراضا فإن في العطف المذكور ما ستسمعه إن شاء اللّه تعالى ومن بيانية ، ووسط الجار والمجرور بين جملة آمَنُوا والجملة المعطوفة عليها الداخلة
معها في حيز الصلة أعني قوله تعالى : وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مع التأخير في قوله تعالى : وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الفتح : 29] قيل للدلالة على أن الأصل في ثبوت الاستخلاف الإيمان ، ولهذا كان الأصح عدم الانعزال بالفسق الطارئ ودل عليه صحاح الأحاديث ومدخلية الصلاح في ابتداء البيعة وأما في المغفرة والأجر العظيم فكلاهما أصل فكان المناسب التأخير. وقد يقال : إن ذلك لتعجيل مسرة المخاطبين حيث إن الآية سيقت لذلك ، وقيل : الخطاب للمقسمين والكلام تتميم لقوله تعالى : وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ببيان ما لهم في العاجل من الاستخلاف وما يترتب عليه وفي الآجل ما لا يقادر قدره على ما أدمج في قوله سبحانه : لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ والجار للتبعيض وأمر التوسيط على حاله ، ولم يرتضه بعض الأجلة لأن آمَنُوا إن كان ماضيا على حقيقته لم يستقم إذ لم يكن فيهم من كان آمن حال الخطاب وإن جعل بمعنى المضارع على المألوف من أخبار اللّه تعالى فمع نبوه عن هذا المقام لم يكن دليلا على صحة أمر الخلفاء ولم يطابق الواقع أيضا لأن هؤلاء الأجلاء لم يكن من بعض من آمن من أولئك المخاطبين ولا كان في المقسمين من نال الخلافة انتهى ، وفيه شيء.
ولعله لا يضر بالغرض وارتضى أبو السعود تعلق الكلام بذلك وادعى أنه استئناف مقرر لما في قوله تعالى :

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 393
وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا إلخ من الوعد الكريم معرب عنه بطريق التصريح ومبين لتفاصيل ما أجمل فيه من فنون السعادات الدينية والدنيوية التي هي من آثار الاهتداء ومتضمن لما هو المراد بالطاعة التي نيط بها الاهتداء وأن المراد بالذين آمنوا كل من اتصف بالإيمان بعد الكفر على الإطلاق من أي طائفة كان وفي أي وقت كان لا من آمن من طائفة المنافقين فقط ولا من آمن بعد نزول الآية الكريمة فحسب ضرورة عموم الوعد الكريم وأن الخطاب ليس للرسول عليه الصلاة والسلام ومن معه من المؤمنين المخلصين أو من يعمهم وغيرهم من الأمة ولا للمنافقين خاصة بل هو لعامة الكفرة وأن من للتبعيض ، وقال في نكتة التوسيط : إنه لإظهار أصالة الإيمان وعراقته في استتباع الآثار والأحكام والإيذان بكونه ما يطلب منهم وأهم ما يجب عليهم ، وأما التأخير في آية سورة الفتح فلان من هناك بيانية والضمير للذين معه عليه الصلاة والسلام من خلص المؤمنين ولا ريب في أنهم جامعون بين الإيمان والأعمال الصالحة مثابرون عليها فلا بد من ورود بيانهم بعد ذكر نعوتهم الجليلة بكمالها انتهى.
وأنت تعلم أن كون الخطاب لعامة الكفرة خلاف الظاهر ، وحمل الفعل الماضي على ما يعم الماضي والمستقبل كذلك وفيما ذكره أيضا بعد عن سبب النزول ، فقد أخرج ابن المنذر والطبراني في الأوسط والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة عن أبيّ بن كعب رضي اللّه تعالى عنه قال : لما قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة فكانوا لا يبيتون إلا في السلاح ولا يصبحون إلا فيه فقالوا ترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا اللّه تعالى فنزلت وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ الآية ولا يتأتى معه الاستدلال بالآية على صحة أمر الخلفاء أصلا ، ولعله لا يقول به ويستغني عنه بماهو أوضح دلالة ، وعن ابن عباس ومجاهد عامة في أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وأطلقا الأمة وهي تطلق على أمة الإجابة وعلى أمة الدعوة لكن الأغلب في الاستعمال الإطلاق الأول فلا تغفل ، وإذا كانت من بيانية فالمعنى وعد اللّه الذين آمنوا الذين هم أنتم لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ أي ليجعلهم خلفاء متصرفين فيها تصرف الملوك في مماليكهم أو خلفاء من الذين كانوا يخافونهم من الكفرة بأن ينصرهم عليهم ويورثهم أرضهم ، والمراد بالأرض على ما قيل جزيرة العرب ، وقيل مأواه عليه الصلاة والسلام من مشارق الأرض ومغاربها
ففي الصحيح «زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها»
واللام واقعة في جواب القسم المحذوف ومفعول وعد الثاني محذوف دل عليه الجواب أي وعد اللّه الذين آمنوا استخلافهم وأقسم ليستخلفنهم ، ويجوز أن ينزل وعده تعالى لتحقق إنجازه لا محالة منزلة القسم وإليه ذهب الزجاج ويكون لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ منزل منزلة المفعول فلا حذف.
وما في قوله تعالى : كَمَا اسْتَخْلَفَ مصدرية والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لمصدر محذوف أي ليستخلفهم استخلافا كائنا كاستخلافه الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وهم بنو إسرائيل استخلفهم اللّه عزّ وجلّ في الشام بعد إهلاك الجبابرة وكذا في مصر على ما قيل من أنها صارت تحت تصرفهم بعد هلاك فرعون وإن لم يعودوا إليها وهم ومن قبلهم من الأمم المؤمنة الذين أسكنهم اللّه تعالى في الأرض بعد إهلاك أعدائهم من الكفرة الظالمين.
وقرىء «كما استخلف» بالبناء فيكون التقدير ليستخلفهم في الأرض فيستخلفون فيها استخلافا أي مستخلفية كائنة كمستخلفية الذين من قبلهم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ عطف على لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ والكلام فيه كالكلام فيه ، وتأخيره عنه مع كونه أجل الرغائب الموعودة وأعظمها لما أنه كالأثر للاستخلاف المذكور.
وقيل : لما أن النفوس إلى الحظوظ العاجلة أميل فتصدير المواعيد بها في الاستمالة أدخل ، والتمكين في

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 394
الأصل جعل الشيء في مكان ثم استعمل في لازمه وهو التثبيت والمعنى ليجعلن دينهم ثابتا مقررا بأن يعلي سبحانه شأنه ويقوي بتأييده تعالى أركانه ويعظم أهله في نفوس أعدائهم الذين يستغرقون النهار والليل في التدبير لإطفاء أنواره ويستنهضون الرجل والخيل للتوصل إلى إعفاء آثاره فيكونون بحيث ييأسون من التجمع لتفريقهم عنه ليذهب من البين ولا تكاد تحدثهم أنفسهم بالحيلولة بينهم وبينه ليعود أثرا بعد عين.
وقيل : المعنى ليجعله مقررا بحيث يستمرون على العمل بأحكامه ويرجعون إليه في كل ما يأتون وما يذرون ، وأصل التمكين جعل الشيء مكانا لآخر والتعبير عن ذلك به للدلالة على كمال ثبات الدين ورصانة أحكامه وسلامته عن التغيير والتبديل لابتنائه على تشبيهه بالأرض في الثبات والقرار مع ما فيه من مراعاة المناسبة بينه وبين الاستخلاف في الأرض انتهى ، وفيه بحث. وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح للمسارعة إلى بيان كون الموعود من منافعهم مع التشويق إلى المؤخر ولأن في توسيطه بينه وبين وصفه أعني قوله تعالى : الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وتأخيره عن الوصف من الإخلال بجزالة النظم الكريم ما لا يخفى ، وفي إضافة الدين وهو دين الإسلام إليهم ثم وصفه بارتضائه لهم من مزيد الترغيب فيه والتثبيت عليه ما فيه لَيُبَدِّلَنَّهُمْ بالتشديد ، وقرأ ابن كثير وأبو بكر والحسن وابن محيصن بالتخفيف من الإبدال وأخرج ذلك عبد بن حميد عن عاصم وهو عطف على لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ ولَيُمَكِّنَنَّ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ بمقتضى البشرية في الدنيا من أعدائهم في الدين أَمْناً لا يقادر قدره ، وقيل : الخوف في الدنيا من عذاب الآخرة والأمن في الآخرة ورجح بأن الكلام عليه أبعد من احتمال التأكيد بوجه من الوجوه بخلافه على الأول.
وأنت تعلم أن الأول أوفق بالمقام والأخبار الواردة في سبب النزول تقتضيه وأمر احتمال التأكيد سهل.
يَعْبُدُونَنِي جوز أن تكون الجملة في موضع نصب على الحال إما من الَّذِينَ الأول لتقييد الوعد بالثبات على التوحيد لأن ما في حيز الصلة من الإيمان وعمل الصالحات بصيغة الماضي لما دل على أصل الاتصاف به جيء بما ذكر حالا بصيغة المضارع الدال على الاستمرار التجددي وإما من الضمير العائد عليه في لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ أو في لَيُبَدِّلَنَّهُمْ وجوز أن تكون مستأنفة إما لمجرد الثناء على أولئك المؤمنين على معنى هم يعبدونني وإما لبيان علة الاستخلاف وما انتظم معه في سلك الوعد ، وقوله تعالى : لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً حال من الواو في يَعْبُدُونَنِي أو من الَّذِينَ أو بدل من الحال أو استئناف. ونصب شَيْئاً على أنه مفعول به أي شيئا مما يشرك به أو مفعول مطلق أي شيئا من الإشراك. ومعنى العبادة وعدم الإشراك ظاهر.
وأخرج عبد بن حميد بن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال في قوله سبحانه يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً لا يخافون أحدا غيري ، وأخرج هو وجماعة عن مجاهد نحوه. ولعلهما أرادا بذلك تفسير لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وكأنهما عدا خوف غير اللّه نوعا من الإشراك ، واختير على هذا حالية الجملة من الواو كأنه قيل : يعبدونني غير خائفين أحدا غيري ، وجوز أن يكونا قد أرادا بيان المراد بمجموع يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ إلخ وكأنهما ادعيا أن عدم خوف أحد غيره سبحانه من لوازم العبادة والتوحيد وأن جملة يَعْبُدُونَنِي إلخ استئناف لبيان ما يصلون إليه في الأمن كأنه قيل : يأمنون إليّ حيث لا يخافون أحدا غير اللّه تعالى ولا يخفى ما في التعبير بضمير المتكلم وحده في يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي دون ضمير الغائب ودون ضمير العظمة من اللطافة.
وَمَنْ كَفَرَ أي ومن ارتد من المؤمنين بَعْدَ ذلِكَ أي بعد حصول الموعود به فَأُولئِكَ المرتدون البعداء عن الحق هُمُ الْفاسِقُونَ أي الكاملون في الفسق والخروج عن حدود الكفر والطغيان إذ لا عذر لهم حينئذ

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 395
ولا كجناح بعوضة ، وقيل : كفر من الكفران لا من الكفر مقابل الإيمان وروي ذلك عن أبي العالية وكمالهم في الفسق لعظم النعمة التي كفروها ، وقيل : إشارة إلى الوعد السابق نفسه ، وفي إرشاد العقل السليم أن المعنى ومن اتصف بالكفر بأن ثبت واستمر عليه ولم يتأثر بما مر من الترغيب والترهيب بعد ذلك الوعد الكريم بما فصل من المطالب العالية المستوجبة لغاية الاهتمام بتحصيلها فأولئك هم الكاملون في الفسق ، وكون المراد بكفر ما ذكر أنسب بالمقام من كون المراد به ارتد أو كفر النعمة انتهى. والأولى عندي ما تقدم فإنه الظاهر ، وفي الكلام عليه تعظيم لقدر الموعود به من حيث إنه لا يبقى بعد حصوله عذرا لمن يرتد ، وقوة مناسبته للمقام لا تخفى. وهو ظاهر قول حذيفة رضي اللّه تعالى عنه فقد أخرج ابن مردويه عن أبي الشعثاء قال : كنت جالسا مع حذيفة وابن مسعود رضي اللّه تعالى عنهما فقال حذية : ذهب النفاق إنما كان النفاق على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وإنما هو الكفر بعد الإيمان فضحك ابن مسعود ثم قال : بم تقول؟ قال : بهذه الآية وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إلى آخر الآية وكى ن ضحك ابن مسعود كان استغرابا لذلك وسكوته بعد الاستدلال ظاهر في ارتضائه لما فهمه معدن سر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من الآية.
وَمَنْ تحتمل أن تكون موصولة وتحتمل أن تكون شرطية وجملة مَنْ كَفَرَ إلخ قيل معطوفة على جملة وَعَدَ اللَّهُ إلخ أو على جملة محذوفة كأنه قيل : من آمن فهم الفائزون ومن كفر إلخ ، إن هذه الجملة وكذا جملة يَعْبُدُونَنِي استئناف بياني أما ذلك في الأولى فالسؤال ناشىء من قوله تعالى : وَعَدَ اللَّهُ إلخ فكأنه قيل : فما ينبغي للمؤمنين بعد هذا الوعد الكريم أو بعد حصوله؟ فقيل : يعبدونني لا يشركون بي شيئا. وأما في الثانية فالسؤال ناشىء من الجواب المذكور فأنه قيل فإن لم يفعلوا فماذا؟ فقيل : ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون وجزاؤهم معلوم وهو كما ترى.
هذا واستدل كثير بهذه الآية على صحة خلافة الأربعة رضي اللّه تعالى عنهم لأن اللّه تعالى وعد فيها من في حضررة الرسالة من المؤمنين بالاستخلاف وتمكين الدين والأمن العظيم من الأعداء ولا بدّ من وقوع ما وعد به ضرورة امتناع الخلف في وعده تعالى ولم يقع ذلك المجموع إلا في عهدهم فكان كل منهم خليفة حقا باستخلاف اللّه تعالى إياه حسبما وعد جلّ وعلا ولا يلزم عموم الاستخلاف لجميع الحاضرين المخاطبين بل وقوعه فيهم كبنو فلان قتلوا فلانا فلا ينافي ذلك عموم الخطاب الجميع ، وكون من بيانية ، وكذا لا ينافيه ما وقع في خلافة عثمان وعلي رضي اللّه تعالى عنهما من الفتن لأن المراد من الأمن الأمن من أعداء الدين وهم الكفار كما تقدم.
وأقامها بعض أهل السنة دليلا على الشيعة في اعتقادهم عدم صحة خلافة الخلفاء الثلاثة ، ولم يستدل بها على صحة خلافة الأمير كرم اللّه تعالى وجهه لأنها مسلمة عند الشيعة والأدلة كثيرة عند الطائفتين على من ينكرها من النواصب عليهم من اللّه تعالى ما يستحقون فقال : إن اللّه تعالى وعد فيها جمعا من المؤمنين الصالحين الحاضرين وقت نزولها بما وعد من الاستخلاف وما معه ووعده سبحانه الحق ولم يقع ذلك إلا في عهد الثلاثة ، والإمام المهدي لم يكن موجودا حين النزول قطعا بالإجماع فلا يمكن حمل الآية على وعده بذلك ، والأمير كرم اللّه تعالى وجهه وإن كان موجودا إذ ذاك لكن لم يكن يرج الدين المرضي كما هو حقه في زمانه رضي اللّه تعالى عنه بزعم الشيعة بل صار أسوأ حالا بزعمهم مما كان في عهد الكفار كما صرح بذلك المرتضى في تنزيه الأنبياء والأئمة عليهم السلام بل كل كتب الشيعة تصرح بأن الأمير وشيعته كانوا يخفون دينهم ويظهرون دين المخالفين تقية ولم يكن الأمن الكامل حاصلا أصلا في زمانه رضي اللّه تعالى عنه فقد كان أهل الشام ومصر والمغرب ينكرون أصل إمامته ولا يقبلون أحكامه وهم كفرة بزعم الشيعة وأغلب عسكر الأمير يخافونهم ويحذرون غاية الحذر منهم ، ومع هذا الأمير فرد يمكن إرادته من

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 396
الذين آمنوا ليكون هو رضي اللّه تعالى عنه مصداق الآية كما يزعمون فإن حمل لفظ الجمع على واحد خلاف أصولهم إذ أقل الجمع عندهم ثلاثة أفراد ، وأما الأئمة الآخرون الذين ولدوا بعد فلا احتمال لإرادتهم من الآية إذ ليسوا بموجودين حال نزولها ولم يحصل لهم التسلط في الأرض ولم يقع رواج دينهم المرتضى لهم وما كانوا آمنين بل كانوا خائفين من أعداء الدين منهم كما أجمع عليه الشيعة فلزم أن الخلفاء الثلاثة هم مصداق الآية فتكون خلافتهم حقة وهو المطلوب.
وزعم الطبرسي أن الخطاب للنبي وأهل بيته صلّى اللّه عليه وسلّم فهم الموعودون بالاستخلاف وما معه ويكفي في ذلك تحقق الموعود في زمن المهدي رضي اللّه تعالى عنه ، ولا ينافي ذلك عدم وجوده عند نزول الآية لأن الخطاب الشفاهي لا يخص الموجودين ، وكذا لا ينافي عدم حصوله للكل لأن الكلام نظير بنو فلان قتلوا فلانا ، واستدل على ذلك بما روى العياشي بإسناده عن علي بن الحسين رضي اللّه تعالى عنهما أنه قرأ الآية فقال : هم واللّه شيعتنا أهل البيت يفعل ذلك بهم على يد رجل منا وهو مهدي هذه الأمة وهو الذي
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيه : «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول اللّه تعالى ذلك اليوم حتى يلي رجل من عترتي اسمه اسمي يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا».
وزعم أنه روي مثل ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنهما وهذا على ما فيه مما يأباه السياق والأخبار الصحيحة الواردة في سبب النزول وأخبار الشيعة لا يخفى حالها لا سيما على من وقف على التحفة الاثني عشرية. نعم ورد من طريقنا ما يستأنس به لهم في هذا المقام لكنه لا يعول عليه أيضا مثل أخبارهم وهو ما أخرجه عبد بن حميد عن عطية أنه عليه الصلاة والسلام قرأ الآية فقال : أهل البيت هاهنا وأشار بيده إلى القبلة. وزعم بعضهم نحو ما سمعت عن الطبرسي إلا أنه قال : هي في حق جميع أهل البيت علي كرم اللّه تعالى وجهه وسائر الأئمة الأنثى عشر وتحقق ذلك فيهم زمن الرجعة حين يقوم القائم رضي اللّه تعالى عنه. وزعم أنها أحد أدلة الرجعة ، وهذا قد زاد في الطنبور نغمة. وقال الملأ عبد اللّه المشهدي في كتابه إظهار الحق لإبطال الاستدلال على صحة خلافة الخلفاء الثلاثة : يحتمل أن يكون الاستخلاف بالمعنى اللغوي وهو الإتيان بواحد خلف آخر أي بعده كما في قوله تعالى في حق بني إسرائيل :
عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ [الأعراف : 129] فقصارى ما يثبت أنهم خلفاء بالمعنى اللغوي وليس النزاع فيه بل هو دفي المعنى الاصطلاحي وهو معنى مستحدث بعد رحلة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ا ه.
وأجيب بأنه لو تم هذا لا يتم لهم الاستدلال على خلافة الأمير كرم اللّه وجهه بالمعنى المصطلح
بحديث «أنت مني بمنزلة هارون من موسى»
المعتضد بما حكاه سبحانه عن موسى عليه السلام من قوله لهارون اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي [الأعراف : 143] وبما يروونه من
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «يا علي أنت خليفتي من بعدي»
وكذا لا يتم لهم الاستدلال على إمامة الأمير كرم اللّه وجهه بما تضمن لفظ الإمام لأنه لم يستعمل في الكتاب المجيد بالمعنى المصطلح أصلا وإنما استعمل بمعنى النبي والمرشد والهادي والمقتدى به في أمر خيرا كان أو شرا ومتى ادعى فهم المعنى المصطلح من ذلك بطريق اللزوم فليدع فهم المعنى المصطلح من الخليفة كذلك وربما يدعي أن فهمه منه أقوى لأنه مقرون من حيث وقع في الكتاب العزيز بلفظ في الأرض الدال على التصرف العام الذي هو شأن الخليفة بذلك المعنى على أن مبنى الاستدلال على خلافة الثلاثة بهذه الآية ليس مجرد لفظ الاستخلاف حتى يتم غرض المناقش فيه بل ذلك مع ملاحظة إسناده إلى اللّه تعالى ، وإذا أسند الاستخلاف اللغوي إلى اللّه عزّ وجلّ فقد صار استخلافا شرعيا وقد يستفتى

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 397
في هذه المسألة من علماء الشيعة فيقال : إن إتيان بني إسرائيل بمكان آل فرعون والعمالقة وجعلهم متصرفين في أرض مصر والشام هل كان حقا أو لا ولا أظنهم يقولون إلا أنه حق وحينئذ يلزمهم أن يقولوا به في الآية لعدم الفرق وبذلك يتم الغرض هذا حاصل ما قيل في هذا المقام.
والذي أميل إليه أن الآية ظاهرة في نزاهة الخلفاء الثلاثة رضي اللّه تعالى عنهم عما رماهم للشيعة به من الظلم والجور والتصرف في الأرض بغير الحق لظهور تمكين الدين والأمن التام من أعدائه في زمانهم ولا يكاد يحسن الامتنان بتصرف باطل عقباه العذاب الشديد. وكذا لا يكاد يحسن الامتنان بما تضمنته الآية على أهل عصرهم مع كونهم الرؤساء الذين بيدهم الحل والعقد لو كانوا وحاشاهم كما يزعم الشيعة فيهم ، ومتى ثبت بلك نزاهتهم عما يقولون اكتفينا به وهذا لا يتوقف إلا على اتصافهم بالإيمان والعمل الصالح حال نزول الآية وإنكار الشيعة له إنكار للضروريات ، وكون المراد بالآية عليا كرم اللّه وجهه أو المهدي رضي اللّه تعالى عنه وأهل البيت مطلقا مما لا يقوله منصف.
وفي كلام الأمير كرم اللّه تعالى وجهه ما يقتضي بسوقه خلاف ما عليه الشيعة ففي نهج البلاغة أن عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه لما استشار الأمير كرم اللّه وجهه لانطلاقه لقتال أهل فارس حين تجمعوا للحرب قال له :
إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلة وهو دين اللّه تعالى الذي أظهره وجنده الذي أعزه وأيده حتى بلغ ما بلغ وطلع حيث طلع ونحن على موعود من اللّه تعالى حيث قال عزّ اسمه : وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً واللّه تعالى منجز وعده وناصر جنده ومكان القيم في الإسلام مكان النظام من الخرز فإن انقطع النظام تفرق ورب متفرق لم يجتمع والعرب اليوم وإن كانوا قليلا فهم كثيرون بالإسلام عزيزون بالاجتماع فكن قطبا واستدر الرحى بالعرب وأصلهم دونك نار الحرب فإنك إن شخصت منهذه الأرض تنقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها حتى يكون ما تدع وراءك من العوارث أهم إليك مما بين يديك وكان قد آن للأعاجم أن ينظروا إليك غدا يقولون هذا أصل العرب فإذا قطعتموه استرحتم فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك وطعمهم فيك فأما ما ذكرت من عددهم فإنا لم نقاتل فيما مضى بالكثرة وإنما نقاتل بالنصر والمعونة
ا ه فتأمل ذاك واللّه تعالى يتولى هداك.
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ جوز أن يكون عطفا على أَطِيعُوا اللَّهَ داخلا معه في حيز القول والفاصل وليس بأجنبي منكل وجه فإنه وعد المأمور به وبعضه من تتمته. وفي الكشاف ليس ببعيد أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه فاصل وإن طال لأن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه والفاصل يؤكد المغايرة ويرشحها لأن المجاورة مظنة الاتصال والاتحاد فيكون تكرير الأمر بإطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام للتأكيد وأكد دون الأمر بطاعة اللّه تعالى لما أن في النفوس لا سيما نفوس العرب من صعوبة الانقياد للبشر ما ليس فيها من صعوبة الانقياد للّه تعالى ولتعليق الرحمة بها أو بالمندرجة هي فيه وهي الجمل الواقعة في حيز القول بقوله تعالى : لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ كما علق الاهتداء بالإطاعة في قوله تعالى : وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا والإنصاف أن هذا العطف بعيد بل قال بعضهم : إنه مما لا يليق بجزالة النظم الكريم.
وجوز أن يكون عطفا على يَعْبُدُونَنِي وفيه تخصيص بعد التعميم ، وكان الظاهر أن يقال يعبدونني لا يشركون بي شيئا ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الرسول لعلهم يرحمون ، لكن عدل عن ذلك إلى ما ذكر التفاتا إلى الخطاب لمزيد الاعتناء وحسنه هنا الخطاب في مِنْكُمْ. وتعقب بأنه مما لا وجه له لأنه بعد تسليم

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 398
الالتفات وجواز عطف الإنشاء على الاخبار لا يناسب ذلك وكون الجملة السابقة حالا أو استئنافا بيانيا ، والذي اختاره كونه عطفا على مقدر ينسحب عليه الكلام ويستدعيه النظام فإنه سبحانه لما ذكر وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ فهم النهي عن الكفر فكأنه قيل : فلا تكفروا وأقيموا الصلاة إلخ.
وجوز أن يكون انفهام المقدر من مجموع ما تقدم من قوله تعالى : قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ إلخ ، حيث إنه يوجب الأمر بالإيمان والعمل الصالح فكأنه قيل فآمنوا واعملوا الصالحات وأقيموا إلخ ، وجوز في أَطِيعُوا أن يكون أمرا بإطاعته صلّى اللّه عليه وسلّم بجميع الأحكام الشرعية المنتظمة للآداب المرضية وأن يكون أمرا بالإطاعة فيما عدا الأمرين السابقين فيكون ذكره لتكميلهما كأنه قيل : وأطيعوا الرسول في سائر ما يأمركم به ، وقوله تعالى : لَعَلَّكُمْ إلخ منتعلق بالأوامر الثلاثة وجعل على الأول متعلقا بالأخير ، وقوله تعالى : لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إلخ بيان لمآل الكفرة في الدنيا والآخرة بعد بيان تناهيهم في الفسق وفوز أضدادهم بالرحمة المطلقة المستتبعة لسعادة الدارين ، وفي ذلك أيضا رفع استبعاد تحقق الوعد السابق مع كثرة عدد الكفرة وعددهم والخطاب لكل من يتأتى منه الحسبنا نظير ما في قوله تعالى : وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ [السجدة : 12].
وجوز أن يكون للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم على سبيل التعريض بمن صدر منه ذلك كقوله : «إياك عني فاسمعي يا جارة» أو الإشارة إلى أن الحسبان المذكور بلغ في القبح والمحذورية إلى حيث ينهى من يمتنع صدوره عنه فكيف بمن يمكن ذلك منه كما قيل في قوله تعالى : وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام : 14 ، يونس : 105 ، القصص : 87] فقول أبي حيان : إن جعل الخطاب للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ليس بجيد لأن مثل هذا الحسبان لا يتصور وقوعه منه عليه الصلاة والسلام ليس بجيد لما فيه من الغفلة عما ذكر ومحمل الموصول نصب على أنه مفعول أول للحسبان وقوله تعالى :
مُعْجِزِينَ ثانيهما وقوله تعالى فِي الْأَرْضِ ظرف لمعجزين لكن لا لإفادة كون الإعجاز المقصود بالنفي فيها لا في غيرها فإن ذلك غني عن البيان بل لإفادة شمول عدم الإعجاز لجميع أجزائها أي لا تحسبنهم معجزين اللّه تعالى عن إدراكهم وإهلاكهم في قطر من أقطار الأرض بما رحبت وإن هربوا منها كل مهرب. وقرأ حمزة وابن عامر «يحسبن» بالياء آخر الحروف على أن الفاعل كل أحد كأنه قيل لا يحسبن حاسب الكافرين معجزين له عزّ وجلّ في الأرض وضميره صلّى اللّه عليه وسلّم لتقدم ذكره عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى : وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وإليه ذهب أبو علي.
وزعم أبي حيان أنه ليس بجيد لما تقدم ليس بجيد أو ضمير الكافر أي لا يحسبن الكافر الذين كفروا معجزين ، ونقل ذلك عن علي بن سليمان أو الموصول والمفعول الأول محذوف كأنه قيل : لا يححسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين في الأرض ، وذكر أن الأصل على هذا لا يحسبنهم الذين كفروا معجزين ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول وكأن الذي سوغ ذلك أن الفاعل والمفعولين لما كانت كالشيء الواحد اقتنع بذكر اثنين عن ذلك الثالث ، وتعقبه في البحر بأن هذا الضمير ليس من الضمائر التي يفسرها ما بعدها فلا يجوز كون الأصل (لا يحسبهم الذين) إلخ كما لا يجوز ظنه زيد قائما ، وقال الكوفيون مُعْجِزِينَ المفعول الأول وفِي الْأَرْضِ المفعول الثاني ، والمعنى لا يحسبن الذين كفروا أحدا يعجز اللّه تعالى في الأرض حتى يطمعوا في مثل ذلك ، قال الزمخشري : وهذا معنى قوي جيد ، وتعقب بأنه بمعزل عن المطايقة لمقتضى للمقام ضرورة أن مصب الفائدة هو المفعول الثاني ولا فائدة في بيان كون المعجزين في الأرض. ورد بأنه وإن كان مصب الفائدة جعل مفروغا منه وإنما المطلوب بيان المحل أي لا يعجزوه سبحانه في الأرض والانصاف أن ما ذكر خلاف الظاهر ، والظاهر إنما هو تعلق فِي الْأَرْضِ بمعجزين وأيا ما كان فالقراءة المذكورة صحيحة وإن اختلفت مراتب تخريجاتها قوة وضعفا ، ومن ذلك يعلم ما في

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 399
قول النحاس ما علمت أحدا من أهل العربية بصريا ولا كوفيا إلا وهو يخطىء قراءة حمزة ، فمنهم من يقول : هي لحن لأنه لم يأت إلا بمفعول واحد ليحسبن ، ومنهم من قال هذا أبو حاتم انتهى من قلة الوقوف ومزيد الهذيان والجسارة على الطعن في متواتر من القرآن ، ولعمري لو كانت القراءة بالرأي لكان اللائق بمن خفي عليه وجه قراءة حمزة أن لا يتكلم بمثل ذلك الكلام ويتهم نفسه ويحجم عن الطعن في ذلك الإمام ، وقوله تعالى : وَمَأْواهُمُ النَّارُ عطف على جملة النهي بتأويلها بجملة خبرية لأن المقصود بالنهي عن الحسبان تحقيق نفي الحسبان كأنه قيل الذين كفروا معجزين ومأواهم النار.
وجوز أن يكون عطفا على مقدر لأن الأول وعيد الدنيا كأنه قيل مقهورون في الدنيا بالاستئصال ومخزون في الآخرة بعذاب النار ، وعن صاحب النظم تقديره بل هم مقدور عليهم ومحاسبون ومأواهم النار.
قال في الكشف : وجعله حالا على معنى لا ينبغي الحسبان لمن مأواه النار كأنه قيل أنى للكافر هذا الحسبان وقد أعد له النار ، والعدول إلى وَمَأْواهُمُ النَّارُ للمبالغة في التحقق وأن ذلك معلوم لهم لا ريب وجه حسن خال عن كلف لكلفة ألم به بعض الأئمة انتهى ، ولا يخفى أن في ظاهره ميلا إلى بعض تخريجات قراءة «يحسبن» بياء الغيبة.
وتعقب في البحر تأويل جملة النهي لتصحيح العطف عليها بقوله : الصحيح أنه يجوز عطف الجمل على اختلافها بعضا على بعض وإن لم تتحد في النوعية وهو مذهب سيبويه ، والمأوى اسم مكان ، وجوز فيه المصدرية والأول أظهر ، وقوله تعالى : وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ جواب لقسم مقدر والمخصوص بالذم محذوف أي وباللّه لَبِئْسَ الْمَصِيرُ هي أي النار ، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله ، وفي إيراد النار بعنوان كونها مأوى ومصيرا لهم أثر نفي فوتهم بالهرب في الأرض كل مهرب من الجزالة ما لا غاية وراءه فللّه تعالى در شأن التنزيل.
[سورة النور (24) : الآيات 58 إلى 64]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا
كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)
لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 400
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ رجوع عند الأكثرين إلى بيان تتمة الأحكام السابقة بعد تمهيد ما يوجب الامتثال بالأوامر والنواهي الواردة فيها وفي الأحكام اللاحقة من التمثيلات والترغيب والترهيب والوعد والوعيد ، وفي التحقيق ويحتمل أن يقال : إنه مما يطاع اللّه تعالى ورسوله للّه فيه ، وتخصيصه بالذكر لأن دخوله في الطاعة باعتبار أنه من الآداب أبعد من غيره ، والخطاب إما للرجال خاصة والنساء داخلات في الحكم بدلالة النص أو للفريقين تغليبا ، واعترض الأول بأن الآية نزلت بسبب النساء ،
فقد روي أن أسماء بنت أبي مرثد «1» دخل عليها غلام كبير لها في وقت كرهت دخوله فأتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقالت : إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها فنزلت
، وقد ذكر الإتقان أن دخول سبب النزول في الحكم قطعي.
وأجيب بأنه ما المانع من أن يعلم الحكم في السبب بطريق الدلالة والقياس الجلي ويكون ذلك في حكم الدخول ، ونقل عن السبكي أنه ظني فيجوز إخراجه وتمام الكلام في ذلك في كتب الأصول ، ثم ما ذكر في سبب النزول ليس مجمعا عليه ،
فقد روي أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بعث وقت الظهيرة إلى عمر رضي اللّه تعالى عنه غلاما من الأنصار يقال له مدلج وكان رضي اللّه تعالى عنه نائما فدق عليه الباب ودخل فاستيقظ وجلس فانكشف منه شيء فقال عمر رضي اللّه تعالى عنه : لوددت أن اللّه تعالى نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعة إلا بإذن فانطلق معه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فوجد هذه الآية قد نزلت
فخر ساجدا ، وهذا أحد موافقات رأيه الصائب رضي اللّه تعالى عنه للوحي ، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال : كان أناس من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يعجبهم أن يواقعوا نساءهم في هذه الساعات فيغتسلوا ثم يخرجون إلى الصلاة فى مرهم اللّه تعالى أن يأمروا المملوكين والغلمان أن لا يدخلوا عليهم في تلك الساعات إلا بإذن بقوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ويعلم منه أن الأمر في قوله سبحانه لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ وإن كان في الظاهر للمملوكين والصبيان لكنه في الحقيقة للمخاطبين فكأنهم أمروا أن يأمروا المذكورين بالاستئذان وبهذا ينحل ما قيل : كيف يأمر اللّه عزّ وجلّ من لم يبلغ الحلم بالاستئذان وهو تكليف ولا تكليف قبل البلوغ ، وحاصله أن اللّه تعالى لم يأمره حقيقة وإنما أمر سبحانه الكبير أن يأمره بذلك كما أمره أن يأمره بالصلاة ،
فقد روي عنه صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال : «مروا أولادكم بالصلاة وهم
___________
(1) وقيل أبي مرشد بالشين المعجمة واختاره جمع ا ه منه.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 401
أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين»
وأمره بما ذكر ونحوه من باب التأديب والتعليم ولا إشكال فيه ، وقيل : الأمر للبالغين من المذكورين على الحقيقة ولغيرهم على وجه التأديب. وقيل : هو للجميع على الحقيقة والتكليف يعتمد التمييز ولا يتوقف على البلوغ فالمراد بالذين لم يبلغوا الحلم المميزون من الصغار وهو كما ترى. واختلف في هذا الأمر فذهب بعض إلى أنه للوجوب ، وذهب الجمهور إلى أنه للندب وعلى القولين هو محكم على الصحيح وسيأتي تمام الكلام في ذلك ، والجمهور على عموم الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ في العبيد والإماء الكبار والصغار ، وعن ابن عمر ومجاهد
أنه خاص بالذكور كما هو ظاهر الصيغة وروى ذلك عن أبى جعفر. وأبى عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنهما
، وقال السلمي : إنه خاص بالإناث وهو قول غريب لا يعول عليه ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما تخصيصه بالصغار وهو خلاف الظاهر جدا ، والمراد بالذين لم يبلغوا الحلم الصبيان ذكورا وإناثا على ما يقتضيه ما مر في سابقه عن الجمهور وخص بالمراهقين منهم ، ومِنْكُمْ لتخصيصهم بالأحرار ويشعر به المقابلة أيضا.
وفي البحر هو عام في الأطفال عبيدا كانوا أو أحرارا ، وكني عن القصور عن درجة البلوغ بما ذكر لأن الاحتلام أقوى دلائله ، وقد اتفق الفقهاء على أنه إذا احتلم الصبي فقد بلغ ، واختلفوا فيما إذا بلغ خمس عشرة سنة ولم يحتلم فقال أبو حنيفة في المشهور : لا يكون بالغا حتى يتم له ماني عشرة سنة وكذا الجارية إذا لم تحتلم أو لم تحض أو لم تحبل لا تكون بالغة عنده حتى يتم لها سبع عشرة سنة ، ودليله قوله تعالى : وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
[الأنعام : 152] وأشد الصبي كما روي عن ابن عباس وتبعه القتيبي ثماني عشرة سنة وهو أقل ما قيل فيه فيبنى الحكم عليه للتيقن به غير أن الإناث نشؤهن وإدراكهن أسرع فنقص في حقهن سنة لاشتمالها على الفصول الأربعة ژالتي يوافق واحد منها المزاج لا محالة وقال صاحباه والشافعي وأحمد : إذا بلغ الغلام والجارية خمس عشرة سنة فقد بلغا وهو رواية عن الإمام رضي اللّه تعالى عنه أيضا وعليه الفتوى.
ولهم أن العادة الفاشية أن لا يتأخر البلوغ فيهما عن هذه المدة وقيدت العادة بالفاشية لأنه قد يبلغ الغلام في اثنتي عشرة سنة وقد تبلغ الجارية في تسع سنين ، واستدل بعضهم على ما تقدم بما روى ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما أنه عرض على النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم يوم أحد وله أربع عشرة سنة فلم يجزه وعرض عليه عليه الصلاة والسلام يوم الخندق وله خمس عشرة سنة فأجازه ، واعترض أبو بكر الرازي على ذلك بأن أحدا كان في سنة ثلاث والخندق في سنة خمس فكيف يصح ما ذكر في الخبر ، وأيضا لا دلالة فيه على المدعى لأن الإجازة في القتال لا تعلق لها بالبلوغ فقد لا يؤذن البالغ لضعفه ويؤذن غير البالغ لقوته وقدرته على حمل السلاح.
ولعل عدم إجازته عليه الصلاة والسلام ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما أولا إنما كان لضعفه ويشعر بذلك أنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ما سأله عن الاحتلام والسن. ومما تفرد به الشافعي رضي اللّه تعالى عنه على ما قيل جعل الإنبات دليلا على البلوغ واحتج له بما روى عطية القرظي أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أمر بقتل من أنبت من قريظة واستحياء من لم ينبت قال : فنظروا إليّ فلم أكن قد أنبت فاستبقاني صلّى اللّه عليه وسلم وتعقبه أبو بكر الرازي بأن هذا الخبر لا يجوز إثبات الشرع بمثله فإن عطية هذا مجهول لا يعرف إلا من هذا الخبر ، وأيضا هو مختلف الألفاظ ففي بعض رواية أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم أمر بقتل من جرت عليه المواسي ، وأيضا يجوز أن يكون الأمر بقتل من أنبت ليس لأنه بالغ بل لأنه قوي فإن الإنبات يدل على القوة البدنية ، وانتصر للشافعي بأن الاحتمال مردود بما روي عن عثمان رضي اللّه تعالى عنه أنه سئل عن غلام فقال : هل اخضر إزاره فإنه يدل على أن ذلك كان كالأمر المتفق عليه فيما بين الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم ، ثم

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 402
المشهور عن الشافعي عليه الرحمة جعل ذلك دليلا على البلوغ في حق أطفال الكفار ، وتكلف الشافعية في الانتصار له ورد التشنيع عليه بما لا يخفى ما فيه على من راجعه.
ومن الغريب ما روي عن قوم من السلف أنهم اعتبروا في البلوغ أن يبلغ الإنسان في طوله خمسة أشبار ، وروي عن علي كرم اللّه تعالى وجهه أنه قال : إذا بلغ الغلام خمسة أشبار فقد وقعت عليه الحدود يقتص له ويقتص منه.
وعن ابن سيرين عن أنس قال : أتي أبوبكر رضي اللّه تعالى عنه بغلام قد سرق فأمر به فشبر فنقص أنملة فخلى عنه ، وبهذا المذهب أخذ الفرزدق في قوله يمدح يزيد بن المهلب :
ما زال مذ عقدت يداه إزاره وسما فأدرك خمسة الأشبار
يدني كتائب من كتائب تلتقي بالطعن يوم تجاول وغوار
وأكثر الفقهاء لا يقولون به لأن الإنسان قد يكون دون البلوغ ويكون طويلا وفوق البلوغ ويكون قصيرا فلا عبرة بذلك. ولعل الأخبار السابقة لا تصح. وما نقل عن الفرزدق لا يتعين إرادة البلوغ فيه ، ومن الناس من قال : إنه أراد بخمسة الأشبار القبر كما قال الآخر :
عجبا لأربع أذرع في خمسة في جوفه جبل أشم كبير
هذا وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية «الحلم» بسكون اللام وهي لغة تميم ، وذكر الراغب أن الحلم بالضم والحلم السكون كلاهما مصدر حلم في نومه بكذا بالفتح إذا رآه في المنام يحلم بالضم ولم يخص ذلك بلغة دون أخرى ، وعن بعضهم عد حلما بالفتح مصدرا لذلك أيضا ، وفي الصحاح الحلم بالضم ما يراه النائم تقول منه : حلم بالفتح واحتلم وتقول حلمت بكذا وحلمته أيضا فيتعدى بالباء وبنفسه قال :
فحلمتها وبنو رفيدة دونها لا يبعدن خيالها المحلوم
والحلم بكسر الحاء الأناة تقول منه : حلم الرجل بالضم إذا صار حليما ، وفي القاموس الحلم بالضم وبضمتين الرؤيا جمعه أحلام ثم قال : وحلم به وعنه رأى له رؤيا أو رآه في النوم والحلم بالضم والاحتلام الجماع في النوم والاسم الحلم كعنق والحلم بالكسر الأناة والعقل وجمعه أحلام وحلوم ا ه ، والظهر أن ما نحن فيه بمعنى الجماع في النوم وهو الاحتلام المعروف ووجه الكناية السابقة عليه ظاهر.
وقال الراغب : الحلم زمان البلوغ وسمي الحلم لكونه جديرا صاحبه بالحلم أي الأناة وضبط النفس عن هيجان الغضب وفي النفس منه شيء ثَلاثَ مَرَّاتٍ أي ثلاث أوقات في اليوم والليلة ، والتعبير عنها بالمرات للإيذان بأن مدار طلب الاستئذان مقارنة تلك الأوقات لمرور المستأذنين بالمخاطبين لا أنفسها فنصب ثَلاثَ مَرَّاتٍ على الظرفية للاستئذان وهو الذي ذهب إليه الجمهور ويدل على ما ذكر قوله تعالى : مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ إلخ فإن الظاهر أنه في محل النصب أو الجر كما قيل إنه بدل من ثَلاثَ أو من مَرَّاتٍ بدل مفصل من مجمل.
وجوز أن يكون في محل الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي أحدها من قبل إلخ وهو أيضا يدل على ما ذكرنا ، واختار في البحر أن المعنى ثلاث استئذانات كما هو الظاهر فإنك إذا قلت : ضربت ثلاث مرات لا يفهم منه إلا ثلاث ضربات ، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام الاستئذان ثلاث ، وعليه يكون ثَلاثَ مَرَّاتٍ مفعولا مطلقا للاستئذان ومِنْ قَبْلِ إلخ ظرف له ، وشرع الاستئذان من قبل صلاة الفجر لظهور أنه وقت القيام عن المضاجع

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 403
وطرح ثياب النوم ولبس ثياب اليقظة «1» وكل ذلك مظنة انكشاف العورة. وأيضا كثيرا ما يجنب الشخص ليلا فيغتسل في ذلك الوقت ويستحي من الاطلاع عليه في تلك الحالة ولو مستور العورة وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ أي وحين تخلعون ثيابكم التي تلبسونها في النهار وتحطونها عنكم مِنَ الظَّهِيرَةِ بيان للحين ، والظهيرة كما قال الراغب وقت الظهر ، وفي القاموس هي حد انتصاف النهار وإنما ذلك في القيظ.
وجوز أن تكون مِنْ أجلية والكلام على حذف مضاف أي وحين تضعون ثيابكم من أجل حر الظهيرة ، وفسر بعضهم الظهيرة بشدة الحر عند انتصاف النهار فلا حاجة إلى الحذف وحِينَ عطف على مِنْ قَبْلِ وهو ظاهر على تقدير كونه في محل نصب ، وأما على التقديرين الآخرين فيلتزم القول ببناء حين على الفتح وإن أضيف إلى مضارع كما قيل في قوله تعالى : هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة : 119] على قراءة فتح ميم يوم ، والتصريح بمدار الأمر أعني وضع الثياب في هذا الحين دون ما قيل وما بعد لما أن التجرد عن الثياب فيه لأجل القيلولة لقلة زمانها كما ينبىء عنه إيراد الحين مضافا إلى فعل حادث متقض ووقوعها في النهار الذي هو مئنة لكثرة الورود والصدور ومظنة لظهور الأحوال وبروز الأمور ليس من التحقق والاطراد بمنزلة ما في الوقتين المذكورين فإن تحقق المدار فيهما أمر معروف لا يحتاج إلى التصريح به.
وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ضرورة أنه وقت التجرد عن لباس اليقظة والالتحاف بثياب النوم وكثيرا ما يتعاطى فيه مقدمات الجماع وإن كان الأفضل تأخيره لمن لا يغتسل على الفور إلى آخر الليل ، ويعلم مما ذكر في حيز بيان حكمة مشروعية الاستئذان في الوقت الأول والوقت الأخير أن المراد بالقبلية والبعدية المذكورتين ليس مطلقهما المتحقق في الوقت الممتد المتخلل بين صلاة الفجر وصلاة العشاء بل المراد بهما طرفا ذلك الوقت الممتد المتصلان اتصالا عاديا بالصلاتين المذكورتين وعدم التعرض للأمر بالاستئذان في الباقي من الوقت الممتد إما لانفهامه بعد الأمر بالاستئذان في الأوقات المذكورة من باب الأولى ، وإما لندرة الوارد فيه جدا كما قيل ، وقيل إن ذاك لجريان العادة على أن من ورد فيه لا يرد حتى يعلم أهل البيت لما في الورود ودخول البيت فيه من دون إعلام أهله من التهمة ما لا يخفى.
وقوله تعالى : ثَلاثُ عَوْراتٍ خبر مبتدأ محذوف ، وقوله سبحانه لَكُمْ متعلق بمحذوف وقع صفة له أي هن ثلاث عورات كائنة لكم ، والعورة الخلل ومنه أعور الفارس وأعور المكان إذا اختل حاله والأعور المختل العين ، وعورة الإنسان سوأته وأصلها كما قال الراغب : من العار وذلك لما يلحق في ظهورها من العار أي المذمة ، وضميرهن المحذوف للأوقات الثلاثة ، والكلام على حذف مضاف أي هي ثلاث أوقات يختل فيها التستر عادة ، وقدر أبو البقاء المضاف قبل ثَلاثَ فقال : أي هي أوقات ثلاث عورات أو لا حذف فيه ، وإطلاق العورات على الأوقات المذكورة المشتملة عليها للمبالغة كأنها نفس العورات ، والجملة استئناف مسوق لبيان علة طلب الاستئذان في تلك الأوقات.
وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي «ثلاث» بالنصب على أنه بدل من ثَلاثَ مَرَّاتٍ وجوز أبو البقاء كونه بدلا من الأوقات المذكورة ، وكونه منصوبا بإضمار أعني. وقرأ الأعمش «عورات» بفتح الواو وهي لغة هذيل بن مدركة وبني تميم لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ أي على الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم جُناحٌ أي
___________
(1) بفتح القاف وتسكينها غير جائز إلا في الضرورة ا ه منه.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 404
في الدخول بغير استئذان بَعْدَهُنَّ أي بعد كل واحدة من تلك العورات الثلاث وهي الأوقات المتخللة بين كل اثنين منهن ، وإيرادها بعنوان البعدية مع أن كل وقت من تلك الأوقات قبل كل عورة من العورات كما أنها بعد أخرى منهن لتوفية حق التكليف والترخيص الذي هو عبارة عن رفعه إذ الرخصة إنما تتصور في فعل يقع بعد زمان وقوع الفعل المكلف كذا في إرشاد العقل السليم ، وظاهره أنه لا حرج في الدخول بغير استئذان في الوقت المتخلل بين ما بعد صلاة العشاء وما قبل صلاة الفجر بالمعنى السابق للبعدية والقبلية ، ومقتضى ما قدمنا ثبوت الحرج في ذلك فيكون كالمستثنى مما ذكر.
وكان الظاهر أن يقال : ليس عليهم جناح بعدهن وعدم التعرض لنفي أن يكون على المخاطبين جناح لأن المأمورين ظاهرا فيما تقدم بالاستئذان في العورات الثلاث هم المماليك والمراهقون الأحرار لا غير ، وإن اعتبر المأمورون في الحقيقة فيما مر كان الظاهر هاهنا أن يقال : ليس عليكم جناح بعدهن مقتصرا عليه ، ولعل اختيار ما في النظم الجليل لرعاية المبالغة في الإذن بترك الاستئذان فيما عدا تلك الثلاث حيث نفي الجناح عن المأمورين به فيها ظاهرا وحقيقة.
والظاهر أن المراد بالجناح الإثم الشرعي ، واستشكل بأنه يفهم من الآية ثبوت ذلك للمخاطبين إذا دخل المماليك والذين لم يبلغوا الحلم منهم عليهم من غير استئذان في تلك العورات مع أنه لا تزر وازرة وزر أخرى وثبوته للمماليك والصغار كذلك مع أن الصغار غير مكلفين فلا يتصور في حقهم الإثم الشرعي.
وأجيب بأن ثبوت ذلك لمن ذكر بواسطة المفهوم ولا عبرة به عندنا ، وعلى القول باعتباره يمكن أن يكون ثبوته للمخاطبين حينئذ لتركهم تعليمهم والتمكين من الدخول عليهم ويبقى إشكال ثبوته للصغار ولا مدفع له إلا بالتزام القول بأن التكليف يعتمد التمييز ولا يتوقف على البلوغ وهو خلاف ما عليه جمهور الأئمة.
ويرد على القول بأن ثبوت ذلك لمن ذكر بواسطة المفهوم بحث لا يخفى. والتزم في الجواب كون المراد بالجناح لإثم العرفي الذي مرجعه ترك الأولى وإلا خلق من حيث المروءة والأدب وجواز ثبوت ذلك للمكلف وغير المكلف مما لا كلام فيه فكأن المعنى ليس عليكم أيها المؤمنون جناح في دخولهم عليكم بعدهن لترككم تعليمهم وتمكينكم إياهم منه المفضي إلى الوقوف على ما تأبى المروءة والغيرة الوقوف عليه ولا عليهم جناح في ذلك لإخلالهم بالأدب المفضي إلى الوقوف على ما تكره ذوو الطباع السليمة الوقوف عليه وينفعلون منه. ولا يأبى ذلك تقدم الأمر السابق ولا في الإرشاد من بيان نكتة إيراد العورات الثلاث بعنوان البعدية بما سمعت فتدبر فإنه دقيق.
وذهب بعضهم إلى أن قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها [النور : 27] منسوخ بهذه الآية حيث دلت على جواز الدخول بدون استئذان بعد الأوقات الثلاثة ودل ذلك على خلافه. ومن لم يذهب إليه قال : إنها في الصبيان ومماليك المدخول عليه وآية الاستئذان في الأحرار البالغين ومماليك الغير في حكمهم فلا منافاة ليلتزم النسخ. ثم اعلم أن نفي الجناح بعدهن على من ذكر ليس على عمومه فإنه متى تحقق أو ظن كون أهل البيت على حال يكرهون اطلاع المماليك والمراهقين من الأحرار عليها كانكشاف عورة أحدهم ومعاشرته لزوجته أو أمته إلى غير ذلك لا ينبغي الدخول عليهم بدون استئذان سواء كان ذلك في إحدى العورات الثلاث أو في غيرها والأمر بالاستئذان فيها ونفي الجناح بعدها بناء على العادة الغالبة من كون أهل البيت في الأوقات الثلاث المذكورة على حال يقتضي الاستئذان وكونهم على حال لا يقتضيه في غيرها.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 405
هذا وفي الآية توجيه آخر ذكره أبو حيان وظاهر صنيعه اختياره وعليه اقتصر أبو البقاء هو أن التقدير ليس عليكم ولا عليهم جناح بعد استئذانهم فيهن فحذف الفاعل وحرف الجر فبقي بعد استئذانهن ثم حذف المصدر فصار بعدهن ، وعليه تقل مؤونة الكلام في الآية إلا أنه خلاف الظاهر جدا. والجمهور على ما سمعت أولا في معناها ، والظاهر أن الجملة على القراءتين السابقتين في ثلاث مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها ، وفي الكشاف أنها إذا رفع ثَلاثَ كانت في محل رفع على الوصف. والمعنى هن ثلاث مخصوصة بالاستئذان وإذا نصب لم يكن لها محل وكانت كلاما مقررا للاستئذان في تلك الأحوال خاصة ، وقال في ذلك صاحب التقريب : إن رفع الحرج وراء الأوقات الثلاثة مقصود في نفسه فإذا وصف به ثَلاثُ عَوْراتٍ نصبا وهو بدل من ثلاث مرات كان التقدير ليستأذنكم هؤلاء في ثلاث عورات مخصوصة بالاستئذان. ويدفعه وجوه مستفادة من علم المعاني. أحدها اشتراط تقدم علم السامع بالوصف وهو منتف إذ لم يعلم إلا من هذا. والثاني جعل الحكم المقصود وصفا للظرف فيصير غير مقصود. والثالث أن الأمر بالاستئذان في المرات الثلاث حاصل وصفت بأن لا حرج وراءها أو لم توصف فيضيع الوصف. وأما إذا وصف المرفوع فيزول الدوافع لأنه ابتداء تعليم أي هن ثلاث مخصوصة بالاستئذان وصفة للخبر المقصود ولم يتقيد أمر الاستئذان به فليتأمل فإنه دقيق جليل انتهى ، وتعقب بأن الوجهين الأخيرين ساقطان لا طائل تحتهما والأول هو الوجه.
فإن قيل : هو مشترك الإلزام قيل : قد تقدم في قوله تعالى : لِيَسْتَأْذِنْكُمُ ما يرشد إلى العلم بذلك وليست الجملة الأخيرة من أجزائه كما هي كذلك على فرض جعلها صفة للبدل ولا يحتاج مع هذا إلى حديث أن رفع الحرج وراء الأوقات الثلاثة مقصود في نفسه بل قيل هو في نفسه ليس بشيء فقد قال الطيبي : إن المقصود الأولى الاستئذان في الأوقات المخصوصة ورفع الحرج في غيرها تابع له لقول المحدث رضي اللّه تعالى عنه لوددت أن اللّه عز وجل نهى آباءنا وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعة إلا بإذن ثم انطلق إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم وقد نزلت الآية. وفي الكشف أنه جيء به أي بالكلام الدال على رفع الحرج أعني لَيْسَ عَلَيْكُمْ إلخ على رفع ثَلاثَ مؤكدا للسالف على طريق الطرد والعكس وكذلك إذا نصب وجعل استئنافا وأما إذا جعل وصفا فيفوت هذا المعنى. وهذا أيضا من الدوافع انتهى فتأمل ولا تغفل.
وقوله تعالى : طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ خبر مبتدأ محذوف أي هم طوافون والجملة استئناف ببيان العذر المرخص في ترك الاستئذان وهو المخالطة الضرورية وكثرة المداخلة. وفيه دليل على تعليل الأحكام الشرعية وكذا في الفرق بين الأوقات الثلاثة وغيرها بأنها عورات. وقوله عز وجل : بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ جوز أن يكون مبتدأ وخبرا ومتعلق الجار كون خاص حذف لدلالة ما قبله عليه أي بعضكم طائف على بعض ، وجوز أن يكون معمولا لفعل محذوف أي يطوف بعضكم على بعض ، وقال ابن عطية بَعْضُكُمْ بدل من طَوَّافُونَ ، وتعقبه في البحر بأنه إن أراد أنه بدل من طَوَّافُونَ نفسه فلا يجوز لأنه يصير التقدير هم بعضكم على بعض وهو معنى لا يصح وإن أراد أنه بدل من الضمير فيه فلا يصح أيضا إن قدر الضمير ضمير غيبة لتقديرهم لأنه يصير التقدير هم يطوف بعضكم على بعض وإن جعل التقدير أنتم يطوف عليكم بعضكم على بعض فيدفعه أن عَلَيْكُمْ يدل على أنهم هم المطوف عليهم وأنتم طوافون يدل على أنهم طائفون فيتعارضان ، وقيل : يقدر أنتم طوافون ويراد بأنتم المخاطبون والغيب من المماليك والصبيان وهو كما ترى ، وجوز أبو البقاء كون الجملة بدلا من التي قبلها وكونها مبينة مؤكدة ، ولا يخفى عليك ما تضمنته من جبر قلوب المماليك بجعلهم بعضا من المخاطبين وبذلك يقوى أمر العلية. وقرأ ابن أبي عبلة «طوافين» بالنصب على الحال من ضمير عليهم كَذلِكَ إشارة إلى مصدر الفعل الذي بعد على ما مر تفصيله في تفسير قوله تعالى :

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 406
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة : 143] وفي غيره أيضا أي مثل ذلك التبيين يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ الدالة على ما فيه نفعكم وصلاحكم أي ينزلها مبينة واضحة الدلالة لا أنه سبحانه يبينها بعد أن لم تكن كذلك ، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصحيح لما مر غير مرة ، وقيل : يبين علل الأحكام. وتعقب بأنه ليس بواضح مع أنه مؤد إلى تخصيص الآيات بما ذكر هاهنا.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ مبالغ في العلم بجميع المعلومات فيعلم أحوالكم حَكِيمٌ في جميع أفاعيله فيشرع لكم ما فيه صلاحكم معاشا ومعادا.
وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ لما بين سبحانه آنفا حكم الأطفال من أنهم لا يحتاجون إلى الاستئذان في غير الأوقات الثلاثة عقب جل وعلا ببيان حالهم إذا بلغوا دفعا لما عسى أن يتوهم أنهم وإن كانوا أجانب ليسوا كسائر الأجانب بسبب اعتيادهم الدخول فاللام في الْأَطْفالُ للعهد إشارة إلى الذين لم يبلغوا الحلم المجعولين قسيما للمماليك أي إذا بلغ الأطفال الأحرار الأجانب فَلْيَسْتَأْذِنُوا إذا أرادوا الدخول عليكم كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي الذين ذكروا من قبلهم في قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها [النور : 27] وجوز أن تكون القبلية باعتبار الوصف لا باعتبار الذكر في النظم الجليل بقرينة ذكر البلوغ وحكم الطفولية أي الذين بلغوا من قبلهم. وأخرج هذا ابن أبي حاتم عن مقاتل وزعم بعضهم أنه أظهر.
وتعقب بأن المراد بالتشبيه بيان كيفية استئذان هؤلاء وزيادة إيضاحه ولا يتسنى ذلك إلا بتشبيهه باستئذان المعهودين عند السامع ، ولا ريب في أن بلوغهم قبل بلوغ هؤلاء مما لا يخطر ببال أحد وإن كان الأمر كذلك في الواقع وإنما المعهود المعروف ذكرهم قبل ذكرهم ، فالمعنى فليستأذنوا استئذانا كائنا مثل استئذان المذكورين قبلهم بأن يستأذنوا في جميع الأوقات ويرجعوا إن قيل لهم ارجعوا حسبما فصل فيما سلف ، وكون المراد بالأطفال الأطفال الأحرار الأجانب قد ذهب إليه غير واحد ، وقال بعض الأجلة : المراد بهم ما يعم الأحرار والمماليك فيجب الاستئذان على من بلغ من الفريقين وأوجب هذا استئذان العبد البالغ على سيدته لهذه الآية ، وقال في البحر مِنْكُمُ أي من أولادكم وأقربائكم.
وأخرج ابن أبي حاتم نحو هذا التفسير عن سعيد بن جبير. وأخرج عن سعيد بن المسيب أنه قال : يستأذن الرجل على أمه فإنما نزلت وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ في ذلك. وأخرج سعيد بن منصور والبخاري في الأدب وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عطاء أنه سأل ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أأستأذن على أختي؟ قال : نعم قلت : إنها في حجري وأنا أنفق عليها وإنها معي في البيت أأستأذن عليها؟ قال : نعم إن اللّه تعالى يقول : لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ الآية فلم يأمر هؤلاء بالاستئذان إلا في العورات الثلاث وقال تعالى : وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فالإذن واجب على خلق اللّه تعالى أجمعين ، وروي عنه رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : آية لا يؤمن بها أكثر الناس آية الإذن وإني لآمر جارتي يعني زوجته أن تستأذن عليّ ، وعن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه عليكم أن تستأذنوا على آبائكم وأمهاتكم وأخواتكم ، ونقل عن بعضهم أن وجوب الاستئذان المستفاد من الأمر الدال عليه في الآية منسوخ وأنكر ذلك سعيد بن جبير روي عنه يقولون : هي منسوخة لا واللّه ما هي منسوخة ولكن الناس تهاونوا بها ، وعن الشعبي ليست منسوخة فقيل له : إن الناس لا يعملون بها فقال : اللّه تعالى المستعان ، وقيل : ذلك مخصوص بعدم الرضا وعدم باب يغلق كما كان في العصر الأول كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ الكلام فيه كالذي سبق ، والتكرير

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 407
للتأكيد والمبالغة في طلب الاستئذان ، وإضافة الآيات إلى ضمير الجلالة لتشريفها وهو مما يقوي أمر التأكيد والمبالغة وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ أي العجائز وهو جمع قاعد كحائض وطامث فلا يؤنث لاختصاصه ولذا جمع على فواعل لأن التاء فيه كالمذكورة أو هو شاذ ، قال ابن السكيت : امرأة قاعد قعدت عن الحيض ، وقال ابن قتيبة : سميت العجائز قواعد لأنهن يكثرن القعود لكبر سنهن ، وقال ابن ربيعة : لقعودهن عن الاستمتاع حيث أيسن ولم يبق لهن طمع في الأزواج فقوله تعالى : اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً أي لا يطمعن فيه لكبرهن صفة كاشفة فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ أي الثياب الظاهرة التي لا يفضي وضعها لكشف العورة كالجلباب والرداء والقناع الذي فوق الخمار.
وأخرج ابن المنذر عن ميمون بن مهران أنه قال : في مصحف أبيّ بن كعب ومصحف ابن مسعود «فليس عليهن جناح أن يضعن جلابيبهن» وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود وابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنهما كانا يقرآن كذلك ، ولعله لذلك اقتصر بعض في تفسير الثياب على الجلباب ، والجملة خبر الْقَواعِدُ والفاء إما لأن اللام في القواعد موصولة بمعنى اللاتي وإما لأنها موصوفة بالموصول. وقوله تعالى : غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ حال ، وأصل التبرج التكلف في إظهار ما يخفى من قولهم : سفينة بارج لا غطاء عليها ، والبرج سعة العين بحيث يرى بياضها محيطا بسوادها كله لا يغيب منه شيء ، وقيل : أصله الظهور من البرج أي القصر ثم خص بأن تتكشف المرأة للرجال بإبداء زينتها وإظهار محاسنها ، وليست الزينة مأخوذة في مفهومه حتى يقال : إن ذكر الزينة من باب التجريد ، والظاهر أن الباء للتعدية ، وقيل زائدة في المفعول لأنهم يفسرون التبرج بمتعد ، ففي القاموس تبرجت أظهرت زينتها للرجال وفيه نظر ، والمراد بالزينة الزينة الخفية لسبق العلم باختصاص الحكم بها ولما في لفظ التبرج من الإشعار ، والتنكير لإفادة الشياع وأن زينة ما وإن دقت داخلة في الحكم أي غير مظهرات زينة مما أمر بإخفائه في قوله تعالى : وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [النور : 31].
وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ بترك الوضع والتستر كالشواب خَيْرٌ لَهُنَّ من الوضع لبعده من التهمة فلكل ساقطة لاقطة ، وذكر ابن المنير للآية معنى استحسنه الطيبي فقال : يظهر لي واللّه تعالى أعلم أن قوله تعالى : غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ من باب : «على لا حب لا يهتدى بمناره» أي لا منار فيه فيهتدى به وكذلك المراد والقواعد من النساء لا زينة لهن فيتبرجن بها لأن الكلام فيمن هن بهذه المثابة ، وكأن الغرض من ذلك أن هؤلاء استعفافهن عن وضع الثياب خير لهن فما ظنك بذوات الزينة من الشواب ، وأبلغ ما في ذلك أنه جعل عدم وضع الثياب في حق القواعد من الاستعفاف إيذانا بأن وضع الثياب لا مدخل له في العفة هذا في القواعد فكيف بالكواعب وَاللَّهُ سَمِيعٌ مبالغ في سمع جميع ما يسمع فيسمع بما يجري بينهن وبين الرجال من المقاولة عَلِيمٌ فيعلم سبحانه مقاصدهن. وفيه من الترهيب ما لا يخفى.
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ في كتاب الزهراوي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن هؤلاء الطوائف كانوا يتحرجون من مؤاكلة الأصحاء حذارا من استقذارهم إياهم وخوفا من تأذيهم بأفعالهم وأوضاعهم فنزلت. وقيل : كانوا يدخلون على الرجل لطلب الطعام فإذا لم يكن عنده ما يطعمهم ذهب بهم إلى بيوت آبائهم وأمهاتهم أو إلى بعض من سماهم اللّه تعالى في الآية الكريمة فكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون : ذهب بنا إلى بيت غيره ولعل أهله كارهون لذلك. وكذا كانوا يتحرجون من الأكل من أموال الذين كانوا إذا خرجوا إلى الغزو وخلفوا هؤلاء الضعفاء في بيوتهم ودفعوا إليهم مفاتيحها وأذنوا لهم أن يأكلوا مما فيها مخافة أن لا يكون إذنهم عن طيب نفس منهم.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 408
وكان غير هؤلاء أيضا يتحرجون من الأكل في بيوت غيرهم ، فعن عكرمة كانت الأنصار في أنفسها قزازة فكانت لا تأكل من البيوت الذي ذكر اللّه تعالى ، وقال السدي : كان الرجل يدخل بيت أبيه أو بيت أخيه أو أخته فتتحفه المرأة بشيء من الطعام فيتحرج لأجل أنه ليس ثم رب البيت ، والحرج لغة كما قال الزجاج الضيق من الحرجة وهو الشجر الملتف بعضه ببعض لضيق المسالك فيه ، وقال الراغب : هو في الأصل مجتمع الشيء ثم أطلق على الضيق وعلى الإثم ، والمعنى على الرواية الأولى ليس على هؤلاء حرج في أكلهم مع الأصحاء ، ويقدر على سائر الروايات ما يناسب ذلك مما لا يخفى ، وعَلَى على معناها في جميع ذلك ، وروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه لما نزل وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [البقرة : 188] تحرج المسلمون عن مؤاكلة الأعمى لأنه لا يبصر موضع الطعام الطيب والأعرج لأنه لا يستطيع المزاحمة على الطعام والمريض لأنه لا يستطيع استيفاء الطعام فأنزل اللّه تعالى هذه الآية ، وقيل : كانت العرب ومن بالمدينة قبل البعث تجتنب الأكل مع أهل هذه الأغدار لمكان جولان يد الأعمى وانبساط جلسة الأعرج وعدم خلو المريض من رائحة تؤذي أو جرح ينض أو أنف يذن فنزلت.
ومن ذهب إلى هذا جعل عَلَى بمعنى في أي ليس في مؤاكلة الأعمى حرج وهكذا وإلا لكان حق التركيب ليس عليكم أن تأكلوا مع الأعمى حرج وكذا يقال فيما بعد وفيه بعد لا يخفى ، وقيل : لا حاجة إلى أن يقدر محذوف بعد قوله تعالى : حَرَجٌ حسبما أشير إليه إذ المعنى ليس على الطوائف المعدودة وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ حرج أَنْ تَأْكُلُوا أنتم وهم معكم مِنْ بُيُوتِكُمْ إلخ ، وإلى كون المعنى كذلك ذهب مولانا شيخ الإسلام ثم قال : وتعميم الخطاب للطوائف المذكورة أيضا يأباه ما قبله وما بعده فإن الخطاب فيهما لغير أولئك الطوائف حتما ولعل ما تقدم أولى ، وأما تعميم الخطاب فلا أقول به أصلا ، وعن ابن زيد والحسن وذهب إليه الجبائي وقال أبو حيان : هو القول الظاهر أن الحرج المنفي عن أهل العذر هو الحرج في القعود عن الجهاد وغيره مما رخص لهم فيه والحرج المنفي عمن بعدهم الحرج في الأكل من البيوت المذكورة ، قال صاحب الكشاف : والكلام عليه صحيح لالتقاء الطائفتين في أن كلا منفي عنه الحرج ، ومثاله أن يستفتى مسافر عن الإفطار في رمضان وحاج مفرد عن تقديم الحلق على النحر فتقول : ليس على المسافر حرج أن يفطر ولا عليك يا حاج أن تقدم الحلق على النحر وهو تحقيق لأمر العطف وذلك أنه لما كان فيه غرابة لبعد الجامع بادىء النظر ازاله بأن الغرض لما كان بيان الحكم كفاء الحوادث والحادثتان وإن تباينتا كل التباين إذا تقارنتا في الوقوع والاحتياج إلى البيان قرب الجامع بينهما ولا كذلك إذا كان الكلام في غير معرض الإفتاء والبيان ، وليس هذا القول منه بناء على أن الاكتفاء في تصور ما كاف في الجامعية كما ظن ، وبهذا يظهر الجواب عما اعترض به على هذه الرواية من أن الكلام عليها لا يلائم ما قبله ولا ما بعده لأن ملاءمته لما بعده قد عرفت وجهها ، وأما ملاءمته لما قبله فغير لازمة إذ لم يعطف عليه ، وربما يقال في وجه ذكر نفي الحرج عن أهل العذر
بترك الجهاد وما يشبهه مما رخص لهم فيه أثناء بيان الاستئذان ونحوه : إن نفي الحرج عنهم بذلك مستلزم عدم وجوب الاستئذان منه صلّى اللّه عليه وسلم لترك ذلك
فلهم القعود عن الجهاد ونحوه من غير استئذان ولا إذن كما أن للماليك والصبيان الدخول في البيوت في غير العورات الثلاث من غير استئذان ولا إذن من أهل البيت ، ومثل هذا يكفي وجها في توسيط جملة أثناء جمل ظاهرة التناسب ، ويرد عليه شيء عسى أن يدفع بالتأمل ، وإنما لم يذكر الحرج في قوله تعالى : وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ بأن يقال : ولا على أنفسكم حرج اكتفاء بذكره فيما مر والأواخر محل الحذف ، ولم يكتف بحرج واحد بأن يقال : ليس على الأعمى والأعرج والمريض وأنفسكم حرج أن تأكلوا دفعا لتوهم خلاف المراد ، وقيل حذف الحرج آخرا للإشارة إلى مغايرته للمذكور ولا تقدح في دلالته عليه لا سيما إذا قلنا : إن الدال غير منحصر فيه وهو كما ترى ، ومعنى عَلى أَنْفُسِكُمْ كما في الكشاف عليكم وعلى من في مثل حالكم من

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 409
المؤمنين ، وفيه كما في الكشف إشارة إلى فائدة إقحام النفس وأن الحاصل ليس على الضعفاء المطعمين ولا على الذاهبين إلى بيوت القرابات ومن في مثل حالهم وهم الأصدقاء حرج. وقيل : إن فائدة إقحامها الإشارة إلى أن الأكل المذكور مع أنه لا حرج فيه لا يخل بقدر من له شأن وهو وجه حسن دقيق لا يلزمه استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ظاهرا ، وكان منشؤه كثرة إقحام النفس في ذوي الشأن ، ومن ذلك قوله تعالى : كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام : 54] ولم يقل سبحانه : كتب ربكم عليه الرحمة ، وقوله عز وجل
في الحديث القدسي : «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي»
دون أن يقول جل وعلا : إني حرمت الظلم عليّ إلى غير ذلك مما يعرفه المتتبع المنصف ، وما قيل من أنّ فائدة الإقحام الإشارة إلى أن التجنب عن الأكل المذكور لا يخلو عن رعاية حظ النفس مع خفائه لا يلائم إلا بعض الروايات السابقة في سبب النزول ، ونحو ما قيل من أنها أقحمت للإشارة إلى أن نفي الحرج عن المخاطبين في الأكل من البيوت المذكورة لذواتهم بخلاف نفي الحرج عن أهل الأعذار في الأكل منها فإنه لكونهم مع المخاطبين وذهابهم بهم إليها ، والتعرض لنفي الحرج عنهم في أكلهم من بيوتهم مع ظهور انتفاء ذلك لإظهار التسوية بينه وبين قرنائه كما في قوله تعالى : يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا [آل عمران : 46] لكن ذلك فيما نحن فيه من أول الأمر ، ولم يتعرض لبيوت أولادهم لظهور أنها كبيوتهم ، وذكر جمع أنها داخلة في بيوت المخاطبين ،
فقد روى أبو داود وابن ماجة «أنت ومالك لأبيك»
في حديث رواه الشيخان وغيرهما «إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه»
وقال بعضهم : المراد ببيوت المخاطبين بيوت أولادهم وأضافها إليهم لمزيد اختصاصها بهم كما يشهد به الشرع والعرف ، وقيل : المعنى أن تأكلوا من بيوتكم من مال أولادكم وأزواجكم الذين هم في بيوتكم ومن جملة عيالكم وهو كما ترى أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ وقرأ حمزة بكسر الهمزة والميم ، والكسائي وطلحة بكسر الهمزة وفتح الميم أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أي أو مما تحت أيديكم وتصرفكم من بستان أو ماشية وكالة أو حفظا وهو الذي يقتضيه كلام ابن عباس. فقد روى عنه غير واحد أنه قال : ذاك وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته فلا بأس عليه أن يأكل من ثمر حائطه ويشرب من لبن ماشيته ولا يحمل ولا يدخر.
وقال السدي : هو الرجل يولي طعام غيره ويقوم عليه فلا بأس أن يأكل منه.
وقال ابن جرير : هو الزمن يسلم إليه مفتاح البيت ويؤذن له بالتصرف فيه ، وقيل : ولي اليتيم الذي له التصرف بماله فإنه يباح له الأكل منه بالمعروف. وملك المفتاح على جميع ذلك كناية عن كون الشيء تحت يد الشخص وتصرفه. والعطف على ما أشرنا إليه على ما بعد مِنْ وعن قتادة أن المراد بما ملكتم مفاتحه العبيد فالعطف على ما بعد بُيُوتِ والتقدير أو بيوت الذين ملكتم مفاتحهم. وكان ملك المفتاح لما شاع كناية لم ينظر فيه إلى أن المتصرف مما يتوصل إليه بالمفتاح أولا ومثله كثير ، أو هو ترشيح لجري العبيد مجرى الجماد من الأموال المشعر به استعمال ما فيهم ، ولا يخفى عليك بعد هذا القول وأنه يندرج بيوت العبيد في قوله تعالى : بُيُوتِكُمْ لأن العبد لا ملك له ، وإرادة المعتوقين منهم بقرينة مَلَكْتُمْ بلفظ الماضي مما لا ينبغي أن يلتفت إليه. وقرأ ابن جبير «ملكتم» بضم الميم وكسر اللام مشددة «ومفاتيحه» بياء بعد التاء جمع مفتاح. وقرأ قتادة وهارون عن أبي عمرو «مفتاحه» بالإفراد وهو آلة الفتح وكذا المفتح كما في القاموس ، وقال الراغب : المفتح والمفتاح ما يفتح به وجمعه مفاتيح ومفاتح وفي بعض الكتب أن جمع مفتح مفاتح وجمع مفتاح مفاتيح أَوْ صَدِيقِكُمْ أي أو بيوت صديقكم وهو من يصدق في مودتك وتصدق في مودته يقع على الواحد والجمع ، والمراد به هنا الجمع ، وقيل : المفرد ، وسر التعبير به دون أصدقائكم الإشارة إلى قلة الأصدقاء حتى قيل :

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 410
صاد الصديق وكاف الكيمياء معا لا يوجدان فدع عن نفسك الطمعا
ونقل عن هشام بن عبد الملك أنه قال : نلت ما نلت حتى الخلافة وأعوزني صديق لا أحتشم منه ، وقيل : إنه إشارة إلى أن شأن الصداقة رفع الاثنينية ورفع الحرج في الأكل من بيت الصديق لأنه أرضى بالتبسط وأسر به من كثير من ذوي القرابة روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما الصديق أكبر من الوالدين إن الجهنميين لما استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمهات فقالوا : فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء : 100 ، 101].
وعن جعفر الصادق رضي اللّه تعالى عنه من عظم حرمة الصديق أن جعله اللّه تعالى من الأنس والثقة والانبساط ورفع الحشمة بمنزلة النفس والأب والأخ ،
وقيل لأفلاطون : من أحب إليك أخوك أم صديقك؟ فقال : لا أحب أخي إلا إذا كان صديقي ، وقد كان السلف ينبسطون بأكل أصدقائهم من بيوتهم ولو كانوا غيبا.
يحكى عن الحسن أنه دخل داره وإذا حلقة من أصدقائه وقد استلوا سلالا من تحت سريره فيها الخبيص وأطايب الأطعمة وهم مكبون عليها يأكلون فتهللت أسارير وجهه سرورا وضحك وقال : هكذا وجدناهم هكذا وجدناهم يريد كبراء الصحابة ومن لقيهم من البدريين ، وكان الرجل منهم يدخل دار صديقه وهو غائب فيسأل جاريته كيسه فيأخذ ما شاء فإذا حضر مولاها فأخبرته أعتقها سرورا بذلك ، وهذا شيء قد كان.
«إذا الناس ناس والزمان زمان» وأما اليوم فقد طوي فيما أعلم بساطه واضمحل والأمر للّه تعالى فسطاطه وعفت آثاره وأفلت أقماره وصار الصديق اسما للعدو الذي يخفي عداوته وينتظر لك حرب الزمان وغارته فآه ثم آه ولا حول ولا قوة إلا باللّه.
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدوا له ما من صداقته بد
ثم إن نفي الحرج في الأكل المذكور مشروط بما إذا علم الآكل رضا صاحب المال بإذن صريح أو قرينة ، ولا يرد أنه إذا وجد الرضا جاز الأكل من مال الأجنبي والعدو أيضا فلا يكون للتخصيص وجه لأن تخصيص هؤلاء لاعتياد التبسط بينهم فلا مفهوم له ، وقال أبو مسلم : هذا في الأرقاب الكفرة أباح سبحانه في هذه الآية ما حظره في قوله سبحانه : لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة : 22] وليس بشيء ، وقيل :
كان ذلك في صدر الإسلام ثم نسخ
بقوله صلّى اللّه عليه وسلم : «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه»
وقوله عليه الصلاة والسلام من حديث ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما : «لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه»
، وقوله تعالى : لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور : 27] الآية ، وقوله عز وجل : لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الأحزاب : 53] فإنهم إذا منعوا من منزله صلّى اللّه عليه وسلم إلا بالشرط المذكور وهو عليه الصلاة والسلام أكرم الناس وأقلهم حجابا فغيره صلى اللّه تعالى عليه وسلم يعلم بالطريق الأولى.
وأنت تعلم أنه لا حاجة إلى القول بالنسخ بناء على ما قلنا أولا ، واحتج بالآية بعض أئمة الحنفية على أنه لا قطع بسرقة مال المحارم مطلقا لا فرق في ذلك بين الوالدين والمولودين وبين غيرهم لأنها دلت على إباحة دخول دارهم بغير إذنهم فلا يكون مالهم محرزا ومجرد احتمال إرادة الظاهر وعدم النسخ كاف في الشبهة المدرئة للحد ، وبحث فيه بأن درء الحدود بالشبهات ليس على إطلاقه عندهم كما يعلم من أصولهم ، وأورد عليه أيضا أنه يستلزم أن لا تقطع يد من سرق من الصديق ، وأجيب عن هذا بأن الصديق متى قصد سرقة مال صديقه انقلب عدوا ، وتعقب بأن الشرع ناظر إلى الظاهر لا إلى السرائر ، وقرىء «صديقكم» بكسر الصاد اتباعا لحركة الدال حكى ذلك حميد الخزاز لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أي مجتمعين وهو نصب على الحال من فاعل تَأْكُلُوا وهو في الأصل

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 411
بمعنى كل ولا يفيد الاجتماع خلافا للفراء ، ودل عليه هنا لمقابلته بقوله تعالى : أَوْ أَشْتاتاً فإنه عطف عليه داخل في حكمه وهو جمع شت على أنه صفة كالحق يقال : أمر شت أي متفرق أو على أنه في الأصل مصدر وصف به مبالغة. والآية على ما ذهب أكثر المفسرين كلام مستأنف مسوق لبيان حكم آخر من جنس ما بين قبله ، وقد نزلت على ما روي عن ابن عباس والضحاك وقتادة في بني ليث بن عمرو بن كنانة تحرجوا أن يأكلوا طعامهم منفردين وكان الرجل منهم لا يأكل ويمكث يومه حتى يجد ضيفا يأكل معه فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئا وربما قعد الرجل منهم والطعام بين يديه لا يتناوله من الصباح إلى الرواح وربما كانت معه الإبل الحفل فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه فإذا أمسى ولم يجد أحدا أكل ، قيل : وهذا التحرج سنة موروثة من الخليل عليه الصلاة والسلام ، وقد قال حاتم :
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له أكيلا فإني لست آكله وحدي
وفي الحديث «شر الناس من أكل وحده وضرب عبده ومنع رفده» وهذا الذم لاعتياده بخلا بالقرى ونفي الجناح عن وقوعه أحيانا بيانا لأنه لا إثم فيه ولا يذم به شرعا كما ذمت به الجاهلية فلا حاجة إلى القول بأن الوعيد في الحديث لمن اجتمعت فيه الخصال الثلاث دون الانفراد بالأكل وحده فإنه يقتضي أن كلّا منها على الانفراد غير منهي عنه وليس كذلك ، والقول بأنهم أهل لسان لا يخفى عليهم مثله ولكن لمجيء الواو بمعنى أو تركوا كل واحد منها احتياطا لا وجه له لأن هؤلاء المتحرجين لم يتمسكوا بالحديث ، وكون الواو بمعنى أوتوهم لا عبرة به ، ولا شك أن اجتماع الأيدي على الطعام سنة فتركه بغير داع مذمة انتهى.
وعن عكرمة وأبي صالح أنها نزلت في قوم من الأنصار كانوا إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلا معه فرخص لهم أن يأكلوا كيف شاؤوا ، قيل : كان الغني يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته فيدعوه إلى طعامه فيقول : إني لأتحرج أن آكل معك وأنا غني وأنت فقير وروي ذلك عن ابن عباس ، وقال الكلبي : كانوا إذا اجتمعوا ليأكلوا طعاما عزلوا للأعمى ونحوه طعاما على حدة فبين اللّه تعالى أن ذلك ليس بواجب.
وقيل : كانوا يأكلون فرادى خوفا أن يزيد أحدهم على الآخر في الأكل أو أن يحصل من الاجتماع ما ينفر أو يؤذي فنزلت لنفي وجوب ذلك ، وأيّا كان فالعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، وقيل : الآية من تتمة ما قبلها على معنى أنها وقعت جوابا لسؤال نشأ منه كأن سائلا يقول : هل نفي الحرج في الأكل من بيوت من ذكر خاص فيما إذا كان الأكل مع أهل تلك البيوت أم لا؟ فأجيب بقوله تعالى : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أي مجتمعين مع أهل تلك البيوت في الأكل أو أشتاتا أي متفرقين بأن يأكل كل منكم وحده ليس معه صاحب البيت وما ألطف نفي الحرج فيما اتسعت دائرته ونفي الجناح فيما ورد فيه بين أمرين والنكات لا يجب اطرادها كذا قيل فتدبر.
فَإِذا دَخَلْتُمْ شروع في بيان الأدب الذي ينبغي رعايته عند مباشرة ما رخص فيه بعد بيان الرخصة فيه بُيُوتاً أي من البيوت المذكورة كما يؤذن به الفاء. فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ أي على أهلها كما أخرج ذلك ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس وقريب منه ما أخرجه عبد الرزاق وجماعة عن الحسن أن المعنى فليسلم بعضكم على بعض نظير قوله تعالى : فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة : 54] والتعبير عن أهل تلك البيوت بالأنفس لتنزيلهم منزلتها لشدة الاتصال ، وفي الانتصاف في التعبير عنهم بذلك تنبيه على السر الذي اقتضى إباحة الأكل من تلك البيوت المعدودة وأن ذلك إنما كان لأنها بالنسبة إلى الداخل كبيت نفسه للقرابة ونحوها ، وقيل :
المراد السلام على أهلها على أبلغ وجه لأن المسلم إذا ردت تحيته عليه فكأنه سلم على نفسه كما أن القاتل

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 412
لاستحقاقه القتل بفعله كأنه قاتل نفسه. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير والحاكم وصححه وغيرهم عن ابن عباس أنه قال في الآية : هو المسجد إذا دخلته فقل السلام علينا وعلى عباد اللّه تعالى الصالحين. فحمل البيوت فيها على المساجد والسلام على الأنفس على ظاهره ، وقيل : المراد بيوت المخاطبين وأهلهم ، وذكر أن الرجل إذا دخل على أهله سن له أن يقول : السلام عليكم تحية من عند اللّه مباركة طيبة فإن لم يجد أحدا فليقل السلام علينا من ربنا وروي هذا عن عطاء ، وقيل السلام على الأنفس على ظاهره والمراد ببيوت بيوت الكفار وذكر أن داخلها وكذا داخل البيوت الخالية يقول ما سمعت آنفا عن ابن عباس وقيل يقول على الكفار يقول : السلام على من اتبع الهدى ، ولا يخفى المناسب للمقام ، والسلام بمعنى السلام من الآفات وقيل : اسم من أسمائه عز وجل وقد مر الكلام في ذلك على أتم وجه فتذكر.
تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي ثابتة بأمره تعالى مشروعة من لدنه عز وجل فالجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لتحية ، وجوز أن يتعلق بتحية فإنها طلب الحياة وهي من عنده عز وجل ، وأصل معناها أن تقول حياك اللّه تعالى أي أعطاك سبحانه الحياة ثم عمم لكل دعاء ، وانتصابها على المصدرية ليسلموا على طريق قعدت جلوسا فكأنه قيل فسلموا تسليما أو فحيوا تحية مُبارَكَةً بورك فيها بالأجر كما
روي عن مقاتل ، قال الضحاك : في السلام عشر حسنات ومع الرحمة عشرون ومع البركات ثلاثون
طَيِّبَةً تطيب بها نفس المستمع ، والظاهر أنه يزيد المسلم ما ذكر في سلامه ، وعن بعض السلف زيادته كما مر آنفا ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : ما أخذت التشهد إلا من كتاب اللّه تعالى سمعت اللّه تعالى يقول : فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً فالتشهد في الصلاة التحيات المباركات الطيبات للّه.
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ تكرير لمزيد التأكيد ، وفي ذلك تفخيم فخيم للأحكام المختتمة به لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ما في تضاعيفها من الشرائع والأحكام وتعملون بموجبها وتحوزون بذلك سعادة الدارين ، وفي تعليل هذا التبيين بهذه الغاية القصوى بعد تذييل الأولين بما يوجبها من الجزالة ما لا يخفى ، وذكر بعض الأجلة أنه سبحانه بدأ السورة بقوله تعالى : وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ [النور : 1] وختمها بقوله عز وجل : كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ ثم جعل تبارك وتعالى ختام الختم قوله سبحانه : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ إلخ دلالة على أن ملاك ذلك كله والمنتفع بتلك الآيات جمع من سلم نفسه لصاحب الشريعة صلوات اللّه تعالى وسلامه عليه كالميت بين يدي الغاسل لا يحجم ولا يقدم دون إشارته صلّى اللّه عليه وسلّم ولهذه الدقيقة أورد هذه الآية شهاب الحق والدين أبو حفص عمر السهروردي قدس سره في باب سير المريد مع الشيخ ونبه بذلك أن كل ما يرسمه من أمور الدين فهو أمر جامع.
وقال شيخ الإسلام : إن هذا استئناف جيء به في أواخر الأحكام السابقة تقريرا لها وتأكيدا لوجوب مراعاتها وتكميلا لها ببيان بعض آخر من جنسها ، وإنما ذكر الإيمان باللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم صلة للموصول الواقع خبرا للمبتدأ مع تضمنه له قطعا تقريرا لما قبله وتمهيدا لما بعده وإيذانا بأنه حقيق بأن يجعل قرينا للإيمان المذكور منتظما في سلكه فقوله تعالى : وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ إلخ معطوف على آمَنُوا داخل معه في حيز الصلة وبذلك يصح الحمل ، والحصر باعتبار الكمال أي إنما الكاملون في الإيمان الذين آمنوا باللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم عن صميم قلوبهم وأطاعوا في جميع الأحكام التي من جملتها ما فصل من قبل من الأحكام المتعلقة بعامة أحوالهم المطردة في الوقوع وأحوالهم الواقعة بحسب الاتفاق كما إذا كانوا معه عليه الصلاة والسلام على أمر مهم يجب اجتماعهم في شأنه كالجمعة والأعياد والحروب وغيرها من الأمور الداعية إلى الاجتماع لغرض من الأغراض ، وعن ابن زيد أن الأمر

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 413
الجامع الجهاد وقال الضحاك وابن سلام هو كل صلاة فيها خطبة كالجمعة والعيدين والاستسقاء ، وعن ابن جبير هو الجهاد وصلاة الجمعة والعيدين ، ولا يخفى أن الأولى العموم وإن كانت الآية نازلة في حفر الخندق ولعل ما ذكر من باب التمثيل ، ووصف الأمر بالجمع مع أنه سبب له للمبالغة ، والظاهر أن ذلك من المجاز العقلي ، وجوز أن يكون هناك استعارة مكنية.
وقرأ اليماني «على أمر جميع» وهو بمعنى جامع أو مجموع له على الحذف والإيصال لَمْ يَذْهَبُوا عنه صلّى اللّه عليه وسلّم حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ عليه الصلاة والسلام في الذهاب فيأذن لهم به فيذهبون فالغاية هي الإذن الحاصل بعد الاستئذان والاقتصار على الاستئذان لأنه الذي يتم من قبلهم وهو المعتبر في كمال الإيمان لا الإذن ولا الذهاب المترتب عليه واعتباره في ذلك لما أنه كالمصداق لصحته والمميز للمخلص عن المنافق فإن ديدنه التسلل للفرار ، ولتعظيم ما في الذهاب بغير إذنه عليه الصلاة والسلام من الجناية وللتنبيه على ذلك عقب سبحانه بقوله عز وجل : إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فقد جعل فيه المستأذنين هم المؤمنون عكس الأول دلالة على أنهما متعاكسان سواء بسواء ومنه يلزم أنه كالمصداق لصحة الإيمانين وكذلك من اسم الإشارة لدلالته على أن استئهال الإيمانين لذلك فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ بيان لما هو وظيفته صلى اللّه تعالى عليه وسلّم في هذا الباب إثر بيان ما هو وظيفة المؤمنين ، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي بعد ما تحقق أن الكاملين في الإيمان هم المستأذنون فإذا استأذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ أي لبعض أمرهم المهم وخطبهم الملم فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ تفويض للأمر إلى رأيه صلّى اللّه عليه وسلّم واستدل به على أن بعض الأحكام مفوضة إلى رأيه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم ، وهذه مسألة التفويض المختلف في جوازها بين الأصوليين وهي أن يفوض الحكم إلى المجتهد فيقال له : احكم بما شئت فإنه صواب فأجاز ذلك قوم لكن اختلفوا فقال موسى بن عمران : بجواز ذلك مطلقا للنبي وغيره من العلماء ، وقال أبو علي الجبائي : بجواز ذلك للنبي خاصة في أحد قوليه ، وقد نقل عن الإمام الشافعي عليه الرحمة في الرسالة ما يدل على التردد بين الجواز والمنع ومنع من ذلك
الباقون. والمجوزون اختلفوا في الوقوع ، قال الآمدي والمختار الجواز دون الوقوع ، وقد أطال الكلام في هذا المقام فليراجع. والذي أميل إليه جواز أن يفوض الحكم إلى المجتهد إذا علم أنه يحكم ترويا لا تشهيا ويكون التفويض حينئذ كالأمر بالاجتهاد ، والأليق بشأن اللّه تعالى وشأن رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم أن ينزل ما هنا على ذلك وتكون المشيئة مقيدة بالعلم بالمصلحة. وذكر بعض الفضلاء أنه لا خلاف في جواز أن يقال : احكم بما شئت ترويا بل الخلاف في جواز أن يقال : احكم بما شئت تشهيا كيفما اتفق ، وأنت تعلم أنه بعد التقييد لا يكون ما نحن فيه من محل النزاع ، ومن الغريب ما قيل : إن المراد ممن شئت منهم عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه ولا يخفى ما فيه وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ فإن الاستئذان وإن كان لعذر قوي لا يخلو عن شائبة تقديم أمر الدنيا على أمر الآخرة. وتقديم «لهم» للمبادرة إلى أن الاستغفار للمستأذنين لا للإذن.
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ مبالغ في مغفرة فرطات العباد رَحِيمٌ مبالغ في إفاضة شآبيب الرحمة عليهم ، والجملة تعليل للمغفرة الموعودة في ضمن الاستغفار لهم ، وقد بالغ جل شأنه في الاحتفال برسوله صلوات اللّه تعالى وسلامه عليه فجعل سبحانه الاستئذان للذهاب عنه ذنبا محتاجا للاستغفار فضلا عن الذهاب بدون إذن ورتب الإذن على الاستئذان لبعض شأنهم لا على الاستئذان مطلقا ولا على الاستئذان لأي أمر مهما كان أو غير مهم ومع ذلك علق الإذن بالمشيئة ، وإذا اعتبرت وجوه المبالغة في قوله تعالى : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إلى هنا وجدتها تزيد على العشرة.
وفي أحكام القرآن للجلال السيوطي أن في الآية دليلا على وجوب استئذانه صلى اللّه تعالى عليه وسلّم قبل الانصراف

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 414
عنه عليه الصلاة والسلام في كل أمر يجتمعون عليه ، قال الحسن : وغير الرسول صلّى اللّه تعالى عليه وسلم من الأئمة مثله في ذلك لما فيه من أدب الدين وأدب النفس ، وقال ابن الفرس : لا خلاف في الغزو أنه يستأذن إمامه إذا كان له عذر يدعوه إلى الانصراف واختلف في صلاة الجمعة إذا كان له عذر كالرعاف وغيره فقيل يلزمه الاستئذان سواء كان أمامه الأمير أم غيره أخذا من الآية وروي ذلك عن مكحول والزهري ولا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً استئناف مقرر لمضمون ما قبله ، والالتفات لإبراز مزيد الاعتناء بشأنه أي لا تقيسوا دعاءه عليه الصلاة والسلام إياكم على دعاء بعضكم بعضا في حال من الأحوال وأمر من الأمور التي من جملتها المساهلة فيه والرجوع عن مجلسه عليه الصلاة والسلام بغير استئذان فإن ذلك من المحرمات ، وإلى نحو هذا ذهب أبو مسلم واختاره المبرد والقفال وقيل : المعنى لا تحسبوا دعاءه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم عليكم كدعاء بعضكم على بعض فتعرضوا لسخطه ودعائه عليكم عليه الصلاة والسلام بمخالفة أمره والرجوع عن مجلسه بغير استئذان ونحو ذلك ، وهو مأخوذ مما جاء في بعض الروايات عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وروي عن الشعبي وتعقبه ابن عطية بأن لفظ الآية يدفع هذا المعنى ، وكأنه أراد أن الظاهر عليه على بعض ، وقيل : إنه يأباه بَيْنَكُمْ وهو في حيز المنع ، وقيل : المعنى لا تجعلوا دعاءه عليه الصلاة والسلام ربه عز وجل كدعاء صغيركم كبيركم وفقيركم غنيكم يسأله حاجته فربما أجابه وربما رده فإن دعاءه صلى اللّه تعالى عليه وسلّم مستجاب لا مرد له عند اللّه عز وجل فتعرضوا لدعائه لكم بامتثال أمره واستئذانه عند الانصراف عنه إذا كنتم معه على أمر جامع وتحققوا قبول استغفاره لكم ولا تتعرضوا لدعائه عليكم بضد ذلك.
ولا يخفى وجه تقرير الجملة لما قبلها على هذين القولين لكن بحث في دعوى أن جميع دعائه عليه الصلاة والسلام مستجاب بأنه قد صح أنه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم سأل اللّه تعالى في أمته أن لا يديق بعضهم بأس بعض فمنعه ، وهو ظاهر في أنه قد يرد بعض دعائه عليه الصلاة والسلام. وتعقب بأنه كيف يرد وقد قال اللّه تعالى : ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ وفي الحديث «إن اللّه تعالى لا يرد دعاء المؤمن وإن تأخر»
وقد قال الإمام السهيلي في الروض :
الاستجابة أقسام إما تعجيل ما سال أو أن يدخر له خير مما طلب أو يصرف عنه من البلاء بقدر ما سال من الخير ، وقد أعطى صلى اللّه تعالى عليه وسلّم عوضا من أن لا يذيق بعضهم بأس بعض الشفاعة وقال : «أمتي هذه أمة مرحومة ليس عليها في الآخرة عذابها في الدنيا الزلزال والفتن»
كما في أبي داود فإذا كانت الفتنة سببا لصرف عذاب الآخرة عن الأمة فلا يقال : ما أجاب دعاءه صلّى اللّه عليه وسلّم لأن عدم استجابته أن لا يعطي ما سأل أو لا يعوض عنه ما هو خير منه ، والمراد بالمنع في الحديث منع ذلك بخصوصه لا عدم استجابة الدعاء بذلك بالمعنى المذكور ، وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله.
وقيل : المعنى لا تجعلوا نداءه عليه الصلاة والسلام وتسميته كنداء بعضكم بعضا باسمه ورفع الصوت به والنداء وراء الحجرات ولكن بلقبه المعظم مثل يا نبي اللّه ويا رسول اللّه مع التوقير والتواضع وخفض الصوت.
أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال : كانوا يقولون : يا محمد يا أبا القاسم فنهاهم اللّه تعالى عن ذلك بقوله سبحانه : لا تَجْعَلُوا الآية إعظاما لنبيه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا : يا نبي اللّه يا رسول اللّه ، وروي نحو هذا عن قتادة والحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وفي أحكام القرآن للسيوطي أن في هذا النهي تحريم ندائه صلّى اللّه عليه وسلّم باسمه.
والظاهر استمرار ذلك بعد وفاته إلى الآن. وذكر الطبرسي أن من جملة المنهي عنه النداء بيا ابن عبد اللّه فإنه

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 415
مما ينادي به العرب بعضهم بعضا. وتعقب هذا القول بأن الآية عليه لا تلائم السباق واللحاق.
وقال بعضهم : وجه الارتباط بما قبلها عليه الإرشاد إلى أن الاستئذان ينبغي أن يكون بقولهم : يا رسول اللّه إنا نستأذنك ونحوه ، وكذا خطاب من معه في أمر جامع إياه صلّى اللّه عليه وسلّم ينبغي أن يكون بنحو يا رسول اللّه لا بنحو يا محمد ، ويكفي هذا القدر من الارتباط بما قبل ولا حاجة إلى بيان المناسبة بأن في كل منهما ما ينافي التعظيم اللائق بشأنه العظيم صلّى اللّه عليه وسلّم ، نعم الأظهر في معنى الآية ما ذكرناه أولا كما لا يخفى. وقرأ الحسن ويعقوب في رواية «نبيكم» بنون مفتوحة وباء مكسورة وياء آخر الحروف مشددة بدل بَيْنَكُمْ الظرف في قراءة الجمهور ، وخرج على أنه بدل من الرَّسُولِ ولم يجعل نعتا له لأنه مضاف إلى الضمير والمضاف إليه في رتبة العلم وهو أعرف من المعرف بأل ويشترط في النعت أن يكون دون المنعوت أو مساويا له في التعريف ، وقال أبو حيان : ينبغي أن يجوز النعت لأن الرَّسُولِ قد صار علما بالغلبة كالبيت للكعبة فقد تساويا في التعريف.
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ وعيد لمن هو بضد أولئك المؤمنين الذين لم يذهبوا حتى يستأذنوه عليه الصلاة والسلام ، والتسلل الخروج من البين على التدريج والخفية ، وقد للتحقيق ، وجوز أن تكون لتقليل المتسللين في جنب معلوماته تعالى وأن تكون للتكثير إما حقيقة أو استعارة ضدية ، وقال أبو حيان : إن قول بعض النحاة بإفادة قد التكثير إذا دخلت على المضارع غير صحيح وإنما التكثير مفهوم من سياق الكلام كما في قول زهير :
أخي ثقة لا يهلك الخمر ماله ولكنه قد يهلك المال نائله
فإن سياق الكلام للمدح يفهم منه ذلك أي قد يعلم اللّه الذين يخرجون من الجماعة قليلا قليلا على خفية لِواذاً أي ملاوذة بأن يستتر بعضهم ببعض حتى يخرج. وأخرج أبو داود في مراسيله عن مقاتل قال : كان لا يخرج أحد لرعاف أو إحداث حتى يستأذن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يشير إليه بإصبعه التي تلي الإبهام فيأذن له النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يشير إليه بيده وكان من المنافقين من تثقل عليه الخطبة والجلوس في المسجد فكان إذا استأذن رجل من المسلمين قام المنافق إلى جنبه يستتر به حتى يخرج فأنزل اللّه تعالى : قَدْ يَعْلَمُ الآية ، وقيل يلوذ به إراءة أنه من أتباعه.
ونصب لِواذاً على المصدرية أو الحالية بتأويل ملاوذين وهو مصدر لاوذ لعدم قلب واوه ياء تبعا لفعله ولو كان مصدر لاذ لقيل لياذا كقياما.
وقرأ يزيد بن قطيب «لو إذا» بفتح اللام فاحتمل أن يكون مصدر لاذ ولم تقلب واوه ياء لأنه لا كسرة قبلها فهو كطواف مصدر طاف ، واحتمل أن يكون مصدر لاوذ وفتحة اللام لأجل فتحة الواو ، والفاء في قوله تعالى : فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ لترتيب الحذر أو الأمر به على ما قبلها من علمه تعالى بأحوالهم فإنه مما يوجب الحذر البتة ، والمخالفة كما قال الراغب : أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الآخر في حاله أو فعله والأكثر استعمالها بدون عن فيقال خالف زيد عمرا وإذا استعملت بعن فذاك على تضمين معنى الإعراض.
وقيل الخروج أي يخالفون معرضين أو خارجين عن أمره. وقال ابن الحاجب : عدي يخالفون بعن لما في المخالفة من معنى التباعد والحيد كأنه قيل الذين يحيدون عن أمره بالمخالفة وهو أبلغ من أن يقال : يخالفون أمره.
وقيل على تضمين معنى الصد ، وقيل إذا عدي بعن يراد به الصد دون تضمين ويتعدى إلى مفعول بنفسه يقال :
خالف زيدا عن الأمر أي صده عنه والمفعول عليه هنا محذوف أي يخالفون المؤمنون أي يصدونهم عن أمره وحذف المفعول لأن المراد تقبيح حال المخالف وتعظيم أمر المخالف عنه فذكر الأهم وترك ما لا اهتمام به وقد يتعدى بإلى فيقال خالف إليه إذا أقبل نحوه.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 416
وقال ابن عطية : عَنْ هنا بمعنى بعد ، والمعنى يقع خلافهم بعد أمره كما تقول : كان المطر عن ريح وأطعمته عن جوع. وقال أبو عبيدة والأخفش : هي زائدة أي يخالفون أَمْرِهِ وضمير أمره للّه عز وجل فإن الأمر له سبحانه في الحقيقة أو للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم فإنه المقصود بالذكر ، والأمر له قيل الطلب أو الشأن أو ما يعمهما ، ولا يخفى أن في تجويز على كل من الاحتمالين في الضمير نظرا فلا تغفل. وقرىء «يخلفون» بالتشديد أي يخلفون أنفسهم عن أمره أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أي بلاء ومحنة في الدنيا كما روي عن مجاهد وعن ابن عباس تفسير الفتنة بالقتل ، وعن جعفر الصادق رضي اللّه تعالى عنه تفسيرها بتسليط سلطان جائر ، وعن السدي ومقاتل تفسيرها بالكفر والأول أولى.
أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي في الآخرة. وقيل في الدنيا ، والمراد بالعذاب الأليم القتل وبالفتنة ما دونه وليس بشيء. وكلمة أو لمنع الخلو دون الجمع. وإعادة الفعل صريحا للاعتناء بالتهديد والتحذير. وشاع الاستدلال بالآية على أن الأمر للوجوب فإنه تعالى أوجب فيها على مخالف الأمر الحذر عن العذاب وذلك تهديد على مخالفة الأمر وهو دليل كون الأمر للوجوب إذ لا تهديد على ترك غير الواجب ، وأيضا بناء حكم الحذر عن العذاب إلى المخالف يقتضي أن يكون حذره عنه من حيث المخالفة ، وذلك إنما يكون إذا أفضى إلى العذاب كما في قولك فليحذر الشاتم للأمير أن يضربه ولا إفضاء في ترك غير الواجب.
وهذا الأمر أعني فَلْيَحْذَرِ بخصوصه مستعمل في الإيجاب إذ لا معنى لندب الحذر عن العقاب أو إباحته ، وأيضا إشعار الآية بوجوب الحذر غير خاف بقرينة ورودها في معرض الوعيد بتوقع إصابة العذاب على أنه لو حمل الأمر المذكور على أنه للندب يحصل المطلوب وذلك لأن التحذير عما لم يعلم أو لم يظن تحققه ولا تحقق ما يفضي إلى وقوعه في الجملة سفه غير جائز بمعنى أنه مخالف للحكمة ولهذا يلام من يحذر عن سقوط الجدار المحكم الغير المائل ، وأيا ما كان يندفع ما يقال : لا نسلم أن قوله تعالى : فَلْيَحْذَرِ للوجوب لأنه عين محل النزاع إذ يكفي في المطلوب على ما قررنا استعماله في الندب أيضا ، والقول بأن معنى مخالفة الأمر عدم اعتقاد حقيته أو حمله على غير ما هو عليه بأن يكون للوجوب أو الندب مثلا فيحمل على غيره بعيد جدا ، والظاهر المتبادر إلى الفهم أنه ترك الامتثال والإتيان بالمأمور فلا يترك إلى ذلك إلا بدليل. واعترض بأنه بعد هذا القيل والقال لا يدل على أن جميع الأوامر حقيقة في الوجوب لإطلاق الأمر.
وأجيب بأن أَمْرِهِ مصدر مضاف وهو يفيد العموم حيث فقدت قرينة العهد على أن الإطلاق كاف في المطلوب ، وهو كون الأمر المطلق للوجوب خاصة. إذ لو كان حقيقة لغيره أيضا لم يترتب التهديد على مخالفة مطلق الأمر. وقال بعض الأجلة : لا قائل بالفصل في صيغ الأمر بأن بعضها للوجوب وبعضها لغيره. وزعم بعضهم أن الاستدلال لا يتم إذا أريد بالأمر الطلب ، ولو فسر بالشأن وكان الضمير للرسول عليه الصلاة والسلام لزم من القول بدلالتها على الوجوب أن يكون كل ما يفعله صلّى اللّه عليه وسلم واجبا علينا ولا قائل به. والزمخشري فسره بالدين والطاعة.
وقال صاحب الكشف : إن الاستدلال بالآية على أن الأمر للوجوب مشهور سواء فسر بما ذكر لأن الطاعة امتثال الأمر القولي أو فسر على الحقيقة ، وأما إذا جعل إشارة إلى ما سبق من الأمر الجامع ومعنى يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ينصرفون عنه فلا وليس بالوجه وإن آثره جمع لفوات المبالغة والتناول الأولي والعدول عن الحقيقة في لفظ الأمر ثم المخالفة من غير ضرورة انتهى ، وهذا الذي آثره جمع ذكره الطيبي عن البغوي ثم قال : هذا هو التفسير الذي عليه

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 417
التعويل ويساعد عليه النظم والتأويل لأن الأمر حينئذ بمعنى الشأن وواحد الأمور وبيانه أن ما قبله حديث في الأمر الجامع وهو الأمر الذي يجمع عليه الناس ومدح من لزم مجلس رسولا لله صلّى اللّه عليه وسلّم ولم يذهب عنه وذم من فارقه بغير الإذن وأمر بالاستغفار في حق من فارق بالإذن لأن قوله تعالى : فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ يؤذن أن القوم ثلاث فرق المأذون في الذهاب بعد الاستئذان والمتخلف عنه ثم المتخلف إما أن يدوم في مجلسه عليه الصلاة والسلام ولم يذهب وهم المؤمنون المخلصون أو يتسلل لواذا وهم المنافقون وقوله تعالى : فَلْيَحْذَرِ إلخ مترتب على القسم الثالث على سبيل الوعيد والفعل المضارع يفيد معنى الدأب والعادة وقد أقيم المظهر موضع المضمر علة لاستحقاقهم فتنة الدارين انتهى ، وقد كشف عن بعض ما فيه صاحب الكشف نعم قيل عليه : إن فوات المبالغة والتناول لا يقاوم العهد ولا عدول عن الحقيقة لأن الأمر حقيقة في الحادثة وكذا المخالفة فيما ذكر ولو سلم فهو مشترك الإلزام فإن الأمر ليس حقيقة في الأمر العام وقوله : بلا ضرورة ممنوع فإن إضافة العهد صارفة.
وتعقب بأن هذا مكابرة ومنع مجرد لا يسمع فإن الأبلغية لا شبهة فيا فإن تهديد من لم يمتثل أمره عليه الصلاة والسلام أشد من تركه بلا إذن وكون الأمر حقيقة في الطلب هو الأصح في الأصول والمخالفة المقارنة للأمر لا شبهة في أن حقيقتها عدم الامتثال واشتراك الإلزام ليس بتام لأن أمره إذا عم يشمل الأمر الجامع بمعنى الطلب أيضا وعهد الإضافة ليس بمتعين حتى يعد صارفا كذا قيل وفيه بحث فتأمل ، وقد يقال بناء على كون الأمر المذكور إشارة إلى الأمر الجامع : إنه جيء بأوفى قوله : أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ لما أن الأمر الجامع إما أن يكون أمرا دنيويا كالتشاور وفي الأمور الحربية فالانصراف عنه مظنة إصابة المحنة الدنيوية للمنصرفين وإما أن يكون أمرا دينيا كإقامة الجمعة التي فيها تعظيم شعائر الإسلام فالانصراف عنه مظنة إصابة العذاب الأخروي.
وبالجملة لا استدلال بالآية على اعتبار العهد وأما إذا لم يعتبر فقد استدل بها ، وقد سمعت شيئا من الكلام في ذلك وتمامه جرحا وتعديلا وغير ذلك في كتب الأصول أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الموجودات بأسرها خلقا وملكا وتصرفا إيجادا وإعداما بدءا وإعادة لا لأحد غيره شركة أو استقلالا قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ أيها المكلفون من الأحوال والأوضاع التي من جملتها الموافقة والمخالفة والإخلاص والنفاق ودخول المنافقين مع أن الخطاب فيما قبل للمؤمنين بطريق التغليب ، وقوله تعالى : وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ خاص بالمنافقين وهو مفعول به عطف على ما أَنْتُمْ أي يعلم يوم يرجع المنافقون المخالفون للأمر إليه عز وجل للجزاء والعقاب.
وتعليق علمه بيوم رجعهم لا برجعهم لزيادة تحقيق علمه سبحانه بذلك وغاية تقريره لما أن العلم بوقت وقوع الشيء مستلزم للعلم بوقوع الشيء على أبلغ وجه وآكده ، وفيه إشعار بأن علمه جعل وعلا بنفس رجعهم من الظهور بحيث لا يحتاج إلى البيان قطعا. ويجوز أن يكون الخطاب السابق خاصا بهم أيضا فيتحقق التفاتان التفات من الغيبة إلى الخطاب في أَنْتُمْ والتفات من الخطاب إلى الغيبة في يُرْجَعُونَ والعطف على حاله. وجوز أن يكون على مقدر أي ما أنتم عليه الآن ويوم إلخ فإن الجملة الاسمية تدل على الحال في ضمن الدوام والثبوت. وقيل : يجوز أن يكون يَوْمَ ظرفا لمحذوف يعطف على ما قبله أي وسيحاسبهم يوم أو نحو ذلك ولا أرى اختصاصه بالوجه الثاني في الخطاب.
وفي البحر بعد ذكر الوجهين فيه والظهر عطف يَوْمَ على ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وقال ابن عطية : يجوز أن يكون التقدير والعلم يظهر لكم أو نحو هذا يوم فيكون يَوْمَ نصبا على الظرفية بمحذوف وقد للتحقيق وفيا الاحتمالان

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 418
المتقدمان آنفا ، وقد مر غير مرة ما يراد بمثل هذه الجملة من الوعيد أو الوعد. ولا يخفى المناسب لكل من الاحتمالات في أَنْتُمْ ويُرْجَعُونَ وقرأ ابن يعمر وابن أبي إسحاق وأبو عمرو «يرجعون» مبنيا للمفعول فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أي بعملهم أو بالذي عملوه من الأعمال السيئة التي من جملتها مخالفة الأمر فيرتب سبحانه عليه ما يليق به من التوبيخ والجزاء أو فينبئهم بما عملوا خيرا أو شرا فيرتب سبحانه على ذلك ما يليق به إن خيرا فخير وإن شرا فشر وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لا يخفى عليه شيء من الأشياء. والجملة تذييل مقرر لما قبله ، وإظهار الاسم الجليل في مقام الإضمار لتأكيد استقلال الجملة والإشعار بعلة الحكم ، وتقديم الظرف لرعاية رؤوس الآي. وقيل وفيه بحث : إنه للحصر على معنى والله عليم بكل شيء لا ببعض الأشياء كما يزعمه بعض جهلة الفلاسفة ومن حذا حذوهم حفظنا الله تعالى والمسلمين مما هم عليه من الضلالات لنا نورا نهتدي به إذا ادلهم ليل الجهالات هذا.
ومن باب الإشارة في الآيات ما قيل في قوله تعالى : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً إلى آخره أنه إشارة إلى جمع العناصر الأربعة وتركيب الإنسان منها ثم خروج مطر الإحساس من عينيه وأذنيه مثلا وينزل من سماء العقل الفياض برد حقائق العلوم فيصيب به من يشاء فتظهر آثاره عليه ويصرفه عمن يشاء حسبما تقتضيه الحكمة الإلهية يَكادُ سَنا بَرْقِهِ نور تجليه يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ بأن يعطلها عن الابصار ويفني أصحابها عنها لما أن الإدراك بنوره فوق الإدراك بنور الابصار يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إشارة إلى ليل المحو ونهار الصحو أو ليل القبض ونهار البسط أو ليل الجلال ونهار الجمال أو نحو ذلك.
وقيل : يزجي سحاب المعاصي إلى أن يتراكم فترى مطر التوبة يخرج من خلاله كما خرج من سحاب وَعَصى آدَمُ مطر ثُمَّ اجْتَباهُ ربه وينزل من سماء القلوب من جبال القسوة فيها من برد القهر يقلب الله ليل المعصية لمن يشاء إلى نهار الطاعة وبالعكس وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ تقدم الكلام في الماء فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ يعتمد في سيره على الباطن وهم أهل الجذبة المغمورون في بحار المحبة وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ يعتمد في سيره الشريعة والطريقة لكن فيما يتعلق به خاصة منهما وهم صنف من الكاملين سكنوا زوايا الخمول ولم يخالطوا الناس ولم يشتغلوا بالإرشاد وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يعتمد في سيره الشريعة والطريقة فيما يتعلق به وبغيره منهما وهم صنف آخر من الكاملين برزوا للناس وخالطوهم واشتغلوا بالإرشاد وعملوا في أنفسهم بما تقتضيه الشريعة والطريقة وعاملوا الناس والمريدين بذلك أيضا يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ فلا يبعد أن يكون في خلقه من يمشي على أكثر كالكاملين الذين أوقفهم الله تعالى على أسرار الملك والملكوت وما حده لكل أمة من الأمم ونوع من أنواع المخلوقات فعاملوا بعد أن عملوا في أنفسهم ما يليق بهم كل أمة وكل نوع بما حد له كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ.
وفي قوله تعالى : وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ الآيات إشارة إلى أحوال المنكرين في القلب على المشايخ وأحوال المصدقين بهم قلبا وقالبا وفي قوله سبحانه : وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا إشارة إلى أن طاعة الرسول سبب لحصول المكاشفات ونحوها ، وقال أبو عثمان : من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة لأن الله تعالى يقول : وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وفي قوله تعالى : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إشارة إلى أنه لا ينبغي للمريد الاستبداد بشيء قال عبد الله الرازي : قال قوم من أصحاب أبي عثمان لأبي عثمان أوصنا فقال : عليكم بالاجتماع على الدين وإياكم ومخالفة الأكابر والدخول في شيء من الطاعات إلا بإذنهم ومشورتهم وواسوا المحتاجين بما أمكنكم فإذذا فعلتم

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 419
أرجو أن لا يضيع الله تعالى لكم سعيا لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً فيه من تعظيم أمر الرسول صلّى اللّه عليه وسلم ما فيه ، وذكر أن الشيخ في جماعته كالنبي في أمته فينبغي أن يحترم في مخاطبته ويميز على غيره فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ قال أبو سعيد الخراز : الفتنة إسباغ النعم مع الاستدراج ، وقال الجنيد قدس سره : قسوة القلب عن معرفة المعروف والمنكر ، وقال بعضهم : طبع على القلوب والعذاب الأليم هو عذاب البعد والحجاب عن الحضرة نعوذ بالله تعالى من ذلك ونسأله سبحانه التوفيق إلى أقوم المسالك فلا رب غيره ولا يرجى إلا خيره.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 420
سورة الفرقان
أطلق الجمهور القول بمكيتها ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وقتادة هي مكية إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة وهي وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إلى قوله سبحانه : وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان : 68 - 70] ، وقال الضحاك : هي مدنية إلا أولها إلى قوله تعالى وَلا نُشُوراً [الفرقان : 3] فهو مكي ، وعدد آياتها سبع وسبعون آية بلا خلاف كما ذكره الطبرسي والداني في كتاب العدد ، ولما ذكر جل وعلا في آخر السورة السابقة وجوب متابعة المؤمنين للرسول صلّى اللّه عليه وسلم ومدح المتابعين وحذر المخالفين افتتح سبحانه هذه السورة بما يدل على تعاليه جل شأنه عما سواه في ذاته وصفاته وأفعاله أو على كثرة خيره تعالى ودوامه وأنه أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا اطماعا في خيره وتحذيرا من عقابه جل شأنه وفي هذه السورة أيضا من تأكيد ما في السابقة من مدح الرسول صلّى اللّه عليه وسلم ما فيها فقال تبارك وتعالى :
[سورة الفرقان (25) : الآيات 1 إلى 20]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4)
وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9)
تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14)
قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19)
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20)

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 421
تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً أي تعالى حل شأنه في ذاته وصفاته وأفعاله على أتم وجه وأبلغه كما يشعر به إسناد صيغة التفاعل إليه وهذا الفعل لا يسند في الأغلب إلى غيره تعالى ومثله - تعالى - ولا يتصرف فلا يجيء منه مضارع ولا أمر ولا ولا في الأغلب أيضا وإلا فقد قرأ أبي كما سيأتي إن شاء الله تعالى تباركت الأرض ومن حولها ، وجاء كما في الكشف تباركت النخلة أي تعالت ، وحكى الأصمعي أن أعرابيا صعد رابية فقال لأصحابه : تباركت عليكم ، وقال الشاعر :
إلى الجذع جذع النخلة المتبارك وقال الخليل : معنى تبارك تمجد ، وقال الضحاك : تعظم وهو قريب من قريب ، وعن الحسن والنخعي أن المعنى تزايد خيره وعطاؤه وتكاثر وهي إحدى روايتين عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ثانيتهما أن المعنى لم يزل ، ولا يزال وتحقيق ذلك أن تبارك من البركة وهي في الأصل مأخوذة من برك البعير وهو صدره ومنه برك البعير إذا ألقى بركه على الأرض واعتبر فيه معنى اللزوم فقيل براكاء الحرب وبركاؤها للمكان الذي يلزمه الابطال وسمي محبس الماء بركة كسدرة ثم أطلقت على ثبوت الخير الإلهي في الشيء ثبوت الماء في البركة ، وقيل : لما فيه ذلك الخير مبارك ولما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يحس وعلى وجه لا يحصى ولا يحصر قيل لكل ما يشاهده فيه زيادة غير محسوسة هو مبارك وفيه بركة فمن اعتبر معنى اللزوم كابن عباس بناء على الرواية الثانية عنه قال : المعنى لم يزل ولا يزال أو نحو ذلك ، ومن اعتبر معنى التزايد انقسم إلى طائفتين فطائفة جعلوه باعتبار كمال الذات في نفسها ونقصان ما سواها ففسروا ذلك بالتعالي ونحوه وطائفة جعلوه باعتبار كمال الفعل ففسروه بتزايد الخير وتكاثره ولا اعتبار للتغير المبني على اعتبار معنى اللزوم لقلة فائدة الكلام عليه وعدم مناسبة ذلك المعنى لما بعد ، ومن هنا ردد الجمهور المعنى بين ما ذكرناه أولا وما روي عن الحسن ومن معه وترتيب وصفه تعالى بقوله سبحانه : تَبارَكَ بالمعنى الأول على إنزاله جل شأنه الفرقان لما أنه ناطق بعلو شأنه سبحانه وسمو صفاته وابتناء أفعاله على أساس الحكم والمصالح وخلوها عن شائبة الخلل بالكلية وترتيب ذلك بالمعنى الثاني عليه لما فيه من الخير الكثير لأنه هداية ورحمة للعالمين ، وفيه ما ينتظم به أمر المعاش والمعاد وكلا المعنيين مناسب للمقام ورجح الأول بأنه أنسب به لمكان قوله تعالى : لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً فقد قال الطيبي في
اختصاص النذير دون البشير سلوك طريقة براعة الاستهلال

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 422
والإيذان بأن هذه السورة مشتملة على ذكر المعاندين المتخذين لله تعالى ولدا وشريكا الطاعنين فى كُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [النساء : 136] ، وهذا المعنى يؤيد تأويل تبارك بتزايد عن كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله جل وعلا لإفادته صفة الجلال والهيبة وإيذانه من أول الأمر بتعاليه سبحانه عما يقول الظالمون علوا كبيرا وهو من الحسن بمكان ، والْفُرْقانَ مصدر فرق الشيء وعنه إذا فصله ، ويقال أيضا كما ذكره الراغب فرقت بين الشيئين إذا فصلت بينهما سواء كان ذلك بفصل يدركه البصر أو بفصل تدركه البصيرة ، والتفريق بمعناه إلا أنه يدل على التكثير دونه ، وقيل إن الفرق في المعاني والتفريق في الأجسام والمراد به القرآن وإطلاقه علليه لفصله بين الحق والباطل بما فيه من البيان أو بين المحق والمبطل لما فيه من الإعجاز أو لكونه مفصولا بعضه عن بعض في نفسه أو في الإنزال حيث لم ينزل دفعة كسائر الكتب ، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يقوله الصوفية في ذلك فهو مصدر بمعنى الفاعل أو بمعنى المفعول ، ويجوز أن يكون ذلك من باب هي إقبال وإدبار فلا تغفل.
والمراد بعبده نبينا محمد صلّى اللّه عليه وسلم وإيراده عليه الصلاة والسلام بذلك العنوان لتشريفه والإيذان بكونه صلوات اللّه تعالى وسلامه عليه في أقصى مراتب العبودية والتنبيه على أن الرسول لا يكون إلا عبدا للمرسل ردا على النصارى ، وقيل : المراد بالفرقان جميع الكتب السماوية لأنها كلها فرقت بين الحق والباطل وبعبده الجنس الشامل لجميع من نزلت عليهم ، وأيد بقراءة ابن الزبير «على عباده» ، ولا يخفى ما في ذلك من البعد ، والمراد بالعباد في قراءة ابن الزبير الرسول عليه الصلاة والسلام وأمته ، والإنزال كما يضاف إلى الرسول صلّى اللّه عليه وسلم يضاف إلى أمته كما في قوله تعالى لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ [الأنبياء : 10 ، النور : 34] لأنه واصل إليهم ونزوله لأجلهم فكأنه منزل عليهم وإن كان إنزاله حقيقة عليه الصلاة والسلام ، وقيل المراد بالجمع هو صلّى اللّه عليه وسلّم وعبر عنه به تعظيما ، وضمير يكون عائد على عبده ، وقيل على الْفُرْقانَ وإسناد الإنذار إليه مجاز ، وقيل على الموصول الذي هو عبارة عنه تعالى ، ورجح بأنه العمدة المسند إليه الفعل والإنذار من صفاته عز وجل كما في قوله تعالى : إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ [الدخان : 3] وقيل على التنزيل المفهوم من نَزَّلَ والمتبادر إلى الفهم هو الأول وهو الذي يقتضيه ما بعد ، والنذير صفة مشبهة بمعنى منذر.
وجوز أن يكون مصدرا بمعنى إنذار كالنكير بمعنى إنكار وحكم الأخبار بالمصدر شهير ، والإنذار إخبار فيه تخويف ويقابله التبشير ولم يتعرض له لما مر آنفا ، والمراد بالعالمين عند جمع من العالمين الإنس والجن ممن عاصره صلّى اللّه عليه وسلم إلى يوم القيامة. ويؤيده قراءة ابن الزبير للعالمين للجن والإنس وإرساله صلّى اللّه عليه وسلم إليهم معلوم من الدين بالضرورة فيكفر منكره ، وكذا الملائكة عليهم السلام كما رجحه جمع محققون كالسبكي ومن تبعه ورد على من خالف ذلك ، وادعى بعضهم دلالة الآية عليه لأن العالم ما سوى الله تعالى وصفاته العلي فيشمل الملائكة عليهم السلام. وصيغة جميع العقلاء للتغليب أو جمع بعد تخصيصه بالعقلاء.
ومن قال كالبارزي : إنه عليه الصلاة والسلام أرسل حتى إلى الجمادات بعد جعلها مدركة لظاهر خبر مسلم وأرسلت إلى الخلق كافة لم يخصص ، واكتفى بالتغليب وفائدة الإرسال للمعصوم وغير المكلف طلب إذعانهما لشرفه عليه الصلاة والسلام ودخولهما تحت دعوته واتباعه تشريفا على سائر المرسلين عليهم السلام.
وتقديم الجار والمجرور على متعلقه للتشويق ومراعاة الفواصل وللحصر أيضا على القول الأول في العالمين ، وإبراز تنزيل الفرقان في معرض الصلة التي حقها أن تكون معلومة الثبوت للموصول عند السامع مع إنكار الكفرة له لإجرائه مجرى المعلوم المسلم تنبيها على قوة دلائله وكونه بحيث لا يكاد يجهله أحد كقوله تعالى : لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة : 2 ، وغيرها] وكذا يقال في نظائره من الصلات التي ينكرها الكفرة : وقال بعضهم : لا حاجة لما ذكر إذ يكفي

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 423
في الصلة أن تكون معلومة للسامع المخاطب بها ولا يلزم أن تكون معلومة لكل سامع ، والمخاطب بها هنا هو رسولا لله صلّى اللّه عليه وسلم وهو عليه الصلاة والسلام عالم بثبوتها للموصول ، وفي شرح التسهيل أنه لا يلزم فيها ، أن تكون معلومة وإن تعريف الموصول كتعريف أل يكون للعهد والجنس وأنه قد تكون صلته مبهمة للتعظيم كما في قوله :
فإن أستطع أغلب وأن يغلب الهوى فمثل الذي لاقيت يغلب صاحبه
وما ذكر أولا من تنزيلها منزلة المعلوم أبلغ لكونه كناية عما ذكر مناسبة للرد على من أنكر النبوة وتوحيد الله تعالى الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي له سبحانه خاصة دون غيره لا استقلالا ولا اشتراكا السلطان القاهر والاستيلاء الباهر عليهما المستلزم للقدرة التامة والتصرف الكلي فيما وفيما فيما إيجادا وإعداما وإحياء وإماتة وأمرا ونهيا حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح ، ومحل الموصول الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها أو على أنه نعت للموصول الأول أو بيان له أو بدل منه ، وما بينهما ليس بأجنبي لأنه من تمام الصلة ومتعلق بها فلا يضر الفصل به بين التابع والمتبوع كما في البحر أو محله الرفع أو النصب على المدح بتقدير هو أو أمدح.
واختار الطيبي أن محله الرفع على الإبدال وعلله بقوله لأن من حق الصلة أن تكون معلومة عند المخاطب وتك الصلة لم تكن معلومة عند المعاندين فأبدل الَّذِي لَهُ إلخ بيانا وتفسيرا وهو بعيد من مثله وسبحانه من لا يعاب عليه شيء وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً أي لم ينزل أحد منزلة الولد ، وقيل أي لم يكن له ولد كما يزعم الذين يقولون في حق المسيح وعزير والملائكة عليهم السلام ما يقولون فسبحان الله عما يصفون ، والجملة معطوفة على ما قبلها من الجملة الظرفية وكذا قوله تعالى : وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ أي ملك السماوات والأرض ، وأفرد بالذكر مع أن ما ذكر من اختصاص ملكهما به تعالى مستلزم له قطعا للتصريح ببطلان زعم الثنوية القائلين بتعدد الآلهة والرد في نحورهم وتسيط نفي اتخاذ الولد بينهما للتنبيه على استقلاله وأصالته والاحتراز عن توهم كونه تتمة للأول وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ أي أحدثه إحداثا جاريا على سنن التقدير والتسوية حسبما اقتضته إرادته المبنية على الحكم البالغة كخلقة الإنسان من مواد مخصوصة وصور وأشكال معينة فَقَدَّرَهُ أي هيأه لما أراد به من الخصائص والأفعال اللائقة به واستنباط الصنائع المتنوعة ومزاولة الأعمال المختلفة إلى غير ذلك فلا تكرار في الآية لما ظهر من أن التقدير الدال عليه الخلق بمعنى التسوية والمعبر عنه بلفظه بمعنى التهيئة وهما غيران والخلق على هذا على حقيقته ، ويجوز أن يكون الخلق مجازا بل منقولا عرفيا في معنى الإحداث والإيجاد غير ملاحظ فيه التقدير وإن لم يخل عنه ولهذا صح التجوز ويكون التصريح بالتقدير دلالة على أن كل واحد مقصود بالذات فكأنه قيل وأوجد كل شيء فقدره في إيجاده لم يوجده متفاوتا بل أوجده متناصفا متناسبا ، وقيل التقدير الثاني هو التقدير للبقاء إلى الأجل المسمى فكأنه قيل وأوجد كل شيء على سنن التقدير فأدامه إلى الأجل المسمى والقول
الأول مختار الزجاج وهو كما في الكشف أظهر والفاء عليه للتعقيب مع الترتيب.
وزعم بعضهم أن في الكلام قلبا وهو على ما فيه لا يدفع لزوم التكرار بدون أحد الأوجه المذكورة كما لا يخفى ، وجملة خَلَقَ إلخ عطف على ما تقدم وفيها رد على الثنوية القائلين بأن خالق الشر غير خالق الخير ولا يضر كونه معلوما مما تقدم لأنها تفيد فائدة جديدة لما فيها من الزيادة ، وقيل : هي رد على ما يعتقد اعتقاد المعتزلة في أفعال الحيوانات الاختيارية. وفي إرشاد العقل السليم أنها جارية مجرى العليل لما قبلها من الجمل المنتظمة في سلك الصلة فإن خلقه تعالى لجميع الأشياء على النمط البديع كما يقتضي استقلاله تعالى باتصافه بصفات الألوهية

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 424
يقتضي انتظام كل ما سواه كائنا ما كان تحت ملكوته القاهر بحيث لا يشذ من ذلك شيء ومن كان كذلك كيف يتوهم كونه ولدا له سبحانه أو شريكا في ملكه عز وجل ، وذكر الطيبي أن قوله تعالى : لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ توطئة وتمهيد لقوله سبحانه : لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وأردف بقوله تعالى : وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ لما أن كونه سبحانه بديع السموات والأرض وفاطرهما ومالكهما مناف لاتخاذ الولد والشريك قال تعالى :
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ [الأنعام : 101] الآية ، وقد يقال : إن هذه الجملة تصريح بما علم قبل ليكون التشنيع على المشركين بقوله سبحانه : وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أظهر ، وضمير اتَّخَذُوا للمشركين المفهوم من قوله تعالى : وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ أو من المقام ، وقوله سبحانه : نَذِيراً ، وقال الكرماني : للكفار وهم مندرجون في قوله تعالى : لِلْعالَمِينَ والمراد حكاية أباطيلهم في أمر التوحيد والنبوة وإظهار بطلانها بعد أن بين سبحانه حقيقة الحق في مطلع السورة الكريمة أي اتخذوا لأنفسهم متجاوزين الله تعالى الذي ذكر بعض شؤونه العظيمة آلهة لا يقدرون على خلق شيء من الأشياء وهم مخلوقون لله تعالى أو هم يختلقهم عبدتهم بالنحت والتصوير ، ورجح المعنى الأول بأن الكلام عليه أشمل ولا يختص بالأصنام بخلافه على الثاني ويكون التعبير بالمضارع عليه في يَخْلُقُونَ المبني للمفعول لمشاكلة يَخْلُقُونَ المبني للفاعل مع استحضار الحال الماضية ، ورجح المعنى الثاني بأنه أنسب بالمقام لأن الذين أنذرهم نبينا صلّى اللّه عليه وسلم شفاها عبدة الأصنام وأن الأحكام الآتية أوفق بها ، نعم فيه تفسير الخلق بالافتعال كما في قوله تعالى : وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً لأنه الذي يصح نسبته لغيره عز وجل وكذا الخلق بمعنى التقدير كما في قول زهير :
ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
والمتبادر منه إيجاد الشيء مقدرا بمقدار كما هو المراد من سابقه ، وتفسيره بذلك أيضا كما فعل الزمخشري بعيد كذا قيل : وتعقب أنه يجوز أن يراد منه هذا المتبادر والأصنام بذواتها وصورها وأشكالها مخلوقة لله تعالى عند أهل الحق لأن أفعال العباد وما يترتب عليها وينشأ منها من الآثار مخلوقة له عز وجل عندهم كما حقق بل لو قيل بتعين هذه الإرادة على ذلك الوجه لم يبعد ، وقوله تعالى : وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً لبيان حالهم بعد خلقهم ووجودهم ، والمراد لا يقدرون على التصرف في ضر ما ليدفعوه عن أنفسهم ولا في نفع ما حتى يجلبوه إليهم ، ولما كان دفع الضر أهم أفيد أولا عجزهم عنه وقيل : لِأَنْفُسِهِمْ ليدل على غاية عجزهم لأن من لا يقدر على ذلك في حق نفسه لأن لا يقدر عليه في حق غيره من باب أولى.
ومن خص الأحكام في الأصنام قال : إن هذا لبيان ما لم يدل عليه ما قبله من مراتب عجزهم وضعفهم فإن بعض المخلوقين العاجزين عن الخلق ربما يملك دفع الضر وجلب النفع في الجملة كالحيوان ، وقد يقال : التصرف في الضر والنفع بالدفع والجلب على الإطلاق ليس على الحقيقة إلا لله عز وجل كما ينبىء عنه قوله سبحانه لنبيه صلّى اللّه عليه وسلم : قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ [الأعراف : 188] وقوله تعالى : وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً أي لا يقدرون على التصرف في شيء منها بإماتة الأحياء وإحياء الموتى في الدنيا وبعثهم في الأخرى للتصريح بعجزهم عن كل واحد مما ذكر على التفصيل والتنبيه على أن الإله يجب أن يكون قادرا على جميع ذلك ، وتقديم الموت لمناسبة الضر المقدم وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ القائلون - كما أخرجه جمع عن قتادة - هم مشركو العرب لا جميع الكفار بقرينة ادعاء إعانة بعض أهل الكتاب له صلى الله تعالى عليه وسلم وقد سمي منهم في بعض الروايات النضر بن الحارث وعبد الله بن أمية ونوفل بن خويلد ، ويجوز أن يراد غلاتهم كهؤلاء ومن ضامهم ، وروي عن ابن عباس ما يؤيده ، وروي عن الكلبي ومقاتل أن

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 425
القائل هو النضر والجمع لمشايعة الباقين له في ذلك ، ومن خص ضمير اتَّخَذُوا بمشركي العرب وجعل الموصول هنا عبارة عنهم كلهم جعل وضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بما في حيز الصلة والإيذان بأن ما تفوهوا به كفر عظيم ، وفي كلمة هَذا حط لرتبة المشار إليه أي قالوا ما هذا إلا كذب مصروف عن وجهه افْتَراهُ يريدون أنه اخترعه رسولا لله صلى اللّه تعالى عليه وسلم ولم ينزل عليه الصلاة والسلام وَأَعانَهُ عَلَيْهِ أي على افترائه واختراعه (افترائه) أو على الإفك قَوْمٌ آخَرُونَ يعنون اليهود بأن يلقوا إليه صلى الله تعالى عليه وسلم أخبار الأمم الدارجة وهو عليه الصلاة والسلام يعبر عنها بعبارته ، وقيل : هم عداس ، وقيل : عائش مولى حويطبين عبد العزى ويسار مولى العلاء بن الحضرمي وجبر مولى عامر وكانوا كتابيين يقرؤون التوراة أسلموا وكان الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم يتعهدهم فقيل ما قيل ، وقال المبرد : عنوا بقوم آخرين المؤمنين لأن آخر لا يكون إلا من جنس الأول ، وفيه أن الاشتراك في الوصف غير لازم ألا ترى قوله تعالى : فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ [آل عمران : 13] فَقَدْ جاؤُ أي الذين كفروا كما هو الظاهر ظُلْماً منصوب بجاءوا فإن جاء وأتى يستعملان في معنى فعل فيتعديان تعديته كما قال الكسائي ، واختار هذا الوجه الطبرسي وأنشد قول طرفة :
على غير ذنب جئته غير أنني نشدت فلم أغفل حمولة معبد
وقال الزجاج : منصوب بنزع الخافض فهو من باب الحذف والإيصال ، وجوز أبو البقاء كونه حالا أي ظالمين ، والأول أولى ، والتنوين فيه للتفخيم أي جاؤوا بما قالوا ظلما هائلا عظيما لا يقادر قدره حيث جعلوا الحق البحت الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إفكا مفترى من قبل البشر وهو من جهة نظمه الرائق وطرازه الفائق بحيث لو اجتمعت الإنس والجن على مباراته لعجزوا عن الإتيان بمثل آية من آياته ومن جهة اشتماله على الحكم الخفية والأحكام المستتبعة للسعادات الدينية والدنيوية والأمور الغيبية بحيث لا تناله عقول البشر ولا تحيط بفهمه القوى والقدر ، وكذا التنوين في وَزُوراً أي وكذبا عظيما لا يبلغ غايته حيث قالوا ما لا احتمال فيه للصدق أصلا ، وسمي الكذب زورا لازوراره أي ميله عن جهة الحق والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها لكن لا على أنهما أمران متغايران حقيقة يقع أحدهما عقيب الآخر أو يحصل بسببه بل على أن الثاني عين الأول حقيقة وإنما الترتيب بحسب التغاير الاعتباري ، وقد لتحقيق ذلك المعنى فإن ما جاءه من الظلم والزور هو عين ما حكي عنهم لكنه لما كان مغايرا له في المفهوم وأظهر منه بطلانا رتب عليه بالفاء ترتيب اللازم على الملزوم تهويلا لأمره كما قاله شيخ الإسلام ، وقيل :
ضمير جاؤُ عائد على قوم آخرين ، والجملة من مقول الكفار وأرادوا أن أولئك المعينين جاؤوا ظلما بإعانتهم وزورا بما أعانوا به وهو كما ترى.
وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ بعد ما جعلوا الحق الذي لا محيد عنه إفكا مختلقا بإعانة البشر بينوا على زعمهم الفاسد كيفية الإعانة ، وتقدم الكلام في أساطير وهي خبر مبتدأ محذوف أي هذه أو هو أو هي أساطير ، وقوله تعالى :
اكْتَتَبَها خبر ثان ، وقيل : حال بتقدير قد. وتعقب بأن عامل الحال إذا كان معنويا لا يجوز حذفه كما في المغني ، وفيه أنه غير مسلم كما في شرحه ، وجوز أن يكون أَساطِيرُ مبتدأ وجملة اكْتَتَبَها الخبر ومرادهم كتبها لنفسه والاسناد مجازي كما في بنى الأمير المدينة ، والمراد أمر بكتابتها أو يقال حقيقة اكتتب أمر بالكتابة فقد شاع افتعل بهذا المعنى كاحتجم وافتصد إذا أمر بالحجامة والفصد ، وقيل قالوا ذلك لظنهم أنه يكتب حقيقة أو لمحض الافتراء عليه عليه الصلاة والسلام بناء على علمهم أنه لم يكن يكتب صلّى اللّه عليه وسلم ، وقيل : مرادهم جمعها من كتب الشيء جمعه والجمهور على الأول.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 426
وقرأ طلحة «اكتتبها» مبنيا للمفعول والأصل اكتتبها له كاتب فحذف اللام وأفضى الفعل إلى الضمير فصار اكتتبها إياه كاتب ثم حذف الفاعل لعدم تعلق الغرض العلمي بخصوصه فبنى الفعل للمفعول وأسند للضمير فانقلب مرفوعا مستترا بعد أن كان منصوبا بارزا ، وهذا مبني على جواز إقامة المفعول الغير الصريح مقام الفاعل مع وجود الصريح وهو هنا ضمير الأساطير وهو الذي ارتضاه الرضي وغيره ، وجمهور البصريين على عدم الجواز وتعين المفعول الصريح للإقامة فيقال عندهم : اكتتبته ، وعليه قول الفرزدق :
ومنا الذي اختير الرجال سماحة وجودا إذا ذهب الرياح الزعازع
بنصب الرجال وعلى الأول كان حق التركيب اختيره الرجال بالرفع فإن الأصل اختاره من الرجال مختار وظاهر أنه إذا عمل فيه ما تقدم يصير إلى ما ذكر فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ أي تلقى تلك الأساطير عليه بعد اكتتابها ليحفظها من أفواه من يمليها عليه من ذلك المكتتب لكونه أميا لا يقدر على أن يتلقاها منه بالقراءة فالإملاء الإلقاء للحفظ بعد الكتابة استعارة لا الإلقاء للكتابة كما هو المعروف حتى يقال : إن الظاهر العكس بأن يقال : أمليت عليه فهو يكتتبها أو المعنى أراد اكتتابها أو طلب كتابتها فأمليت عليه أي عليه نفسه أو على كاتبه فالإملاء حينئذ باق على ظاهره. وقرأ طلحة وعيسى تتلى بالتاء بدل الميم بُكْرَةً وَأَصِيلًا أي دائما أو قبل انتشار الناس وحين يأتون إلى مساكنهم وعنوا بذلك أنها تملى عليه خفية لئلا يقف الناس على حقيقة الحال ، وهذه جراءة عظيمة منهم قاتلهم اللّه تعالى أنى يؤفكون ، وعن الحسن أن اكْتَتَبَها إلخ من قول اللّه عزّ وجلّ يكذبهم به ، وإنما يستقيم أن لو افتتحت الهمزة في اكْتَتَبَها للاستفهام الذي هو في معنى الإنكار ، ووجهه أن يكون نحو قول حضرمي بن عامر وقد خرج يتحدث في مجلس قوم وهو في حلتين له فقال جزء بن سنان بن مؤلة : واللّه إن حضرميا لجذل بموت أخيه إن ورثه :
أفرح أن أرزأ الكرام وأن أورث زودا «1» شصايصا نبلا
من أبيات ، وحق للحسن على ما في الكشاف أن يقف على الأولين قُلْ لهم ردا عليهم وتحقيقا للحق أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وصفه تعالى بإحاطة علمه بجميع المعلومات الخفية والجلية المعلومة من باب أولى للإيذان بانطواء ما أنزله على أسرار مطوية عن عقول البشر مع ما فيه من التعريض بمجازاتهم بجناياتهم المحكية التي هي من جملة معلوماته تعالى أي ليس ذلك كما تزعمون بل هو أمر سماوي أنزله اللّه تعالى الذي لا يعزب عن علمه شيء من الأشياء وأودع فيه فنون الحكم والأسرار على وجه بديع لا تحوم حوله الافهام حيث أعجزكم قاطبة بفصاحته وبلاغته وأخبركم بمغيبات مستقبلة وأمور مكنونة لا يهتدي إليها ولا يوقف إلا بتوفيق اللّه تعالى العليم الخبير عليها ، وإذا أرادوا ببكرة وأصيلا خفية عن الناس ازداد موقع السر حسنا ، وأما التذييل بقوله تعالى :
إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً فهو للتنبيه على أنهم استوجبوا العذاب على ما هم عليه من الجنايات المحكية لكن أخر عنهم لما أنه سبحانه أزلا وأبدا مستمر على المغفرة والرحمة المستتبعتين للتأخير فكأنه قيل إنه جل وعلا متصف بالمغفرة والرحمة على الاستمرار فلذلك لا يعجل عقوبتكم على ما أنتم عليه مع كمال استيجابه إياها وغاية قدرته سبحانه عليها ولولا ذلك لصب عليكم العذاب صبا ، وذكر الطيبي أن فيه على هذا الوجه معنى التعجب كما في قوله تعالى : لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً [الفرقان : 21].
وجوز أن يكون الكلام كناية عن الاقتدار العظيم على عقوبتهم لأنه لا يوصف بالمغفرة والرحمة إلا القادر على
___________
(1) الشصائص جمع شصوص وهي القليلة اللبن والنبلا جمع نبيل ككرم في كريم الصغار وتطلق على الكبار ا ه منه.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 427
العقوبة ، وفي إيثارها تعيير لهم ونعي على فعلهم يعني أنكم فيما أنتم عليه بحيث يتصدى لعذابكم من صفته المغفرة والرحمة وليس بذاك ، وقال صاحب الفرائد : يمكن أن يقال : ذكر المغفرة والرحمة بعد ذلك لأجل أن يعرفوا أن هذه الذنوب العظيمة المتجاوزة عن الحد مغفورة إن تابوا وأن رحمته واصلة إليهم بعدها وأن لا ييأسوا من رحمته تعالى بما فرط منهم مع إصرارهم على ما هم عليه من المعاداة والمخاصمة الشديدة وهو كما ترى.
وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ إلخ نزلت في جماعة من كفار قريش
أخرج ابن أبي إسحاق وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحارث وأبا البحتري والأسود بن المطلب وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد اللّه بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاصي بن وائل ونبيه بن الحجاج ومنبه بن الحجاج اجتمعوا فقال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وكلموه وخاصموه حتى تعذروا منه فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فجاءهم عليه الصلاة والسلام فقالوا : يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر منك فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا وإن كنت تطلب الشرف فنحن نسودك وإن كنت تريد ملكا ملكناك فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : ما بي مما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن اللّه تعالى بعثني إليكم رسولا وأنزل عليّ كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه عليّ أصبر لأمر اللّه تعالى حتى يحكم اللّه عزّ وجلّ بيني وبينكم قالوا : يا محمد فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضنا عليك فما لنفسك سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك وسله أن يجعل لك جنانا وقصورا من ذهب وفضة تغنيك عما تبتغي فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : ما أنا بفاعل ما أنا بالذي يسأل ربه هذا وما بعثت إليكم بهذا ولكن اللّه تعالى بعثني بشيرا ونذيرا فأنزل اللّه تعالى في قولهم ذلك وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ
إلخ.
وقد سيق هنا لحكاية جنايتهم المتعلقة بخصوص المنزل عليه الفرقان بعد حكاية جنايتهم التي تتعلق بالمنزل ، وما استفهامية بمعنى إنكار الوقوع ونفيه في محل رفع على الابتداء والجار والمجرور بعدها متعلق بمحذوف خبر لها ، وقد وقعت اللام مفصولة عن هذا المجرور بها في خط الامام وهي سنة متبعة وعنوا بالإشارة والتعبير بالرسول الاستهانة والتهكم ، وجملة يَأْكُلُ الطَّعامَ حال من الرَّسُولِ والعامل فيها ما عمل في الجار من معنى الاستقرار وجوز أن يكون الجار والمجرور أي أي شيء وأي سبب حصل لهذا الزاعم أنه رسول حال كونه يأكل الطعام كما تأكل وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لابتغاء الأرزاق كما نفعله على توجيه الإنكار والنفي إلى السبب فقط مع تحقق المسبب الذي هو مضمون الجملة الحالية. ومن الناس من جوز جعل الجملة استئنافية والأولى ما ذكرنا ، ومرادهم استبعاد الرسالة المنافية لأكل الطعام وطلب المعاش على زعمهم فكأنهم قالوا : إن صح ما يدعيه فما باله لم تألف حاله حالنا وليس هذا إلا لعمههم وركاكة عقولهم وقصور أبصارهم على المحسوسات فإن تميز الرسل عليهم السلام عما عداهم ليس بأمور جسمانية وإنما هو بأمور نفسانية أعني ما جبلهم اللّه تعالى عليه من الكمال كما يشير إليه قوله تعالى : قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الكهف : 110] واستدل بالآية على إباحة دخول الأسواق للعلماء وأهل الدين والصلاح خلافا لمن كرهه لهم.
لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها تنزل عما تقدم

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 428
كأنهم قالوا : إن لم توجد المخالفة بيننا وبينه في الأكل والتعيش فهلا يكون معه من يخالف فيهما يكون ردءا له في الإنذار فإن لم توجد فهلا يخالفنا في أحدهما وهو طلب المعاش بأن يلقى إليه من السماء كنز يستظهر به ويرتفع احتياجه إلى التعيش بالكلية فإن لم يوجد فلا أقل من رفع الاحتياج في الجملة بإتيان بستان يتعيش بريعه كما للدهاقين والمياسير من الناس. والزمخشري ذكر أنهم عنوا بقولهم ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ أنه كان يجب أن يكون ملكا ثم نزلوا عن ملكيته إلى صحبة ملك له يعينه ثم نزلوا عن ذلك إلى كونه مرفودا بكنز ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون له بستان يأكل منه ويرتزق ، قيل الجملة الأخيرة فقط تنزل منهم وما قبل استئناف جوابا عما يقال كيف يخالف حاله صلّى اللّه عليه وسلم حالكم وبأي شيء يحصل ذلك ويتميز عنكم؟ ولا يخفى ما فيه ونصب فَيَكُونَ على جواب التحضيض ، وقرىء «فيكون» بالرفع حكاه أبو معاذ ، وخرج على أن يكون معطوف على أُنْزِلَ لأنه لو وقع موقعه المضارع لكان مرفوعا لأنك تقول ابتداء لولا ينزل بالرفع وقد عطف عليه يُلْقى وتَكُونُ وهما مرفوعان أو هو جواب التحضيض على إضمار هو أي فهو يكون ، ولا يجوز في مثل هذا التركيب نصب يُلْقى وتكون بالعطف على يكون المنصوب لأنهما في حكم المطلوب بالتحضيض لا في حكم الجواب.
ولعل التعبير أولا بالماضي مع أن الأصل في أولا التي للتحضيض أو العرض دخولها على المضارع لأن إنزال الملك مع قطع النظر عن أن يكون معه عليه الصلاة والسلام نذيرا أمر متحقق لم يزل مدعيا له صلّى اللّه عليه وسلم فما أخرجوا الكلام حسبما يدعيه عليه الصلاة والسلام وإن لم يكن مسلما عندهم ، وفيه نوع تهكم منهم قاتلهم اللّه تعالى بخلاف الإلقاء وحصول الجنة ، ولعل في التعبير بالمضارع فيهما وإن كان هو الأصل إشارة إلى الاستمرار التجددي كأنهم طلبوا شيئا لا ينفد. وذكر ابن هشام في المغني عن الهروي أنه قال بمجيء لولا للاستفهام ومثل له بمثالين أحدهما قوله تعالى :
لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ ، وتعقب ذلك بأنه معنى لم يذكره أكثر النحويين ، والظاهر أنها في المثال المذكور مثلها في قوله تعالى : لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ [النور : 13] ، وذكر أنها في ذلك للتوبيخ والتنديم وهي حينئذ تختص بالماضي ، ولا يخفى أنه إن عنى بقوله تعالى : لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ ما وقع هنا فأمر كونها فيه للتوبيخ والتنديم في غاية الخفاء فتدبر ، وقرأ قتادة والأعمش «أو يكون» بالياء آخر الحروف ، وقرأ زيد بن علي وحمزة والكسائي وابن وثاب وطلحة والأعمش «نأكل» بالنون إسنادا للفعل إلى ضمير الكفر القائلين ما ذكر وَقالَ الظَّالِمُونَ هم القائلون الأولون وإنما وضع المظهر موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بالظلم فيما قالوه لكونه إضلالا خارجا عن حد الضلال مع ما فيه من نسبته صلّى اللّه عليه وسلم إلى ما يشهد العقل والنقل ببراءته منه أو إلى ما لا يصلح أن يكون متمسكا لما يزعمون من نفي الرسالة ، وقيل : يحتمل أن يكون المراد ، وقال الكاملون في الظلم منهم وأيا ما كان فالمراد أنهم قالوا للمؤمنين إِنْ تَتَّبِعُونَ أي ما تتبعون إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً سحر فغلب على عقله فالمراد بالسحر ما به اختلال العقل ، وقيل :
أصيب سحره أي رئته فاختل حاله كما يقال مرؤوس أي أصيب رأسه ، وقيل : يسحر بالطعام وبالشراب أي يغذى أو ذا سحر أي رئة على أن مفعول للنسب وأرادوا أنه عليه الصلاة والسلام ، بشر مثلهم ، وقيل أي ذا سحر بكسر السين وعنوا - قاتلهم اللّه تعالى - ساحرا ، والأظهر على ما في البحر التفسير الأول ، وذكر أن هو الأنسب بحالهم انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ استعظام للأباطيل التي اجترءوا على التفوه بها وتعجيب منها أي انظر كيف قالوا في حقك الأقاويل العجيبة الخارجة عن العقول الجارية لغرابتها مجرى الأمثال واخترعوا لك تلك الصفات والأحوال الشاذة البعيدة من الوقوع فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا فبقوا متحيرين ضلالا لا يجدون في القدح في نبوتك قولا يستقرون عليه وإن كان باطلا في نفسه فالفاء الأولى سببية ومتعلق «ضلوا» غير منوي والفاء الثانية تفسيرية أو فضلوا عن طريق

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 429
الحق فلا يجدون طريقا موصلا إليه فإن من اعتاد استعمال هذه الأباطيل لا يكاد يهتدي إلى استعمال المقدمات الحقة فالفاء في الموضعين سببية ومتعلق «ضلوا» منوي ولعل الأول أولى ، والمراد نفي أن يكون ما أتوا به قادحا في نبوته صلّى اللّه عليه وسلم ونفى أن يكون عندهم ما يصلح للقدح قطعا على أبلغ وجه فإن القدح فيها إنما يكون في القدح بالمعجزات الدالة عليها وما أتوا به لا يفيد ذلك أصلا وأنى لهم بما يفيده.
تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً أي تكاثر خير الذي إن شاء وهب لك في الدنيا شيئا خيرا لك مما اقترحوه وهو أن يجعل لك مثل ما وعدك في الآخرة من الجنات والقصور كذا في الكشاف ، وعن مجاهد إن شاء جعل لك جنات الآخرة وقصورا في الدنيا ولا يخفى ما فيه ، وقيل : المراد إن شاء جعل ذلك في الآخرة ، ودخلت إِنْ على فعل المشيئة تنبيها على أنه لا ينال ذلك إلا برحمته تعالى وأنه معلق على محض مشيئته سبحانه وليس لأحد من العباد والعباد على اللّه عز وجل حق لا في الدنيا ولا في الآخرة ، والأول أبلغ في تبكيت الكفار والرد عليهم ، ولا يرد كما زعم ابن عطية قوله تعالى : بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ [الفرقان : 11] كما ستعلمه إن شاء اللّه تعالى ، والظاهر أن الإشارة إلى ما اقترحوه من الكنز والجنة وخيرية ما ذكر من الجنة لما فيه من تعدد الجنة وجريان الأنهار والمساكن الرفيعة في تلك الجنان بأن يكون في كل منها مسكن أو في كل مساكن ومن الكنز لما أنه مطلوب لذاته بالنسبة إليه وهو إنما يطلب لتحصيل مثل ذلك وهو أيضا أظهر في الأبهة وأملأ لعيون الناس من الكنز ، وعدم التعرض لجواب الاقتراح الأول لظهور منافاته للحكمة التشريعية وربما يعلم من كثير من الآيات كذا قيل.
وفي إرشاد العقل السليم أن الإشارة إلى ما اقترحوه من أن يكون له صلّى اللّه عليه وسلم جنة يأكل منها وجَنَّاتٍ بدل من خَيْراً محقق لخيريته مما قالوا لأن ذلك كان مطلقا عن قيد التعدد وجريان الأنهار ، وتعليق ذلك بمشيئته تعالى للإيذان بأن عدم الجعل لعدم المشيئة المبنية على الحكم والمصالح ، وعدم التعرض لجواب الاقتراحين الأولين للتنبيه على خروجهما عن دائرة العقل واستغنائهما عن الجواب لظهور بطلانهما ومنافاتهما للحكمة التشريعية وإنما الذي له وجه في الجملة هو الاقتراح الأخير فإنه غير مناف للحكمة بالكلية فإن بعض الأنبياء عليهم السلام قد أوتوا في الدنيا مع النبوة ملكا عظيما انتهى ، وهذا الذي ذكره في الإشارة جعله الإمام الرازي قول ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وما ذكر أولا استظهره أبو حيان وحكاه عن مجاهد ، وحكي عن ابن عباس أنها إشارة إلى ما عيروا به من أكل الطعام والمشي في الأسواق وقال : إنه بعيد ، وحكاه الإمام عن عكرمة وكأني بك تختار ما اختاره صاحب الإرشاد ، والظاهر أن يَجْعَلْ مجزوم فيكون معطوفا على محل الجزاء الذي هو جعل هو جزاء أيضا وقد جيء به جملة استقبالية على الأصل في الجزاء ، فقد ذكر أهل المعاني أن الأصل في جملتي إن الشرطية أن تكونا فعليتين استقباليتين لفظا كما أنهما مستقبلتان معنى ، والعدول عن ذلك في اللفظ لا يكون إلا لنكتة.
وكأن التعبير على هذا بالجملتين الماضويتين لفظا في إِنْ شاءَ جَعَلَ إلخ لزيادة تبكيت الكفار فيما اقترحوا من جنسه ، ولما لم يقترحوا ما هو من جنس جعل القصور لم يسلك فيه ذلك المسلك فتدبر ، وقيل : كان الظاهر نعد التعبير أولا في الجزاء بالماضي أن يعبر به هنا أيضا لكنه عدل إلى المضارع لأن جعل القصور في الجنان مستقبل بالنسبة إلى جعل الجنان ، ثم إن هذا العطف يقتضي عدم دخول القصور في الخير المبدل منه قوله سبحانه : جَنَّاتٍ وكان ما تقدم عن الكشاف بيان لحاصل المعنى بمعونة السياق ، وجوز أن يكون مرفوعا أدغمت لامه في لام لَكَ لكن إدغام المثلين إذا تحرك أولهما إنما هو مذهب أبي عمرو ، والذي قرأ بالتسكين من السبعة هو وحمزة والكسائي ونافع وفي رواية محبوب عنه أنه قرأ بالرفع بلا

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 430
إدغام وهي قراءة ابن عامر وابن كثير ومجاهد وحميد وأبي بكر ، والعطف على هذه القراءة واحتمال الإدغام عند ابن عطية على المعنى في جَعَلَ لأن جواب الشرط موضع استئناف ألا يرى أن الجملة من المبتدأ والخبر قد تقع موقع جواب الشرط. وقال الزمخشري : هو معطوف على جَعَلَ لأن الشرط إذا كان ماضيا جاز في جوابه الجزم والرفع كقول زهير في مدح هرم بن سنان :
وإن أتاه خليل «1» يوم مسغبة يقول لا غائب مالي ولا حرم
ومذهب سيبويه أن الجواب في مثل ذلك محذوف وأن المضارع المرفوع على نية التقديم ، وذهب الكوفيون ، والمبرد إلى أنه هو الجواب وأنه على حذف الفاء والتركيب عند الجمهور فصيح سائغ في النثر كالشعر ، وحكى أبو حيان عن بعض أصحابه أنه لا يجوز إلا في الضرورة إذ لم يجىء إلا في الشعر ، وتمام الكلام في تحقيق المذاهب في محله ، وقال الحوفي وأبو البقاء : الرفع على الاستئناف قيل وهو استئناف نحوي ، والكلام وعد له صلّى اللّه عليه وسلم بجعل تلك القصور في الآخرة ولذا عدل عن الماضي إلى المضارع الدال على الاستقبال ، وقيل : هو استئناف بياني كان قائلا يقول : كيف الحال في الآخرة؟ فقيل : يجعل لك فيها قصورا ، وجعل بعضهم على الاستئناف هذا الجعل في الدنيا أيضا على معنى إن شاء جعل لك في الدنيا جنات ويجعل لك في تلك الجنات قصورا إن تحققت الشرطية وهو كما ترى ، وقيل : الرفع بالعطف على تَجْرِي صفة بتقدير ويجعل فيها أي الجنات ، وليس بشيء ، وقرأ عبيد اللّه بن موسى وطلحة بن سليمان «ويجعل» بالنصب على إضمار أن ، ووجهه على ما نقل عن السيرافي أن الشرط لما كان غير مجزوم أشبه الاستفهام ، وقيل : لما كان غير واقع حال المشارطة أشبه النفي ، وقد ذكر النصب بعده سيبويه ، وقال إنه ضعيف ، وقيل : الفعل مرفوع وفتح لامه اتباعا للام لَكَ نظير ما قيل في قوله :
لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت حمامة في غصون ذات أوقال
من أنه فتح راء غير اتباعا لهمزة أن وهو أحد وجهين في البيت ، ونظير الآية في هذه القراءات قول النابغة :
فإن يهلك أبو قابوس يهلك ربيع الناس والشهر الحرام
ونأخذ بعده بذناب عيش أجبّ الظهر ليس له سنام
فإنه يروى في نأخذ الجزم والرفع والنصب بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ انتقال إلى حكاية نوع آخر من أباطيلهم متعلق بأمر المعاد وما قبل كان متعلقا بأمر التوحيد وأمر النبوة ولا يضر في ذلك العود إلى ما يتعلق بالكلام السابق ، واختلاف أساليب الحكاية لاختلاف المحكي ، وما ألطف تصدير حكاية ما يتعلق بالآخرة ببل الانتقالية. وقوله تعالى :
وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً إلخ لبيان ما لهم في الآخرة بسببه أي هيأنا لهم نارا عظيمة شديدة الاشتعال شأنها كيت وكيت بسبب تكذيبهم بها على ما يشعر به وضع الموصول موضع ضمير هم أو لكل من كذب بها كائنا من كان وهم داخلون في ذلك دخولا أوليا ، ووضع الساعة موضع ضميرها للمبالغة في التشنيع ، وهذا الاعتداد وإن كان ليس بسبب تكذيبهم بها خاصة بل يشاركه في السببية له ارتكابهم الأباطيل في أمر التوحيد وأمر النبوة إلا أنه لما كانت الساعة نفسها هي العلة القريبة لدخولهم السعير أشير بما ذكر إلى سببية التكذيب بها لدخولها ولم يتعرض للإشارة إلى سببية شيء آخر وقيل إن من كذب بالساعة صار كالاسم لأولئك المشركين والمكذبين برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم والمكذبين بالساعة أي الجامعين للأوصاف الثلاثة لأن التكذيب بها أخص صفاتهم القبيحة وأكثر دورانا على ألسنتهم
___________
(1) من الخلة بالفتح وهو الفقر ا ه منه. [.....]

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 431
إذ من الكفار من يشرك ويكذب برسول اللّه عليه الصلاة والسلام ولا يكذب بالساعة ، فالمراد من يكذب بالساعة أولئك الصنف من الكفرة وهو كما ترى.
وقيل : إن قوله تعالى : بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ عطف على قوله تعالى : قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ إلخ وإضراب عنه إلى ما هو أعجب منه على معنى أن ذلك تكذيب للرسول صلّى اللّه عليه وسلم وهذا تكذيب للّه سبحانه - وتعالى -
ففي صحيح البخاري عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : «قال اللّه تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك - إلى قوله تعالى - : فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان»
وظاهره أن أعجبية التكذيب بالساعة لأنه تكذيب للّه عز وجل ، وقال بعضهم : إن الأعجبية لأنهم أنكروا قدرة اللّه تعالى على الإعادة مع ما شاهدوه في الأنفس والآفاق وما ارتكز في أوهامهم من أن الإعادة أهون من الإبداء وليس ذلك لأنه تكذيب اللّه عز وجل فإنهم لم يسمعوا أمر الساعة إلا من النبي صلّى اللّه عليه وسلم فهو تكذيب له عليه الصلاة والسلام فيه ، وأنت تعلم أن في الحديث إشارة إلى ما ارتضاه.
وقيل : إضراب عن ذاك على معنى أتوا بأعجب منه حيث كذبوا بالساعة وأنكروها والحال أنا قد اعتدنا لمن كذب بها سعيرا فإن جراءتهم على التكذيب بها وعدم خوفهم مما أعد لمن كذب بها من أنواع العذاب أعجب من القول السابق. وتعقب بأنه لا نسلم كون الجراءة على التكذيب بالساعة أعجب من الجراءة على القول السابق بعد ظهور المعجزة ولا نسلم أن انضمام عدم الخوف مما يترتب عليه إذا كان ذلك الترتب في الساعة المكذب بها يفيد شيئا وفيه تأمل ، وقيل : هو إضراب عن ذاك على معنى أتوا بأعجب منه حيث كذبوا بالساعة التي أخبر بها جميع الأنبياء عليهم السلام فالجراءة على التكذيب بها جراءة على التكذيب بهم والجراءة على التكذيب بهم أعجب من الجراءة على القول السابق. وتعقب بأن مرادهم من القول السابق نفي نبوته عليه الصلاة والسلام وتكذيبه وحاشاه ثم حاشاه من الكذب في دعواه إياها لعدم مخالفة حاله صلّى اللّه عليه وسلم حالهم واتصافه بما زعموا منافاته للرسالة وذلك موجود ومتحقق في جميع الأنبياء عليهم السلام ، فتكذيبه صلّى اللّه عليه وسلم لذلك تكذيب لهم أيضا فلا يكون التكذيب بالساعة على ما ذكر أعجب من تكذيب النبي صلّى اللّه عليه وسلم لاشتراك التكذيبين في كونهما في حكم تكذيب الكل ، وقيل : هو متصل بقوله تعالى : تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ إلخ الواقع جوابا لهم والمنبئ عن الوعد بالجنات والقصور في الآخرة مسوق لبيان أن ذلك لا يجدي نفعا على طريقة قول من قال :
عوجوا لنعم فحيوا دمنة الدار ماذا تحيون من نؤي وأحجار
والمعنى أنهم لا يؤمنون بالساعة فكيف يقتنعون بهذا الجواب وكيف يصدقون بتعجيل مثل ما وعدك في الآخرة ، وقيل : إضراب عن الجواب إلى بيان العلة الداعية لهم إلى التكذيب ، والمعنى بل كذبوا بالساعة فقصرت أنظارهم على الحظوظ الدنيوية وظنوا أن الكرامة ليست إلا بالمال وجعلوا خلو يدك عنه ذريعة إلى تكذيبك ، وقوله تعالى : إِذا رَأَتْهُمْ إلى آخره صفة للسعير والتأنيث باعتبار النار ، وقيل لأنه علم لجهنم كما روي عن الحسن ، وفيه أنه لو كان كذلك لامتنع دخول أل عليه ولمنع من الصرف للتأنيث والعلمية.
وأجيب بأن دخول أل للمح الصفة وهي تدخل الإعلام لذلك كالحسن والعباس وبأنه صرف للتناسب ورعاية الفاصلة. أو لتأويله بالمكان وتأنيثه هنا للتفنن ، وإسناد الرؤية إليها حقيقة على ما هو الظاهر وكذا نسبة التغيظ والزفير فيما بعد إذ لا امتناع في أن يخلق اللّه تعالى النار حية مغتاظة زافرة على الكفار فلا حاجة إلى تأويل الظواهر الدالة على أن لها إدراكا كهذه الآية ، وقوله تعالى : يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق : 30] وقوله صلّى اللّه عليه وسلم كما في صحيح البخاري «شكت النار إلى ربها فقالت : رب أكل بعضي بعصا فأذن لها بنفسين نفس في الشاء ونفس

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 432
في الصيف»
إلى غير ذلك ، وإذا
صح ما أخرجه الطبراني وابن مردويه من طريق مكحول عن أبي أمامة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من بين عيني جهنم قالوا : يا رسول اللّه هل لجهنم من عين؟ قال : نعم أما سمعتم اللّه تعالى يقول : إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ فهل تراهم إلا بعينين»
كان ما قلناه هو الصحيح. وإسنادها إليها لا إليهم للإيذان بأن التغيظ والزفير منها لهيجان غضبها عليهم عند رؤيتها إياهم مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ هو أقصى ما يمكن أن يرى منه ، وروي أنه هنا مسيرة خمسمائة عام. وأخرج آدم بن أبي إياس في تفسيره عن ابن عباس أنه مسيرة مائة عام وحكي «1» ذلك عن السدي والكلبي وروي أيضا عن كعب ، وقيل :
مسيرة سنة وحكاه الطبرسي عن الإمام أبي عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنه
، ونسبه في إرشاد العقل السليم إلى السدي. والكلبي سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً أي صوت تغيظ ليصح تعلق السماع به. وفي مفردات الراغب الغيظ أشد الغضب والتغيظ هو إظهار الغيظ وقد يكون ذلك مع صوت مسموع كما في هذه الآية ، وقيل : أريد بالسماع مطلق الإدراك كأنه قيل : أدركوا لها تغظيا وَزَفِيراً هو إخراج النفس بعد مدة على ما في القاموس ، وقال الراغب : هو ترديد النفس حتى تنتفخ الضلوع منه وشاع استعماله في نفس صوت ذلك النفس ، ولا شبهة في أنه مما يتعلق به السماع ولذا استشكلوا تعلق السماع بالتغيظ دون الزفير فأولوا لذلك بما سمعت ، وقال بعضهم : إن ما ذكر من قبيل قوله :
ورأيت زوجك قد غدا متقلدا سيفا ورمحا
وهو بتقدير سمعوا لها وأدركوا تغيظا وزفيرا ويعاد كل إلى ما يناسبه. ومن الناس من قال : الكلام خارج مخرج المبالغة بجعل التغيظ مع أنه ليس من المسموعات مسموعا ، والتنوين فيه وفي زَفِيراً للتفخيم.
وقد جاء في الآثار ما يدل على شدة زفيرها أعاذنا اللّه تعالى منها ، ففي خبر أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عباس أنها تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف. وأخرج ابن المنذر وابن جرير وغيرهما عن عبيد بن عمير أنه قال في قوله تعالى : سَمِعُوا لَها إلخ : إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا ترعد فرائصه حتى أن إبراهيم عليه السلام ليجثو على ركبتيه ويقول : يا رب لا أسألك اليوم إلا نفسي. وأخرج أبو نعيم عن كعب قال : إذا كان يوم القيامة جمع اللّه تعالى الأولين والآخرين في صعيد واحد فنزلت الملائكة صفوفا فيقول اللّه تعالى لجبريل عليه السلام : ائت بجهنم فيأتي بها ثم تقاد بسبعين ألف زمام حتى إذا كانت من الخلائق على قدر مائة عام زفرت زفرة طارت لها أفئدة الخلائق ثم زفرت ثانية فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا لركبتيه ثم تزفر الثالثة فتبلغ القلوب الحناجر وتذهل العقول فيفزع كل امرئ إلى عمله حتى أن إبراهيم عليه السلام يقول : بخلتي لا أسألك إلا نفسي ويقول موسى عليه السلام : بمناجاتي لا أسألك إلا نفسي ويقول عيسى عليه السلام : بما أكرمتني لا أسألك إلا نفسي لا أسألك مريم التي ولدتني ومحمد صلّى اللّه عليه وسلم يقول : أمتي أمتي لا أسألك اليوم نفسي فيجيبه الجليل جلّ جلاله إن أوليائي من أمتك لا خوف عليهم ولا هم يحزنون فوعزتي لأقرن عينك ثم تقف الملائكة عليهم السلام بين يدي اللّه تعالى ينتظرون ما يؤمرون. وهذه الأخبار ظاهرة في أن النار هي التي تزفر وأن الزفير على حقيقته.
وزعم بعضهم أن زفيرها صوت لهيبها واشتعالها ، وقيل : إن كلّا من الرؤية والتغيظ والزفير لزبانيتها ونسبته إليها على حذف المضاف ونقل ذلك عن الجبائي ، وقيل : إن قوله تعالى : رَأَتْهُمْ من قوله صلّى اللّه عليه وسلم إن المؤمن والكافر لا تتراءى ناراهما وقولهم : دورهم تتراءى وتتناظر كان بعضها يرى بعضا على سبيل الاستعارة بالكناية والمجاز المرسل ،
___________
(1) حكاه الطبرسي في مجمع البيان ا ه منه.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 433
وجوز أن يكون من باب التمثيل ، وأيا ما كان فالمراد إذا كانت بمرأى منهم ، وقوله سبحانه : سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً على تشبيه صوت غليانها بصوت المغتاظ وزفيره وفيه استعارة تصريحية أو مكنية وجوز أن تكون تمثيلية ، وقد ذكر هذا التأويل الزمخشري مقدما له وذكر بعض الأئمة أن هذا مذهب المعتزلة لأنهم جعلوا البنية شرطا في الحياة.
وفي الكشف الأشبه أن ذلك ليس لأن البنية شرط ومن أين العلم بأن بنية نار الآخرة بحيث لا تستعد للحياة بل لأنه لا بد من ارتكاب خلاف الظاهر من جعل الشيء المعروف جماديته حيا ناطقا فكان خبرا على خلاف المعتاد أو الحمل على المجاز التمثيلي الشائع في كلامهم لا سيما في كلام اللّه تعالى ورسله عليهم السلام وإذ لاح الوجه فكن الحاكم في ترك الظاهر إلى هذا أو ذاك ، وفتح هذا الباب لا يجر إلى مذهب الفلاسفة كما توهم صاحب الانتصاف ولا يخالف تعبدنا بالظواهر فإن ما يدعونه أيضا ليس بظاهر انتهى ، وأنت تعلم بعد الإغماض عن المناقشة فيما ذكر أن الحمل على الحقيقة هنا أبلغ في التهويل ولعله يهون أمر الخبر على خلاف المعتاد وهذا إن لم يصح الخبر السابق أما إذا صح فلا ينبغي العدول عما يقتضيه وليس لأحد قول مع قوله صلّى اللّه عليه وسلم فإنه الأعلم بظاهر الكتاب وخافيه وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً أي في مكان فهو منصوب على الظرفية ومِنْها حال منه لأنه في الأصل صفة ، وجوز تعلقه بألقوا.
وقوله تعالى : ضَيِّقاً صفة لمكانا مقيدة لزيادة شدة الكرب مع الضيق كما أن الروح مع السعة وهو السر في وصف الجنة بأن عرضها السموات والأرض. وأخرج ابن أبي حاتم عن يحيى بن أسيد أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم سئل عن قوله تعالى : وَإِذا أُلْقُوا إلخ فقال : والذي نفسي بيده إنهم ليستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط
، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنها تضيق عليهم كما يضيق الزج في الرمح.
وقرأ الكلبي : الأسفلون يرفعهم اللهب والأعلون يحطهم الداخلون فيزدحمون ، وقرأ ابن كثير «ضيقا» بسكون الياء.
مُقَرَّنِينَ حال من ضمير أُلْقُوا أي إذا ألقوا منها مكانا ضيقا حال كونهم مقرنين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالجوامع ، وقيل : مقرنين مع الشياطين في السلاسل كل كافر مع شيطانه وفي أرجلهم الأصفاد ، وحكي عن الجبائي ، وقرأ أبو شيبة صاحب معاذ بن جبل «مقرنون» بالرفع ونسبها ابن خالويه إلى معاذ ، ووجهها على ما في البحر كونه بدلا من ضمير أُلْقُوا بدل نكرة من معرفة دَعَوْا هُنالِكَ أي في ذلك المكان الهائل ثُبُوراً أي هلاكا كما قال الضحاك وقتادة وهو مفعول دَعَوْا أي نادوا ذلك فقالوا : يا ثبوراه على معنى احضر فهذا وقتك ، وجعل غير واحد النداء بمعنى التمني فيتمنون الهلاك ليسلموا مما هو أشد منه كما قيل أشد من الموت ما يتمنى معه الموت.
وجوز أبو البقاء نصب ثُبُوراً على المصدرية لدعوا على معنى دعوا دعاء ، وقيل : على المصدرية لفعل محذوف ومفعول دَعَوْا مقدر أي دعوا من لا يجيبهم قائلين ثبرنا ثبورا وكلا القولين كما ترى ، ولا اختصاص لدعاء الثبور بكفرة الإنس فإنه يكون للشيطان أيضا.
أخرج أحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث بسند صحيح عن أنس قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم : إن أول من يكسى حلة من النار إبليس فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه وذريته من بعده وهو ينادي يا ثبوراه ويقولون يا ثبورهم حتى يقف على النار : فيقول يا ثبوراه ويقولون يا ثبورهم» الحديث ،
وفي بعض الروايات أن أول من يقول ذلك إبليس ثم يتبعه أتباعه ، وظاهره شمول الأتباع كفرة الإنس والجن ، ولا يتوهم اختصاص ذلك ببعض كفرة الإنس بناء على ما قيل : إن الآية نزلت في أبي جهل وأصحابه لما لا يخفى ، وقوله تعالى : لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً على تقدير قول إما منصوب على أنه حال من فاعل دَعَوْا أي دعوا مقولا لهم ذلك حقيقة كما هو الظاهر بأن تخاطبهم

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 434
الملائكة لتنبيههم على خلود عذابهم وأنهم لا يجابون إلى ما يدعونه أو لا ينالون ما يتمنونه من الهلاك المنجي أو تمثيلا لهم وتصويرا لحالهم بحال من يقال له ذلك من غير أن يكون هناك قول وخطاب كما قيل أي دعوه حال كونهم أحقاء بأن يقال لهم ذلك ، وإما لا محل له من الإعراب على أنه معطوف على ما قبله أي إذا ألقوا منها مكانا ضيقا دعوا «ثبورا» فيقال لهم : لا تدعوا إلخ ، أو على أنه مستأنف وقع جوابا عن سؤال مقدر ينسحب عليه الكلام كأنه قيل : فماذا يكون عند دعائهم المذكور؟ فقيل : يقال لهم ذلك ، والمراد به إقناطهم عما علقوا به أطماعهم من الهلاك وتنبيههم على أن عذابهم الملجئ لهم إلى ذلك أبدي لا خلاص لهم منه على أبلغ وجه حيث أشار إلى أن المخلص مما هم فيه من العذاب عادة غير مخلص وما يخلص غير ممكن فكأنه قيل : لا تدعوا اليوم هلاكا واحدا فإنه لا يخلصكم وَادْعُوا ثُبُوراً وهلاكا كَثِيراً لا غاية لكثرته لتخلصوا به وأنى بالهلاك الكثير.
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد
وهذا معنى دقيق لم أعلم أن أحدا ذكره ، وقيل : وصف الثبور بالكثرة باعتبار كثرة الألفاظ المشعرة به فكأنه قيل : لا تقولوا يا ثبوراه فقط وقولوا يا ثبوراه يا هلاكاه يا ويلاه يا لهفاه إلى غير ذلك وهو كما ترى.
وقال شيخ الإسلام : وصفه بذلك بحسب كثرة الدعاء المتعلق به لا بحسب كثرته في نفسه فإن ما يدعونه ثبور واحد في حد ذاته لكنه كلما تعلق به دعاء من تلك الأدعية الكثيرة صار كأنه ثبور مغاير لما تعلق به دعاء آخر ، وتحقيقه لا تدعوه دعاء واحدا وادعوه أدعية كثيرة فإن ما أنتم فيه من العذاب لغاية شدته وطول مدته مستوجب لتكرير الدعاء في كل آن ، ثم قال : وهذا أدل على فظاعة العذاب وهو له من جعل تعدد الدعاء وتجدده لتعدد العذاب بتعدد أنواعه وألوانه أو لتعدده بتجدد الجلود كما لا يخفى ، وأما ما قيل من أن المعنى إنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحدا إنما هو ثبور كثير إما لأن العذاب أنواع وألوان كل نوع منها ثبور لشدته وفظاعته أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا جلودا غيرها فلا غاية لهلاكهم فلا يلائم المقام كيف وهم إنما يدعون هلاكا ينهي عذابهم وينجيهم منه فلا بد أن يكون الجواب إقناطا لهم عن ذلك ببيان استحالته ودوام ما يوجب استدعاءه من العذاب الشديد انتهى ، وتعقب القول بأن وصف الثبور بالكثرة بحسب كثرة الدعاء بأنه لا يناسب النظم وكذا كونه بحسب كثرة الألفاظ المشعرة بالثبور لأنه كان الظاهر أن يقال دعاء كثيرا ، وأما قوله : وأما ما قيل إلخ فهو لا يخلو عن بحث فتأمل.
وحكى علي بن عيسى ما ثبرك عن هذا الأمر أي ما صرفك عنه ، وجوز أن يكون الثبور في الآية من ذلك كأنهم ندموا على ما فعلوا فقالوا : واصرفاه عن طاعة اللّه تعالى كما يقال : واندماه فأجيبوا بما أجيبوا ، وتقييد النهي والأمر باليوم لمزيد التهويل والتفظيع والتنبيه على أنه ليس كسائر الأيام المعهودة التي يخلص من عذابها ثبور واحد ، ويجوز أن يكون ذلك لتذكيرهم بالساعة التي أصابهم ما أصابهم بسبب التكذيب بها ففيه زيادة إيلام لهم ، وقرأ عمر بن محمد «ثبورا» بفتح الثاء في ثلاثتها وفعول بفتح الفاء في المصادر قليل نحو القفول.
قُلْ تقريعا لهم وتهكما بهم وتحسيرا على ما فاتهم أَذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من السعير باعتبار اتصافها بما فصل من الأحوال الهائلة فإنها التي كثيرا ما تقابل بالجنة ، وما فيه من معنى البعد للإشعار بكونها في الغاية القاصية من الهول والفظاعة ، وقيل : إشارة إلى ما ذكر من الجنة والكنز في قولهم : أو يلقى إليه كنز إلخ.
وقيل : إلى الجنة والقصور المجعولة في الدنيا على تقدير المشيئة وكلا القولين لا يعول عليهما لا سيما الأخير أي ذلك الذي ذكر من السعير التي اعتدت لمن كذب بالساعة وشأنها كيت وكيت وشأن أهلها ذيت ذيت خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أي وعدها المتقون لأن وعد تتعدى لمفعولين وهذا المحذوف هو العائد على

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 435
الموصول وإضافة الجنة إلى الخلد إن كانت نسبة الإضافة معلومة للمدح فإن المدح يكون بما هو معلوم ، وإن لم تكن معلومة فلإفادة خلود الجنة ، ولا يخدشه قوله تعالى : خالِدِينَ بعد لأنه للدلالة على خلود أهلها لا خلودها في نفسها وإن تلازما أو أن ذلك للتمييز عن جنات الدنيا ، وقيل : إن جنة الخلد علم كجنة عدن ، والمراد بالمتقين المتصفون بمطلق التقوى لا بالمرتبة الثانية أو الثالثة منها فقط ، ويدل عليه مقابلتهم بالكافرين في النظم الكريم ، وقيل :
يجوز أن يراد الكاملون في التقوى ووعدها إياهم وعد دخولها ابتداء دون سبق عذاب وهو مختص بهم وليس بذاك ، والترديد والتفضيل في خَيْرٌ مع أنه لا شك في أنه لا خيرية في السعير للتهكم والتقريع كما أشرنا إليه.
وقال ابن عطية : حيث كان الكلام استفهاما جاز فيه مجيء لفظة التفضيل بين الجنة والسعير في الخير لأن الموقف جائز له أن يوقف محاوره على ما شاء ليرى هل يجيبه بالصواب أو بالخطأ ، وإنما منع سيبويه وغيره من التفضيل إذا كان الكلام خبرا لأن فيه مخالفة الواقع ، وأما إذا كان استفهاما فذلك سائغ ، وقال أبو حيان : إن خَيْرٌ هنا ليس للدلالة على الأفضلية بل هو على ما جرت به عادة العرب في بيان فضل الشيء وخصوصيته بالفضل دون مقابله كقول حسان : «فشركما لخيركما الفداء». وقولهم : الشقاء أحب إليك أم السعادة والعسل أحلى من الخل ، وقوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ [يوسف : 33] ولا اختصاص لذلك في استفهام أو خبر.
وما ذكر من أمثلة الخبر يرد على ابن عطية إلا أن يقيد الخير الذي ادعى منع سيبويه فيه بما لم يكن الحكم فيه واضحا أما إذا كان الحكم فيه واضحا للسامع بحيث لا يختلج في ذهنه ولا يتردد في الأفضل فإن التفضيل يجوز فيه ، وقد تقدم تحقيق الكلام في هذا المقام وما أشرنا إليه هنا أولى بالاعتبار مما أشار ابن عطية وأبو حيان إليه.
كانَتْ تلك الجنة لَهُمْ أي في علم اللّه تعالى أو في اللوح أو المراد تكون على أنه وعد من أكرم الأكرمين عبر عنه بالماضي على طريق الاستعارة لتحقق وقوعه فإنه سبحانه لا يخلف الميعاد ، وجوز أن يكون هذا باعتبار تقدم وعده تعالى في كتبه وعلى لسان رسله عليهم الصلاة والسلام إياهم بها جَزاءً على أعمالهم بمقتضى الوعد لا بالإيجاب وَمَصِيراً ينقلبون إليه ، ولم يكتف بقوله تعالى : كانَتْ لَهُمْ جَزاءً لعدم استلزامه ذلك فقد يثيب الملك في الدنيا إنسانا ببستان مثلا ولا يراه فضلا عن أن يسكن فيه ، وجملة كانَتْ لَهُمْ إلخ على ما ذكره الطبرسي في موضع الحال من الضمير المحذوف العائد على الموصول في وُعِدَ الْمُتَّقُونَ بتقدير قد أو بدونه ، وجوز أن تكون بدلا من وُعِدَ الْمُتَّقُونَ وتفسيرا له ، وأن تكون استئنافا في موضع التعليل.
وذكر الزمخشري ما يشعر بأن هذه الجملة تذييل لتذكير النعمة بما خولهم اللّه تعالى وطيب عيشهم في ذلك المكان الرافع على وجه يتضمن ضد ذلك لأضدادهم فكأنه قيل : كانت لهم جزاء موفورا لا يدخل تحت الوصف ومصيرا أي مصيرا لا يقادر قدره وليس كمصير الكفرة المشار إليه بقوله سبحانه : وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً ويعلم منه فائدة ذكر المصير مع ذكر الجزاء فتأمل ، وقوله سبحانه : لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ قيل استئناف وقع جوابا لسؤال نشأ مما قبله حيث أفاد أن الجنة مسكن لهم والساكن في دار يحتاج إلى أشياء كثيرة لتطيب نفسه بسكناها فكأن سائلا يقول : ما لهم إذا صاروا إليها وسكنوا فيها؟ فقيل لهم فيها ما يشاؤون ، وقال الطبرسي : الجملة في موضع الحال من قوله تعالى : الْمُتَّقُونَ وما موصولة مبتدأ أو العائد محذوف ولَهُمْ خبره وفِيها متعلق بما تعلق به أي كائن لهم فيها الذي يشاؤونه من فنون الملاذ والمشتهيات وأنواع النعيم الروحاني والجسماني ، ولعل كل فريق منهم يقتنع بما أبيح له من درجات النعيم ويرى ما هو فيه ألذ الأشياء ولا تمتد أعناق هممهم إلى ما فوق ذلك من المراتب العالية ولا يخطر بباله ما يخطر طلبه ولا يتأتى له فلا يشاء آحاد المؤمنين رتبة الأنبياء عليهم السلام ولا يتعرضون

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 436
للشفاعة لمن كتب عليه الخلود في النار مثلا فلا يلزم الحرمان ولا تساوي مراتب أهل الجنان ، وعلى ضد هؤلاء فيما ذكر أهل النار فقد قال سبحانه فيهم : وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ [سبأ : 54].
خالِدِينَ حال من أحد ضمائرهم على ما قيل وظاهره عدم الترجيح ، وقال بعض الأفاضل : جعله حالا من الأول يقتضي كونها حالا مقدرة ومن الثالث يوهم تقييد المشيئة بها فخير الأمور أوسطها ، ورجح بعضهم الثالث لقربه والتقييد غير مخل بل مهم ، وجوز كونها حالا من المتقين ولا يخفى حاله ، ولبعض الأجلة هاهنا كلام فيه بحث ذكره الحمصي في حواشي التصريح فليراجع كانَ أي الوعد بما ذكر أو الموعود المفهوم من الكلام فيشمل الوعد بالجنة وبحصول ما يشاؤون لهم فيها وبالخلود على الأول والجنة وحصول المرادات والخلود الموعود بها على الثاني ، وقال بعضهم : الضمير للخلود ، وآخر لحصول ما يشاؤون لهم فيها أوله ولكون الجنة جزاء ومصيرا ، والإفراد باعتبار ما ذكر ويغني عنه ما سمعت ، والأكثرون على أنه لما يشاؤون وهو اسم كان وقوله تعالى : عَلى رَبِّكَ متعلق بها أو بمحذوف وقع حالا من قوله سبحانه : وَعْداً وهو خبرها ، ولم يجوز تعلق الجار به سواء كان باقيا على مصدريته أو مؤولا باسم المفعول أي موعودا لما علمت من الخلاف في مرجع الضمير بناء على منع تقديم معمول المصدر عليه وإن كان مؤولا بغيره أو كان المقدم ظرفا وفيه خلاف ، وجوز أن يكون عَلى رَبِّكَ متعلقا بمحذوف هو الخبر ووَعْداً مصدرا مؤكدا ، والأظهر أن يجعل هو الخبر أي كان ذلك وعدا أو موعودا مَسْؤُلًا أي حقيقيا أن يسأل ويطلب لكونه مما يتنافس فيه المتنافسون أو سببا لحصول ذلك فمسؤوليته كناية عن كونه أمرا عظيما ويجوز أن يراد كون الموعود مسؤولا حقيقة بمعنى يسأله الناس في دعائهم بقولهم : رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ [آل عمران : 194] ، وقال سعيد بن أبي هلال : سمعت أبا حازم رضي اللّه تعالى عنه يقول : إذا كان يوم القيامة يقول المؤمنون : ربنا عملنا لك بما أمرتنا فانجز لنا ما وعدتنا فذلك قوله تعالى : وَعْداً مَسْؤُلًا.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد هذا عن محمد بن كعب القرظي أنه قال في الآية : إن الملائكة عليهم السلام لتسأل ذلك في قولهم : رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ [غافر : 8] والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لتشريفه صلّى اللّه عليه وسلم والإشعار بأنه عليه الصلاة والسلام هو الفائز بمغانم الوعد الكريم. واستشكلت الآية على مذهب الإشارة لأنها تدل على الوجوب على اللّه تعالى لمكان «على» وعندهم لا يجب عليه سبحانه شيء لاستلزام ذلك سلب الاختيار وعدم استحقاق الحمد ، وأجيب بأن الوجوب الذي تدل عليه الآية وجوب بمقتضى الوعد والممتنع إيجاب الإلجاء والقسر من خارج لأنه السالب للاختيار الموجب للمفسدة دون إيجابه تعالى على نفسه شيئا بمقتضى وعده وكرمه فإنه مسبوق بالإرادة والوجوب الناشئ من الإرادة لا ينافي الاختيار ، وهذا ظاهر إذا كان الوعد حادثا وأما إذا كان قديما فالسابقية والمسبوقية بحسب الذات وذلك لا يستلزم الحدوث ، أو يقال : الحادث بالإرادة تعلقه بالموعود به فافهم وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ نصب على أنه مفعول لمضمر مقدم معطوف على قوله تعالى : قُلْ أَذلِكَ إلخ أي قيل لهم ذلك واذكر لهم بعد التقريع والتحسير يوم يحشرهم اللّه عز وجل ، والمراد تذكيرهم بما فيه من الحوادث الهائلة على ما سمعت في نظائره أو على أنه ظرف لمضمر مؤخر قد حذف للتنبيه على كمال هوله وفظاعة ما فيه والإيذان بأن العبارة لا تحيط ببيانه أي ويوم يحشرهم يكون من الأحوال والأهوال ما لا يفي ببيانه المقال.
وقرأ الحسن وطلحة وابن عامر وكثير من السبعة «نحشرهم» بنون العظمة بطريق الالتفات من الغيبة إلى التكلم.
وقرأ الأعرج «يحشرهم» بكسر الشين ، قال صاحب اللوامح : في كل القرآن وهو القياس في الأفعال المتعدية الثلاثية لأن

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 437
يفعل بضم العين قد يكون من اللازم الذي هو فعل بضمها في الماضي ، وقال ابن عطية : وهي قليلة في الاستعمال قوية في القياس لأن يفعل بكسر العين في المتعدي أقيس من يفعل بضم العين ، وفيه كلام ذكره أبو حيان في البحر وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عطف على مفعول يَحْشُرُهُمْ وليست الواو للمعية وجوز ذلك أبو البقاء ، والمراد بالموصول عند الضحاك وعكرمة والكلبي الأصنام بناء أن السياق فيها وينطقها اللّه تعالى الذي لا يعجزه شيء ، وقيل : تتكلم بلسان الحال وليس بذاك.
وأخرج جماعة عن مجاهد أن المراد به الملائكة وعيسى وعزيز وأضرابهم من العقلاء الذين عبدوا من دون اللّه سبحانه وتعالى وهو قول الجمهور على ما في البحر لأن السؤال والجواب يقتضيانه لاختصاصهما بالعقلاء عادة وإن كان الجماد ينطق يومئذ ، وجاء فيما يشبه الاستفهام الآتي النص عليهم نحو قوله تعالى : ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ [سبأ : 40] وقوله سبحانه : أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة :
116] والظاهر أن المراد - بما - على هذا القول العقلاء المعبودون الذين ليس منهم إضلال كالملائكة والأنبياء عليهم السلام لا ما يشملهم ولشياطين مثلا فإن الجواب يأبى ذلك بظاهره كما يخفى وأطلقت ما على العقلاء إما على أنها تطلق عليهم حقيقة أو مجازا أو باعتبار الوصف كأنه قيل : أو معبوديهم ، وقال بعض الأجلة : المراد ما يعم العقلاء وغيرهم إما لأن كلمة ما موضوعة للكل كما ينبىء عنه أنك إذا رأيت شبحا من بعيد تقول : ما هو؟ أو لأنه أريد بها الوصف فلا تختص حينئذ بغير العقلاء كما إذا أريد بها الذات أو لتغليب الأصنام على غيرها تنبيها على بعدهم عن استحقاق العبادة وتنزيلهم في ذلك منزلة من لا علم له ولا قدرة أو اعتبارا لغلبة عبدتها وكثرتهم فَيَقُولُ أي اللّه عز وجل للمعبودين من دونه أثر حشر الكل تقريعا للعبدة وتبكيتا لهم.
وقرأ الحسن وطلحة وابن عامر «فنقول» بنون العظمة أيضا ، ومن قرأ ممن عداهم هناك بالنون وهنا بالياء كان على قراءته هنا التفاتا من التكلم إلى الغيبة ، وفي نون العظمة هناك إشارة إلى أن الحشر أمر عظيم.
أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ بأن دعوتموهم إلى عبادتكم وإضافة عِبادِي قيل للترحم أو لتعظيم جرمهم لعبادة غير خالقهم أو لتعظيم أمر إضلالهم بدعوتهم إلى عبادتهم مع كونهم عبادا للّه عز وجل وهؤُلاءِ بدل منه ، وجوز أن يكون نعتا له أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ أي عن السبيل بأنفسهم لإخلالهم بالنظر الصحيح وإعراضهم عن المرشد من كتاب أو رسول فحذف الجار وأوصل الفعل إلى المفعول كقوله تعالى : وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب :
4] والأصل إلى السبيل أو للسبيل.
وذكر بعض الأجلة أنه لم يقل عن السبيل للمبالغة فإن ضله بمعنى فقده وضل عنه بمعنى خرج عنه. والأول أبلغ لأنه يوم أنه لا وجود له رأسا ، وتقديم الضميرين على الفعلين لما أن المراد بالسؤال التقريعي هو المتصدي للفعل لا نفسه قالُوا استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية السؤال كأنه قيل : فماذا قالوا في الجواب؟ فقيل قالوا :
سُبْحانَكَ وكان الظاهر أن يعبر بالمضارع لكان (يقول) أولا ، وكأن العدول إلى الماضي للدلالة على تحقق التنزيه والتبرئة وأنه حالهم في الدنيا ، وقيل : للتنبيه على أن إجابتهم بهذا القول هو محل الاهتمام فإن بها التبكيت والإلزام فدل بالصيغة على تحقق وقوعها ، وسبحان إما للتعجب مما قيل لهم إما لأنهم جمادات لا قدرة لها على شيء أو لأنهم ملائكة أو أنبياء معصومون أو أولياء عن مثل ذلك محفوظون وإمّا هو كناية عن كونهم موسومين بتسبيحه تعالى وتوحيده فكيف يتأتى منهم إضلال عباده وإمّا هو على ظاهره من التنزيه والمراد تنزيهه تعالى عن الأضداد ، وهو

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 438
على سائر الأوجه جواب إجمالي إلا أن في كونه كذلك على الأخير نوع خفاء بالنسبة إلى الأولين ، وقوله تعالى : ما كانَ يَنْبَغِي لَنا إلخ كالتأكيد لذلك والتفصيل له.
وجعل الطيبي قولهم : سُبْحانَكَ توطئة وتمهيدا للجواب لقولهم : ما كانَ إلخ أي ما صح وما استقام لنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ أي أولياء على أن مِنْ مزيدة لتأكيد النفي. ويحسن زيادتها بعد النفي والمنفي وإن كان كانَ لكن هذا معمول معمولها فينسحب النفي عليه. والمراد نفي أن يكونوا هم مضليهم على أبلغ وجه كأنهم قالوا : ما صح وما استقام لنا أن نتخذ متجاوزين إياك أولياء نعبدهم لما بنا من الحالة المنافية له فأنى يتصور أن نحمل غيرنا على أن يتخذ وليا غيرك فضلا أن يتخذونا وليا ، وجوز أن يكون المعنى ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك أتباعا فإن الولي كما يطلق على المتبوع يطلق على التابع ومنه أولياء الشيطان أي أتباعه وقرأ أبو عيسى الأسود القارئ «ينبغى» بالبناء للمفعول. وقال ابن خالويه : زعم سيبويه أن ذلك لغة.
وقرأ أبو الدرداء وزيد بن ثابت وأبو رجاء ونصر بن علقمة وزيد بن علي وأخوه الباقر رضي اللّه تعالى عنهما ومكحول والحسن وأبو جعفر وحفص بن عبيد والنخعي والسلمي وشيبة وأبو بشر والزعفراني «يتّخذ» مبنيا للمفعول.
وخرج ذلك الزمخشري على أنه من اتخذ المتعدي إلى مفعولين والمفعول الأول ضمير المتكلم القائم مقام الفاعل والثاني مِنْ أَوْلِياءَ ومن تبعيضية لا زائدة أي أن يتخذونا بعض الأولياء ، ولم يجوز زيادتها بناء على ما ذهب إليه الزجاج من أنها لا تزاد في المفعول الثاني ، وعلله في الكشف بأنه محمول على الأول يشيع بشيوعه ويخص كذلك ، ومراده أنه إذا كان محمولا لا يراد صدقه على غيره فيشيع ويخص كذلك في الإرادة فلا يرد زيد حيوان فإن المحمول باق على عمومه مع خصوص الموضوع ، وقيل : مراده أن الاختلاف لا يناسب مع إمكان الاتحاد والمثال ليس كذلك. والزمخشري لما بنى كلامه على ذلك المذهب والتزم التبعيض جاء الإشكال في تنكير أَوْلِياءَ فأجاب بأنه للدلالة على الخصوص وامتيازهم بما امتازوا وهو للتنويع على الحقيقة.
وقال السجاوندي : المعنى ما ينبغي لنا أن نحسب من بعض ما يقع عليه اسم الولاية فضلا عن الكل فإن الولي قد يكون معبودا ومالكا وناصرا ومخدوما. والزجاج خفي عليه أمر هذه القراءة على مذهبه فقال : هذه القراءة خطأ لأنك تقول : ما اتخذت من أحد وليا ولا يجوز ما اتخذت أحدا من ولي لأن من إنما دخلت لأنها تنفي واحدا في معنى جميع ويقال : ما من أحد قائما وما من رجل محبا لما يضره ولا يقال : ما قائم من أحد وما رجل من محب لما يضره ولا وجه عندنا لهذا البتة ولو جاز هذا لجاز في فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة : 47] ما منكم أحد عنه من حاجزين. وأجاز الفراء هذه القراءة عن ضعف وزعم أن مِنْ أَوْلِياءَ هو اسم وما في نَتَّخِذَ هو الخبر كأنه يجعله على القلب انتهى.
ونقل صاحب المطلع عن صاحب النظم أنه قال : الذي يوجب سقوط هذا القراءة أن من لا تدخل إلا على مفعول لا مفعول دونه نحو قوله تعالى : ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ [مريم : 35] فإذا كان قبل المفعول مفعول سواه لم يحسن دخولها كما في الآية على هذه القراءة. ولا يخفى عليك أن في الإقدام على القول بأنها خطأ أو ساقطة مع روايتها عمن سمعت من الأجلة خطرا عظيما ومنشأ ذلك الجهل ومفاسده لا تحصى. وذهب ابن جني إلى جواز زيادة من في المفعول الثاني فيقال : ما اتخذت زيدا من وكيل على معنى ما اتخذته وكيلا أي وكيل كان من أصناف الوكلاء. ومعنى الآية على هذا المنوال ما ينبغي لنا أن يتخذونا من دونك أولياء أي أولياء أي ما يقع عليه اسم الولاية.
وجوز أن يكون «نتخذ» على هذه القراءة مما له مفعول واحد ومِنْ دُونِكَ صلة ومِنْ أَوْلِياءَ حال ومِنْ

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 439
زائدة وعزا هذا في البحر إلى ابن جني. وجوز بعضهم كون «نتخذ» في القراءة المشهورة من اتخذ المتعدي لمفعولين ، وجعل أبو البقاء على هذا «من أولياء» المفعول الأول بزيادة من مِنْ دُونِكَ المفعول الثاني وعلى كونه من المتعدي لواحد يكون هذا حالا.
وقرأ الحجاج «أن نتخذ من دونك أولياء» فبلغ عاصما فقال : مقت المخدج أو ما علم أن فيها من. وقوله تعالى : وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ إلخ استدراك مسوق لبيان أنهم هم الضالون بعد بيان تنزههم عن إضلالهم على أبلغ وجه كما سمعت ، وقد نعي عليهم سوء صنيعهم حيث جعلوا أسباب الهداية أسبابا للضلالة أي ما أضللناهم ولكن متعتهم وآباءهم بأنواع النعم ليعرفوا حقها ويشكروها فاستغرقوا في الشهوات وانهمكوا فيها حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ أي غفلوا عن ذكرك والإيمان بك أو عن توحيدك أو عن التذكر لنعمك وآيات ألوهيتك ووحدتك.
وفي البحر الذكر ما ذكر به الناس على ألسنة الأنبياء عليهم السلام أو الكتب المنزلة أو القرآن ، ولا يخفى ما في الأخير إذا قيل : بعموم الكفار والمخبر عنهم في الآية وشمولهم كفار هذه الأمة وغيرهم وَكانُوا أي في علمك الأزلي المتعلق بالأشياء على ما هي عليه في أنفسها أو بما سيصدر عنهم فيما لا يزال باختيارهم وسوء استعدادهم من الأعمال السيئة قَوْماً بُوراً هالكين على أن بُوراً مصدر وصف به الفاعل مبالغة ولذلك يستوي فيه الواحد والجمع ، وأنشدوا :
فلا تكفروا ما قد صنعنا إليكم وكافوا به فالكفر بور لصانعه
وقول ابن الزبعرى :
يا رسول المليك إن لساني راتق ما فتقت إذ أنا بور
أو جمع بأثر كعوذ في عائذ «1» وتفسيره بهالكين رواه ابن جرير وغيره عن مجاهد ، وروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن نافع بن الأزرق سأله عن ذلك فقال : هلكى بلغة عمان وهم من اليمن ، وقيل : بورا فاسدين في لغة الأزد ويقولون : أمر بائر أي فاسد وبارت البضاعة إذا فسدت. وقال الحسن : بورا لا خير فيهم من قولهم : أرض بور أي متعطلة لا نبات فيها ، وقيل : بورا عميا عن الحق ، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله على ما قال أبو السعود.
وقال الخفاجي : هي حال بتقدير قد أو معطوفة على مقدر أي كفروا وكانوا أو على ما قبلها ، وقد شنع الزمخشري بما ذكر من السؤال والجواب على أهل السنة فقال : فيه كسر بين لقول من يزعم أن اللّه تعالى يضل عباده على الحقيقة حيث يقول سبحانه للمعبودين من دونه : أأنتم أضللتم أم هم ضلوا بأنفسهم فيتبرؤون من إضلالهم ويستعيذون به أن يكونوا مضلين ويقولون : بل أنت تفضلت من غير سابقة على هؤلاء وآبائهم تفضل جواد كريم فجعلوا النعمة التي حقها أن تكون سبب الشكر سبب الكفر ونسيان الذكر وكان ذلك سبب هلاكهم فإذا برأت الملائكة والرسل عليهم السلام أنفسهم من نسبة الإضلال الذي هو عمل الشياطين إليهم واستعاذوا منه فهم لربهم الغني العدل أشد تبرئة وتنزيها منه. ولقد نزهوه تعالى حين أضافوا إليه سبحانه التفضل بالنعمة والتمتيع بها وأسندوا نسيان الذكر والتسبب به للبوار إلى الكفرة فشرحوا الإضلال المجازي الذي أسنده اللّه تعالى إلى ذاته في قوله سبحانه :
___________
(1) وهي الحديثة النتاج من الظباء والإبل والخيل ا ه منه.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 440
يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ولو كان سبحانه هو المضل على الحقيقة لكان الجواب العتيد أن يقولوا : بل أنت أضللتهم انتهى.
وأجاب صاحب الفرائد عن قوله : فيتبرؤون من إضلالهم إلخ بأنهم انما تبرؤوا لأنهم يستحقون العذاب بإضلالهم ولم يكن منهم فوجب عليهم أن يقولوا ذلك ليندفع عنهم ما يستحقون به من العذاب وذلك أنهم مسؤولون عما يفعلون واللّه عز وجل لا يسأل عما يفعل فيلحق بهم النقصان إن ثبت عليهم ولا يمكن لحوقه به تعالى لأنه سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، وعن قوله : ولقد نزهوه حيث أضافوا إلخ بأن قولهم ولكن متعتهم إلخ لا ينافي نسبة الإضلال إليه سبحانه على الحقيقة وأيضا ما يؤدي إلى الضلال إذا كان منه تعالى وكان معلوما له عز وجل إنهم يضلون به كان فيه ما في الإضلال بالحقيقة يوجب على مذهبه أنه لا يجوز عليه سبحانه مع أنهم نسبوه إليه سبحانه ، وعن قوله : ولو كان تعالى هو المضل على الحقيقة لكان الجواب العتيد أنت أضللتهم بأن هذا غير مستقيم لأنه تعالى ما سألهم إلا عن أحد الأمرين وما ذكر لا يصلح جوابا له بل هو جواب لمن قال : من أضلهم انتهى ، وذكر في الكشف جوابا عن الأخير أنه ليس السؤال عن تعيين من أضل لأنه تعالى عالم به وإنما هو سؤال تقريع على نحو أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ [المائدة :
116] فلو قالوا : أنت أضللتهم لم يطابق وإنما الجواب ما أجابوا به كما أجاب عيسى عليه السلام بقوله : سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي إلخ وقد اقتدى بالإمام في ذلك ، وذكر أيضا قبل هذا الجواب أنه لو قيل : إن في مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ ما يدل على أنه تعالى الفاعل الحقيقي للإضلال وأنه لا ينسب إليه سبحانه أدبا لكان وجها ولا ينبغي أن يكون ذلك بعد التسليم المقصود من الجواب بمتعتهم إلخ بأن يكون المراد الجواب بأنت أضللتهم لكن عدل عنه إلى ما في النظم الجليل أدبا لأن الجواب بذلك مما لا يقتضيه السياق كما لا يخفى.
وقال ابن المنير : إن جواب المسئولين بما ذكر يدل على معتقدهم الموافق لما عليه أهل الحق لأن أهل الحق يعتقدون أن اللّه تعالى وإن خلق الضلال إلا أن للعباد اختيارا فيه وعندهم أن كل فعل اختياري له نسبتان إن نظر إلى كونه مخلوقا فهو منسوب إلى اللّه تعالى وإن نظر إلى كونه مختارا للعبد فهو منسوب للعبد وهؤلاء المجيبون نسبوا النسيان أي الانهماك في الشهوات الذي ينشأ عنه النسيان إلى الكفرة لأنهم اختاروه لأنفسهم فصدقت نسبته إليهم ونسبوا السبب الذي اقتضى نسيانهم وانهماكهم في الشهوات إلى اللّه تعالى وهو استدراجهم ببسط النعم عليهم وصبها صبا فلا تنافي بين معتقد أهل الحق ومضمون ما قالوا في الجواب بل هما متواطئان على أمر واحد انتهى.
ولا يخفى ما في بيان التوافق من النظر ، وقد يقال : حيث كان المراد من الاستفهام تقريع المشركين وعلم المستفهمين بذلك مما لا ينبغي أن ينكر لا سيما إذا كانوا الملائكة والأنبياء عليهم السلام جيء بالجواب متضمنا ذلك على أتم وجه مشتملا على تحقق الأمر في منشأ ضلالهم كل ذلك للاعتناء بمراده تعالى من تقريعهم وتبكيتهم ولذا لم يكتفوا في الجواب - بهم ضلوا - بل افتتحوا بالتسبيح ثم نفوا عن أنفسهم الإضلال على وجه من المبالغة ليس وراءه ورلء ثم أفادوا أنهم ضلوا بعد تحقق ما ينبغي أن يكون ذريعة لهم إلى الاهتداء من تمتيعهم بأنواع النعم وذلك من أقبح الضلال ونبهوا على زيادة قبحه فوق ما ذكر بالتعبير عنه بنسيان الذكر ثم ذكروا منشأ ضلالهم والأصل الأصيل فيه بقولهم : وَكانُوا قَوْماً بُوراً أما على معنى كانوا في نفس الأمر قوما فاسدين وإن شئت قلت هالكين ونحوه مما تقدم فظهروا على حسب ما كانوا لأن ما في نفس الأمر لا يتغير أو على معنى كانوا في العلم التابع للمعلوم في نفسه كذلك فظهروا على حسب ذلك لئلا يلزم الانقلاب المحال ، وحاصله أن منشأ ضلالهم فساد استعدادهم في نفسه من غير مدخلية للغير في التأثير فيه وهذا شأن جميع ماهيات الأشياء في أنفسها فإن مدخلية الغير إنما هي في نحو وجودها الخارجي لا غير ، وإلى هذا ذهب جمع من الفلاسفة والصوفية وشيد أركانه الشيخ ابراهيم الكوراني عليه

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 441
الرحمة في أكثر كتبه فإن كان مقبولا فلا بأس في تخريج الآية الكريمة عليه فتدبر ، وقوله تعالى : فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ حكاية لاحتجاجه تعالى على العبدة بطريق تلوين الخطاب وصرفه عن المعبودين عند تمام جوابهم وتوجهه إلى العبدة مبالغة في تقريعهم وتبكيتهم على تقدير قول مرتب على الجواب أي فقال اللّه تعالى عند ذلك : قد كذبكم المعبودون أيها الكفرة ، وقال بعض الأجلة الفاء فصيحة مثلها في قول عباس بن الأحنف :
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ثم القفول فقد جئنا خراسانا
والتقدير هنا قلنا أو قال تعالى إن قلتم إنهم آلهة فقد كذبوكم بِما تَقُولُونَ أي في قولكم على أن الباء بمعنى في وما مصدرية والجار والمجرور متعلق بالفعل والقول بمعنى المقول ، ويجوز أن تكون ما موصولة والعائد محذوف أي في الذي تقولونه ، وجوز أن تكون الباء صلة والمجرور بدل اشتمال من الضمير المنصوب في كذبوكم ، والمراد بمقولهم أنهم آلهة أو هؤلاء أضلونا ، وتعقب بأن تكذيبهم في هذا القول لا تعلق له بما بعده من عدم استطاعتهم للصرف والنصر أصلا وإنما الذي يستتبعه تكذيبهم في زعمهم أنهم آلهتهم وناصروهم وفيه نظر كما سنشير إليه قريبا إن شاء اللّه تعالى ، وقيل : الخطاب للمعبودين أي فقد كذبكم العابدون أيها المعبودون في قولكم سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء حيث زعموا أنكم آلهة ، والمراد الحكم على أولئك المكذبين بالكفر على وجه فيه استزادة غيظ المعبودين عليهم وجعله مفرعا عليه ما سيأتي إن شاء اللّه تعالى.
والفاء أيضا فصيحة ، والجملة جزاء باعتبار الأخبار ، وقيل : هو خطاب للمؤمنين في الدنيا فقد كذبكم أيها المؤمنون الكفرة في الدنيا فيما تقولونه من التوحيد وجيء بالكلام ليفرع عليه ما بعد وكلا القولين كما ترى والثاني أبعدهما ، وقرأ أبو حيوة «يقولون» بالياء آخر الحروف وهي رواية عن ابن كثير وقنبل الخطاب في كَذَّبُوكُمْ للعابدين وضمير الجمع فيه وفي «يقولون» للمعبودين أي فقد كذبكم أيها العبدة المعبودون بزعمكم بقولهم سبحانك إلخ والباء للملابسة أو الاستعانة ، وفيه أيضا القولان السابقان أي فقد كذبكم أيها المعبودون العبدة بقولهم إنكم آلهة أو فقد كذبكم أيها المؤمنون الكفار في التوحيد بقولهم : إن هؤلاء المحكي عنهم آلهة فَما تَسْتَطِيعُونَ أي فما تملكون أيها العبدة صَرْفاً أي دفعا للعذاب عن أنفسكم بوجه من الوجوه كما يعرب عنه التنكير أي لا بالذات ولا بالواسطة ، وقيل : حيلة من قولهم : إنه ليصرف في أموره أي يحتال فيها ، وقيل : توبة ، وقيل : فدية والأول أظهر فإن أصل الصرف رد الشيء من حالة إلى أخرى وإطلاقه على الحيلة أو التوبة أو الفدية مجاز ، والمراد فما تملكون دفعا للعذاب قبل حلوله وَلا نَصْراً أي فردا من أفراد النصر أي العون لا من جهة أنفسكم ومن جهة غيركم بعد حلوله ، وقيل : نصرا جمع ناصر كصحب جمع صاحب وليس بشيء ، والفاء لترتيب عدم الاستطاعة على ما قبلها من التكذيب لكن لا على معنى أنه لولاه لوجدت الاستطاعة حقيقة بل في زعمهم حيث كانوا يزعمون أنهم يدفعون عنهم العذاب وينصرونهم وفيه ضرب تهكم بهم ، والمراد من التكذيب المرتب عليه ما ذكر تكذيبهم بقولهم إنهم آلهة ، ويجوز أن يراد به تكذيبهم بقولهم : هؤلاء أضلونا وهو متضمن نفي كونهم آلهة وبذلك يتم أمر الترتيب.
وقرأ عليّ كرم اللّه تعالى وجهه وأكثر السبعة «يستطيعون» بالياء التحتية
أي فما يستطيع آلهتكم دفعا للعذاب عنكم ، وقيل حيلة لدفعه ، وقيل فدية عنكم ولا نصرا لكم ، وقيل في معنى الآية على تقدير كون الخطاب السابق للمؤمنين إنه سبحانه أراد أن هؤلاء الكفرة شديد والشكيمة في التكذيب الموجب للتعذيب فما تستطيعون أنتم صرفهم عنه ولا نصرا لكم فيما يصيبهم مما يستوجبه من العذاب هذا على قراءة حفص «تستطيعون» بالتاء الفوقية وأما على قراءة الجماعة «يستطيعون» بالياء فالمعنى ما يستطيعون صرفا لأنفسهم عما هم عليه ولا نصرا لها فيما استوجبوه

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 442
بتكذيبهم من العذاب أو فما يستطيعون صرفكم عن الحق الذي أنتم عليه ولا نصرا لأنفسهم من العذاب انتهى وهو كما ترى وَمَنْ يَظْلِمْ أي يكفر مِنْكُمْ أيها المكلفون ويعبد من دون اللّه تعالى إلها آخر كهؤلاء الكفرة نُذِقْهُ في الآخرة عَذاباً كَبِيراً لا يقادر قدره وهو عذاب النار ، وقرىء «يذقه» على أن الضمير للّه عز وجل ، وقيل :
لمصدر يظلم أي يذقه الظلم والإسناد مجازي ، وتفسير الظلم بالكفر هو المروي عن ابن عباس ، والحسن وابن جريج وأيد بأن المقام يقتضيه فإن الكلام في الكفر ووعيده من مفتتح السورة ، وجوز أن يراد به ما يعم الشرك وسائر المعاصي والوعيد بالعذاب لا ينافي العفو بالنسبة إلى غير المشرك لما حقق في موضعه. واختار الطيبي التفسير الأول وجعل الخطاب للكفار أيضا لأن الكلام فيهم من أول وقد سبق فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ وهذه الآية لما يجري عليهم من الأهوال والنكال من لدن قوله تعالى : إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [الفرقان : 12] ومعنى وَمَنْ يَظْلِمْ حينئذ ومن يدم على الظلم ، وفي الكشف الوجه أن الخطاب عام والظلم الكفر وَمَنْ يَظْلِمْ مظهر أقيم مقام المضمر تنبيها على توغلهم في الكفر وتجاوزهم حد الإنصاف والعدل إلى محض الاعتساف والجدل فيما رموا به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وكان الأصل فلا يستطيعون صرفا ولا نصرا ونذيقهم عذابا كبيرا أو نذيقكم على اختلاف القراءتين والحمل على من يدم على الظلم منكم ليختص الخطاب بالكفار صحيح أيضا ولكن تفوته النكتة التي ذكرناها انتهى. ولا يخفى أن كونه من إقامة المظهر مقام المضمر خلاف الظاهر فتأمل.
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِن َ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ
قيل هو تسلية له صلّى اللّه عليه وسلم عن قولهم مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق بأن لك في سائر الرسل عليهم السلام أسوة حسنة فإنهم كانوا كذلك ، وقال الزجاج : احتجاج عليهم في قولهم ذلك كأنه قيل كذلك كان من خلا من الرسل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق فكيف يكون محمد صلّى اللّه عليه وسلم بدعا من الرسل عليهم السلام. ورده الطيبي بأنه لا يساعد عليه النظم الجليل لأنه قد أجيب عن تعنتهم بقوله تعالى : انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ [الإسراء : 48 ، الفرقان : 9] وتعقبه في الكشف بقوله : ولقائل أن يقول هذا جواب آخر كما أجيب هنالك من أوجه على ما نقل عن الإمام وجعل قوله تعالى :
بَلْ كَذَّبُوا جوابا ثالثا وعقبه بقوله تعالى : وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ لمكان المناسبة وتم الوعيد ثم أجابهم سبحانه جوابا آخر يتضمن التسلية أيضا وهذا يساعد عليه النظم الجليل ، والجملة التي بعد إلا قيل صفة ثانية لموصوف مقدر قبل مِنَ الْمُرْسَلِينَ والمعنى ما أرسلنا قبلك أحدا من المرسلين إلا آكلين وماشين. وتعقب بأن فيه الفضل بين الموصوف والصفة بإلا وقد رده أكثر النحاة كما في المغني ، ومن هنا جعلها بعضهم صفة لموصوف مقدر بعد إلا وذلك بدل مما حذف قبل وأقيمت صفته مقامه ، والمعنى ما أرسلنا قبلك أحدا من المرسلين إلا رجالا أو رسلا أنهم إلخ ، وفيه الفصل بين البدل والمبدل منه وهو جائز عندهم. وقدر الفراء بعد إلا من وهي تحتمل أن تكون موصولة وأن تكون نكرة موصوفة ، وجعل بعضهم الجملة في محل نصب بقول محذوف وجملة القول صفة أي إلا رجالا أو رسلا قيل إنهم إلخ وهو كما ترى ، وقال ابن الأنباري : الجملة حالية والاستثناء من أعم الأحوال والتقدير إلا وأنهم. قال أبو حيان : وهو المختار ، وقدر الواو بناء على أن الاكتفاء في مثل هذه الجملة الحالية بالضمير غير فصيح ، وربما يختار عدم التقدير ويمنع دعوى عدم الفصاحة أو يحمل ذلك على غير المقترن بإلا لأنه في الحقيقة بدل ، ووجه كسر إن وقوعها في الابتداء ووقوع اللام بعدها أيضا. وقرىء «أنهم» بالفتح على زيادة اللام بعدها وتقدير جار قبلها أي لأنهم يأكلون إلخ. والمراد ما جعلناهم رسلا إلى الناس إلا لكونهم مثلهم ، وقرأ علي كرم اللّه تعالى وجهه وابن مسعود وعبد الرحمن بن عبد اللّه «يمشّون» بتشديد الشين المفتوحة مع ضم الياء مبنيا للمفعول
أي يمشيهم حوائجهم أو الناس والتضعيف للتكثير كما في قول الهذلي :

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 443
يمشي بيننا حانوت خمر وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي كما في البحر «يمشون» بضم الياء والشين مع التشديد مبنيا للفاعل وهو مبالغة يمشي المخفف فهي مطابقة للقراءة المشهورة ولا يحتاج إلى تقدير يمشيهم حوائجهم ونحوه. وأنشدوا قوله :
ومشى بأغصان المباءة وابتغى قلائص منها صعبة وذلول
وقوله «1» :
فقد تركت خزينة كل وغد يمشي بين خاتام وطاق
وفي بعض نسخ الكشاف ما يدل على أنه لم يظفر بهذه القراءة ، وقوله تعالى : وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ قيل تسلية له صلّى اللّه عليه وسلم أيضا لكن عن قولهم : أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ [الفرقان : 8] أي وجعلنا أغنياءكم أيها الناس ابتلاء لفقرائكم لننظر هل يصبرون وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً أي عالما بالصواب فيما يبتلى به وغيره فلا يضيقن صدرك ولا تستخفنك أقاويلهم ، وقيل : تصبير له عليه الصلاة والسلام على ما قالوه واستبدعوه من أكله الطعام ومشيه في الأسواق بعد الاحتجاج عليهم بسائر الرسل ، والكلام من تلوين الخطاب بتعميمه لسائر الرسل عليهم السلام بطريق التغليب على ما اختاره بعضهم ، والمراد بالبعض الأول كفار الأمم واختصاصهم بالرسل مصحح لأن يعدوا بعضا منهم وبالبعض الثاني رسلهم على معنى جعلنا كل بعض معين من الأمم فتنة لبعض معين على من الرسل كأنه قيل وجعلنا كل أمة مخصوصة من الأمم الكافرة فتنة لرسولها المعين. وإنما لم يصرح بذلك تعويلا على شهادة الحال ، وحاصله جرت سنتنا بموجب حكمتنا على ابتلاء المرسلين بأممهم وبمناصبتهم لهم العداوة وإطلاق ألسنتهم فيهم بالأقاويل الخارجة عن حد الإنصاف وسلوكهم في أذاهم كل مسلك لنعلم صبرهم أو هو خطاب الناس كافة على ما قيل وهو الظاهر ، والبعض الأول أعم من الكفار والأغنياء والأصحاء وغيرهم ممن يصلح أن يكون فتنة والبعض الثاني أعم من الرسل والقراء والمرضى وغيرهم ممن يصلح أن يفتن.
والكلام عليه مفيد لتصبره صلّى اللّه عليه وسلم على ما قالوه وزيادة ، وقيل : المراد بالبعض الأول من لا مال له من المرسلين وبالبعض الثاني أممهم ويدخل في ذلك نبينا صلّى اللّه عليه وسلم وأمته دخولا أوليا فكأنه قيل جعلناك فتنة لأمتك لأنك لو كنت صاحب كنوز وجنات لكان ميلهم إليك وطاعتهم لك للدنيا أو ممزوجة بالدنيا وإنما بعثناك لا مال لك ليكون طاعة من يطيعك منهم خالصة لوجه اللّه تعالى من غير طمع دنيوي وكذا حال سائر من لا مال له من المرسلين مع أممهم والأظهر عموم الخطاب والبعضين وهو الذي تقتضيه الآثار وإليه ذهب ابن عطية فقال : ذلك عام للمؤمن والكافر فالصحيح فتنة للمريض والغني فتنة للفقير والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لاشراف الناس الكفار في عصره وكذلك العلماء وحكام العدل ، وقد تلا ابن القاسم هذه الآية حين رأى أشهب انتهى. واختار ذلك أبو حيان. ولا يضر فيه خصوص سبب النزول فقد روي عن الكلبي أنها نزلت في أبي جهل والوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل ومن في طبقتهم قالوا : إن أسلمنا وقد أسلم قبلنا عمار وصهيب وبلال وفلان وفلان ترفعوا علينا إدلالا بالسابقة. والاستفهام إما في حيز التعليل للجعل ومعادله محذوف كما حذف فيما لا يحصى من الأمثلة والتقدير لنعلم أتصبرون أم لا أي ليظهر ما في علمنا. وقرينة تقدير العلم تضمن الفتنة إياه. وإما أن لا يكون في حيز التعليل وليس هناك معادل محذوف بأن يكون للترغيب والتحريض والمراد اصبروا فإني ابتليت بعضكم
___________
(1) أنشده الأزهري قال أبو عمرو والعرب تسمي معدن الذهب خزينة وأراد بالخاتام الخاتم وبالطاق الطيلسان ا ه منه.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 444
ببعض. ويجوز أن لا يقدر معادل على تقدير اعتبار التعليل أيضا بأن يكون الخطاب للرسل عليهم السلام على ما سمعت. وجعل ابن عطية الخطاب فيما سبق عاما وفي أَتَصْبِرُونَ خاصا بالمؤمنين الذين جعل إمهال الكفار فتنة لهم في ضمن العموم السابق وقدر معادلا فقال : كأنه جعل إمهال الكفار فتنة للمؤمنين ثم وقفهم أتصبرون أم لا. وجعل قوله تعالى : وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً وعدا للصابرين ووعيدا للعاصين. وجعله بعضهم وعدا للرسول صلّى اللّه عليه وسلم بالأجر الجزيل لصبره الجميل مع مزيد تشريف له عليه الصلاة والسلام بالالتفات إلى اسم الرب مضافا إلى ضميره صلّى اللّه عليه وسلم. وجوز أن يكون وعيدا لأولئك المعاندين له عليه الصلاة والسلام جيء به إتماما للتسلية أو التصبر وليس بذاك واستدل بالآية على القضاء والقدر فإنها أفادت أن أفعال العباد كعداوة الكفار وإيذائهم بجعل اللّه تعالى وإرادته والفتنة بمعنى الابتلاء وإن لم تكن من أفعال العباد إلا أنها مفضية ومستلزمة لما هو منها. وفيه من الخفاء ما فيه. وقوله تعالى.
___________
تم والحمد لله الجزء الثامن عشر من تفسير روح المعاني ويليه إن شاء اللّه تعالى. الجزء التاسع عشر وأوله وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ.

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 445
الفهرس
سورة الأنبياء الآيات : 1 - 13 3 الآيات : 14 - 24 17 الآيات : 25 - 36 31 الآيات : 37 - 58 46 الآيات : 59 - 87 60 الآيات : 88 - 101 80 الآيات : 102 - 112 93 سورة الحج الآيات : 1 - 17 105 الآيات : 18 - 29 124 الآيات : 30 - 47 162 الآيات : 48 - 57 178 الآيات : 58 - 67 188 سورة المؤمنون الآيات : 1 - 22 205 الآيات : 23 - 63 226 الآيات : 64 - 118 247 سورة النور الآيات : 1 - 5 273 الآيات : 6 - 20 301 الآيات : 21 - 28 319

روح المعاني ، ج 9 ، ص : 446
الآيات : 29 - 33 332 الآيات : 34 - 40 352 الآيات : 41 - 57 378 الآيات : 58 - 64 399 سورة الفرقان الآيات : 1 - 20 420

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 3
[الجزء العاشر]
[تتمة سورة الفرقان ]
بسم اللّه الرحمن الرحيم
[سورة الفرقان (25) : الآيات 21 إلى 35]
وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25)
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29) وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30)
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35)
وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا إلخ شروع في حكاية بعض آخر من أقاويلهم الباطلة وبيان بطلانها إثر حكاية إبطال أباطيلهم السابقة وذكر ما يتعلق بذلك ، والجملة المعطوفة على قوله تعالى : وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ [الفرقان : 7] إلى آخره ، ووضع الموصول موضع الضمير للتنبيه بما في حيز الصلة على أن ما يحكى عنهم في الشناعة بحيث لا يصدر عمن يرجو لقاء اللّه عز وجل ، والرجاء في المشهور الأمل وقد فسر أحدهما بالآخر أكثر

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 4
اللغويين ، وفي فروق ابن هلال الأمل رجاء يستمر ولذا قيل للنظر في الشيء إذا استمر وطال تأمل ، وقيل : الأمل يكون في الممكن والمستحيل والرجاء يخص الممكن. وفي المصباح الأمل ضد اليأس وأكثر ما يستعمل فيما يبعد حصوله والطمع يكون فيما قرب حصوله والرجاء بين الأمل والطمع فإن الراجي يخاف أن لا يحصل مأموله ولذا استعمل بمعنى الطمع انتهى ، وفسره أبو عبيدة وقوم بالخوف ، وقال الفراء : هذه الكلمة تهامية وهي أيضا من لغة هذيل إذا كان مع الرجاء جحد ذهبوا به إلى معنى الخوف فيقولون : فلان لا يرجو ربه سبحانه يريدون لا يخاف ربه سبحانه ، ومن ذلك ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً [نوح : 13] أي لا تخافون للّه تعالى عظمة وإذا قالوا : فلان يرجو ربه فهذا على معنى الرجاء لا على معنى الخوف ، وقال الشاعر :
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وحالفها في بيت نوب عواسل
وقال آخر :
لا يرتجي حين يلاقي الذائدا أسبعة لاقت له أو واحدا
انتهى ، وذكر أن استعمال الرجاء في معنى الخوف مجاز لأن الراجي لأمر يخاف فواته ، وأصل اللقاء مقابلة الشيء ومصادفته وهو مراد من قال : الوصول إلى الشيء لا المماسة ويطلق على الرؤية لأنها وصول إلى المرئي ، ولقاؤه تعالى هنا كناية عن لقاء جزائه يوم القيامة أو المراد ذلك بتقدير مضاف والمعنى على التفسير المشهور للرجاء وقال الذين لا يأملون لقاء جزائنا بالخير والثواب على الطاعة لتكذيبهم بالبعث ، وعلى التفسير الآخر وقال الذين لا يخافون لقاء جزائنا بالشر والعقاب على المعصية لتكذيبهم بالبعث كذا قيل.
وقيل : المراد به رؤيته تعالى في الآخرة والرجاء عليه بمعنى الأمل دون الخوف إذ لا معنى لكون الرؤية مخوفة وهو خلاف الظاهر وإن لم يأبه ما بعد إذ يكون المعنى عليه إن الذين لا يرجون رؤيتنا في الآخرة التي هي مظنة الرؤية لكثير من الناس اقترحوا رؤيتنا في الدنيا التي ليست مظنة لذلك ، وقد يقال : نفي رجاء لقائه تعالى كناية عن إنكار البعث والحشر ولعله أولى مما تقدم أي وقال الذين ينكرون البعث والحشر لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أي هلا أنزلوا علينا فيخبرونا بصدق محمد صلّى اللّه عليه وسلّم أَوْ نَرى رَبَّنا فيخبرنا بذلك كما روي عن ابن جريج وغيره وفي طلب إنزال ملائكة للتصديق دون إنزال ملك إشارة إلى أنهم بلغوا في التكذيب مبلغا لا ينفع معه تصديق ملك واحد وإذا اعتبرت أل في الملائكة للاستغراق الحقيقي كانت الإشارة إلى قوة تكذيبهم أقوى ، وتزداد القوة إذا اعتبر في عَلَيْنَا معنى كل واحد منا ولم يعتبر توزيع ، ويشير أيضا إلى قوة ذلك تعبيرهم بالمضارع الدال على الاستمرار التجددي في أَوْ نَرى رَبَّنا كأنهم لم يكتفوا برؤيته تعالى وإخباره سبحانه بصدق رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم حتى يروه سبحانه ويخبرهم مرارا بذلك ، ولا يأبى قصد الاستمرار من المضارع كون الأصل في «لو لا» التي للتحضيض أو العرض أن تدخل على المضارع وما لم يكن مضارعا يؤول به ، ولعل عدولهم إلى الماضي في جانب إنزال الملائكة المعطوف عليه وإن كان في تأويل المضارع على نحو ما قدمنا في تفسير قوله تعالى : لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ [الفرقان : 7] فتذكر فما في العهد من قدم.
وقيل : المعنى لولا أنزل علينا الملائكة فيبلغون أمر اللّه تعالى ونهيه بدل محمد صلّى اللّه عليه وسلّم أو نرى ربنا فيخبرنا بذلك من غير توسيط أحد ورجح الأول بأن السياق لتكذيبه صلّى اللّه عليه وسلّم وحاشاه ثم حاشاه من الكذب والتعنت في طلب مصدق له عليه الصلاة والسلام لا لطلب من يفيدهم الأمر والنهي سواه صلّى اللّه عليه وسلّم ، ولا نسلم أن لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ يتكرر عليه مع لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ السابق لظهور الفرق بين المطلوبين فيهما ولو فرض لزوم التكرار بينهما فهو لا يضر كما لا يخفى. وانتصر للأخير بأن المقام ليس إلا لذكر المكذبين وحكاية أباطيلهم الناشئة عن تكذيبهم. وقد عد فيما

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 5
سبق بعضا منها متضمنا تعنتهم في طلب مصدق له صلّى اللّه عليه وسلّم فالأولى أن يكون ما هنا حكاية نوع آخر منها ليكون أبعد عن التكرار وأدل على العناد والاستكبار. ولعل قوله تعالى : لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً أنسب بما ذكر. ومعنى اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أوقعوا الاستكبار في شأنها وعدوها كبيرة الشأن ، وفيه تنزيل الفعل المتعدي منزلة اللازم كما في قوله :
يجرح في عراقيبها نصلي والعتو تجاوز الحد في الظلم وهو المصدر الشائع لعتا ، واللام واقعة في جواب القسم أي واللّه لقد استكبروا في شأن أنفسهم وتجاوز الحد في الظلم والطغيان تجاوزا كبيرا بالغا أقصى غايته حيث كذبوا الرسول عليه الصلاة والسلام ولم ينقادوا لبشر مثلهم يوحى إليه في أمرهم ونهيهم ولم يكترثوا بمعجزاته القاهرة وآياته الباهرة فطلبوا ما لا يكاد ترنو إليه أحداق الأمم وراموا ما لا يحظى به إلا بعض أولي العزم من الرسل صلى اللّه تعالى عليهم وسلم. وقد فسر اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ بأضمروا الاستكبار وهو الكفر والعناد في قلوبهم وهو أظهر مما تقدم وما تقدم أبلغ وأوفق لما انتصر له. وكذا فسر العتو بالنبو عن الطاعة وما تقدم أبلغ وأوفق بذلك أيضا. وفي تعقب حكاية باطل أولئك الكفرة بالجملة القسمية إيذان بغاية قبح ما هم عليه وإشعار بالتعجب من استكبارهم وعتوهم وهو من الفحوى في الحقيقة ومثل ذلك شائع في الكلام تقول لمن جنى جناية : فعلت كذا وكذا استعظاما وتعجبا منه ويستعمل في سائر الألسنة وجعل الزمخشري من ذلك قول مهلهل :
وجارة جساس أبأنا بنابها كليبا غلت ناب «1» كليب بواؤها
والطيبي قوله تعالى : كَبُرَتْ كَلِمَةً [الكهف : 5] ، وتعقب بأن ذلك ليس من هذا القبيل لأن الثلاثي المحول إلى فعل لفظا أو تقديرا موضوع للتعجب كما صرح به النحاة وذكر الإمام مختار القول الأول في تفسير لَوْلا أُنْزِلَ إلخ أن هذه الجملة جواب لقولهم : «لو لا أنزل» إلخ من عدة أوجه ، أحدها أن القرآن لما ظهر كونه معجزا فقد ثبتت نبوته صلى اللّه تعالى عليه وسلم فبعد ذلك لا يكون اقتراح هذه الآيات إلا محض استكبار. وثانيها أن نزول الملائكة عليهم السلام لو حصل لكان أيضا من جملة المعجزات ولا يدل على الصدق لخصوص كونه نزول الملك بل لعموم كونه معجزا فيكون قبول ذلك ورد الآخر ترجيحا لأحد المثلين من غير مرجح. وثالثها أنهم بتقدير رؤية الرب سبحانه وتصديقه لرسوله صلّى اللّه عليه وسلّم لا يستفيدون علما أزيد من تصديق المعجز إذ لا فرق بين أن يقول النبي :
اللهم إن كنت صادقا فأحي هذا الميت فيحييه عز وجل وبين أن يقول : إن كنت صادقا فصدقني فيصدقه فتعيين أحد الطريقين محض العناد ، ورابعها أن العبد ليس له أن يعترض على مولاه إما بحكم المالكية عند الأشعري أو بحكم المصلحة عند المعتزلي ، وخامسها أن السائل الملح المعاند الذي لا يرضى بما ينعم عليه مذموم وإظهار المعجز من جملة الأيادي الجسيمة فرد إحداهما واقتراح الأخرى ليس من الأدب في شيء. وسادسها لعل المراد أني لو علمت أنهم ليسوا مستكبرين وعاتين لأعطيتهم مطلوبهم لكني علمت أنهم إنما سألوا لأجل المكابرة والعناد فلا جرم لا أعطيهم ، وسابعها لعلهم عرفوا من أهل الكتاب أن اللّه تعالى لا يرى في الدنيا وأنه لا ينزل الملائكة عليهم السلام على عوام الخلق ثم إنهم علقوا إيمانهم على ذلك فهم مستكبرون ساخرون انتهى وفيه ما لا يخلو عن بحث.
واستدلت الأشاعرة بقوله تعالى : «لا يرجون لقاءنا» على أن رؤية اللّه تعالى ممكنة واستدلت المعتزلة بقوله
___________
(1) الناب الناقة المسنة ا ه منه.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 6
سبحانه : لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا وعَتَوْا على أنها ممتنعة ولا يخفى ضعف الاستدلالين يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ استئناف مسوق لبيان ما يلقونه عند مشاهدة الملائكة عليهم السلام بعد استعظام طلبهم إنزالهم عليهم وبيان كونه في غاية الشناعة. وإنما قيل : يوم يرون دون أن يقال يوم تنزل الملائكة إيذانا من أول الأمر بأن رؤيتهم لهم ليست على طريق الإجابة إلى ما طلبوه بل على وجه آخر لم يمر ببالهم «ويوم» منصوب على الظرفية بما يدل عليه قوله تعالى : لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ فإنه في معنى لا يبشر يومئذ المجرمون والعدول إلى نفي الجنس للمبالغة في نفي البشرى فكأنه قيل لا يبشرون يوم يرون الملائكة ، وقدر بعضهم يمنعون البشرى أو يفقدونها والأول أبعد من احتمال توهم تهوين الخطب ، وقدر بعضهم لا بشرى قبل يوم وجعله ظرفا لذلك ، وجوز أبو البقاء تعلقه بيعذبون مقدرا لدلالة لا بُشْرى إلخ عليه وكونه معمولا لا ذكر مقدرا قال : أبو حيان وهو أقرب.
وقال صاحب الفرائد : يمكن أن يكون منصوبا بينزل مضمرا لقولهم : لولا أنزل علينا الملائكة كأنه قيل ينزل الملائكة يوم يرونهم ، ولا يقال : كيف يكون وقت الرؤية وقتا للإنزال لأنا نقول : الظرف يحتمل ذلك لسعته واستحسنه الطيبي فقال هو قول لا مزيد عليه لأنه إذا انتصب بينزل يلتئم الكلامان لأن قوله تعالى : يَوْمَ يَرَوْنَ إلخ نشر لقوله تعالى : لَوْلا أُنْزِلَ إلخ ، وقوله سبحانه : وَقَدِمْنا نشر لقوله عز وجل أَوْ نَرى رَبَّنا ولم يجوز الأكثرون تعلقه ببشرى المذكور لكونه مصدرا وهو لا يعمل متأخرا وكونه منفيا بلا ولا يعمل ما بعدها فيما قبلها ويَوْمَئِذٍ تأكيد للأول أو بدل منه أو خبر ولِلْمُجْرِمِينَ تبيين متعلق بمحذوف كما في سقيا له أو خبر ثان أو هو ظرف لما يتعلق به اللام أو لبشرى إن قدرت منونة غير مبنية مع لا فإنها لا تعمل إذ لو عمل اسم لا طال وأشبه المضاف فينتصب.
وفي البحر احتمل بشرى أن يكون مبنيا مع لا واحتمل أن يكون في نية التنوين منصوب اللفظ ومنع من الصرف للتأنيث اللازم فإن كان مبنيا مع لا احتمل أن يكون الخبر يَوْمَئِذٍ وللمجرمين خبر بعد خبر أو نعت لبشرى أو متعلق بما تعلق به الخبر ، وأن يكون يَوْمَئِذٍ صفة لبشرى والخبر لِلْمُجْرِمِينَ ويجيء خلاف سيبويه والأخفش هل الخبر لنفس لا أو للمبتدأ الذي هو مجموع لا وما بني معها. وإن كان في نية التنوين وهو معرب جاز أن يكون يَوْمَئِذٍ معمولا لبشرى وأن يكون صفة والخبر «للمجرمين» ، وجاز أن يكون يَوْمَئِذٍ خبرا ولِلْمُجْرِمِينَ صفة ، وجاز أن يكون يَوْمَئِذٍ خبرا ولِلْمُجْرِمِينَ خبرا بعد خبر والخبر إذا كان الاسم ليس مبنيا للإنفسها بالإجماع.
وقال الزمخشري : يومئذ تكرير ولا يجوز ذلك سواء أريد بالتكرير التوكيد اللفظي أم أريد به البدل لأن «يوم» منصوب بما تقدم ذكره من اذكر أو من يفقدون وما بعد لا العاملة في الاسم لا يعمل فيه ما قبلها وعلى تقديره يكون العامل فيه ما قبلها انتهى. ولا يخفى عليك ما في الاحتمالات التي ذكرها. وأما ما اعترض به على الزمخشري فتعقب بأن الجملة المنفية معمولة لقول مضمر وقع حالا من الملائكة التي هي معمول ليرون ويَرَوْنَ معمول ليوم فلا وما في حيزها من تتمة الظرف الأول من حيث إنه معمولا لبعض ما في حيزه ومثله لا يعد محذورا مع أن كون لا لها الصدر مطلقا أو إذا بني معها اسمها ليس بمسلم عند جميع النحاة لأنها لكثرة دورها خرجت عن الصدارة فتأمل ، هذا ما وقفنا عليه للمتقدمين في إعراب الآية وما فيه من الجرح والتعديل.
وقال بعض العصريين : يجوز تعلق يَوْمَ بكبير أو تقييد كبره بذلك اليوم ليس لنفي كبره في نفسه بل لظهور موجبه في ذلك اليوم ونظيره لزيد علم عظيم يوم يباحث الخصوم وتكون جملة لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 7
استئنافا لبيان ذلك وهو كما ترى ، وأيا ما كان فالمراد بذلك اليوم على ما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما يوم الموت ، وقال أبو حيان : الظاهر أنه يوم القيامة لقوله تعالى بعد وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا إلخ وفيه نظر.
ونفي البشرى كناية عن إثبات ضدها كما أن نفي المحبة في مثل قوله تعالى : فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ [آل عمران : 32] كناية عن البغض والمقت فيدل على ثبوت النذرى لهم على أبلغ وجه ، والمراد بالمجرمين أولئك الذين لا يرجون لقاءه تعالى ، ووضع المظهر موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بالإجرام مع ما هم عليه من الكفر والعناد وإيذانا بعلة الحكم ، ومن اعتبر المفهوم في مثله ادعى إفادة الآية عدم تحقق الحكم في غيرهم ، وقد دل قوله تعالى في حق المؤمنين تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا [فصلت : 30] إلخ على حصول البشرى لهم ، وقيل : المراد بهم ما يعم العصاة والكفار الذين لا يرجون لقاءه تعالى ، ويفيد الكلام سلب البشرى عن الكفار على أتم وجه لدلالته على أن المانع من حصول البشرى هو الإجرام ولا إجرام أعظم من إجرام الذين لا يرجون لقاءه عز وجل ويقولون ما يقولون فهم أولى به. ويتم استدلال المعتزلة بالآية عليه في نفي العفو والشفاعة للعصاة لأنها لا تفيد النفي في جميع الأوقات فيجوز أن يبشر العصاة بما ذكر في وقت آخر.
وتعقب بأن الجملة قبل النفي لكونها اسمية تفيد الاستمرار فبعد دخول النفي إرادة نفي استمرار البشرى للمجرمين بمعنى أن البشرى تكون لهم لكن لا تستمر مما لا يظن أن أحدا يذهب إليه فيتعين إرادة استمرار النفي كما في قوله تعالى في حق أضدادهم لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس : 62] فحينئذ لا يتسنى قوله : إنها لا تفيد النفي في جميع الأوقات ، فالأولى أن يراد بالمجرمين من سمعت حديثهم وَيَقُولُونَ عطف على لا يبشرون أو يمنعون البشرى أو نحوه المقدر قبل يَوْمَ.
وجوز أن يكون عطفا على ما قبله باعتبار ما يفهم منه كأنه قيل : يشاهدون أهوال القيامة ويقولون ، وأن يكون عطفا على يَرَوْنَ وجملة لا بُشْرى حال بتقدير القول فلا يضر الفصل به ، وضمير الجمع على ما استظهره أبو حيان لأنهم المحدث عنهم وحكاه الطبرسي عن مجاهد وابن جريج للذين لا يرجون أي ويقول أولئك الكفرة حِجْراً مَحْجُوراً وهي كلمة تقولها العرب عند لقاء عدو موتور وهجوم نازلة هائلة يضعونها موضع الاستعاذة حيث يطلبون من اللّه تعالى أن يمنع المكروه فلا يلحقهم فكأن المعنى نسأل اللّه تعالى أن يمنع ذلك منعا ويحجره حجرا.
وقال الخليل : كان الرجل يرى الرجل الذي يخاف منه القتل في الجاهلية في الأشهر الحرم فيقول : حجرا محجورا أي حرام عليك التعرض لي في هذا الشهر فلا يبدؤه بشرّ ، وقال أبو عبيدة : هي عوذة للعرب يقولها من يخاف آخر في الحرم أو في شهر حرام إذا لقيه وبينهما ترة ، وقال أبو علي الفارسي : مما كانت العرب تستعمله ثم ترك قولهم حجرا محجورا ، وهذا كان عندهم لمعنيين ، أحدهما أن يقال عند الحرمان إذا سئل الإنسان فقال ذلك علم السائل أنه يريد أن يحرمه ، ومنه قول المتلمس :
حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها حجر حرام ألا تلك الدهاريس «1»
والمعنى الآخر الاستعاذة كان الإنسان إذا سافر فرأى ما يخاف قال : حجرا محجورا أي حرام عليك التعرض لي انتهى. وذكر سيبويه «حجرا» من المصادر المنصوبة غير المتصرفة وأنه واجب إضمار ناصبها ، وقال : ويقول الرجل
___________
(1) أي الدواهي ا ه منه.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 8
للرجل أتفعل كذا فيقول : حجرا وهي من حجره إذا منعه لأن المستعيذ طالب من اللّه تعالى أن يمنع المكروه من أن يلحقه والأصل فيه فتح الحاء ، وقرىء به كما قال أبو البقاء لكن لما خصوا استعماله بالاستعاذة أو الحرمان صار كالمنقول فلما تغير معناه تغير لفظه عما هو أصله وهو الفتح إلى الكسر وقد جاء فيه الضم أيضا وهي قراءة أبي رجاء والحسن والضحاك ويقال فيه حجرى بألف التأنيث أيضا ومثله في التغيير عن أصله قعدك اللّه تعالى بسكون العين وفتح القاف ، وحكى كسرها عن المازني وأنكره الأزهري وقعيدك وهو منصوب على المصدرية ، والمراد رقيبك وحفيظك اللّه تعالى ثم نقل إلى القسم قعدك أو قعيدك اللّه تعالى لا تفعل ، وأصله بإقعاد اللّه تعالى أي إدامته سبحانه لك وكذا عمرك اللّه بفتح الراء وفتح العين وضمها وهو منصوب على المصدرية ثم اختص بالقسم ، وأصله بتعميرك اللّه تعالى أي بإقرارك له بالبقاء ، وما ذكر من أنه لازم النصب على المصدرية بفعل واجب الإضمار اعترض عليه في الدر المصون بما أنشده الزمخشري :
قالت وفيها حيدة وذعر عوذ بربي منكم وحجر
فإنه وقع فيه مرفوعا ، ووصفه بمحجورا للتأكيد كشعر شاعر وموت مايت وليل أليل ، وذكر أن مفعولا هنا للنسب أي ذو حجر وهو كفاعل يأتي لذلك ، وقيل : إنه على الإسناد المجازي وليس بذاك ، والمعنى أنهم يطلبون نزول الملائكة عليهم السلام وهم إذ رأوهم كرهوا لقاءهم أشد كراهة وفزعوا منهم فزعا شديدا ، وقالوا ما كانوا يقولونه عند نزول خطب شنيع وحلول بأس فظيع ، وقيل : ضمير يقولون للملائكة وروى ذلك عن أبي سعيد الخدري والضحاك وقتادة وعطية ومجاهد على ما في الدر المنثور قالوا : إن الملائكة يقولون للكفار حجرا محجورا أي حراما محرما عليكم البشرى أي جعلها اللّه تعالى حراما عليكم.
وفي بعض الروايات أنهم يطلبون البشرى من الملائكة عليهم السلام فيقولون ذلك لهم
وقال بعضهم : يعنون حراما محرما عليكم الجنة وحكاه في مجمع البيان عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وقيل : الغفران ، وفي جعل حِجْراً نصبا على المفعولية لجعل مقدرا كما أشير إليه بحث ، والظاهر على ما ذكر أن إيراد هذه الكلمة للحرمان وهو المعنى الأول من المعنيين اللذين ذكرهما الفارسي وَيَقُولُونَ على هذا القول قيل معطوف على ما عطف عليه على القول بأن ضميره للكفرة ، وقيل : معطوف على جملة يقولون المقدرة قبل لا بُشْرى الواقعة حالا.
وقال الطيبي : هو حال من الْمَلائِكَةَ بتقدير وهم يقولون نظير قولهم : قمت وأصك وجهه وعلى الأول هو عطف على يَرَوْنَ وَقَدِمْنا أي عمدنا وقصدنا كما روي عن ابن عباس وأخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد إِلى ما عَمِلُوا في الدنيا مِنْ عَمَلٍ فخيم كصلة رحم وإغاثة ملهوف وقرى ضعيف ومن على أسير وغير ذلك من مكارمهم ومحاسنهم التي لو كانوا عملوها مع الإيمان لنالوا ثوابها ، والجار والمجرور بيان لما وصحة البيان باعتبار التنكير كصحة الاستثناء في إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا [الجاثية : 32] لكن التنكير هاهنا للتفخيم كما أشرنا إليه.
وجوز أن يكون للتعميم ودفع ما يتوهم من العهد في الموصول أي عمدنا إلى كل عمل عملوه خال عن الإيمان ، ولعل الأول أنسب بقوله تعالى : فَجَعَلْناهُ هَباءً
مثل هباء في الحقارة وعدم الجدوى ، وهو على ما أخرج عبد الرزاق والفريابي وابن أبي حاتم عن علي كرّم اللّه تعالى وجهه
وهج الغبار يسطع ثم يذهب.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه الشرر الذي يطير من النار إذا اضطرمت ، وفي رواية أخرى عنه أنه الماء المهراق. وعن يعلى بن عبيد أنه الرماد.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 9
وأخرج جماعة عن مجاهد والحسن وعكرمة وأبي مالك وعامر أنه شعاع الشمس في الكوة وكأنهم أرادوا ما يرى فيه من الغبار كما هو المشهور عند اللغويين ، قال الراغب : الهباء دقاق التراب وما انبثّ في الهواء فلا يبدو إلا في أثناء ضوء الشمس في الكوة ويقال : هبا الغبار يهبو إذا ثار وسطع ، ووصف بقوله تعالى : مَنْثُوراً مبالغة في إلغاء أعمالهم فإن الهباء تراه منتظما مع الضوء فإذا حركته الريح تناثر وذهب كل مذهب فلم يكف أن شبه أعمالهم بالهباء حتى جعل متناثرا لا يمكن جمعه والانتفاع به أصلا ، ومثل هذا الإرداف يسمى في البديع بالتتميم والإيغال ، ومنه قول الخنساء :
أغر أبلج تأتمّ الهداة به كأنه علم في رأسه نار
حيث لم يكفها أن جعلته علما في الهداية حتى جعلته في رأسه نار ، وقيل : وصف بالمنثور أي المتفرق لما أن أغراضهم في أعمالهم متفرقة فيكون جعل أعمالهم هباء متفرقا جزاء من جنس العمل ، وجوز أن يكون مفعولا بعد مفعول لجعل وهو مراد من قال : مفعولا ثالثا لها على معنى جعلناه جامعا لحقارة الهباء والتناثر ، ونظير ذلك قوله تعالى :
كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ [البقرة : 65 ، الأعراف : 166] أي جامعين للمسخ والخسء ، وفيه خلاف ابن درستويه حيث لم يجوز أن يكون لكان خبر إن وقياس قوله : أن يمنع أن يكون لجعل مفعول ثالث ، ومع هذا الظاهر الوصفية ، وفي الكلام استعارة تمثيلية حيث مثلت حال هؤلاء الكفرة وحال أعمالهم التي عملوها في كفرهم بحال قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه فقدم إلى أشيائهم وقصد إلى ما تحت أيديهم فأفسدها وجعلها شذر مذر ولم يترك لها من عين ولا أثر ، واللفظ المستعار وقع فيه استعمال - قدم - بمعنى عمد وقصد لاشتهاره فيه وإن كان مجازا كما يشير إليه كلام الأساس ، ويسمى القصد الموصل إلى المقصد قدوما لأنه مقدمته ، وتضمن التمثيل تشبيه أعمالهم المحبطة بالهباء المنثور بدون استعارة ، فلا إشكال على ما قيل ، والكلام في ذلك طويل فليطلب من محله. وجعل بعضهم القدوم في حقه عز وجل عبارة عن حكمه ، وقيل : الكلام على حذف مضاف أي قدم ملائكتنا ، وأسند ذلك إليه عز وجل لأنه عن أمره سبحانه ، ونقل عن بعض السلف أنه لا يؤول في قوله تعالى : وَجاءَ رَبُّكَ [الفجر : 22] وقوله سبحانه : هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ [البقرة : 210] على ما هو عادتهم في الصفات المتشابهة ، وقياس ذلك عدم التأويل في الآية ، ولعله من هنا قيل : إن تأويل الزمخشري لها بناء على معتقده من إنكار الصفات ، والقلب إلى التأويل فيها أميل.
وأنت إن لم تؤول القدوم فلا بد لك أن تؤول جعلها هباء منثورا بإظهار بطلانها بالكلية وإلغائها عن درجة الاعتبار بوجه من الوجوه ، ولا يأبى ذلك السلف أَصْحابُ الْجَنَّةِ هم المؤمنون المشار إليهم في قوله تعالى : قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [الفرقان : 15] يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ يكون ما ذكر من القدوم إلى أعمالهم وجعلها هباء منثورا ، أو من هذا وعدم التبشير ، وقولهم : حجرا محجورا خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا المستقر المكان الذي يستقر فيه في أكثر الأوقات للتجالس والتحادث وَأَحْسَنُ مَقِيلًا المقيل المكان الذي يؤوي إليه للاسترواح إلى الأزواج والتمتع بمغازلتهن ، سمي بذلك لأن التمتع به يكون وقت القيلولة غالبا ، وقيل : هو في الأصل مكان القيلولة - وهي النوم نصف النهار - ونقل من ذلك إلى مكان التمتع بالأزواج لأنه يشبهه في كون كل منهما محل خلوة واستراحة فهو استعارة ، وقيل : أريد به مكان الاسترواح مطلقا استعمالا للمقيد في المطلق فهو مجاز مرسل ، وإنما لم يبق على الأصل لما أنه لا نوم في الجنة أصلا.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 10
وأخرج ابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء وهؤلاء ، ثم قرأ أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا وقرأ «إن مقيلهم لإلى الجحيم» وأخذ منه بعضهم أن المراد بالمستقر موضع الحساب ، وبالمقيل محل الاستراحة بعد الفراغ منه ، ومعنى يقيل هؤلاء يعني أصحاب الجنة ينقلون إليها وقت القيلولة ، وقيل :
المستقر والمقيل في المحشر قبل دخول الجنة ، أو المستقر فيها والمقيل فيه.
فقد أخرج ابن جرير عن سعيد الصواف قال : بلغني أن يوم القيامة يقصر على المؤمن حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس ، وإنهم ليقيلون في رياض حتى يفرغ الناس من الحساب ، وذلك قوله تعالى : أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا وفي وصفه بزيادة الحسن مع حصول الخيرية بعطفه على المستقر رمز إلى أن لهم ما يتزين به من حسن الصور وغيره من التحاسين. فإن حسن المنزل إن لم يكن باعتبار ما يرجع لصاحبه لم تتم المسرة به ، والتفضيل المعتبر فيهما المسرة إما لإرادة الزيادة على الإطلاق ، أي هم في أقصى ما يكون من خيرية المستقر وحسن المقيل ، وإما بالإضافة إلى ما للكفرة المتنعمين في الدنيا أو إلى ما لهم في الآخرة بطريق التهكم بهم ، هذا وتفسير المستقر والمقيل بالمكانين حسبما سمعت هو المشهور وهو أحد احتمالات تسعة. وذلك أنهم جوزوا أن يكون كلاهما اسم مكان أو اسم زمان أو مصدرا وأن يكون الأول اسم مكان والثاني اسم زمان أو مصدرا وأن يكون الأول اسم زمان والثاني اسم مكان أو مصدرا وأن يكون الأول مصدرا والثاني اسم مكان أو اسم زمان ، وما شئت تخيل في خيرية زمان أصحاب الجنة وأحسنيته وكذا في خيرية استقرارهم وأحسنية استراحتهم يومئذ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ العامل في يَوْمَ إما اذكر أو ينفرد اللّه تعالى بالملك الدال عليه قوله تعالى : الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وقيل : العامل ذاك بمعناه المذكور. وقيل : إنه معطوف على يَوْمَئِذٍ أو يَوْمَ يَرَوْنَ وتَشَقَّقُ تتفتح والتعبير به دونه للتهويل ، وأصله تتشقق فحذفت إحدى التاءين كما في تَلَظَّى [الليل : 14] وقرأ الحرميان وابن عامر بإدغام التاء في الشين لما بينهما من المقاربة والظاهر أن المراد بالسماء المظلة لنا وبالغمام السحاب المعروف والباء الداخلة عليه باء السبب.
أي تشقق السماء بسبب طلوع الغمام منها. ولا مانع من أن تشقق به كما يشق السنام بالشفرة واللّه تعالى على كل شيء قدير ، وحديث امتناع الخرق على السماء حديث خرافة.
وقيل : باء الحال وهي باء الملابسة. واستظهره بعضهم أي تشقق متغيمة ، وقيل : بمعنى عن وإليه ذهب الفراء.
والفرق بين قولك انشقت الأرض بالنبات وانشقت عنه أن معنى الأول أن اللّه تعالى شقها بطلوعه فانشقت به. ومعنى الثاني أن التربة ارتفعت عنه عند طلوعه ، وقيل : المراد بالغمام غمام أبيض رفيق مثل الضبابة ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم ، وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد أنه الغمام الذي يأتي اللّه تعالى فيه يوم القيامة المذكور في قوله سبحانه :
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ قال ابن جريج : وهو غمام زعموا أنه في الجنة ، وعن مقاتل أن المراد بالسماء ما يعم السماوات كلها وتشقق سماء سماء ، وروي ذلك عن ابن عباس ، فقد أخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا في الأهوال وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه رضي اللّه تعالى عنه أنه قرأ هذه الآية إلى قوله تعالى :
وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا أي تنزيلا عجيبا غير معهود فقال : يجمع اللّه تعالى الخلق يوم القيامة في صعيد واحد الجن والإنس والبهائم والسباع والطير وجميع الخلق فتنشق السماء الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس وجميع الخلق فيحيطون بجميعهم فتقول أهل الأرض : أفيكم ربنا؟ فيقولون : لا ، ثم تنشق السماء الثانية فينزل أهلها وهم أكثر من أهل السماء الدنيا ومن الجن والإنس وجميع الخلق فيحيطون بالملائكة الذين نزلوا قبلهم والجن

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 11
والإنس وجميع الخلق ثم تنشق السماء الثالثة فينزل أهلها وهم أكثر من أهل السماء الثانية والدنيا وجميع الخلق فيحيطون بالملائكة الذين نزلوا قبلهم وبالجن والإنس وجميع الخلق ، ثم ينزل أهل السماء الرابعة وهم أكثر من أهل الثالثة والثانية والأولى وأهل الأرض ، ثم ينزل أهل السماء الخامسة وهم أكثر ممن تقدم ، ثم أهل السماء السادسة كذلك. ثم أهل السماء السابعة وهم أكثر من أهل السماوات وأهل الأرض ، ثم ينزل ربنا في ظلل من الغمام وحوله الكروبيون وهم أكثر من أهل السماوات السبع والإنس والجن وجميع الخلق لهم قرون ككعوب القنا وهم تحت العرش لهم زجل بالتسبيح والتهليل والتقديس للّه تعالى ما بين أخمص أحدهم إلى كعبه مسيرة خمسمائة عام ، ومن فخذه إلى ترقوته مسيرة خمسمائة عام ، ومن ترقوته إلى موضع القرط مسيرة خمسمائة عام وما فوق ذلك خمسمائة عام ، ونزول الرب جل وعلا من المتشابه ، وكذا قوله : «وحوله الكروبيون» وأهل التأويل يقولون : المراد بذلك نزول الحكم والقضاء ، فكأنه قيل : ثم ينزل حكم الرب وحوله الكروبيون أي معه ، وأما نزول الملائكة مع كثرتهم وعظم أجسامهم فلا يمنع عنه ما يشاهد من صغر الأرض لأن الأرض يومئذ تمتد بحيث تسع أهلها وأهل السماوات أجمعين ، وسبحان من لا يعجزه شيء ، ثم الخبر ظاهر في أن الملائكة عليهم السلام لا ينزلون في الغمام ، وذكر بعضهم في الآية أن السماء تنفتح بغمام يخرج منها ، وفي الغمام الملائكة ينزلون وفي أيديهم صحائف الأعمال ، وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء «ونزل» ماضيا مبنيا للفاعل مشددا ، وعنه أيضا «وأنزل» مبنيا للفاعل وجاء مصدره تنزيلا وقياسه إنزالا إلا أنه لما كان معنى أنزل ونزل واحدا جاء مصدر أحدهما للآخر كما قال الشاعر :
حتى تطويت انطواء الخصب كأنه قال : حتى انطويت ، وقرأ الأعمش وعبد اللّه في نقل ابن عطية «وأنزل» ماضيا رباعيا مبنيا للمفعول ، وقرأ جناح بن حبيش والخفاف عن أبي عمرو «ونزل» ثلاثيا مخففا مبنيا للفاعل ، وقرأ أبو معاذ وخارجة عن أبي عمرو «ونزل» بضم النون وشد الزاي وكسرها ونصب «الملائكة» وخرجها ابن جني بعد أن نسبها إلى ابن كثير وأهل مكة على أن الأصل «ننزل» كما وجد في بعض المصاحف فحذفت النون التي هي فاء الفعل تخفيفا لالتقاء النونين ، وقرأ أبي «ونزّلت» ماضيا مشددا مبنيا للمفعول بتاء التأنيث ، وقال صاحب اللوامح عن الخفاف عن أبي عمرو «ونزّل» مخففا مبنيا للمفعول و«الملائكة» بالرفع فإن صحت القراءة فإنه حذف منها المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، والتقدير ونزل نزول الملائكة فحذف النزول ونقل إعرابه إلى الملائكة بمعنى نزل نازل الملائكة لأن المصدر يكون بمعنى الاسم ا ه ، وقال الطيبي : قال ابن جني : نزل بالبناء للمفعول غير معروف لأن نزل لا يتعدى إلى مفعول به ولا يقاس بجن حيث إنه مما لا يتعدى إلى المفعول فلا يقال جنه اللّه تعالى بل أجنه اللّه تعالى ، وقد بني للمفعول لأنه شاذ والقياس عليه مرود فإما أن يكون ذلك لغة نادرة وإما أن يكون من حذف المضاف أي نزل نزول الملائكة فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه قال العجاج :
حتى إذا اصطفوا له حذارا فحذارا منصوب مصدرا لا مفعولا به يريد اصطفوا له اصطفافا حذارا ونزل نزول الملائكة على حد قولك : هذا نزول منزول وصعود مصعود وضرب مضروب وقريب منه ، وقد قيل قول وقد خيف منه خوف فاعرف ذلك فإنه أمثل ما يحتج به لهذه القراءة اه. وهو أحسن من كلام صاحب اللوامح. وعن أبي عمرو أيضا أنه قرأ «وتنزلت الملائكة» فهذه مع قراءة الجمهور وما في بعض المصاحف عشرة قراءات وما كان منها بصيغة المضارع وجهه ظاهر ، وأما ما كان بصيغة الماضي فوجهه على ما قيل الإشارة إلى سرعة الفعل.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 12
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ أي السلطنة القاهرة والاستيلاء الكلي العام الثابت صورة ومعنى ظاهرا وباطنا بحيث لا زوال له ثابت للرحمن يوم إذ تشقق السماء وتنزل للملائكة ، فالملك مبتدأ والْحَقُّ صفته ولِلرَّحْمنِ خبره ويَوْمَئِذٍ ظرف لثبوت الخبر للمبتدأ ، وفائدة التقييد أن ثبوت الملك له تعالى خاصة يومئذ وأما فيما عداه من أيام الدنيا فيكون لغيره عز وجل أيضا تصرف صوري في الجملة واختار هذا بعض المحققين ، ولعل أمر الفصل بين الصفة والموصوف بالظرف المذكور سهل ، وقيل : الْمُلْكُ مبتدأ ويَوْمَئِذٍ متعلق به وهو بمعنى المالكية والْحَقُّ خبره ولِلرَّحْمنِ متعلق بالحق. وتعقب بأنه لا يظهر حينئذ نكتة إيراد المسند معرفا فإن الظاهر عليه أن يقال : الملك يومئذ حق للرحمن ، وأجيب بأن في تعلقه بما ذكر تأكيدا لما يفيد تعريف الطرفين ، وقيل : هو متعلق بمحذوف على التبيين كما في سقيا لك والمبين من له الملك ، وقيل : متعلق بمحذوف وقع صفة للحق وهو كما ترى ، وقيل يَوْمَئِذٍ هو الخبر والْحَقُّ نعت للملك ولِلرَّحْمنِ متعلق به ، وفيه الفصل بين الصفة والموصوف بالخبر فلا تغفل.
ومنعوا تعلق يَوْمَئِذٍ فيما إذا لم يكن خبرا بالحق وعللوا ذلك بأنه مصدر والمصدر لا تتقدم عليه صلته ولو ظرفا وفيه بحث ، والجملة على أكثر الاحتمالات السابقة في عامل يوم استئناف مسوق لبيان أحوال ذلك اليوم وأهواله ، وإيراده تعالى بعنوان الرحمانية للإيذان بأن اتصافه عز وجل بغاية الرحمة لا يهون الخطب على الكفرة المشار إليه بقوله تعالى : وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً أي وكان ذلك اليوم مع كون الملك فيه للّه تعالى المبالغ في الرحمة بعباده شديدا على الكافرين ، والمراد شدة ما فيه من الأهوال ، وفسر الراغب العسير بما لا يتيسر فيه أمر والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله ، وفيها إشارة إلى كون ذلك اليوم يسيرا للمؤمنين وفي الحديث : «إنه يهون على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا»
. وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ قال الطبرسي : العامل في يَوْمَ اذكر محذوفا ويجوز أن يكون معطوفا على ما قبله ، والظاهر أن أل في الظالم للجنس فيعم كل ظالم وحكي ذلك أبو حيان عن مجاهد وأبي رجاء ، وذكر أن المراد بفلان فيما بعد الشيطان ، وقيل : لتعريف العهد ، والمراد بالظالم عقبة بن أبي معيط لعنه اللّه تعالى وبفلان أبي بن خلف ،
فقد روي أنه كان عقبة بن أبي معيط لا يقدم من سفر إلا صنع طعاما فدعا عليه أهل مكة كلهم وكان يكثر مجالسة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ويعجبه حديثه وغلب عليه الشقاء فقدم ذات يوم من سفر فصنع طعاما ثم دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى طعامه فقال : ما أنا بالذي آكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا اللّه وأني رسول اللّه فقال : اطعم يا ابن أخي فقال صلّى اللّه عليه وسلّم : ما أنا بالذي أفعل حتى تقول فشهد بذلك وطعم عليه الصلاة والسلام من طعامه فبلغ ذلك أبي بن خلف فأتاه فقال : أصبوت يا عقبة وكان خليله فقال : واللّه ما صبوت ولكن دخل علي رجل فأبى أن يطعم من طعامي إلا أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي قبل أن يطعم فشهدت له فطعم فقال : ما أنا بالذي أرضى عنك حتى تأتيه فتفعل كذا وذكر فعلا لا يليق إلا بوجه القائل اللعين ففعل عقبة «1» فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : لا ألقاك خارجا عن مكة إلا علوت رأسك بالسيف
، وفي رواية إن وجدتك خارجا من جبال مكة أضرب عنقك صبرا فلما كان يوم بدر وخرج أصحابه أبى أن يخرج فقال له أصحابه : اخرج معنا قال : قد وعدني هذا الرجل إن وجدني خارجا من جبال مكة أن يضرب عنقي
___________
(1) قال الضحاك لما بزق عقبة رجع بزاقه على وجهه لعنه اللّه تعالى ولم يصل حيث أراد فأحرق خديه وبقي أثر ذلك فيهما حتى ذهب إلى النار ا ه منه.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 13
صبرا فقالوا : لك جمل أحمر لا يدرك فلو كانت الهزيمة طرت عليه فخرج معهم فلما هزم اللّه تعالى المشركين رحل به جمله في جدد من الأرض فأخذ أسيرا في سبعين من قريش وقدم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأمر عليا كرّم اللّه تعالى وجهه.
وفي رواية ثابت بن أبي الأفلح بأن يضرب عنقه فقال أتقتلني من بين هؤلاء؟ قال : نعم قال : بم؟ قال : بكفرك وفجورك وعتوك على اللّه تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام
، وفي رواية أنه صلّى اللّه عليه وسلّم صرح له بما فعل معه ثم ضربت عنقه.
وأما أبي بن خلف فمع فعله ذلك قال : واللّه لأقتلن محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم فبلغ ذلك رسول اللّه عليه الصلاة والسلام
فقال : بل أقتله إن شاء اللّه تعالى فأفزعه ذلك وقال لمن أخبره : أنشدك باللّه تعالى أسمعته يقول ذلك؟ قال نعم فوقعت في نفسه لما علموا أن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ما قال قولا إلا كان حقا فلما كان يوم أحد خرج مع المشركين فجعل يلتمس غفلة النبي عليه الصلاة والسلام ليحمل عليه فيحول رجل من المسلمين بين النبي عليه الصلاة والسلام وبينه فلما رأى ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال لأصحابه : خلوا عنه فأخذ الحربة فرماه بها فوقعت في ترقوته فلم يخرج منه دم كثير واحتقن الدم في جوفه فخر يخور كما يخور الثور فأتى أصحابه حتى احتملوه وهو يخور فقالوا : ما هذا فو اللّه ما بك إلا خدش فقال : واللّه لو لم يصبني إلا بريقه لقتلني أليس قد قال : أنا أقتله ، واللّه لو أن الذي بي بأهل ذي المجاز لقتلهم فما لبث إلا يوما أو نحو ذلك حتى ذهب إلى النار فأنزل اللّه تعالى هذه الآية ، وروي هذا القول عن ابن عباس وجماعة
، وفي رواية أخرى عن ابن عباس أن الظالم أبي بن خلف وفلان عقبة ، وعض اليدين إما على ظاهره ، وروي ذلك عن الضحاك. وجماعة قالوا : يأكل يديه إلى المرفق ثم تنبت ولا يزال كذلك كلما أكلها نبتت وإما كناية عن فرط الحسرة والندامة ، وكذا عض الأنامل والسقوط في اليد وحرق الأسنان والأدم ونحوها لأنها لازمة لذلك في العادة والعرف ، وفي المثل يأكل يديه ندما ويسيل دمعه دما ، وقال الشاعر :
أبى الضيم والنعمان يحرق نابه عليه فأفضى والسيوف معاقله
والفعل عض على وزن فعل مكسور العين ، وحكى الكسائي عضضت بفتح العين.
يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا الجملة مع موضع الحال من الظالم أو جملة مستأنفة أو مبينة لما قبلها ويا لَيْتَنِي إلخ مقول القول ، ويا إما لمجرد التنبيه من غير قصد إلى تعيين المنبه أو المنادى محذوف يا قومي ليتني ، وأل في الرَّسُولِ إما للجنس فيعم كل رسول وإما للعهد فالمراد به رسول هذه الأمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم والأول إذا كانت أل في الظالم للجنس والثاني إذا كانت للعهد ، وتنكير سَبِيلًا إما للشيوع أو للوحدة وعدم تعريفه لادعاء تعينه أي يا ليتني اتخذت طريقا إلى النجاة أي طريق كان أو طريقا واحدا وهو طريق الحق ولم تتشعب بي طرق الضلالة.
يا وَيْلَتى بقلب ياء المتكلم ألفا كما في صحارى ، وقرأ الحسن وابن قطيب يا ويلتي بكسر التاء والياء على الأصل ، وقرأت فرقة بالإمالة ، قال أبو علي : وترك الإمالة أحسن لأن الأصل في هذه اللفظة الياء فأبدلت الكسرة فتحة والياء ألفا فرارا من الياء فمن أمال رجع إلى الذي عنه فر أولا ، وأيا ما كان فالمعنى يا هلكتي تعالي واحضري فهذا أوانك لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا أراد بفلان الشيطان أو من أضله في الدنيا كائنا من كان أو أبيا إن كان الظالم عقبة أو عقبة إن كان الظالم أبيا ، وهو كناية عن علم مذكر وفلانة عن علم مؤنث ، واشترط ابن الحاجب في فلان أن يكون محكيا بالقول كما هنا ، ورده في شرح التسهيل بأنه سمع خلافه كثيرا كقوله :
وإذا فلان مات عن أكرومة دفعوا معاوز فقره بفلان

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 14
وتقدير القول فيه غير ظاهر ، والفلان والفلانة كناية عن غير العاقل من الحيوانات كما قال الراغب ، وفل وفلة كناية عن نكرة من يعقل فالأول بمعنى رجل والثاني بمعنى امرأة ، ووهم ابن عصفور وابن مالك وصاحب البسيط كما في البحر في قولهم : فل كناية عن العلم كفلان ويختص بالنداء إلا ضرورة كما في قوله :
في لجة أمسك فلان عن فل وليس مرخم فلان خلافا للفراء ، واختلفوا في لام فل وفلان فقيل واو ، قيل : ياء ، وكنوا بهن بفتح الهاء وتخفيف النون عن أسماء الأجناس كثيرا ، وقد كنى به عن الأعلام كما في قوله :
واللّه أعطاك فضلا عن عطيته على هن وهن فيما مضى وهن
فإنه على ما قال الخفاجي أراد عبد اللّه وإبراهيم وحسنا والخليل من الخلة بضم الخاء بمعنى المودة أطلق عليها ذلك إما لأنها تتخلل النفس أي تتوسطها ، وأنشد :
قد تخللت مسلك الروح مني وبه سمّي الخليل خليلا
وإما لأنها تخلها فتؤثر فيها تأثير السهم في الرمية ، وإما لفرط الحاجة إليها ، وهذا التمني وإن كان مسوقا لإبراز الندم والحسرة لكنه متضمن لنوع تعلل واعتذار بتوريك جنايته إلى الغير ، وقوله تعالى لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ تعليل لتمنيه المذكور وتوضيح لتعلله ، وتصديره باللام القسمية للمبالغة في بيان خطئه وإظهار ندمه وحسرته أي واللّه لقد أضلني فلان عن ذكر اللّه تعالى أو عن موعظة الرسول عليه الصلاة والسلام أو عن كلمة الشهادة أو عن القرآن بَعْدَ إِذْ جاءَنِي أي وصل إليّ وعلمته أو تمكنت منه فلا دلالة في الآية على إيمان من أنزلت فيه ثم ارتداده وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا مبالغا في الخذلان وهو ترك المعاونة والنصرة وقت الحاجة ممن يظن فيه ذلك ، والجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبله إما من جهته تعالى أو من تمام كلام الظالم على أنه سمى خليله شيطانا بعد وصفه بالإضلال الذي هو أخص الأوصاف الشيطانية أو على أنه أراد بالشيطان إبليس لأنه الذي حمله على مجالسة المضلين ومخالفة الرسول الهادي عليه الصلاة والسلام بوسوسته وإغوائه فإن وصفه بالخذلان يشعر بأنه كان يعده في الدنيا ويمنيه بأن ينفعه في الآخرة وهو أوفق لحال إبليس عليه اللعنة.
وَقالَ الرَّسُولُ عطف على قوله تعالى : وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا [الفرقان : 21] إلخ وما بينهما اعتراض مسوق لاستعظام ما قالوه وبيان ما يحيق بهم من الأهوال والخطوب ، والمراد بالرسول نبينا صلى اللّه تعالى عليه وسلم وشرف وعظم وكرم ، وإيراده عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة لتحقيق الحق والرد على نحورهم حيث كان ما حكي عنهم قدحا في رسالته صلّى اللّه عليه وسلّم أي قالوا كيت وكيت وقال الرسول إثر ما شاهد منهم غاية العتو ونهاية الطغيان بطريق البث إلى ربه عز وجل والشكوى عليهم يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي الذين حكى عنهم ما حكى من الشنائع اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ الجليل الشأن المشتمل على ما فيه صلاح معاشهم ومعادهم مَهْجُوراً أي متروكا بالكلية ولم يؤمنوا به ولم يرفعوا إليه رأسا ولم يتأثروا بوعيده ووعده ، فمهجورا من الهجر بفتح الهام بمعنى الترك وهو الظاهر ، وروي ذلك عن مجاهد والنخعي وغيرهما واستدل ابن الفرس بالآية على كراهة هجر المصحف وعدم تعاهده بالقراءة فيه ، وكان ذلك لئلا يندرج من لم يتعاهد القراءة فيه تحت ظاهر النظم الكريم فإن ظاهره ذم الهجر مطلقا وإن كان المراد به عدم القبول لا عدم الاشتغال مع القبول ولا ما يعمهما فإن كان مثل هذا يكفي في الاستدلال فذاك وإلا فليطلب دليل آخر للكراهة. وأورد بعضهم في ذلك خبرا وهو
«من تعلم القرآن وعلق مصحفه لم يتعاهده ولم ينظر فيه

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 15
جاء يوم القيامة متعلقا به يقول : يا رب عبدك هذا اتخذني مهجورا اقض بيني وبينه»
وقد تعقب هذا الخبر العراقي بأنه روي عن أبي هدبة وهو كذاب ، والحق أنه متى كان ذلك مخلا باحترام القرآن والاعتناء به كره بل حرم وإلا فلا.
وقيل : مهجورا من الهجر بالضم على المشهور أي الهذيان وفحش القول والكلام على الحذف والإيصال أي جعلوه مهجورا فيه إما على زعمهم الباطل نحو ما قالوا : إنه أساطير الأولين اكتتبها وإما بأن هجروا فيه ورفعوا أصواتهم بالهذيان لما قرىء لئلا يسمع كما قالوا : لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت : 26] وجوز أن يكون مصدرا من الهجر بالضم كالمعقول بمعنى العقل والمجلود بمعنى الجلادة أي اتخذوه نفس الهجر والهذيان ، ومجيء مفعول مصدرا مما أثبته الكوفيون لكن على قلة ، وفي هذه الشكوى من التخويف والتحذير ما لا يخفى فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا شكوا إلى اللّه تعالى قومهم عجل لهم العذاب ولم ينظروا.
وقيل : إن قالَ إلخ عطف على يَعَضُّ الظَّالِمُ ، والمراد ويقول الرسول إلا أنه عدل إلى الماضي لتحقق الوقوع مع عدم قصد الاستمرار التجددي المراد بمعونة المقام في بعض وإن كان إخبارا عما في الآخرة.
وحال عطفه على وَكانَ الشَّيْطانُ إلخ على أنه من كلامه تعالى لا يخفى حاله ، وقول الرسول ذلك يوم القيامة وهو كالشهادة على أولئك الكفرة وليس بتخويف وإلى ذلك ذهبت فرقة منهم أبو مسلم ، والأول أنسب بقوله تعالى : وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ فإنه تسلية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وحمل له على الاقتداء بمن قبله من الأنبياء عليهم السلام ، والبلية إذا عمت هانت ، والعدو يحتمل أن يكون واحدا وجمعا أي كما جعلنا لك أعداء من المشركين يقولون ما يقولون ويفعلون ما يفعلون من الأباطيل جعلنا لكل نبي من الأنبياء الذين هم أصحاب الشريعة والدعوة إليها عدوا من مرتكبي الجرائم والآثام ويدخل في ذلك آدم عليه السلام لدخول الشياطين وقابيل في المجرمين ويكتفي بدخول قابيل إن أريد بالمجرمين مجرمو الإنس أو مجرمو أمة النبي وقيل : الكلية بمعنى الكثرة ، والمراد بجعل الأعداء جعل عداوتهم وخلقها وما ينشأ منها فيهم لا جعل ذواتهم ، ففي ذلك رد على المعتزلة في زعمهم إن خالق الشر غيره تعالى شأنه ، وقوله تعالى : وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً وعد كريم له عليه الصلاة والسلام بالهداية إلى كافة مطالبه والنصر على أعدائه أي كفاك مالك أمرك ومبلغك إلى الكمال هاديا لك إلى ما يوصلك إلى غاية الغايات التي من جملتها تبليغ ما أنزل إليك وإجراء أحكامه في أكناف الدنيا إلى أن يبلغ الكتاب أجله وناصرا لك عليهم على أبلغ وجه.
وقدر بعضهم متعلق هادِياً إلى طريق قهرهم ، وقيل : المعنى هاديا لمن آمن منهم ونصيرا لك على غيره ، وقيل : هاديا للأنبياء إلى التحرز عن عداوة المجرمين بالاعتصام بحبله ونصيرا لهم عليهم وهو كما ترى. ونصب الوصفين على الحال أو التمييز وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا حكاية لنوع آخر من أباطيلهم ، والمراد بهم المشركون كما صح عن ابن عباس وهم القائلون أولا ، والتعبير عنهم بعنوان الكفر لذمهم به والإشعار بعلة الحكم ، وقيل : المراد بهم طائفة من اليهود لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أي أنزل عليه كخبر بمعنى أخبر فلا قصد فيه إلى التدريج المكان جُمْلَةً واحِدَةً فإنه لو قصد ذلك لتدافعا إذ يكون المعنى لولا فرق القرآن جملة واحدة والتفريق ينافي الجملية ، وقيل : عبر بذلك للدلالة على كثرة المنزل في نفسه ، ونصب جُمْلَةً على الحال وواحِدَةً على أنه صفة مؤكدة له أي هلا أنزل القرآن عليه عليه الصلاة والسلام دفعة غير مفرق كما أنزلت التوراة والإنجيل والزبور على ما تدل عليه الأحاديث والآثار حتى كاد يكون إجماعا كما قال السيوطي ورد على من أنكر ذلك من فضلاء عصره ، فقول ابن

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 16
الكمال إن التوراة أنزلت منجمة في ثماني عشرة سنة ويدل عليه نصوص التوراة ولا قاطع بخلافه من الكتاب والسنة ناشىء من نقصان الإطلاع.
وهذا الاعتراض مما لا طائل تحته لأن الإعجاز مما لا يختلف بنزوله جملة أو مفرقا مع أن للتفريق فوائد ، منها ما ذكره اللّه تعالى بعد ، وقيل : إن شاهد صحة القرآن إعجازه وذلك ببلاغته وهي بمطابقته لمقتضى الحال في كل جملة منه ولا يتيسر ذلك في نزوله دفعة واحدة فلا يقاس بسائر الكتب فإن شاهد صحتها ليس الإعجاز. وفيه أن قوله :
ولا يتيسر إلخ ممنوع فإنه يجوز أن ينزل دفعة واحدة مع رعاية المطابقة المذكورة في كل جملة لما يتجدد من الحوادث الموافقة لها الدالة على أحكامها. وقد صح أنه نزل كذلك إلى السماء الدنيا فلو لم يكن هذا لزم كونه غير معجز فيها ولا قائل به بل قد يقال إن هذا أقوى في إعجازه والبليغ يفهم من سياق الكلام ما يقتضيه المقام فافهم كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ استئناف وارد من جهته تعالى لرد مقالتهم الباطلة وبيان بعض الحكم في تنزيله تدريجا ، ومحل الكاف نصب على أنها صفة لمصدر مؤكد لمضمر معلل بما بعده ، وجوز نصبها على الحالية ، «وذلك» إشارة إلى ما يفهم من كلامهم أي تنزيلا مثل ذلك التنزيل الذي قدحوا فيه واقترحوا خلافه نزلناه لا تنزيلا مغايرا له أو نزلناه مماثلا لذلك التنزيل لنقوي به فؤادك فإن في تنزيله مفرقا تيسيرا لحفظ النظم وفهم المعاني وضبط الكلام والوقوف على تفاصيل ما روعي فيه من الحكم والمصالح وتعدد نزول جبريل عليه السلام وتجدد إعجاز الطاعنين فيه في كل جملة مقدار أقصر سورة تنزل منه ، ولذلك فوائد غير ما ذكر أيضا ، منها معرفة الناسخ المتأخر نزوله من المنسوخ المتقدم نزوله المخالف لحكمه ومنها انضمام القرائن الحالية إلى الدلالات اللفظية فإنه يعين على معرفة البلاغة لأنه بالنظر إلى الحال يتنبه السامع لما يطابقها ويوافقها إلى غير ذلك ، وقيل : قوله تعالى كَذلِكَ من تمام كلام الكفرة والكاف نصب على الحال من القرآن أو الصفة لمصدر نزل المذكور أو لجملة ، والإشارة إلى تنزيل الكتب المتقدمة ، ولام لِنُثَبِّتَ لام التعليل والمعلل محذوف نحو ما سمعت أولا أي نزلناه مفرقا لنثبت إلخ ، وقال أبو حاتم : هي لام القسم ، والتقدير واللّه لنثبتن فحذف النون وكسرت اللام وقد حكى ذلك عنه أبو حيان والظاهر أنها عنده كذلك على القولين في كَذلِكَ.
وتعقبه بأنه قول في غاية الضعف وكأنه ينحو إلى مذهب الأخفش إن جواب القسم يتلقى بلام كي وجعل منه «ولتصغي إليه أفئدة» إلخ وهو مذهب مرجوح ، وقرأ عبد اللّه «ليثبت» بالياء أي ليثبت اللّه تعالى.
وقوله تعالى : وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا عطف على الفعل المحذوف المعلل بما ذكر ، وتنكير «ترتيلا» للتفخيم أي كذلك نزلناه ورتلناه ترتيلا بديعا لا يقادر قدره ، وترتيله تفريقه آية بعد آية قاله النخعي والحسن وقتادة.
وقال ابن عباس : بينّاه بيانا فيه ترسل ، وقال السدي : فصلناه تفصيلا ، وقال مجاهد : جعلنا بعضه إثر بعض وقيل : هو الأمر بترتيل قراءته بقوله تعالى : وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل : 4] وقيل : قرأناه عليك بلسان جبريل عليه السلام شيئا فشيئا في عشرين أو في ثلاث وعشرين سنة على تؤدة وتمهل وهو مأخوذ من قولهم : ثغر مرتل أي مفلج الأسنان غير متلاصقها وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ من الأمثال التي من جملتها اقتراحاتهم القبيحة الخارجة عن دائرة العقول الجارية لذلك مجرى الأمثال أي لا يأتونك بكلام عجيب هو مثل في البطلان يريدون به القدح في نبوتك ويظهرونه لك إِلَّا جِئْناكَ في مقابلته بِالْحَقِّ أي بالجواب الحق الثابت الذي ينحي عليه بالإبطال ويحسم مادة القيل والقال كما مر من الأجوبة الحقة القالعة لعروق أسئلتهم الشنيعة الدامغة لها بالكلية ، وقوله تعالى : وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً عطف على «الحق» أي جئناك بأحسن تفسيرا أي بما هو أحسن أو على محل بِالْحَقِّ أي استحضرنا لك وأنزلنا عليك الحق وأحسن تفسيرا أي كشفا وبيانا على معنى أنه في غاية ما يكون من الحسن في حد ذاته لا أن ما يأتون به

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 17
له حسن في الجملة وهذا أحسن منه ، وهذا نظير قولهم : اللّه تعالى أكبر أي له غاية الكبرياء في حد ذاته وبعضهم قدر مفضلا عليه فقال : أي وأحسن تفسيرا من مثلهم وحسنه على زعمهم أو هو تهكم ، وتعقب الأول بأنه يفوت عليه معنى التسلية لأن المراد لا يهلك ما اقترحوه من قولهم : لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً فإن تنزيله مفرقا أحسن مما اقترحوه لفوائد شتى وفيه منع ظاهر ، وقيل : المراد بالتفسير المعنى ، والمراد وأحسن معنى لأنه يقال : تفسير كذا كذا أي معناه فهو مصدر بمعنى المفعول لأن المعنى مفسر كدرهم ضرب الأمير ، ورد بأن المفسر اسم مفعول هو الكلام لا المعنى لأنه يقال فسرت الكلام لا معناه.
وقال الطيبي : وضع التفسير موضع المعنى من وضع السبب موضع المسبب لأن التفسير سبب لظهور المعنى وكشفه ، وقيل عليه : إنه فرق بين المعنى وظهوره فلا يتم التقريب وقد يكتفى بسببيته له في الجملة.
وأيا ما كان فهو نصب على التمييز والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال فالجملة في محل النصب على الحالية أي لا يأتونك بمثل في حال من الأحوال أي إلا حال إنزالنا عليك واستحضارنا لك الحق وأحسن تفسيرا ، وجعل ذلك مقارنا لإتيانهم وإن كان بعده للدلالة على المسارعة إلى إبطال ما أتوا به تثبيتا لفؤاده صلّى اللّه عليه وسلّم ، وجوز أن يكون المثل عبارة عن الصفة الغريبة التي كانوا يقترحون كونه عليه الصلاة والسلام عليها من الاستغناء عن الأكل والشرب وحيازة الكنز والجنة ونزول القرآن عليه جملة واحدة على معنى لا يأتوك بحالة عجيبة يقترحون اتصافك بها قائلين هلا كان على هذه الحالة إلا أعطيناك نحن من الأحوال الممكنة ما يحق لك في حكمتنا ومشيئتنا أن تعطاه وما هو أحسن ، وتعقب بأنه يأباه الاستثناء المذكور فإن المتبادر منه أن يكون ما أعطاه اللّه تعالى من الحق مترتبا على ما أتوا به من الأباطيل دامغا لها ولا ريب في أن ما أتاه اللّه تعالى من الملكات السنية الطائفة بالرسالة قد أتاه من أول الأمر لا بمقابلة ما حكي عنهم من الاقتراحات لأجل دمغها ، وإبطالها.
وأجيب بأن معنى إِلَّا جِئْناكَ إلخ على ذلك إلا أظهرنا فيك ما يكشف عن بطلان ما أتوا به وهو كما ترى فالحق التعويل على الأول. والمشهور أن الإتيان والمجيء بمعنى لكن عبر أولا بالإتيان ، وثانيا بالمجيء للتفنن وكراهة أن يتحد ما ينسب إليه عز وجل وما ينسب إليهم لفظا مع كون ما أتوا به في غاية القبح والبطلان وما جاء به سبحانه في غاية الحقية والحسن ، وفرق الراغب بينهما فقال المجيء كالإتيان لكن المجيء أعم لأن الإتيان مجيء بسهولة ، ومنه قيل للسيل المار على وجهه أتى وأتاوى ، والإتيان قد يقال باعتبار القصد وإن لم يكن منه الحصول والمجيء يقال اعتبارا بالحصول ، ولعل في التعبير بالإتيان أولا والمجيء ثانيا على هذا إشارة إلى أن ما يأتون به من الأمثال في نفسه من الأمور التي تتخيل بسهولة ولا تحتاج إلى إعمال فكر بخلاف ما يكون في مقابلته فإنه في نفسه من الأمور العقلية التي صقلها الفكر فلا يجد أحد سبيلا إلى ردها والطعن فيها أو إلى أن فعلهم لخروجه عن حيز القبول منزل منزلة العدم حتى كأنهم لم يتحقق منهم القصد دون الحصول بخلاف ما كان من قبله عز وجل فتأمل واللّه تعالى أعلم بأسرار كتابه.
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أي يحشرون ماشين على وجوههم.
فقد روى الترمذي عن أبي هريرة قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف ، صنفا مشاة وصنفا ركبانا وصنفا على وجوههم قيل يا رسول اللّه وكيف يمشون على وجوههم؟ قال إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم إما أنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك»
وهذا يحتمل أن يكون بمس وجوههم وسائر ما في جهتها من صدورهم

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 18
وبطونهم ونحوها الأرض وأن يكون بنكسهم على رؤوسهم ، وجعل وجوههم إلى ما يلي الأرض وارتفاع أقدامهم وسائر أبدانهم ، ولعل الحديث أظهر في الأول ، وقيل : إن الملائكة عليهم السلام تسحبهم وتجرهم على وجوههم إلى جهنم والأمر عليه ظاهر لا غرابة فيه ، وقيل : الحشر على الوجه مجاز عن الذلة المفرطة والخزي والهوان ، وقيل : هو من قول العرب مر فلان على وجهه إذا لم يدر أين ذهب ، وقيل : الكلام كناية أو استعارة تمثيلية والمراد أنهم يحشرون متعلقة قلوبهم بالسفليات من الدنيا وزخارفها متوجهة وجوههم إليها ، ولعل كون هذه الحال في الحشر باعتبار بقاء آثارها وإلا فهم هناك في شغل شاغل عن التوجه إلى الدنيا وزخارفها وتعلق قلوبهم بها ، ومحل الموصول قيل إما النصب بتقدير أذم أو أعني أو الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين أو على أنه مبتدأ ، وقوله تعالى :
أُوْلئِكَ بدل منه أو بيان له ، وقوله تعالى : شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلًا خبر له أو اسم الإشارة مبتدأ ثان وشَرٌّ خبره ، والجملة خبر الموصول ، وقال صاحب الفرائد : يمكن أن يكون الموصول بدلا من الضمير في يأتونك وأُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً كلام مستأنف ، ولعل الأقرب كون الموصول مبتدأ وما بعده خبره قال الطيبي. وذلك من باب كلام المنصف وإرخاء العنان وفصل الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عما قبله استئنافا لأن التسلية السابقة حركت منه صلّى اللّه عليه وسلّم بأن يسأل فإذا بما ذا أجيبهم وما يكون قولي لهم؟ فقيل قل لهم الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم إلخ يعني مقصودكم من هذا التعنت تحقير مكاني وتضليل سبيلي وما أقول لكم أنتم كذلك بل أقول الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم شر مكانا وأضل سبيلا فانظروا بعين الإنصاف وتفكروا من الذي هو أولى بهذا الوصف منا ومنكم لتعلموا أن مكانكم شر من مكاننا وسبيلكم أضل من سبيلنا. وعليه قوله تعالى : إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ : 24] فالمكان الشرف والمنزلة. ويجوز أن يراد به الدار والمسكن. وشَرٌّ وأَضَلُّ محمولان على التفضيل على طريقة قوله تعالى : قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ [المائدة :
60] وجعل صاحب الفرائد ذلك لإثبات كل الشر لمكانهم وكل الضلال لسبيلهم. ووصف السبيل بالضلال من باب الإسناد المجازي للمبالغة والآية على ما سمعت متصلة بما قبلها من قوله تعالى : وَلا يَأْتُونَكَ إلخ وقال الكرماني هي متصلة بقوله تعالى أصحاب الجنة يومئذ الآية قيل ويجوز أن تكون متصلة بقوله سبحانه : وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ انتهى. وما ذكر أولا أبعد مغزى ، وقوله تعالى : وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ إلخ جملة مستأنفة سيقت لتأكيد ما مر من التسلية والوعد بالهداية والنصر في قوله تعالى : كَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً على ما قدمناه بحكاية ما جرى بين من ذكر من الأنبياء عليهم السلام وبين قومهم حكاية إجمالية كافية فيما هو المقصود. واللام واقعة في جواب القسم أي واللّه تعالى لقد آتينا موسى التوراة أي أنزلناها عليه بالآخرة ، وقيل : المراد بالكتاب الحكم والنبوة ولا يخفى بعده وَجَعَلْنا مَعَهُ الظرف متعلق بجعلنا ، وقوله تعالى : أَخاهُ مفعول أول له وقوله سبحانه : هارُونَ بدل من أَخاهُ أو عطف بيان له وقوله عز وجل وَزِيراً مفعول ثان له وتقدم معنى الوزير ولا ينافي هذا قوله تعالى : وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا [مريم : 53] لأنه وإن كان نبيا فالشريعة لموسى عليه السلام وهو تابع له فيها كما أن الوزير متبع لسلطانه.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 36 إلى 59]
فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40)
وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44) أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45)
ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50)
وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55)
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59)

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 19
فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا هم فرعون وقومه والظاهر تعلق بآياتنا ب كَذَّبُوا. والمراد بها دلائل التوحيد المودعة في الأنفس والآفاق أو الآيات التي جاءت بها الرسل الماضية عليهم السلام أو التسع المعلومة.
والتعبير عن التكذيب بصيغة الماضي على الاحتمالين الأولين ظاهر وعلى الأخير قيل لتنزيل المستقبل لتحققه منزلة الماضي وتعقب بأنه لا يناسب المقام ، وقال العلامة أبو السعود : لم يوصف القوم لهما عند إرسالهما إليهم بهذا الوصف ضرورة تأخر تكذيب الآيات التسع عن إظهارها المتأخر عن ذهابهما المتأخر عن الأمر به بل إنما وصفوا بذلك عند الحكاية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بيانا لعلة استحقاقهم لما يحكى بعده من التدمير وبحث فيه بما فيه تأمل ، وجوز أن يكون الظرف متعلقا باذهبا فمعنى كَذَّبُوا فعلوا التكذيب فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً عجيبا هائلا لا يقادر قدره ولا يدرك كنهه والمراد به أشد الهلاك. وأصله كسر الشيء على وجه لا يمكن إصلاحه والفاء فصيحة والأصل فقلنا اذهبا إلى القوم فذهبا إليهم ودعواهم إلى الإيمان فكذبوهما واستمروا على ذلك فدمرناهم فاقتصر على حاشيتي القصة اكتفاء بما هو المقصود. وقيل : معنى فدمرناهم فحكمنا بتدميرهم فالتعقيب باعتبار الحكم وليس في الإخبار بذلك كثير فائدة.
وقيل : الفاء لمجرد الترتيب وهو كما ترى.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 20
وعطف (قلنا) على جَعَلْنا المعطوف على آتَيْنا بالواو التي لا تقتضي ترتيبا على الصحيح فيجوز تقدمه مع ما يعقبه على إيتاء الكتاب فلا يرد أن إيتاء الكتاب وهو التوراة بعد هلاك فرعون وقومه فلا يصح الترتيب والتعرض لذلك في مطلع القصة مع أنه لا مدخل له في إهلاك القوم لما أنه بعد للإيذان من أول الأمر ببلوغه عليه السلام غاية الكمال التي هي إنجاء بني إسرائيل من ملكة فرعون وإرشادهم إلى طريق الحق بما في التوراة من الأحكام إذ به يحصل تأكيد الوعد بالهداية على الوجه الذي ذكر سابقا.
وقرأ علي كرّم اللّه تعالى وجهه والحسن ومسلمة بن محارب فدمراهم على الأمر لموسى وهارون عليهما السلام
وعن علي كرّم اللّه تعالى وجهه أيضا كذلك إلا أنه مؤكد بالنون الشديدة
، وعنه كرّم اللّه تعالى وجهه «فدمرا» أمرا لهما بهم بباء الجر
وكأن ذلك من قبيل :
تجرح في عراقيبها نصلي وحكي في الكشاف عنه أيضا كرّم اللّه تعالى وجهه «فدمرتهم» بتاء الضمير
وَقَوْمَ نُوحٍ منصوب بمضمر يدل عليه قوله تعالى : فَدَمَّرْناهُمْ أي ودمرنا قوم نوح ، وجوز الحوفي وأبو حيان كونه معطوفا على مفعول فدمرناهم ورد بأن تدمير قوم نوح ليس مترتبا على تكذيب فرعون وقومه فلا يصح عطفه عليه.
وأجيب بأنه ليس من ضرورة ترتب تدميرهم على ما قبله ترتب تدمير هؤلاء عليه لا سيما وقد بين سببه بقوله تعالى : لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أي نوحا ومن قبله من الرسل عليهم السلام أو نوحا وحده فإن تكذيبه عليه السلام تكذيب للكل لاتفاقهم على التوحيد أو أنكروا جواز بعثة الرسل مطلقا ، وتعريف الرسل على الأول عهدي ، ويحتمل أن يكون للاستغراق إذ لم يوجد وقت تكذيبهم غيرهم ، وعلى الثاني استغراقي لكن على طريق المشابهة والادعاء ، وعلى الثالث للجنس أو للاستغراق الحقيقي ، وكأن المجيب أراد أن اعتبار العطف قبل الترتيب فيكون المرتب مجموع المتعاطفين ويكفي فيه ترتب البعض. وقيل : المقصود من العطف التسوية والتنظير كأنه قيل : دمرناهم كقوم نوح فتكون الضمائر لهم. والرسل نوح وموسى وهارون عليهم السلام ولا يخفى ما فيه. واختار جمع كونه منصوبا باذكر محذوفا ، وقيل : هو منصوب بمضمر يفسره قوله تعالى : أَغْرَقْناهُمْ ويرجحه على الرفع تقدم الجمل الفعلية. ولا يخفى أنه إنما يتسنى ذلك على مذهب الفارسي من كون - لما - ظرف زمان وأما إذا كانت حرف وجود لوجود فلا لأن أَغْرَقْناهُمْ حينئذ يكون جوابا لها فلا يفسر ناصبا. ولعل أولى الأوجه الأول ، وأَغْرَقْناهُمْ استئناف مبين لكيفية تدميرهم كأنه قيل : كيف كان تدميرهم؟ فقيل : أغرقناهم بالطوفان وَجَعَلْناهُمْ أي جعلنا إغراقهم أو قصتهم لِلنَّاسِ آيَةً أي آية عظيمة يعتبر بها من شاهدها أو سمعها وهو مفعول ثان لجعلنا ولِلنَّاسِ متعلق به أو متعلق بمحذوف وقع حالا من آيَةً إذ لو تأخر عنها لكان صفة لها وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً أي جعلناه معدا لهم في الآخرة أو في البرزخ أو فيهما.
والمراد بالظالمين القوم المذكورون ، والإظهار في موقع الإضمار للإيذان بتجاوزهم الحد في الكفر والتكذيب أو جميع الظالمين الذين لم يعتبروا بما جرى عليهم من العذاب فيدخل في زمرتهم قريش دخولا أوليا ويحتمل العذاب الدنيوي وغيره.
وَعاداً عطف على قَوْمَ نُوحٍ أي ودمرنا عادا أو واذكر عادا على ما قيل ، ولا يصح أن يكون عطفا إذا نصب على الاشتغال لأنهم لم يغرقوا. وقال أبو إسحاق هو معطوف على - هم - من جَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً ويجوز أن يكون معطوفا على محل (الظالمين) فإن الكلام بتأويل وعدنا الظالمين ا ه ولا يخفى بعد الوجهين وَثَمُودَ الكلام فيه وفيما بعده كما فيما قبله.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 21
وقرأ عبد اللّه وعمرو بن ميمون والحسن وعيسى وثمود غير مصروف على تأويل القبيلة ، وروي ذلك عن حمزة وعاصم والجمهور بالصرف ، ورواه عبد بن حميد عن عاصم على اعتبار الحي أو أنهم سموا بالأب الأكبر وَأَصْحابَ الرَّسِّ عن ابن عباس هم قوم ثمود ويبعده العطف لأنه يقتضي التغاير ، وقال قتادة : هم أهل قرية من اليمامة يقال لها الرس والفلج قيل قتلوا نبيهم فهلكوا وهم بقية ثمود. وقوم صالح ، وقال كعب. ومقاتل والسدي : أهل بئر يقال له الرس بإنطاكية الشام قتلوا فيها صاحب يس وهو حبيب النجار.
وقيل : هم قوم قتلوا نبيهم ورسوه في بئر أي دسوه فيه ، وقال وهب والكلبي : أصحاب الرس وأصحاب الأيكة قومان أرسل إليهما شعيب ، وكان أصحاب الرس قوما من عبدة الأصنام وأصحاب آبار ومواش فدعاهم إلى الإسلام فتمادوا في طغيانهم وفي إيذائه عليه السلام فبينما هم حول الرس وهي البئر غير المطوية كما روي عن أبي عبيدة انهارت بهم وبدارهم ، وقال علي كرّم اللّه تعالى وجهه. فيما نقله الثعلبي : هم قول عبدوا شجرة يقال لها : شاة درخت رسّوا نبيهم في بئر حفروه له
في حديث طويل ، وقيل : هم أصحاب النبي حنظلة بن صفوان كانوا مبتلين بالعنقاء وهي أعظم ما يكون من الطير وكان فيها من كل لون وسميت عنقاء لطول عنقها وكانت تسكن جبلهم الذي يقال له فتح وتنقض على صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد ولإتيانها بهذا الأمر الغريب سميت مغربا ، وقيل : لأنها اختطفت عروسا ، وقيل : لغروبها أي غيبتها ، وقيل : لأن وكرها كان عند مغرب الشمس ، ويقال فيها عنقاء مغرب بالتوصيف والإضافة مع ضم الميم وفتحها فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة فهلكت ثم إنهم قتلوا حنظلة فأهلكوا. وقيل : هم قوم أرسل إليهم نبي فأكلوه ، وقيل : قوم نساؤهم سواحق وقيل : قوم بعث إليهم أنبياء فقتلوهم ورسوا عظامهم في بئر ، وقيل : هم أصحاب الأخدود والرس هو الأخدود. وفي رواية عن ابن عباس أنه بئر أذربيجان : وقيل : الرس ما بين نجران إلى اليمن إلى حضرموت. وقيل : هو ماء ونخل لبني أسد. وقيل : نهر من بلاد المشرق بعث اللّه تعالى إلى أصحابه نبيا من أولاد يهوذا بن يعقوب فكذبوه فلبث فيهم زمانا فشكا إلى اللّه تعالى منهم فحفروا له بئرا وأرسلوه فيه وقالوا :
نرجو أن ترضى عنا آلهتنا فكانوا عليه يومهم يسمعون أنين نبيهم فدعا بتعجيل قبض روحه فمات وأظلتهم سحابة سوداء أذابتهم كما يذوب الرصاص. وروى عكرمة ومحمد بن كعب القرظي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن أصحاب الرس أخذوا نبيهم فرسوه في بئر وأطبقوا عليه صخرة فكان عبد أسود قد آمن به يجيء بطعام إلى البئر فيعينه اللّه تعالى على تلك الصخرة فيرفعها فيعطيه ما يغذيه به ثم يرد الصخرة على فم البئر إلى أن ضرب اللّه تعالى على إذن ذلك الأسود فنام أربع عشرة سنة.
وأخرج أهل القرية نبيهم فآمنوا به في حديث طويل ذكر فيه أن ذلك الأسود أول من يدخل الجنة. وهذا إذا صح كان القول الذي لا يمكن خلافه لكن يشكل عليه إيرادهم هنا. وأجاب عنه الطبري بأنه يمكن أنهم كفروا بعد ذلك فأهلكوا فذكرهم اللّه تعالى مع من ذكر من المهلكين ، وملخص الأقوال إنهم قوم أهلكهم اللّه تعالى بتكذيب من أرسل إليهم وَقُرُوناً أي أهل قرون وتقدم الكلام في القرن بَيْنَ ذلِكَ أي المذكور من الأمم ، وللتعدد حسن بين من غير عطف كَثِيراً يطول الكلام جدا بذكرها ، ولا يبعد أن يكون قد علم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مقدارها ، وقوله تعالى :
وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غافر : 78] ليس نصا في نفي العلم بالمقدار كما لا يخفى. وفي إرشاد العقل السليم لعل الاكتفاء في شؤون تلك القرون بهذا البيان الإجمالي لما أن كل قرن منها لم يكن في الشهرة وغرابة القصة بمثابة الأمم المذكورة.
وَكُلًّا منصوب بمضمر يدل عليه ما بعده فإن ضرب المثل في معنى التذكير والتحذير. والمحذوف الذي عوض عنه التنوين عبارة إما عن الأمم التي لم تذكر أسباب إهلاكهم وإما عن الكل فإن ما حكي عن فرعون وقومه وعن

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 22
قوم نوح عليه السلام تكذيبهم للآيات والرسل لا عدم التأثر من الأمثال المضروبة أي ذكرنا وأنذرنا كل واحد من المذكورين ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ أي بينا لكل القصص العجيبة الزاجرة عما هم عليه من الكفر والمعاصي بواسطة الرسل عليهم السلام ، وقيل : ضمير له للرسول عليه الصلاة والسلام ، والمعنى وكل الأمثال ضربناه للرسول فيكون كُلًّا منصوبا بضربنا والْأَمْثالَ بدلا منه على ما في البحر ، وفيه أنه أبعد من ذهب إلى ذلك ، وعندي أنه مما لا ينبغي أن يفسر به كلام اللّه تعالى.
وقوله تعالى : وَكُلًّا مفعول مقدم لقوله سبحانه : تَبَّرْنا تَتْبِيراً وتقديمه للفاصلة ، وقيل : لإفادة القصر على أن المعنى كلا لا بعضا ، وتعقب بأن لفظ - كل - يفيد ذلك ويمكن توجيه ذلك بالعناية ، وأصل التتبير التفتيت ، قال الزجاج : كل شيء كسرته وفتته فقد تبرته ومنه التبر لفتات الذهب والفضة. والمراد به التمزيق والإهلاك أي أهلكنا كل واحد منهم إهلاكا عجيبا هائلا لما أنهم لم يتأثروا بذلك ولم يرفعوا له رأسا وتمادوا على ما هم عليه من الكفر والعدوان وَلَقَدْ أَتَوْا جملة مستأنفة مسوقة لبيان مشاهدة كفار قريش لآثار هلاك بعض الأمم المتبرة وعدم اتعاظهم بها.
وتصديرها بالقسم لتقرير مضمونها اعتناء به. وأتى مضمن معنى مر لتعديه بعلى ، والمعنى باللّه لقد مر قريش في متاجرهم إلى الشام.
عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ وهي سذوم وهي أعظم قرى قوم لوط سميت باسم قاضيها سذوم بالذال المعجمة على ما صححه الأزهري واعتمده في الكشف ، وفي المثل أجور من سذوم أهلكها اللّه تعالى بالحجارة وهو المراد بمطر السوء وكذا أهلك سائر قراهم وكانت خمسا إلا قرية واحدة وهي زغر لم يهلكها لأن أهلها لم يعملوا العمل الخبيث كما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما. وأفراد القرية بالذكر لما أشرنا إليه وانتصب مَطَرَ على أنه مفعول ثان لأمطرت على معنى أعطيت أو أوليت أو على أنه مصدر مؤكد بحذف الزوائد أي إمطار السوء كما قيل في أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح : 17] ، وجوز أبو البقاء أن يكون صفة لمحذوف أي إمطارا مثل مطر السوء وليس بشيء.
وقرأ زيد بن علي مطرت ثلاثيا مبنيا للمفعول ومطر مما يتعدى بنفسه. وقرأ أبو السمال «مطر السوء» بضم السين أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها توبيخ على تركهم التذكر عند مشاهدة ما يوجبه. والهمزة لإنكار نفي استمرار رؤيتهم لها وتقرير استمرارها حسب استمرار ما يوجبها من إتيانهم عليها لا لإنكار استمرار نفي رؤيتهم وتقرير رؤيتهم لها ، والفاء لعطف مدخولها على مقدر يقتضيه المقام أي ألم يكونوا ينظرون إليها فلم يكونوا يرونها أو كانوا ينظرون إليها فلم يكونوا يرونها في مرار مرورهم ليتعظوا بما كانوا يشاهدونه من آثار العذاب.
والمنكر في الأول النظر وعدم الرؤية معا وفي الثاني عدم الرؤية مع تحقق النظر الموجب لها عادة كذا في إرشاد العقل السليم. ولم يقل : أفلم يرونها مع أنه أخصر وأظهر قصدا لإفادة التكرار مع الاستمرار ولم يصرح في أول الآية بنحو ذلك بأن يقال : ولقد كانوا يأتون بدل ولقد أتوا للإشارة إلى أن المرور ولو مرة كاف في العبرة فتأمل. وقوله تعالى : بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً إما إضراب عما قبله من عدم رؤيتهم لآثار ما جرى على أهل القرى من العقوبة وبيان لكون عدم اتعاظهم بسبب إنكارهم لكون ذلك عقوبة لمعاصيهم لا لعدم رؤيتهم لآثارهم خلا أنه اكتفى عن التصريح بإنكارهم ذلك بذكر ما يستلزمه من إنكار الجزاء الأخروي وقد كنى عن ذلك بعدم رجاء النشور ، والمراد بالرجاء التوقع مجازا كأنه قيل : بل كانوا لا يتوقعون النشور المستتبع للجزاء الأخروي وينكرونه ولا يرون لنفس من

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 23
النفوس نشورا أصلا مع تحققه حتما وشموله للناس عموما واطراده وقوعا فكيف يعترفون بالجزاء الدنيوي في حق طائفة خاصة مع عدم الاطراد والملازمة بينه وبين المعاصي حتى يتذكروا ويتعظوا بما شاهدوه من آثار الهلاك وإنما يحملونه على الاتفاق ، وإما انتقال من التوبيخ بما ذكر من ترك التذكر إلى التوبيخ بما هو أعظم منه من عدم رجاء النشور ، وحمل الرجاء على التوقع وعموم النشور أوفق بالمقام. وقيل : هو على حقيقته أعني انتظار الخير والمراد بالنشور نشور فيه خير كنشور المسلمين.
وجوز أن يكون الرجاء بمعنى الخوف على لغة تهامة ، والمراد بالنشور نشورهم والكل كما ترى. وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ أي ما يتخذونك إِلَّا هُزُواً على معنى ما يفعلون به إلا اتخاذك هزوا أي موضع هزو أو مهزوا به فهزوا إما مصدر بمعنى المفعول مبالغة أو هو بتقدير مضاف وجملة إِنْ يَتَّخِذُونَكَ جواب إذا ، وهي كما قال أبو حيان وغيره تنفرد بوقوع جوابها المنفي بأن ولا وما بدون فاء بخلاف غيرها من أدوات الشرط. وقوله تعالى : أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا مقول قول مضمر أي يقول أهذا إلخ. والجملة في موضع الحال من فاعل يتخذونك أو مستأنفة في جواب ماذا يقولون؟.
وجوز أن تكون الجواب. وجملة إِنْ يَتَّخِذُونَكَ معترضة ، وقائل ذلك أبو جهل ومن معه ، وروي أن الآية نزلت فيه ، والإشارة للاستحقار كما في يا عجبا لابن عمرو هذا ، وعائد الموصول محذوف أي بعثه ورَسُولًا حال منه وهو بمعنى مرسل. وجوز أبو البقاء أن يكون مصدرا حذف منه المضاف أي ذا رسول أي رسالة وهو تكلف مستغنى عنه ، وإخراج بعث اللّه تعالى إياه صلّى اللّه عليه وسلّم رسولا بجعله صلة وهم على غاية الإنكار تهكم واستهزاء وإلا لقالوا :
أبعث اللّه هذا رسولا. وقيل : إن ذلك بتقدير أهذا الذي بعث اللّه رسولا في زعمه ، وما تقدم أوفق بحال أولئك الكفرة مع سلامته من التقدير إِنْ كادَ إن مخففة من إن واسمها عند بعض ضمير الشأن محذوف أي إنه كاد لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا أي ليصرفنا عن عبادتها صرفا كليا بحيث يبعدنا عنها لا عن عبادتها فقط ، والعدول إلى الإضلال لغاية ضلالهم بادعاء أن عبادتها طريق سوي.
لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها ثبتنا عليها واستمكنّا بعبادتها ، ولَوْ لا في أمثال هذا الكلام يجري مجرى التقييد للحكم المطلق من حيث المعنى دون اللفظ ، وهذا اعتراف منهم بأنه صلّى اللّه عليه وسلّم قد بلغ من الاجتهاد في الدعوة إلى التوحيد وإظهار المعجزات وإقامة الحجج والبينات ما شارفوا به أن يتركوا دينهم لولا فرط لجاجهم وغاية عنادهم ، ولا ينافي هذا استحقارهم واستهزائهم السابق لأن هذا من وجه وذاك من وجه آخر زعموه سببا لذلك قاتلهم اللّه تعالى. وقيل : إن كلامهم قد تناقض لاضطرابهم وتحيرهم فإن الاستفهام السابق دال على الاستحقار وهذا دال على قوة حجته وكمال عقله صلّى اللّه عليه وسلّم ففيما حكاه سبحانه عنهم تحميق لهم وتجهيل لاستهزائهم بما استعظموه.
وقيل عليه : إنه ليس بصريح في اعترافهم بما ذكر بل الظاهر أنه أخرج في معرض التسليم تهكما كما في قولهم بعث اللّه رسولا وفيه منع ظاهر والتناقض مندفع كما لا يخفى.
وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ الذي يستوجبه كفرهم وعنادهم مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا أي يعلمون جواب هذا على أن مَنْ استفهامية مبتدأ وأَضَلُّ خبرها والجملة في موضع مفعولي يَعْلَمُونَ إن كانت تعدت إلى مفعولين أو في موضع مفعول واحد إن كانت متعدية إلى واحد أو يعلمون الذي هو أضل على أن من موصولة مفعول يَعْلَمُونَ وأضل خبر مبتدأ محذوف والجملة صلة الموصول ، وحذف صدر الصلة وهو العائد

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 24
لطولها بالتمييز ، وكان أولئك الكفرة لما جعلوا دعوته صلّى اللّه عليه وسلّم إلى التوحيد إضلالا حيث قالوا : إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا إلخ والمضل لغيره لا بد أن يكون ضالا في نفسه جيء بهذه الجملة ردا عليهم ببيان أنه عليه الصلاة والسلام هاد لا مضل على أبلغ وجه فإنها تدل على نفي الضلال عنه صلّى اللّه عليه وسلّم لأن المراد أنهم يعلمون أنهم في غاية الضلال لا هو ونفي اللازم يقتضي نفي ملزومه فيلزمه أن يكون عليه الصلاة والسلام هاديا لا مضلا ، وفي تقييد العلم بوقت رؤية العذاب وعيد لهم وتنبيه على أنه تعالى لا يهملهم وإن أمهلهم أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ تعجيب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من شناعة حالهم بعد حكاية قبائحهم من الأقوال والأفعال والتنبيه على ما لهم من المصير والمآل وتنبيه على أن ذلك من الغرابة بحيث يجب أن يرى ويتعجب منه ، والظاهر أن - رأى - بصرية ومَنِ مفعولها وهي اسم موصول والجملة بعدها صلة ، واتَّخَذَ متعدية لمفعولين أولهما هَواهُ وثانيهما إِلهَهُ وقدم على الأول للاعتناء به من حيث أنه الذي يدور عليه أمر التعجيب لا من حيث إن الإله يستحق التعظيم والتقديم كما قيل أي أرأيت الذي جعل هواه إلها لنفسه بأن أطاعه وبنى عليه أمر دينه معرضا عن استماع الحجة الباهرة وملاحظة البرهان النير بالكلية على معنى انظر إليه وتعجب منه ، وقال ابن المنير في تقديم المفعول الثاني هنا نكتة حسنة وهي إفادة الحصر فإن الكلام قبل دخول أَرَأَيْتَ واتَّخَذَ الأصل فيه هواه إلهه على أن هواه مبتدأ خبره إلهه فإذا قيل إلهه هواه كان من تقديم الخبر على المبتدأ وهو يفيد الحصر فيكون معنى الآية حينئذ أرأيت من لم يتخذ معبوده إلا هواه وذلك أبلغ في ذمه وتوبيخه.
وقال صاحب الفرائد : تقديم المفعول الثاني يمكن حيث يمكن تقديم الخبر على المبتدأ والمعرفتان إذا وقعتا مبتدأ وخبرا فالمقدم هو المبتدأ فمن جعل ما هنا نظير قولك : علمت منطلقا زيدا فقد غفل عن هذا ، ويمكن أن يقال : المتقدم هاهنا يشعر بالثبات بخلاف المتأخر فتقدم إِلهَهُ يشعر بأنه لا بد من إله فهو كقولك اتخذ ابنه غلامه فإنه يشعر بأن له ابنا ولا يشعر بأن له غلاما فهذا فائدة تقديم إلهه على هواه. وتعقب ذلك الطيبي فقال : لا يشك في أن مرتبة المبتدأ التقديم وأن المعرفتين أيهما قدم كان المبتدأ لكن صاحب المعاني لا يقطع نظره عن أصل المعنى فإذا قيل : زيد الأسد فالأسد هو المشبه به أصالة ومرتبته التأخير عن المشبه بلا نزاع فإذا جعلته مبتدأ في قولك : الأسد زيد فقد أزلته عن مقره الأصلي للمبالغة ، وما نعني بالمقدم إلا المزال عن مكانه لا القار فيه فالمشبه به هاهنا إلا له والمشبه الهوى لأنهم نزلوا أهواءهم في المتابعة منزلة الإله فقدم المشبه به الأصلي وأوقع مشبها ليؤذن بأن الهوى في باب استحقاق العبادة عندهم أقوى من الإله عز وجل كقوله تعالى : قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا [البقرة : 275] ولمح صاحب المفتاح إلى هذا المعنى في كتابه.
وأما المثال الذي أورده صاحب الفرائد فمعنى قوله : اتخذ ابنه غلامه جعل ابنه كالغلام يخدمه في مهنة أهله وقوله : اتخذ غلامه ابنه جعل غلامه كابنه مكرما مدللا اه ، وأنت تعلم ما في قوله : إن المعرفتين أيهما قدم كان المبتدأ فإن الحق أن الأمر دائر مع القرينة والقرينة هنا قائمة على أن إِلهَهُ الخبر وهي عقلية لأن المعنى على ذلك فلا حاجة إلى جعل ذلك من التقديم المعنوي ، وقال شيخ الإسلام : من توهم أنهما على الترتيب بناء على تساويهما في التعريف فقد زل عنه أن المفعول الثاني في هذا الباب هو الملتبس بالحالة الحادثة وفي ذلك رد على أبي حيان حيث أوجب كونهما على الترتيب.
ونقل عن بعض المدنيين أنه قرأ «آلهة» منونة على الجمع وجعل ذلك على التقديم والتأخير ، والمعنى جعل كل جنس من هواه إلها ، وذكر أيضا أن ابن هرمز قرأ «إلهة» على وزن فعالة وهو أيضا من التقديم والتأخير أي جعل هواه إلهة

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 25
بمعنى مألوهة أي معبودة والهاء للمبالغة فلذلك صرفت ، وقيل : بل الإلاهة الشمس ويقال ألاهة بضم الهمزة وهي غير مصروفة للعلمية والتأنيث لكنها لما كانت مما يدخلها لام التعريف في بعض اللغات صارت بمنزلة ما كان فيه اللام ثم نزعت فلذلك صرفت وصارت كالمنكر بعد التعريف قاله صاحب اللوامح وهو كما ترى. والآية نزلت على ما قيل في الحارث بن قيس السهمي كان كلما هوى حجرا عبده ، وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال : كان الرجل يعبد الحجر الأبيض زمانا من الدهر في الجاهلية فإذا وجد أحسن منه رمى به وعبد الآخر فأنزل اللّه تعالى أَرَأَيْتَ إلخ. وزعم بعضهم لهذا ونحوه أن هواه بمعنى مهويه وليس بلازم كما لا يخفى.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال في الآية كلما هوى شيئا ركبه وكلما اشتهى شيئا أتاه لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى فالآية شاملة لمن عبد غير اللّه تعالى حسب هواه ولمن أطاع الهوى في سائر المعاصي وهو الذي يقتضيه كلام الحسن ، فقد أخرج عنه عبد بن حميد أنه قيل له : أفي أهل القبلة شرك؟ فقال : نعم المنافق مشرك إن المشرك يسجد للشمس والقمر من دون اللّه تعالى وإن المنافق عبد هواه ثم تلا هذه الآية ، والمنافق عند الحسن مرتكب المعاصي كما ذكره غير واحد من الأجلة.
وقد أخرج الطبراني وأبو نعيم في الحلية عن أبي أمامة رضي اللّه تعالى عنه قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : ما تحت ظل السماء من إله يعبد من دون اللّه تعالى أعظم عند اللّه عز وجل من هوى يتبع»
ولا يكاد يسلم على هذا من عموم الآية إلا من اتبع ما اختاره اللّه تعالى لعباده وشرعه سبحانه لهم في كل ما يأتي ويذر ، وعليه يدخل الكافر فيما ذكر دخولا أوليا أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا استئناف مسوق لاستبعاد كونه صلّى اللّه عليه وسلّم حفيظا على هذا المتخذ يزجره عما هو عليه من الضلال ويرشده إلى الحق طوعا أو كرها وإنكار له ، والفاء لترتيب الإنكار على ما قبله من الحالة الموجبة له كأنه قيل : أبعد ماشاهدت غلوه في طاعة الهوى تعسره على الانقياد إلى الهدى شاء أو أبى ، وجوز أن تكون رأى علمية وهذه الجملة في موضع المفعول الثاني وليس بذاك.
وقوله تعالى : أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إضراب وانتقال عن الإنكار المذكور إلى إنكار حسبانه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم إياهم ممن يسمع أو يعقل حسبما ينبىء عنه جده عليه الصلاة والسلام في الدعوة واهتمامه بالإرشاد والتذكير على معنى أنه لا ينبغي أن يقع أي بل أتحسب أن أكثرهم يسمعون حق السماع ما تتلو عليهم من الآيات القرآنية أو يعقلون ما أظهر لهم من الآيات الآفاقية والأنفسية فتعتني في شأنهم وتطمع في إيمانهم ، ولما كان الدليل السمعي أهم نظرا للمقام من الدليل العقلي قيل : يسمعون أو يعقلون ، وقيل : المعنى بل أتحسب أن أكثرهم يسمعون حق السماع ما تتلو عليهم من الآيات أو يعقلون ما في تضاعيفها من المواعظ الزاجرة عن القبائح الداعية إلى المحاسن فتجتهد في دعوتهم وتهتم بإرشادهم وتذكيرهم ولعل ما قلناه أولى فتدبر.
وأيا ما كان فضمير أَكْثَرَهُمْ لمن باعتبار معناه وضمير عَلَيْهِ له أيضا باعتبار لفظه واختير الجمع هنا لمناسبة إضافة الأكثر لهم وأفرد فيما قبله لجعلهم في اتفاقهم على الهوى كشيء واحد ، وقيل : ضمير أَكْثَرَهُمْ للكفار لا لمن لأن قوله تعالى عليه يأباه وليس بشيء ، وضمير الفعلين للأكثر لا لما أضيف إليه ، وتخصيص الأكثر لأن منهم من سبقت له العناية الأزلية بالإيمان بعد الاتخاذ المذكور ، ومنهم من سمع أو عقل لكنه كابر استكبارا وخوفا على الرياسة ، وقوله تعالى : إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ إلخ جملة مستأنفة لتكرير النكير وتأكيده وحسم مادة الحسبان بالمرة والضمير للأكثر أو لمن ، واكتفى عن ذكر الأكثر بما قبله أي ما هم في عدم الانتفاع بما يقرع آذانهم من قوارع الآيات

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 26
وانتفاء التدبر بما يشاهدونه من الدلائل البينات إلا كالبهائم التي هي مثل في الغفلة وعلم في الضلالة بَلْ هُمْ أَضَلُّ منها سَبِيلًا لما أنها تنقاد لصاحبها الذي يتعهدها وتعرف من يحسن إليها ومن يسيء إليها وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها وتهتدي لمراعيها ومشاربها وتأوي إلى معاطنها ومرابضها ، وهؤلاء لا ينقادون لربهم سبحانه وخالقهم ورازقهم ولا يعرفون إحسانه تعالى إليهم من إساءة الشيطان المزين لهم اتباع الشهوات الذي هو عدو مبين ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار والمهالك ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهني والمورد العذب الروي ، ولأنها إن لم تعتقد حقا مستتبعا لاكتساب الخير لم تعتقد باطلا مستوجبا لاقتراف الشر بخلاف هؤلاء حيث مهدوا قواعد الباطل وفرعوا عليها أحكام الشرور ولأن أحكام جهالتها وضلالتها مقصورة على أنفسها لا تتعدى إلى أحد وجهالة هؤلاء مؤدية إلى ثوران الفتنة والفساد وصد الناس عن سنن السداد وهيجان الهرج والمرج فيما بين العباد ولأنها غير معطلة لقوة من القوى المودعة فيها بل صارفة لها إلى ما خلقت له فلا تقصير من قبلها في طلب الكمال وأما هؤلاء فهم معطلون لقواهم العقلية مضيعون للفطرة الأصلية التي فطر الناس عليها. واستدل بالآية على أن البهائم لا تعلم ربها عز وجل ، ومن ذهب إلى أنها تعلمه سبحانه وتسبحه كما هو مذهب الصوفية. وجماعة من الناس قال : إن هذا خارج مخرج الظاهر ، وقيل : المراد إن هم إلا كالأنعام في عدم الانتفاع بالآيات القرآنية والدلائل الأنفسية والآفاقية فإن الأنعام كذ لك والعلم باللّه تعالى الحاصل لها ليس استدلاليا بل هو فطري ، وكونهم أضل سبيلا من الأنعام من حيث إنها رزقت علما بربها تعالى فهي تسبحه عز وجل به وهؤلاء لم يرزقوا ذلك فهم في غاية الضلال.
وقوله تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ إلخ بيان لبعض دلائل التوحيد إثر بيان جهالة المعرضين عنها وضلالهم ، والخطاب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والهمزة للتقرير والرؤية بصرية لأنها التي تتعدى بإلى ، وفي الكلام مضاف مقدر حذف وأقيم المضاف إليه مقامه أي ألم تنظر إلى صنع ربك لأنه ليس المقصود رؤية ذات اللّه عز وجل ، وكون - إلى - اسما واحدا لآلاء وهي النعم بعيد جدا ، وجوز أن تكون علمية وليس هناك مضاف مقدر وتعديتها بإلى لتضمين معنى الانتهاء أي ألم ينته علمك إلى أن ربك كيف مد الظل والأول أولى.
وذكر بعض الأجلة أنه يحتمل أن يكون حق التعبير ألم تر إلى الظل كيف مده ربك فعدل عنه إلى ما في النظم الجليل إشعارا بأن المعقول المفهوم من هذا الكلام لوضوح برهانه وهو دلالة حدوثه وتصرفه على الوجه النافع بأسباب ممكنة على أن ذلك فعل الصانع الحكيم كالمشاهد المرئي فكيف بالمحسوس منه ، وقال الفاضل الطيبي : لو قيل ألم تر إلى الظل كيف مده ربك كان الانتقال من الأثر إلى المؤثر والذي عليه التلاوة كان عكسه والمقام يقتضيه لأن الكلام في تقريع القوم وتجهيلهم في اتخاذهم الهوى إلها مع وضوح هذه الدلائل ولذلك جعل ما يدل على ذاته تعالى مقدما على أفعاله في سائر آياته وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ [يونس : 67 ، الفرقان : 47] وهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ [الفرقان : 48 ، فاطر : 9] ولَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا [الفرقان : 51] وروى السلمي في الحقائق عن بعضهم مخاطبة العام أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية : 17] ومخاطبة الخاص أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ انتهى ، وفي الإرشاد لعل توجيه الرؤية إليه سبحانه مع أن المراد تقرير رؤيته عليه الصلاة والسلام لكيفية مد الظل للتنبيه على أن نظره عليه الصلاة والسلام غير مقصور على ما يطالعه من الآثار والصنائع بل مطمح أنظاره صلّى اللّه عليه وسلّم معرفة شؤون الصانع المجيد جل جلاله ولعل هذا هو سر ما روي عن السلمي ، وقيل : إن التعبير المذكور للإشعار بأن المقصود العلم بالرب علما يشبه الرؤية ، ونقل الطبرسي عن الزجاج أنه فسر الرؤية بالعلم. وذكر أن الكلام من باب القلب ،

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 27
والتقدير ألم تر إلى الظل كيف مده ربك ولا حاجة إلى ذلك ، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لتشريفه صلّى اللّه عليه وسلّم وللإيذان بأن ما يعقبه من آثار ربوبيته تعالى ورحمته جل وعلا وكَيْفَ منصوب بمد على الحالية وهي معلقة لتر أن لم تكن الجملة مستأنفة ، وفي البحر أن الجملة الاستفهامية التي يتعلق عنها فعل القلب ليس باقية على حقيقة الاستفهام وفيه بحث ، وذكر بعض الأفاضل أن كيف للاستفهام وقد تجرد عن الاستفهام وتكون بمعنى الحال نحو انظر إلى كيف تصنع ، وقد جوزه الدماميني في هذه الآية على أنه بدل اشتمال من المجرور وهو بعيد انتهى ، ولا يخفى أنه يستغني على ذلك عن اعتبار المضاف لكنه لا يعادل البعد. والمراد بالظل على ما رواه جماعة عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن وأيوب بن موسى وإبراهيم التيمي والضحاك وأبي مالك الغفاري وأبي العالية وسعيد بن جبير ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس وذلك أطيب الأوقات فإن الظلمة الخالصة تنفر عنها الطباع وتسد النظر وشعاع الشمس يسخن الجو ويبهر البصر ، ومن هنا كان ظل الجنة مدودا كما قال سبحانه : وَظِلٍّ مَمْدُودٍ [الواقعة : 30].
وقيل : المراد به ما يكون من مقابلة كثيف كجبل أو بناء أو شجر للشمس عند ابتداء طلوعها ، ومد الظل من باب ضيق فم القربة ، فالمعنى ألم تنظر إلى صنع ربك كيف أنشأ ظلا أي مظلا كان عند ابتداء طلوع الشمس ممتدا إلى ما شاء اللّه عز وجل واختاره شيخ الإسلام. وتعقب ما تقدم بقوله : غير سديد إذ لا ريب في أن المراد تنبيه الناس على عظيم قدرة اللّه عز وجل وبالغ حكمته سبحانه فيما يشاهدونه فلا بد أن يراد بالظل ما يتعارفونه من حالة مخصوصة يشاهدونها في موضع يحول بينه وبين الشمس جسم مخالفة لما في جوانبه من مواقع ضح الشمس ، وما ذكر وإن كان في الحقيقة ظلا للأفق الشرقي لكنهم لا يعدونه ظلا ولا يصفونه بأوصافه المعهودة ا ه وفيه منع ظاهر ، وهو أظهر على ما ذكره أبو حيان في الاعتراض على ذلك من أنه لا يسمى ظلا فقد قال الراغب وكفى به حجة في اللغة الظل ضد الضح وهو أعم من الفيء فإنه يقال : ظل الليل وظل الجنة ويقال لكل موضع لم تصل إليه الشمس ظل ولا يقال الفيء إلا لما زال عنه الشمس انتهى ، وظاهر قوله تعالى : وَظِلٍّ مَمْدُودٍ في وصف الجنة يقتضي أنهم يعدون مثل ما ذكر ظلا.
وقيل : هو ما كان من غروب الشمس إلى طلوعها وحكي ذلك عن الجبائي والبلخي وقيل : هو ما كان يوم خلق اللّه تعالى السماء وجعلها كالقبة ودحا الأرض من تحتها فألقت ظلها عليها وليس بشيء ، وإن فسر أَلَمْ تَرَ بألم تعلم لما في تطبيق ما يأتي من تتمة الآية عليه من التكلف وارتكاب خلاف الظاهر ، وربما يفوت عليه المقصود الذي سيق له النظم الكريم ، وربما يختلج في بعض الأذهان جواز أن يراد به ما يشمل جميع ما يصدق عليه أنه ظل فيشمل ظل الليل وما بين الفجر وطلوع الشمس وظل الأشياء الكثيفة المقابلة للشمس كالجبال وغيرها فإذا شرع في تطبيق الآية على ذلك عدل عنه كما لا يخفى ، وللصوفية في ذلك كلام طويل سنذكر إن شاء اللّه تعالى شيئا منه ، وجمهور المفسرين على الأول ، والقول الثاني أسلم من القال والقيل.
وقوله تعالى : وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً جملة اعتراضية بين المتعاطفين للتنبيه من أول الأمر على أنه لا مدخل للأسباب العادية من قرب الشمس إلى الأفق الشرقي على الأول أو قيام الشاخص الكثيف على الثاني ، وإنما المؤثر فيه حقيقة المشيئة والقدرة ، ومفعول المشيئة محذوف وهو مضمون الجزاء كما هو القاعدة المستمرة في أمثال هذا التركيب أي ولو شاء جعله ساكنا لجعله ساكنا أي ثابتا على حاله ظلا أبدا كما فعل عز وجل في ظل الجنة أو لجعله ثابتا على حاله من الطول والامتداد وذلك بأن لا يجعل سبحانه للشمس على نسخه سبيلا بأن يطلعها ولا يدعها تنسخه أو بأن لا يدعها تغيره باختلاف أوضاعها بعد طلوعها ، وقيل : بأن يجعلها بعد الطلوع مقيمة على وضع واحد وليس

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 28
بذاك ، وإنما عبر عن ذلك بالسكون قيل : لما أن مقابله الذي هو زواله لما كان تدريجيا كان أشبه شيء بالحركة ، وقيل :
لما أن مقابله الذي هو تغير حاله حسب تغير الأوضاع بين الظل وبين الشمس يرى رأي العين حركة وانتقالا.
وأفاد الزمخشري أنه قوبل مد الظل الذي هو انبساطه وامتداده بقوله تعالى : ساكِناً والسكون إنما يقابل الحركة فيكون قد أطلق مَدَّ الظِّلَّ على الحركة مجازا من باب تسمية الشيء باسم ملابسة أو سببه كما قرره الطيبي وذكر أنه عدل عن حرك إلى مد مع أنه أظهر من مد في تناوله الانبساط والامتداد ليدمج فيه معنى الانتفاع المقصود بالذات وهو معرفة أوقات الصلوات فإن اعتبار الظل فيها بالامتداد دون الانبساط وتمم معنى الإدماج بقوله تعالى : ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً أي بالتدرج والمهل لمعرفة الساعات والأوقات وفيه لمحة من معنى قوله تعالى : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ [البقرة : 189] ا ه. ولا يبعد أن يقال : إن التعبير بمد لما أن الظل المذكور ظل الأفق الشرقي ، وقد اعتبر المشرق والمغرب طرفي جهتي الأرض طولا والشمال والجنوب طرفي جهتيها عرضا أو لأن ظهوره في الأرض وطول المعمور منها الذي يسكنه من يشاهد الظل أكثر من عرض المعمور منها إذ الأول كما هو المشهور نصف دور أعني مائة وثمانين درجة ، والثاني دون ذلك على جميع الأقوال فيه فيكون الظل بالنظر إلى الرائين في المعمور من الأرض ممتدا ما بين جهتي شرقيه وغربيه أكثر مما بين جهتي شماليه وجنوبيه ، وربما يقال : إن ذلك لما أن مبدأ الظل الفجر الأول وضوؤه يرى مستطيلا ممتدا كذنب السرحان ويلتزم القول بأنه لا يذهب بالكلية وإن ضعف بل يبقى حتى يمده ضوء الفجر الثاني فيرى منبسطا واللّه تعالى أعلم ، وقوله سبحانه : ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا عطف على مَدَّ داخل في حكمه أي ثم جعلنا طلوع الشمس دليلا على ظهوره للحس فإن الناظر إلى الجسم الملون حال قيام الظل عليه لا يظهر له شيء سوى الجسم ولونه ثم إذا طلعت الشمس ووقع ضوؤها على الجسم ظهر له أن الظل كيفية زائدة على الجسم ولونه.
والضد يظهر حاله الضد. قاله الرازي والطبري وغيرهما ، وقيل : أي ثم جعلناها دليلا على وجوده أي علة له لأن وجوده بحركة الشمس إلى الأفق وقربها منه عادة ولا يخفى ما فيه أو ثم جعلناها علامة يستدل بأحوالها المتغيرة على أحواله من غير أن يكون بينهما سببية وتأثير قطعا حسبما نطق به الشرطية المعترضة ، ومن الغريب الذي لا ينبغي أن يخرج عليه كلام اللّه تعالى المجيد أن على بمعنى مع أي ثم جعلنا الشمس مع الظل دليلا على وحدانيتنا على معنى جعلنا الظل دليلا وجعلنا الشمس دليلا على وحدانيتنا.
والالتفات إلى نون العظمة للإيذان بعظم قدر هذا الجعل لما يستتبعه من المصالح التي لا تحصى أو لما في الجعل المذكور العاري عن التأثير مع ما يشاهد بين الظل والشمس من الدوران المطرد المنبئ عن السببية من مزيد الدلالة على عظم القدرة ودقة الحكمة ، وثم إما للتراخي الرتبي ويعلم وجهه مما ذكر ، وإما للتراخي الزماني كما هو حقيقة معناها بناء على طول الزمان بين ابتداء الفجر وطلوع الشمس ، وقوله سبحانه ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً عطف على مَدَّ داخل في حكمه أيضا أي ثم أزلناه بعد ما أنشأناه ممتدا عند إيقاع شعاع الشمس موقعه أو بإيقاعه كذلك ومحوناه على مهل قليلا قليلا حسب سير الشمس ، وهذا ظاهر على القول بأن المراد بالظل ظل الشاخص من جبل ونحوه ، وأما على القول بأن المراد به ما بين الطلوعين فلأنه إذا عم لا يزول دفعة واحدة بطلوع الشمس في أفق لكروية الأرض واختلاف الآفاق فقد تطلع في أفق ويزول ما عند أهله من الظل وهي غير طالعة في أفق آخر وأهله في طرف من ذلك الظل ومتى ارتفعت عن الأفق الأول حتى بانت من أفقهم زال ما عندهم من الظل فزوال الظل بعد عمومه تدريجى كذا قيل.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 29
وقيل لا حاجة إلى ذلك فإن زواله تدريجي نظرا إلى أفق واحد أيضا بناء على أنه يبقى منه بعد طلوع الشمس ما لم يقع على موقعه شعاعها لمانع جبل ونحوه ويزول ذلك تدريجا حسب حركة الشمس ووقوع شعاعها على ما لم يقع عليه ابتداء طلوعها ، وكأن التعبير عن تلك الإزالة بالقبض وهو كما قال الطبرسي : جمع الأجزاء المنبسطة لما أنه قد عبر عن الأحداث بالمد.
وقوله سبحانه : إِلَيْنا للتنصيص على كون مرجع الظل إليه عز وجل لا يشاركه حقيقة أحد في إزالته كما أن حدوثه منه سبحانه لا يشاركه حقيقة فيه أحد ، وثم يحتمل أن تكون للتراخي الزماني وأن تكون للتراخي الرتبي نحو ما مر ، ومن فسر الظل بما كان يوم خلق اللّه تعالى السماء كالقبة ودحا الأرض من تحتها فألقت ظلها عليها جعل معنى ثُمَّ جَعَلْنَا إلخ ثم خلقنا الشمس وجعلناها مسلطة على ذلك الظل وجعلناها دليلا متبوعا له كما يتبع الدليل في الطريق فهو يزيد وينقص ويمتد ويقلص ثم قبضناه قبضا سهلا لا عسر فيه.
ويحتمل أن يكون قبضه عند قيام الساعة بقرينة إلينا وكذا يَسِيراً وذلك بقبض أسبابه وهي الأجرام التي تلقي الظل فيكون قد ذكر إعدامه بإعدام أسبابه كما ذكر إنشاءه بإنشاء أسبابه ، والتعبير بالماضي لتحققه ولمناسبة ما ذكر معه ، وثم للتراخي الزماني وفيه ما فيه كما أشرنا إليه وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً بيان لبعض بدائع آثار قدرته عز وجل وروائع أحكام رحمته ونعمته الفائضة على الخلق ، وتلوين الخطاب لتوفية مقام الامتنان حقه ، واللام متعلقة بجعل وتقديمها على مفعوليه للاعتناء ببيان كون ما بعد من منافعهم ، وفي تعقيب بيان أحوال الظل ببيان أحكام الليل الذي هو ظل الأرض من لطف المسلك ما لا مزيد عليه أي وهو الذي جعل لنفعكم الليل كاللباس يستركم بظلامه كما يستركم اللباس وَجعل النَّوْمَ الذي يقع فيه غالبا بسبب استيلاء الأبخرة على القوى عادة ، وقيل :
بشم نسيم يهب من تحت العرش ولا يكاد يصح.
سُباتاً راحة للأبدان بقطع الأفاعيل التي تكون حال اليقظة ، وأصل السبت القطع ، وقيل : يوم السبت لما جرت العادة من الاستراحة فيه على ما قيل ، وقيل : لأن اللّه تعالى لم يخلق فيه شيئا ، ويقال للعليل إذا استراح من تعب العلة : مسبوت ، وإلى هذا ذهب أبو مسلم.
وقال أبو حيان : السبات ضرب من الإغماء يعتري اليقظان مرضا فشبه النوم به ، والسبت الإقامة في المكان فكان النوم سكونا ما وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً أي ذا نشور ينتشر فيه الناس لطلب المعاش فهو كقوله تعالى : وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً [النبأ : 11] وفي جعله نفس النشور مبالغة ، وقيل : نشورا بمعنى ناشرا على الإسناد المجازي ، وجوز أن يراد بالسبات الموت لما فيه من قطع الإحساس أو الحياة ، وعبر عن النوم به لما بينهما من المشابهة التامة في انقطاع أحكام الحياة ، وعليه قوله تعالى : وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام : 60] وقوله سبحانه : اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها [الزمر : 42] وبالنشور البعث أي وجعل النهار زمان بعث من ذلك الثبات أو نفس البعث على سبيل المبالغة. وأبي الزمخشري الراحة في تفسير السبات وقال : إنه يأباه النشور في مقابلته إباء العيوف الورد وهو مرنق ، وكأن ذلك لأن النشور في القرآن لا يكاد يوجد بمعنى الانتشار والحركة لطلب المعاش ، وعلل في الكشف إباء الزمخشري بذلك وبأن الآيات السابقة واللاحقة مع ما فيها من التذكير بالنعمة والقدرة أدمج فيها الدلالة على الإعادة فكذلك ينبغي أن لا يفرق بين هذه وبين أترابها.
وكأنه جعل جعل الليل لباسا والنوم فيه سباتا بمجموعة مقابل جعل النهار نشورا ولهذا كرر جعل فيه لما فى

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 30
النشور من معنى الظهور والحركة الناصبة أو معنى الظهور والبعث ولم يسلك في آية سورة النبأ هذا المسلك لما لا يخفى وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ وقرأ ابن كثير بالتوحيد على إرادة الجنس بأل أو الاستغراق فهو في معنى الجمع موافقة لقراءة الجمهور ، وقال ابن عطية : قراءة الجمع أوجه لأن الريح متى وردت في القرآن مفردة فهي للعذاب ومتى كانت للمطر والرحمة جاءت مجموعة لأن ريح المطر تتشعب وتتذأب وتتفرق وتأتي لينة من هاهنا وهاهنا وشيئا إثر شيء وريح العذاب تأتي جسدا واحدا لا تتذأب ألا ترى أنها تحطم ما تجد وتهدمه.
وقال الرماني : جمعت رياح الرحمة لأنها ثلاثة لواقح الجنوب والصبا والدبور وأفردت ريح العذاب لأنها واحدة لا تلقح وهي الدبور ، وفي قوله صلّى اللّه عليه وسلّم إذا هبت الريح : اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا
إشارة إلى ما ذكر ، وأنت تعلم أن في كلام ابن عطية غفولا عن التأويل الذي تتوافق به القراءتان ، وقد ذكر في البحر أنه لا يسوغ أن يقال في تلك القراءة أنها أوجه من القراءة الأخرى مع أن كلا منهما متواتر ، وأل في الريح للجنس فتعم ، وما ذكر في التفرقة بين المفرد والمجموع أكثري أو عند عدم القرينة أو في المنكر كما جاء في الحديث ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى في سورة الروم ما يتعلق بهذا المبحث.
بُشْراً تخفيف بشرا بضمتين جمع بشور بمعنى مبشر أي أرسل الرياح مبشرات. وقرىء «نشرا» بالنون والتخفيف جمع نشور كرسول ورسل ، و«نشرا» بضم النون والشين وهو جمع لذلك أيضا أي أرسلها ناشرات للسحاب من النشر بمعنى البعث لأنها تجمعه كأنها تحييه لا من النشر بمعنى التفريق لأنه غير مناسب إلا أن يراد به السوق مجازا ، و«نشرا» بفتح النون وسكون الشين على أنه مصدر وصف به مبالغة ، وجوز أن يكون مفعولا مطلقا لأرسل لأنه بمعنى نشر والكل متواتر.
وروي عن ابن السميقع أنه قرأ «بشرى» بألف التأنيث بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي قدام المطر وقد استعيرت الرحمة له ورشحت الاستعارة أحسن ترشيح ، وجوز أن يكون في الكلام استعارة تمثيلية وبُشْراً من تتمة الاستعارة داخل في جملتها ، والالتفات إلى نون العظمة في قوله تعالى : وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ لإبراز كمال العناية بالإنزال لأنه نتيجة ما ذكر من إرسال الرياح أي أنزلناه بعظمتنا بما رتبنا من إرسال الرياح من جهة العلو التي ليست مظنة الماء أو من السحاب أو من الجرم المعلوم ، وقد تقدم تفصيل الكلام في ذلك ماءً طَهُوراً الظاهر أنه نعت لماء ، وعليه قيل معناه بليغالطهارة زائدها ، ووجه في البحر المبالغة بأنها راجعة إلى الكيفية باعتبار أنه لم يشبه شيء آخر مما في مقره أو ممره أو ما يطرح فيه كمياه الأرض ، وفسره ثعلب : بما كان طاهرا في نفسه مطهرا لغيره. وتعقبه الزمخشري بأنه إن كان ما قاله شرحا لبلاغته في الظهارة كان سديدا وإلا فليس فعول من التفعيل في شيء ، وقال غيره : إن أخذ التطهير فيه يأباه لزوم الطهارة والمبالغة في اللازم لا توجب التعدي.
وأجاب صاحب الكشف بأنه لما لم تكن الطهارة في نفسها قابلة للزيادة رجعت المبالغة فيها إلى انضمام معنى التطهير إليها لا أن اللازم صار متعديا ، وتعقبه المولى الدواني بأن فيه تأملا من حيث أن انضمام معنى التطهير لما كان مستفادا من المبالغة بمعونة عدم قبول الزيادة كانت المبالغة في الجملة سببا للتعدي ، ثم قال : ويمكن التفصي بأن المعنى اللازم باق بحاله ، والمبالغة أوجبت انضمام المتعدي إليه لا تعدية ذلك اللازم وبينهما فرقان ، وذكر بعض الأجلة أن إفادة المبالغة تعلق الفعل بالغير مما لا يساعده لغة ولا عرف وأين هذا التعلق في قول جرير :
إلى رجح الأكفال غيد من الظبا عذاب الثنايا ريقهن طهور

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 31
ومثله قوله تعالى : وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً [الإنسان : 21] ومن هذا وأمثاله اختار بعضهم كون المبالغة راجعة إلى الكيفية على ما سمعت عن البحر ، وقال بعض المحققين : إن طَهُوراً هنا اسم لما يتطهر به كما في
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «التراب طهور المؤمن»
وفعول كما قال الأزهري في كتاب الزاهر يكون اسم آلة لما يفعل به الشيء كغسول ووضوء وفطور وسحور إلى غير ذلك كما يكون صفة بمعنى فاعل كأكول أو مفعول كصبوب بمعنى مصبوب واسم جنس كذنوب ومصدرا وهو نادر كقبول فيفيد التطهير للغير وضعا ، ويمكن حمل ما روي عن ثعلب على هذا ، واعتبار كونه طاهرا في نفسه لأن كونه مطهرا للغير فرع ذلك ، وجعل على هذا بدلا من ماء أو عطف بيان له لا نعتا فيكون التركيب نحو أرسلت إليك ماء وضوءا.
وأنت تعلم أن المتبادر فيما نحن فيه كونه نعتا فإن أمكن ذلك على هذا الوجه بنوع تأويل كان أبعد عن القيل والقال ، وحكى سيبويه أن طهورا جاء مصدر التطهر في قولهم : تطهرت طهورا حسنا ، وذكر أن منه
قوله عليه الصلاة والسلام : «لا صلاة إلا بطهور»
وحمل ما في الآية على ذلك مما لا ينبغي. وأيا ما كان ففي توصيف الماء به إعظام المنة كما لا يخفى لِنُحْيِيَ بِهِ أي بما أنزلنا من الماء الطهور بَلْدَةً مَيْتاً ليس فيها نبات وذلك بإنبات النبات به والمراد بالبلدة الأرض كما في قوله :
أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة قليل بها الأصوات إلا بغامها
وجوز أن يراد بها معناها المعروف وتنكيرها للتنويع ، وتذكير صفتها لأنها بمعنى البلد أو لأن مَيْتاً من أمثلة المبالغة التي لا تشبه المضارع في الحركات والسكنات وهو يدل على الثبوت فأجري مجرى الجوامد ، ولام لِنُحْيِيَ متعلق بأنزلنا وتعلقه بطهورا ليس بشيء. وقرأ عيسى وأبو جعفر «ميّتا» بالتشديد ، قال أبو حيان : ورجح الجمهور التخفيف لأنه يماثل فعلا من المصادر فكما وصف المذكر والمؤنث بالمصدر فكذلك بما أشبهه بخلاف المشدد فإنه يماثل فاعلا من حيث قبوله للتاء إلا فيما خص المؤنث نحو طامث.
وَنُسْقِيَهُ أي ذلك الماء الطهور وعند جريانه في الأودية أو اجتماعه في الحياض والمناقع والآبار مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً أي أصل البوادي الذين يعيشون بالحياء ، ولذلك نكر الأنعام والأناسي فالتنكير للتنويع.
وتخصيص هذا النوع بالذكر لأن أهل القرى والأمصار يقيمون بقرب الأنهار والمنابع فبهم وبما لهم من الأنعام غنية عن سقي السماء وسائر الحيوانات تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب غالبا ، ومساق الآيات الكريمة كما هو للدلالة على عظم القدرة كذلك هو لتعداد أنواع النعمة فالأنعام حيث كانت قنية للإنسان وعامة منافعهم ومعايشهم منوطة بها قدم سقيها على سقيهم كما قدم عليها إحياء الأرض فإنه سبب لحياتها وتعيشها فالتقديم من قبيل تقديم الأسباب على المسببات ، وجوز أن يكون تقديم ما ذكر على سقي الأناسي لأنهم إذا ظفروا بما يكون سقي أرضهم ومواشيهم لم يعدموا سقياهم ، وحاصله أنه من باب تقديم ما هو الأهم والأصل في باب الامتنان ، وذكر سقي الأناسي على هذا إرداف وتتميم للاستيعاب ، ومن تبعيضية أو بيانية وكَثِيراً صفة للمتعاطفين لا على البدل.
وقرأ عبد اللّه وأبو حيوة وابن أبي عبلة والأعمش وعاصم وأبو عمرو في رواية عنهما «ونسقيه» بفتح النون ورويت عن عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه وأسقي وسقي لغتان ، وقيل : أسقاه بمعنى جعل السقيا له وهيأها ، وأَناسِيَّ جمع إنسان عند سيبويه وأصله أناسين فقلبت نونه ياء وأدغمت فيما قبلها.
وذهب الفراء والمبرد والزجاج إلى أنه جمع إنسي ، قال في البحر : والقياس أناسية كما قالوا في مهلبي مهالبة.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 32
وفي الدر المصون أن فعالى إنما يكون جمعا لما فيه ياء مشددة إذا لم يكن للنسب ككرسي وكراسي وما فيه ياء النسب يجمع على أفاعلة كأزرقي وأزارقة وكون ياء إنسي ليست للنسب بعيد فحقه أن يجمع على أناسية ، وقال في التسهيل : إنه أكثري ، وعليه لا يرد ما ذكر وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ الضمير للماء المنزل من السماء كالضميرين السابقين ، وتصريفه تحويل أحواله وأوقاته وإنزاله على أنحاء مختلفة أي وباللّه تعالى لقد صرفنا المطر بَيْنَهُمْ أي بين الناس في البلدان المختلفة والأوقات المتغايرة والصفات المتفاوتة من وابل وطل وغيرهما لِيَذَّكَّرُوا أي ليعتبروا بذلك فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً أي لم يفعل إلا كفران النعمة وإنكارها رأسا بإضافتها لغيره عز وجل بأن يقول : مطرنا بنوء كذا معتقدا أن النجوم فاعلة لذلك ومؤثرة بذواتها فيه ، وهذا الاعتقاد والعياذ باللّه تعالى كفر ، وفي الكشاف وغيره أن من اعتقد أن اللّه عز وجل خالق الأمطار وقد نصب الأنواء دلائل وأمارات عليها وأراد بقوله مطرنا بنوء كذا مطرنا في وقت سقوط النجم الفلاني في المغرب مع الفجر لا يكفر ، وظاهره أنه لا يأثم أيضا ، وقال الإمام : من جعل الأفلاك والكواكب مستقلة باقتضاء هذه الأشياء فلا شك في كفره وأما من قال : إنه سبحانه جبلها على خواص وصفات تقتضي هذه الحوادث فلعله لا يبلغ خطؤه إلى حد الكفر. وسيأتي إن شاء اللّه تعالى منا في هذه المسألة كلام أرجو من اللّه تعالى أن تستحسنه ذوو الأفهام ويتقوى به كلام الإمام ، ورجوع ضمير أنزلناه إلى الماء المنزل مروي عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وعكرمة.
وأخرج جماعة عن الأول وصححه الحاكم أنه قال : ما من عام بأقل مطرا من عام ولكن اللّه تعالى يصرفه حيث يشاء ثم قرأ هذه الآية. وأخرج الخرائطي في مكارم الأخلاق عن الثاني مثله ، ويفهم من ذلك حمل التصريف على التقسيم ، وقال بعضهم : هو راجع إلى القول المفهوم من السياق وهو ما ذكر فيه إنشاء السحاب وإنزال القطر لما ذكر من الغايات الجليلة وتصريفه تكريره وذكره على وجوه ولغات مختلفة ، والمعنى ولقد كررنا هذا القول وذكرناه على أنحاء مختلفة في القرآن وغيره من الكتب السماوية بين الناس من المتقدمين والمتأخرين ليتفكروا ويعرفوا بذلك كمال قدرته تعالى وواسع رحمته عز وجل في ذلك فأبى أكثرهم ممن سلف وخلف إلا كفران النعمة وقلة الاكتراث بها أو إنكارها رأسا بإضافتها لغيره تعالى شأنه ، واختار هذا القول الزمخشري ، وقال أبو السعود : هو الأظهر ، وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطاء الخراساني أنه عائد على القرآن ألا ترى قوله تعالى بعد : وَجاهِدْهُمْ بِهِ وحكاه في البحر عن ابن عباس أيضا والمشهور عنه ما تقدم ، ولعل المراد ما ذكر فيه من الأدلة على كمال قدرته تعالى وواسع رحمته عز وجل أو نحو ذلك فتأمل ، وأما ما قيل إنه عائد على الريح فليس بشيء.
وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً نبيا ينذر أهلها فتخف عليك أعباء النبوة لكن لم نشأ ذلك وقصرنا الأمر عليك إجلالا لك وتعظيما فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ فيما يريدونك عليه وهو تهييج له صلّى اللّه عليه وسلّم وللمؤمنين.
وَجاهِدْهُمْ بِهِ أي بالقرآن كما أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وذلك بتلاوة ما فيه من البراهين والقوارع والزواجر والمواعظ وتذكير أحوال الأمم المكذبة جِهاداً كَبِيراً فإن دعوة كل العالمين على الوجه المذكور جهاد كبير لا يقادر قدره كما وكيفا ، وترتيب ما ذكر على ما قبله حسبما تقتضيه الفاء باعتبار أن قصر الرسالة عليه عليه الصلاة والسلام نعمة جليلة ينبغي شكرها وما ذكر نوع من الشكر فكأنه قيل : بعثناك نذيرا لجميع القرى وفضلناك وعظمناك ولم نبعث في كل قرية نذيرا فقابل ذلك بالثبات والاجتهاد في الدعوة وإظهار الحق ، وفي الكشف لبيان النظم الكريم أنه لما ذكر ما يدل على حرصه صلّى اللّه عليه وسلّم على طلب هداهم وتمارضهم في ذلك في قوله سبحانه : أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا [الفرقان : 43] وذنب بدلائل القدرة والنعمة

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 33
والرحمة دلالة على أنهم لا ينفع فيهم الاحتشاد وأنهم يغمطون مثل هذه النعم ويغفلون عن عظمة موجدها سبحانه وجعلوا كالأنعام وأضل وختم بأنه ليس لهم مراد إلا كفور نعمته تعالى ، قيل : وَلَوْ شِئْنا على معنى أنا عظمناك بهذا الأمر لتستقل بأعبائه وتحوز ما ادخر لك من جنس جزائه فعليك بالمجاهدة والمصابرة ولا عليك من تلقيهم الدعوة بالإباء والمشاجرة وبولغ فيه فجعل حرصه صلّى اللّه عليه وسلّم على إيمان هؤلاء المطبوع على قلوبهم طاعة لهم ، وقيل : فلا تطعهم ، ومدار السورة على ما ذكره الطيبي على كونه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم مبعوثا على الناس كافة ينذرهم ما بين أيديهم وما خلفهم ولهذا جعل براعة استهلالها تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان : 1] والآية على ما سمعت متعلقة بقوله تعالى : أَرَأَيْتَ إلى آخر الآيات ، وفيها من التنويه بشأنه عليه الصلاة والسلام ما فيها وليست مسوقة للتأديب كما وهم. وقيل : هي متعلقة بما عند على معنى ولو شئنا لقسمنا النذير بينهم ، كما قسمنا المطر بينهم ولكنا نفعل ما هو إلا نفع لهم في دينهم ودنياهم فبعثناك إليهم كافة فلا تطع إلخ ، وفيه من الدلالة على قصور النظر ما فيه.
هذا وجوز أن يكون ضمير بِهِ عائدا على ترك طاعتهم المفهوم من النهي ولعل الباء حينئذ للملابسة والمعنى وجاهدهم بما ذكر من أحكام القرآن الكريم ملابسا ترك طاعتهم كأنه قيل : وجاهدهم بالشدة والعنف لا بالملاءمة والمداراة كما في قوله تعالى : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة : 73 ، التحريم : 9] وإلا ورد عليه أن مجرد ترك الطاعة بتحقيق بلا دعوة أصلا وليس فيه شائبة الجهاد فضلا عن الجهاد الكبير ، وجوز أيضا أن يكون لما دل عليه قوله عز وجل وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً من كونه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم نذير كافة القرى لأنه لو بعث في كل قرية نذيرا لوجب على كل نذير مجاهدة قريته فاجتمعت على رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم تلك المجاهدات كلها فكبر من أجل ذلك جهاده وعظم فقيل له عليه الصلاة والسلام : وجاهدهم بسبب كونك نذير كافة القرى جهادا كبيرا جامعا لكل مجاهدة. وتعقب بأن بيان سبب كبر المجاهدة بحسب الكمية ليس فيه مزيد فائدة فإنه بين بنفسه وإنما اللائق بالمقام بيان سبب كبرها وعظمها في الكيفية ، وجوز أبو حيان أن يكون الضمير للسيف.
وأنت تعلم أن السورة مكية ولم يشرع في مكة الجهاد بالسيف ، ومع هذا لا يخفى ما فيه ، ويستدل بالآية على الوجه المأثور على عظم جهاد العلماء لأعداء الدين بما يوردون عليهم من الأدلة وأوفرهم حظا المجاهدون بالقرآن منهم وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي أرسلهما في مجاريهما كما يرسل الخيل في المرج كما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، ويقال في هذا أمرج أيضا على ما قيل إلا أن مرج لغة الحجاز وأمرج لغة نجد.
وأصل المرج كما قال الراغب : الخلط ، ويقال : مرج أمرهم أي اختلط ، وسمي المرعى مرجا لاختلاط النبات فيه ، والمراد بالبحرين الماء الكثير العذب والماء الكثير الملح من غير تخصيص ببحرين معينين ، وهذا رجوع إلى ما تقدم من ذكر الأدلة ، وقوله تعالى : هذا عَذْبٌ فُراتٌ إلخ أي شديد العذوبة ووزنه فعال من فرته وهو مقلوب من رفته إذا كسره لأنه يكسر سورة العطش ويقمعها ، وقيل : هو البارد كما في مجمع البيان إما استئناف أو حال بتقدير القول أي يقال فيهما هذا عذب فرات وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وقيل : هي حال من غير تقدير قول على معنى مرج البحرين مختلفين عذوبة شديدة وملوحة كذلك ، واسم الإشارة يغني غناء الضمير ، والأجاج شديد الملوحة كما أشرنا إليه أطلق عليه لأن شربه يزيد أجيج العطش ، وقال الراغب : هو شديد الملوحة والحرارة من أجيج النار انتهى ، وقيل : هو المر وحكاه الطبرسي عن قتادة ، وقيل : الحار فهو يقابل الفرات عند من فسره بالبارد.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 34
وقرأ طلحة بن مصرف وقتيبة عن الكسائي «ملح» بفتح الميم وكسر اللام هنا وكذا في فاطر ، قال أبو حاتم :
وهذا منكر في القراءة ، وقال أبو الفتح : أراد مالحا فخفف بحذف الألف كما قيل برد في بارد في قوله :
أصبح قلبي صردا لا يشتهي أن يردا
إلا عرادا عردا وصليانا بردا
وعكنا ملتبدا وقيل : مخفف مليح لأنه ورد بمعنى مالح ، وقال أبو الفضل الرازي في كتاب اللوامح : هي لغة شاذة قليلة فليس مخففا من شيء ، نعم هو كملح في قراءة الجمهور بمعنى مالح ، والأفصح أن يقال في وصف الماء : ماء ملح دون ماء مالح وإن كان صحيحا كما نقل الأزهري ذلك عن الكسائي ، وقد اعترف أيضا بصحته ثعلب ، وقال الخفاجي :
الصحيح أنه مسموع من العرب كما أثبته أهل اللغة وأنشدوا لإثباته شواهد كثيرة وعليه فمن خطأ الإمام أبا حنيفة رضي اللّه تعالى عنه بقوله : ماء مالح فقد أخطأ جاهلا بقدر هذا الإمام وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً أي حاجزا وهو لفظ عربي ، وقيل : أصله برزه فعرب ، والمراد بهذا الحاجز كما أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن ما يحول بينهما من الأرض كالأرض الحائلة بين دجلة ويقال لها بحر لعظمها ولشيوع إطلاق البحر على النهر العظيم صار حقيقة فيه أيضا فلا إشكال في التثنية ، وإن أبيت صيرورته حقيقة فاعتبار التغليب يرفع الإشكال وبين البحر الكبير ، والمراد حيلولتها في مجاريها وإلا فهي تنتهي إلى البحر وكذا سائر الأنهار العظام ، ودلالة هذا الجعل على كمال قدرته عز وجل كونه على خلاف مقتضى الطبيعة فإن مقتضى طبيعة الماء أن يكون متضام الأجزاء مجتمعا غامرا للأرض محيطا بها من جميع جهاتها إحاطة الهواء به ومقتضى طبيعة الأرض أن تكون متضامة الأجزاء أيضا لا غور فيها ولا نجد مغمورة بالماء واقعة في جوفه كمركز الدائرة كما قرر ذلك الفلاسفة وذكروا في سبب انكشاف ما انكشف من الأرض ووقوع الأغوار والأنجاد فيها ما لا يخلو عن قيل وقال ، وبَيْنَهُما ظرف لجعل ، ويجوز أن يكون حالا من بَرْزَخاً ، والظاهر أن تنوين بَرْزَخاً للتعظيم أي وجعل بينهما برزخا عظيما حيث إنه على كثرة مرور الدهور لا يتخلله ماء أحد البحرين حتى يصل إلى الآخر فيغير طعمه وَحِجْراً مَحْجُوراً أي وتنافرا مفرطا كان كلّا منهما يتعوذ من الآخر بتلك المقالة ، والمراد لزوم كل منهما لصفته من العذوبة والملوحة فلا ينقلب البحر العذب ملحا في مكانه ولا البحر الملح عذبا في مكانه وذلك من كمال قدرته تعالى وبالغ حكمته عز وجل فإن العذوبة والملوحة ليستا بسبب طبيعة الأرض ولا بسبب طبيعة الماء وإلا لكان الكل عذبا أو الكل ملحا ، وذكر في
حكمة جعل البحر الكبير ملحا أن لا ينتن بطول المكث وتقادم الدهور قيل : وهو السر في جعل دمع العين ملحا ، وفيه حكم أخرى اللّه تعالى أعلم بها.
والظاهر إن حِجْراً عطف على بَرْزَخاً أي وجعل بينهما هذه الكلمة ، والمراد بذلك ما سمعت آنفا وهو من أبلغ الكلام وأعذبه ، وقيل : هو منصوب بقول مقدر أي ويقولان حجرا محجور ، وعن الحسن أن المراد من الحجر ما حجر بينهما من الأرض وتقدم تفسيره البرزخ بنحو ذلك ، وكان الجمع بينهما حينئذ لزيادة المبالغة في أمر الحاجز وما قدمنا أولى وأبعد مغزى ، وقيل : المراد بالبرزخ حاجز من قدرته عز وجل غير مرئي وبقوله سبحانه : حِجْراً مَحْجُوراً التميز التام وعدم الاختلاط ، وأصله كلام يقوله المستعيذ لما يخافه كما تقدم تفصيله ، وحاصل معنى الآية أنه تعالى هو الذي جعل البحرين مختلطين في مرأى العين ومنفصلين في التحقيق بقدرته عز وجل أكمل انفصال بحيث لا يختلط العذب بالملح ولا الملح بالعذب ولا يتغير طعم كل منهما بالآخر أصلا.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 35
وحكي هذا عن الأكثرين وفيه أنه خلاف المحسوس فإن الأنهار العظيمة كدجلة وما ينضم إليها والنيل وغيرهما مما يشاهده الناس إذا اتصلت في البحر تغير طعم غير قليل منها في جهة المتصل وكذا يتغير طعم غير قليل من البحر في جهة المتصل أيضا ويختلف التغير قلة وكثرة باختلاف الورود لاختلاف أسبابه من الهواء وغيره قوة وضعفا كما أخبر به مبلغ التواتر ولم يخبر أحد أنه شاهد في الأرض بحرين أحدهما عذب والآخر ملح ، وقد اتصل أحدهما بالآخر من غير تغير لطعم شيء منهما أصلا ، ولا مساغ عند من له أدنى ذوق لجعل الآية في بحرين في الأرض كذلك لكنهما لم يشاهدهما أحد كما لا يخفى ، ولا أرى وجها لتفسير الآية بما ذكر والتزام هذا ونحوه من التكلفات الباردة مع ظهور الوجه الذي لا كدورة فيه عند المنصف إلا تسبب طعن الكفرة في القرآن العظيم وسوء الظن بالمسلمين وقيل : المراد بالبرزخ الواسطة أي وجعل بين البحر العذب الشديد العذوبة والبحر الملح الشديد الملوحة ماء متوسطا ليس بالشديد العذوبة ولا بالشديد الملوحة وهو قطعة من العذب الفرات عند موضع التلاقي مزاجها شيء من الملح الأجاج فكسر سورة عذوبتها وقطعة من الملح الأجاج عند موضع التلاقي أيضا مازجها شيء من العذب الفرات فكسر سورة ملوحتها ويكون التنافر البليغ بينهما المفهوم من قوله سبحانه : وَحِجْراً مَحْجُوراً فيما عدا ذلك وهو ما لم يتأثر بصاحبه منهما بل يبقى على صفته من العذوبة الشديدة والملوحة الشديدة وهو كما ترى ، وحكي في البحر أن المراد بالبحرين بحران معينان هما بحر الروم وبحر فارس.
وذكره في الدر المنثور عن الحسن برواية ابن أبي حاتم وهو من العجب العجاب لأن كلا هذين البحرين ملح أجاج فكيف يصح إرادتهما هنا مع قوله تعالى : هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ نعم قد يصح فيما سيأتي إن شاء اللّه تعالى من آية سورة [الرحمن : 19 ، 20] أعني قوله سبحانه : مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ لعدم ذكر ما يمنعه هناك ، وما روي عن الحسن إن صح فلعله في تلك الآية ، ووهم السيوطي في روايته في الكلام على هذه الآية ، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أن البحرين هما بحر السماء وبحر الأرض وذكر مثله في البحر عن ابن عباس وأنهما يلتقيان كل عام ، وهذا شيء أنا لا أقول به في الآية ولا أعتقد صحة روايته عمن سمعت وإن كان مناسبة الآية عليه لما تقدم من قوله تعالى : وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً على القول بأن المطر من بحر في السماء أتم ودلالتها على كمال قدرته تعالى أظهر وأما أنت فبالخيار واللّه تعالى ولي التوفيق.
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً هو الماء الذي خمر به طينة آدم عليه السلام وجعله جزءا من مادة البشر لتجتمع وتسلس وتستعد لقبول الأشكال والهيئات ، فالمراد بالماء الماء المعروف وتعريفه للجنس والمراد بالبشر آدم عليه السلام وتنوينه للتعظيم أو جنس البشر الصادق عليه عليه السلام وعلى ذريته ، ومن ابتدائية ، ويجوز أن يراد بالماء النطفة وحينئذ يتعين حمل البشر على أولاد آدم عليه السلام.
فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً أي قسمه قسمين ذوي نسب أي ذكورا ينسب إليهم وذوات صهر أي إناثا يصاهر بهن فهو كقوله تعالى : فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [القيامة : 39] فالواو للتقسيم والكلام على تقدير مضاف حذف ليدل على المبالغة ظاهرا وعدل عن ذكر وأنثى ليؤذن بالانشعاب نصا ، وهذا الجعل والتقسيم مما لا خفاء فيه على تقدير أن يراد بالبشر الجنس ، وأما على تقدير أن يراد به آدم عليه السلام فقيل : هو باعتبار الجنس وفي الكلام ما هو من قبيل الاستخدام نظير ما في قولك : عندي درهم ونصفه ، وقيل : لا حاجة إلى اعتبار ذلك والكلام من باب الحذف والإيصال ، أي جعل منه وقد جيء به على الأصل في نظير هذه الآية وهو ما سمعته آنفا ، وقيل : معنى جعل آدم نسبا وصهرا خلق حواء منه وإبقاؤه على ما كان عليه من الذكورة.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 36
وتعقيب جعل الجنس قسمين خلق آدم أو الجنس باعتبار خلقه أو جعل قسمين من آدم خلقه عليه السلام كما تؤذن به الفاء ظاهر ، وربما يتوهم أن الضمير المنصوب في جعله عائد على الماء والفاء مثلها في قوله تعالى :
وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ [هود : 45] إلخ وقوله تعالى : وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ [الأعراف : 4] وليس بشيء.
وعن علي كرّم اللّه تعالى وجهه أن النسب ما لا يحل نكاحه والصهر ما يحل نكاحه
، وفي رواية أخرى عنه رضي اللّه تعالى عنه النسب ما لا يحل نكاحه والصهر قرابة الرضاع
، وتفسير الصهر بذلك مروي عن الضحاك أيضا.
وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً مبالغا في القدرة حيث قدر على أن يخلق من مادة واحدة بشرا ذا أعضاء مختلفة وطباع متباعدة ، وجعله قسمين متقابلين وَكانَ في مثل هذا الموضع للاستمرار. وإذا قلنا بأن الجملة الاسمية نفسها تفيد ذلك أيضا أفاد الكلام استمرارا على استمرار. وربما أشعر ذلك بأن القدرة البالغة من مقتضيات ذاته جل وعلا ، ومن العجب ما زعمه بعض «1» من يدعي التفرد بالتحقيق ممن صحبناه من علماء العصر رحمة اللّه تعالى عليه إن كانَ في مثله للاستمرار فيما لم يزل والجملة الاسمية للاستمرار فيما لا يزال فيفيد جمعهما استمرار ثبوت الخبر للمبتدأ أزلا وأبدا ، ويعلم منه مبلغ الرجل في العلم وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الذي شأنه تعالى شأنه ما ذكر ما لا يَنْفَعُهُمْ إن عبدوه وَلا يَضُرُّهُمْ إن لم يعبدوه ، والمراد بذلك الأصنام أو كل ما عبد من دون اللّه عز وجل وما من مخلوق يستقل بالنفع والضر وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ الذي ذكرت آثار ربوبيته جل وعلا ظَهِيراً أي مظاهرا كما قال الحسن ومجاهد وابن زيد وفعيل بمعنى مفاعل كثير ومنه نديم وجليس ، والمظاهرة المعاونة أي يعاون الشيطان على ربه سبحانه بالعداوة والشرك ، والمراد بالكافر الجنس فهو إظهار في مقام الإضمار لنعي كفرهم عليهم. وقيل : هو أبو جهل والآية نزلت فيه ، وقال عكرمة : هو إبليس عليه اللعنة ، والمراد يعاون المشركين على ربه عز وجل بأن يغريهم على معصيته والشرك به عز وجل ، وقيل : المراد يعاون على أولياء اللّه تعالى.
وجوز أن يكون هذا مرادا على سائر الاحتمالات في الكافر. وقيل : المراد بظهيرا مهينا من قولهم : ظهرت به إذا نبذته خلف ظهرك أي كان من يعبد من دون اللّه تعالى ما لا ينفعه ولا يضره مهينا على ربه عز وجل لا خلاق له عنده سبحانه قاله الطبري ، ففعيل بمعنى مفعول ، والمعروف أن ظَهِيراً بمعنى معين لا بمعنى مظهور به وَما أَرْسَلْناكَ في حال من الأحوال إِلَّا حال كونك مُبَشِّراً للمؤمنين وَنَذِيراً أي ومنذرا مبالغا في الإنذار للكافرين ، ولتخصيص الإنذار بهم وكون الكلام فيهم والإشعار بغاية إصرارهم على ما هم فيه من الضلال اقتصر على صيغة المبالغة فيه ، وقيل : المبالغة باعتبار كثرة المنذرين فإن الكفرة في كل وقت أكثر من المؤمنين.
وبعضهم اعتبر كثرتهم بإدخال العصاة من المؤمنين فيهم أي ونذيرا للعاصين مؤمنين كانوا أو كافرين والمقام يقتضي التخصيص بالكافرين كما لا يخفى ، والمراد ما أرسلناك إلا مبشرا للمؤمنين ونذيرا للكافرين فلا تحزن على عدم إيمانهم قُلْ لهم دافعا عن نفسك تهمة الانتفاع بإيمانهم ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على تبليغ الرسالة الذي ينبيء عنه الإرسال أو على المذكور من التبشير والإنذار ، وقيل : على القرآن مِنْ أَجْرٍ أي أجر ما من جهتكم إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ أي إلى رحمته ورضوانه سَبِيلًا أي طريقا ، والاستثناء عند الجمهور منقطع أي لكن
___________
(1) هو المرحوم محمد الأمين السويدي ا ه منه.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 37
ما شاء أن يتخذ إلى ربه سبحانه سبيلا أي بالإنفاق القائم مقام الأجر كالصدقة والنفقة في سبيل اللّه تعالى ليناسب الاستدراك فليفعل ، وذهب البعض إلى أنه متصل ، وفي الكلام مضاف مقدر أي إلا فعل من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا بالإيمان والطاعة حسبما ادعو إليهما ، وهو مبني على الادعاء وتصوير ذلك بصورة الأجر من حيث أنه مقصود الإتيان به ، وهذا كالاستثناء في قوله :
ولا عيب فيهم غير أن نزيلهم يعاب بنسيان الأحبة والوطن
وفي ذلك قلع كلي لشائبة الطمع وإظهار لغاية الشفقة عليهم حيث جعل ذلك مع كون نفعه عائدا إليهم عائدا إليه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وقيل : المعنى ما أسألكم عليه أجرا إلا أجر من آمن أي إلا الأجر الحاصل لي من إيمانه فإن الدال على الخير كفاعله وحينئذ لا يحتاج إلى الادعاء والتصوير السابق ، والأولى ما فيه قلع شائبة الطمع بالكلية.
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ في الإغناء عن أجورهم والاستكفاء عن شرورهم ، وكأن العدول عن وتوكل على اللّه إلى ما في النظم الجليل ليفيد بفحواه أو بترتب الحكم فيه على وصف مناسب عدم صحة التوكل على غير المنصف بما ذكر من الحياة والبقاء ، أما عدم صحة التوكل على من لم يتصف بالحياة كالأصنام فظاهر وأما عدم صحته على من لم يتصف بالبقاء بأن كان ممن يموت فلأنه عاجز ضعيف فالمتوكل عليه أشبه شيء بضعيف عاد بقرملة ، وقيل : لأنه إذا مات ضاع من توكل عليه.
وأخرج ابن أبي الدنيا في التوكل. والبيهقي في شعب الإيمان عن عقبة بن أبي ثبيت قال : مكتوب في التوراة لا توكل على ابن آدم فإن ابن آدم ليس له قوام ، ولكن توكل على الحي الذي لا يموت. وقرأ بعض السلف هذه الآية فقال :
لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ أي ونزهه سبحانه ملتبسا بالثناء عليه تعالى بصفات الكمال طالبا لمزيد الإنعام بالشكر على سوابقه عز وجل فالباء للملابسة ، والجار والمجرور في موضع الحال ، وقدم التنزيه لأنه تخلية وهي أهم من التحلية ، وفي الحديث : «من قال سبحان اللّه وبحمده غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر»
وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ ما ظهر منها وما بطن كما يؤذن به الجمع المضاف فإنه من صيغ العموم أو قوله تعالى : خَبِيراً لأن الخبرة معرفة بواطن الأمور كما ذكره الراغب ومن علم البواطن علم الظواهر بالطريق الأولى فيدل على ذلك مطابقة والتزاما.
والظاهر أن بِذُنُوبِ متعلق بخبيرا وهو حال أو تمييز. وباء بِهِ زائدة في فاعل كَفى ، وجوز أن يكون بِذُنُوبِ صلة كفى. والجملة مسوقة لتسليته صلّى اللّه عليه وسلّم ووعيد الكفار أي إنه عز وجل مطلع على ذنوب عباده بحيث لا يخفى عليه شيء منها فيجازيهم عليها ولا عليك إن آمنوا أو كفروا.
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ قد سلف تفسيره.
ومحل الموصول الجر على أنه صفة أخرى للحي ، ووصف سبحانه بالصفة الفعلية بعد وصفه جل وعلا بالأبدية التي هي من الصفات الذاتية والإشارة إلى اتصافه تعالى بالعلم الشامل لتقرير وجوب التوكل عليه جل جلاله وتأكيده فإن من أنشأ هذه الأجرام العظام على هذا النمط الفائق والنسق الرائق بتدبير متين وترتيب رصين في أوقات معينة مع كمال قدرته سبحانه على إبداعها دفعة بحكم جليلة وغايات جميلة لا تقف على تفاصيلها العقول أحق من يتوكل عليه وأولى من يفوض الأمر إليه.
وقوله تعالى : الرَّحْمنُ مرفوع على المدح أي هو الرحمن وهو في الحقيقة وصف آخر للحي كما في قراءة

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 38
زيد بن عبد الرحمن بالجر مفيد لزيادة تأكيد ما ذكر من وجوب التوكل عليه جل شأنه وإن لم يتبعه في الإعراب لما تقرر من أن المنصوب والمرفوع مدحا وإن خرجا عن التبعية لما قبلهما صورة حيث لم يتبعاه في الإعراب وبذلك سميا قطعا لكنهما تابعان له حقيقة ، ألا ترى كيف التزموا حذف الفعل والمبتدأ روما لتصوير كل منهما بصورة متعلق من متعلقات ما قبله وتنبيها على شدة الاتصال بينهما وإنما قطعوا للافتتان الموجب لإيقاظ السامع وتحريكه إلى الجد في الإصغاء.
وجوز أن يكون الموصول في محل نصب على الاختصاص وأن يكون في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف صفة له أو مبتدأ والرَّحْمنُ خبره ، وجوز أن يكون الرَّحْمنُ بدلا من المستكن في «استوى» ويجوز على مذهب الأخفش أن يكون «الرحمن» مبتدأ ، وقوله تعالى : فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً خبره على حد تخريجه قول الشاعر :
وقائلة خولان فانكح فتاتهم وهو بعيد ، والظاهر أن هذه جملة منقطعة عما قبلها إعرابا ، والفاء فصيحة والجار والمجرور صلة اسأل والسؤال كما يعدى بعن لتضمنه معنى التفتيش يعدى بالباء لتضمنه معنى الاعتناء. وعليه قول علقمة بن عبدة :
فإن تسألوني بالنساء فإنني خبير بأدواء النساء طبيب
فلا حاجة إلى جعلها بمعنى عن كما فعل الأخفش والزجاج والضمير راجع إلى ما ذكر إجمالا من الخلق والاستواء. والمعنى إن شئت تحقيق ما ذكر أو تفصيل ما ذكر فاسأل معتنيا به خبيرا عظيم الشأن محيطا بظواهر الأمور وبواطنها وهو اللّه عز وجل يطلعك على جلية الأمر. والمسئول في الحقيقة تفاصيل ما ذكر لا نفسه إذ بعد بيانه لا يبقى إلى السؤال حاجة ولا في تعديته بالباء المبنية على تضمينه معنى الاعتناء المستدعي لكون المسئول أمرا خطيرا مهتما بشأنه غير حاصل للسائل فائدة فإن نفس الخلق والاستواء بعد الذكر ليس كذلك كما لا يخفى. وكون التقدير إن شككت فيه فاسأل به خبيرا على أن الخطاب له صلّى اللّه عليه وسلّم والمراد غيره عليه الصلاة والسلام بمعزل عن السداد ، وقيل :
بِهِ صلة خَبِيراً قدم لرؤوس الآي.
وجوز أن يكون الكلام من باب التجريد نحو رأيت به أسدا أي رأيت برؤيته أسدا فكأنه قيل هنا فاسأل بسؤاله خبيرا ، والمعنى إن سألته وجدته خبيرا ، والباء عليه ليست صلة فإنها باء التجريد وهي على ما ذهب إليه الزمخشري سببية والخبير عليه هو اللّه تعالى أيضا. وقد ذكر هذا الوجه السجاوندي. واختاره صاحب الكشف قال : وهو أوجه ليكون كالتتميم لقوله تعالى : الَّذِي خَلَقَ إلخ فإنه لإثبات القدرة مدمجا فيه العلم ، وكون ضمير به راجعا إلى ما ذكر من الخلق والاستواء ، والخبير في الآية هو اللّه تعالى مروي عن الكلبي. وروى تفسير الخبير بِهِ تعالى عن ابن جريج أيضا.
وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما الخبير هو جبريل عليه السلام ، وقيل : هو من وجد ذلك في الكتب القديمة المنزلة من عنده تعالى أي فاسأل بما ذكر من الخلق والاستواء من علم به من أهل الكتب ليصدقك ، وقيل : إذا أريد بالخبير من ذكر فضمير بِهِ للرحمن ، والمعنى إن أنكروا إطلاق الرحمن عليه تعالى فاسأل به من يخبرك من أهل الكتاب ليعرفوا مجيء ما يرادفه في كتبهم. وفيه أنه لا يناسب ما قبله ولأن فيه عود الضمير للفظ الرَّحْمنُ دون معناه وهو خلاف الظاهر ولأنه كان الظاهر حينئذ أن يؤخر عن قوله تعالى : مَا الرَّحْمنُ.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 39
وقيل : الخبير محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وضمير بِهِ للرحمن والمراد فاسأل بصفاته والخطاب لغيره صلّى اللّه عليه وسلّم ممن لم يعلم ذلك وليس بشيء كما لا يخفى ، وقيل ضمير بِهِ للرحمن ، والمراد فاسأل برحمته وتفاصيلها عارفا يخبرك بها أو المراد فاسأل برحمته حال كونه عالما بكل شيء على أن خَبِيراً حال من الهاء لا مفعول اسأل كما في الأوجه السابقة.
وجوز أبو البقاء أن يكون خَبِيراً حالا من الرَّحْمنُ إذا رفع باستوى. وقال : يضعف أن يكون حالا من فاعل اسأل لأن الخبير لا يسأل إلا على جهة التوكيد مثل وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً [البقرة : 91] والوجه الأقرب الأولى في الآية من بين الأوجه المذكورة لا يخفى ، وقرىء «فسل».
[سورة الفرقان (25) : الآيات 60 إلى 77]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62) وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69)
إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74)
أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77)
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ القائل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أو اللّه عز وجل على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام. ولا يخفى موقع هذا الاسم الشريف هنا ، وفيه كما قال الخفاجي : معنى أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد قالُوا على سبيل التجاهل والوقاحة وَمَا الرَّحْمنُ كما قال فرعون وما رب العالمين حين قال له موسى عليه السلام إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [الأعراف : 104] وهو عالم به عز وجل كما يؤذن بذلك قول موسى عليه السلام له : لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ [الإسراء : 102] والسؤال يحتمل

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 40
أن يكون عن المسمى ووقع بما دون من لأنه مجهول بزعمهم فهو كما يقال للشبح المرئي ما هو فإذا عرف أنه من ذوي العلم قيل من هو ، ويحتمل أن يكون عن معنى الاسم ووقوعه بما حينئذ ظاهر. وقيل : سألوا عن ذلك لأنهم ما كانوا يطلقونه على اللّه تعالى كما يطلقون الرحيم والرحوم والراحم عليه تعالى أو لأنهم ظنوا أن المراد به غيره عز وجل فقد شاع فيما بينهم تسمية مسيلمة برحمان اليمامة فظنوا أنه المراد بحمل التعريف على العهد. وقيل : لأنه كان عبرانيا وأصله رخمان بالخاء المعجمة فعرب ولم يسمعوه. والأظهر عندي أن ذلك عن تجاهل وأن السؤال عن المسمى ولذا قالوا : أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا أي للذين تأمرنا بالسجود له من غير أن نعرفه. فما موصولة والعائد محذوف. وأصل الجملة المشتملة عليه ما أشرنا إليه. ثم صار تأمرنا بسجوده ثم تأمرنا سجوده كأمرتك الخير ثم تأمرناه بحذف المضاف ثم تأمرنا. واعتبار الحذف تدريجا مذهب أبي الحسن ومذهب سيبويه أنه حذف كل ذلك من غير تدريج.
ويحتمل أن تكون ما نكرة موصوفة وأمر العائد على ما سمعت. ويجوز أن تكون مصدرية واللام تعليلية والمسجود له محذوف أو متروك أي أنسجد له لأجل أمرك إيانا أو أنسجد لأجل أمرك إيانا.
وقرأ ابن مسعود والأسود بن زيد وحمزة والكسائي «يأمرنا» بالياء من تحت على أن الضمير للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهذا القول قول بعضهم لبعض وَزادَهُمْ أي الأمر بالسجود للرحمن والإسناد مجازي ، والجملة معطوفة على قالُوا أي قالوا ذلك وزادهم نُفُوراً عن الإيمان وفي اللباب أن فاعل زادَهُمْ ضمير السجود لما روي أنه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم وأصحابه رضي اللّه تعالى عنهم سجدوا فتباعدوا عنهم مستهزئين ، وعليه فليست معطوفة على جواب إذا بل على مجموع الشرط والجواب كما قيل : وفي - لا يستقدمون - من قوله تعالى : إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [يونس : 49] والأول أولى وأظهر تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً الظاهر أنها البروج الإثنا عشر المعروفة. وأخرج ذلك الخطيب في كتاب النجوم عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وهي في الأصل القصور العالية وأطلقت عليها على طريق التشبيه لكونها للكواكب كالمنازل الرفيعة لساكنيها ثم شاع فصار حقيقة فيها ، وعن الزجاج أن البرج كل مرتفع فلا حاجة إلى التشبيه أو النقل.
واشتقاقه من التبرج بمعنى الظهور ، والذي يقتضيه مشرب أهل الحديث أنها في السماء الدنيا ولا مانع منه عقلا لا سيما إذا قلنا بعظم ثخنها بحيث يسع الكواكب وما تقتضيه على ما ذكره أهل الهيئة وهي عندهم أقسام الفلك الأعظم المسمى على ما قيل بالعرش ولم يرد فيما أعلم إطلاق السماء عليه وإن كان صحيحا لغة سميت بأسماء صور من الثوابت في الفلك الثامن وقعت في محاذاتها وقت اعتبار القسمة وتلك الصور متحركة بالحركة البطيئة كسائر الثواب ، وقد قارب في هذه الأزمان أن تخرج كل صورة عما حاذته أولا وابتداؤها عندهم من نقطة الاعتدال الربيعي وهي نقطة معينة من معدل النهار لا تتحرك بحركة الفلك الثامن ملاقية لنقطة أخرى من منطقة البروج تتحرك بحركته وإذا لم يتحرك مبدأ البروج بتلك الحركة لم يتحرك ما عداها ، وقد جعل اللّه تعالى ثلاثة منها ربيعية وهي الحمل والثور والجوزاء وتسمى التوأمين أيضا ، وثلاثة صيفية وهي السرطان والأسد والسنبلة وتسمى العذراء أيضا وهذه الستة شمالية وثلاثة خريفية وهي الميزان والعقرب والقوس ويسمى الرامي أيضا ، وثلاثة شتوية وهي الجدي والدلو ويسمى الدالي وساكب الماء أيضا. والحوت وتسمى السمكتين وهذه الستة جنوبية ، ولحلول الشمس في كل من الاثني عشر يختلف الزمان حرارة وبرودة والليل والنهار طولا وقصرا وبذلك يظهر بحكم جري العادة في عالم الكون والفساد آثار جليلة من نضج الثمار وإدراك الزروع ونحو ذلك مما لا يخفى ، ولعل ذلك هو وجه البركة في جعلها.
وأما ما يزعمه أهل الأحكام من الآثار إذا كان شيء منها طالعا وقت الولادة أو شروع في عمل من الأعمال أو

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 41
وقت حلول الشمس نقطة الحمل الذي هو مبدأ السنة الشمسية في المشهور فهو محض ظن ورجم بالغيب وسيأتي إن شاء اللّه تعالى الكلام في ذلك مفصلا ، ولهم في تقسيمها إلى مذكر ومؤنث «1» وليلي ونهاري وحار وبارد وسعد ونحس إلى غير ذلك كلام طويل ولعلنا نذكر شيئا منه بعد أن شاء اللّه تعالى ، ومن أراده مستوفى فليرجع إلى كتبهم ، ثم الظاهر أن البروج المجعولة مما لا دخل للاعتبار فيها ، والمذكور في كلام أهل الهيئة أنها حاصلة من اعتبار فرض ست دوائر معلومة قاطعة للعالم فيكون للاعتبار دخل فيها وإن لم تكن في ذلك كأنياب الأغوال لوجود مبدأ الانتزاع فيها فإن كان الأمر على هذا الطرز عند أهل الشرع بأن يعتر تقسيم ما هي فيه إلى اثنتي عشرة قطعة وتسمى كل قطعة برجا فالظاهر أن المراد بجعله تعالى إياها جعل ما يتم به ذلك الاعتبار ويتحقق به أمر التفاوت والاختلاف بين تلك البروج ، وفيه من الخير الكثير ما فيه وقيل : إن في الآية إيماء إلى أن اعتبار التقسيم كان عن وحي ، والمشهور أن من اعتبر ذلك أولا هرمس وهو على ما قيل إدريس عليه السلام فتأمل.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أن البروج قصور على أبواب السماء فيها الحرس ، وقيل : هي القصور في الجنة ، قال الأعمش : وكان أصحاب عبد اللّه يقرؤون في السماء قصورا ، وتعقب بأنه يأباه السياق لأن الآية قد سيقت للتنبيه على ما يقوم به الحجة على الكفرة الذين لا يسجدون للرحمن جل شأنه وبيان أنه المستحق للسجود ببيان آثار قدرته سبحانه وكماله جل جلاله ، والظاهر أن يكون ذلك بذكر أمور مدركة معلومة لهم وتلك القصور ليست كذلك ، وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد أنها النجوم ، وروي ذلك عن قتادة أيضا ، وعن أبي صالح تقييدها بالكبار وأطلق عليها ذلك لعظمها وظهورها لا سيما التي من أول المراتب الثلاثة للقدر الأول من الأقدار الستة.
وأنت تعلم أنه لم يعهد إطلاق البروج على النجوم فالأولى أن يراد بها المعنى الأول المروي عن ابن عباس الذي هو أظهر من الشمس وَجَعَلَ فِيها أي في السماء ، وقيل : في البروج سِراجاً هي الشمس كقوله تعالى : وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً [نوح : 16] وقرأ عبد اللّه وعلقمة والأعمش والأخوان «سرجا» بالجمع مضموم الراء ، وقرأ الأعمش أيضا والنخعي وابن وثاب كذلك إلا أنهم سكنوا الراء وهو على ما قيل من قبيل إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل : 120] لأن الشمس لعظمها وكمال إضاءتها لأنها سرج كثيرة أو الجمع باعتبار الأيام والمطالع ، وقد جمعت لهذين الأمرين في قول الشاعر :
لمعان برق أو شعاع شموس وعلى هذا القول تتحد القراءتان ، وقال بعض الأجلة : الجمع على ظاهره ، والمراد به الشمس والكواكب الكبار ، ومنهم من فسره بالكواكب الكبار ، واعترض على الأول بأنه يلزم تخصيص القمر بالذكر في قوله تعالى : وَقَمَراً مُنِيراً بعد دخوله في السرج ، والمناسب تخصيص الشمس لكمال مزيتها على ما سواها. ورد بأنه بعد تسليم دخوله في السرج خص بالذكر لأن سنيهم قمرية ولذا يقدم الليل على النهار وتعتبر الليلة لليوم الذي بعدها فهم أكثر عناية به مع أنه على ما ذكره يلزمه ترك ذكر الشمس وهي أحق بالذكر من غيرها والاعتذار عنه بأنها لشهرتها كأنها مذكورة ولذا لم تنظم مع غيرها في قرن لا يجدي. والقمر معروف ويطلق عليه بعد الليلة الثالثة إلى آخر الشهر ، قيل : وسمي بذلك لأنه يقمر ضوء الكواكب ، وفي الصحاح لبياضه وفي وصفه ما يشعر بالاعتناء به ، وعلى الفرق المشهور بين الضوء والنور يكون في وصفه بمنيرا دون مضيئا إشارة إلى أن ما يشاهد فيه مستفاد من غيره وهو الشمس بل قال غير
___________
(1) وزعم بعضهم أن أول الجدي وأول العقرب خنثى ا ه منه.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 42
واحد : إن نور جميع الكواكب مستفاد منها وإن لم يظهر اختلاف تشكلاته بالقرب والبعد منها كما في نور القمر.
وقرأ الحسن والأعمش والنخعي وعصمة عن عاصم «وقمرا» بضم القاف وسكون الميم ، واستظهر أبو حيان أنها لغة في القمر كالرشد والرشد والعرب والعرب ، وقيل : هو جمع قمراء وهي الليلة المنيرة بالقمر والكلام على حذف مضاف أي وذا قمر أي صاحب ليال قمر ، والمراد بهذا الصاحب القمر نفسه ويكون قوله سبحانه : مُنِيراً صفة لذلك المضاف المحذوف لأن المحذوف قد يعتبر بعد حذفه كما في قول حسان رضي اللّه تعالى عنه :
بردى يصفق بالرحيق السلسل فإنه يريد ماء بردى ولذا قال يصفق بالياء من تحت ولو لم يراع المضاف لقال تصفق بالتاء وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً أي ذوي خلفة يخلف كل منهما الآخر بأن يقوم مقامه فيما ينبغي أن يعمل فيه ، وروي هذا عن ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير ، وقيل : بأن يعقبه ويجيء بعده وهو اسم للحالة من خلف كالركبة والجلسة من ركب وجلس. ونصبه على أنه مفعول ثان لجعل أو حال إن كان بمعنى خلق ، وجعله بعضهم بمعنى اختلافا والمراد الاختلاف في الزيادة والنقصان كما قيل أو في السواد والبياض كما روي عن مجاهد أو فيما يعم ذلك وغيره كما هو محتمل وفي البحر يقال : بفلان خلفة واختلاف إذا اختلف كثيرا إلى متبرزه. ومن هذا المعنى قول زهير :
بها العين والآرام يمشين خلفة وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم
وقول الآخر يصف امرأة تنتقل من منزل في الشتاء إلى منزل في الصيف دأبا :
ولها بالماطرون إذا أكل النمل الذي جمعا
خلفة حتى إذا ارتفعت سكنت من جلق بيعا
في بيوت وسط دسكرة حولها الزيتون قد نبعا
انتهى. وجوز عليه أن يكون المراد يذهب كل منهما ويجيء كثيرا. واعتبار المضاف المقدر على حاله وكذا فيما قبله. وفي القاموس الخلف والخلفة بالكسر المختلف. وعليه لا حاجة إلى تقدير المضاف ، والمعنى جعلهما مختلفين والإفراد لكونه مصدرا في الأصل لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أي ليكونا وقتين للمتذكر من فاته ورده من العبادة في أحدهما تداركه في الآخر ، وروي هذا عن جماعة من السلف ، وروى الطيالسي وابن أبي حاتم أن عمر رضي اللّه تعالى عنه أطال صلاة الضحى فقيل له : صنعت شيئا لم تكن تصنعه قال : إنه بقي على من وردي شيء فأحببت أن أتمه أو قال : أقضيه وتلا هذه الآية وكأن التذكر مجاز عن أداء ما فات وهو «مما يتوقف الأداء عليه ، وفي الكلام تقدير كما أشير إليه ويجوز أن يكون تقدير معنى لا إعراب أَوْ أَرادَ شُكُوراً أن يشكر اللّه تعالى بأداء نوع من العبادة لم يكن وردا له. وفي مجمع البيان المعنى لمن أراد النافلة بعد أداء الفريضة ، ويجوز أن يكون المعنى لمن أراد أن يتذكر ويتفكر في بدائع صنع اللّه تعالى فيعلم أنه لا بد لما ذكر من صانع حكيم واجب الذات ذي رحمة على العباد أو أراد أن يشكر اللّه سبحانه على ما فيهما من النعم وهو وجه حسن يكاد لا يلتفت لغيره لو لم يكن مأثورا ، والظاهر أن اللام على هذا صلة جَعَلَ ولما كان ظهور فائدة ذلك لمن أراد التذكر أو أراد الشكر اقتصر عليه ، وجوز أن تكون للتعليل وأَوْ للتنويع على معنى الاشتمال على هذين المعنيين أو للتخيير على معنى الاستقلال بكل ولا منع من الاجتماع. وفائدة هذا الأسلوب إفادة الاستقلال ولو ذكر الواو بدلها لتوهم المعية ، ولعل في التعبير أولا بأن والفعل دون المصدر الصريح كما في الشق الثاني مع أنه أخصر إيماء إلى الاعتناء بأمر التذكر فتذكر.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 43
وقرأ أبي بن كعب «أن يتذكر» وهو أصل ليذكر فأبدل التاء ذالا وأدغم وقرأ النخعي وابن وثاب وزيد بن علي وطلحة وحمزة «أن يذكر» مضارع ذكر الثلاثي بمعنى تذكر وَعِبادُ الرَّحْمنِ كلام مستأنف لبيان أوصاف خلص عباد اللّه تعالى وأحوالهم الدنيوية والأخروية بعد بيان حال النافرين عن عبادته سبحانه والسجود له عز وجل وإضافتهم إلى الرحمن ذوي غيره من أسمائه تعالى وضمائره عز وجل لتخصيصهم برحمته أو لتفضيلهم على من عداهم لكونهم مرحومين منعما عليهم كما يفهم من فحوى الإضافة إلى مشتق. وفي ذلك أيضا تعريض بمن قالوا : وما الرحمن؟.
والأكثرون أن عبادا هنا جمع عبد ، وقال ابن بحر : جمع عابد كصاحب وصحاب وراجل ورجال ويوافقه قراءة اليماني «وعبّاد» بضم العين وتشديد الباء فإنه جمع عابد بالإجماع وهو على هذا من العبادة وهي أن يفعل ما يرضاه الرب وعلى الأول من العبودية وهي أن يرضى ما يفعله الرب ، وقال الراغب : العبودية إظهار التذلل والعبادة أبلغ منها لأنها غاية التذلل. وفرق بعضهم بينهما بأن العبادة فعل المأمورات وترك المنهيات رجاء الثواب والنجاة من العقاب بذلك والعبودية فعل المأمورات وترك المنهيات لا لما ذكر بل لمجرد إحسان اللّه تعالى عليه. قيل : وفوق ذلك العبودة وهو فعل وترك ما ذكر لمجرد أمره سبحانه ونهيه عز وجل واستحقاقه سبحانه الذاتي لأن يعظم ويطاع ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : فَصَلِّ لِرَبِّكَ [الكوثر : 2] وقرأ الحسن «وعبد» بضم العين والباء. وهو كما قال الأخفش جمع عبد كسقف وسقف. وأنشد :
انسب العبد إلى آبائه أسود الجلدة من قوم عبد
وهو على كل حال مبتدأ وفي خبره قولان : الأول أنه ما في آخر السورة الكريمة من الجملة المصدرة باسم الإشارة ، والثاني وهو الأقرب أنه قوله تعالى : الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً والهون مصدر بمعنى اللين والرفق ، ونصبه إما على أنه نعت لمصدر محذوف أي مشيا هونا أو على أنه حال من ضمير يَمْشُونَ والمراد يمشون هينين في تؤدة وسكينة ووقار وحسن سمت لا يضربون بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشرا وبطرا ، وروي نحو هذا عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة والفضيل بن عياض وغيرهم ، وعن الإمام أبي عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنه أن الهون مشي الرجل بسجيته التي جبل عليها لا يتكلف ولا يتبختر.
وأخرج الآمدي في شرح ديوان الأعشى بسنده عن عمر رضي اللّه تعالى عنه أنه رأى غلاما يتبختر في مشيته فقال له : إن البخترة مشية تكره إلا في سبيل اللّه تعالى. وقد مدح اللّه تعالى أقواما بقوله سبحانه : وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً فاقصد في مشيتك. وقيل : المشي الهون مقابل السريع وهو مذموم
فقد أخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة وابن النجار عن ابن عباس قالا : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن».
وأخرج ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران إن هَوْناً بمعنى حلماء بالسريانية فيكون حالا لا غير ، والظاهر أنه عربي بمعنى اللين والرفق. وفسره الراغب بتذلل الإنسان في نفسه لما لا يلحق به غضاضة وهو الممدوح. ومنه
الحديث «المؤمن هين لين»
والظاهر بقاء المشي على حقيقته وأن المراد مدحهم بالسكينة والوقار فيه من غير تعميم.
نعم يلزم من كونهم يمشون كذلك أنهم هينون لينون في سائر أمورهم بحكم العادة على ما قيل.
واختار ابن عطية أن المراد مدحهم بعدم الخشونة والفظاظة في سائر أمورهم وتصرفاتهم. والمراد أنهم يعيشون بين الناس هينين في كل أمورهم. وذكر المشي لما أنه انتقال في الأرض وهو يستدعي معاشرة الناس ومخالطتهم واللين مطلوب فيها غاية الطلب. ثم قال : وأما أن يكون المراد مدحهم بالمشي وحده هونا فباطل فكم ماش هونا رويدا وهو

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 44
ذئب أطلس ، وقد كان صلّى اللّه عليه وسلّم يتكفأ في مشيه كأنما يمشي في صبب وهو عليه الصلاة والسلام الصدر في هذه الآية. وفيه بحث من وجهين فلا تغفل. وقرأ اليماني والسلمي «يمشّون» مبنيا للمفعول مشددا وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ أي السفهاء وقليلو الأدب كما في قوله :
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
قالُوا سَلاماً بيان لحالهم في المعاملة مع غيرهم إثر بيان حالهم في أنفسهم أو بيان لحسن معاملتهم.
وتحقيق للينهم عند تحقق ما يقتضي خلاف ذلك إذا خلى الإنسان وطبعه أي إذا خاطبوهم بالسوء قالوا تسلما منكم ومتاركة لا خير بيننا وبينكم ولا شر. فسلاما مصدر أقيم مقام التسليم وهو مصدر مؤكد لفعله المضمر ، والتقدير نتسلم تسلما منكم ، والجملة مقول القول. وإلى هذا ذهب سيبويه في الكتاب ومنع أن يراد السلام المعروف بأن الآية مكية والسلام في النساء وهي مدنية ولم يؤمر المسلمون بمكة أن يسلموا على المشركين.
وقال الأصم : هو سلام توديع لا تحية كقول إبراهيم عليه السلام لأبيه سَلامٌ عَلَيْكَ [مريم : 47] ولا يخفى أنه راجع إلى المتاركة وهو كثير في كلام العرب. وقال مجاهد : المراد قالوا قولا سديدا.
وتعقب بأن هذا تفسير غير سديد لأن المراد هاهنا يقولون هذه اللفظة لا أنهم يقولون قولا ذا سداد بدليل قوله تعالى : سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الأنعام : 54 ، الأعراف : 46 ، الرعد : 24 ، القصص : 55 ، الزمر : 73] لا نبتغي الجاهلين.
ورده صاحب الكشف بأن تلك الآية لا تخالف هذا التفسير فإن قولهم. سلام عليكم من سداد القول أيضا كيف والظاهر أن خصوص اللفظ غير مقصود بل هو أو ما يؤدي مؤداه أيضا من كل قول يدل على المتاركة مع الخلو عن الإثم واللغو وهو حسن لا غبار عليه.
وفي بعض التواريخ كما في البحر أن إبراهيم بن المهدي كان منحرفا عن علي كرّم اللّه تعالى وجهه فرآه في النوم قد تقدم إلى عبور قنطرة فقال له : إنما تدعي هذا الأمر بامرأة ونحن أحق به منك فحكي ذلك على المأمون ثم قال :
ما رأيت له بلاغة في الجواب كما يذكر عنه فقال له المأمون : فما أجابك به قال : كان يقول لي : سلاما سلاما فقال المأمون : يا عم قد أجابك بأبلغ جواب ونبهه على هذه الآية فخزي إبراهيم واستحيى عليه من اللّه تعالى ما يستحق ، والظاهر أن المراد مدحهم بالإغضاء عن السفهاء وترك مقابلتهم في الكلام ولا تعرض في الآية لمعاملتهم مع الكفرة فلا تنافي آية القتال ليدعي نسخها بها لأنها مكية وتلك مدنية. ونقل عن أبي العالية واختاره ابن عطية أنها نسخت بالنظر إلى الكفرة بآية القتال.
وقوله تعالى : وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً بيان لحالهم في معاملتهم مع ربهم. وكان الحسن إذا قرأ ما تقدم يقول : هذا وصف نهارهم وإذا قرأ هذه قال : هذا وصف ليلهم. والبيتوتة أن يدركك الليل نمت أو لم تنم ولِرَبِّهِمْ متعلق بما بعده. وقدم للفاصلة والتخصيص والقيام جمع قائم أو مصدر أجرى مجراه أي يبيتون ساجدين وقائمين لربهم سبحانه أي يحيون الليل كلا أو بعضا بالصلاة ، وقيل : من قرأ شيئا من القرآن بالليل في صلاة فقد بات ساجدا وقائما ، وقيل : أريد بذلك فعل الركعتين بعد المغرب والركعتين بعد العشاء ، وقيل : من شفع وأوتر بعد أن صلى العشاء فقد دخل في عموم الآية. وبالجملة في الآية حض على قيام الليل في الصلاة. وقدم السجود على القيام ولم يعكس وإن كان متأخرا في الفعل لأجل الفواصل ولأنه أقرب ما يكون العبد فيه من ربه سبحانه وإباء المستكبرين عنه في قوله تعالى : وَإِذا قِيلَ الآية.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 45
وقرأ أبو البرهسم «سجودا» على وزن قعودا وهو أوفق بقياما وَالَّذِينَ يَقُولُونَ في أعقاب صلواتهم أو في عامة أوقاتهم رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً أي لازما كما أخرجه الطستي عن ابن عباس وأنشد رضي اللّه تعالى عنه في ذلك قول بشر بن أبي حاتم :
ويوم النسار ويوم الجفار كانا عذابا وكانا غراما
ومثله قول الأعشى :
إن يعاقب يكن غراما وإن يع ط جزيلا فإنه لا يبالي
وهذا اللزوم إما للكفار أو المراد به الامتداد كما في لزوم الغريم وفي رواية أخرى عنه تفسيره بالفظيع الشديد.
وفسره بعضهم بالمهلك ، وفي حكاية قولهم هذا مزيد مدح لهم ببيان أنهم مع حسن معاملتهم مع الخلق واجتهادهم في عبادة الحق يخافون العذاب ويبتهلون إلى ربهم عز وجل في صرفه عنهم غير محتفلين بأعمالهم كقوله تعالى :
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ [المؤمنون : 60] وفي ذلك تحقيق إيمانهم بالبعث والجزاء ، والظاهر أن قوله تعالى : إِنَّ عَذابَها إلخ من كلام الداعين وهو تعليل لاستدعائهم المذكور بسوء حال عذابها. وكذا قوله تعالى : إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً وهو تعليل لذلك بسوء حالها في نفسها. وترك العطف للإشارة إلى أن كلا منهما مستقل بالعلية ، وقيل : تعليل لما علل به أولا وضعفه ابن هشام في التذكرة بأنه لا مناسبة بين كون الشيء غراما وكونه ساء مستقرا.
وأجيب بأنه بملاحظة اللزوم والمقام فإن المقام من شأنه اللزوم ، وقيل : كلتا الجملتين من كلامه تعالى ابتداء علل بهما القول على نحو ما تقدم أو علل ذلك بأولاهما وعللت الأولى بالثانية ، وجوز كون إحداهما مقولة والأخرى ابتدائية والكل كما ترى. وساءَتْ في حكم بئست والمخصوص بالذم محذوف تقديره هي وهو «الرابط» لهذه الجملة بما هي خبر عنه إن لم يكن ضمير القصة. ومُسْتَقَرًّا تمييز وفيها ضمير مبهم عائد على مُسْتَقَرًّا مفسر به وأنث لتأويل المستقر بجهنم أو مطابقة للمخصوص. ألا ترى إلى ذي الرمة كيف أنث الزورق على تأويل السفينة حيث كان المخصوص مؤنثا في قوله :
أو حرة عيطل ثبجاء مجفرة دعائم الزور نعمت زورق البلد
قيل : ويجوز أن تكون ساءَتْ بمعنى أحزنت فهي فعل متصرف متعد وفاعله ضمير جهنم ومفعوله محذوف أي أحزنت أهلها وأصحابها ومُسْتَقَرًّا تمييز أو حال وهو مصدر بمعنى الفاعل أو اسم مكان وليس بذاك.
والظاهر أن مُسْتَقَرًّا ومقاما كقوله :
وألفى قولها كذبا ومينا وحسنه كون المقام يستدعي التطويل أو كونه فاصلة ، وقيل : المستقر للعصاة والمقام للكفرة وإن في الموضعين للاعتناء بشأن الخبر. وقرأت فرقة «ومقاما» بفتح الميم أي مكان قيام وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا أي لم يتجاوزوا حد الكرم وَلَمْ يَقْتُرُوا أي ولم يضيقوا تضييق الشحيح ، وقال أبو عبد الرحمن الجبلي : الإسراف هو الإنفاق في المعاصي والقتر الإمساك عن طاعة ، وروي نحو ذلك عن ابن عباس ومجاهد وابن زيد ، وقال عون بن عبد اللّه بن عتبة : الإسراف أن تنفق مال غيرك.
وقرأ الحسن وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي وعاصم «يقتروا» بفتح الياء وضم التاء ومجاهد وابن كثير وأبو

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 46
عمرو بفتح الياء وكسر التاء ونافع وابن عامر بضم الياء وكسر التاء وقرأ العلاء ابن سبابة «1» واليزيدي بضم الياء وفتح القاف وكسر التاء مشددة وكلها لغات في التضييق وأنكر أبو حاتم لغة أقتر رباعيا هنا وقال : إنما يقال أقتر إذا افتقر ومنه وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [البقرة : 236] وغاب عنه ما حكاه الأصمعي ، وغيره من أقتر بمعنى ضيق وَكانَ إنفاقهم بَيْنَ ذلِكَ المذكور من الإسراف والقتر قَواماً وسطا وعدلا سمي به لاستقامة الطرفين وتعادلهما كأن كلا منهما يقاوم الآخر كما سمي سواء لاستوائهما وقرأ حسان «قواما» بكسر القاف ، فقيل : هما لغتان بمعنى واحد وقيل : هو بالكسر ما يقام به الشيء ، والمراد به هنا ما يقام به الحاجة لا يفضل عنها ولا ينقص ، وهو خبر ثان .. لكان مؤكد للأول وهو بَيْنَ ذلِكَ أو هو الخبر وبَيْنَ ذلِكَ إما معمول لكان على مذهب من يرى أن كان الناقصة تعمل في الظرف وإما حال من قَواماً لأنه لو تأخر لكان صفة ، وجوز أن يكون ظرفه لغوا متعلقا به أو بَيْنَ ذلِكَ هو الخبر وقَواماً حال مؤكدة ، وأجاز الفراء أن يكون بَيْنَ ذلِكَ اسم كان وبني لإضافته إلى مبني كقوله تعالى :
وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ [هود : 66] في قراءة من فتح الميم ، ومنه قول الشاعر :
لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت حمامة في غصون ذات أوقال
وتعقبه الزمخشري بأنه من جهة الإعراب لا بأس به ولكن المعنى ليس بقوي لأن ما بين الإسراف والتقتير قوام لا محالة فليس في الخبر الذي هو معتمد الفائدة فائدة. وحاصله أن الكلام عليه من باب كان الذاهب جاريته صاحبها وهو غير مفيد. ولا يخفى أنه غير وارد على قراءة قَواماً بالكسر على القول الثاني فيه وعلى غير ذلك متجه. وما قيل من أنه من باب شعري شعري والمعنى كان قواما معتبرا مقبولا غير مقبول لأنه مع بعده إنما ورد فيما اتحد لفظه وما نحن فيه ليس كذلك. وكذا ما قيل : إن بَيْنَ ذلِكَ أعم من القوام بمعنى العدل الذي يكون نسبة كل واحد من طرفيه إليه على السواء فإن ما بين الإقتار والإسراف لا يلزم أن يكون قواما بهذا المعنى إذ يجوز أن يكون دون الإسراف بقليل وفوق الإقتار بقليل فإنه تكلف أيضا إذ ما بينهما شامل لحاق الوسط وما عداه كالوسط من غير فرق ومثله لا يستعمل في المخاطبات لألغازه ، وقيل : لأنه بعد تسليم جواز الأخبار عن الأعم بالأخص يبعد أن يكون مدحهم بمراعاة حاق الوسط مع ما فيه من الحرج الذي نفى عن الإسلام. وفيه أنه لا شك في جواز الأخبار عن الأعم بالأخص نحو الذي جاءني زيد والقائل لم يرد إلحاق الحقيقي بل التقريبي كما يدل عليه قوله بقليل ولا حرج في مثله فتأمل.
ولعل الأخبار عن إنفاقهم بما ذكر بعد قوله تعالى : إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا المستلزم لكون إنفاقهم كذلك للتنصيص على أن فعلهم من خير الأمور فقد شاع خير الأمور أوساطها ، والظاهر أن المراد بالإنفاق ما يعم إنفاقهم على أنفسهم وإنفاقهم على غيرها والقوام في كل ذلك خير ، وقد أخرج أحمد والطبراني عن أبي الدرداء عن النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلم «من فقه الرجل رفقه في معيشته».
وأخرج ابن ماجة في سننه عن أنس قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم إن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت»
وحكي عن عبد الملك بن مروان أنه قال لعمر بن عبد العزيز عليه الرحمة حين زوجه ابنته فاطمة ما نفقتك فقال له عمر : الحسنة بين السيئتين ثم تلا الآية. وقد مدح الشعراء التوسط في الأمور والاقتصاد في المعيشة قديما وحديثا ، ومن ذلك قوله :
___________
(1) قوله سبابة كذا بخطه وانظره اه.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 47
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وقول حاتم :
إذا أنت قد أعطيت بطنك سؤله وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
وقول الآخر :
إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت ولم ينهها تاقت إلى كل باطل
وساقت إليه الإثم والعار بالذي دعته إليه من حلاوة عاجل
إلى غير ذلك وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ أي لا يشركون به غيره سبحانه.
وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ أي حرمها اللّه تعالى بمعنى حرم قتلها لأن التحريم إنما يتعلق بالأفعال دون الذوات فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه مبالغة في التحريم إِلَّا بِالْحَقِّ متعلق بلا يقتلون والاستثناء مفرغ من أعم الأسباب أي لا يقتلونها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق المزيل لحرمتها وعصمتها كالزنا بعد الإحصان والكفر بعد الإيمان ، وجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف أي لا يقتلونها نوعا من القتل إلا قتلا ملتبسا بالحق وأن يكون حالا أي لا يقتلونها في حال من الأحوال إلا حال كونهم ملتبسين بالحق.
وقيل : يجوز أن يكون متعلقا بالقتل المحذوف والاستثناء أيضا من أعم الأسباب أي لا يقتلون النفس التي حرم اللّه تعالى قتلها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق. ويكون الاستثناء مفرغا في الإثبات لاستقامة المعنى بإرادة العموم أو لكون حرم نفيا معنى. ولا يخفى ما فيه من التكلف وَلا يَزْنُونَ ولا يطؤون فرجا محرما عليهم ، والمراد من نفي هذه القبائح العظيمة التعريض بما كان عليه أعداؤهم من قريش وغيرهم وإلا فلا حاجة إليه بعد وصفهم بالصفات السابقة من حسن المعاملة وإحياء الليل بالصلاة ومزيد خوفهم من اللّه تعالى لظهور استدعائها نفي ما ذكر عنهم. ومنه يعلم حل ما قيل الظاهر عكس هذا الترتيب وتقديم التخلية على التحلية فكأنه قيل. والذين طهرهم اللّه تعالى وبرأهم سبحانه مما أنتم عليه من الإشراك وقتل النفس المحرمة كالموؤدة والزنا.
وقيل : إن التصريح بنفي الإشراك مع ظهور إيمانهم لهذا أو لإظهار كمال الاعتناء والإخلاص وتهويل أمر القتل والزنا بنظمهما في سلكه ، وقد صح من رواية البخاري ومسلم والترمذي عن ابن مسعود قال : سألت رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم أي الذنب أكبر؟ قال : أن تجعل للّه تعالى ندا وهو خلقك قلت : ثم أي؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قلت : ثم أي؟ قال : أن تزاني خليلة جارك فأنزل اللّه تعالى تصديق ذلك وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الآية.
وأخرج الشيخان وأبو داود والنسائي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن ناسا من أهل الشرك قد قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا ثم أتوا محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزلت وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الآية ونزلت قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزمر : 53] الآية.
وقد ذكر الإمام الرازي أن ذكر هذا بعد ما تقدم لأن الموصوف بتلك الصفات قد يرتكب هذه الأمور تدينا فبين سبحانه أن المكلف لا يصير بتلك الخلال وحدها من عباد الرحمن حتى ينضاف إلى ذلك كونه مجانبا لهذه الكبائر وهو كما ترى ، وجوز أن يقال في وجه تقديم التحلية على التخلية كون الأوصاف المذكورة في التحلية أوفق بالعبودية التي جعلت عنوان الموضوع لظهور دلالتها على ترك الأنانية ومزيد الانقياد والخوف والاقتصاد في التصرف بما أذن

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 48
المولى بالتصرف فيه. ولا يأبى هذا قصد التعريض بما ذكر في التخلية. ويؤيد هذا القصد التعقيب بقوله عز وجل :
وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً أي ومن يفعل ما ذكر يلق في الآخرة عقابا لا يقادر قدره. وتفسير الأثام بالعقاب مروي عن قتادة وابن زيد ونقله أبو حيان عن أهل اللغة وأنشد قوله :
جزى اللّه ابن عروة حيث أمسى عقوقا والعقوق له جزاء
أخرج ابن الأنباري عن ابن عباس أنه فسره لنافع بن الأزرق بالجزاء وأنشد قول عامر بن الطفيل :
وروينا الأسنة من صداه ولاقت حمير منا أثاما
والفرق يسير : وقال أبو مسلم الأثام الإثم والكلام عليه على تقدير مضاف أي جزاء أثام أو هو مجاز من ذكر السبب وإرادة المسبب ، وقال الحسن : هو اسم من أسماء جهنم ، وقيل : اسم بئر فيها ، وقيل : اسم جبل.
وروى جماعة عن عبد اللّه بن عمر ومجاهد أنه واد في جهنم ، وقال مجاهد : فيه قيح ودم.
وأخرج ابن المبارك في الزهد عن شفى الأصبحي أن فيه حيات وعقارب في فقار إحداهن مقدار سبعين قلة من سم والعقرب منهن مثل البغلة الموكفة ، وعن عكرمة اسم لأودية في جهنم فيها الزناة. وقرىء «يلق» بضم الياء وفتح اللام والقاف مشددة ، وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء «يلقى» بألف كأنه نوى حذف الضمة المقدرة على الألف فأقرت الألف وقرأ أبو مسعود أيضا «أياما» جمع يوم يعني شدائد ، واستعمال الأيام بهذا المعنى شائع ومنه يوم ذو أيام وأيام العرب لوقائعهم ومقاتلتهم يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ بدل من «يلق» بدل كل من كل أو بدل اشتمال. وجاء الإبدال من المجزوم بالشرط في قوله :
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا تجد حطبا جزلا ونارا تأججا
وَيَخْلُدْ فِيهِ أي في ذلك العذاب المضاعف مُهاناً ذليلا مستحقرا فيجتمع له العذاب الجسماني والروحاني وقرأ الحسن وأبو جعفر وابن كثير «يضعّف» بالياء والبناء للمفعول وطرح الألف والتضعيف.
وقرأ شيبة وطلحة بن سليمان وأبو جعفر أيضا «نضعّف» بالنون مضمومة وكسر العين مضعفة و«العذاب» بالنصب ، وطلحة بن مصرف «يضاعف» مبنيا للفاعل و«العذاب» بالنصب وقرأ طلحة بن سليمان «وتخلد» بتاء الخطاب على الالتفات المنبي عن شدة الغضب مرفوعا وقرأ أبو حيوة «وتخلّد» مبنيا للمفعول مشدد اللام مجزوما.
ورويت عن أبي عمرو وعنه كذلك مخففا وقرأ أبو بكر عن عاصم «يضاعف» و«يخلد» بالرفع فيهما ، وكذا ابن عامر ، والمفضل عن عاصم «يضاعف». و«يخلد» مبنيا للمفعول مرفوعا مخففا. والأعمش بضم الياء مبنيا للمفعول مشددا مرفوعا وقد عرفت وجه الجزم ، وأما الرفع فوجهه الاستئناف ، ويجوز جعل الجملة حالا من فاعل يَلْقَ ، والمعنى يلق أثاما مضاعفا له العذاب ، ومضاعفته مع قوله تعالى : وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى : 40] وقوله سبحانه :
وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها [الأنعام : 160] قيل لانضمام المعصية إلى الكفر ، ويدل عليه قوله تعالى إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فإن استثناء المؤمن يدل على اعتبار الكفر في المستثنى منه. وأورد عليه أن تكرر لا النافية يفيد نفي كل من تلك الأفعال بمعنى لا يوقعون شيئا منها فيكون وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ بمعنى ومن يفعل شيئا من ذلك ليتحد مورد الإثبات والنفي فلا دلالة على الانضمام ، والمستثنى من جمع بين ما ذكر من الإيمان والتوبة والعمل الصالح فيكون المستثنى منه غير جامع لها ، فلعل الجواب أن المضاعفة بالنسبة إلى عذاب ما دون المذكورات.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 49
وتعقب بأن الجواب المذكور لا بعد فيه وإن لم يذكر ما دونها إلا أن الإيراد ليس بشيء لأن الكلام تعريض للكفرة ومن يفعل شيئا من ذلك منهم فقد ضم معصيته إلى كفره ولو لم يلاحظ ذلك على ما اختاره لزم أن من ارتكب كبيرة يكون مخلدا ولا يخفى فساده عندنا ، وما ذكر من اتحاد مورد الإثبات والنفي ليس بلازم.
ثم إن في الكلام قرينة على أن المستثنى منه من جمع بين أضدادها كما علمت ولذا جمع بين الإيمان والعمل الصالح مع أن العمل مشروط بالإيمان فذكره للإشارة إلى انتفائه عن المستثنى منه ولذا قدم التوبة عليه ، ويحتمل أن تقديمها لأنها تخلية ، وقال بعضهم : ليس المراد بالمضاعفة المذكورة ضم قدرين متساويين من العذاب كل منهما بقدر ما تقتضيه المعصية بل المراد لازم ذلك وهو الشدة فكأنه قيل : ومن يفعل ذلك يعذب عذابا شديدا ويكون ذلك العذاب الشديد جزاء كل من تلك الأفعال ومماثلا له ، والقرينة على المجاز قوله تعالى : وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها ونحوه ، ويراد من الخلود المكث الطويل الصادق بالخلود الأبدي وغيره ، ويكون لمن أشرك باعتبار فرده الأول ، ولمن ارتكب إحدى الكبيرتين الأخيرتين باعتبار فرده الآخر وهو كما ترى ، ومثله ما قيل من أن المضاعفة لحفظ ما تقتضيه المعصية فإن الأمر الشديد إذا دام هان.
هذا والظاهر أن الاستثناء متصل على ما هو الأصل فيه ، وقال أبو حيان : الأولى عندي أن يكون منقطعا أي لكن من تاب إلخ لأن المستثنى منه على تقدير الاتصال محكوم عليه بأنه يضاعف له العذاب فيصير التقدير إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فلا يضاعف له العذاب ، ولا يلزم من انتفاء التضعيف لقاء العذاب غير المضعف ، وفيه إن قوله تعالى الآتي فَأُوْلئِكَ إلخ احتراس لدفع توهم ثبوت أصل العذاب بإفادة أنهم لا يلقونه أصلا على أكمل وجه ، وقيل أيضا في ترجيح الانقطاع : إن الاتصال مع قطع النظر عن إيهامه ثبوت أصل العذاب بل وعن إيهامه الخلود غير مهان يوهم أن مضاعفة العمل الصالح شرط لنفي الخلود مع أنه ليس كذلك.
ثم أية ضرورة تدعو إلى أن يرتكب ما فيه إيهام ثم يتشبث بأذيال الاحتراس ، على أن الظاهر أن يجعل من مبتدأ والجملة المقرونة بالفاء خبره وقرنت بذلك لوقوعها خبرا عن الموصول كما في قولك : الذي يأتيني فله درهم ، وأنا أميل لما مال إليه أبو حيان لمجموع ما ذكر ، وذكر الموصوف في قوله سبحانه : وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً مع جريان الصالح والصالحات مجرى الاسم للاعتناء به والتنصيص على مغايرته للأعمال السابقة.
فَأُوْلئِكَ إشارة إلى الموصول ، والجمع باعتبار معناه كما أن الإفراد في الأفعال الثلاثة باعتبار لفظه أي فأولئك الموصوفون بالتوبة والإيمان والعمل الصالح.
يُبَدِّلُ اللَّهُ في الدنيا سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ بأن يمحو سوابق معاصيهم بالتوبة ويثبت مكانها لواحق طاعاتهم كما يشير إلى ذلك كلام كثير من السلف ، وقيل : المراد بالسيئات والحسنات ملكتهما لأنفسهما أي يبدل عز وجل بملكة السيئات ودواعيها في النفس ملكة الحسنات بأن يزيل الأولى ويأتي بالثانية ، وقيل : هذا التبديل في الآخرة ، والمراد بالسيئات والحسنات العقاب والثواب مجازا من باب إطلاق السبب وإرادة المسبب ، والمعنى يعفو جل وعلا عن عقابهم ويتفضل سبحانه عليهم بدله بالثواب ، وإلى هذا ذهب القفال. والقاضي ، وعن سعيد بن المسيب وعمرو بن ميمون ومكحول أن ذلك بأن تمحي السيئات نفسها يوم القيامة من صحيفة أعمالهم ويكتب بدلها الحسنات ، واحتجوا
بالحديث الذي رواه مسلم في الصحيح عن أبي ذر قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال : اعرضوا عليه صغار ذنوبه وينحى عن كبارها فيقال : عملت يوم كذا وكذا كذا

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 50
وكذا وهو يقر لا ينكر وهو مشفق من الكبائر فيقال : أعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة فيقول : إن لي ذنوبا لم أرها هنا قال : ولقد رأيت رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم ضحك حتى بدت نواجذه»
، ونحو هذا ما
أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة قال : «قال رسول اللّه عليه الصلاة والسلام ليأتين ناس يوم القيامة ودوا أنهم استكثروا من السيئات قيل : من هم؟ قال صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم الذين يبدل اللّه تعالى سيئاتهم حسنات»
ويسمى هذا التبديل كرم العفو ، وكأنه لذلك قال أبو نواس :
تعض ندامة كفيك مما تركت مخافة الذنب السرورا
ولعل المراد أنه تغفر سيئاته ويعطى بدل كل سيئة ما يصلح أن يكون ثواب حسنة تفضلا منه عز وجل وتكرما لا أنه يكتب له أفعال حسنات لم يفعلها ويثاب عليها. وفي كلام أبي العالية ما هو ظاهر في إنكار تمني الاستكثار من السيئات ، فقد أخرج عبد بن حميد عنه أنه قيل له : إن أناسا يزعمون أنهم يتمنون أن يستكثروا من الذنوب فقال : ولم ذلك؟ فقيل : يتأولون هذه الآية فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وكان أبو العالية إذا أخبر بما لا يعلم قال : آمنت بما أنزل اللّه تعالى من كتابه فقال ذلك ثم تلا هذه الآية يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً [آل عمران : 30] وكأنه ظن أن ما تلاه مناف لما زعموه من التمني ، ويمكن أن يقال : إن ما دلت عليه تلك الآية يكون قبل الوقوف على التبديل واللّه تعالى أعلم.
وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله وَمَنْ تابَ أي عن المعاصي التي فعلها بتركها بالكلية والندم عليها وَعَمِلَ صالِحاً يتلافى به ما فرط منه او ومن خرج عن جنس المعاصي وإن لم يفعله ودخل في الطاعات فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ أي يرجع إليه سبحانه بذلك مَتاباً أي رجوعا عظيم الشأن مرضيا عنده تعالى ماحيا للعقاب محصلا للثواب أو فإنه يتوب إلى اللّه تعالى ذي اللطف الواسع الذي يحب التائبين ويصطنع إليهم أو فإنه يرجع إلى اللّه تعالى أو إلى ثوابه سبحانه مرجعا حسنا ، وأيا ما كان فالشرط والجزاء متغايران ، وهذا لبيان حال من تاب من جميع المعاصي وما تقدم لبيان من تاب من أمهاتها فهو تعميم بعد تخصيص
وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ أي لا يقيمون الشهادة الكاذبة كما روي عن علي كرّم اللّه تعالى وجهه
. والباقر رضي اللّه تعالى عنه فهو من الشهادة
، والزُّورَ منصوب على المصدر أو بنزع الخافض أي شهادة الزور أو بالزور ويفهم من كلام قتادة أن الشهادة هنا بمعنى يعم ما هو المعروف منها ، أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أنه قال : أي لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم ولا يؤملونهم فيه.
وأخرج جماعة عن مجاهد أن المراد بالزور الغناء ، وروي نحوه عن محمد بن الحنفية رضي اللّه تعالى عنه ، وضم الحسن إليه النياحة ، وعن قتادة أنه الكذب ، وعن عكرمة أنه لعب كان في الجاهلية ، وعن ابن عباس أنه صنم «1» كانوا يلعبون حوله سبعة أيام ، وفي رواية أخرى عنه أنه عيد المشركين وروي ذلك عن الضحاك ، وعن هذا أنه الشرك فيشهدون على هذه الأقوال من الشهود بمعنى الحضور ، والزُّورَ مفعول به بتقدير مضاف أي محال الزور وجوز أن يراد بالزور ما يعم كل شيء باطل مائل عن جهة الحق من الشرك والكذب والغناء والنياحة ونحوها فكأنه قيل : لا يشهدون مجالس الباطل لما في ذلك من الإشعار بالرضا به ، وأيضا من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه وَإِذا مَرُّوا
___________
(1) قال الراغب وسمي الصنم زورا في قوله : جاؤوا بزوريهم وجئنا بالأصم لكون ذلك كذبا وميلا عن الحق وظاهره أنه مطلق الصنم فتأمل ا ه منه.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 51
على طريق الاتفاق بِاللَّغْوِ بما ينبغي أن يلغى ويطرح مما لا خير فيه مَرُّوا كِراماً أي مكرمين أنفسهم عن الوقوف عليه والخوض فيه معرضين عنه.
وفسر الحسن اللغو كما أخرج عنه ابن أبي حاتم بالمعاصي ، وأخرج هو وابن عساكر عن إبراهيم بن ميسرة قال :
بلغني أن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه مرّ بلهو معرضا ولم يقف فقال النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم لقد أصبح ابن مسعود وأمسى كريما ثم تلا إبراهيم وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً.
وقيل : المراد باللغو الكلام الباطل المؤذي لهم أو ما يعمه والفعل المؤذي وبالكرم العفو والصفح عمن آذاهم ، وإليه يشير ما أخرجه جماعة عن مجاهد أنه قال في الآية : إذا أوذوا صفحوا وجعل الكلام على هذا بتقدير مضاف أي إذا مروا بأهل اللغو أعرضوا عنهم كما قيل :
ولقد أمر على اللئيم يسبني فمضيت ثمت قلت لا يعنيني
ولا يخفى أنه ليس بلازم ، وقيل : اللغو القول المستهجن ، والمراد بمرورهم عليه إتيانهم على ذكره وبكرمهم الكف عنه والعدول إلى الكناية ، وإليه يومىء ما أخرجه جماعة عن مجاهد أيضا أنه قال : فيها كانوا إذا أتوا على ذكر النكاح كنوا عنه ، وعمم بعضهم وجعل ما ذكر من باب التمثيل ، وجوز أن يراد باللغو الزور بالمعنى العام أعني الأمر الباطل عبر عنه تارة بالزور لميله عن جهة الحق وتارة باللغو لأنه من شأنه أن يلغى ويطرح ، ففي الكلام وضع المظهر موضع المضمر ، والمعنى والذين لا يحضرون الباطل وإذا مروا به على طريق الاتفاق أعرضوا عنه وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ القرآنية المنطوية على المواعظ والأحكام لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً أي أكبوا عليها سامعين بآذان واعية مبصرين بعيون راعية فالنفي متوجه إلى القيد على ما هو الأكثر في لسان العرب ، وفي التعبير بما ذكر دون أكبوا عليها سامعين مبصرين ونحوه تعريض لما عليه الكفرة والمنافقون إذا ذكروا بآيات ربهم ، والخرور السقوط على غير نظام وترتيب ، وفي التعبير به مبالغة في تأثير التذكير بهم ، وقيل : ضمير عليها للمعاصي المدلول عليها باللغو ، والمعنى إذا ذكروا بآيات ربهم المتضمنة للنهي عن المعاصي والتخويف لمرتكبها لم يفعلوها ولم يكونوا كمن لا يسمع ولا يبصر وهو كما ترى.
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ بتوفيقهم للطاعة كما روي عن ابن عباس والحسن وعكرمة ومجاهد فإن المؤمن الصادق إذا رأى أهله قد شاركوه في الطاعة قرت بهم عينه وسر قلبه وتوقع نفعهم له في الدنيا حيا وميتا ولحوقهم به في الأخرى ، وذكر أنه كان في أول الإسلام يهتدي الأب والابن كافر والزوج والزوجة كافرة فلا يطيب عيش ذلك المهتدي فكان يدعو بما ذكر ، وعن ابن عباس قرة عين الوالد بولده أن يراه يكتب الفقه ، ومن ابتدائية متعلقة بهب أي هب لنا من جهتهم.
وجوز أن تكون بيانية كأنه قيل : هب لنا قرة أعين ثم بينت القرة وفسرت بقوله سبحانه : مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا وهذا مبني على مجيء من للبيان وجواز تقدم المبين على المبين ، وقرة العين كناية عن السرور والفرح وهو مأخوذ من القر وهو البرد لأن دمعة السرور باردة ولذا يقال في ضده : أسخن اللّه تعالى عينه ، وعليه قول أبي تمام :
فأما عيون العاشقين فأسخنت وأما عيون الشامتين فقرت
وقيل : هو مأخوذمن القرار لأن ما يسر يقر النظر به ولا ينظر إلى غيره ، وقيل : في الضد أسخن اللّه تعالى عينه على معنى جعله خائفا مترقبا ما يحزنه ينظر يمينا وشمالا وأماما ووراء لا يدري من أين يأتيه ذلك بحيث تسخن عينه لمزيد الحركة التي تورث السخونة ، وفيه تكلف ، وقيل : أَعْيُنٍ بالتنكير مع أن المراد بها أعين القائلين وهي معينة

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 52
لقصد تنكير المضاف للتعظيم وهو لا يكون بدون تنكير المضاف إليه ، وجمع القلة على ما قال الزمخشري لأن أعين المتقين قليلة بالإضافة إلى عيون غيرهم.
وتعقبه أبو حيان وابن المنير بأن المتقين وإن كانوا قليلا بالإضافة إلى غيرهم إلا أنهم في أنفسهم على كثرة من العدد والمعتبر في إطلاق جمع القلة أن يكون المجموع قليلا في نفسه لا بالإضافة إلى غيره ، وأجيب بأن المراد أنه استعمل الجمع المذكور في معنى القلة مجردا عن العدد بقرينة كثرة القائلين وعيونهم ، واستظهر ابن المنير أن ذلك لأن المحكي كلام كل واحد من المتقين فكأنه قيل : يقول كل واحد منهم هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين فتدبر وتأمل في وجه اختيار هذا الجمع في غير هذا الموضع مما لا يتأتى فيه ما ذكروه هاهنا.
وأنا أظن أنه اختير الأعين جمعا للعين الباصرة والعيون جمعا للعين الجارية في جميع القرآن الكريم ويخطر لي في وجه ذلك شيء لا أظنه وجيها ولعلك تفوز بما يغنيك عن ذكره واللّه تعالى ولي التوفيق وقرأ طلحة وأبو عمرو وأهل الكوفة غير حفص «وذريتنا» على الأفراد.
وقرأ عبد اللّه وأبو الدرداء وأبو هريرة «قرأت» على الجمع وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً أي اجعلنا بحيث يقتدون بنا في إقامة مراسم الدين بإفاضة العلم والتوفيق للعمل ، وإمام يستعمل مفردا وجمعا كهجان والمراد به هنا الجمع ليطابق المفعول الأول لجعل ، واختير على أئمة لأنه أوفق بالفواصل السابقة واللاحقة ، وقيل : هو مفرد وأفرد مع لزوم المطابقة لأنه اسم جنس فيجوز إطلاقه على معنى الجمع مجازا بتجريده من قيد الوحدة أو لأنه في الأصل مصدر وهو لكونه موضوعا للماهية شامل للقليل والكثير وضعا فإذا نقل لغيره قد يراعي أصله أو لأن المراد واجعل كل واحد منا أو لأنهم كنفس واحدة لاتحاد طريقتهم واتفاق كلمتهم.
وفي إرشاد العقل السليم بعد نقل ما ذكر أن مدار التوجيه على أن هذا الدعاء صدر عن الكل على طريق المعية وهو غير واقع أو عن كل واحد وهو غير ثابت ، فالظاهر أنه صدر عن كل واحد قول واجعلني للمتقين إماما فعبر عنهم للإيجاز بصيغة الجمع وأبقى إِماماً على حاله.
وتعقب بأن فيه تكلفا وتعسفا مع مخالفته للعربية وأنه ليس مداره على ذلك بل إنهم شركوا في الحكاية في لفظ واحد لاتحاد ما صدر عنهم مع أنه يجوز اختيار الثاني لأن التشريك في الدعاء أدعى للإجابة فاعرف ولا تغفل.
وروي عن مجاهد أن إماما جمع أم بمعنى قاصد كصيام جمع صائم ، والمعنى اجعلنا قاصدين للمتقين مقتدين بهم ، وما ذكر أولا أقرب كما لا يخفى وليس في ذلك كما قال النخعي : طلب للرياسة بل مجرد كونهم قدوة في الدين وعلماء عاملين ، وقيل : في الآية ما يدل على أن الرياسة في الدين مما ينبغي أن يطلب ، وإعادة الموصول في المواقع السبعة مع كفاية ذكر الصلات بطريق العطف على صلة الموصول الأول للإيذان بأن كل واحد مما ذكر في حيز صلة الموصولات المذكورة وصف جليل على حياله له شأن خطير حقيق بأن يفرد له موصوف مستقل ولا يجعل شيء من ذلك تتمة لغيره ، وتوسيط العاطف بين الموصولات لتنزيل الاختلاف العنواني منزلة الاختلاف الذاتي كما عرفته فيما سبق غير مرة أُوْلئِكَ إشارة إلى المتصفين بما فصل في حيز الصلات من حيث اتصافهم به وفيه دلالة على أنهم متميزون منتظمون بسببه في سلك الأمور المشاهدة ، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الفضل ، وهو مبتدأ خبره جملة قوله تعالى : يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ والجملة على الأقرب استئناف لا محل لها من الإعراب مبينة لما لهم في الآخرة من السعادة الأبدية إثر بيان ما لهم من الدنيا من الأعمال السنية ، والْغُرْفَةَ الدرجة العالية من

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 53
المنازل وكل بناء مرتفع عال ، وقد فسرت هنا على ما روي عن ابن عباس ببيوت من زبرجد ودر وياقوت.
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن سهل بن سعد عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه : «قال فيها بيوت من ياقوتة حمراء أو زبرجدة خضراء أو درة بيضاء ليس فيها فصم ولا وصم»
، وقيل : أعلى منازل الجنة ، ولا يأباه الخبر لجواز أن تكون الغرف الموصوفة فيه هناك ، وروي عن الضحاك أنها الجنة ، وقيل : السماء السابعة ، وعلى تفسيرها بجمع ، ويؤيده قوله تعالى : وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ [سبأ : 37] وقرىء فيه في الغرفة يكون المراد بها الجنس وهو يطلق على الجمع كما سمعت آنفا ، وإيثار الجمع هنالك على ما قال الطيبي لأنها رتبت على الإيمان والعمل الصالح ولا خفاء في تفاوت الناس فيهما وعلى ذلك تتفاوت الأجزية ، وهاهنا رتب على مجموع الأوصاف الكاملة فلذا جيء بالواحد دلالة على أن الغرف لا تفاوت بِما صَبَرُوا أي بسبب صبرهم على أن الباء للسببية وما مصدرية ، وقيل : هي للبدل كما في قوله :
فليت لي بهم قوما إذا ركبوا شنوا الإغارة فرسانا وركبانا
أي بدل صبرهم ولم يذكر متعلق الصبر ليعم ما سلف من عبادتهم فعلا وتركا وغيره من أنواع العبادة والكل مدمج فيه فإنه إما عن المعاصي وإما على الطاعات وإما على اللّه تبارك وتعالى وهو أعلى منهما ويعلم من ذلك وجه إيثار صَبَرُوا على فعلوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً أي تحييهم الملائكة عليهم السلام ويدعون لهم بطول الحياة والسلامة عن الآفات أو يحيي بعضهم بعضا ويدعو له بذلك ، والمراد من الدعاء به التكريم وإلقاء السرور والمؤانسة وإلا فهو متحقق لهم ويعطون التبقية والتخليد مع السلامة من كل آفة فليس هناك دعاء أصلا.
وقرأ طلحة ومحمد اليماني وأهل الكوفة غير حفص «يلقون» بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف خالِدِينَ فِيها لا يموتون ولا يخرجون ، وهو حال من ضمير يُجْزَوْنَ أو من ضمير يُلَقَّوْنَ.
حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً مقابل «ساءت مستقرا» معنى ومثله إعرابا فتذكر ولا تغفل قُلْ أمر لرسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلّم بأن يبين للناس أن الفائزين بتلك النعماء الجليلة التي يتنافس فيها المتنافسون إنما نالوها بما عدد من محاسنهم ولولاها لم يعتد بهم أصلا أي قل للناس مشافها لهم بما صدر عن جنسهم من خير وشر ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي أي أي عبء يعبأ بكم وأي اعتداد يعتد بكم لَوْلا دُعاؤُكُمْ أي عبادتكم له عز وجل حسبما مر تفصيله ، فإن ما خلق له الإنسان معرفة اللّه تعالى وطاعته جل وعلا وإلا فهو والبهائم سواء فما متضمنة لمعنى الاستفهام وهي في محل النصب وهي عبارة عن المصدر ، وأصل العبء الثقل وحقيقة قولهم : ما عبأت به ما اعتددت له من فوادح همي ومما يكون عبئا عليّ كما تقول : ما اكترثت له أي ما أعددت له من كوارثي ومما يهمني.
وقال الزجاج : معناه أي وزن يكون لكم عنده تعالى لولا عبادتكم ، ويجوز أن تكون ما نافية أي ليس يعبأ ، وأيا ما كان فجواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه أي لولا دعاؤكم لما اعتد بكم ، وهذا بيان لحال المؤمنين من المخاطبين.
وقوله سبحانه : فَقَدْ كَذَّبْتُمْ بيان لحال الكفرة منهم ، والمعنى إذا أعلمتكم أن حكمي أني لا أعتد بعبادي إلا لعبادتهم فقد خالفتم حكمي ولم تعملوا عمل أولئك المذكورين ، فالفاء مثلها في قوله : فقد جئنا خراسانا والتكذيب مستعار للمخالفة ، وقيل : المراد فقد قصرتم في العبادة على أنه من قولهم : كذب القتال إذا لم يبالغ فيه ، والأول أولى وإن قيل : إن المراد من التقصير في العبادة تركها. وقرأ عبد اللّه وابن عباس وابن الزبير «فقد كذب الكافرون» وهو على

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 54
معنى كذب الكافرون منكم لعموم الخطاب للفريقين على ما أشرنا إليه وهو الذي اختاره الزمخشري واستحسنه صاحب الكشف ، واختار غير واحد أنه خطاب لكفرة قريش ، والمعنى عليه عند بعض ما يعبأ بكم لولا عبادتكم له سبحانه أي لولا إرادته تعالى التشريعية لعبادتكم له تعالى لما عبأ بكم ولا خلقكم ، وفيه معنى من قوله تعالى : ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات : 56] وقيل : المعنى ما يعبأ بكم لولا دعاؤه سبحانه إياكم إلى التوحيد على لسان رسوله صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم أي لولا إرادة ذلك.
وقيل : المعنى ما يبالي سبحانه بمغفرتكم لولا دعاؤكم معه آلهة أو ما يفعل بعذابكم لولا شرككم كما قال تعالى : ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ [النساء : 147] ، وقيل : المعنى ما يعبأ بعذابكم لولا دعاؤكم إياه تعالى وتضرعكم إليه في الشدائد كما قال تعالى : فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ [العنكبوت : 65] وقال سبحانه : فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ [الأنعام : 42] ، وقيل : المعنى ما خلقكم سبحانه وله إليكم حاجة إلا أن تسألوه فيعطيكم وتستغفروه فيغفر لكم ، وروي هذا عن الوليد بن الوليد رضي اللّه تعالى عنه.
وأنت تعلم أن ما آثره الزمخشري لا ينافي كون الخطاب لقريش من حيث المعنى فقد خصص بهم في قوله تعالى : فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً أي جزاء التكذيب أو أثره لازما يحيق بكم حتى يكبكم في النار كما يعرب عنه الفاء الدالة على لزوم ما بعدها لما قبلها فضمير «يكون» لمصدر الفعل المتقدم بتقدير مضاف أو على التجوز ، وإنما لم يصرح بذلك للإيذان بغاية ظهوره وتهويل أمره وللتنبيه على أنه مما لا يكتنهه البيان.
وقيل : الضمير للعذاب ، وقد صرح به من قرأ «يكون العذاب لزاما» ، وصح عن ابن مسعود أن اللزام قتل يوم بدر ، وروي عن أبي ومجاهد وقتادة وأبي مالك ولعل إطلاقه على ذلك لأنه لوزم فيه بين القتلى لِزاماً.
وقرأ ابن جريج تكون بتاء التأنيث على معنى تكون العاقبة ، وقرأ المنهال ، وأبان بن ثعلب وأبو السمال «لزاما» بفتح اللام مصدر لزم يقال : لزم لزوما ولزاما كثبت ثبوتا وثباتا ، ونقل ابن خالويه عن أبي السمال أنه قرأ «لزام» على وزن حذام جعله مصدرا معدولا عن اللزمة كفجار المعدول عن الفجرة واللّه تعالى أعلم هذا.
ومن باب الإشارة قيل في قوله تعالى : وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ إشارة قصور حال المنكرين على أولياء اللّه تعالى حيث شاركوهم في لوازم البشرية من الأكل والشرب ونحوهما وقالوا في قوله تعالى : وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً إن وجه فتنته النظر إليه نفسه والغفلة فيه عن ربه سبحانه ، ويشعر هذا بأن كل ما سوى اللّه تعالى فتنة من هذه الحيثية.
وقال ابن عطاء في قوله تعالى : وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً أطلعناهم على أعمالهم فطالعوها بعين الرضا فسقطوا من أعيننا بذلك وجعلنا أعمالهم هباء منثورا ، وهذه الآية وإن كانت في وصف الكفار لكن في الحديث أن في المؤمنين من يجعل عمله هباء كما تضمنته ،
فقد أخرج أبو نعيم في الحلية والخطيب في المتفق والمفترق عن سالم مولى أبي حذيفة قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : ليجاءن يوم القيامة بقوم معهم حسنات مثل جبال تهامة حتى إذا جيء بهم جعل اللّه تعالى أعمالهم هباء ثم قذفهم في النار ، قال سالم : بأبي وأمي يا رسول اللّه حل لنا هؤلاء القوم قال : كانوا يصومون ويصلون ويأخذون هنئة من الليل ولكن كانوا إذا عرض عليهم شيء من الحرام وثبوا عليه فادحض اللّه تعالى أعمالهم»
وذكر في قوله تعالى : وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ الآية أن حكمه عام في كل متحابين على معصية اللّه تعالى.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 55
وعن مالك بن دينار نقل الأحجار مع الأبرار خير من أكل الخبيص مع الفجار ، وفي قوله تعالى : وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ أنه يلزم من هذا مع قولهم كل ولي على قدم نبي أن يكون لكل ولي عدو يتظاهر بعداوته ، وفيه إشارة إلى سوء حال من يفعل ذلك مع أولياء اللّه تعالى. ولذا قيل : إن عداوتهم علامة سوء الخاتمة والعياذ باللّه تعالى ، وفي قوله تعالى : الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ إشارة إلى أنهم كانوا متوجهين إلى جهة الطبيعة ولذا حشروا منكوسين ، وفي قوله تعالى : أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا إنه عام في كل من مال إلى هوى نفسه واتبعه فيما توجه إليه ، ومن هنا دقق العارفون النظر في مقاصد أنفسهم حتى إنهم إذا أمرتهم بمعروف لم يسارعوا إليه وتأملوا ماذا أرادت بذلك فقد حكي عن بعضهم أن نفسه لم تزل تحسه على الجهاد في سبيل اللّه تعالى فاستغرب ذلك منها لعلمه أن النفس أمارة بالسوء فأمعن النظر فإذا هي قد ضجرت من العبادة فأرادت الجهاد رجاء أن تقتل فتستريح مما هي فيه من النصب ولم تقصد بذلك الطاعة بل قصدت الفرار منها ، وقيل في قوله تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ الآية أي ألم تر كيف مد ظل عالم الأجسام وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً في كتم العدم ثم جعلنا شمس عالم الأرواح على وجود ذلك الظل دليلا بأن كانت محركة لها إلى غايتها المخلوقة هي لأجلها فعرف من ذلك أنه لولا الأرواح لم تخلق الأجساد ، وفي قوله تعالى : ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً إشارة إلى أن كل مركب فإنه سينحل إلى بسائطه إذا حصل على كماله الأخير وبوجه آخر الظل ما سوى نور الأنوار يستدل به على صانعه الذي هو شمس عالم الوجود.
وهذا شأن الذاهبين من غيره سبحانه إليه عز وجل ، وفي قوله تعالى : ثُمَّ جَعَلْنَا إشارة إلى مرتبة أعلى من ذلك وهي الاستدلال به تعالى على غيره سبحانه كقوله تعالى : أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ وهذه مرتبة الصديقين.
وقوله سبحانه : ثُمَّ قَبَضْناهُ كقوله تعالى : كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص : 88] وأَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى : 53] وبوجه آخر الظل حجاب الذهول والغفلة والشمس شمس تجلي المعرفة من أفق العناية عند صباح الهداية ولو شاء سبحانه لجعله دائما لا يزول ، وإنما يستدل على الذهول بالعرفان ، وفي قوله تعالى :
ثُمَّ قَبَضْناهُ إشارة إلى أن الكشف التام يحصل بالتدريج عند انقضاء مدة التكليف وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً تستترون به عن رؤية الأجانب لكم واطلاعهم على حالكم من التواجد وسكب العبرات وَالنَّوْمَ سُباتاً راحة لأبدانكم من نصب المجاهدات وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً تنتشرون فيه لطلب ضرورياتكم وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ أي رياح الاشتياق على قلوب الأحباب بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ من التجليات والكشوف وَأَنْزَلْنا من سماء الكرم ماء حياة العرفان لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً أي قلوبا ميتة وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وهم الذين غلبت عليهم الصفات الحيوانية يسقيهم سبحانه ليردهم إلى القيام بالعبادات وَأَناسِيَّ كَثِيراً وهم الذين سكنوا إلى رياض الإنس يسقيهم سبحانه من ذلك ليفطمهم عن مراضع الإنسانية إلى المشارب الروحانية وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ أي القرآن الذي هو ماء حياة القلوب بينهم لِيَذَّكَّرُوا به موطنهم الأصلي فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً بنعمة القرآن وما عرفوا قدرها وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ بحر الروح وبحر النفس هذا وهو بحر الروح عَذْبٌ فُراتٌ من الصفات الحميدة الربانية ، وهذا وهو بحر النفس مِلْحٌ أُجاجٌ من الصفات الذميمة الحيوانية وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً فحرام على الروح أن يكون منشأ الصفات الذميمة وعلى النفس أن تكون معدن الصفات الحميدة.
وذكر أن البرزخ هو القلب ، وقال ابن عطاء : تلاطمت صفتان فتلاقيتا في قلوب الخلق فقلوب أهل المعرفة

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 56
منورة بأنوار الهداية مضيئة بضياء الإقبال وقلوب أهل النكرة مظلمة بظلمات المخالفة معرضة عن سنن التوفيق وبينهما قلوب العامة ليس لها علم بما يرد عليها وما يصدر منها ليس معها خطاب ولا لها جواب ، وقيل : البحر العذب إشارة إلى بحر الشريعة وعذوبته لما أن الشريعة سهلة لا حرج فيها ولا دقة في معانيها ولذلك صارت مورد الخواص والعوام ، والبحر الملح إشارة إلى بحر الحقيقة وملوحته لما أن الحقيقة صعبة المسالك لا يكاد يدرك ما فيها عقل السالك ، والبرزخ إشارة إلى الطريقة فإنها ليست بسهلة كالشريعة ولا صعبة كالحقيقة بل بين بين تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً قيل : هو إشارة إلى أنه سبحانه جعل في سماء القلوب بروج المنازل والمقامات وهي اثنا عشر التوبة والزهد والخوف والرجاء والتوكل والصبر والشكر واليقين. والإخلاص والتسليم والتفويض والرضا وهي منازل الأحوال السيارة شمس التجلي وقمر المشاهدة وزهرة الشوق ومشتري المحبة وعطارد الكشوف ومريخ الفناء وزحل البقاء «وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا» بغير فخر ولا خيلاء لما شاهدوا من كبرياء اللّه تعالى وجلاله جل شأنه.
وذكر بعضهم أن هؤلاء العباد يعاملون الأرض معاملة الحيوان لا الجماد ولذا يمشون عليها هونا وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ وهم أبناء الدنيا قالُوا سَلاماً أي سلامة من اللّه تعالى من شركم أو إذا خاطبهم كل ما سوى اللّه تعالى من الدنيا والآخرة وما فيهما من اللذة والنعيم وتعرض لهم ليشغلهم عما هم فيه قالُوا سَلاماً سلام متاركة وتوديع وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً لما علموا أن الصلاة معراج المؤمن والليل وقت اجتماع المحب بالحبيب :
نهاري نهار الناس حتى إذا بدا لي الليل هزتني إليك المضاجع
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ويجمعني والهم بالليل جامع
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً إشارة إلى مزيد خوفهم من القطيعة والبعد عن محبوبهم وذلك ما عنوه بعذاب جهنم لا العذاب المعروف فإن المحب الصادق يستعذبه مع الوصال ألا تسمع ما قيل :
فليت سليمى في المنام ضجيعتي في جنة الفردوس أو في جهنم
وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا إشارة إلى أن فيوضاتهم حسب قابلية المفاض عليه لا يسرفون فيها بأن يفيضوا فوق الحاجة ولا يقترون بأن يفيضوا دون الحاجة أو إلى أنهم إذا أنفقوا وجودهم في ذات اللّه تعالى وصفاته جل شأنه لم يبالغوا في الرياضة إلى حد تلف البدن ولم يقتروا في بذل الوجود بالركون إلى الشهوات وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ برفع حوائجهم إلى الأغيار وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قتلها إِلَّا بِالْحَقِّ أي إلا بسطوة تجلياته تعالى وَلا يَزْنُونَ بالتصرف في عجوز الدنيا ولا ينالون منها شيئا إلا بإذنه تعالى وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ لا يحضرون مجالس الباطل من الأقوال والأفعال وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ وهو ما لا يقربهم إلى محبوبهم مَرُّوا كِراماً معرضين عنه وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً بل أقبلوا عليها بالسمع والطاعة مشاهدين بعيون قلوبهم أنوار ما ذكروا به من كلام ربهم وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا من ازدوج معنا وصحبنا وذرياتنا الذين أخذوا عنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ بأن يوفقوا للعمل الصالح وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً وهم الفائزون بالفناء والبقاء الأتمين أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ وهو مقام العندية بِما صَبَرُوا في البداية على تكاليف الشريعة ، وفي الوسط على التأدب بآداب الطريقة ، وفي النهاية على ما تقتضيه الحقيقة وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 57
هي أنس الأسرار بالحي القيوم وَسَلاماً وهو سلامة القلوب من خطور القطيعة خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً لأنها مشهد الحق ومحل رضا المحبوب المطلق ، نسأل اللّه تعالى أن يمن علينا برضائه ويمنحنا بسوابغ نعمائه وآلائه بحرمة سيد أنبيائه وأحب أحبائه صلّى اللّه عليه وسلّم وشرف قدره وعظم.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 58
سورة الشّعراء
وفي تفسير الإمام مالك تسميتها بسورة الجامعة ، وقد جاء في رواية ابن مردويه عن ابن عباس وعبد اللّه بن الزبير رضي اللّه تعالى عنهم إطلاق القول بمكيتها ، وأخرج النحاس عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنها نزلت بمكة سوى خمس آيات من آخرها نزلت بالمدينة وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ [الشعراء : 224] إلى آخرها ، وروي ذلك عن عطاء وقتادة ، وقال مقاتل : أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً [الشعراء : 197] الآية مدنية أيضا ، قال الطبرسي : وعدة آياتها مائتان وسبع وعشرون آية في الكوفي والشامي والمدني الأول ومائتان وست وعشرون في الباقي.
ووجه اتصالها بما قبلها اشتمالها على بسط وتفصيل لبعض ما ذكر فيما قبل ، وفيها أيضا من تسليته صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم ما فيها ، وقد افتتحت كلتا السورتين بما يفيد مدح القرآن الكريم وختمتا بإيعاد المكذبين به كما لا يخفى.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 1 إلى 22]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4)
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19)
قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22)

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 59
طسم تقدم الكلام في أمثاله إعرابا وغيره والكلام هنا كالكلام هناك بيد أنه أخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب أنه قال في هذا الطاء من ذي الطول والسين من القدوس والميم من الرحمن ، وأمال فتحة الطاء حمزة والكسائي وأبو بكر وقرأ نافع كما روي عنه أبو علي الفارسي في الحجة بين بين ولم يمل صرفا لأن الألف منقلبة عن ياء فلو أميلت إليها انتقض غرض القلب وهو التخفيف.
وروى بعض عنه أنه قرأ كباقي السبعة من غير إمالة أصلا نظرا إلى أن الطاء حرف استعلاء يمنع من الإمالة ، وقرأ حمزة بإظهار نون سين لأنه في الأصل لكونه أحد أسماء الحروف المقطعة منفصل عما بعده وأدغمها الباقون لما رأوها متصلة في حكم كلمة واحدة خصوصا على القول بالعلمية ، وقرأ عيسى بكسر الميم من «طسم» هنا وفي القصص ، وجاء كذلك عن نافع ، وفي مصحف عبد اللّه ط س م من غير اتصال وهي قراءة أبي جعفر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ إشارة إلى السورة ، وما في ذلك من معنى البعد للتنبيه على بعد منزلة المشار إليه في الفخامة والمراد بالكتاب القرآن وبالمبين الظاهر إعجازه على أنه من أبان بمعنى بان والكلام على تقدير مضاف أو على أن الإسناد فيه مجازي ، وجوز أن يكون المبين من أبان المتعدي ومفعوله محذوف أي الأحكام الشرعية أو الحق ، والأول أنسب بالمقام ، والمعنى هذه آيات مخصوصة من القرآن مترجمة باسم مستقل ، والمراد ببيان كونها بعضا منه وصفها بما اشتهر به الكل من النعوت الجليلة ، وقيل : الإشارة إي القرآن والتأنيث لرعاية الخبر ، والمراد بالكتاب السورة ، والمعنى آيات هذا القرآن المؤلف من الحروف المبسوطة كآيات هذه السورة المتحدي بها فأنتم عجزتم عن الإتيان بمثل هذه السورة فحكم تلك الآيات كذلك وهو كما ترى. ومن الناس من فسر الْكِتابِ الْمُبِينِ باللوح المحفوظ ووصفه بالمبين لإظهاره أحوال الأشياء للملائكة عليهم السلام والأولى ما سمعته أولا لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أي قائل إياها من شدة الوجد كما قال الليث وأنشد قول الفرزدق :
ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه لشيء نحته عن يديه المقادر
وقال الأخفش والفراء يقال بخع يبخع بخعا وبخوعا أي أهلك من شدة الوجد وأصله الجهد ، ومنه قول عائشة في عمر رضي اللّه تعالى عنهما : بخع الأرض أي جهدها حتى أخذ ما فيها من أموال الملوك ، وقال الكسائي : بخع الأرض بالزراعة جعلها ضعيفة بسبب متابعة الحراثة وقال الزمخشري وتبعه المطرزي : أصل البخع أن تبلغ بالذبح البخاع بكسر الباء وهو عرق مستبطن الفقار وذلك أقصى حد الذبح ، ولم يطلع على ذلك ابن الأثير مع مزيد بحثه ولا ضير في ذلك.
وقرأ زيد بن علي وقتادة رحمهم اللّه تعالى «باخع نفسك» بالإضافة على خلاف الأصل فإن الأصل في اسم الفاعل إذا استوفى شروط العمل أن يعمل على ما أشار إليه سيبويه في الكتاب ، وقال الكسائي : العمل والإضافة سواء ، وذهب أبو حيان إلى أن الإضافة أحسن من العمل ، ولعل في مثل هذا الموضع لإشفاق المتكلم ، ولما استحال في حقه سبحانه جعلوه متوجها إلى المخاطب ، ولما كان غير واقع منه أيضا قالوا. المراد الأمر به لدلالة الإنكار المستفاد من سوق الكلام عليه فكأنه قيل : أشفق على نفسك أن تقتلها وجدا وحسرة على ما فاتك من إسلام قومك ، وقال العسكري : هي في مثل هذا الموضع موضوعة موضع النهي ، والمعنى لا تبخع نفسك ، وقيل : وضعت موضع الاستفهام والتقدير هل أنت باخع ، وحكي مثله عن ابن عطية إلا أنه قال : المراد الإنكار أي لا تكن باخعا نفسك أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ تعليل للبخع. ولما لم يصح كون عدم كونهم في المستقبل مؤمنين كما يفيده ظاهر الكلام علة لذلك لعدم المقارنة والعلة ينبغي أن تقارن المعلول قدروا - خيفة - فقالوا : خيفة أن لا يؤمنوا بذلك الكتاب المبين ، ومن الأجلة من

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 60
لم يقدر ذلك بناء على أن المراد لاستمرارهم على عدم قبول الإيمان بذلك الكتاب لأن كلمة كان للاستمرار وصيغة الاستقبال لتأكيده وأريد استمرار النفي وجوز أن يكون الكون بمعنى الصحة والمعنى لامتناع إيمانهم والقول بأن فعل الكون أتى به لأجل الفاصلة ليس بشيء.
وقوله تعالى : إِنْ نَشَأْ إلخ استئناف لتعليل الأمر بإشفاقه على نفسه صلّى اللّه عليه وسلّم أو النهي عن البخع ، ومفعول المشيئة محذوف وهو على المشهور ما دل عليه مضمون الجزاء ، وجوز أن يكون مدلولا عليه بما قبل أي إن نشأ إيمانهم نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً ملجئة لهم إلى الإيمان قاسرة عليه كما نتق الجبل فوق بني إسرائيل وتقديم الظرفين على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر.
وقرأ أبو عمرو في رواية هارون عنه «إن يشأ ينزل» على الغيبة والضمير له تعالى ، وفي بعض المصاحف لو شئنا لأنزلنا فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ أي منقادين وهو خبر عن الأعناق وقد اكتسبت التذكير وصفة العقلاء من المضاف إليه فأخبر عنها لذلك بجمع من يعقل كما نقله أبو حيان عن بعض أجلة علماء العربية.
واختصاص جواز مثل ذلك الشعر كما حكاه السيرافي عن النحويين مما لم يرتضه المحققون ومنهم أبو العباس وهو ممن خرج الآية على ذلك ، وجوز أن يكون ذلك لما أنها وصفت بفعل لا يكون إلا مقصودا للعاقل وهو الخضوع كما في قوله تعالى : رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يوسف : 4] وأن يكون الكلام على حذف مضاف وقد روعي بعد حذفه أي أصحاب أعناقهم ، ولا يخفى أن هذا التقدير ركيك مع الإضافة إلى ضميرهم ، وقال الزمخشري : أصل الكلام فظلوا لها خاضعين فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخضوع لأنه يتراءى قبل التأمل لظهور الخضوع في العنق بنحو الانحناء أنه هو الخاضع دون صاحبه وترك الجمع بعد الإقحام على ما كان عليه قبل ، وقال الكسائي : إن خاضعين حال للضمير المجرور لا للأعناق.
وتعقبه أبو البقاء فقال : هو بعيد في التحقيق لأن خاضِعِينَ يكون جاريا على غير فاعل (ظلت) فيفتقر إلى إبراز ضمير الفاعل فكان يجب أن يكون خاضعين هم فافهم ، وقال ابن عباس ومجاهد ، وابن زيد والأخفش : الأعناق الجماعات يقال : جاء في عنق من الناس أي جماعة ، والمعنى ظلت جماعاتهم أي جملتهم.
وقيل : المراد بها الرؤساء والمقدمون مجازا كما يقال لهم : رؤوس وصدور فيثبت الحكم لغيرهم بالطريق الأولى ، وظاهر كلامهم أن إطلاق العنق على الجماعة مطلقا رؤساء أم لا حقيقة وذكر الطيبي عن الأساس أن من المجاز أتاني عنق من الناس للجماعة المتقدمة وجاؤوا رسلا رسلا وعنقا عنقا والكلام يأخذ بعضه بأعناق بعض ثم قال : يفهم من تقابل رسلا رسلا لقوله : عنقا عنقا أن في إطلاق الأعناق على الجماعات اعتبار الهيئة المجتمعة فيكون المعنى فظلوا خاضعين مجتمعين على الخضوع متفقين عليه لا يخرج أحد منهم عنه.
وقرأ عيسى وابن أبي عبلة «خاضعة» وهي ظاهرة على جميع الأقوال في الأعناق بيد أنه إذا أريد بها ما هو جمع العنق بمعنى الجارحة كان الإسناد إليها مجازيا ولَها في القراءتين صلة ظلت أو الوصف والتقديم للفاصلة أو نحو ذلك لا للحصر ، وظلت عطف على ننزل ولا بد من تأويل أحد الفعلين بما هو من نوع الآخر لأنه وإن صح عطف الماضي على المضارع إلا أنه هنا غير مناسب فإنه لا يترتب الماضي على المستقبل بالفاء التعقيبية أو السببية ولا يعقل ذلك والمعقول عكسه ، وبتأويل أحد الفعلين يدفع ذلك لكن اختار بعضهم تأويل ظلت بتظل وكأن العدول عنه ليؤذن الماضي بسرعة الانفعال وأن نزول الآية لقوة سلطانه وسرعة ترتب ما ذكر عليه كأنه كان واقعا قبله ، وبعضهم تأويل

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 61
ننزل بأنزلنا ، ولعل وضعه موضعه لاستحضار صورة إنزال تلك الآية العظيمة الملجئة إلى الإيمان وحصول خضوع رقابهم عند ذلك في ذهن السامع ليتعجب منه فتأمل.
وقرأ طلحة «فتظل» بفك الإدغام ، والجزم وضعف الحريري في درة الغواص الفك في مثل ذلك ، ورجح صاحب الكشف القراءة بأنها أبلغ لإفادة الماضي ما سمعته آنفا ، هذا والظاهر أنه لم تحقق إنزال هذه الآية لأن سنة اللّه تعالى تكليف الناس بالإيمان من دون إلجاء ، نعم إذا قيل : المراد آية مذلة لهم كما روي عن قتادة جاز أن يقال بتحقق ذلك ، ولعل ما روي عن ابن عباس كما في البحر والكشاف من قوله نزلت هذه الآية فينا وفي بني أمية ستكون لنا عليهم الدولة فتذل أعناقهم بعد صعوبة ويلحقهم هوان بعد عزة ناظر إلى هذا ، وعن أبي حمزة الثمالي أن الآية صوت يسمع من السماء في نصف شهر رمضان وتخرج له العواتق من البيوت ، وهذا قول بتحقق الإنزال بعد وكأن ذلك زمان المهدي رضي اللّه تعالى عنه ، ومن صحة ما ذكر من الأخبار في القلب شيء واللّه تعالى أعلم.
وقوله تعالى : وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ بيان لشدة شكيمتهم وعدم ارعوائهم عما كانوا عليه من الكفر والتكذيب بغير ما ذكر من الآية الملجئة تأكيدا لصرف رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم عن الحرص على إسلامهم. ومن الأولى مزيدة لتأكيد العموم ، وجوز أن تكون تبعيضية ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف هو صفة لمقدر كما نشير إليه إن شاء اللّه تعالى ، والثانية لابتداء الغاية مجازا متعلقة بيأتيهم أو بمحذوف هو صفة لذكر ، وأيا ما كان ففيه دلالة على فضله وشرفه وشناعة ما فعلوا به.
والتعرض لعنوان الرحمة لتغليظ شناعتهم وتهويل جنايتهم فإن الإعراض عما يأتيهم من جنابه جل وعلا على الإطلاق شنيع قبيح وعما يأتيهم بموجب رحمته تعالى لمحض منفعتهم أشنع وأقبح أي ما يأتيهم تذكير وموعظة أو طائفة من القرآن من قبله عز وجل بمقتضى رحمته الواسعة يجدد تنزيله حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة إلا جددوا إعراضا عنه واستمروا على ما كانوا عليه ، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال محله النصب على الحالية من مفعول يَأْتِيهِمْ بإضمار قد أو بدونه على الخلاف المشهور أي ما يأتيهم من ذكر في حال من الأحوال إلا حال كونهم معرضين عنه فَقَدْ كَذَّبُوا أي بالذكر الذي يأتيهم تكذيبا صريحا مقارنا للاستهزاء به ولم يكتفوا بالإعراض عنه حيث جعلوه تارة سحرا وتارة أساطير الأولين وأخرى شعرا.
وقال بعض الفضلاء : أي فقد تموا على التكذيب وكان تكذيبهم مع ورود ما يوجب الإقلاع من تكرير إتيان الذكر كتكذيبهم أول مرة ، وللتنبيه على ذلك عبر عنه بما يعبر عن الحادث ويشعر باعتبار مقارنة الاستهزاء حسبما أشير إليه قوله تعالى : فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ لاقتضائه تقدم الاستهزاء ، وقيل : إن ذاك لدلالة الإعراض والتكذيب على الاستهزاء ، والمراد بأنباء ذلك ما سيحيق بهم من العقوبات العاجلة والآجلة وكل آت قريب ، وقيل : من عذاب يوم بدر أو يوم القيامة والأول أولى ، وعبر عن ذلك بالأنباء لكونه مما أنبأ به القرآن العظيم أو لأنهم بمشاهدته يقفون على حقيقة حال القرآن كما يقفون على الأحوال الخافية عنهم باستماع الأنباء. وفيه تهويل له لأن النبأ يطلق على الخبر الخطير الذي له وقع عظيم أي فسيأتيهم لا محالة مصداق ما كانوا يستهزؤون به قبل من غير أن يتدبروا في أحواله ويقفوا عليها.
وقوله تعالى : أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ بيان لإعراضهم عن الآيات التكوينية بعد بيان إعراضهم عن الآيات التنزيلية ، والهمزة للإنكار التوبيخي والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أأصروا على ما هم عليه من الكفر باللّه

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 62
تعالى وتكذيب ما يدعوهم إلى الإيمان به عز وجل ولم ينظروا إلى عجائب الأرض الزاجرة لهم عن ذلك والداعية إلى الإيمان به تعالى ، وقال أبو السعود بعد جعل الهمزة للإنكار والعطف على مقدر يقتضيه المقام : أي أفعلوا ما فعلوا من الإعراض عن الآيات والتكذيب والاستهزاء بها ولم ينظروا إلى عجائب الأرض الزاجرة عما فعلوا والداعية إلى الإقبال على ما أعرضوا عنه انتهى.
وهو ظاهر في أن الآية مرتبطة بما قبلها من قوله تعالى : وَما يَأْتِيهِمْ إلخ وهو قريب بحسب اللفظ إلا أن فيه أن النظر إلى عجائب الأرض لا يظهر كونه زاجرا عن التكذيب بكون القرآن منزلا من اللّه عز وجل وداعيا إلى الإقبال إليه ، وقال ابن كمال : التقدير ألم يتأملوا في عجائب قدرته تعالى ولم ينظروا انتهى.
والظاهر أن الآية عليه ابتداء كلام فافهم ، وقيل : هو بيان لتكذيبهم بالمعاد إثر بيان تكذيبهم بالمبدأ وكفرهم به عز وجل والعطف على مقدر أيضا ، والتقدير أكذبوا بالبعث ولم ينظروا إلى عجائب الأرض الزاجرة عن التكذيب بذلك والأول أولى وأظهر ، وأيا ما كان فالكلام على حذف مضاف كما أشير إليه ، وجوز أن يراد من الأرض عجائبها مجازا وقوله تعالى : كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ استئناف مبين لما في الأرض من الآيات الزاجرة عن الكفر الداعية إلى الإيمان.
وكم خبرية في موضع نصب على المفعولية بما بعدها وهي مفيدة للكثرة وجيء بكل معها لإفادة الإحاطة والشمول فيفيد أن كثرة أفراد كل صنف صنف فيكون المعنى أنبتنا فيها شيئا كثيرا من كل صنف على أن من تبعيضية أو كثرة الأصناف فيكون المعنى أنبتنا فيها شيئا كثيرا هو كل صنف على أن من بيانية ، وأيا ما كان فلا تكرار بينهما ، وقد يقال : المعنى أو لم ينظروا إلى نفس الأرض التي هي طبيعة واحدة كيف جعلناها منبتا لنباتات كثيرة مختلفة الطبائع وحينئذ ليس هناك حذف مضاف ولا مجاز ويكون قوله تعالى : كَمْ أَنْبَتْنا فِيها إلخ يدل اشتمال بحسب المعنى وهو وجه حسن فافهمه لئلا تظن رجوعه إلى ما تقدم واحتياجه إلى ما احتاج إليه من الحذف أو التجوز ، والزوج الصنف كما أشرنا إليه. وذكر الراغب أن كل ما في العالم زوج من حيث إن له ضدا ما أو مثلا ما أو تركيبا ما بل لا ينفك بوجه من تركيب ، والكريم من كل شيء مرضيه ومحموده ، ومنه قوله :
حتى يشق الصفوف من كرمه فإنه أراد من كونه مرضيا في شجاعته وهو صفة لزوج أي من كل زوج كثير المنافع وهي تحتمل التخصيص والتوضيح ، ووجه الأول دلالته على ما يدل عليه غيره في شأن الواجب تعالى وزيادة حيث يدل على النعمة الزاجرة لهم عما هم عليه أيضا ، ووجه الثاني التنبيه على أنه تعالى ما أنبت شيئا إلا وفيه فائدة كما يؤذن به قوله تعالى : هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة : 29] وأيا ما كان فالظاهر عدم دخول الحيوان في عموم المنبت ، وذهب بعض إلى دخوله بناء على أن خلقه من الأرض إنبات له كما يشير إليه قوله تعالى : وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح : 17] وعن الشعبي التصريح بدخول الإنسان فيه ، فقد روي عنه أنه قال الناس : من نبات الأرض فمن صار إلى الجنة فهو كريم ومن صار إلى النار فبضد ذلك.
إِنَّ فِي ذلِكَ أي الإنبات أو المنبت لَآيَةً عظيمة دالة على ما يجب عليهم الإيمان به من شؤونه عز وجل ، وما ألطف ما قيل في صف النرجس :
تأمل في رياض الورد وانظر إلى آثار ما صنع المليك

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 63
عيون من لجين شاخصات على أهدابها ذهب
سبيك على قضب الزبرجد شاهدات بأن اللّه ليس له شريك
وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ قيل : أي وما كان في علم اللّه تعالى ذلك. واعترض بناء على أنه يفهم من السياق العلية بأن علمه تعالى ليس علة لعدم إيمانهم لأن العلم تابع للمعلوم لا بالعكس. ورد بأن معنى كون علمه تعالى تابعا للمعلوم أن علمه سبحانه في الأزل بمعلوم معين حادث تابع لماهيته بمعنى أن خصوصية العلم وامتيازه عن سائر العلوم إنما هو باعتبار أنه علم بهذه الماهية وأما وجود الماهية فيما لا يزال فتابع لعلمه تعالى الأزلي التابع لماهيته بمعنى أنه تعالى لما علمها في الأزل على هذه الخصوصية لزم أن تتحقق وتوجد فيما لا يزال كذلك فنفس موتهم على الكفر وعدم إيمانهم متبوع لعلمه الأزلي ووقوعه تابع له ، ونقل عن سيبويه إن كانَ صلة والمعنى وما أكثرهم مؤمنين فالمراد الإخبار عن حالهم في الواقع لا في علم اللّه تعالى الأزلي وارتضاه شيخ الإسلام ، وقال : هو الأنسب بمقام بيان عتوهم وغلوهم في المكابرة والعناد مع تعاقد موجبات الإيمان من جهته عز وجل وأما نسبة كفرهم إلى علمه تعالى فربما يتوهم منها كونهم معذورين فيه بحسب الظاهر ويحتاج حينئذ إلى تحقيق عدم العذر بما يخفى على العلماء المتقنين ، والمعنى على الزيادة وما أكثرهم مؤمنين مع عظم الآية الموجبة للإيمان لغاية تماديهم في الكفر والضلالة وانهماكهم في الغي والجهالة. ويجوز على قياس ما مر عن بعض الأجلة في قوله تعالى : أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أن يقال : إن كانَ للاستمرار واعتبر بعد النفي فالمراد استمرار نفي إيمان أكثرهم مع عظم الآية الموجبة لإيمانهم ، وفيه من تقبيح حالهم ما فيه.
وهذا المعنى وإن تأتي على تقدير إسقاط كانَ بأن يعتبر الاستمرار الذي تفيده الجملة الاسمية بعد النفي أيضا إلا أنه فرق بين الاستمرارين بعد اعتبار كان قوة وضعفا فتدبر ، ونسبة عدم الإيمان إلى أكثرهم لأن منهم من لم يكن كذلك وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ أي الغالب على كل ما يريده من الأمور التي من جملتها الانتقام من هؤلاء الكفرة الرَّحِيمُ أي البالغ في الرحمة ولذلك يمهلهم ولا يؤاخذهم بغتة بما اجترءوا عليه من العظائم الموجبة لفنون العقوبات أو العزيز في انتقامه ممن كفر الرحيم لمن تاب وآمن أو العزيز في انتقامه من الكفرة الرحيم لك بأن يقدر من يؤمن بك إن لم يؤمن هؤلاء ، والتعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلّى اللّه عليه وسلّم من تشريفه عليه الصلاة والسلام والعدة الخفية له صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم ما لا يخفى ، وتقديم العزيز لأن ما قبله أظهر في بيان القدرة أو لأنه أدل على دفع المضار الذي هو أهم من جلب المصالح.
وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى كلام مستأنف مقرر لسوء حالهم ومسل له صلّى اللّه عليه وسلّم أيضا لكن بنوع آخر من أنواع التسلية على ما قيل : وإِذْ منصوب على المفعولية بمقدر خوطب به النبي صلّى اللّه عليه وسلّم معطوف على ما قبله عطف القصة على القصة ، والتقدير عند بعض واذكر في نفسك وقت ندائه تعالى أخاك موسى عليه السلام وما جرى له مع قومه من التكذيب مع ظهور الآيات وسطوح المعجزات لتعلم أن تكذيب الأمم لأنبيائهم ليس بأول قارورة كسرت ولا بأول صحيفة نشرت فيهون عليك الحال وتستريح نفسك مما أنت فيه من البلبال.
وعند شيخ الإسلام واذكر لقومك وقت ندائه تعالى موسى عليه السلام وذكرهم بما جرى على قوم فرعون بسبب تكذيبهم إياه عليه السلام زاجرا لهم عما هم عليه من التكذيب وتحذيرا من أن يحيق بهم مثل ما حاق بهم حتى يتضح لديك أنهم في غاية العناد والإصرار لا يردعهم أخذ أضرابهم من المكذبين الأشرار ولا يؤثر فيهم الوعظ والإنذار ، وهذا التقدير يناسب صدر القصة الآتية أعني قوله تعالى : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ [الشعراء : 69] والأول يناسب القصص المصدرة بكذبت على ما قيل.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 64
والأظهر عندي تقدير واذكر لقومك لوضوح اقتضاء وَاتْلُ عَلَيْهِمْ له. ولا نسلم اقتضاء تلك القصص المصدرة بكذبت تقدير اذكر في نفسك وأمر المناسبة مشترك وإن سلّم اختصاصها به فهي لا تقاوم الاقتضاء المذكور. نعم الأظهر أن يكون وجه التسلي بما ذكر كونه عليه الصلاة والسلام ليس بدعا من الرسل ولا قومه بدعا من الأقوام في التكذيب مع ظهور الآيات وسطوح المعجزات وقد تضمن الأمر بذكر ذلك لهم الأمر بالتسلي به على أتم وجه فتدبر. وأيا ما كان فوجه توجيه الأمر بالذكر إلى الوقت مع أن المقصود ذكر ما فيه قد مر مرارا. وقيل : إن ذلك المقدر معطوف على مقدر آخر أي خذ الآيات أو ترقب إتيان الأنباء واذكر وهو تكلف لا حاجة إليه. وقيل : إِذْ ظرف لقال بعد وليس بذاك ، ومعنى نادى دعا. وقيل : أمر أَنِ ائْتِ أي بأن ائت على أن إن مصدرية حذف عنها حرف الجر أو أي ائت على أنها مفسرة.
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ بالكفر والمعاصي. واستعباد بني إسرائيل وذبح أبنائهم وليس هذا مطلع ما ورد في حيز النداء وإنما هو ما فصل في سورة [طه : 12 - 13] من قوله تعالى : إِنِّي أَنَا رَبُّكَ إلى قوله سبحانه : لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى وسنة القرآن الكريم إيراد ما جرى في قصة واحدة من المقالات بعبارات شتى وأساليب مختلفة لاقتضاء المقام ما يكون فيه من العبارات كما حقق في موضعه.
قَوْمَ فِرْعَوْنَ عطف بيان للقوم الظالمين جيء به للإيذان بأنهم علم في الظلم كان معنى القوم الظالمين وترجمته قوم فرعون ، وقال أبو البقاء : بدل منه ، ورجح أبو حيان الأول بأنه أقضى لحق البلاغة لإيذانه بما سمعت ، ولعل الاقتصار على القوم للعلم بأن فرعون أولى بما ذكر وقد خص في بعض المواضع للدلالة على ذلك ، وجوز أن يقال قوم فرعون شامل له شمول بني آدم آدم عليه السلام أَلا يَتَّقُونَ حال بتقدير القول أي ائتهم قائلا لهم ألا يتقون.
وقرأ عبد اللّه بن مسلم بن يسار وشقيق بن سلمة وحماد بن سلمة وأبو قلابة بتاء الخطاب ، ويجوز في مثل ذلك الخطاب والغيبة فيقال قل لزيد تعطي عمرا كذا ويعطي عمرا كذا وقرىء بكسر النون مع الخطاب والغيبة والأصل يتقونني فحذفت إحدى النونين لاجتماع المثلين وحذفت ياء المتكلم اكتفاء بالكسرة. وقول موسى عليه السلام ذلك بطريق النيابة عنه عز وجل نظير ما في قوله تعالى : وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة : 186] فكأنه قيل :
ائتهم قائلا قولي لهم ألا تتقونني ، وقال الزمخشري هو كلام مستأنف اتبعه عز وجل إرساله إليهم للإنذار والتسجيل عليهم بالظلم تعجيبا لموسى عليه السلام من حالهم التي شنعت في الظلم والعسف ومن أمنهم العواقب وقلة خوفهم وحذرهم من أيام اللّه عز وجل ، وقراءة الخطاب على طريقة الالتفات إليهم وجبههم وضرب وجوههم بالإنكار والغضب عليهم ، وإجراء ذلك في تكليم المرسل إليهم في معنى إجرائه بحضرتهم وإلقائه في مسامعهم لأنه مبلغه ومنهيه وناشره بين الناس فلا يضر كونهم غيبا حقيقة في وقت المناجاة ، وفيه مزيد حث على التقوى لمن تدبر وتأمل انتهى ، والاستئناف عليه قيل : بياني بتقدير لم هذا الأمر؟ ، وقيل : هو نحوي إذ لا حاجة إلى هذا السؤال بعد ذكرهم بعنوان الظلم ودفع بالعناية ، ولعل ما ذكرناه أسرع تبادرا إلى الفهم.
وقال أيضا : يحتمل أن يكون لا يَتَّقُونَ حالا من الضمير في الظَّالِمِينَ أي يظلمون غير متقين اللّه تعالى وعقابه عز وجل فأدخلت همزة الإنكار على الحال دلالة على إنكار عدم التقوى والتوبيخ عليه ليفيد إنكار الظلم من طريق الأولى فإن فائدة الإتيان بهذه الحال الإشعار بأن عدم التقوى هو الذي جرأهم على الظالم.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 65
وتعقبه أبو حيان بأنه خطأ فاحش لأن فيه مع الفصل بين العامل والمعمول بالأجنبي لزوم أعمال ما قبل : الهمزة فيما بعدها. وأجيب بمنع كون الفاصل أجنبيا وأنه يتوسع في الهمزة وهو كما ترى ، وجوز أيضا في ألا يتقون بالياء التحتية وكسر النون أن يكون بمعنى ألا يا ناس اتقون نحو قوله تعالى : أَلَّا يَسْجُدُوا [النمل : 25] فتكون أَلا كلمة واحدة للعرض ويا ندائية سقطت ألفها لالتقاء الساكنين وحذف المنادى وما بعده فعل أمر ويكون إسقاط الألفين مخالفا للقياس ، ولا يخفى أنه تخريج بعيد وأن الظاهر أن ألا للعرض المضمن الحض على التقوى في جميع القراءات.
قالَ استئناف بياني كأنه قيل : فماذا قال موسى عليه السلام؟ فقيل : قال متضرعا إلى اللّه عز وجل.
رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ من أول الأمر وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي معطوفان على خبر إن فيفيد أن فيه عليه السلام ثلاث علل. خوف التكذيب وضيق الصدر وامتناع انطلاق اللسان والظاهر ثبوت الأمرين الأخيرين في أنفسهما غير متفرعين على التكذيب ليدخلا تحت الخوف لكن قرأ الأعرج وطلحة وعيسى وزيد بن علي وأبو حيوة وزائدة عن الأعمش ويعقوب بنصب الفعلين عطفا على يُكَذِّبُونِ فيفيد دخولهما تحت الخوف ولأن الأصل توافق القراءتين قيل إنهما متفرعان على ذلك كأنه قيل : رب إني أخاف تكذيبهم إياي ويضيق صدري انفعالا منه ولا ينطلق لساني من سجن اللكنة وقيد العي بانقباض الروح الحيواني الذي تتحرك به العضلات الحاصل عند ضيق الصدر واغتمام القلب ، والمراد حدوث تلجلج اللسان له عليه السلام بسبب ذلك كما يشاهد في كثير من الفصحاء إذا اشتد غمهم وضاقت صدورهم فإن ألسنتهم تتلجلج حتى لا تكاد تبين عن مقصود ، هذا إن قلنا : إن هذا الكلام كان بعد دعائه عليه السلام بحل العقدة واستجابة اللّه تعالى له بإزالتها بالكلية أو المراد ازدياد ما كان فيه عليه السلام إن قلنا : إنه كان قبل الدعاء أو بعده لكن لم تزل العقدة بالكلية وإنما انحل منها ما كان يمنع من أن يفقه قوله عليه السلام فصار يفقه قوله مع بقاء يسير لكنة ، وقال بعضهم : لا حاجة إلى حديث التفرع بل هما داخلان تحت الخوف بالعطف على يُكَذِّبُونِ كما في قراءة النصب وذلك بناء على ما جوزه البقاعي من كون أَخافُ بمعنى اعلم أو أظن فتكون أن مخففة من الثقيلة لوقوعها بعد ما يفيد علما أو ظنا ، ويلتزم على هذا كون أَخافُ في قراءة النصب على ظاهره لئلا تأبى ذلك ويدعي اتحاد المآل ، وحكى أبو عمرو الداني عن الأعرج أنه قرأ بنصب «يضيق» ورفع يَنْطَلِقُ ، والكلام في ذلك
يعلم مما ذكر ، وأيا ما كان فالمراد من ضيق الصدر ضيق القلب وعبر عنه بما ذكر مبالغة ويراد منه الغم ، ثم هذا الكلام منه عليه السلام ليس تشبثا بأذيال العلل والاستعفاء عن امتثال أمره عز وجل وتلقيه بالسمع والطاعة بل هو تمهيد عذر في استدعاء عون له على الامتثال وإقامة الدعوة على أتم وجه فإن ما ذكره ربما يوجب اختلال الدعوة وانتباذ الحجة وقد تضمن هذا الاستدعاء قوله تعالى : فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ كأنه قال أرسل جبريل عليه السلام إلى هارون واجعله نبيا وآزرني به واشدد به عضدي لأن في الإرسال إليه عليه السلام حصول هذه الأغراض كلها لكن بسط في سورة القصص واكتفى هاهنا بالأصل عما في ضمنه.
ومن الدليل على أن المعنى على ذلك لا أنه تعلل وقوع فَأَرْسِلْ معترضا بين الأوائل والرابعة أعني وَلَهُمْ إلخ فأذن بتعلقه بها ولو كان تعللا لآخر وليس أمره بالإتيان مستلزما لما استدعاه عليه السلام ، وتقدير مفعول (أرسل) ما أشرنا إليه قد ذهب إليه غير واحد ، وبعضهم قدر ملكا إذ لا جزم في أنه عليه السلام كان يعلم إذ ذاك أن جبريل عليه السلام رسول اللّه عز وجل إلى من يستنبئه سبحانه من البشر ، وفي الخبر أن اللّه تعالى أرسل موسى إلى هارون وكان هارون بمصر حين بعث اللّه تعالى موسى نبيا بالشام
، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : أقبل موسى عليه السلام إلى

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 66
أهله فسار بهم نحو مصر حتى أتاها ليلا فتضيف على أمه وهو لا يعرفهم في ليلة كانوا يأكلون الطفيشل «1» فنزلت في جانب الدار فجاء هارون عليه السلام فلما أبصر ضيفه سأل عنه أمه فأخبرته أنه ضيف فدعاه فأكل معه فلما قعدا تحدثا فسأله هارون من أنت؟ قال : أنا موسى فقام كل واحد منهما إلى صاحبه فاعتنقه فلما أن تعارفا قال له موسى : يا هارون انطلق معي إلى فرعون فإن اللّه تعالى قد أرسلنا إليه قال هارون : سمعا وطاعة فقامت أمهم فصاحت وقالت : أنشد كما باللّه تعالى أن لا تذهبا إلى فرعون فيقتلكما فأبيا فانطلقا إليه ليلا الخبر
واللّه تعالى أعلم بصحته وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ أي تبعة ذنب فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه أو سمى باسمه مجازا بعلاقة السببية ، والمراد به قتل القبطي خباز فرعون بالوكزة التي وكزها وقصته مبسوطة في غير موضع ، وتسميته ذنبا بحسب زعمهم بما ينبىء عنه قوله تعالى لهم : فَأَخافُ إن آتيتهم وحدي أَنْ يَقْتُلُونِ بسبب ذلك ، ومراده عليه السلام بهذا استدفاع البلية خوف فوات مصلحة الرسالة وانتشار أمرها كما هو اللائق بمقام أولي العزم من الرسل عليهم السلام فإنهم يتوقون لذلك كما كان يفعل صلّى اللّه عليه وسلّم حتى نزل عليه وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، ولعل الحق أن قصد حفظ النفس معه لا ينافي مقامهم.
وفي الكشاف أنه عليه السلام فرق أن يقتل قبل أداء الرسالة ، وظاهره أنه وإن كان نبيا غير عالم بأنه يبقى حتى يؤدي الرسالة وإليه ذهب بعضهم لاحتمال أنه إنما أمر بذلك بشرط التمكين مع أن له تعالى نسخ ذلك قبله.
وقال الطيبي : الأقرب أن الأنبياء عليهم السلام يعلمون إذا حملهم اللّه تعالى على أداء الرسالة أنه سبحانه يمكنهم وأنهم سيبقون إلى ذلك الوقت وفيه منع ظاهر ، وفي الكشف أنه على القولين يصح قول الزمخشري فرق إلخ لأن ذلك كان قبل الاستنباء فإن النداء كان مقدمته ولا أظنك تقول به ، وقوله تعالى :
قالَ كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا إجابة له عليه السلام إلى الطلبتين حيث وعده عز وجل دفع بلية الأعداء بردعه عن الخوف وضم إليه أخاه بقوله : (اذهبا) فكأنه قال له عز وجل : ارتدع عن خوف القتل فإنك بأعيننا فاذهب أنت وأخوك هارون الذي طلبته ، وجاء النشر على عكس اللف لاختصاص ما قدم بموسى عليه السلام وظاهر السياق يقتضي عدم حضور هارون ففي الخطاب المذكور تغليب والفعل معطوف على الفعل الذي يدل عليه كَلَّا كما أشرنا إليه ، وقيل : الفاء فصيحة ، والمراد بالآيات ما بعثهما اللّه تعالى به من المعجزات وفيها رمز إلى أنها تدفع ما يخافه ، وقوله عز وجل : إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ تعليل للردع عن الخوف ومزيد تسلية لهما بضمان كمال الحفظ والنصرة كقوله تعالى : إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه : 46] والخطاب لموسى وهارون ومن يتبعما من بني إسرائيل فيتضمن الكلام البشارة بالإشارة إلى علو أمرهما واتباع القوم لهما ، وذهب سيبويه إلى أنه لهما عليهما السلام ولشرفهما وعظمتهما عند اللّه تعالى عوملا في الخطاب معاملة الجمع ، واعترض بأنه يأباه ما بعده وما قبله من ضمير التثنية ، وقيل : هو لهما عليهما السلام ولفرعون واعتبر لكون الموعود بمحضر منه وإن شئت ضم إلى ذلك قوم فرعون أيضا ، واعترض بأن المعية العامة - أعني المعية العلمية - لا تختص بأحد لقوله تعالى : وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ [المجادلة : 7] والمعية الخاصة وهي معية الرأفة والنصرة لا تليق بالكافر ولو بطريق التغليب ، وأجيب بأن خصوص المعية لا يلزم أن يكون بما ذكر بل بوجه آخر وهو تخليص أحد المتخاصمين من الآخر بنصرة المحق والانتقام من المبطل ، وأيا ما كان فالظرف في موضع الخبر لأن ومُسْتَمِعُونَ خبر ثان أو الخبر مُسْتَمِعُونَ
___________
(1) كسميذع نوع من المرق اقاموس.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 67
والظرف متعلق به أو متعلق بمحذوف وقع حالا من ضميره وتقديمه للاهتمام أو الفاصلة أو الاختصاص بناء على أن يراد بالمعية الاستماع في حقه عز وجل وهو مجاز عن السمع اختير للمبالغة لأن فيه تسلما للإدراك وهو مما ينزه اللّه تعالى عنه سواء كان بحاسة أم لا فسقط ما قيل من أن السمع في الحقيقة إدراك بحاسة فإن أريد به مطلق الإدراك فالاستماع مثله فلا حاجة إلى التجوز فيه ، وإلى التجوز هنا ذهب غير واحد ، وقال بعضهم : إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ جملة استعارة تمثيلية مثّل سبحانه حاله عز وجل بحال ذي شوكة قد حضر مجادلة قوم يستمع ما يجري بينهما ليمد أولياءه ويظهرهم على أعدائهم مبالغة في الوعد بالإعانة وحينئذ لا تجوز في شيء من مفرداته ولا يكون مُسْتَمِعُونَ مطلقا عليه تعالى فلا يحتاج إلى جعله بمعنى سامعين إلا أن يقال : إنه في المستعار منه كذلك لأن المقصود السمع دون الاستماع الذي قد لا يوصل إليه لكنه كما ترى.
وجوز أن يكون إِنَّا مَعَكُمْ فقط تمثيلا لحاله عز وجل في نصره وإمداده بحال من ذكر ويكون الاستماع مجازا عن السمع وهو بحسب ظاهره لكونه لم يطلق عليه سبحانه كالسمع كالقرينة وإن كان مجازا والقرينة في الحقيقة عقلية وهي استحالة حضوره تعالى شأنه في مكان ، ولا بد على هذا من أن يقال : إن الاستماع المذكور في تقرير التمثيل ليس هو الواقع في النظم الكريم بل هو من لوازم حضور الحكم للخصومة وفيه بعد. ثم إن ما ذكروه وإن كان مبنيا على جعل الخطاب لموسى وهارون وفرعون يمكن إجراؤه على جعله لهما عليهما السلام ولم يتبعهما أو لهما فقط أيضا بأدنى عناية فافهم ولا تغفل.
وزعم بعضهم إن المعية والاستماع على حقيقتهما ولا تمثيل ، والمراد أن ملائكتنا معكم مستمعون وهو مما لا ينبغي أن يستمع ، ولا بد في الكلام على هذا التقدير من إرادة الإعانة والنصرة وإلا فبمجرد معية الملائكة عليهم السلام واستماعهم لا يطيب قلب موسى عليه السلام.
والفاء في قوله تعالى : أْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
لترتيب ما بعدها على ما قبلها من الوعد الكريم ، وليس هذا مجرد تأكيد للأمر بالذهاب لأن معناه الوصول إلى المأتي لا مجرد التوجه إلى المأتي كالذهاب.
وأفرد الرسول هنا لأنه مصدر بحسب الأصل وصف به كما يوصف بغيره من المصادر للمبالغة كرجل عدل فيجري فيه كما يجري فيه من الأوجه ، ولا يخفى الأوجه منها ، وعلى المصدرية ظاهر قول كثير عزة :
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم بسر ولا أرسلتهم برسول
وأظهر منه قول العباس بن مرداس :
ألا من مبلغ عني خفافا رسولا بيت أهلك منتهاها «1»
أو لاتحادهما للإخوة أو لوحدة المرسل أو المرسل به أو لأن قوله تعالى : إِنَّا بمعنى إن كان كلامنا فصح إفراد الخبر كما يصح في ذلك ، وفائدته الإشارة إلى أن كلا منهما مأمور بتبليغ ذلك ولو منفردا ، وفي التعبير برب العالمين رد على اللعين نقض لما كان أبرمه من ادعاء الألوهية وحمل لطيف له على امتثال الأمر ، وأَنْ في قوله تعالى :
أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ مفسرة لتضمن الإرسال المفهوم من الرسول معنى القول ، وجوز أبو حيان كونها مصدرية على معنى أنا رسوله عز وجل بالأمر بالإرسال وهو بمعنى الإطلاق والتسريح كما في قولك : أرسلت الحجر من
___________
(1) حيث أنث الضمير باعتبار الرسالة ا ه منه.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 68
يدي وأرسل الصقر ، والمراد خلهم يذهبوا معنا إلى فلسطين وكانت مسكنهما عليهما السلام ، وكان بنو إسرائيل قد استعبدوا أربعمائة سنة وكانت عدتهم حين أرسل موسى عليه السلام ستمائة وثلاثين ألفا على ما ذكره البغوي.
قالَ أي فرعون لموسى عليه السلام بعد ما أتياه وقالا له ما أمرا به ، ويروى أنهما انطلقا إلى باب فرعون فلم يؤذن لهما سنة حتى قال البواب : إن هاهنا إنسانا يزعم أنه رسول رب العالمين فقال : ائذن له لعلنا نضحك منه فأذن له فدخلا فأدّيا إليه الرسالة فعرف موسى عليه السلام فقال عند ذلك أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً
وفي خبر آخر أنهما أتيا ليلا فقرع الباب ففزع فرعون وقال : من هذا الذي يضرب بابي هذه الساعة؟ فأشرف عليهما البواب فكلمهما فقال له موسى : أنا رسول رب العالمين فأتى فرعون وقال : إن هاهنا إنسانا مجنونا يزعم أنه رسول رب العالمين فقال : أدخله فدخل فقال ما قص اللّه تعالى
، وأراد اللعين من قوله : أَلَمْ نُرَبِّكَ إلخ الامتنان ، وفِينا على تقدير المضاف أي منازلنا ، والوليد فعيل بمعنى مفعول يقال لمن قرب عهده بالولادة ، وإن كان على ما قال الراغب : يصح في الأصل لمن قرب عهده أو بعد كما يقال لما قرب عهده بالاجتناء جنيّ فإذا كبر سقط عنه هذا الاسم ، وقال بعضهم : كان دلالته على قرب العهد من صيغة المبالغة ، وكون الولادة لا تفاوت فيها نفسها وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ قيل :
لبث فيهم ثلاثين سنة ثم خرج إلى مدين وأقام به عشر سنين ثم عاد إليهم يدعوهم إلى اللّه تعالى ثلاثين سنة ثم بقي بعد الغرق خمسين ، وقيل : لبث فيهم اثنتي عشرة سنة ففر بعد أن وكز القبطي إلى مدين فأقام به عشر سنين يرعى غنم شعيب عليه السلام ثم ثماني عشرة سنة بعد بنائه على امرأته بنت شعيب فكمل له أربعون سنة فبعثه اللّه تعالى وعاد إليهم يدعوهم إليه عز وجل واللّه تعالى أعلم.
وقرأ أبو عمرو في رواية «من عمرك» بإسكان الميم ، والجار والمجرور في موضع الحال من سِنِينَ كما هو المعروف في نعت النكرة إذا قدم وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ يعني قتل القبطي. وبخه به بعد ما امتن وعظمه عليه بالإبهام الذي في الموصول ، وأراد في ذلك القدح في نبوته عليه السلام. وقرأ الشعبي «فعلتك» بكسر الفاء يريد الهيئة وكانت قتلة بالوكز ، والفتح في قراءة الجمهور لإرادة المرة وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ أي بنعمتي حيث عمدت إلى قتل رجل من خواصي كما روي عن ابن زيد أو وأنت حينئذ من جملة القوم الذين تدعي كفرهم الآن كما حكي عن السدي ، وهذا الحكم منه بناء على ما عرفه من ظاهر حاله عليه السلام إذ ذاك لاختلاطه بهم والتقية معهم بعدم الإنكار عليهم وإلا فالأنبياء عليهم السلام معصومون عن الكفر قبل النبوة وبعدها ، وقيل : كان ذلك افتراء منه عليه السلام ، واستبعد بأنه لو علم بإيمانه أولا لسجنه أو قتله ، والجملة على الاحتمالين في موضع الحال من إحدى التاءين في الفعلين السابقين.
وجوز أن يكون ذلك حكما مبتدأ عليه عليه السلام بأنه من الكافرين بإلهيته كما روي عن الحسن أو ممن يكفرون في دينهم حيث كانت لهم آلهة يعبدونهم أو من الكافرين بالنعم المعتادين لغمطها ومن اعتاد ذلك لا يكون مثل هذه الجناية بدعا منه ، فالجملة مستأنفة أو معطوفة على ما قبلها ، والأولى عندي ما تقدم من جعل الجملة حالا لتكون مع نظيرتها في الجواب على طرز واحد لتعين الحالية هناك ولما يتضمن كلام اللعين أمرين تصدى عليه السلام لردهما على سبيل اللف والنشر المشوش فرد أولا ما وبخه به قدحا في نبوته أعني قوله : وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ إلخ اعتناء بذلك واهتماما به وذلك بما حكاه سبحانه عنه بقوله جل وعلا : قالَ فَعَلْتُها أي تلك الفعلة إِذاً أي إذ ذاك على ما آثره بعض المحققين سقي اللّه تعالى ثراه من أن إِذاً ظرف مقطوع عن الإضافة مؤثرا فيه الفتحة على الكسرة لخفتها وكثرة الدور ، وأقر عليه السلام بالقتل لثقته بحفظ اللّه تعالى له ، وقيد الفعل بما يدفع كونه قادحا في النبوة وهو

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 69
جملة وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ أي من الجاهلين وقد جاء كذلك في قراءة ابن عباس وابن مسعود كما نقله أبو حيان في البحر لكنه قال : ويظهر أن ذاك تفسير للضالين لا قراءة مروية عن الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، وأراد عليه السلام بذلك على ما روي عن قتادة أنه فعل ذلك جاهلا به غير متعمد إياه فإنه عليه السلام إنما تعمد الوكز للتأديب فأدى إلى ما أدى ، وفي معنى ما ذكر ما روي عن ابن زيد من أن المعنى وأنا من الجاهلين بأن وكزتي تأتي على نفسه وقيل : المعنى فعلتها مقدما عليها من غير مبالاة بالعواقب على أن الجهل بمعنى الإقدام من غير مبالاة كما فسر بذلك في قوله :
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وهذا مما يحسن على بعض الأوجه في تقرير الجواب المذكور ، قيل : إن الضلال هاهنا المحبة كما فسر بذلك في قوله تعالى : إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ [يوسف : 95] وعني عليه السلام أنه قتل القبطي غيرة للّه تعالى حيث كان عليه السلام من المحبين له عز وجل وهو كما ترى ، ومثله ما قيل أراد من الجاهلين بالشرائع ، وفسر الضلال بذلك في قوله تعالى : وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى [الضحى : 7] ، وقال أبو عبيدة : من الناسين ، وفسر الضلال بالنسيان في قوله تعالى : أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى [البقرة : 282] وعليه قيل المراد فعلتها ناسيا حرمتها ، وقيل : ناسيا أن وكزي ذلك مما يفضي إلى القتل عادة والذي أميل إليه من بين هذه الأقوال ما روي عن قتادة ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى في سورة القصص ما يتعلق بهذا المقام.
وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وابن جريج عن ابن مسعود أنه قرأ «فعلتها إذانا من الضالين» فَفَرَرْتُ أي خرجت هاربا مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ أي حين توقعت مكروها منكم وذلك حين قيل له : «إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك» ومن هنا يعلم وجه جمع ضمير الخطاب ، وقرأ حمزة في رواية لما بكسر اللام وتخفيف الميم على أن اللام حرف جر وما مصدرية أي لخوفي إياكم فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً أي نبوة أو علما وفهما للأشياء على ما هي عليه والأول مروي عن السدي ، وتأول بعضهم ذلك بأنه أراد علما هو من خواص النبوة فيكون الحكم بهذا المعنى أخص منه بالمعنى الثاني ، وقرأ عيسى «حكما» بضم الكاف وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ إشارة على ظاهر الأول من تفسيري الحكم إلى تفضله تعالى عليه برتبة هي فوق رتبة النبوة أعني رتبة الرسالة ولم يقل فوهب لي رب حكما ورسالة أو وجعلني رسولا إعظاما لأمر الرسالة وتنبيها لفرعون على أن رسالته عليه السلام ليس أمرا مبتدعا بل هو مما جرت به سنة اللّه تعالى شأنه ، وحاصل الرد أن ما ذكرت من نسبة القتل إلى مسلم لكنه ليس مما أوبخ به ويقدح في نبوتي لأنه كان قبل النبوة من غير تعمد حيث كان الوكز للتأديب وترتب عليه ذلك ، ورد ثانيا امتنانه الذي تضمنه قوله : أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً إلخ فقال : وَتِلْكَ أي التربية المفهومة من قوله : أَلَمْ نُرَبِّكَ إلخ نِعْمَةٌ تَمُنُّها أي تنعم بها عَلَيَّ فهو من باب الحذف والإيصال ، وتمن من المنة بمعنى الأنعام والمضارع لاستحضار الصورة ، وجوز أن يكون من المن والمعنى تلك نعمة تعدها عليّ فليس هناك حذف وإيصال ، والمضارع قيل على ظاهره من الاستقبال وفيه منع ظاهر أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي ذللتهم واتخذتهم عبيدا يقال : عبدت الرجل وأعبدته إذا اتخذته عبدا.
قال الشاعر :
علام يعبدني قومي وقد كثرت فيهم أباعر ما شاؤوا وعبدان؟
وأن وما بعدها في تأويل مصدر مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف والجملة حالية أو مفسرة أو على أنه بدل من تِلْكَ أو نعمة أو عطف أو منصوب على أنه بدل من الهاء في تَمُنُّها أو مجرور بتقدير الباء السببية أو اللام على أحد القولين في محل أن وما بعدها بعد حذف الجار ، والقول الآخر إن محله النصب ، وحاصل الرد إن ما ذكرت نعمة ظاهرا وهي في الحقيقة نقمة حيث كانت بسبب إذلال قومي وقصدك إياهم بذبح أبنائهم ولولا ذلك لم أحصل بين

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 70
يديك ولم أكن في مهد تربيتك ، وقيل : تِلْكَ إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة لا يدرى ما هي إلا بتفسيرها وأَنْ عَبَّدْتَ عطف بيان لها ، والمعنى تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها عليّ ، وحاصل الرد إنكار ما أمتن به أيضا. ويريد حمل الكلام على رد كون ذلك نعمة في الحقيقة قراءة الضحاك «وتلك نعمة ما لك أن تمنها عليّ» ، وإلى ذلك ذهب قتادة وكذا الأخفش والفراء إلا أنهما قالا بتقدير همزة الاستفهام للإنكار بعد الواو ، والأصل وأتاك نعمة إلخ ، وأبى بعض النحاة حذف حرف الاستفهام في مثل هذا الموضع. وقال أبو حيان : الظاهر أن هذا الكلام إقرار منه عليه السلام بنعمة فرعون كأنه يقول : وترتبيتك إياي نعمة عليّ من حيث إنك عبدت غيري وتركتني واتخذتني ولدا لكن لا يدفع ذلك رسالتي. وإلى هذا التأويل ذهب السدي والطبري وليس بذاك.
وأيا ما كان فالآية ظاهرة في أن كفر الكافر لا يبطل نعمته ، وذهب بعضهم أن الكفر يبطل النعمة لئلا يجتمع استحقاق المدح واستحقاق الذم ، وفيه أنه لا ضير في ذلك لاختلاف جهتي الاستحقاقين. هذا وذهب الزمخشري إلى أن إِذاً في قوله تعالى : فَعَلْتُها إِذاً جواب وجزاء وبين وجه كون الكلام جزاء بقوله : قول «وفعلت فعلتك» فيه معنى إنك جازيت نعمتي بما فعلت فقال له موسى عليه السلام : نعم فعلتها مجازيا لك تسليما لقوله كان نعمته عنده جديرة بأن تجازى بنحو ذلك الجزاء.
واعترض بأن هذا لا يلائم قوله : وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ لأنه يدل على أنه اعترف بأنه فعل ذلك جاهلا أو ناسيا.
وفي الكشف تحقيق ما ذكره الزمخشري أن الترتيب الذي هو معنى الشرط والجزاء حاصل ولما كانا ماضيين كان ذلك تقديريا كأنه قال : إن كان ذلك كفرانا بنعمتك فقد فعلته جزاء ، ولكن الوصف أي كونه كفرانا غير مسلم. وأمده بقوله : وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها وفيه القول بالموجب أيضا. وقوله : وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ على هذا كأنه اعتذار ثان أي كنت تستحق ذلك عندي وأيضا كنت من الحائدين عن منهج الصواب لا في اعتقاد استحقاق مكافأة صنيعك بمثل تلك ولكن في الإقدام قبل الإذن من الملك العلام ، والحاصل أنه نسبه إلى مقابلة الإحسان بالإساءة وقررها بكونه كافرا ، فأجاب عليه السلام بأن المقابلة حاصلة ولكن أين الإحسان وما كنت كافرا بك فإنه عين الهدى بل ضالا في الإقدام على الفعل وما كنت كافرا لنعمة منعم أصلا ولكن كنت فاعلا لذلك خطأ ، ومنه ظهر أن قوله : وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ لا ينافي تقرير الزمخشري بل يؤيده اه.
ولا يخفى أن الأوفق بحديث الجزاء أن يكون المراد بقوله : فعلتها وأنا من الضالين فعلتها مقدما عليها من غير مبالاة على أن الضلال بمعنى الجهل المفسر بالإقدام من غير مبالاة لكن التزام كون إِذاً هنا للجواب والجزاء التزام ما لا يلزم فإن الصحيح الذي قال به الأكثرون أنها قد تتمحض للجواب ، وفي البحر أنهم حملوا ما في هذه الآية على ذلك ، وتوجيه كونها للجزاء فيها بما ذكر لا يخلو عن تكلف ، والأظهر عندي معنى ما آثره بعض أفاضل المحققين من أنها ظرف مقطوع عن الإضافة ولا أرى فيه ما يقال سوى أنه معنى لم يذكره أكثر علماء العربية وهم لم يحيطوا بكل شيء علما ، وإن أبيت هذا فهي للجواب فقط ، ومن العجيب قول ابن عطية : إنها هنا صلة في الكلام ثم قوله : وكأنها بمعنى حينئذ ولو اكتفى به على أنه تفسير معنى لكان له وجه فتأمل ، واللّه تعالى أعلم.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 23 إلى 74]
قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)
قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32)
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)
قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47)
رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57)
وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)
فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72)
أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74)

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 71
قالَ فِرْعَوْنُ مستفهما عن المرسل سبحانه وَما رَبُّ الْعالَمِينَ وتحقيق ذلك على ما قال العلامة الطيبي. إنه عز وجل لما أمرهما بقوله سبحانه : فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ فلا بد أن يكونا ممتثلين مؤديين لتلك الرسالة بعينها عند اللعين فلما أديت عنده اعترض أولا بقوله : أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً إلى آخره وثانيا بقوله : وَما رَبُّ الْعالَمِينَ ولذلك جيء بالواو العاطفة وكرر قال للطول فكأنه قال : أأنت الرسول وما رب العالمين؟ وقال الزمخشري : إن اللعين لما قال له بوابه : إن هاهنا من يزعم أنه رسول رب العالمين قال له عند دخوله : وما رب العالمين؟ واعترض بأنه نظم مختل لسبق المقاولة بينهم كما أشار إليه هو في سابق كلامه. وانتصر له صاحب الكشف فقال : أراد أنه تعالى ذكر مرة فقولا إنّا رسولا ربك أن أرسل وأخرى قُولا

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 72
إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
والقصة واحدة والمجلس واحد فحمله على أن الثاني ما أداه البواب من لسانه عليه السلام والأول ما خاطبه به موسى عليه السلام مشافهة وأن اللعين أخذ أولا في الطعن فيه وإن مثله ممن قرف برذائل الأخلاق لا يرشح لمنصب عال فضلا عما ادعاه وثانيا في السؤال عن شأن من ادعى الرسالة عنه استهزاء ، ومن هذا تبين أن سبق المقاولة لا يدل على اختلال النظم الذي أشار إليه انتهى.
وجوز بعضهم وقوع الأمر مرتين وأن فرعون سأل أولا بقوله : فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى وسأل ثانيا بقوله : وَما رَبُّ الْعالَمِينَ وقد قص اللّه تعالى الأول فيما أنزل جل وعلا أولا وهو سورة طه والثاني فيما أنزله سبحانه ثانيا وهو سورة الشعراء ، فقد روي عن ابن عباس أن سورة طه نزلت ثم الواقعة ثم طسم الشعراء ، وقال آخر : يحتمل أنهما إنما قالا :
َّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
والاقتصار في سورة طه على ذكر ربوبيته تعالى لفرعون لكفايته فيما هو المقصود ، وعلى القول بوقوع الأمر مرتين قيل : إن فرعون سأل في المرة الأولى بقوله : فَمَنْ رَبُّكُما طلبا للوصف المشخص كما يقتضيه ظاهر الجواب خلافا للسكاكي في دعواه أنه سؤال عن الجنس كأنه قال : أبشر هو أم ملك أم جني؟ والجواب من الأسلوب الحكيم وأخرى بما رب العالمين طلبا للماهية والحقيقة انتقالا لما هو أصعب ليتوصل بذلك إلى بعض أغراضه الفاسدة حسبما قص اللّه تعالى بعد ، وما يسأل بها عن الحقيقة مطلقا سواء كان المسئول عن حقيقته من أولي العلم أو لا فلا يتوهم أن حق الكلام حينئذ أن يقال من رب العالمين؟ حتى يوجه بأنه لإنكار اللعين له عز وجل عبر بما ، ولما كان السؤال عن الحقيقة مما لا يليق بجنابه جل وعلا.
قالَ عليه السلام عادلا عن جوابه إلى ذكر صفاته عز وجل على نهج الأسلوب الحكيم إشارة إلى تعذر بيان الحقيقة رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا والكلام في امتناع معرفة الحقيقة وعدمه قد مر عليك فتذكر ، ورفع رَبُّ على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو رب السماوات والأرض وما بينهما من العناصر والعنصريات إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي إن كنتم موقنين بالأشياء محققين لها علمتم ذلك أو إن كنتم موقنين بشيء من الأشياء فهذا أولى بالإيقان لظهوره وإنارة دليله فإن هذه الأجرام المحسوسة ممكنة لتركبها وتعددها وتغير أحوالها فلها مبدأ واجب لذاته ثم ذلك المبدأ لا بد أن يكون مبدأ لسائر الممكنات ما يمكن أن يحس بها وما لا يمكن وإلا لزم تعدد الواجب أو استغناء بعض الممكنات عنه وكلاهما محال ، وجواب أن محذوف كما أشرنا إليه.
قالَ فرعون عند سماع جوابه عليه السلام خوفا من أن يعلق منه في قلوب قومه شيء لِمَنْ حَوْلَهُ من أشراف قومه ، قال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما : كانوا خمسمائة رجل عليهم الأساور وكانت للملوك خاصة أَلا تَسْتَمِعُونَ جوابه يريد التعجيب منه والإزراء بقائله وكان ذلك لعدم مطابقته للسؤال حيث لم يبين فيه الحقيقة المسئول عنها وكونه في زعمه نظرا لما عليه قومه من الجهالة غير واضح في نفسه لخفاء العلم بإمكان ما ذكر أو حدوثه الذي هو علة الحاجة إلى المبدأ الواجب لذاته عليهم وقد بالغ اللعين في الإشارة إلى عدم الاعتداد بالجواب المذكور حيث أوهم أن مجرد استماعهم له كاف في رده وعدم قبوله ، وكان موسى عليه السلام لما استشعر ذلك من اللعين قالَ عدولا إلى ما هو أوضح وأقرب إعطاء لمنصب الإرشاد حقه حسب الإمكان لتعذر الوقوف على الحقيقة كما سمعت رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ فإن الحدوث والافتقار إلى واجب مصور حكيم في المخاطبين وآبائهم الذين ذهبوا وعدموا أظهر والنظر في الأنفس أقرب وأوضح من النظر في الآفاق ولما رأى اللعين ذلك وقوي عنده خوف فتنة قومه قالَ مبالغا في الرد والإشارة إلى عدم الاعتداد بذلك مصرحا بما ينفر قلوبهم عن قائله وقبول ما يجيء به.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 73
إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ حيث يسأل عن شيء ويجيب عن شيء آخر وينبه على ما في جوابه ولا ينتبه ، وسماه رسولا بطريق الاستهزاء ، وأضافه إلى مخاطبيه ترفعا من أن يكون مرسلا إلى نفسه وأكد ذلك بالوصف ، وفيه إثارة لغضبهم واستدعاء لإنكارهم رسالته بعد سماع الخبر ترفعا بأنفسهم عن أن يكونوا أهلا لأن يرسل إليهم مجنون.
وقرأ مجاهد وحميد والأعرج «أرسل» على بناء الفاعل أي الذي أرسله ربه إليكم ، وكأنه عليه السلام لما رأى خشونة في رد اللعين وإيماء منه إلا أنه عليه السلام لم يتنبه لما في جوابه الأول من الخفاء عند قومه بل كان عدوله عنه إلى الجواب الثاني لما رماه به عليه اللعنة قالَ عليه السلام تفسيرا لجوابه الأول وإزالة لخفائه ليعلم أن العدول ليس إلا لظهور ما عدل إليه ووضوحه وقربه إلى الناظر لا لما رمي به وحاشاه مع الإشارة إلى تعذر بيان الحقيقة أيضا بالإصرار على الجواب بالصفات رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما وذلك لأنه لم يكن في الجواب الأول تصريح باستناد حركات السماوات وما فيهما وتغيرات أحوالها وأوضاعها وكون الأرض تارة مظلمة وأخرى منورة إلى اللّه تعالى ، وفي هذا إرشاد إلى ذلك فإن ذكر المشرق والمغرب منبىء عن شروق الشمس وغروبها المنوطين بحركات السماوات وما فيها على نمط بديع يترتب عليه هذه الأوضاع الرصينة وكل ذلك أمور حادثة لا شك في افتقارها إلى محدث قادر عليم حكيم ، وارتكب عليه السلام الخشونة كما ارتكب معه بقوله : إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ أي إن كنتم تعقلون شيئا من الأشياء أو إن كنتم من أهل العقل علمتم أن الأمر كما قلته وأشرت إليه فإن فيه تلويحا إلى أنهم بمعزل من دائرة العقل وأنهم الأحقاء بما رموه به عليه السلام من الجنون.
وقرأ عبد اللّه وأصحابه والأعمش «رب المشارق والمغارب» على الجمع فيهما ، ولما سمع اللعين منه عليه السلام تلك المقالات المبينة على أساس الحكم البالغة وشاهد شدة حزمه وقوة عزمه على تمشية أمره وأنه ممن لا يجارى في حلبة المحاورة قالَ ضاربا صفحا عن المقاولة إلى التهديد كما هو ديدن المحجوج العنيد : لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ وفيه مبالغة في رده عن دعوى الرسالة حيث أراد منه ما أراد ولم يقنع منه عليه السلام بترك دعواها وعدم التعرض له ، وفيه أيضا عتو آخر حيث أوهم أن موسى عليه السلام متخذ له إلها في ذلك الوقت وإن اتخاذه غيره إلها بعد مشكوك ، وبالغ في الأبعاد على تقدير وقوع ذلك حيث أكد الفعل بما أكد وعدل عن لأسجننك الأخصر لذلك أيضا فإن أل في المسجونين للعهد فكأنه قال : لأجعلنك ممن عرفت أحوالهم في سجوني ، وكان عليه اللعنة يطرحهم في هوة عميقة قيل : عمقها خمسمائة ذراع وفيها حيات وعقارب حتى يموتوا.
هذا وقال بعضهم : السؤال هنا وفي سورة طه عن الوصف والقصة واحدة والمجلس واحد واختلاف العبارات فيها لاقتضاء كل مقام ما عبر به فيه ويلتزم القول بأن الواقع هو القدر المشترك بين جميع تلك العبارات ، وبهذا ينحل إشكال اختلاف العبارات مع دعوى اتحاد القصة والمجلس لكن تعيين القدر المشترك الذي يصح أن يعبر عنه بكل من تلك العبارات يحتاج إلى نظر دقيق مع مزيد لطف وتوفيق ، ثم إن العلماء اختلفوا في أن اللعين هل كان يعلم أن للعالم ربا هو اللّه عز وجل أولا ، فقال بعضهم : كان يعلم ذلك بدليل لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الإسراء : 102] ومنهم من استدل بطلبه شرح الماهية زعما منه أن فيه الاعتراف بأصل الوجود وذكروا أن ادعاءه الألوهية وقوله : أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات : 24] إنما كان إرهابا لقومه الذين استخفهم ولم يكن ذلك عن اعتقاد وكيف يعتقد أنه رب العالم وهو يعلم بالضرورة أنه وجد بعد أن لم يكن ومضى على العالم ألوف من السنين وهو ليس فيه ولم يكن له إلا ملك مصر ولذا قال شعيب لموسى عليهما السلام : لما جاءه في مدين لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص : 25].

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 74
وقال بعضهم : إنه كان جاهلا باللّه تعالى ومع ذلك لا يعتقد في نفسه أنه خالق السماوات والأرض وما فيهما بل كان دهريا نافيا للصانع سبحانه معتقدا وجوب الوجود بالذات للأفلاك وإن حركاتها أسباب لحصول الحوادث ويعتقد أن من ملك قطرا وتولى أمره لقوة طالعه استحق العبادة من أهله وكان ربا لهم ولهذا خصص ألوهيته وربوبيته ولم يعمهما حيث قال : ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص : 38] وأَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى ، وجوز أن يكون من الحلولية القائلين بحلول الرب سبحانه وتعالى في بعض الذوات ويكون معتقدا حلوله عز وجل فيه ولذلك سمى نفسه إلها ، وقيل : كان يدعي الألوهية لنفسه ولغيره وهو ما كان يعبده من دون اللّه عز وجل كما يدل عليه ظاهر قوله تعالى :
وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الأعراف : 127] وهو وكذا ما قبله بعيد ، والذي يغلب على الظن ويقتضيه أكثر الظواهر أن اللعين كان يعرف اللّه عز وجل وأنه سبحانه هو خالق العالم إلا أنه غلبت عليه شقوته وغرته دولته فأظهر لقومه خلاف علمه فأذعن منهم له من كثر جهله ونزر عقله ، ولا يبعد أن يكون في الناس من يذعن بمثل هذه الخرافات ولا يعرف أنها مخالفة للبديهيات ، وقد نقل لي من أثق به أن رجلين من أهل نجد قبل ظهور أمر الوهابي فيما بينهم بينما هما في مزرعة لهما إذ مر بهما طائر طويل الرجلين لم يعهدا مثله في تلك الأرض فنزل بالقرب منهما فقال أحدهما للآخر : ما هذا؟ فقال له : لا ترفع صوتك هذا ربنا فقال له معتقدا صدق ذلك الهذيان : سبحانه ما أطول كراعيه وأعظم جناحيه ، وأما من له عقل منهم ولا يخفى عليه بطلان مثل ذلك فيحتمل أن يكون قد وافق ظاهرا لمزيد خوفه من فرعون أو مزيد رغبته بما عنده من الدنيا كما نشاهد كثيرا من العقلاء وفسقة العلماء وافقوا جبابرة الملوك في أباطيلهم العلمية والعملية حبا للدنيا الدنية أو خوفا مما يتوهمونه من البلية ، ويحتمل أن يكون قد اعتقد ذلك حقيقة بضرب من التوجيه وإن كان فاسدا كزعم الحلول ونحوه ، والمنكر على القائل أنا الحق والقائل ما في الجبة إلا اللّه يزعم أن معتقدي صدقهما كمعتقدي صدق فرعون في قوله : أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات : 24] وسؤال اللعين لموسى عليه السلام حكاية لما وقع في عبارته بقوله : ما رَبُّ الْعالَمِينَ كان لإنكاره لظاهر أن يكون للعالمين رب سواه ، وجواب موسى عليه السلام له لم يكن إلا لإبطال ما يدعيه ظاهرا وإرشاد قومه إلى ما هو الحق الحقيق بالقبول ولذا لم يقصر الخطاب في الأجوبة عليه ، والتعجيب المفهوم من قوله : أَلا تَسْتَمِعُونَ لزعمه ظاهرا أنه عليه السلام ادعى خلاف أمر محقق وهي ربوبية نفسه ، ولما داخله من خوف إذعان قومه لما قاله موسى عليه السلام
ما داخله بالغ في صرفهم عن قبول الحق بقوله : إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ولما رأى أن ذلك لم يفد في دفع موسى عليه السلام عن إظهار الحق وإبطال ما كان يظهره من الباطل ذب عن دعواه الباطلة بالتهديد وتشديد الوعيد فقال : لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ولعل أجوبته عليه السلام مشيرة إلى إبطال اعتقاد نحو الحلول بأن فيه الترجيح بلا مرجح وبأنه يستلزم المربوبية لما فيه من التغير ، وبعد هذا القول عندي قول بعضهم : إنه عليه اللعنة كان دهريا إلى آخر ما سمعته آنفا ، والتعجيب لزعمه حقيقة أنه عليه السلام ادعى خلاف أمر محقق وهو ربوبية نفسه عليه اللعنة واللّه تعالى أعلم ، ولما رأى عليه السلام فظاظة فرعون قالَ على جهة التلطف به والطمع في إيمانه أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ أي تفعل ذلك ولو جئتك بشيء مبين أي موضح لصدق دعواي يريد به المعجزة فإنها جامعة بين الدلالة على وجود الصانع وحكمته وبين الدلالة على صدق دعوى من ظهرت على يده ، والتعبير عنها بشيء للتهويل ، والواو للعطف على جملة مقابلة للجملة المذكورة ، ومجموع الجملتين المتعاطفتين في موضع الحال ، ولَوْ للبيان تحقيق ما يفيده الكلام السابق من الحكم على كل حال مفروض من الأحوال المقارنة له على الإجمال بإدخالها على أبعدها منه وأشدها منافاة له ليظهر تحققه مع ما عداه من الأحوال بطريق الأولوية أي أتفعل في ذلك حال عدم مجيئي بشيء مبين وحال مجيئي به ، وتصدير المجيء بلو دون إن ليس لبيان استبعاده في نفسه بل بالنسبة إلى فرعون ، وجعل بعضهم

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 75
الواو للحال على معنى أن الجملة التي بعدها حال أي أتفعل في ذلك جائيا بشيء مبين وهو ظاهر كلام الكشاف هنا ، وظاهر كلام الكشف أن الاستفهام للإنكار على معنى لا تقدر على فعل ذلك مع أني نبي بالمعجزة ، والظاهر تعلق هذا الكلام بالوعيد الصادر من اللعين فذلك في تفسيره إشارة إلى جعله عليه السلام من المسجونين فكأنه قال : أتجعلني من المسجونين إن اتخذت إلها غيرك ولو جئتك بشيء مبين؟.
وعلى ذلك حمل الطيبي كلام الكشاف ثم قال : يمكن أن يقال إن الواو عاطفة وهي تستدعي معطوفا عليه وهو ما سبق في أول المكالمة بين نبي اللّه تعالى وعدوه ، والهمزة مقحمة بين المعطوف والمعطوف عليه للتقرير ، والمعنى أتقر بالوحدانية وبرسالتي إن جئتك بعد الاحتجاج بالبراهين القاهرة والمعجزات الباهرة الظاهرة.
ولَوْ بمعنى أن عزيز ، ويؤيد هذا التأويل ما في [الأعراف : 105] قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ انتهى.
وهو كما ترى. وفيه جعل مُبِينٍ من أبان اللازم بمعنى بان ، وجعله من أبان المتعدي وحذف المفعول كما أشرنا إليه أنسب للمقام ، ولما سمع فرعون هذا الكلام من موسى عليه السلام قالَ حيث طمع أن يجد موضع معارضة فَأْتِ بِهِ أي بشيء مبين إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي فيما يدل عليه كلامك من أنك تأتي بشيء موضح لصدق دعواك أو من الصادقين في دعوى الرسالة من رب العالمين ، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه أي إن كنت من الصادقين فأت به ، وقدره الزمخشري أتيت به ، والمشهور تقديره من جنس الدليل.
وقال الحوفي : يجوز أن يكون ما تقدم هو الجواب وجاز تقديم الجواب لأن حذف الشرط لم يعمل في اللفظ شيئا ، وقد بهت الزمخشري عامله اللّه تعالى بعدله أهل السنة بما هم منه براء كما بينه صاحب الكشف وغيره فارجع إليه إن أردته فَأَلْقى موسى بعد أن قال له فرعون ذلك عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ظاهر ثعبانيته أي ليس بتمويه وتخييل كما يفعله السحرة ، والثعبان أعظم ما يكون من الحيات واشتقاقه من ثعب الماء بمعنى جرى جريا متسعا ، وسمي به لجريه بسرعة من غير رجل كأنه ماء سائل ، والظاهر أن نفس العصا انقلبت ثعبانا وليس ذلك بمحال إذا كان بسلب الوصف الذي صارت به عصا وخلقه وصف الذي يصير ثعبانا بناء على رأي بعض المتكلمين من تجانس الجواهر واستوائها في قبول الصفات إنما المحال انقلابها ثعبانا مع كونها عصا لامتناع كون الشيء الواحد في الزمن الواحد عصا وثعبانا ، وقيل : إن ذلك بخلق الثعبان بدلها وظواهر الآيات تبعد ذلك ، وقد جاء في الأخبار ما يدل على مزيد عظم هذا الثعبان ولا يعجز اللّه تعالى شيء ، وقد مر بيان كيفية الحال.
وَنَزَعَ يَدَهُ من جيبه فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ أي بياضها يجتمع النظارة على النظر إليه لخروجه عن العادة ، وكان بياضا نورانيا.
روي أنه لما أبصر أمر العصا قال : هل لك غيرها؟ فأخرج عليه السلام يده فقال : ما هذه قال : يدي فأدخلها في إبطه ثم نزعها ولها شعاع يكاد يغشي الأبصار ويسد الأفق
قالَ لِلْمَلَإِ أشراف قومه حَوْلَهُ منصوب لفظا على الظرفية وهو ظرف مستقر وقع حالا أي مستقرين حوله وجوز أن يكون في موضع الصفة للملأ على حد :
ولقد أمر على اللئيم يسبني والأول أسهل وأنسب.
ومن العجيب ما نقله أبو حيان عن الكوفيين أنهم يجعلون الملأ اسم موصول وحَوْلَهُ متعلق بمحذوف وقع

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 76
صلة له كأنه قيل : قال للذين استقروا حوله إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ فائق في علم السحر يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ قسرا مِنْ أَرْضِكُمْ التي نشأتم فيها وتوطنتموها بِسِحْرِهِ وفي هذا غاية التنفير عنه عليه السلام وابتغاء الغوائل له إذ من أصعب الأشياء على النفوس مفارقة الوطن لا سيما إذا كان ذلك قسرا وهو السر في نسبة الإخراج والأرض إليهم فَما ذا تَأْمُرُونَ أي أمر تأمرون فمحل ماذا النصب على المصدرية وتَأْمُرُونَ من الأمر ضد النهي ومفعوله محذوف أي تأمروني ، وفي جعله عبيده بزعمه آمرين له مع ما كان يظهره لهم من دعوى الألوهية والربوبية ما يدل على أن سلطان المعجزة بهره وحيره حتى لا يدري أي طرفيه أطول فزل عند ذكر دعوى الألوهية وحط عن منكبيه كبرياء الربوبية وانحط عن ذروة الفرعنة إلى حضيض المسكنة ولهذا أظهر استشعار الخوف من استيلائه عليه السلام على ملكه.
وجوز أن يكون ماذا في محل النصب على المفعولية وأن يكون «تأمرون» من المؤامرة بمعنى المشاورة لأمر كل بما يقتضيه رأيه ولعل ما تقدم أولى.
قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ أي أخّر أمرهما إلى أن تأتيك السحرة من أرجأته إذا أخرته ، ومنه المرجئة وهم الذين يؤخرون العمل لا يأتونه ويقولون : لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة.
وقرأ أهل المدينة والكسائي وخلف «أرجه» بكسر الهاء ، وعاصم وحمزة «أرجه» بغير همز وسكون الهاء ، والباقون «أرجئه» بالهمز وضم الهاء ، وقال أبو علي : لا بد من ضم الهاء مع الهمزة ولا يجوز غيره ، والأحسن أن لا يبلغ بالضم إلى الواو ، ومن قرأ بكسر الهاء فأرجه عنده من أرجيته بالياء دون الهمزة والهمز على ما نقل الطيبي أفصح ، وقد توصل الهاء المذكورة بياء فيقال : أرجهي كما يقال مررت بهي ، وذكر الزجاج أن بعض الحذاق بالنحو لا يجوز إسكان نحوها ، أَرْجِهْ أعني هاء الإضمار ، وزعم بعض النحويين جواز ذلك واستشهد عليه ببيت مجهول ذكره الطبرسي : وقال هو شعر لا يعرف قائله والشاعر يجوز أن يخطىء.
وقال بعض الأجلة : الإسكان ضعيف لأن هذه الهاء إنما تسكن في الوقف لكنه أجرى الوصل مجرى الوقف ، وقيل : المعنى احبسه ، ولعلهم قالوا ذلك لفرط الدهشة أو تجلدا ومداهنة لفرعون وإلا فكيف يمكنه أن يحبسه مع شاهد منه من الآيات وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ شرطاء يحشرون السحرة ويجمعونهم عندك يَأْتُوكَ مجزوم في جواب الأمر أي إن تبعثهم يأتوك بِكُلِّ سَحَّارٍ كثير العمل بالسحر عَلِيمٍ فائق في علمه ، ولكون المهم هنا هو العمل أتوا بما يدل على التفضيل فيه ، وقرأ الأعمش وعاصم في رواية «بكل ساحر عليم» فَجُمِعَ السَّحَرَةُ أي المعهودون على أن التعريف كما في المفتاح عهدي ، وقال الفاضل المحقق : إن المعهود قد يكون عاما مستغرقا كما هنا ولا منافاة بينهما كما يتوهم وفيه بحث فتأمل.
لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ لما وقت به من ساعات يوم معين وهو وقت الضحى من يوم الزينة على أن الميقات من صفات الزمان ، وفي الكشاف هو ما وقت به أي حدد من زمان أو مكان ومنه مواقيت الإحرام وَقِيلَ لِلنَّاسِ استبطاء لهم في الاجتماع وحثا على التبادر إليه هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ في ذلك الميقات فالاستفهام مجاز عن الحث والاستعجال كما في قول تأبط شرا :
هل أنت باعث دينار لحاجتنا أو عبد رب أخا عون بن مخراق «1»
___________
(1) دينار اسم رجل وعبد رب منصوب بالعطف على محله وهو اسم رجل أيضا وأخا عون منادى لا نعت ، ويجوز أن يكون عطف بيان لعبد رب ا ه منه. [.....]

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 77
فإنه يريد ابعث أحدهما إلينا سريعا ولا تبطئ به لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ أي في دينهم إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ لا موسى عليه السلام ، وليس مرادهم بذلك إلا أن لا يتبعوا موسى عليه السلام في دينه لكن ساقوا كلامهم مساق الكناية حملا للسحرة على الاهتمام والجد في المغالبة ، وجوز أن يكون مرادهم اتباع السحرة أي الثبات على ما كانوا عليه من الدين ويدعي أنهم كانوا على ما يريد فرعون من الدين.
والظاهر أن فرعون غير داخل في القائلين ، وعلى تقدير دخوله لم يجوز بعضهم إرادة المعنى الحقيقي لهذا الكلام لامتناع اتباع مدعي الإلهية السحرة ، وجوزه آخرون لاحتمال أن يكون قال ذلك لما استولى عليه من الدهشة من أمر موسى عليه السلام كما طلب الأمر ممن حوله لذلك ، ولعل إتيانهم بأن للإلهاب وإلا فالأوفق بمقامهم أن يقولوا إذا كانوا هم الغالبين فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً أي لأجرا عظيما إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ لا موسى عليه السلام ولعلهم أخرجوا الشرط على أسلوب ما وقع في كلام القائلين موافقة لهم وإلا فلا يناسب حالهم إظهار الشك في غلبتهم.
قالَ فرعون لهم نَعَمْ لكم ذلك وَإِنَّكُمْ مع ذلك إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عندي ، قيل : قال لهم :
تكونون أول من يدخل عليّ وآخر من يخرج عني. وإِذاً عند جمع على ما تقتضيه في المشهور من الجواب والجزاء ، ونقل الزركشي في البرهان عن بعض المتأخرين أنها هنا مركبة من إِذاً التي هي ظرف زمان ماض والتنوين الذي هو عوض عن جملة محذوفة بعدها وليست هي الناصبة للمضارع. وقد ذهب إلى ذلك في نظير لآية الكافيجي والقاضي تقي الدين بن رزين وأنا ممن يقول بإثبات هذا المعنى لها. والمعنى عليه وإنكم إذا غلبتم أو إذا كنتم الغالبين لمن المقربين. وقرىء «نعم» بفتح النون وكسر العين وذلك لغة في نَعَمْ.
قالَ لَهُمْ مُوسى أي بعد ما قال له السحرة : إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى [طه : 65] أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ لم يرد عليه السلام الأمر بالسحر والتمويه حقيقة فإن السحر حرام وقد يكون كفرا فلا يليق بالمعصوم الأمر به بل الإذن بتقديم ما علم بإلهام أو فراسة صادقة أو قرائن الحال أنهم فاعلوه البتة ولذا قال : ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ ليتوصل بذلك إلى إبطاله.
وهذا كما يؤمر الزنديق بتقرير حجته لترد وليس في ذلك الرضا الممتنع فإنه الرضا على طريق الاستحسان وليس في الإذن المذكور ومطلق الرضا غير ممتنع ، ومما اشتهر من قولهم : الرضا بالكفر كفر ليس على إطلاقه كما عليه المحققون من الفقهاء والأصوليين فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا أي وقد قالوا عند الإلقاء بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ أي بقوته التي يمتنع بها من الضيم من قولهم. أرض عزاز أي صلبة إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ لا موسى عليه السلام ، والظاهر أن هذا قسم منهم بعزته عليه اللعنة على الغلبة وخصوها بالقسم هنا لمناسبتها للغلبة وقسمهم على ذلك لفرط اعتقادهم في أنفسهم وإتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من السحر. وفي ذلك إرهاب لموسى عليه السلام بزعمهم ، وعدلوا عن الخطاب إلى الغيبة في قولهم : بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ تعظيما له ، وهذا القسم من نوع أقسام الجاهلية ، وقد سلك كثير من المسلمين في الإيمان ما هو أشنع من إيمانهم لا يرضون بالقسم باللّه تعالى وصفاته عز وجل ولا يعتدون بذلك حتى يحلف أحدهم بنعمة السلطان أو برأسه أو برأس المحلف أو بلحيته أو بتراب قبر أبيه فحينئذ يستوثق منه ، ولهم أشياء يعظمونها ويحلفون بها غير ذلك ، ولا يبعد أن يكون الحلف باللّه تعالى كذبا أقل إثما من الحلف بها صدقا وهذا مما عمت به البلوى ولا حول ولا قوة إلا باللّه تعالى العلي العظيم ، وقال ابن عطية بعد أن ذكر أنه قسم : والأحرى أن

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 78
يكون على جهة التعظيم والتبرك باسمه إذا كانوا يعبدونه كما تقول إذا ابتدأت بشيء بسم اللّه تعالى وعلى بركة رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ونحو ذلك.
فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ أي تبتلع بسرعة ، وأصل التلقف الأخذ بسرعة وقرأ أكثر السبعة «تلّقّف» بفتح اللام والتشديد والأصل تتلقف فحذفت إحدى التاءين. والتعبير بالمضارع لاستحضار السورة والدلالة على الاستمرار ما يَأْفِكُونَ أي الذي يقلبونه من حاله الأول وصورته بتمويههم وتزويرهم فيخيلون حبالهم وعصيهم أنها حيات تسعى. فما موصولة حذف عائدها للفاصلة ، وجوز أن تكون مصدرية أي تلقف إفكهم تسمية للمأفوك به مبالغة فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ أي خروا ساجدين إثر ما شاهدوا ذلك من غير تلعثم وتردد لعلمهم بأن مثل ذلك خارج عن حدود السحر وأنه أمر إلهي قد ظهر على يده عليه السلام لتصديقه ، وعبر عن الخرور بالإلقاء لأنه ذكر مع الإلقاءات فسلك به طريق المشاكلة وفيه أيضا مع مراعاة المشاكلة أنهم حين رأوا ما رأوا لم يتمالكوا أن رموا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين كأنهم أخذوا فطرحوا طرحا فهناك استعارة تبعية زادت حسنها المشاكلة ، وبحث في ذلك بعضهم بأن اللّه تعالى خالق خرورهم عند أهل الحق وخلقه هو الإلقاء فلا حاجة إلى التجوز.
وأنت تعلم أن إيجاد خرورهم وخلقه فيهم لا يسمى إلقاء حقيقة ولغة ثم ظاهر كلامهم أن فاعل الإلقاء لو صرح به هو اللّه عز وجل بما خولهم من التوفيق ، وجوز الزمخشري أن يكون إيمانهم أو ما عاينوا من المعجزة الباهرة ثم قال :
ولك أن لا تقدر فاعلا لأن (ألقي) بمعنى خروا وسقطوا. وتعقب هذا أبو حيان بأنه ليس بشيء إذ لا يمكن أن يبني الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله إلا وقد حذف الفاعل فناب ذلك عنه أما أنه لا يقدر فاعل فقول ذاهب عن الصواب ، ووجه ذلك صاحب الكشف بأنه أراد أنه لا يحتاج إلى تقدير فاعل آخر غير من أسند إليه المجهول لأنه فاعل الإلقاء ألا ترى أنك لو فسرت سقط بألقى نفسه لصح. والطيبي بأنه أراد أنه لا يحتاج إلى تعيين فاعل لأن المقصود الملقى لا تعيين من ألقاه كما تقول قتل الخارجي.
وأنت تعلم أن التعليل الذي ذكره الزمخشري إلى ما اختاره صاحب الكشف أقرب. وبالجملة لا بد من تأويل كلام صاحب الكشاف فإنه أجل من أن يريد ظاهره الذي يرد عليه ما أورده أبو حيان ، وفي سجود السحرة وتسليمهم دليل على أن منتهى السحر تمويه وتزويق يخيل شيئا لا حقيقة له لأن السحر أقوى ما كان في زمن موسى عليه السلام ومن أتى به فرعون أعلم أهل عصره به وقد بذلوا جهدهم وأظهروا أعظم ما عندهم منه ولم يأتوا إلا بتمويه وتزويق كذا قيل. والتحقيق أن ذلك هو الغالب في السحر لا أن كل سحر كذلك.
وقول القزويني : إن دعوى أن في السحر تبديل صورة حقيقة من خرافات العوام وأسمار النسوة فإن ذلك مما لا يمكن في سحر أبدا لا يخلو عن مجازفة ، واستدل بذلك أيضا على أن التبحر في كل علم نافع فإن أولئك السحرة لتبحرهم في علم السحر علموا حقية ما أتى به موسى عليه السلام وأنه معجزة فانتفعوا بزيادة علمهم لأنه أداهم إلى الاعتراف بالحق والإيمان لفرقهم بين المعجزة والسحر.
وتعقب بأن هذا إنما يثبت حكما جزئيا كما لا يخفى ، وذكر بعض الأجلة أنهم إنما عرفوا حقية ذلك بعد أن أخذ موسى عليه السلام العصا فعادت كما كانت وذلك أنهم لم يروا لحبالهم وعصيهم بعد أثرا ، وقالوا : لو كان هذا سحرا لبقيت حبالنا وعصيّنا ولعلها على هذا صارت أجزاء هبائية وتفرقت أو عدمت لانقطاع تعلق الإرادة بوجودها. وقال الشيخ الأكبر قدس سره في الباب السادس عشر والباب الأربعين من الفتوحات : إن العصا لم تلقف إلا صور الحيات

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 79
من الحبال والعصي وأما هي فقد بقيت ولم تعدم كما توهمه بعض المفسرين ويدل عليه قوله تعالى : تَلْقَفْ ما صَنَعُوا [طه : 69] وهم لم يصنعوا إلا الصور ولولا ذلك لوقعت الشبهة للسحرة في عصا موسى عليه السلام فلم يؤمنوا انتهى ملخصا فتأمل قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ بدل اشتمال من (ألقي) لما بين الإلقاء المذكور وهذا القول من الملابسة أو حال بإضمار قد أو بدونه ، ويحتمل أن يكون استئنافا بيانيا كأنه قيل : فما قالوا؟ فقيل : قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ عطف بيان لرب العالمين أو بدل منه جيء به لدفع توهم إرادة فرعون حيث كان قومه الجهلة يسمونه بذلك وللإشعار بأن الموجب لإيمانهم به تعالى ما أجراه سبحانه على أيديهما من المعجزة القاهرة. ومعنى كونه تعالى ربهما أنه جل وعلا خالقهما ومالك أمرهما.
وجوز أن يكون إضافة الرب إليهما باعتبار وصفهما له سبحانه بما تقدم من قول موسى عليه السلام : رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا [الشعراء : 24] وقوله : رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [الشعراء : 26] وقوله :
رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما [الشعراء : 28] فكأنهم قالوا : آمنا برب العالمين الذي وصفه موسى وهارون ، ولا يخفى ما فيه وإن سلم سماعهم للوصف المذكور بعد أن حشروا من المدائن قالَ فرعون للسحرة آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ أي بغير أن آذن لكم بالإيمان له كما في قوله تعالى : قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي [الكهف :
109] إلا أن الإذن منه ممكن أو متوقع إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فتواطأتم على ما فعلتم فيكون كقوله : إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ [الأعراف : 123] إلخ أو علمكم شيئا دون شيء فلذلك غلبكم كما قيل ، ولا يرد عليه أنه لا يتوافق الكلامان حينئذ إذ يجوز أن يكون فرعون قال كلا منهما وإن لم يذكرا معا هنا ، وأراد اللعين بذلك التلبيس على قومه كيلا يعتقدوا أنهم آمنوا عن بصيرة وظهور حق.
وقرأ الكسائي وحمزة وأبو بكر وروح «أآمنتم» بهمزتين فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وبال ما فعلتم. واللام قيل للابتداء دخلت الخبر لتأكيد مضمون الجملة والمبتدأ محذوف أي فلأنتم سوف تعلمون. وليست للقسم لأنها لا تدخل على المضارع إلا مع النون المؤكدة. وجمعها مع سوف للدلالة على أن العلم كائن لا محالة وإن تأخر لداع ، وقيل : هي للقسم وقاعدة التلازم بينها وبين النون فيما عدا صورة الفصل بينها وبين الفعل بحرف التنفيس وصورة الفصل بينهما بمعمول الفعل كقوله تعالى : لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ [آل عمران : 158] وقال أبو علي : هي اللام التي في لأقومن ونابت سوف عن إحدى نوني التأكيد فكأنه قيل : فلتعلمن ، وقوله تعالى حكاية عنه : لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ بيان لمفعول تَعْلَمُونَ المحذوف الذي أشرنا إليه وتفصيل لما أجمل ولذا فصل وعطف بالفاء في محل آخر ، وقد مر معنى مِنْ خِلافٍ قالُوا أي السحرة لا ضَيْرَ أي لا ضرر علينا فيما ذكرت من قطع الأيدي وما معه ، والضير مصدر ضار وجاء مصدره أيضا ضورا ، وهو اسم لا وخبرها محذوف وحذفه في مثل ذلك كثير ، وقوله تعالى : إِنَّا إِلى رَبِّنا أي الذي آمنا به مُنْقَلِبُونَ تعليل لنفي الضير أي لا ضير في ذلك بل لنا فيه نفع عظيم لما يحصل لنا من الصبر عليه لوجه اللّه تعالى من الثواب العظيم أو لا ضير علينا فيما تفعل لأنه لا بد من الموت بسبب من الأسباب والانقلاب إلى اللّه عز وجل.
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد
وحاصله نفي المبالاة بالقتل معللا بأنه لا بد من الموت ، ونظير ذلك
قول علي كرّم اللّه تعالى وجهه : لا أبالي أوقعت على الموت أم وقع الموت عليّ ،
أو لا ضير علينا في ذلك لأن مصيرنا ومصيرك إلى رب يحكم بيننا فينتقم لنا منك ، وفي معنى ذلك قوله :

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 80
إلى ديان يوم الدين نمضي وعند اللّه تجتمع الخصوم
ولم يرتضه بعضهم لأن فيه تفكيك الضمائر لكونها للسحرة فيما قبل وبعد ومنع بدخولهم في ضمير الجمع فتأمل ، وقوله تعالى : إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أي لأن كنا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ تعليل ثان لنفي الضير ولم يعطف إيذانا بأنه مما يستقل بالعلية ، وقيل إن عدم العطف لتعلق التعليل بالمعلل الأول مع تعليله وجوز أن يكون تعليلا للعلة والأول أظهر أي لا ضير علينا في ذلك إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا لكوننا أول المؤمنين ، والطمع إما على بابه كما استظهره أبو حيان لعدم الوجوب على اللّه عز وجل ، وإما بمعنى التيقن كما قيل به في قول إبراهيم عليه السلام وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء : 82] وقولهم : أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ يحتمل أنهم أرادوا به أول المؤمنين من أتباع فرعون أو أول المؤمنين من أهل المشهد أو أول المؤمنين من أهل زمانهم ، ولعل الإخبار بكونهم كذلك لعدم علمهم بمؤمن سبقهم بالإيمان فهو إخبار مبني على غالب الظن ولا محذور فيه كذا قيل ، وقيل : أرادوا أول من أظهر الإيمان باللّه تعالى وبرسوله عند فرعون كفاحا بعد الدعوة وظهور الآية فلا يرد مؤمن آل فرعون. وآسية ، وكذا لا يرد بنو إسرائيل لأنهم - كما في البحر - كانوا مؤمنين قبلهم إما لعدم علم السحرة بذلك أو لأن كلا من المذكورين لم يظهر الإيمان باللّه تعالى ورسوله عند فرعون كفاحا بعد الدعوة وظهور الآية فتأمل.
وقرأ أبان بن تغلب وأبو معاذ «إن كنا» بكسر همزة «إن» وخرج على أن إن شرطية والجواب محذوف يدل عليه ما قبله أي إن كنا أول المؤمنين فإنا نطمع ، وجعل صاحب اللوامح الجواب إِنَّا نَطْمَعُ المتقدم وقال : جاز حذف الفاء منه لتقدمه وهو مبني على مذهب الكوفيين وأبي زيد والمبرد حيث يجوزون تقديم جواب الشرط ، وعلى هذا فالظاهر أنهم لم يكونوا متحققين بأنهم أول المؤمنين ، وقيل : كانوا متحققين ذلك لكنهم أبرزوه في صورة الشك لتنزيل الأمر المعتمد منزلة غيره تمليحا وتضرعا للّه تعالى ، وفي ذلك هضم النفس والمبالغة في تحري الصدق والمشاكلة مع نَطْمَعُ على ما هو الظاهر فيه ، وجوز أبو حيان أن تكون إن هي المخففة من الثقيلة ولا يحتاج إلى اللام الفارقة لدلالة الكلام على أنهم مؤمنون فلا احتمال للنفي ، وقد ورد مثل ذلك في الفصيح ففي الحديث : «إن كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يحب العسل»
، وقال الشاعر :
ونحن أباة الضيم من آل مالك وإن مالك كانت كرام المعادن
وعلى هذا الوجه يكونون جازمين بأنهم أول المؤمنين أتم جزم. واختلف في أن فرعون هل فعل بهم ما أقسم عليه أولا والأكثرون على أنه لم يفعل لظاهر قوله تعالى : أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ [القصص : 35] وبعض هؤلاء زعم أنهم لما سجدوا رأوا الجنات والنيران وملكوت السماوات والأرض وقبضت أرواحهم وهم ساجدون ، وظواهر الآيات تكذب أمر الموت في السجود ، وأما رؤية أمر ما ذكر فلا جزم عندي بصدقه واللّه تعالى أعلم.
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي وذلك بعد سنين أقام بين ظهرانيهم يدعوهم إلى الحق ويظهر لهم الآيات فلم يزيدوا إلا عتوا وعنادا حسبما فصل في سورة [الأعراف : 130] بقوله تعالى : وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ الآيات. وقرىء «أن أسر» بكسر النون ووصل الألف من سرى. وقرأ اليماني «أن سر» أمرا من سار يسير إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ تعليل للأمر بالإسراء أي يتبعكم فرعون وجنوده مصبحين فأسر ليلا بمن معك حتى لا يدركوكم قبل الوصول إلى البحر بل يكونون على أثركم حين تلجون البحر فيدخلون مداخلكم فأطبقه عليهم فأغرقهم فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ الفاء فصيحة أي فأسرى بهم وأخبر فرعون بذلك فأرسل فِي الْمَدائِنِ أي مدائن مصر حاشِرِينَ جامعين للعساكر ليتبعوهم إِنَّ هؤُلاءِ يريد بني إسرائيل والكلام على إرادة القول ، والظاهر أنه حال أي قائلا إن

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 81
هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ أي طائفة من الناس ، وقيل : هي السفلة منهم ، وقيل : بقية كل شيء خسيس ، ومنه ثوب شرذام وشرذامة أي خلق مقطع ، قال الراجز :
جاء الشتاء وقميصي أخلاق شراذم يضحك منه التواق
وقرىء «لشرذمة» بإضافة شر مقابل خير إلى ذمة ، قال أبو حاتم : وهي قراءة من لا يؤخذ منه ولم يروها أحد عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قَلِيلُونَ صفة شرذمة ، وكان الظاهر قليلة إلا أنه جمع باعتبار أن الشرذمة مشتملة على أسباط كل سبط منهم قليل ، وقد بالغ اللعين في قلتهم حيث ذكرهم أولا باسم دال على القلة وهو شرذمة ثم وصفهم بالقلة ثم جمع القليل للإشارة إلى قلة كل حزب منهم وأتى بجمع السلامة وقد ذكر أنه دال على القلة واستقلهم بالنسبة إلى جنوده.
فقد أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أن موسى عليه السلام خرج في ستمائة ألف وعشرين ألفا لا يعد فيهم ابن عشرين لصغره ولا ابن ستين لكبره وتبعهم فرعون على مقدمته هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف حصان ، وقيل : أرسل فرعون في أثرهم ألف ألف وخمسمائة ألف ملك مسور مع كل ملك ألف وخرج هو في جمع عظيم وكانت مقدمته سبعمائة ألف رجل كل رجل على حصان وعلى رأسه بيضة ، وهم كانوا على ما روي عن ابن عباس ستمائة ألف وسبعين ألفا ، وأنا أقول : إنهم كانوا أقل من عساكر فرعون ولا أجزم بعدد في كلا الجمعين ، والأخبار في ذلك لا تكاد تصح وفيها مبالغات خارجة عن العادة. والمشهور عند اليهود أن بني إسرائيل كانوا حين خرجوا من مصر ستمائة ألف رجل خلا الأطفال وهو صريح ما في التوراة التي بأيديهم.
وجوز أن يراد بالقلة الذلة لا قلة العدد بل هي مستفادة من شرذمة يعني أنهم لقلتهم أذلاء لا يبالى بهم ولا يتوقع غلبتهم ، وقيل : الذلة مفهومة من شرذمة بناء على أن المراد منها بقية كل شيء خسيس أو السفلة من الناس ، وقَلِيلُونَ إما صفة لها أو خبر بعد خبر لأن ، والظاهر ما تقدم.
وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ لفاعلون ما يغيظنا من مخالفة أمرنا والخروج بغير إذننا مع ما عندهم من أموالنا المستعارة ،
فقد روي أن اللّه تعالى أمرهم أن يستعيروا الحلي من القبط فاستعاروه وخرجوا به
، وتقديم لَنا للحصر والفاصلة واللام للتقوية أو تنزيل المتعدي منزلة اللازم وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ أي إنا لجمع من عاداتنا الحذر والاحتراز واستعمال الحزم في الأمور ، أشار أولا إلى عدم ما يمنع اتباعهم من شوكتهم ثم إلى تحقيق ما يدعو إليه من فرط عداوتهم ووجوب التيقظ في شأنهم حثا عليه أو اعتذارا بذلك إلى أهل المدائن كيلا يظن به عليه اللعنة ما يكسر سلطانه.
وقرأ جمع من السبعة. وغيرهم «حذرون» بغير ألف ، وفرق بين حاذر بالألف وحذر بدونها بأن الأول اسم فاعل يفيد التجدد والحدوث والثاني صفة مشبهة تفيد الثبات ، وقريب منه ما روي عن الفراء والكسائي أن الحذر من كان الحذر في خلقته فهو متيقظ منتبه ، وقال أبو عبيدة : هما بمعنى واحد ، وذهب سيبويه إلى أن حذرا يكون للمبالغة وأنه يعمل كما يعمل حاذر فينصب المفعول به ، وأنشد :
حذر أمورا لا تضير وآمن ما ليس منجيه من الأقدار
وقد نوزع في ذلك بما هو مذكور في كتب النحو. وعن ابن عباس وابن جبير والضحاك وغيرهم أن الحاذر التام السلاح. وفسروا ما في الآية بذلك ، وكأنه بمعنى صاحب حذر وهي آلة الحرب سميت بذلك مجازا ، وحمل على ذلك

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 82
قوله تعالى : خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء : 71] ، وقرأ سميط بن عجلان وابن أبي عمار وابن السميقع «حادرون» بالألف والدال المهملة من قولهم : عين حدرة أي عظيمة وفلان حادر أي متورم. قال ابن عطية : والمعنى ممتلئون غيظا وأنفة. وقال ابن خالويه : الحادر السمين القوي الشديد والمعنى أقوياء أشداء. ومنه قول الشاعر :
أحب الصبي السوء من أجل أمه وأبغضه من بغضها وهو حادر
وقيل : المعنى تام والسلاح على هذه القراءة أيضا أخذا من الحدارة بمعنى الجسامة والقوة فإن تام السلاح يتقوى به كما يتقوى بأعضائه ، و(جميع) على جميع القراءات والمعاني بمعنى الجمع وليست التي يؤكد بها كما أشرنا إليه ولو كانت هذه المؤكدة لنصبت فَأَخْرَجْناهُمْ أي فرعون وجنوده أي خلقنا فيهم داعية الخروج بهذا السبب الذي تضمنته الآيات الثلاث فحملتهم عليه أو خلقنا خروجهم مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ كانت لهم بحافتي النيل كما روي عن ابن عمر. وغيره وَكُنُوزٍ أي أموال كنزوها وخزنوها تحت الأرض. وخصت بالذكر لأن الأموال الظاهرة أمور لازمة لهم لأنها من ضروريات معاشهم فإخراجهم عنها معلوم بالضرورة. وقيل : لأن أموالهم الظاهرة قد انطمست بالتدمير.
وتعقب بأن الإخراج قبل الانطماس إذ من جملة الأموال الظاهرة الجنات والإخبار عنهم بأنهم أخرجوا منها بعنوان كونها جنات والأصل فيه الحقيقة. وعلى تقدير تسليم أنه بعد يرد أن المدمر ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون وهو مفسر بالقصور والعمارات والجنان فيبقى ما سوى ذلك غير محكوم عليه بالتدمير من الأموال الظاهرة مع أنهم أخرجوا منه أيضا فيحتاج توجيه عدم التعرض له بغير ما ذكر.
وقيل : المراد بالكنوز أموالهم الباطنة والظاهرة وأطلق عليها ذلك لأنها لم ينفق منها في طاعة اللّه تعالى ، ونقل ذلك عن مجاهد والأول أوفق باللغة. وأكثر جهلة أهل مصر يزعمون أن هذه الكنوز في المقطم من أرض مصر وأنها موجودة إلى الآن وقد بذلوا على إخراجها أموالا كثيرة لشياطين المغاربة وغيرهم فلم يظفروا إلا بالتراب أو حجر الكذان ، وقال ابن جبير : المراد بالعيون عيون الذهب وهو خلاف المتبادر ، ومثله ما قاله الضحاك من أن المراد بالكنوز الأنهار وَمَقامٍ كَرِيمٍ هي المساكن الحسان كما قال النقاش ، وعن ابن لهيعة أنها كانت بالفيوم من أرض مصر ، وقيل : مجالس الأمراء والأشراف والحكام التي تحفها الأتباع ، وقيل : الأسرة في الكال ، وحكى الماوردي أنها مرابط الخيل ، وعن ابن عباس ومجاهد والضحاك أنها المنابر للخطباء. وقرأ قتادة والأعرج «ومقام» بضم الميم من أقام كَذلِكَ إما في موضع نصب على أن يكون صفة لمصدر مقدر أي إخراجا مثل ذلك الإخراج أخرجنا ، والإشارة إلى مصدر الفعل أو في موضع جر على أن يكون صفة لمقام أي مقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم ، وعلى الوجهين لا يرد أنه يلزم تشبيه الشيء بنفسه كما زعم أبو حيان لما مر تحقيقه أو في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك ، والمراد تقرير الأمر وتحقيقه. واختار هذا الطيبي فقال : هو أقوى الوجوه ليكون قوله تعالى :
وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ أي ملكناها لهم تمليك الإرث عطفا عليه ، والجملتان معترضتان بين المعطوف عليه وهو فَأَخْرَجْناهُمْ والمعطوف وهو قوله تعالى : فَأَتْبَعُوهُمْ لأن الاتباع عقب الإخراج لا الإيراث.
قال الواحدي : إن اللّه تعالى رد بني إسرائيل إلى مصر بعد ما أغرق فرعون وقومه فأعطاهم جميع ما كان لقوم فرعون من الأموال والعقار والمساكن ، وعلى غير هذا الوجه يكون (أورثنا) عطفا على (أخرجنا) ولا بد من تقدير نحو فأردنا إخراجهم وإيراث بني إسرائيل ديارهم فخرجوا وأتبعوهم انتهى ، ويفهم من كلام بعضهم أن جملة

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 83
أَوْرَثْناها إلخ معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه في جميع الأوجه ، وما ذكر عن الواحدي من أن اللّه تعالى رد بني إسرائيل إلى مصر بعد ما أغرق فرعون وقومه ظاهره وقوع ذلك بعد الغرق من غير تطاول مدة.
وأظهر منه في هذا ما روي عن الحسن قال : كما عبروا البحر ورجعوا وورثوا ديارهم وأموالهم ورأيت في بعض الكتب أنهم رجعوا مع موسى عليه السلام وبقوا معه في مصر عشر سنين ، وقيل : إنه رجع بعضهم بعد إغراق فرعون وهم الذين أورثوا أموال القبط وذهب الباقون مع موسى عليه السلام إلى أرض الشام.
وقيل : إنهم بعد أن جاوزوا البحر ذهبوا إلى الشام ولم يدخلوا مصر في حياة موسى عليه السلام وملكوها زمن سليمان عليه السلام ، والمذكور في التوراة التي بأيدي اليهود اليوم صريح في أنهم بعد أن جاوزوا البحر توجهوا إلى أرض الشام وقد فصلت قصة ذهابهم إليها وأكثر التواريخ على هذا وظواهر كثير من الآيات تقتضي ما ذكره الواحدي واللّه تعالى أعلم ، ومعنى (أتبعوهم) لحقوهم يقال : تبعت القوم فأتبعهم أي تلوتهم فلحقتهم كأن المعنى فجعلتهم تابعين لي بعد ما كنت تابعا لهم مبالغة في اللحوق ، وضمير الفاعل لقوم فرعون والمفعول لبني إسرائيل. وقرأ الحسن «فاتّبعوهم» بوصل الهمزة وشد التاء مُشْرِقِينَ أي داخلين في وقت شروق الشمس أي طلوعها من أشرق زيد دخل في وقت الشروق كأصبح دخل في وقت الصباح وأمسى دخل في وقت المساء ، وقال أبو عبيدة : هو من أشرق توجه نحو الشرق كأنجد توجه نحو نجد وأعرق توجه نحو العراق أي فاتبعوهم متوجهين نحو الشرق. والجمهور على الأول ، وعن السدي أن اللّه تعالى ألقى على القبط الموت ليلة خرج موسى عليه السلام بقومه فمات كل بكر رجل منهم فشغلوا عن طلبهم بدفنهم حتى طلعت الشمس ومثل ذلك في التوراة بزيادة موت أبكار بهائمهم أيضا ، والوصف حال من الفاعل ، وقيل : هو حال من المفعول.
ومعنى مُشْرِقِينَ في ضياء بناء على ما روي أن بني إسرائيل كانوا في ضياء ، وكان فرعون وقومه في ضباب وظلمة تحيروا فيها حتى جاوز بنو إسرائيل البحر ولا يكاد يصح ذلك لقوله تعالى : فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ أي تقاربا بحيث رأى كل واحد منهما الآخر ، نعم ذكر في التوراة ما حاصله أن بني إسرائيل لما خرجوا كان أمامهم نهارا عمود من غمام وليلا عمود من نار ليدلهم ذلك على الطريق فلما طلبهم فرعون ورأوا جنوده خافوا جدا ولاموا موسى عليه السلام في الخروج وقالوا له : أمن عدم القبور بمصر أخرجتنا لنموت في البر أما قلنا لك : دعنا نخدم المصريين فهو خير من موتنا في البر فقال لهم موسى : لا تخافوا وانظروا إغاثة اللّه تعالى لكم ثم أوحى اللّه تعالى إلى موسى أن يضرب بعصاه البحر فتحول عمود الغمام إلى ورائهم وصار بينهم وبين فرعون وجنوده ودخل الليل ولم يتقدم أحد من جنود فرعون طول الليل وشق البحر ثم دخل بنو إسرائيل وليس في هذا ما يصحح أمر الحالية المذكورة فتأمل.
وقرأ الأعمش وابن وثاب «ترا» بغير همز على مذهب التخفيف بين بين ولا يصح تحقيقها بالقلب للزوم ثلاث ألفات متسقة وذلك مما لا يكون أبدا قاله أبو الفضل الرازي ، وقال ابن عطية وقرأ حمزة «تريئي» بكسر الراء وبمد ثم بهمز ، وروي مثله عن عاصم وروي عنه أيضا «تراءى» بالفتح والمد ، وقال أبو جعفر أحمد بن علي الأنصاري في كتابه الإقناع تَراءَا الْجَمْعانِ في الشعراء إذا وقف عليها حمزة والكسائي أمالا الألف المنقلبة عن لام الفعل ، وحمزة يميل ألف تفاعل وصلا ووقفا كإمالة الألف المنقلبة.
وقرىء «فلما تراءت» الفئتان قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ أي لملحقون جاؤوا بالجملة الاسمية مؤكدة بحرفي التأكيد للدلالة على تحقق الإدراك واللحاق وتنجيزهما ، وأرادوا بذلك التحزن وإظهار الشكوى طلبا

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 84
للتدبير. وقرأ الأعرج وعبيد بن عمير «لمدّركون» بفتح الدال مشددة وكسر الراء من الإدراك بمعنى الفناء والاضمحلال يقال : أدرك الشيء إذا فني تتابعا وأصله التتابع وهو ذهاب أحد على أثر آخر ثم صار في عرف اللغة بمعنى الهلاك وأن يفني شيئا فشيئا حتى يذهب جميعه ، وقد جاء التتابع بهذا المعنى في قول الحماسي :
أبعد بني أمي الذين تتابعوا أرجي حياة أم من الموت أجزع
والمعنى إنا لهالكون على أيديهم شيئا فشيئا قالَ موسى عليه السلام ردعا لهم عن ذلك وإرشادا إلى أن تدبير اللّه عز وجل يغني عن تدبيره : كَلَّا لن يدركوكم إِنَّ مَعِي رَبِّي بالحفظ والنصرة سَيَهْدِينِ قريبا إلى ما فيه نجاتكم منهم ونصركم عليهم ، ولم يشركهم عليه السلام في المعية والهداية إخراجا للكلام على حسب ما أشاروا إليه في قولهم : إِنَّا لَمُدْرَكُونَ من طلب التدبير منه عليه السلام ، وقيل : لما كان عليه السلام هو الأصل وغيره تبع له محفوظون منصورون بواسطته وشرفه وكرامته قال : مَعِي دون معنا وكذا قال : سَيَهْدِينِ دون سيهدينا ، وقيل : قال ذلك جزاء لهم على غفلتهم عن قوله تعالى له عليه السلام أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ [القصص : 35] حتى خافوا فقالوا ما قالوا فإن الظاهر أنهم سمعوا ذلك من موسى عليه السلام في مدة بقائهم معه في مصر أو غفلتهم عن عناية اللّه تعالى بهم حين كانوا مع القبط في مصر حيث لم يصبهم ما أصابهم من الدم ونحوه من الآيات المقتضية بواسطة حسن الظن إنجاءهم منهم حين أمروا بالخروج فلحقوهم وكان تأديبه لهم على ذلك بمجرد عدم إشراكهم فيما ذكر لا أنه نفاه عنهم كما يتوهم من تقديم الخبر فإن تقديمه لأجل الاهتمام بأمر المعية التي هي مدار النجاة المطلوبة ، وقيل : للحصر لكن بالنسبة إلى فرعون وجمعه ، وقيل : على القول الثاني في توجيه عدم إشراكهم : إنه للحصر بالنسبة إليهم أيضا على معنى إن معي أولا وبالذات ربي لا معكم كذلك ، وقيل : قدم المعية هنا وأخرت في قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة : 40] لأن المخاطب هنا بنو إسرائيل وهم أغبياء يعرفون اللّه عز وجل بعد النظر والسماع من موسى عليه السلام والمخاطب هناك الصديق رضي اللّه تعالى عنه وهو ممن يرى اللّه تعالى قبل كل شيء ، ولاختلاف المقام نظم نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم صاحبه معه في المعية ولم يقدم له ردعا وزجرا وخاطبه على نحو مخاطبة اللّه تعالى له عليه الصلاة والسلام عند تسليته بما صورته النهي عن الحزن ، وأتى بالاسم الجامع وهو لفظ اللّه دون اسم مشعر بصفة واحدة مثلا ولم يكن كلام موسى عليه السلام ومخاطبته لقومه على هذا الطرز وسبحان من فضل بعض العالمين على بعض.
وزعم بعضهم أن في الكلام حذفا والتقدير إن معي وعد ربي ولذلك قال : مَعِي دون معنا وفيه ما فيه.
فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ هو القلزم على الصحيح ، وقيل : بحر من وراء مصر يقال له أساف ، وقيل : النيل ، والظاهر أن هذا الإيحاء كان بعد القول المذكور ولم يكن مأمورا بالضرب يوم الأمر بالإسراء ،
فقد أخرج ابن عبد الحكم عن مجاهد أنه لما انتهى موسى عليه السلام وبنو إسرائيل إلى البحر قال مؤمن آل فرعون : يا نبي اللّه أين أمرت فإن البحر أمامك وقد غشينا آل فرعون فقال : أمرت بالبحر فاقتحم مؤمن آل فرعون فرسه فرده التيار فجعل موسى عليه السلام لا يدري كيف يصنع وكان اللّه تعالى قد أوحى إلى البحر أن أطع موسى وآية ذلك إذا ضربك بعصاه فأوحى اللّه تعالى إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر.
وأخرج أيضا من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن موسى لما انتهى إلى البحر أقبل يوشع بن نون على فرسه فمشى على الماء واقتحم غيره خيولهم فرسوا في الماء ، وقال أصحاب موسى : إِنَّا لَمُدْرَكُونَ فدعا موسى ربه فغشيتهم ضبابة حالت بينهم وبينه وقيل : له اضرب بعصاك البحر وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 85
عباس أن اللّه تعالى أوحى إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر وأوحى إلى البحر أن اسمع لموسى وأطع إذا ضربك فبات البحر له أفكل أي رعدة لا يدري من أي جوانبه يضربه ، وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن حمزة بن يوسف بن عبد اللّه ابن سلام أن موسى عليه السلام لما انتهى إلى البحر قال : يا من كان قبل كل شيء والمكون لكل شيء والكائن بعد كل شيء اجعل لنا مخرجا فأوحى اللّه تعالى إليه أن اضرب بعصاك البحر.
وروي أنه عليه السلام قال : اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وإليك المستغاث وأنت المستعان ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم
، وفي الدر المنثور من رواية ابن مردويه عن ابن مسعود مرفوعا ما يدل على أنه عليه السلام قال ذلك حين الانفلاق فَانْفَلَقَ أي فضربه فانفلق فالفاء فصيحة ، وزعم ابن عصفور في مثل هذا التركيب أن المحذوف هو ضرب ، وفاء انفلق والفاء الموجودة هي فاء ضرب وهذا أشبه شيء بلغي العصافير وكأنه كان سكران حين قاله ، وفي هذا الحذف إشارة إلى سرعة امتثاله عليه السلام ، وإنما أمر عليه السلام بالضرب فضرب وترتب الانفلاق عليه إعظاما لموسى عليه السلام بجعل هذه الآية العظيمة مترتبة على فعله ولو شاء عز وجل لفلقه بدون ضربه بالعصا ، ويروى أنه لم ينفلق حتى كناه بأبي خالد فقال انفلق أبا خالد : وكان بأمر اللّه تعالى إياه بذلك
، وعن قيس بن عباد أنه عليه السلام حين جاءه قال له : انفلق أبا خالد فقال : لن أنفلق لك يا موسى أنا أقدم منك وأشد خلقا فنودي عند ذلك اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق
، وفي رواية عن ابن مسعود أنه عليه السلام حين انتهى إليه قال : أنفرق فقال له : لقد استكبرت يا موسى وهل انفرقت لأحد من ولد آدم فأوحى اللّه تعالى إليه أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق ، وفي حديث أخرجه الخطيب في المتفق والمفترق عن أبي الدرداء مرفوعا أنه عليه السلام ضربه فتأطط كما يتأطط العرش ثم ضربه الثانية فمثل ذلك ثم ضربه الثالثة فانصدع
وهذا صريح في أن الضرب كان ثلاثا ، وقيل : ضربه مرة واحدة فانفلق ، وقيل : ضربه اثنتي عشرة مرة فانفلق في كل مرة عن مسلك لسبط.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أنه قال : كان البحر ساكنا لا يتحرك فلما كان ليلة ضربه موسى بالعصا صار يمد ويجزر
ولا أظن لهذا صحة ، والظاهر أن المد والجزر كانا قبل أن يخلق اللّه تعالى موسى عليه السلام ولا ينبغي لعاقل اعتقاد غيره ، ومثل هذا عندي كثير من الأخبار السابقة ، والأسلم الاقتصار على ما قص اللّه تعالى من أنه أوحى سبحانه إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ أي كالجبل المنيف الثابت في مقره ، وظاهر الآية أن الطود مطلق الجبل ، وقال في الصحاح : الطود الجبل العظيم.
والمراد بالفرق قطعة من الماء ارتفعت فصار ما تحتها كالسرداب على ما ذكره بعض الأجلة ، وحينئذ لا إشكال في قول من قال : إن الفروق اثنا عشرة والمسالك كذلك بعدة أسباط بني إسرائيل وقد سلك كل سبط منهم في مسلك منها ، والمشهور أن الفرق قطعة انفصلت من الماء عما يقابلها وحينئذ لا يتأتى ذلك القول بل لا بد عليه على ما قيل من كون الفروق ثلاثة عشر حتى يحصل في خلالها اثنا عشر مسلكا بعدد الأسباط ، وقيل : إذا كانت الفروق اثني عشر فلا بد أن تكون المسالك ثلاثة عشر لأن الفرق الأول والثاني عشر لا بد أن يكونا منفصلين عما يحاذيهما من البحر فيكون بين كل منهما وبين ما يحاذيه من البحر مسلك وإن لم يكن كسائر المسالك بين فرقين إذ لو اتصلا لم يمييزا عنه ولم يتحقق حينئذ اثنا عشر فرقا بل أقل ، ولا بعد في أن يختار كون الفروق اثني عشر والمسالك ثلاثة عشر يجعل الفرق الأول والثاني عشر منفصلين عما يحاذيهم من البحر بين كل منهما وبينه مسلك ، ويقال : إن كل سبط من الأسباط الاثني عشر سلك في مسلك وسلك في الثالث عشر من آمن بموسى عليه السلام من القبط انتهى.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 86
وأورد عليه أنه لم يذكر في الآثار أن المسالك ثلاثة عشر وإنما المذكور فيها أنها اثنا عشر ومن ادعى ذلك فعليه البيان ، والأبعد عن القيل والقال ما تقدم عن بعض الأجلة وأثر قدرة اللّه تعالى عليه أعظم ، وخلق الداعية إلى سلوك ذلك في قلوب الداخلين لا سيما قوم فرعون أغرب وكذا الاحتياج إلى الكوى أظهر.
فقد روي أن بني إسرائيل قالوا : نخاف أن يغرق بعضنا ولا نشعر فجعل اللّه تعالى بينهم كوى حتى يرى بعضهم بعضا
، نعم قيل عليه : إن في بعض الآثار ما يأباه ، فقد أخرج أبو العباس محمد بن إسحاق السراج في تاريخه. وابن عبد البر في التمهيد من طريق يوسف بن مهران عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن صاحب الردم كتب إلى معاوية يسأله عن أشياء منها مكان طلعت فيه الشمس لم تطلع قبل ولا بعد فيه فلم يعلم معاوية جواب ذلك فكتب يسأل ابن عباس فأجاب عن كل إلى أن قال : وأما المكان الذي طلعت فيه الشمس لم تطلع قبل ولا بعد فيه فالمكان الذي انفلق من البحر لبني إسرائيل فإن كون الفرق مقببا كالسرداب مانع من طلوع الشمس وشروقها على الأرض من غير واسطة كما هو الظاهر من السؤال.
وأجيب بأنه بعد تسليم صحة الخبر لا إباء لجواز شروق الشمس على أرض الفرق المقبب من غير واسطة من جهة المدخل والمخرج أو شروقها على أرض البحر قبل التقبيب ولم يتعرض المفسرون هنا فيما وقفت عليه لكيفية الانطلاق ، وقد رأيت فيما ينسب إلى كليات أبي البقاء أنه قد ورد أن بني إسرائيل لما دخلوا البحر خرجوا من الجانب الذي دخلوا منه وحينئذ لا يتأتى ذلك على كون الانفلاق خطيا وإنما يتأتى على كونه قوسيا ثم إنه ذكر في عدة الفروق والمسالك كلاما ظاهره الاختلال ، وقد تصدى بعض الفضلاء لشرحه وتوجيهه بما لا يخلو عن تعسف ، وحاصل ما ذكره ذلك البعض مع زيادة ما أنه يحتمل إذا كان انفلاق البحر إلى اثني عشر فرقا أن يكون الفرق الأول والثاني عشر متصلين بالبر الشطي بأن يكون الماء الواقع حذاء كل منهما من جهة البر مرتفعا ومنضما إلى كل ومعدود من أجزائه بحيث يصير الماء المرتفع المنضم والفرق الأصلي المنضم إليه فرقا واحدا متصلا طرفه بالبر من غير فصل بينه وبينه بشيء. وأورد عليه أنه يلزم عليه أن تكون المسالك أحد عشر فيحتاج إلى سلوك سبطين معا أو متعاقبا في مسلك واحد أوسع من سائر المسالك أو مساو له ولا خفاء في أنه خلاف الظاهر والمأثور ، وأيضا يلزم أن يكون كل من الفرقين الأول والثاني عشر أعظم غلظا من كل من البواقي لما سمعت من الانضمام والظاهر تساويها فيه ، وأيضا يلزم خروج الماء الملاصق للبر عما الأصل فيه من غير داع إليه ، ويحتمل أن يكون الماء الواقع حذاء كل من الأول والثاني عشر من جهة البر مرتفعا بمعنى ذاهبا ويكون الفرقان المذكوران متصلين بالبر باعتبار أنهما متصلان بالمسلكين الظاهرين من تحت الماء الذاهب المتصلين بالبر. ويرد عليه بعض ما ورد على سابقه وبقاء سبط من بني إسرائيل أو سبطين بلا حاجب لهم عن فرعون وجنوده من الماء.
ويحتمل أن يكونا منفصلين عن البر بأن يبقى الماء المتصل به على حاله بحرا من غير ارتفاع وحينئذ يحتمل أن تكون المسالك ثلاثة عشر باعتبار انكشاف الأرض بين الفرق الأول والبحر الباقي على حاله المتصل بالبر فيكون هذا المسلك خارج الطود الأول وانكشافها بين الفرق الثاني عشر والبحر الباقي على حالة المتصل بالبر من الجانب الآخر فيكون هذا المسلك خارج الفرق الثاني عشر ، وعلى هذا الاحتمال يلزم تعطل أحد المسالك أو التزام سلوك من آمن من القبط فقط فيه ، ويحتمل أن تكون المسالك اثني عشر كالفروق بأن يكون الانكشاف بين الفرق الأول والبحر الباقي على حالة المتصل بالبر من جهة فرعون وجنوده فقط أو يكون الانكشاف بين الفرق الثاني عشر والبحر الباقي على حاله من الجانب الآخر فقط ، وهذا بعيد لعظم هذا القوس المنكشف جدا وطول زمان قطعه ، فالظاهر وقوع

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 87
احتمال كون الانكشاف بين الفرق الأول والبحر الباقي على حاله من جهة فرعون ، وبالجملة احتمال انفصال الفرقين الأول والأخير وكون الانكشاف بين الأول والبحر مما يلي فرعون دون الأخير والبحر مما يلي الجانب الآخر واتحاد المسالك والفروق في كون كل اثني عشر هو الأقرب للوقوع اه.
ولا يخفى أنه يلزم عليه أن لا يكون جميع المسالك في خلال الفروق فإن لم يتعين القول بكون جميعها فيه إذ ليس في الآثار أكثر من كون المسالك اثني عشر مسلكا فلا بأس به ، وإن استحسنت ما تقدم عن بعض الأجلّة في المراد بالفرق فاعتبره على تقدير كون الانفلاق قوسيا أيضا ، ثم إن ما ذكر من كون الخروج من جهة الدخول لم أره في غير ما ينسب إلى كليات أبي البقاء وهو أوفق بالقول برجوع موسى عليه السلام وقومه إلى مصر بعد الخروج من البحر وإغراق فرعون وجنوده فيه وتوقف ذلك على كون الانفلاق قوسيا لأنه لو كان خطيا يلزم أن يكون الرجوع في طريق الدخول وهو ظاهر البطلان لأن الأعداء في أثرهم ، واحتمال أن تكون المسالك الخطية ثلاثة عشر وأن بني إسرائيل سلكوا اثني عشر منها واتبعهم فيها فرعون وجنوده وخرجوا قبل أن يصلوا إليهم ودخلوا جميعا في المسلك الثالث عشر من الجانب المخالف لجانب دخولهم متوجهين فيه إلى جانب دخولهم فلم يخرجوا حتى صار جميع أعدائهم في تلك المسالك الإثني عشر التي اتبعوهم فيها فخرجوا وغشي أعداءهم من اليم ما غشيهم لا يخفى ما فيه ، والقول بالعود إلى مصر مع القول بأن الانفلاق كان خطيا يتوقف على هذا أو على الانفلاق مرة أخرى أو على العبور بالسفن أو سلوك طريق إلى مصر غير الطريق الذي سلكوه خارجين منها إلى البحر.
والظاهر أنه لم يكن شيء من ذلك ، ولا بأس على ما قيل بالقول بكون الانفلاق قوسيا سواء قلنا بالرجوع إلى مصر أم لا ، وما يقال عليه من أنه يلزم حينئذ أن تكون مداخل تلك المسالك ومخارجها في جانب فرعون وجنوده وذلك مما يوجب خوف بني إسرائيل من الدخول لاحتمال أن يدخل عليهم أعداؤهم من الطرف الآخر الذي هو محل الخروج فيلاقوهم في الطريق على طرف الثمام كما لا يخفى على ذوي الأفهام.
وجوز على القول بأن الانفلاق كان قوسيا أن يكون دخول موسى عليه السلام وقومه من أحد طرفي القوس ودخول فرعون وجنوده من الطرف الآخر ليلاقوا موسى عليه السلام وقومه حتى إذا كمل الجمعان دخولا رجع موسى عليه السلام وقومه القهقرى حتى إذا خرجوا جميعا أغرق اللّه تعالى فرعون وجنوده أو حتى إذا كمل جمع موسى عليه السلام دخولا وبان لهم أول الداخلين لملاقاتهم رجعوا القهقرى حتى إذا خرجوا جميعا وقد كمل جمع فرعون دخولا أهلك اللّه تعالى عدوهم فغشيه من اليم ما غشيه وهو كما ترى.
والذي ذهب إليه أهل الكتاب أن الانفلاق كان خطيا وأن المسالك اثني عشر مسلكا لكل سبط مسلك ولا تقبيب هناك وأنه قد فتحت لهم كوى ليرى القريب قريبه ويرى الرجل من سبط زوجته من سبط آخر وأنهم خرجوا من الجهة المقابلة لجهة دخولهم وتوجهوا إلى أرض الشام ، وليس في كتابنا ما هو نص في تكذيبه بل في الأخبار ما يشهد بصحة بعضه ، واتحاد الفروق والمسالك في العدد يحتاج إلى نقل صحيح يثبته ، والآية هنا لا تدل على أكثر من تعدد الفروق واللّه تعالى أعلم ، وحكى يعقوب عن بعض القراء أنه قرأ «كل فلق» باللام بدل الراء ، قال الراغب : الفرق يقارب الفلق لكن الفلق يقال اعتبارا بالانشقاق والفرق يقال اعتبارا بالانفصال. ومنه الفرقة للجماعة المنفردة من الناس وَأَزْلَفْنا عطف على (أوحينا) ، وقيل : على محذوف يقتضيه السياق والتقدير فأدخلنا بني إسرائيل فيما انفلق من البحر وأزلفنا ثَمَّ أي هنالك الْآخَرِينَ أي فرعون وجنوده أي قربناهم من قوم موسى عليه السلام حتى دخلوا

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 88
على أثرهم مداخلهم ، وجوز أن يراد قربنا بعضهم من بعض وجمعناهم لئلا ينجو منهم أحد.
أخرج ابن عبد الحكم عن مجاهد قال : كان جبريل عليه السلام بين الناس بين بني إسرائيل وبين آل فرعون فجعل يقول لبني إسرائيل : ليلحق آخركم بأولكم ويستقبل آل فرعون فيقول : رويدكم ليلحقكم آخركم فقالت بنو إسرائيل : ما رأينا سائقا أحسن سياقا من هذا وقال آل فرعون : ما رأينا وازعا أحسن زعة من هذا
، وقرأ الحسن وأبو حيوة «وزلفنا» بدون همزة ، وقرأ أبي وابن عباس وعبد اللّه بن الحارث «وأزلقنا» بالقاف عوض الفاء أي أزلقنا أقدامهم ، والمعنى أذهبنا عزهم كقوله :
تداركتما عبسا وقد ثل عرشها وذبيان إذ زلت بأقدامها النعل
ويحتمل أن يجعل اللّه تعالى طريقهم في البحر على خلاف ما جعله لبني إسرائيل يبسا فيزلقهم فيه. هذا وقال صاحب اللوامح : قيل من قرأ بالقاف أراد بالآخرين فرعون وقومه ومن قرأ بالفاء أراد بهم موسى عليه السلام وأصحابه أي جمعنا شملهم وقربناهم بالنجاة. ولا يخفى أنه يبعد إرادة موسى عليه السلام وأصحابه من الآخرين قوله سبحانه :
وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ أي وأنجيناهم من الهلاك في أيدي أعدائهم ومن الغرق في البحر بحفظه على تلك الهيئة إلى أن خرجوا إلى البر ، وقيل : وَمَنْ مَعَهُ للإشارة إلى أن إنجاءهم كان ببركة مصاحبة موسى عليه السلام ومتابعته ، وقيل : لينتظم من آمن به عليه السلام من القبط إذ لو قيل وقومه لتبادر منه بنو إسرائيل وفيه بحث ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ فرعون وجنوده بإطباق البحر عليهم بعد خروج موسى عليه السلام ومن معه وكان له وجبة.
روي عن ابن عباس أن بني إسرائيل لما خرجوا سمعوا وجبة البحر فقالوا : ما هذا؟ فقال موسى عليه السلام : غرق فرعون وأصحابه فرجعوا ينظرون فألقاهم البحر على الساحل
:
والتعبير عن فرعون وجنوده بالآخرين للتحقير ، والظاهر أن ثُمَّ للتراخي الزماني ، ولعل الأولى حملها على التراخي المعنوي لما بين المعطوفين من المباعدة المعنوية إِنَّ فِي ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من القصة ، وما فيه من معنى البعد لتعظيم شأن المشار إليه وقيل : لبعد المسافة بالنظر إلى مبدأ القصة لَآيَةً أي لآية عظيمة توجب الإيمان بموسى عليه السلام وتصديقه بما جاء به ، وأريد بها على ما قيل انقلاب العصا ثعبانا وخروج يده عليه السلام بيضاء للناظرين وانفلاق البحر وأفردت لاتحاد المدلول.
وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي أكثر قوم فرعون الذين أمر موسى عليه السلام أن يأتيهم وهم القبط على ما استظهره أبو حيان حيث لم يؤمن منهم سوى مؤمن آل فرعون. وآسية امرأة فرعون ، وبعض السحرة على القول بأن بعضهم من القبط لا كلهم كما عليه أهل الكتاب وهو الذي يقتضيه ظاهر كلام بعض منا. والعجوز التي دلت موسى على قبر يوسف عليهما السلام ليلة الخروج من مصر ليحمل عظامه معه ، وقيل : المراد بالآية ما كان في البحر من إنجاء موسى عليه السلام ومن معه وإغراق الآخرين ، وضمير أَكْثَرُهُمْ للناس الموجودين بعد الإغراق والإنجاء من قوم فرعون الذين لم يخرجوا معه لعذر ومن بني إسرائيل ، والمراد بالإيمان المنفي عنهم التصديق اليقيني الجازم الذي لا يقبل الزوال أصلا أي وما كان أكثر الناس الموجودين بعد تحقق هذه الآية العظيمة وظهورها مصدقين تصديقا يقينيا جازما لا يقبل الزوال فإن الباقين في مصر من القبط لم يؤمن أحد منهم مطلقا وأكثر بني إسرائيل كانوا غير متيقنين ولذا سألوا بقرة يعبدونها وعبدوا العجل فلا يقال لهم مؤمنون بالمعنى المذكور ، ويكفي في إيمان البعض الذي يدل عليه المفهوم كون البعض المؤمن من بني إسرائيل وحيث كان المراد وما كان أكثرهم بعد تحقق آيتي الإغراق والإنجاء وظهورهما مؤمنين لا يصح جعل الضمير للقبط إلا ببيان الأقل المؤمن والأكثر الكافر منهم بعد تحقق الآيتين ، وما ذكر في بيان الأقل المؤمن منهم ليس كذلك إذ إيمان من ذكر
كان في ابتداء الرسالة على أن العجوز من بني إسرائيل كما

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 89
جاء في حديث أخرجه الفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن أبي موسى مرفوعا بل أخرج ابن عبد الحكم من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما «1»
أنها شارح ابنة أشير بن يعقوب عليه السلام فهي بنت أخي يوسف عليه السلام فتكون أقرب من موسى عليه السلام إلى إسرائيل.
وأجيب بأن من يرجع الضمير على القبط لا يلزمه أن يفسر الآية بالإغراق والإنجاء بل يقول : المراد بها المعجزات من العصا واليد وانفلاق البحر ويقول : إن إيمان الأقل بعد تحقق بعضها كاف لاتحاد مدلولها في تحقق المفهوم ، وأما إرجاع الضمير على الناس الموجودين بعد الإغراق والإنجاء من بني إسرائيل وقوم فرعون الذين لم يخرجوا معه فخلاف الظاهر وكذا حمل الإيمان على ما ذكر وجعل أكثر بني إسرائيل المخصوصين بالإنجاء غير مؤمنين وإن حصل منهم عند وقوع بعض الآيات ما لا ينبغي صدوره من المؤمنين فإنهم لم يستمروا عليه.
فقد أخرج الخطيب في المتفق والمفترق عن أبي الدرداء جعل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يصفق بيديه ويعجب من بني إسرائيل وتعنتهم لما حضروا البحر وحضر عدوهم جاؤوا موسى عليه السلام فقالوا : قد حضرنا العدو فماذا أمرت قال : إن أنزل هاهنا فإما أن يفتح لي ربي ويهزمهم وإما أن يفرق لي هذا البحر فانطلق نفر منهم حتى وقعوا في البحر فأوحى اللّه تعالى إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فضربه فتأطط كما يتأطط العرش ثم ضربه الثانية فمثل ذلك ثم ضربه الثالثة فانصدع فقالوا هذا عن غير سلطان موسى فجازوا البحر فلم يسمع بقوم أعظم ذنبا ولا أسرع توبة منهم.
ومتى حمل الإيمان على ما ذكر وصح نفي الإيمان عمن صدر منه ما يدل على عدم رسوخه جاز إرجاع الضمير على بني إسرائيل خاصة فإن أكثرهم لم يكونوا راسخين فيه. وظاهر عبارة بعضهم يوهم إرجاعه إليهم وليس ذاك بشيء ، وقد سلك شيخ الإسلام في تفسير الآية مسلكا تفرد في سلوكه فيما أظن فقال : إن في ذلك أي في جميع ما فصل مما صدر عن موسى عليه السلام وظهر على يديه من المعجزات القاهرة ومما فعل فرعون وقومه من الأقوال والأفعال وما فعل بهم من العذاب والنكال لآية أي آية وآية عظيمة لا تكاد توصف موجبة لأن يعتبر بها المعتبرون ويقيسوا شأن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بشأن موسى عليه السلام وحال أنفسهم بحال أولئك المهلكين ويجتنبوا تعاطي ما كانوا يتعاطونه من الكفر والمعاصي ومخالفة الرسول ويؤمنوا باللّه تعالى ويطيعوا رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم كيلا يحل بهم ما حل بأولئك أو إن فيما فصل في القصة من حيث حكايته عليه السلام إياها على ما هي عليه من غير أن يسمعها من أحد لآية عظيمة دالة على أن ذلك بطريق الوحي الصادق موجبة للإيمان باللّه تعالى وحده وطاعة رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم وما كان أكثرهم أي أكثر هؤلاء الذين سمعوا قصتهم منه عليه الصلاة والسلام مؤمنين لا بأن يقيسوا شأنه صلّى اللّه عليه وسلّم بشأن موسى عليه السلام وحال أنفسهم بحال أولئك المكذبين المهلكين ولا بأن يتدبروا في حكايته عليه الصلاة والسلام لقصتهم من غير أن يسمعها من أحد مع كون كل من الطريقين مما يؤدي إلى الإيمان قطعا ، ومعنى ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ما أكثرهم مؤمنين على أن كانَ زائدة كما هو رأي سيبويه فيكون كقوله تعالى : وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف :
103] وهو إخبار منه تعالى بما سيكون من المشركين بعد سماع الآيات الناطقة بالقصة تقريرا لما مر من قوله تعالى :
ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا [الشعراء : 5] إلخ ، وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على استقرارهم على عدم الإيمان واستمرارهم عليه.
ويجوز أن تجعل كانَ بمعنى صار كما في قوله تعالى : وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ [البقرة : 34 ، ص : 74]
___________
(1) وذكر بعضهم أن اسم هذه العجوز مريم بنت ياموشا ا ه منه.

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 90
فالمعنى وما صار أكثرهم مؤمنين مع ما سمعوا من الآية العظيمة الموجبة للإيمان بما ذكر من الطريقين فيكون الإخبار بعدم الصيرورة قبل الحدوث للدلالة على كمال تحققه وتقرره كقوله تعالى : أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل : 1] وادعى إن هذا التفسير هو الذي تقتضيه جزالة النظم الكريم من مطلع السورة الكريمة إلى آخر القصص السبع بل إلى آخر السورة الكريمة اقتضاء بينا. ثم قال : وأما ما قيل من أن ضمير أَكْثَرُهُمْ لأهل عصر فرعون من القبط وغيرهم وأن المعنى وما كان أكثر أهل مصر مؤمنين حيث لم يؤمن منهم إلا آسية ومؤمن آل فرعون والعجوز التي دلت على قبر يوسف عليه السلام وبنو إسرائيل بعد ما نجوا سألوا بقرة يعبدونها واتخذوا العجل وقالوا : لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة : 55] فبمعزل عن التحقيق كيف لا ومساق كل قصة من القصص الواردة في السورة الكريمة سوى قصة إبراهيم عليه السلام إنما هو لبيان حال طائفة معينة قد عتوا عن أمر ربهم وعصوا رسله كما يفصح عنه تصدير القصص بتكذيبهم المرسلين بعد ما شاهدا ما بأيديهم من الآيات العظام ما يوجب عليهم الإيمان ويزجرهم عن الكفر والعصيان وأصروا على ما هم عليه من التكذيب فعاقبهم اللّه تعالى لذلك بالعقوبة الدنيوية وقطع دابرهم بالكلية فكيف يمكن أن يخبر عنهم بعدم إيمان أكثرهم لا سيما بعد الإخبار بهلاكهم وعد المؤمنين من جملتهم أولا وإخراجهم منها آخرا مع عدم مشاركتهم لهم في شيء مما حكى عنهم من الجنايات أصلا مما يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله. ورجوع ضمير أَكْثَرُهُمْ في قصة إبراهيم عليه السلام إلى قومه مما لا سبيل إليه أيضا أصلا لظهور أنهم ما ازدادوا بما سمعوه منه إلا طغيانا وكفرا حتى اجترءوا على تلك العظيمة التي فعلوها به فكيف يعبر عنهم بعدم إيمان أكثرهم وإنما آمن له لوط فنجاهما اللّه تعالى إلى الشام فتدبر اه.
وتعقب بأن فيها محذورا من عدة أوجه. أما أولا فلأن حمل كان على الصلة مع ظهور الوجه الصحيح غير صحيح وقد لزم هنا بعد هذا حمل الجملة الاسمية باعتبار الاستمرار على أنهم لا يكونون بعد نزول هذه الآية مؤمنين.
وإن جعل بمعنى صار يلزم جعله مضارعا لكن عدل عنه للدلالة على كمال التحقق. وهذا أيضا مع إمكان المعنى العاري عن الاحتياج لذلك غير مناسب ، وأما ثانيا فلأن إرجاع ضمير أَكْثَرُهُمْ إلى قوم نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم صرف عن مرجعه المتقدم المذكور لفظا سيما في القصص الآتية المصدرة بكذبت ، وأما ثالثا فلأن قوله : لا بأن يقيسوا شأنه عليه الصلاة والسلام بشأن موسى عليه السلام إلخ لا يخلو عن صعوبة إذ الأمر المشترك بينهما عليهما الصلاة والسلام ليس إلا أن كلا منهما نبي مؤيد بالمعجزات مطلقا وأما إن نظر إلى خصوصيات المعجزات فلا يخفى أنه لا مشاركة بينهما. وكذا قياس حالهم على حال فرعون وقومه لا يخلو عنها على هذا القياس وأما رابعا فلأن قوله تعالى : إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً إلخ قد ذكر على هذا النسق في سبعة مواضع ولا بد من تنسيق تفسيره على نظام واحد فيها مهما أمكن. ومن جملة ذلك ما في قصة نبي اللّه تعالى لوط عليه السلام وقد ذكر فيها من حال قومه فعلهم الشنيع المعهود ثم إهلاك جميعهم. وما في قصة نبي اللّه تعالى شعيب عليه السلام وقد ذكر فيها من حال أصحاب الأيكة عملهم المتعلق بالكيل والوزن ثم إهلاك جميعهم من غير تصريح بحيثية كفر كل قوم فلا يناسب فيهما أن يقال : إن في ذلك لآية موجبة لإيمان قريش بأن يقيسوا حال أنفسهم بحال أولئك المهلكين ويجتنبوا تعاطي ما كانوا يتعاطون من المعاصي هذا على الطريق الأول وأما الطريق الثاني ففيه أيضا عدة محذورات.
أما أولا وثانيا فلما ذكر أولا وثانيا ، وأما ثالثا فلأن كلا من كلتا القصتين ذكر هنا على وجه الإجمال وذكر مفصلا في سورة أخرى وكل منهما ذكر محدث بحسب نزوله فلا وجاهة في أن يقال : وما أكثرهم مؤمنين بك بأن يتدبروا في حكايتك لقصتهم من غير أن تسمعها من أحد بناء على أنهم قد سمعوها منه عليه الصلاة والسلام مفصلة

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 91
قبل نزول هذه الآية مع أن كون حكايته صلى اللّه تعالى عليه وسلم ذلك من غير أن يسمعه من أحد مما يؤدي إلى إيمانهم قطعا محل تردد ، وأما رابعا فلأن آخر هذه القصة قوله تعالى : وَأَنْجَيْنا. ثُمَّ أَغْرَقْنَا وكذا آخر قصة لوط عليه السلام قوله تعالى : فَنَجَّيْناهُ [الشعراء : 170] ثُمَّ دَمَّرْنَا [الشعراء : 172] وأَمْطَرْنا [الشعراء :
173] فالمتبادر أن تكون الإشارة إلى نفس المحكي المشتمل على الأفعال العجيبة الإلهية لا إلى حكايتها. وأما ما قاله في تزييف ما قيل فليس بشيء أيضا لأن نسبة التكذيب إلى كل قوم من الأقوام الذين نسب إليهم إنما هي باعتبار الأكثر كما يرشد إليه قوله تعالى في قصة قوم نوح عليه السلام حكاية عنهم بعد أن قال سبحانه : كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء : 105] قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء : 111] وقوله عز وجل بعد ذلك حكاية عن نوح عليه السلام ما قال في جوابهم وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء : 114] فيكون ضمير أَكْثَرُهُمْ راجعا إلى القوم غير ملاحظ فيهم ذلك. ومثله كثير في الكلام ويراد بالأكثر في المواضع السبعة جمع موصوفون بزيادة الكثرة سواء كان البعض المؤمن واحدا أو أكثر فلا يرد أنه كيف يعبر عن قوم إبراهيم عليه السلام بعدم إيمان أكثرهم وإنما آمن له لوط عليه السلام فتأمل انتهى ، ولا يخفى ما فيه من الغث والسمين.
وأنا أختار كما اختار شيخ الإسلام رجوع الضمير إلى قوم نبينا عليه الصلاة والسلام وأول السورة الكريمة وآخرها في الحديث عنهم وتسليته صلّى اللّه عليه وسلّم عما قالوه في شأن كتابه الأكرم ونهيه صريحا وإشارة عن أن يذهب بنفسه الشريفة عليهم حسرات وكل ذلك يقتضي اقتضاء لا ريب فيه رجوع الضمير إلى قومه عليه الصلاة والسلام ويهون أمر عدم رجوعه إلى الأقرب لفظا ويكون الارتباط على هذا بين الآيات أقوى.
وأختار أن الإشارة إلى ما تضمنته القصة وأن المعنى أن فيما تضمنته هذه القصة لآية عظيمة دالة على ما يجب على قومك الإيمان به من شؤونه عز وجل وما كان أكثرهم مؤمنين بذلك وكذا يقال في جميع ما يأتي إن شاء اللّه تعالى وكل ذلك على نمط ما تقدم. وكذا الكلام في كانَ وما يتعلق بالجملة.
والكلام في قوله تعالى : وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كالكلام فيما تقدم أيضا ، ولعل تخريج ما ذكر على هذا الوجه أحسن من تخريج شيخ الإسلام فتأمل واللّه تعالى أعلم بحقائق ما أنزل من الكلام.
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ عطف على المضمر العامل في إِذْ نادى إلخ أي اذكر ذلك لقومك واتل عليهم نَبَأَ إِبْراهِيمَ أي خبره العظيم الشأن حسبما أوحى إليك ليتأكد عندك لعدم تأثرهم بما فيه العلم بشدة عنادهم. وتغيير الأسلوب لمزيد الاعتناء بأمر هذه القصة لأن عدم الإيمان بعد وقوفهم على ما تضمنته أقوى دليل على شدة شكيمتهم لما أن إبراهيم عليه السلام جدهم الذي يفتخرون بالانتساب إليه والتأسي به عليه السلام إِذْ قالَ منصوب على الظرفية لنبأ على ما ذهب إليه أبو البقاء أي نبأه وقت قوله لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ أو على المفعولية لأتل على أنه بدل من نبأ على ما يقتضيه كلام الحوفي أي اتل عليهم وقت قوله لهم ما تَعْبُدُونَ على أن المتلو ما قاله عليه السلام لهم في ذلك الوقت. وضمير قَوْمِهِ عائد على إبراهيم ، وقيل : عائد على أبيه ليوافق قوله تعالى : إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنعام : 74] ويلزم عليه التفكيك.
وسألهم عليه السلام عما يعبدون ليبني على جوابهم أن ما يعبدونه بمعزل عن استحقاق العبادة بالكلية لا للاستعلام إذ ذلك معلوم مشاهد له عليه السلام قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ لم يقتصروا على الجواب الكافي بأن يقولوا أصناما كما في قوله تعالى : ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً [النحل : 30] ويَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ

روح المعاني ، ج 10 ، ص : 92
قُلِ الْعَفْوَ
[البقرة : 219] إلى غير ذلك بل أطنبوا فيه بإظهار الفعل وعطف دوام عكوفهم على أصنامهم مع أنه لم يسأل عنه قصدا إلى إبراز ما في نفوسهم الخبيثة من الابتهاج والافتخار بذلك. وهو على ما في الكشف من الأسلوب الأحمق ، والمراد بالظلول الدوام كما في قولهم : لو ظل الظلم هلك الناس. وتكون ظل على هذا تامة. وقد قال بمجيئها كذلك ابن مالك وأنكره بعض النحاة ، وقيل : فعل الشيء نهارا فقد كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل فتكون ظل على هذا ناقصة دالة على ثبوت خبرها لاسمها في النهار.
واختار بعض الأجلة الأول لتبادر الدوام وكونه أبلغ مناسبا لمقام الابتهاج والافتخار ، واختار الزمخشري الثاني لأنه أصل المعنى وهو مناسب للمقام أيضا لأنه يدل على إعلانهم الفعل لافتخارهم به. وعاكِفِينَ على الأول حال وعلى الثاني خبر والجار متعلق به. وإيراد اللام دون على لإفادة معنى زائد كأنهم قالوا : نظل لأجلها مقبلين على عبادتها أو مستديرين حولها. وهذا أيضا على ما قيل من جملة إطنابهم قالَ استئناف مبني على سؤال نشأ من تفصيل جوابهم هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ دخل فعل السماع على غير مسموع ، ومذهب الفارسي أنه حينئذ يتعدى إلى اثنين ولا بد أن يكون الثاني مما يدل على صوت فالكاف هنا عنده مفعول أول والمفعول الثاني محذوف والتقدير هل يسمعونكم تدعون وحذف لدلالة قوله تعالى : إِذْ تَدْعُونَ عليه. ومذهب غيره أنه حينئذ متعد إلى واحد ، وإذا وقعت بعده جملة ملفوظة أو مقدرة فهي في موضع الحال منه إن كان معرفة وفي موضع الصفة له إن كان نكرة.
وجوز فيها البدلية أيضا. وإذا دخل على مسموع تعدى إلى واحد اتفاقا ، ويجوز أن يكون ما هنا داخلا على ذلك على أن التقدير هل يسمعون دعاءكم فحذف المضاف لدلالة إِذْ تَدْعُونَ أيضا عليه ، وقيل : السماع هنا بمعنى الإجابة كما في
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «اللهم إني أعوذ بك من دعاء لا يسمع»
ومنه قوله عز وجل : إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ [آل عمران : 38] أي هل يجيبونكم وحينئذ لا نزاع في أنه متعد لواحد ولا يحتاج إلى تقدير مضاف. والأولى إبقاؤه على ظاهر معناه فإنه أنسب بالمقام ، نعم ربما يقال : إن ما قيل أوفق بقراءة قتادة ويحيى بن يعمر «يسمعونكم» بضم الياء وكسر الميم من أسمع والمفعول الثاني محذوف تقديره الجواب. وإِذْ ظرف لما مضى وجيء بالمضارع لاستحضار الحال الماضية وحكايتها. وأما كون هل تخلص المضارع لاستقبال فلا يضر هنا لأن المعتبر زمان الحكم لا زمان التكلم وهو هنا كذلك لأن السماع بعد الدعاء ، وقال أبو حيان : لا بد من التجوز في إِذْ بأن تجعل بمعنى إذا أو التجوز في المضارع بأن يجعل بمعنى الماضي. واعتبار الاستحضار أبلغ في التبكيت وقرىء بإدغام ذال إِذْ في تاء تَدْعُونَ وذلك بقلبها تاء وإدغامها في التاء.
أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ بسبب عبادتكم لهم أَوْ يَضُرُّونَ أي يضرونكم بترككم لعبادتهم إذ لا بد للعبادة لا سيما عند كونها على ما وصفتم من المبالغة فيها من جلب نفع أو دفع ضر. وترك المفعول للفاصلة. ويدل عليه ما قبله ، وقيل : المراد أو يضرون من أعرض عن عبادتهم كائنا من كان وهو خلاف الظاهر الذي يقتضيه العطف.
قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ أضربوا عن أن يكون لهم سمع أو نفع أو ضر اعترافا بما لا سبيل لهم إلى إنكاره واضطروا إلى إظهار أن لا سند لهم سوى التقليد فكأنهم قالوا لا يسمعون ولا ينفعوننا ولا يضرون وإنما وجدنا آباءنا يفعلون مثل فعلنا ويعبدونهم مثل عبادتنا فاقتدينا بهم. وتقديم المفعول المطلق للفاصلة.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 75 إلى 141]
قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79)
وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)
وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94)
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99)
فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114)
إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119)
ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)
وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134)
إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مقدمة ابن الصلاح تقي الدين عثمان بن عبدالرحمن المعروف بابن الصلاح

     مقدمة ابن الصلاح  تقي الدين عثمان بن عبدالرحمن المعروف بابن الصلاح  يعد هذا الكتاب أشهر كتاب في علم مصطلح الحديث على الإطلاق ذكر في...