الدعاء

اللهم فكما ألهمت بإنشائه وأعنت على إنهائه فاجعله نافعاً في الدنيا وذخيرة صالحة في الأخرى واختم بالسعادة آجالنا وحقق بالزيادة آمالنا واقرن بالعافية غدونا وآصالنا واجعل إلى حصنك مصيرنا ومآلنا وتقبل بفضلك أعمالنا إنك مجيب الدعوات ومفيض الخيرات والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين اللهم لنا جميعا يا رب العالمين .وسبحان الله وبحمده  عدد خلقه وزنة عرشه  ورضا نفسه ومداد كلماته  } أقولها ما حييت وبعد موتي  والي يوم الحساب وارحم  واغفر اللهم لوالديَّ ومن مات من اخوتي واهلي والمؤمنين منذ خَلَقْتَ الخلق الي يوم الحساب آمين وفرِّجِ كربي وردَّ اليَّ عافيتي وارضي عني في الدارين  واعِنِّي علي أن اُنْفِقها في سبيلك يا ربي اللهم فرِّج كربي واكفني همي واكشف البأساء والضراء عني وعنا.. وردَّ إليَّ عافيتي وثبتني علي دينك الحق ولا تُزِغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب اللهم وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وتوفنا مع الأبرار وألِّفْ بين قلوبنا اجمعين.يا عزيز يا غفار ... اللهم واشفني شفاءاً لا يُغَادر سقما واعفو عني وعافني وارحمني وفرج كربي واكفني همي واعتقني مما أصابني من مكروه أنت تعلمه واعتقني من النار وقني عذاب القبر وعذاب جهنم وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال ومن المأثم والمغرم ومن غلبة الدين وقهر الرجال اللهم آمين /اللهم ربي اشرح لي صدري ويسر لي أمري وأحلل عُقَد لساني واغنني بك عمن سواك يارب . والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين آمين.

الاثنين، 29 أغسطس 2022

ج15.و16.روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ( نسخة محققة ) شهاب الدين محمود ابن عبد الله الحسيني الآلوسي

 

15. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ( نسخة محققة ) شهاب الدين محمود ابن عبد الله الحسيني الآلوسي

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 91
وادعى بعضهم اتحاد التسيير في البر والبحر واستدل بالآية على أن أفعال العباد مخلوقة للّه تعالى. وتعقب بأنه تكلف. والزمخشري لم يؤول التسيير بما ذكرنا وجعل الغاية مضمون الجملة الشرطية الواقعة بعد حتى بما في حيزها كأنه قيل : يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة وكان كيت وكيت من مجيء الريح العاصف وتراكم الأمواج والظن للهلاك والدعاء بالإنجاء دون الكون في البحر ، وتعقب ذلك القطب بأنه لو جعل الكون في الفلك مع ما عطف عليه من قوله تعالى : وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها كفى ولم يحتج إلى اعتبار مجموع الشرط والجزاء ، ثم قال :
والتحقيق أن الغاية إن فسرت بما ينتهي إليه الشيء بالذات فهي ليس إلا ما وقع شرطا في مثل ذلك وإن فسرت بما ينتهي إليه الشيء مطلقا سواء كان بالذات أو بالواسطة فهي مجموع الشرط والجزاء ، واستوضح ذلك من قولك : مشيت حتى إذا بلغت البلد اتجرت فإن ما انتهى إليه المشي بالذات الوصول إلى البلد وأما الاتجار فأمر مترتب على ذلك فيكون مما انتهى إليه المشي بالواسطة والتضعيف في يسير للتعدية تقول سار الرجل وسيرته ، وقال الفارسي : إن سار متعد كسير لأن العرب تقول سرت الرجل وسيرته بمعنى ، ومنه قول الهذلي :
فلا تجزعي من سنة أنت سرتها فأول راض سنة من يسيرها
وقال في الصحاح : سارت الدابة وسارها صاحبها يتعدى ولا يتعدى وأنشد له هذا البيت ، وأوله النحويون حيث لم يرتضوا ذلك ، والْفُلْكِ السفن ومفرده وجمعه واحد وتغاير الحركات بينهما اعتباري ، وفي الصحاح أنه واحد وجمع يذكر ويؤنث وكأن ذلك باعتبار المركب والسفينة. وكان سيبويه يقول : الفلك التي هي جمع تكسير للفلك الذي هو واحد وليست مثل الجنب الذي هو واحد وجمع والطفل وما أشبههما من الأسماء لأن فعلا وفعلا يشتركان في الشيء الواحد مثل العرب والعرب والعجم والعجم والرهب والرهب فحيث جاز أن يجمع فعل على فعل مثل أسد وأسد لم يمتنع أن يجمع فعل على فعل ، وضمير جَرَيْنَ للفلك وضمير بِهِمْ لمن فيها وهو التفات للمبالغة في تقبيح حالهم كأنه أعرض عن خطابهم وحكى لغيرهم سوء صنيعهم ، وقيل : لا التفات بل معنى قوله سبحانه : حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ حتى إذا كان بعضكم فيها إذ الخطاب للكل ومنهم المسيرون في البر فالضمير الغائب عائد إلى ذلك المضاف المقدر كما في قوله تعالى : أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ [النور : 40] فإنه في تقدير أو كذي ظلمات يغشاه موج ، والباء الأولى للتعدية والثانية وكذا الثالثة للسببية فلذا تعلق الحرفان بمتعلق واحد ، وإلا فقد منعوا تعلق حرفين بمعنى بمتعلق واحد ، واعتبار تعلق الثاني بعد تعلق الأول به وملاحظته معه يزيل اتحاد المتعلق.
وجوز أن تكون الثانية للحال أي جرين بهم ملتبسة بريح فتتعلق بمحذوف كما في البحر ، وقد تجعل الأولى للملابسة أيضا وَفَرِحُوا عطف على جَرَيْنَ وهو عطف على كُنْتُمْ وقد تجعل حالا بتقدير قد وضمير بِها للريح ونقل الطبرسي القول برجوعه للفلك ولا يكاد يجري به القلم ، والمراد بطيبة حسبما يقتضيه المقام لينة الهبوب موافقة المقصد.
وظاهر الآية - على ما نقل عن الإمام - يقتضي أن راكب السفينة متحرك بحركتها خلافا لمن قال : إنه ساكن ، ولا وجه كما قال بعض المحققين لهذا الخلاف فإنه ساكن بالذات سائر بالواسطة. وقرأ ابن عامر «ينشركم» بالنون والشين المعجمة والراء المهملة من النشر ضد الطي أي يفرقكم ويبثكم ، وقرأ الحسن «ينشركم» من أنشر بمعنى أحيا.
وقرأ بعض الشاميين «ينشّركم» بالتشديد للتكثير من النشر أيضا ، وعن أم الدرداء أنها قرأت «في الفلكي» بزيادة ياءي النسب ، ووجه ذلك بأنهما زائدتان كما في الخارجي والأحمري ولا اختصاص لذلك في الصفات لمجيء دودوي

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 92
وأنا الصلتاني في قول الصلتان ، ويجوز أن يراد به اللج والماء الغمر الذي لا تجري الفلك إلا فيه ، وقوله سبحانه :
جاءَتْها جواب إِذا والضمير المنصوب للفلك أو للريح الطيبة على معنى تلقتها واستولت عليها من طرف مخالف لها فإن الهبوب على وفقها لا يسمى على ما قيل مجيئا لريح أخرى عادة بل هو اشتداد للريح الأولى ، ورجح الثاني بأنه الأظهر لاستلزامه للأول من غير عكس لأن الهبوب على طريقة الريح اللينة بعد مجيئا بالنسبة إلى الفلك دون الريح اللينة مع أنه لا يستتبع تلاطم الأمواج الموجب لمجيئها من كل مكان ولأن التهويل في بيان استيلائها على ما فرحوا به وعلقوا به حبال رجائهم أكثر وفيه تأمل رِيحٌ عاصِفٌ أي ذات عصف فهو من باب النسب كلابن وتامر ، ويستوي فيه المذكر والمؤنث كما صرحوا به فلذا لم يقل عاصفة مع أن الريح مؤنثة لا تذكر بدون تأويل.
وقيل : لم يقل عاصفة لأن العصوف مختص بالريح فهو كحائض فلا حاجة إلى الفارق أو أنه اعتبر التذكير في الريح كما اعتبر فيها التأنيث والأولى ما قدمناه ، وأصل العصف الكسر والنبات المتكسر والمراد شديدة الهبوب وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ وهو ما علا وارتفع من اضطراب الماء ، وقيل : هو اضطراب البحر والأول هو المشهور من كلّ الموج وهو ما علا وارتفع من اضطراب الماء ، وقيل : هو اضطراب البحر والأول هو المشهور مِنْ كُلِّ مَكانٍ أي من أمكنة مجيء الموج عادة وقد يتفق مجيئه من جهات حسب أسباب تتفق لذلك وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ أي أهلكوا كما رواه ابن المنذر عن ابن جريج ، ففي الكلام استعارة تبعية ، وقيل : إن الإحاطة استعارة لسد مسالك الخلاص تشبيها له بإحاطة العدو بإنسان ثم كني بتلك الاستعارة عن الهلاك لكونها من روادفها ولوازمها.
وقيل : إن ذلك مثل في الهلاك ، والظن على ما يتبادر منه ، وجوز أن يكون بمعنى اليقين بناء على تحقق وقوعه في اعتقادهم أو كون الكناية عن القرب من الهلاك دَعَوُا اللَّهَ جعله غير واحد بدل اشتمال من ظنوا لأن دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك فبينهما ملابسة تصحح البدلية ، وقيل : هو جواب ما اشتمل عليه المعنى من معنى الشرط أي لما ظنوا أنهم أحيط بهم دعوا اللّه إلخ.
وجعله أبو حيان استئنافا بيانيا كأنه قيل : فماذا كان حالهم إذ ذاك؟ فقيل : دعوا إلخ ، ورجح القول بالبدل عليه بأنه أدخل في اتصال الكلام. والدلالة عن كونه المقصود مع إفادته ما يستفاد من الاستئناف مع الاستغناء عن تقدير السؤال وأنت تعلم أن تقدير السؤال ليس تقديرا حقيقيا بل أمر اعتباري وفيه من الإيجاز ما فيه وليس بأبعد مما تكلف للبدلية ، ويشعر كلام بعضهم جواز كونه جواب الشرط ، وجاءَتْها في موضع الحال كقوله تعالى : فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ [العنكبوت : 65] الآية ، وتعقب بأن الاحتياج إلى الجواب يقتضي صرف ما يصلح له إليه لا إلى الحال الفضلة المفتقرة إلى تقدير قد مع أن عطف وَظَنُّوا على جاءَتْها يأبى الحالية والفرح بالريح الطيبة لا يكون حال مجيء العاصفة والمعنى على تحقق المجيء لا على تقديره ليجعل حالا مقدرة ولا يخلو عن حسن ، والظاهر أن ما عده مانعا من الحالية غير مشترك بينه وبين كونه جواب إِذا لأنه يقتضي أنهما في زمان واحد كما لا يخفى على من له أدنى معرفة بأساليب الكلام ، وقوله سبحانه : مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حال من ضمير دَعَوُا ولَهُ متعلق بمخلصين والدِّينَ مفعوله أي دعوه تعالى من غير إشراك لرجوعهم من شدة الخوف إلى الفطرة التي جبل عليها كل أحد من التوحيد وأنه لا متصرف إلا اللّه سبحانه المركوز في طبائع العالم وروي ذلك عن ابن عباس ومن حديث أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص : «لما كان يوم الفتح فر عكرمة بن أبي جهل فركب البحر فأصابتهم عاصف فقال أصحاب السفينة لأهل السفينة : أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا فقال عكرمة : لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص ما ينجيني في البر غيره اللهم إن لك عهدا إن أنت عافيتني مما أنا

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 93
فيه أن آتي محمدا حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفوا كريما قال فجاء فأسلم».
وفي رواية ابن سعد عن أبي مليكة وأن عكرمة لما ركب السفينة وأخذتهم الريح فجعلوا يدعون اللّه تعالى ويوحدونه قال : ما هذا؟ فقالوا : هذا مكان لا ينفع فيه إلا اللّه تعالى قال : فهذا له محمد صلّى اللّه عليه وسلم الذي يدعونا إليه فارجعوا بنا فرجع. وأسلم».
وظاهر الآية أنه ليس المراد تخصيص الدعاء فقط به سبحانه بل تخصيص العبادة به تعالى أيضا لأنهم بمجرد ذلك لا يكونون مخلصين له الدين.
وأيّا ما كان فالآية دالة على أن المشركين لا يدعون غيره تعالى في تلك الحال ، وأنت خبير بأن الناس اليوم إذا اعتراهم أمر خطير وخطب جسيم في بر أو بحر دعوا من لا يضر ولا ينفع ولا يرى ولا يسمع فمنهم من يدعو الخضر واليأس ومنهم من ينادي أبا الخميس والعباس ومنهم من يستغيث بأحد الأئمة ومنهم من يضرع إلى شيخ من مشايخ الأمة ولا ترى فيهم أحدا يخص مولاه بتضرعه ودعاه ولا يكاد يمر له ببال أنه لو دعا اللّه تعالى وحده ينجو من هاتيك الأهوال فباللّه تعالى عليك قل لي أي الفريقين من هذه الحيثية أهدى سبيلا وأي الداعيين أقوم قيلا؟ وإلى اللّه تعالى المشتكى من زمان عصفت فيه ريح الجهالة وتلاطمت أمواج الضلالة وخرقت سفينة الشريعة واتخذت الاستغاثة بغير اللّه تعالى للنجاة ذريعة وتعذر على العارفين الأمر بالمعروف وحالت دون النهي عن المنكر صنوف الحتوف ، هذا وقوله تعالى : لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ في محل نصب بقول مقدر عند البصريين وهو حال من الضمير السابق ، ومذهب الكوفيين إجراء الدعاء مجرى القول لأنه من أنواعه وجعل الجملة محكية به والأول هو الأولى هنا ، واللام موطئة لقسم مقدر ولَنَكُونَنَّ جوابه.
والمشار إليه بهذه الحال التي هم فيها أي واللّه لئن أنجيتنا مما نحن فيه من الشدة لنكونن البتة بعد ذلك أبدا شاكرين لنعمك التي من جملتها هذه النعمة المسئولة ، والعدول عن لنشكرن إلى ما في النظم الجليل للمبالغة في الدلالة على الثبوت في الشكر والمثابرة عليه فَلَمَّا أَنْجاهُمْ مما نزل بهم من الشدة والكربة ، والفاء للدلالة على سرعة الإجابة إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ أي فاجؤوا الفساد فيها وسارعوا إليه مترامين في ذلك ممعنين فيه من قولهم : بغى الجرح إذا ترامى في الفساد ، وزيادة فِي الْأَرْضِ للدلالة على شمول بغيهم لأقطارها ، وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار ، وقوله سبحانه وتعالى : بِغَيْرِ الْحَقِّ تأكيد لما يفيده البغي إذ معناه أنه بغير الحق عندهم أيضا بأن يكون ظلما ظاهرا لا يخفى قبحه على كل أحد كما قيل نحو ذلك في قوله تعالى : وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [البقرة : 61].
وقد فسر البغي بإفساد صورة الشيء وإتلاف منفعته وجعل بِغَيْرِ الْحَقِّ للاحتراز مما يكون من ذلك بحق كتخريب الغزاة ديار الكفرة وقطع أشجارهم وحرق زروعهم كما فعل صلّى اللّه عليه وسلم ببني قريظة.
وتعقب بأنه مما لا يساعده النظم الكريم لأن البغي بالمعنى الأول هو اللائق بحال المفسدين فينبغي بناء الكلام عليه. والزمخشري اختار كون ذلك للاحتراز عما ذكر. وذكر في الكشف أنه أشار بذلك إلى أن الفساد اللغوي خروج الشيء من الانتفاع فلا كل بغي - أي فساد في الأرض واستطالة فيها - كذلك كما علمت وإن كان موضوعه العرفي للاستطالة بغير حق لكن النظر إلى موضوعه الأصلي ، وقيل : إن البغي الذي يتعدى بفي بمعنى الإتلاف والإفساد وهو يكون حقا وغيره والذي يتعدى بعلى بمعنى الظلم ، وتقييد الأول بغير الحق للاحتراز وتقييد الثاني به للتأكيد ، ولعل من يجعل البغي هنا بمعنى الظلم يقول : إن المعنى يبغون على المسلمين مثلا فافهم يا أَيُّهَا النَّاسُ توجيه الخطاب إلى أولئك الباغين للتشديد في التهديد والمبالغة في الوعيد إِنَّما بَغْيُكُمْ الذي تتعاطونه وهو مبتدأ خبره قوله سبحانه :

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 94
عَلى أَنْفُسِكُمْ أي عليكم في الحقيقة لا على الذين تبغون عليهم وإن ظن كذلك ، وقوله تعالى : مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا نصب على أنه مصدر مؤكد لفعل مقدر بطريق الاستئناف أي تتمتعون متاع الحياة الدنيا ، والمراد من ذلك بيان كون ما في البغي من المنفعة العاجلة شيئا غير معتد به سريع الزوال دائم الوبال ، وقيل : إنه منصوب على أنه مصدر واقع موقع الحال أي متمتعين ، والعامل هو الاستقرار الذي في الخبر ولا يجوز أن يكون نفس البغي لأنه لا يجوز الفصل بين المصدر ومعموله بالخبر ، وأيضا لا يخبر عن المصدر إلا بعد تمام صلاته ومعمولاته. وتعقب بأنه ليس في تقييد كونهم بغيهم على أنفسهم محال تمتعهم بالحياة الدنيا معنى يعتد به.
وقيل : على أنه ظرف زمان كمقدم الحاج أي زمان متاع الحياة الدنيا والعامل فيه الاستقرار أيضا وفيه ما في سابقه ، وقيل : على أنه مفعول لفعل دل عليه المصدر أي تبغون متاع الحياة الدنيا. واعترض بأن هذا يستدعي أن يكون البغي بمعنى الطلب لأنه الذي يتعدى بنفسه والمصدر لا يدل عليه ، وجعل المصدر أيضا بمعناه مما يخل بجزالة النظم الكريم لأن الاستئناف لبيان سوء عاقبة ما حكي عنهم من البغي المفسر على المختار بالفساد المفرط اللائق بحالهم وحينئذ تنتفي المناسبة ويفوت الانتظام ، وجعل الأول أيضا بمعناه مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عنه.
وقيل : على أنه مفعول له أي لأجل متاع الحياة الدنيا والعامل فيه الاستقرار. وتعقب بأن المعلل بما ذكر نفس البغي لا كونه على أنفسهم ، وقيل : العامل فيه فعل مدلول عليه بالمصدر أي تبغون لأجل متاع الحياة الدنيا على أن الجملة مستأنفة ، وقيل : على أنه مفعول صريح للمصدر وعليكم متعلق به لا خبر لما مر ، والمراد بالأنفس الجنس ، والخبر محذوف لطول الكلام ، والتقدير إنما بغيكم على أبناء جنسكم متاع الحياة الدنيا مذموم أو منهي عنه أو ضلال أو ظاهر الفساد أو نحو ذلك. وفيه الابتناء على أن البغي بمعنى الطلب وقد علمت ما فيه. نعم لو جعل نصبه على العلة أي إنما بغيكم على أبناء جنسكم لأجل متاع الحياة الدنيا مذموم كما اختاره بعضهم لكان له وجه في الجملة لكن الحق الذي يقتضيه جزالة النظم هو الأول. وقرأ الجمهور «متاع» بالرفع.
قال صاحب المرشد : وفيه وجهان ، أحدهما كونه الخبر والظرف صلة المصدر. والثاني كونه خبر مبتدأ محذوف أي هو أو ذلك متاع ، وزيد وجه آخر وهو كونه خبرا بعد خبر لبغيكم ، والمختار بل المتعين على الوجه الأول كون المراد بأنفسكم أبناء جنسكم أو أمثالكم على سبيل الاستعارة ، والتعبير عنهم بذلك للتشفيق والحث على ترك إيثار التمتع المذكور على ما ينبغي من الحقوق ، ولا مانع على الوجهين الأخيرين من الحمل على الحقيقة كما بين ذلك مولانا شيخ الإسلام. وقرىء بنصب المتاع وَالْحَياةَ وخرج نصب الأول على ما مر ونصب الثاني على أنه بدل اشتمال من الأول.
وقيل : على أنه مفعول به له إذا لم يكن انتصابه على المصدرية لأن المصدر المؤكد لا يعمل ، وذكر أبو البقاء أنه قرئ بجرهما على أن الثاني مضاف إليه والأول نعت للأنفس أي ذات متاع ، وجوز أن يكون المصدر بمعنى اسم الفاعل أي متمتعات ، وضعف كونه بدلا إذ قد أمكن كونه صفة «هذا» وفي الآية من الزجر عن البغي ما لا يخفى. وقد أخرج أبو الشيخ ، وأبو نعيم ، والخطيب ، والديلمي ، وغيرهم عن أنس قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ثلاث هن رواجع على أهلها المكر والنكث والبغي ثم تلا عليه الصلاة والسلام يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله ومن نكث فإنما ينكث على نفسه».
وأخرج البيهقي في الشعب عن أبي بكرة قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ما من ذنب أجدر أن يعجل لصاحبه العقوبة

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 95
من البغي وقطيعة الرحم.
وأخرج أيضا من طريق بلال بن أبي بردة عن أبيه عن جده عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : «لا يبغي على الناس إلا ولد بغي أو فيه عرق منه».
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن عمر رضي اللّه تعالى عنهم قالا : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لو بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما»
وكان المأمون يتمثل بهذين البيتين لأخيه :
يا صاحب البغي إن البغي مصرعة فأربع فخير فعال المرء أعدله
فلو بغى جبل يوما على جبل لاندكّ منه أعاليه وأسفله
وعقد ذلك الشهاب فقال :
إن يعد ذو بغي عليك فخله وارقب زمانا لانتقام باغي
واحذر من البغي الوخيم فلو بغى جبل على جبل لدك الباغي
ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ عطف على ما مر من الجملة المستأنفة المقدرة كأنه قيل : تتمتعون متاع الحياة الدنيا ثم ترجعون إلينا ، وإنما غير السبك إلى ما في النظم الكريم للدلالة على الثبات والقصر.
فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا على الاستمرار من البغي فهو وعيد وتهديد بالجزاء والعذاب وقد تقدم الكلام في نظيره إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كلام مستأنف لبيان شأن الحياة الدنيا وقصر مدة التمتع فيها ، وأصل المثل ما شبه مضربه بمورده ويستعار للأمر العجيب المستغرب ، أي إنما حالها في سرعة تقضيها وانصرام نعيمها بعد إقبالها واغترار الناس بها كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ أي فكثر بسببه نَباتُ الْأَرْضِ حتى التف بعضه ببعض ، فالباء للسببية ومنهم من أبقاها على المصاحبة ، وجعل الاختلاط بالماء نفسه فإنه كالغذاء للنبات فيجري فيه ويخالطه والأول هو الذي يقتضيه كلام ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ كالبقول والزروع والحشيش والمراعي ، والجار والمجرور في موضع الحال من النبات حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ أي استوفت واستكملت زُخْرُفَها أي حسنها وبهجتها وَازَّيَّنَتْ بأصناف النبات وأشكالها وألوانها المختلفة :
كأذيال خود أقبلت في غلائل مصبغة والبعض أقصر من بعض
وقد ذكر غير واحد أن في الكلام استعارة بالكناية حيث شبهت الأرض بالعروس وحذف المشبه به وأقيم المشبه مقامه وإثبات أخذ الزخرف لها تخييل وما بعده ترشيح ، وقيل : الزخرف الذهب استعير للنضارة والمنظر المشار ، وأصل ازينت تزينت فأدغمت التاء في الزاي وسكنت فاجتلبت همزة وصل للتوصل للابتداء بالساكن ، وبالأصل قرأ عبد اللّه ، وقرأ الأعرج ، والشعبي ، وأبو العالية ، ونصر بن عاصم ، والحسن بخلاف «وأزينت» بوزن أفعلت كأكرمت ، وكان قياسه أن يعل فيقلب ياؤه ألفا فيقال ازانت لأنه المطرد في باب الأفعال المعتل العين لكنه ورد على خلافه كأغيلت المرأة إذا سقت ولدها الغيل وهو لبن حملها عليه وقد جاء أغالت على القياس.
ومعنى الأفعال هنال هنا الصيرورة أي صارت ذات زينة أو صيرت نفسها كذلك ، وقرأ أبو عثمان النهدي «ازيأنت» بهمزة وصل بعدها زاي ساكنة وياء مفتوحة وهمزة كذلك ونون مشددة وتاء تأنيث ، وأصله ازيانت بوزن احمارت بألف صريحة فكرهوا اجتماع ساكنين فقلبوا الألف همزة مفتوحة كما قرىء الضالين وجاء أيضا احمأرت بالهمزة كقوله :
إذا ما الهوادي بالعبيط احمأرت وقرأ عوف بن جميل «ازيانت» بألف من غير إبدال ، وقرىء «ازاينت» لقصد المبالغة وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 96
عَلَيْها أي على الأرض ، والمراد ظنوا أنهم متمكنون من منفعتها محصلون لثمرتها رافعون لغلتها ، وقيل : الكناية للزروع ، وقيل : للثمرة ، وقيل : للزينة لانفهام ذلك من الكلام أَتاها أَمْرُنا جواب إِذا أي نزل بها ما قدرناه من العذاب وهو ضرب زرعها ما يحتاجه من الآفات والعاهات كالبرد ، والجراد ، والفأر ، والصرصر ، والسموم ، وغير ذلك لَيْلًا أَوْ نَهاراً أي في ليل أو في نهار ، ولعل المراد الإشارة إلى أنه لا فرق في إتيان العذاب بين زمن غفلتهم وزمن يقظتهم إذ لا يمنع منه مانع ولا يدفع عنه دافع فَجَعَلْناها أي فجعلنا نباتها حَصِيداً أي شبيها بما حصد من أصله ، والظاهر أن هذا من التشبيه لذكر الطرفين فيه فإن المحذوف في قوة المذكور ، وجوز أن يكون هناك استعارة مصرحة والأصل جعلنا نباتها هالكا فشبه الهالك بالحصيد وأقيم اسم المشبه به مقامه ، ولا ينافيه تقدير المضاف كما توهم لأنه لم يشبه الزرع بالحصيد بل الهالك به. وذهب السكاكي إلى أن في الكلام استعارة بالكناية حيث شبهت الأرض المزخرفة والمزينة بالنبات الناضر المونق الذي ورد عليه ما يزيله ويفنيه وجعل الحصيد نخيلا ولا يخفى بعده كَأَنْ لَمْ تَغْنَ أي كان لم يغن نباتها أي لم يمكث ولم يقم ، فتغن من غني بالمكان إذا أقام ومكث فيه ومنه قيل للمنزل مغنى ، وقد حذف المضاف في هذا وفيما قبله فانقلب الضمير المجرور منصوبا في أولهما ومرفوعا مستترا في الثاني ، واختير الحذف للمبالغة حيث أفاد ظاهر الكلام جعل الأرض نفسها حصيدا وكأنها نفسها لم تكن لتغيرها بتغير ما فيها ، وقد عطف بعضهم عليهما عَلَيْها لما أن التقدير فيه على نباتها فحذف المضاف وجر الضمير بعلى وليس بالبعيد خلا أن في كون الحذف للمبالغة أيضا ترددا ، وقيل : ضمير تَغْنَ وما قبله يعودان على الزرع كما قيل في ضمير عَلَيْها وقيل : يعودان على الأرض ولا حذف بل يجعل التجوز في الإسناد.
وأنت تعلم أن إرجاع الضمائر كلها للأرض ولو مع ارتكاب التجوز في الإسناد أولى من إرجاعها لغيرها كائنا ما كان. نعم إنه لا يمكن إرجاع الضمير إليها في قراءة الحسن «يغني» بالياء التحتية وجعل ذلك من قبيل ولا أرض أبقل إبقالها كما ترى فينبغي أن يرجع للنبات أو للزرع مثلا ومآل المعنى كأن لم يكن نابتا بِالْأَمْسِ أي فيما قبل إتيان أمرنا بزمان قريب فإن الأمس مثل في ذلك ، والجملة التشبيهية جوز أن تكون في محل النصب على أنها حال وأن تكون مستأنفة لا محل لها من الإعراب جوابا لسؤال مقدر ، والممثل به في الآية ما يفهم من الكلام وهو زوال خضرة النبات فجأة وذهابه حطاما لم يبق له أثر بعد ما كان غضا طريا قد التف بعضه ببعض وازينت الأرض بألوانه حتى طمع الناس وظنوا أنه قد سلم من الجوائح لا الماء وإن دخلته كاف التشبيه فإنه من التشبيه المركب مع اشتمال الكلام نفسه على أمور حقيقية وأمور مجازية فيها من اللطافة ما لا يخفى. وعن أبي أنه قرأ «كأن لم تغن بالأمس وما أهلكناها إلا بذنوب أهلها» كَذلِكَ أي مثل ذلك التفصيل البديع نُفَصِّلُ الْآياتِ أي القرآنية التي من جملتها هذه الآية الجليلة الشأن المنبهة على أحوال الحياة الدنيا أي نوضحها ونبينها لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في معانيها ويقفون على حقائقها ، وتخصيصهم بالذكر لأنهم المنتفعون ، وجوز أن يراد بالآيات ما ذكر في أثناء التمثيل من الكائنات والفاسدات وبتفصيلها تصريفها على الترتيب المحكي إيجادا وإعداما فإنها آيات وعلامات يستدل بها المتفكر فيها على أحوال الحياة الدنيا حالا ومآلا والأول هو الظاهر. وعن أبي مجلز أنه قال : كان مكتوبا إلى جنب هذه الآية فمحى «ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى واديا ثالثا ولا يشبع نفس ابن آدم إلّا التراب ويتوب اللّه على من تاب».
وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ ترغيب للناس في الحياة الأخروية الباقية إثر ترغيبهم عن الحياة الدنيوية الفانية أي يدعو الناس جميعا إلى الجنة حيث يأمرهم بما يفضي إليها ، وسميت الجنة بذلك لسلامة أهلها عن كل ألم وآفة أو لأن اللّه تعالى يسلم عليهم أو لأن خزنتها يقولون لهم سلام عليكم طبتم أو لأن بعضهم يسلم فيها على بعض.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 97
فالسلام إما بمعنى السلامة أو بمعنى التسليم ، أو لأن السلام من أسمائه تعالى ومعناه هو الذي منه وبه السلامة أو ذو السلامة عن جميع النقائص فأضيفت إليه سبحانه للتشريف كما في بيت اللّه تعالى للكعبة ولأنه لا ملك لغيره جل شأنه فيها ظاهرا وباطنا وللتنبيه على أن من فيها سالم عما مر للنظر إلى معنى السلامة في أصله ، ويدل على قصده تخصيصه بالإضافة إليه دون غيره من أسمائه تعالى وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ هدايته إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل إلى تلك الدار وهو الدين الحق ، وفي الآية دلالة على أن الهداية غير الدعوة إلى ذلك وعلى أن الأمر مغاير للإرادة حيث عمم سبحانه الدعوة إذ حذف مفعولها وخص الهداية بالمشيئة المساوية للإرادة على المشهور إذ قيدها بها وهو الذي ذهب إليه الجماعة ، وقال المعتزلة : إن المراد بالهداية التوفيق والإلطاف ومغايرة الدعوة والأمر لذلك ظاهرة فإن الكافر مأمور وليس بموفق وأن من يشاء هو من علم سبحانه أن اللطف ينفع فيه لأن مشيئته تعالى شأنه تابعة للحكمة فمن علم أنه لا ينفع فيه اللطف لم يوفقه ولم يلطف به إذ التوفيق لمن علم اللّه تعالى أنه لا ينفعه عبث والحكمة منافية للبعث فهو جل وعلا يهدي من ينفعه اللطف وإن أراد اهتداء الكل لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا أي العمل بأن فعلوا المأمور به واجتنبوا المنهي عنه ، وفسر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الإحسان بقوله عليه الصلاة والسلام : «أن تعبد اللّه تعالى كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»
الْحُسْنى أي المنزلة الحسنى وهي الجنة وَزِيادَةٌ وهي
النظر إلى وجه ربهم الكريم جل جلاله وهو التفسير المأثور عن أبي بكر وعلي كرم اللّه تعالى وجهه ، وابن عباس ، وحذيفة ، وابن مسعود ، وأبي موسى الأشعري ، وخلق آخرين ، وروي مرفوعا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من طرق شتى ،
وقد أخرج الطيالسي ، وأحمد ، ومسلم ، والترمذي ، وابن ماجه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم وابن خزيمة وابن حبان وأبو الشيخ والدارقطني في الرؤية وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن صهيب «أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم تلا هذه الآية للذين أحسنوا إلخ فقال إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند اللّه تعالى موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون : وما هو؟ ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويزحزحنا عن النار؟ قال : فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه سبحانه فو اللّه ما أعطاهم اللّه تعالى شيئا أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم»
فحكاية هذا التفسير بقيل ، كما فعل البيضاوي عفا اللّه تعالى عنه مما لا ينبغي ، وقول الزمخشري عامله اللّه تعالى بعدله : إن الحديث مرقوع - بالقاف - أي مفترى لا يصدر إلا عن رقيع فإنه متفق على صحته وقد أخرجه حفاظ ليس فيهم ما يقال.
نعم جاء في تفسير ذلك غير ما ذكر لكن ليس في هذه الدرجة من الصحة ولا رفع فيه صريحا ، فقد أخرج ابن جرير عن مجاهد قال : الزيادة المغفرة والرضوان ، وأخرج عن الحسن أنها تضعيف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، وأخرج عن ابن زيد أنها أن لا يحاسبهم على ما أعطاهم في الدنيا ، وأخرج عن الحكم بن عتيبة عن علي كرم اللّه تعالى وجهه أنها غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب.
وتعقبه ابن الجوزي بأنه لا يصح ، وقيل : الزيادة أن تمر السحابة بهم فتقول : ما تريدون أنا أمطركم فلا يريدون شيئا إلا أمطرتهم.
وجمع بعضهم بين الروايات بأنه لا مانع من أن يمن اللّه تعالى عليهم بكل ما ذكر ويصدق عليه أنه زيادة على ما منّ به عليهم من الجنة ، وأيد ذلك بما أخرجه سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، والبيهقي ، عن سفيان أنه قال : ليس في تفسير القرآن اختلاف إنما هو كلام جامع يراد به هذا وهذا ، والذي حمل الزمخشري على عدم الاعتماد على الروايات الناطقة بحمل الزيادة على رؤية اللّه تعالى زعمه الفاسد كأصحابه أن اللّه تعالى لا يرى وقد علمت منشأ ذلك الزعم وقد رده أهل السنة بوجوه وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أي لا يغشاها غبرة ما فيها سواد ولا أثر هوان ما وكسوف بال ، والمعنى لا يعرض عليهم ما يعرض لأهل النار أو لا يعرض لهم ما يوجب ذلك من الحزن وسوء الحال ، والكلام

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 98
على الأول حقيقة وعلى الثاني كناية لأن عدم غشيان ذلك لازم لعدم غشيان ما يوجبهما فذكر اللازم لينتقل منه إلى الملزوم ، ورجح هذا بأنه أمدح ، والمقصود بيان خلوص نعيمهم من شوائب المكاره إثر بيان ما من سبحانه به عليهم من النعيم ، وقيل : إن ذكر ذلك لتذكيرهم بما ينقذهم منه فإنهم إذا ذكروا ذلك زاد ابتهاجهم ومسرتهم كما أن أهل النار إذا ذكروا ما فاتهم من النعيم ازداد غمهم وحسرتهم ، وقيل : الغرض إدخال السرور عليهم بتذكير حال أعدائهم أهل النار فإن الإنسان متى علم أن عدوه في الهوان وسوء الحال ازداد سرورا ، وقد شاهدنا من يكتفي بمضرة عدوه عن حصول المنفعة له بل من يسره ضرر عدوه وإن تضرر هو ، وتقديم المفعول على الفاعل للاهتمام ببيان أن المصون من الرهق أشرف أعضائهم وللتشويق إلى المؤخر ولأن في الفاعل ضرب تفصيل أُولئِكَ أي المذكورون باعتبار اتصافهم بما تقدم أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون بلا زوال ويلزم ذلك عدم زوال نعيمها.
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ أي الشرك والمعاصي ، وهو مبتدأ بتقدير المضاف خبره قوله سبحانه : جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها والباء متعلقة بجزاء وهو مصدر المبني للمفعول لا اسم للعوض كما في بعض الأوجه الآتية على ما قيل أي جزاء الذين كسبوا السيئات أن تجازى سيئة واحدة بسيئة مثلها على معنى عدم الزيادة بمقتضى العدل وإلا فلا مانع عن العفو بمقتضى الكرم لكن ذلك في غير الشرك ويجوز أن يكون جزاء سيئة بمثلها جملة من مبتدأ وخبر هي خبر المبتدأ وحينئذ لا حاجة إلى تقدير المضاف لكن العائد محذوف أي جزاء سيئة منهم بمثلها على حد - السمن منوان بدرهم ..
وأجاز أبو الفتح أن يكون جزاء مبتدأ محذوف الخبر أي لهم جزاء سيئة بمثلها وحذف لهم لقرينة لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا والجملة خبر الَّذِينَ كَسَبُوا وحينئذ لا حاجة إلى تقدير عائد كما لا حاجة إلى تقدير مضاف ، وجوز غير واحد أن يكون الَّذِينَ عطفا على الذين المجرور الذي هو مع جاره خبر وجزاء سيئة معطوف على الحسنى الذي هو المبتدأ ، وفي ذلك العطف على معمولي عاملين مختلفين وفيه مذاهب المنع مطلقا وهو مذهب سيبويه والجواز مطلقا وهو مذهب القراء والتفصيل بين أن يتقدم المجرور نحو في الدار زيد والحجرة عمرو فيجوز أو لا فيمتنع ، والمانعون يحملون نحو هذا المثال على إضمار الجار ويجعلونه مطردا كقوله :
أكل امرئ تحسبين امرأ ونار توقد بالليل نارا
وقيل : هو مبتدأ والخبر جملة ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ أو كَأَنَّما أُغْشِيَتْ أو أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ وما في البين اعتراض ، وفي تعدد الاعتراض خلاف بين النحويين وجَزاءُ سَيِّئَةٍ حينئذ مبتدأ وبِمِثْلِها متعلق به والخبر محذوف أي واقع أو بِمِثْلِها هو الخبر على أن الباء زائدة أو الجار والمجرور في موضع الخبر على أن الباء غير زائدة ، والأولى تقدير المتعلق خاصا كمقدر ويصح تقديره عاما ، والقول بأنه لا معنى له حاصل وهم ظاهر ، وأيا ما كان لا دلالة في الآية على أن الزيادة هي الفضل دون الرؤية وقد علمت أن تفسيرها بذلك هو المأثور عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم وجملة من السلف الصالح فلا ينبغي العدول عنه لما يتراءى منه خلافه لا سيما وقد أتى الإمام وغيره بدلائل جمة على أن المراد بها ذلك ولم يؤت بالآيتين على أسلوب واحد لمراعاة ما بين الفريقين من كمال التنائي والتباين ، وإيراد الكسب للإيذان بأن ذلك إنما هو بسوء صنيعهم وجنايتهم على أنفسهم وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ أي هوان عظيم ، فالتنوين هنا للتفخيم على عكس التنوين فيما قبل كما أشرنا إليه ، وفي إسناد الرهق إلى أنفسهم دون وجوههم إيذان بأنها محيطة بهم غاشية لهم.
وقرىء «يرهقهم» بالياء التحتانية لكون الفاعل ظاهرا وتأنيثه غير حقيقي ، وقيل : التذكير باعتبار أن المراد من

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 99
الذلة سببها مجازا ، ولا يحتاج إليه كما لا يخفى لأن التذكير في مجازي التأنيث لا سيما المفصول كثير جدا.
والواو على ما قال غير واحد للعطف وما بعده معطوف على كَسَبُوا وضعفه أبو البقاء بأن المستقبل لا يعطف على الماضي. وأجيب بالمنع ، وفي العطف هاهنا ما لا يخفى من المبالغة حيث أخرج نسبة الرهق إليهم يوم القيامة مخرج المعلوم حيث جعل ذلك بواسطة العطف صلة الموصول ، وقيل : إنه عطف على ما قبله بحسب المعنى كأنه قيل : والذين كسبوا السيئات تجازى سيئتهم بمثلها وترهقهم ذلة ولعله أولى من الأول ، وأما جعل الواو حالية والجملة في موضع الحال من ضمير كَسَبُوا فلا يخفى حاله ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ أي ما لهم أحد يعصمهم ويمنعهم من سخط اللّه تعالى وعذابه فمن الأولى متعلقة بعاصم والكلام على حذف مضاف ومِنَ الثانية زائدة لتعميم النفي ، أو ما لهم من جهته وعنده تعالى من يعصمهم كما يكون للمؤمنين فمن الأولى متعلقة بمحذوف وقع حالا من عاصِمٍ وقيل متعلقة بالاستقرار المفهوم من الظرف وليس في الكلام مضاف محذوف ، ومِنَ الثانية على حالها والجملة مستأنفة أو حال من ضمير تَرْهَقُهُمْ وفي نفي العاصم من المبالغة في نفي العصمة ما لا يخفى كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ أي كأنما ألبست ذلك لفرط سوادها وظلمتها ، والجار والمجرور صفة قِطَعاً وقوله سبحانه : مُظْلِماً حال من اللَّيْلِ والعامل فيه متعلق الجار والمجرور فعلا كان أو اسما.
وجوز أبو البقاء كونه حالا من قِطَعاً أو صفة له ، وكان الواجب الجمع لأن قِطَعاً جمع قطعة إلا أنه أفردت حاله أو صفته لتأويل ذلك بكثير ولا يخفى أنه تكلف مستغنى عنه ، والظاهر أن مِنَ للتبعيض ، وقال بعض المحققين : لليل معنيان زمان تخفى فيه الشمس قليلا أو كثيرا كما يقال دخل الليل والآن ليل وما بين غروب الشمس إلى طلوعها أو قربها من الطلوع ، فمن إما تبعيضية على الأول وبيانية على الثاني ، وجوز الزمخشري أن يكون العامل في الحال أُغْشِيَتْ من قبل أن مِنَ اللَّيْلِ صفة لقطعا فكان إفضاؤه إلى الموصوف كإفضائه إلى الصفة. قال صاحب التقريب : وفيه نظر لأن مِنَ اللَّيْلِ ليس صلة أغشيت حتى يكون عاملا في المجرور بل التقدير أنه صفة فيكون العامل فيه الاستقرار ، وأيضا الصفة مِنَ اللَّيْلِ وذو الحال هو - الليل - فلا يكون أُغْشِيَتْ عاملا في ذي الحال مع أنه المقصود وقد يقال : إن مِنَ للتبيين والتقدير كائنة من الليل فأغشيت عامل في الصفة وهي كائنة فكأنه عامل في اللَّيْلِ وهو مبني على أن العامل في العامل في الشيء عامل فيه وهو فاسد فالوجه أن يقال : إن مِنَ للتبعيض أي بعض الليل ويكون بدلا من قِطَعاً ويجعل مُظْلِماً حالا من البعض لا مِنَ اللَّيْلِ فيكون العامل في ذي الحال أُغْشِيَتْ ولا يخفى أنه وجه أغشى قطعا من ليل التكلف والتعسف مظلما.
وأجاب الإمام أمين الدين بأن نسبة أُغْشِيَتْ إلى قِطَعاً إنما هي باعتبار ذاتها المبهمة المفسرة بالليل لا باعتبار مفهوم القطع في نفسها وإنما ذكرت لبيان مقدار ما أغشيت به وجوههم وهو الليل مظلما فإفضاء الفعل إلى قِطَعاً باعتبار ما لا يتم معناها المراد إلا به كإفضاء الفعل إليه كما إذا قيل : اشتريت أرطالا من الزيت صافيا فإن المشترى فيه الزيت والأرطال مبنية لمقدار ما اشترى صافيا فالعامل في الحال إنما هو العامل اللفظي ولا يلاحظ معنى الفعل في الجار والمجرور من جهة العمل لغلبة العامل اللفظي عليه بالظهور ولا يخفى ما فيه. وقال في الكشف : إن الزمخشري ذهب إلى أن أُغْشِيَتْ له اتصال بقوله تعالى : مِنَ اللَّيْلِ من قبل أن الصفة والموصوف متحدان لا سيما والقطع بعض الليل فجاز أن يكون عاملا في الصفة بذلك الاعتبار وكأنه قيل أغشيت الليل مظلما وهذا كما جوز في نحو وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً [الحجر : 47] أن يكون حالا من الضمير باعتبار اتحاده بالمضاف وكأنه قيل : ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا وكما جوز في مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 100
[البقرة : 135 ، آل عمران : 95 ، النساء : 125 ، الأنعام : 161 ، النحل : 123] لأن الملة كالجزء كأنه قيل : اتبعوا إبراهيم حنيفا وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري وهو سر هذا الموضع لا ما طوله كثيرون لا سيما حمل مِنَ على التجريد فإنه مع أن المعنى على التبعيض لا البيان وليس كل بيان تجريدا لا يتم مقصوده انتهى.
وقدعرض في ذلك بشيخه العلامة الطيبي فإنه عليه الرحمة قد تكلف ما تكلف والإنصاف أن ما جوزه الزمخشري هنا مما لا ينبغي والسعي في إصلاحه مع وجود الوجه الواضح الذي لا ترهقه قترة يقرب من أن يكون عبثا.
وقرأ ابن كثير ، والكسائي ، ويعقوب ، وسهل «قطعا» بسكون الطاء وهو اسم مفرد معناه طائفة من الليل أو ظلمة آخره أو اسم جنس لقطعة وأنشدوا :
افتحي الباب وانظري في النجوم كم علينا من قطع ليل بهيم
وعلى هذا يجوز أن يكون مُظْلِماً صفة له أو حالا منه بلا تكلف تأويل. وقرىء «كأنما يغشى وجوههم قطع من الليل مظلم» والكلام فيه ظاهر ، والجملة كالتي قبلها مستأنفة أو حال من ضمير تَرْهَقُهُمْ أُولئِكَ أي الموصوفون بما ذكر من الصفات الذميمة أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ لا يخرجون منها أبدا واحتجت الوعيدية بهذه الآية على قولهم الفاسد بخلود أهل الكبائر. وأجيب بأن السيئات شاملة للكفر وسائر المعاصي وقد قامت الأدلة على أنه لا خلود لأصحاب المعاصي فخصصت الآية بمن عداهم ، وأيضا قد يقال إنهم داخلون في الذين أحسنوا بناء على ما أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن ابن عباس وأبو الشيخ عن قتادة أنهم الذين شهدوا أن لا إله إلا اللّه أي المؤمنون مطلقا فلا يدخلون في القسم الآخر لتنافي الحكمين ، وقيل : إن أل في السيئات للاستغراق فالمراد من عمل جميع ذلك والقول بخلوده في النار مجمع عليه وليس بذاك.
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ كلام مستأنف مسوق لبيان بعض آخر من أحوالهم الفظيعة ، وتأخيره في الذكر مع تقدمه في الوجود على بعض أحوالهم المحكية سابقا كما قال بعض المحققين للإيذان باستقلال كل من السابق واللاحق بالاعتبار ولو روعي الترتيب الخارجي لعد الكل شيئا واحدا ولذلك فصل عما قبله ، وزعم الطبرسي أنه تعالى لما قدم ذكر الجزاء بين بهذا وقت ذلك ، وعليه فالآية متصلة بما ذكر آنفا لكن لا يخفى أن ذلك لم يخرج مخرج البيان ، وأولى منه أن يقال : وجه اتصاله بما قبله أن فيه تأكيدا لقوله سبحانه : ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ من حيث دلالته على عدم نفع الشركاء لهم. ويَوْمَ منصوب بفعل مقدر كذكرهم وخوفهم ، وضمير نَحْشُرُهُمْ لكلا الفريقين من الذين أحسنوا الحسنى والذين كسبوا السيئات لأنه المتبادر من قوله تعالى : جَمِيعاً ومن أفراد الفريق الثاني بالذكر في قوله سبحانه : ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أي للمشركين من بينهم ولأن توبيخهم وتهديدهم على رؤوس الأشهاد أفظع ، والإخبار بحشر الكل في تهويل اليوم أدخل ، وإلى هذا ذهب القاضي البيضاوي وغيره ، وكون مراده بالفريقين فريقي الكفار والمشركين خلاف الظاهر جدا.
وقيل : الضمير للفريق الثاني خاصة فيكون الذين أشركوا من وضع الموصول موضع الضمير ، والنكتة في تخصيص وصف إشراكهم في حيز الصلة من بين سائر ما اكتسبوه من السيئات ابتناء التوبيخ والتقريع عليه مع ما فيه من الإيذان بكونه معظم جناياتهم وعمدة سيئاتهم ، وهو السر في الإظهار في مقام الإضمار على القول الأخير مَكانَكُمْ ظرف متعلق بفعل حذف فسد هو مسده وهو مضاف إلى الكاف ، والميم علامة الجمع أي ألزموا مكانكم. والمراد انتظروا حتى تنظروا ما يفعل بكم. وعن أبي علي الفارسي أن مكان اسم فعل وحركته حركة بناء.
وهل هو اسم فعل لالزم أو لا ثبت ظاهر كلام بعضهم الأول والمنقول عن شرح التسهيل الثاني لأنه على الأول يلزم أن

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 101
يكون متعديا كألزم مع أنه لازم ، وأجيب بمنع اللزوم ، وقال السفاقسي : في كلام الجوهري ما يدل على أن ألزم يكون لازما ومتعديا فلعل ما هو اسم له اللازم : وذكر الكوفيون أنه يكون متعديا وسمعوا من العرب مكانك زيدا أي انتظره.
واختار الدماميني في شرح التسهيل عدم كونه اسم فعل فقال : لا أدري ما الداعي إلى جعل هذا الظرف اسم فعل إما لازما وإما متعديا وهلا جعلوه ظرفا على بابه ولم يخرجوه عن أصله أي اثبت مكانك أو انتظر مكانك ، وإنما يحسن دعوى اسم الفعل حيث لا يمكن الجمع بين ذلك الاسم وذلك الفعل نحو : صه وعليك وإليك ، وأما إذا أمكن فلا كوراءك وأمامك وفيه منع ظاهر.
وقوله تعالى : أَنْتُمْ توكيد للضمير المنتقل إلى الظرف من عامله على القول الأول وللضمير المستتر في اسم الفعل على القول الثاني ، وقوله سبحانه : وَشُرَكاؤُكُمْ عطف على ذلك ، وقيل : إن أَنْتُمْ مبتدأ خبره محذوف أي مهانون أو مجزيون وهو خلاف الظاهر مع ما فيه من تفكيك النظم ، وقيل : ولأنه يأباه قراءة وشركاءكم بالنصب إذ يصير حينئذ مثل - كل رجل وضيعته - ومثله لا يصح فيه ذلك لعدم ما يكون عاملا فيه ، والعامل على التوجيه الأول ظاهر لمكان مَكانَكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ أي ففرقنا ، وهو من زلت الشيء عن مكانه أزيله أي أزلته ، والتضعيف للتكثير لا للتعدية ، وهو يائي ووزنه فعل بدليل زايل ، وقد قرىء به وهو بمعناه نحو كلمته وكالمته وصعر خده وصاعر خده.
وقال أبو البقاء : إنه واوي لأنه من زال يزول ، وإنما قلبت الواو ياء لأنه فيعل ، والأول أصح لما علمت ولأن مصدره التزييل لا الزيولة مع أن فعل أكثر من فيعل ، ونصب - بين - على الظرفية لا على أنه مفعول به كما توهم ، والمراد بالتفريق قطع الأقران والوصل التي كانت بينهم وبين الشركاء في الدنيا. وقيل : التفريق الجسماني وظاهر النظم الجليل لا يساعده ، والعطف على نَقُولُ وإيثار صيغة الماضي للدلالة على التحقق لزيادة التوبيخ والتحسير ، والفاء للدلالة على وقوع التنزيل ومبادية عقيب الخطاب من غير مهملة إيذانا بكمال رخاوة ما بين الفريقين من العلاقة والوصلة ، وقوله سبحانه : وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ عطف على ما قبله ، وجوز أن يكون في موضع الحال بتقدير قد أو بدونها على الخلاف ، والإضافة باعتبار أن الكفار هم الذين اتخذوهم شركاء للّه سبحانه وتعالى.
وقيل : لأنهم جعلوا لهم نصيبا من أموالهم فصيروهم شركاء لأنفسهم في ذلك ، والمراد بهؤلاء الشركاء قيل :
الأصنام فإن أهل مكة إنما كانوا يعبدونها وهم المعنيون بأكثر هذه الآيات ، ونسبة القول لها غير بعيد من قدرته سبحانه فينطقها اللّه الذي أنطق كل شيء في ذلك الموقف فتقول لهم ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ والمراد من ذلك تبريهم من عبادتهم وأنهم إنما عبدوا في الحقيقة أهواءهم الداعية لهم وما أعظم هذا مكان الشفاعة التي كانوا يتوقعونها منهم.
وقيل : المراد بهم الملائكة والمسيح عليهم السلام لقوله تعالى : وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ [سبأ : 40] وقوله سبحانه : أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ [المائدة : 116] الآية ، والمراد من ذلك القول ما أريد منه أولا أيضا لأن نفي العبادة لا يصح لثبوتها في الواقع والكذب لا يقع في القيامة ممن كان ، وقيل : إن قول الشركاء مجرى على حقيقته بناء على أن ذلك الموقف موقف الدهشة والحيرة فذلك الكذب يكون جاريا مجرى كذب الصبيان والمجانين المدهوشين ، ويمكن أن يقال أيضا : إنهم ما أقاموا لأعمال الكفار وزنا وجعلوها لبطلانها كالعدم فلذا نفوا عبادتهم إياهم أو يقال : إن المشركين لما تخيلوا فيما عبدوه أوصافا كثيرة غير موجودة فيه في نفس الأمر كانوا في الحقيقة إنما عبدوا ذوات موصوفة بتلك الصفات ولما كانت ذوات الشركاء خالية عن تلك الصفات صدق أن يقال : إن المشركين ما عبدوا الشركاء وهذا أولى من الأولين بل لا يكاد يلتفت إليهما وكأن حاصل المعنى عليه إنكم عبدتم من زعمتم أنه يقدر على الشفاعة لكم وتخليصكم من العذاب وإنه

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 102
موصوف بكيت وكيت فاطلبوا فإنا لسنا كذلك. والمراد من ذلك قطع عرى أطماعهم وإيقاعهم في اليأس الكلي من حصول ما كانوا يرجونه ويعتقدونه فيهم ولعل اليأس كان حاصلا لهم من حين الموت والابتلاء بالعذاب ولكن يحصل بما ذكر مرتبة فوق تلك المرتبة. وقيل : المراد بهم الشياطين وقطع الوصل عليه من الجانبين لا من جانب العبدة فقط كما يقتضيه ما قبل ، والمراد من قولهم ذلك على طرز ما تقدم. وأورد على القول بأن المراد الملائكة والمسيح عليهم السلام بأنه لا يناسب قوله سبحانه : مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ حيث إن المراد منه الوعيد والتهديد ، وظاهر العطف انصراف ذلك إلى الشركاء أيضا ، وتهديد أولئك الكرام عليهم الصلاة والسلام مما لا يكاد يقدم على القول به.
واعترض بأن هذا مشترك الإلزام فإنه يرد على القول الأول أيضا إذ لا معنى للوعيد والتهديد في حق الأصنام مع عدم صدور شيء منها يوجب ذلك ، ولا مخلص إلا بالتزام أن التهديد والوعيد للمخاطبين فقط أو للمجموع باعتبارهم.
وأجيب بجواز كون تهديد الأصنام نظير إدخالها النار مع عبدتها كما يدل عليه قوله تعالى : إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء : 98] وكذا قوله سبحانه : فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [البقرة : 24] على ما عليه جمع من المفسرين ، ودعوى الفرق بين التهديد والإدخال في النار تحتاج إلى دليل. نعم قالوا : يجب على القول بأن المراد الملائكة عليهم السلام أن تحمل الغفلة في قوله سبحانه :
فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ على عدم الارتضاء لا على عدم الشعور لأن عدم شعور الملائكة بعبادتهم غير ظاهر بل لو قيل بوجوب هذا الحمل على القول بأن المراد المسيح عليه السلام أيضا لم يبعد لأن عدم شعوره بعبادتهم مع أنه سينزل ويكسر الصليب كذلك ، ولا يكاد يصح الحمل على الظاهر إلا إذا كان المراد الأصنام فإن عدم شعورهم بذلك ظاهر ، وتعقب بأنه لا دليل على شعور الملائكة عليهم السلام بعبادتهم ليصرف له اللفظ عن حقيقته ، وليس هؤلاء المعبودون هم الحفظة أو الكتبة بل ملائكة آخرون ولعلهم مشغلون بأداء ما أمروا به عن الالتفات إلى ما في هذا العالم ونحن لا ندعي في الملائكة عليهم السلام ما يدعيه الفلاسفة فإنهم الذين قالوا يوم استنبئوا عن الأسماء : سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا [البقرة : 32] وهذا جبريل عليه السلام من أجلهم قدرا كان كثيرا ما يسأله رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن أشياء فيقول : لا أعلم وسوف أسأل ربي ، وكذا لا دليل على شعور المسيح عليه السلام بعبادة هؤلاء المخاطبين عند إيقاعها وكونه سينزل ويكسر الصليب لا يستدعي الشعور بها كذلك كما لا يخفى ، وقد يستأنس لعدم شعوره بما حكى اللّه تعالى عنه في الجواب عن سؤاله له عليه السلام من قوله : ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المائدة : 117] ، واعترض على القول الأخير بأنه لا يصح مع هذا القول مطلقا لأن الشياطين هم الذين زينوا لهم هذه الشنيعة الشنعاء وأغروهم عليها فكيف يتأتى القول بأنهم غافلون حقيقة عنها أو أنهم غير مرتضين لها ، ولعل من ذهب إلى ذلك يلتزم الكذب ويقول
بجواز وقوعه يوم القيامة.
وقيل : إن القول الأول لا يصح مع هذا القول أيضا مطلقا لأن الأوثان لا تتصف بالغفلة حقيقة لأنها كما يفهم من القاموس اسم لترك الشيء وذهاب القلب عنه إلى غيره وهذا شأن ذوي القلوب والأوثان ليست من ذلك وكذا لا تتصف بها مجازا عن عدم الارتضاء إذ الظاهر أن مرادهم من عدم الارتضاء السخط والكراهة وظاهر أن الأوثان لا تتصف بسخط ولا ارتضاء إذ هما تابعان للإدراك ولا إدراك لها ومن أثبته للجمادات حسب عالمها فالأمر عنده سهل ومن لا يثبته يقول : إنها مجاز عن عدم الشعور ، وقد يقال : إن المراد بغفلتهم عن عبادة المشركين عدم طلبهم الاستعدادي لها ويرجع ذلك بالآخرة إلى نفي استحقاق العبادة عن أنفسهم وإثبات الظلم لعباديهم.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 103
وحينئذ فالأظهر أن يراد بالشركاء جميع ما عبد من دون اللّه تعالى من ذوي العقول وغيرهم والكل صادق في قوله ذلك ، وقد يراد من عدم الطلب ما يشمل عدم الطلب الحالي والقالي إذا اعتبر كون القائل ممن يصح نسبة ذلك له كالملائكة عليهم السلام وهذا الوجه لا يتوقف على شعور الشركاء بعبادتهم ولا على عدمه فيجوز أن يكون لهم شعور بذلك ويجوز أن لا يكون لهم شعور ، والظاهر أن تفسير الغفلة بعدم الارتضاء المراد منهم على ما قيل السخط والكراهة يستدعي الشعور إذ كراهة الشيء مع عدم الشعور به مما لا يكاد يعقل وإثباته لجميع الشركاء ولو إجمالا في وقت من الأوقات الدنيوية غير مسلم ، ولعل التعبير بالغفلة أكثر تهجينا للمخاطبين ولعبادتهم من التعبير بعدم الطلب مثلا فتأمل ، والباء في بِاللَّهِ صلة وشَهِيداً تمييز ، وإِنْ مخففة من أن واللام هي الفارقة بين المخففة والنافية والظرف متعلق بغافلين ، والتقديم لرعاية الفاصلة ، أي كفى اللّه شهيدا فإنه العليم الخبير المطلع على كنه الحال إنا كنا غافلين عن عبادتكم ، والظاهر من كلام بعض المحققين أن فَكَفى إلخ استشهاد على النفي السابق لا على الإثبات اللاحق هُنالِكَ أي في ذلك المقام الدحض والمكان الدهش وهو مقام الحشر فهنالك باق على أصله وهو الظرفية المكانية ، وقيل : إنه استعمل ظرف زمان مجازا أي في ذلك الوقت تَبْلُوا أن تختبر كُلُّ نَفْسٍ مؤمنة كانت أو كافرة ما أَسْلَفَتْ من العمل فتعاين نفعه وضره أتم معاينة.
وقرأ حمزة والكسائي «تتلو» من التلاوة بمعنى القراءة ، والمراد قراءة صحف ما أسلفت ، وقيل : إن ذلك كناية عن ظهور الأعمال. وجوز أن يكون من التلو على معنى أن العمل يتجسم ويظهر فيتبعه صاحبه حتى يرد به الجنة أو النار أو هو تمثيل. وقرأ عاصم في رواية عنه «نبلو» بالباء الموحدة والنون ونصب «كلّ» على أن فاعل - نبلو - ضميره تعالى و«كل» مفعوله و«ما» بدل منه بدل اشتمال ، والكلام استعارة تمثيلية أي هنالك نعامل كل نفس معاملة من يبلوها ويتعرف أحوالها من السعادة والشقاوة باختبار ما أسلفت من العمل ، ويجوز أن يراد نصيب بالبلاء أي العذاب كل نفس عاصية بسبب ما أسلفت من الشر فتكون ما منصوبة بنزع الخافض وهو الباء السببية.
وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ عطف على زيلنا والضمير للذين أشركوا وما في البين اعتراض في أثناء الحكاية مقرر لمضمونها ، والمعنى ردوا إلى جزائه وعقابه أو إلى موضع ذلك ، فالرد إما معنوي أو حسي. وقال الإمام : المعنى جعلوا ملجئين إلى الإقرار بألوهيته سبحانه وتعالى مَوْلاهُمُ أي ربهم الْحَقِّ أي المتحقق الصادق في ربوبيته لا ما اتخذوه ربا باطلا. وقرئ «الحقّ» بالنصب على المدح ، والمراد به اللّه تعالى وهو من أسمائه سبحانه أو على المصدر المؤكد والمراد به ما يقابل الباطل ، ولا منافاة بين هذه الآية وقوله سبحانه : ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ [محمد : 11]. لاختلاف معنى المولى فيهما. وأخرج أبو الشيخ عن السدي أن الأولى منسوخة بالثانية ولا يخفى ما فيه وَضَلَّ أي ضاع وذهب عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ من أن آلهتهم تشفع لهم أو ما كانوا يدعون أنها شركاء للّه عز وجل ، وما يحتمل أن تكون موصولة وأن تكون مصدرية والجملة معطوفة على قوله سبحانه : رُدُّوا ومن الناس من جعلها عطفا على - زيلنا - وجملة - ردوا - معطوفة على جملة - تبلو - إلخ داخلة في الاعتراض وضمير الجمع للنفوس المدلول عليها بكل نفس ، والعدول إلى الماضي للدلالة على التحقق والتقرر ، وإيثار صيغة الجمع للإيذان بأن ردهم إليه سبحانه يكون على طريق الاجتماع وما ذكرناه أولى لفظا ومعنى. وتعقب شيخ الإسلام جعل الضمير للنفوس وعطف رُدُّوا على تَبْلُوا إلخ بأنه لا يلائمه التعرض لوصف الحقية في قوله سبحانه : مَوْلاهُمُ الْحَقِّ فإنه للتعريض بالمردودين ثم قال : ولئن اكتفى فيه بالتعريض ببعضهم أو حمل الْحَقِّ على معنى العدل في الثواب والعقاب أي مع تفسير المولى بمتولي الأمور فقوله سبحانه : وَضَلَّ إلخ مما لا مجال

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 104
فيه للتدارك قطعا فإن ما فيه من الضمائر الثلاثة للمشركين فيلزم التفكيك حتما ، وتخصيص كل نفس بالنفوس المشركة مع عموم البلوى للكل يأباه مقام تهويل المقام انتهى ، والظاهر أنه اعتبر عطف وَضَلَّ عَنْهُمْ إلخ على رُدُّوا مع رجوع ضميره للنفوس وهو غير ما ذكرناه فلا تغفل قُلْ أي لأولئك المشركين الذين حكيت أحوالهم وبين ما يؤدي إليه أفعالهم التي هي أفعى لهم احتجاجا على حقية التوحيد وبطلان ما هم عليه من الإشراك.
مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي منهما جميعا فإن الأرزاق تحصل بأسباب سماوية كالمطر وحرارة الشمس المنضجة وغير ذلك ومواد أرضية والأولى بمنزلة الفاعل والثانية بمنزلة القابل أو من كل واحد منهما بالاستقلال كالأمطار والمن والأغذية الأرضية توسعة عليكم - فمن - على هذا لابتداء الغاية ، وقيل : هي لبيان مَنْ على تقدير المضاف ، وقيل : تبعيضية على ذلك التقدير أي من أهل السماء والأرض أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ «أم» منقطعة بمعنى بل والإضراب انتقالي لا إبطالي وفيه تنبيه على كفاية هذا الاستفهام فيما هو المقصود أي من يستطيع خلقهما وتسويتهما على هذه الفطرة العجيبة ومن وقف على تشريحهما وقف على ما يبهر العقول أو من يحفظهما من الآفات مع كثرتها وسرعة انفعالهما عن أدنى شيء يصيبهما أو من يتصرف بهما إذهابا وإبقاء ، والملك على كل مجاز ، قيل :
والمعنى الأول أوفق لنظم الخالقية مع الرازقية كقوله تعالى : هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [فاطر : 3] وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ أي ومن ينشىء الحيوان من النطفة مثلا والنطفة من الحيوان أو من يحيي أو يميت بأن يكون المراد بالإخراج التحصيل من قولهم : الخارج كذا أي الحاصل أي من يحصل الحي من الميت بأن يفيض عليه الحياة ويحصل الميت من الحي بأن يفيض عليه الموت ويسلي عنه الحياة والمآل ما علمت ، ومن الناس من فسر الحي والميت هنا بالمؤمن والكافر والأول أولى وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي ومن يلي تدبير أمر العالم جميعا وهو تعميم بعد تخصيص ما اندرج تحته من الأمور الظاهرة بالذكر ، وفيه إشارة إلى أن الكل منه سبحانه وإليه وأنه لا يمكنكم علم تفاصيله فَسَيَقُولُونَ بلا تلعثم ولا تأخير اللَّهُ إذ لا مجال للمكابرة والعناد في شيء من ذلك لغاية وضوحه ، والاسم الجليل مبتدأ والخبر محذوف أي اللّه يفعل ما ذكر من الأفاعيل لا غيره هذا وربما يستدل بالآية على تقدير أن لا تكون مَنْ لابتداء الغاية على جواز أن يقال اللّه سبحانه أنه من أهل السماء والأرض ، وكون المراد هناك غير اللّه تعالى لا يناسب الجواب ومن لم ير الجواز يعني ومن رآه بناء على ظواهر الآيات المفيدة لكونه تعالى في السماء وقوله صلّى اللّه عليه وسلم في الجارية التي أشارت إلى السماء حين قيل لها : أين اللّه؟
«أعتقها فإنها مؤمنة»
وإقراره حصينا حين
قال له عليه الصلاة والسلام : «كم تعبد يا حصين؟ فقال : سبعة ستة في الأرض وواحد في السماء فقال صلّى اللّه عليه وسلم : فمن الذي أعددته لرغبتك ورهبتك؟ فقال حصين : الإله الذي في السماء»
أبقى الآية على ما يقتضيه ظاهرها. وأنت تعلم إنه لم يرد صريحا كونه تعالى من أهل السماء والأرض وإن ورد كونه جل وعلا في السماء على المعنى اللائق بجلاله جل جلاله فلا أرى جواز ذلك ، ولا داعي لإخراج مَنْ عن ابتداء الغاية ليحتاج إلى العناية في رد الاستدلال كما لا يخفى ، وفي الانتصاف أن هذه الآية كافحة لوجوه القدرية الزاعمين أن الأرزاق منقسمة فمنها ما رزقه اللّه تعالى للعبد وهو الحلال ومنها ما رزقه العبد لنفسه وهو الحرام فهي ناعية عليهم هذا الشرك الخفي لو سمعوا أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ [يونس : 42] وكذا فيما قيل تكفح في وجوه أناس يزعمون أن الذي يدبر الأمر في كل عصر قطبه وهو عماد السماء عندهم ولولاه لوقعت على الأرض فكأني بك إذا سألتهم من يدبر الأمر يقولون القطب ، وقد يعتذر عنهم بأن مرادهم أنه المدبر بإذن اللّه تعالى وجاء إطلاق المدبر بهذا المعنى على غيره تعالى في قوله سبحانه : فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً [النازعات : 5].

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 105
وربما يقال إنه لا فرق عندهم بين اللّه تعالى وبين القطب إلا بالاعتبار لأنه الذي فاز بقربى النوافل والفرائض على أتم وجه فارتفعت الغيرية ، فالقول بأن القطب هو المدبر كالقول بأنّ اللّه سبحانه هو المدبر بلا فرق.
واعترض هذا بأنه ذهاب إلى القول بوحدة الوجود وأكثر المتكلمين وبعض الصوفية كالإمام الرباني قدس سره ينكرون ذلك ، والأول بأنه هلا قال المشركون في جواب ذلك : الملائكة أو عيسى عليهم السلام مثلا على معنى أنهم المدبرون للأمر بإذن اللّه تعالى فيكون المذكورون عندهم بمنزلة الأقطاب عند أولئك ، وأجيب بأن السؤال إنما هو عمن ينتهي إليه الأمر فلا يتسنى لهم إلا الجواب المذكور ، ولعل غير أهل الوحدة لو سئلوا كذلك ما عدلوا في الجواب عنه سبحانه ، وأما أهل الوحدة قدس اللّه تعالى أسرارهم فلهم كلمات لا يقولها المشركون وهي لعمري فوق طور العقل ولذا أنكرها أهل الظاهر عليهم فَقُلْ لهم أَفَلا تَتَّقُونَ الهمزة لإنكار عدم الاتقاء بمعنى إنكار الواقع كما في قولك :
أتضرب أباك لا بمعنى إنكار الوقوع كما في قولك : أأضرب أبي ، والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه النظم الكريم أي أتعلمون ذلك فلا تتقون ، والخلاف في مثل هذا التركيب شهير وما ذكرناه هو ما عليه البعض ، ومفعول تَتَّقُونَ محذوف وهو متعد لواحد أي أفلا تتقون عذابه الذي لكم بما تتعاطونه من إشراككم به سبحانه ما لا يشاركه في شيء مما ذكر من خواص الألوهية ، وكلام القاضي يوهم أنه متعد إلى مفعولين وليس بذاك.
فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فذلكة لما تقرر والإشارة إلى المتصف بالصفات السابقة حسبما اعترفوا به ، وهي مبتدأ والاسم الجليل صفة له ورَبُّكُمُ خبر والْحَقُّ خبر بعد خبر أو صفة أو خبر مبتدأ محذوف ، ويجوز أن يكون الاسم الجليل هو الخبر ورَبُّكُمُ بدل منه أو بيان له والْحَقُّ صفة الرب أي مالككم ومتولي أموركم الثابت ربوبيته والمتحقق ألوهيته تحققا لا ريب فيه فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ أي لا يوجد غير الحق شيء يتبع إلا الضلال فمن تخطى الحق وهو عبادة اللّه تعالى وحده لا بد وأن يقع في الضلال وهو عبادة غيره سبحانه على الانفراد أو الاشتراك لأن عبادته جل شأنه مع الاشتراك لا يعتد بها - فما - اسم استفهام و- ذا - موصول ، ويجوز أن يكون الكل اسما واحدا قد غلب فيه الاستفهام على اسم الإشارة ، وهو مبتدأ خبره بَعْدَ الْحَقِّ على ما في النهر والاستفهام إنكاري بمعنى إنكار الوقوع ونفيه ، وبَعْدَ بمعنى غير مجاز والحق ما علمت ، وهو غير الأول ولذا أظهر ، وإطلاق - الحق - على عبادته سبحانه وكذا إطلاق - الضلال - على عبادة غيره تعالى لما أن المدار في العبادة الاعتقاد ، وجوز أن يكون - الحق - عبارة عن الأول والإظهار لزيادة التقرير ومراعاة كمال المقابلة بينه وبين الضلال والمراد به هو الأصنام ، والمعنى فماذا بعد الرب الحق الثابت ربوبيته إلا الضلال أي الباطل الضائع المضمحل وإنما سمي بالمصدر مبالغة كأنه نفس الضلال والضياع ، وقيل : المراد بالحق والضلال ما يعم التوحيد وعبادة غيره سبحانه وغير ذلك ويدخل ما يقتضيه المقام هنا دخولا أوليا ، ويؤيده ما أخرجه ابن أبي حاتم عن أشهب قال : سئل مالك عن شهادة اللعّاب بالشطرنج والنرد فقال أما من أدمن فما أرى شهادتهم طائلة يقول اللّه تعالى : فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فهذا كله من الضلال.
فَأَنَّى تُصْرَفُونَ أي فكيف تصرفون عن الحق إلى الضلال والاستفهام إنكاري بمعنى إنكار الواقع واستبعاده والتعجب منه ، وفيه من المبالغة ما ليس في توجيه الإنكار إلى نفس الفعل فإنه لا بد لكل موجود من أن يكون وجوده على حال من الأحوال فإذا انتفى جميع أحوال وجوده فقد انتفى وجوده على الطريق البرهاني والفاء لترتيب الإنكار والتعجب على ما قبله ، ولعل ذلك الإنكار والتعجب متوجهان في الحقيقة إلى منشأ الصرف وإلا فنفس الصرف منه تعالى على ما هو الحق فلا معنى لإنكاره والتعجب منه مع كونه فعله جل شأنه ، وإنما لم يسند الفعل إلى الفاعل لعدم

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 106
تعلق غرض به. وذهب المعتزلة أن فاعل الصرف نفسه المشركون فهم الذين صرفوا أنفسهم وعدلوا بها عن الحق إلى الضلال بناء على أن العباد هم الخالقون لأفعالهم ، وأمر الإنكار والتعجب عليه ظاهر ، وإنما لم يسند الفعل إلى ضميرهم على جهة الفاعلية إشارة إلى أنه بلغ من الشناعة إلى حيث إنه لا ينبغي أن يصرح بوقوعه منهم فتدبر كَذلِكَ أي كما حقت كلمة الربوبية للّه سبحانه وتعالى أو كما أنه ليس بعد الحق إلا الضلال أو كما أنهم مصرفون عن الحق حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي حكمه عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أي تمردوا في الكفر وخرجوا إلى أقصى حدوده ، والمراد بهم أولئك المخاطبون ، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتوصل إلى ذمهم بعنوان الصلة وللإشعار بالعلية أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بدل من الكلمة بدل كل من كل أو بدل اشتمال بناء على أن الحكم بالمعنى المصدري أو بمعنى المحكوم به ، وقد تفسر الكلمة بالعدة بالعذاب فيكون هذا في موضع التعليل لحقيتها أي لأنهم إلخ ، واعترض بأن محصل الآية حينئذ على ما تقرر في الذين فسقوا أن كلمة العذاب حقت على أولئك المتمردين لتمردهم في كفرهم ولأنهم لا يؤمنون وهو تكرار لا طائل تحته ، وأجيب بأنه لو سلم أن في الآية تكرارا مطلقا فهو تصريح بما علم ضمنا ، وفيه دلالة على شرف الإيمان بأن عذاب المتمردين في الكفر بسبب انتفاء الإيمان قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ احتجاج آخر على حقية التوحيد وبطلان الإشراك ، ولم يعطف إيذانا باستقلاله في إثبات المطلوب ، والسؤال للتبكيت والإلزام ، وجعل سبحانه الإعادة لسطوع البراهين القائمة عليها بمنزلة البدء في إلزامهم ولم يبال بإنكارهم لها لأنهم مكابرون فيه والمكابر لا يلتفت إليه فلا يقال : إن مثل هذا الاحتجاج إنما يتأتى على من اعترف بأن من خواص الإلهية بدء الخلق ثم إعادته ليلزم من نفيه عن الشركاء نفي الإلهية وهم غير
مقرين بذلك ، ففي الآية الإشارة إلى أن الإعادة أمر مكشوف ظاهر بلغ في الظهور والجلاء بحيث يصح أن يثبت فيه دعوى أخرى ، وجعل ذلك الطيبي من صنعة الإدماج كقول ابن نباتة :
فلا بدّ لي من جهلة في وصاله فمن لي بخلّ أودع الحلم عنده
فقد ضمن الغزل الفخر بكونه حليما والفخر شكاية الإخوان قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قيل هو أمر له صلّى اللّه عليه وسلم بأن يبين لهم من يفعل ذلك أي قل لهم اللّه سبحانه هو يفعلهما لا غيره كائنا ما كان لا بأس ينوب عليه الصلاة والسلام عنهم في الجواب كما قاله غير واحد لأن المقول المأمور به غير ما أريد منهم من الجواب وإن كان مستلزما له إذ ليس المسئول عنه من يبدأ الخلق ثم يعيده كما في قوله سبحانه : قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ [الرعد : 16] حتى يكون القول المأمور به عين الجواب الذي أريد منهم ويكون صلّى اللّه عليه وسلم نائبا عنهم في ذلك بل إنما هو وجود من يفعل البدء والإعادة من شركائهم فالجواب المطلوب منهم لا غير. نعم أمر صلّى اللّه عليه وسلم بأن يضمنه مقالته إيذانا بتعينه وتحتمه وإشعارا بأنهم لا يجترؤون على التصريح به مخافة التبكيت والقام الحجر لا مكابرة ولجاجا انتهى ، وقد يقال : المراد من قوله سبحانه : هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ إلخ هل المبدئ المعيد اللّه أم الشركاء ، والمراد من قوله سبحانه جل شأنه : اللَّهُ إلخ اللّه يبدأ ويعيد لا غيره من الشركاء وحينئذ ينتظم السؤال والجواب وانفهام الحصر بدلالة الفحوى فإنك إذا قلت : من يهب الألوف زيد أم عمرو فقيل : زيد يهب الألوف أفاد الحصر بلا شبهة.
وبما ذكر يعلم ما في الكلام السابق في الرد على ما قاله الجمع وكذا رد ما قاله القطب من أن هذا لا يصلح جوابا عن ذلك السؤال لأن السؤال عن الشركاء وهذا الكلام في اللّه تعالى بل هو استدلال على إلهيته تعالى وإنه الذي يستحق العبادة بأنه المبدئ المعيد بعد الاستدلال على نفي إلهية الشركاء فتأمل ، وفي إعادة الجملة في الجواب بتمامها غير محذوفة الخبر كما في الجواب السابق لمزيد التأكيد والتحقيق فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ الإفك الصرف والقلب

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 107
عن الشيء يقال : أفكه عن الشيء يأفكه إفكا إذا قلبه عنه وصرفه ، ومنه قول عروة بن أذينة :
إن تك عن أحسن الصنيعة مأ فوكا ففي آخرين قد أفكوا
وقد يخص كما في القاموس بالقلب عن الرأي ولعله الأنسب بالمقام أي كيف تقلبون من الحق إلى الباطل والكلام فيه كما تقدم في فَأَنَّى تُصْرَفُونَ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ احتجاج آخر على ما ذكر جيء به إلزاما غب إلزام وإفحاما إثر إفحام. وفصله إيذانا بفضله واستقلاله في إثبات المطلوب كما في سابقه.
والمراد هل من يهدي إلى الحق بإعطاء العقل وبعثة الرسل وإنزال الكتب والتوفيق إلى النظر والتدبر بما نصب في الآفاق والأنفس إلى غير ذلك اللّه سبحانه أم الشركاء؟. ومنهم من يبقي الكلام على ما يتبادر منه كما سمعت فيما قبل ، ومن الناس من خصص طريق الهداية ، والتعميم أوفق بما يقتضيه المقام من كمال التبكيت والإلزام كما لا يخفى قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أي هو سبحانه يهدي له دون غيره جل شأنه ، والكلام في الأمر على طرز ما سبق ، وفعل الهداية يتعدى إلى اثنين ثانيهما بواسطة وهي إلى أو اللام وقد يتعدى لهما بنفسه وهو لغة على ما قيل كاستعماله قاصرا بمعنى اهتدى ، والمبرد أنكر هذا حيث قال : إن هدى بمعنى اهتدى لا يعرف لكن لم يتابعه على ذلك الحفاظ كالفراء وغيره ، وقد جمع هنا بين صلتيه إلى واللام تفننا وإشارة بإلى إلى معنى الانتهاء وباللام للدلالة على أن المنتهى غاية للهداية وأنها لم تتوجه إليه على سبيل الاتفاق بل على قصد من الفعل وجعله ثمرة له ولذلك عدي بها ما أسند إليه سبحانه كما ترى ، وأما قوله تعالى : أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ فالمقصود به التعميم وإن كان الفاعل في الواقع هو اللّه جل شأنه.
وقيل : اللام هنا للاختصاص والجمهور على الأول ، والمفعول محذوف في المواضع الثلاثة ، وجواز اللزوم في الأول مما لا يلتفت إليه ، ويقدر فيها على طرز واحد كالشخص ونحوه ، وقيل : التقدير قل هل من شركائكم من يهدي غيره إلى الحق قل اللّه يهدي من يشاء إلى الحق أفمن يهدي غيره إلى الحق أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال وهي قراءة يعقوب وحفص ، وأصله يهتدي وكسر الهاء لالتقاء الساكنين. وقرأ حماد ويحيى عن أبي بكر عن عاصم بكسر الياء والهاء والتشديد وكسرت الياء اتباعا للهاء ، وكان سيبويه يرى جواز كسر حرف المضارعة لغة إلا الياء لثقل الكسرة عليها وهذه القراءة حجة عليه. وقرأ ابن كثير وورش عن نافع وابن عامر بفتح الياء والهاء والتشديد والأصل يهتدي فنقلت فتحة التاء إلى الهاء قبلها ثم قلبت دالا لقرب مخرجهما وأدغمت فيها. وقرأ أبو عمرو وقالوا عن نافع كذلك لكنه اختلس فتحة الهاء تنبيها على أن الحركة فيها عارضة ، وفي بعض الطرق عن أبي عمرو أنه قرأ بالإدغام المجرد عن نقل الحركة إلى ما قبلها أو التحريك بالكسر لالتقاء الساكنين. واستشكل ذلك بأن فيه الجمع بين الساكنين ولذا قال المبرد : من رام هذا لا بد أن يحرك حركة خفيفة قال ابن النحاس إذ بدونه لا يمكن النطق ، وذكر القاضي أنه لم يبال بالتقاء الساكنين لأن المدغم في حكم المتحرك ، وأنكر بعضهم هذه القراءة وادعى أنه إنما قرأ بالاختلاس ، والحق أنه قرأ بهما وروي ذلك عن نافع أيضا وتفصيله في لطائف الإشارات والطيبة.
وقرأ حمزة والكسائي «يهدي» كيرمي ، وهو إما لازم بمعنى يهتدي كما هو أحد استعمالات فعل الهداية على المعول عليه كما علمت آنفا أو متعد أي لا يهدي غيره ، ورجح هذا بأنه الأوفق بما قبل فإن المفهوم منه نفي الهداية لا الاهتداء ، وقد يرجع الأول بأن فيه توافق القراءات معنى وتوافقها خير من تخالفها ، وإنما نفي الاهتداء مع أن المفهوم مما سبق نفي الهداية كما ذكر لما أن نفيها مستتبع لنفيه غالبا فإن من اهتدى إلى الحق لا يخلو عن هداية غيره في الجملة وأدناها كونه قدوة له بأن يراه فيسلك مسلكه ، والفاء لترتيب الاستفهام على ما سبق كأنه قيل : إذا كان الأمر

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 108
كذلك فأنا أسألكم أمن يهدي إلى الحق إلخ. والمقصود من ذلك الإلزام ، والهمزة على هذا متأخرة في الاعتبار وإنما قدمت في الذكر لإظهار عراقتها في اقتضاء الصدارة كما هو المشهور عند الجمهور.
وصيغة التفضيل إما على حقيقتها والمفضل عليه محذوف كما اختاره مكي والتقدير أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع ممن لا يهدي أم من لا يهدي أحق ، وإما بمعنى حقيق كما اختاره أبو حيان ، وهو خبر عن الموصول ، والفصل بالخبر بين أم وما عطفت عليه هو الأفصح كما قال السمين ، وقد لا يفصل كما في قوله سبحانه : أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ [الأنبياء : 109] والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير ، وأَنْ يُتَّبَعَ في حيز النصب أو الجر بعد حذف الجار على الخلاف المعروف في مثله أو بأن يتبع إِلَّا أَنْ يُهْدى استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا يهتدي أو لا يهدي غيره في حال من الأحوال إلا حال هدايته تعالى له إلى الاهتداء أو إلى هداية الغير ، وهذا على ما قاله جمع حال أشراف شركائهم كالمسيح وعزير والملائكة عليهم السلام دون الأوثان لأن الاهتداء الذي هو قبول الهداية وهداية الغير مختصان بذوي العلم فلا يتصور فيها.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وغيرهما أن المراد الأوثان ، ووجه ذلك بأنه جار على تنزيلهم لها منزلة ذوي العلم ، وقيل : المعنى أم من لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينقل إليه إلا أن ينقل إليه أو إلا أن ينقله اللّه تعالى من حاله إلى أن يجعله حيوانا مكلفا فيهديه وهو من قولك : هديت المرأة إلى زوجها وقد هديت إليه وقيل : الآية الأولى قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ في الأصنام أو فيما يعمهم ونحو الملائكة عليهم السلام وهذه في رؤساء الضلالة كالأحبار والرهبان الذين اتخذوا أربابا من دون اللّه وليس بالبعيد فيما أرى ، ويؤيده التعبير بالاتباع فإنه يقتضي العمل بأوامرهم والاجتناب عن نواهيهم وهذا لا يعقل في الأوثان إلا بتكلف ، وهو وإن عقل في أشراف شركائهم لكنهم لا يدعون إلا إلى خير واتباعهم في ذلك لا ينعي على أحدهم اللهم إلا أن يقال : إن المشركين تقولوا عليهم أوامر ونواهي فنعى عليهم اتباعهم لهم في ذلك ، وعير بالاتباع ولم يعبر بالعبادة بأن يقال : أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يعبد أم من لا يهدي إلا أن يهدي مع أن الآية متضمنة إبطال صحة عبادتهم من حيث إنهم لا يهدون وأدنى مراتب العبودية هداية المعبود لعبدته إلى ما فيه صلاح أمرهم مبالغة في تفظيع حال عبادتهم لأنه إذا لم يحسن الاتباع لم تحسن العبادة بالطريق الأولى وإذا قبح حال ذاك فحال هذه أقبح واللّه تعالى أعلم. وقرىء إلا أن «يهدّى» مجهولا مشددا دلالة على المبالغة في الهداية فَما لَكُمْ أي أي شيء لكم في اتخاذ هؤلاء العاجزين شركاء للّه سبحانه وتعالى ، والكلام مبتدأ وخبر والاستفهام للإنكار والتعجب.
وعن بعض النحاة أن مثل هذا التركيب لا يتم بدون حال بعده نحو قوله تعالى : فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ [المدثر : 49] لعل الحال هنا محذوف لظهوره كأنه قيل : فما لكم متخذين هؤلاء شركاء ولا يصح أن يكون قوله عز وجل كَيْفَ تَحْكُمُونَ في موضع الحال لأن الجملة الاستفهامية لا تقع حالا بل هو استفهام آخر للإنكار التعجب أيضا أي كيف تحكمون بالباطل الذي يأباه صريح العقل ويحكم ببطلانه من اتخاذ الشركاء للّه جل وعلا ، والفاء لترتيب الإنكار على ما ظهر من وجوب اتباع الهادي وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا كلام مبتدأ غير داخل في حيز الأمر مسوق من جهته تعالى لبيان سوء إدراكهم وعدم فهمهم لمضمون ما أفحمهم من البراهين النيرة الموجبة للتوحيد أي ما يتبع أكثرهم في معتقداتهم ومحاوراتهم إلا ظنا واهيا مستندا إلى خيالات فارغة وأقيسة باطلة كقياس الغائب على الشاهد وقياس الخالق على المخلوق بأدنى مشاركة موهومة ولا يتلفتون إلى فرد من أفراد العلم فضلا عن أن يسلكوا مسالك الأدلة الصحيحة الهادية إلى الحق فيفهموا مضمونها ويقفوا على صحتها وبطلان ما يخالفها ، فالمراد بالاتباع مطلق الانقياد الشامل لما يقارن القبول والانقياد وما لا يقارنه وبالقصر ما أشير إليه من أن لا يكون لهم

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 109
في أثنائه اتباع لفرد من أفراد العلم والتفات إليه. وتنكير ظَنًّا للنوعية. وفي تخصيص هذا الاتباع بالأكثر الإشارة إلى أن منهم من قد يتبع فيقف على حقية التوحيد لكن لا يقبله مكابرة وعنادا ، ومقتضى ما ذكروه في وجه أمره صلّى اللّه عليه وسلم بأن ينوب عنهم في الجواب من أنه الإشارة إلى أن لجاجهم وعنادهم يمنعهم من الاعتراف بذلك أن فيهم من علم وكان معاندا ، ولعل النيابة حينئذ عن الجميع باعتبار هذا البعض ، وجوز أن يكون المعنى ما يتبع أكثرهم مدة عمره إلا ظنا ولا يتركونه أبدا ، فإن حرف النفي الداخل على المضارع يفيد استمرار النفي بحسب المقام فالمراد بالاتباع هو الإذعان والانقياد والقصر باعتبار الزمان ، وفي التخصيص تلويح بما سيكون من بعضهم من اتباع الحق والتوبة ، وقيل :
المعنى وما يتبع أكثرهم في إقرارهم باللّه تعالى إلا ظنا لأنه قول غير مستند إلى برهان عندهم ، وقيل : المعنى وما يتبع أكثرهم في قولهم للأصنام أنها آلهة وأنها شفعاء عند اللّه إلا الظن ، والأكثر بمعنى الجميع وهذا كما ورد القليل بمعنى العدم في قوله تعالى : فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ [البقرة : 88] وفي قوله :
قليل التشكي في المصيبات حافظ من اليوم أعقاب الأحاديث في غد
وحمل النقيض على النقيض حسن وطريقة مسلوكة ، ولا يخفى أنه لا يتعين على هذين القولين حمل الأكثر على الجميع بل يمكن حمله على ما يتبادر منه أيضا ، ومن الناس من جعل ضمير أَكْثَرُهُمْ للناس وحينئذ يجب الحمل على المتبادر بلا كلفة إِنَّ الظَّنَّ مطلقا لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً فكيف الظن الفاسد والمراد من الحق العلم والاعتقاد الصحيح المطابق للواقع ، والجار متعلق بما قبله وشَيْئاً نصب على أنه مفعول مطلق أي إغناء ما ، ويجوز أن يكون مفعولا به والجار والمجرور في موضع الحال منه ، والجملة استئناف لبيان شأن الظن وبطلانه ، وفيه دليل لمن قال : إن تحصيل العلم في الاعتقاديات واجب وإن إيمان المقلد غير صحيح ، وإنما لم يؤخذ عاما للعمليات لقيام الدليل على صحة التقليد والاكتفاء بالظن فيها كما قرر في موضعه.
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ وعيد لهم على أفعالهم القبيحة ويندرج فيها ما حكي عنهم من الإعراض عن البراهين القاطعة واتباع الظنون الفاسدة اندراجا أوليا. وقرىء «تفعلون» بالالتفات إلى الخطاب لتشديد الوعيد.
وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ شروع في بيان حالهم من القرآن إثر بيان حالهم مع الأدلة المندرجة في تضاعيفه أو استئناف لبيان ما يجب اتباعه والبرهان عليه غب المنع مع اتباع الظن ، وقيل : إنه متعلق بما قصه اللّه تعالى من قولهم : ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا [يونس : 15] وقيل : بقوله سبحانه : وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [يونس : 20] إلخ ولا يخفى ما في ذلك من البعد وكانَ هنا ناقصة عند كثير من الكاملين وهذَا اسمها والْقُرْآنُ نعت له أو عطف بيان وأَنْ يُفْتَرى بتأويل المصدر أي افتراء خبر كانَ وهو في تأويل المفعول أي مفترى كما ذكره ابن هشام في قاعدة أن اللفظ قد يكون على تقدير وذلك المقدر على تقدير آخر ، ومنه قوله :
لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى وذهب بعض المعربين أن ما كانَ بمعنى ما صح وأن في الكلام لا ما مقدرة لتأكيد النفي ، والأصل ما كان هذا القرآن لأن يفتري كقوله تعالى : وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التوبة : 122] وأَنْ يُفْتَرى خبر كان ومِنْ دُونِ اللَّهِ خبر ثان وهو بيان للأول ، أي ما صح ولا استقام أن يكون هذا القرآن المشحون بفنون الهدايات المستوجبة للاتباع التي من جملتها هاتيك الحجج البينة الناطقة بحقية التوحيد وبطلان الشرك صادرا من غير اللّه تعالى كيف كان ، وقيل عليه ما قيل لكنه لا ينبغي العدول عما قاله في محل مِنْ دُونِ اللَّهِ وما ذكر في حاصل المعنى

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 110
أمر مقبول كما لا يخفى ، وجوز البدر الدماميني أن تكون كانَ تامة وأَنْ يُفْتَرى بدل اشتمال من هذَا الْقُرْآنُ وتعقب بأنه لا يحسن قطعا لأن ما وجد القرآن يوهم من أول الأمر نفي وجوده وأيضا لا بد من الملابسة بين البدل والمبدل منه في بدل الاشتمال فيلزم أن يبتنى الكلام على الملابسة بين القرآن العظيم والافتراء وفي التزام كل ما ترى ، وأجيب عن ذلك بما لا أراه مثبتا للحسن أصلا ، واقتصر بعضهم على اعتبار المصدر من غير تأويله باسم المفعول اعتبارا للمبالغة على حد ما قيل في زيد عدل ، والظاهر عندي أن المبالغة حينئذ راجعة إلى النفي نظير ما قيل في قوله تعالى : وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت : 46] لا أن النفي راجع إلى المبالغة كما لا يخفى ، ومن هنا يعلم ما في قول بعض المحققين : إن قول الزمخشري في بيان معنى الآية : وما صح وما استقام وكان محالا أن يكون مثله في علو أمره وإعجازه مفترى ربما يشعر بأنه على حذف اللام إذ مجرد توسيط - كان - لا يفيد ذلك والتعبير بالمصدر لا تعلق له بتأكيد معنى النفي من النظر ، ثم إنهم فيما رأينا لم يعتبروا المصدر هنا إلا نكرة والمشهور اتفاق النحاة على أن أن والفعل المؤول بالمصدر معرفة ولذلك لا يخبر به عن النكرة ، وكأنه مبني على ما قاله ابن جني في الخاطريات من أنه يكون نكرة وذكر أنه عرضه على أبي علي فارتضاه. واستشكل بعضهم هذه الآية بأن أن تخلص المضارع للاستقبال كما نص على ذلك النحويون ، والمشركون إنما زعموا كون القرآن مفترى في الزمان الماضي كما يدل عليه ما يأتي إن شاء اللّه تعالى فكيف ينبغي كونه مفترى في الزمان المستقبل. وأجيب عنه بأن الفعل فيها مستعمل في مطلق الزمان وقد نص على جواز ذلك في الفعل ابن الحاجب.
وغيره ونقله البدر الدماميني في شرحه لمغني اللبيب ، ولعل ذلك من باب المجاز ، وحينئذ يمكن أن يكون نكتة العدول عن المصدر الصريح مع أنه المستعمل في كلامهم عند عدم ملاحظة أحد الأزمنة نحو أعجبني قيامك أن المجاز أبلغ من الحقيقة ، وقيل : لعل النكتة في ذلك استقامة الحمل بدون تأويل للفرق بين المصدر الصريح والمؤول على ما أشار إليه شارح اللباب. وغيره ، ولا يخفى أن فيه مخالفة لما مرت الإشارة إليه من أن أن والفعل في تأويل المصدر وهو في تأويل المفعول قيل : وقد يجاب أيضا عن أصل الإشكال بأنه إنما نفي في الماضي إمكان تعلق الافتراء به في المستقبل وكونه محلا لذلك فينتفي تعلق الافتراء به بالفعل من باب أولى ، وفي ذلك سلوك طريق البرهان فيكون في الكلام مجاز أصلي أو تبعي ، وقد نص أبو البقاء على جواز كون الخبر محذوفا وأن التقدير وما كان هذا القرآن ممكنا أن يفترى ، وقال العلامة ابن حجر : إن الآية جواب عن قولهم : ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ [يونس : 15] وهو طلب للافتراء في المستقبل ، وأما الجواب عن زعمهم أنه عليه الصلاة والسلام افتراه وحاشاه فسيأتي عند حكاية زعمهم ذلك فلا إشكال ، على أن عموم تخليص أن المضارع للاستقبال في حيز المنع ، لم لا يجوز أن يكون ذلك فيما عدا خبر كان المنفية كما يرشد إليه قوله سبحانه : ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة : 113] فإنه نزل عن استغفار سبق منهم للمشركين كما قاله أئمة التفسير ، وقد أطال الكلام على ذلك في ذيل فتاويه فتبصر.
وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي من الكتب الإلهية كالتوراة والإنجيل ، فالمراد من الموصول الجنس ، وعنى بالتصديق بيان الصدق وهو مطابقة الواقع وإظهاره وإضافته إما لفاعله أو مفعوله ، وتصديق الكتب له بأن ما فيه من العقائد الحقة مطابق لما فيها وهي مسلمة عند أهل الكتاب وما عداهم إن اعترف بها وإلا فلا عبرة به.
وفي جعل الإضافة للمفعول مبالغة في نفي الافتراء عنه لأنه ما يثبت ويظهر به صدق غيره فهو أولى بالصدق ، ووجه كونه مصدقا لها أنه دال على نزولها من عند اللّه تعالى ومشتمل على قصص الأولين حسبما ذكر فيها وهو معجز دونها فهو الصالح لأن يكون حجة وبرهانا لغيره لا بالعكس ، وزعم بعضهم أن المراد من الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أخبار

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 111
الغيوب والإضافة للفاعل ، وتصديقها له مجيئها على وفق ما أخبر به وليس بشيء ، ونصب - التصديق - على العطف على خبر - كان - أو على أنه خبر لكان مقدرة ، وقيل : على أنه مفعول لأجله لفعل مقدر أي أنزل لتصديق ذلك ، وجعل العلة هنا ما ذكر مع أنه أنزل لأمور لأنه المناسب لمقام رد دعوى افترائه ، وقيل : نصب على المصدرية لفعل مقدر أي يصدق تصديق إلخ ، وقرأ عيسى بن عمرو الثقفي برفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ولكن هو تصديق إلخ وكذا قرأ بالرفع في قوله تعالى : وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ أي ما كتب وأثبت من الحقائق والشرائع ، والعطف نصبا أو رفعا على تَصْدِيقَ وقوله سبحانه : لا رَيْبَ فِيهِ خبر آخر للكن أو للمبتدأ المقدر ، وفصل لأنه جملة مؤكدة لما قبلها ، وجوز أن يكون حالا من الكتاب وإن كان مضافا إليه فإنه مفعول في المعنى وأن يكون استئنافا نحويا لا محل له من الإعراب أو بيانيا جوابا للسؤال عن حال الكتاب والأول أظهر ، والمعنى لا ينبغي لعاقل أن يرتاب فيه لوضوح برهانه وعلو شأنه مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ خبر آخر لكان أو المبتدأ المقدر كما مر في سابقه أو متعلق بتصديق أو بتفصيل أو بالفعل المعلل بهما أو متعلق بمحذوف وقع حالا من الكتاب ولا رَيْبَ فِيهِ اعتراض لئلا يلزم الفصل بالأجنبي بين المتعلق والمتعلق أو الحال وذيها.
وجوز أن يكون حالا من الضمير المجرور في فِيهِ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أم منقطعة وهي مقدرة ببل والهمزة عند سيبويه والجمهور أي بل أيقولون ، وبل انتقالية والهمزة لإنكار الواقع واستبعاده أي ما كان ينبغي ذلك ، وجوز أن تكون للتقرير لإلزام الحجة والمعنيان على ما قيل متقاربان ، وقيل : إن أم متصلة ومعادلها مقدر أي أتقرون به أم تقولون افتراه ، وقيل : هي استفهامية بمعنى الهمزة ، وقيل : عاطفة بمعنى الواو والصحيح الأول ، وأيّا ما كان فالضمير المستتر للنبي صلّى اللّه عليه وسلم وإن لم يذكر لأنه معلوم من السياق قُلْ تبكيتا لهم وإظهارا لبطلان مقالتهم الفاسدة إن كان الأمر كما تقولون فَأْتُوا بِسُورَةٍ طويلة كانت أو قصيرة مِثْلِهِ في البلاغة وحسن الارتباط وجزالة المعنى على وجه الافتراء ، وحاصله على ما قيل : إن كان ذاك افتراء مني فافتروا سورة مثله فإنكم مثلي في العربية والفصاحة وأشد تمرنا واعتيادا في النظم والنثر ، وعلى هذا فالمراد بإتيان المخاطبين بذلك إنشاؤهم له والتكلم به من عند أنفسهم لا ما يعم ذلك وإيراده من كلام الغير ممن تقدم ، وجوز أن يكون المراد ما ذكر ولعله السر في العدول عن قولوا سورة مثله مثلا إلى ما في النظم الكريم ، أي إن كان الأمر كما زعمتم فأتوا من عند أنفسكم أو ممن تقدمكم من فصحاء العرب وبلغائها كامرىء القيس وزهير وأضرابهما بسورة مماثلة له في صفاته الجليلة فحيث عجزتم عن ذلك مع شدة تمرنكم ولم يوجد في كلام أولئك وهم الذين نصبت لهم المنابر في عكاظ الفصاحة والبلاغة وبهم دارت رحا النظم والنثر وتصرمت أيامهم في الإنشاء والإنشاد دل على أنه ليس من كلام البشر بل هو من كلام خالق القوى والقدر. وقرىء بِسُورَةٍ مِثْلِهِ على الإضافة أي بسورة كتاب مثله وَادْعُوا للمعاونة والمظاهرة.
مَنِ اسْتَطَعْتُمْ دعاءه والاستعانة به من آلهتكم التي تزعمون إنها ممدة لكم في المهمات والملمات والمداراة الذين تلجئون إليهم في كل ما تأتون وتذرون مِنْ دُونِ اللَّهِ متعلق بادعوا كما قيل ومَنِ ابتدائية على معنى أن الدعاء مبتدأ من غيره تعالى لا ملابسة له معه جل شأنه بوجه ، وجوز أن يكون متعلقا بما عنده ومن بيانية أي ادعوا من استطعتم من خلقه ولا يخلو عن حسن.
وفائدة هذا القيد قيل : التنصيص على براءتهم منه تعالى وكونهم في عدوة المضادة والمشاقة ، وليس المراد به إفادة استبداده تعالى بالقدرة على ما كلفوه فإن ذلك مما يوهم أنهم لو دعوه لأجابهم إليه ، وقد يقال : لا بأس بإفادة ذلك لأن الاستبداد المذكور مما يؤيد المقصود وهو كون ما أتى به صلّى اللّه عليه وسلم لم يكن من عند نفسه بل هو منه تعالى ، والإيهام مما لا يلتفت إليه فإن دعاءهم إياه تعالى بمعنى طلبهم منه سبحانه وتعالى أن يأتي بما كلفوه مستبدا به مما لا يكاد يتصور لأنه ينافي زعمهم السابق كما لا يخفى فتأمل إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أني افتريته فإن ذلك مستلزم

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 112
لإمكان الإتيان بمثله وهو أيضا مستلزم لقدرتكم عليه وجواب إِنْ محذوف لدلالة المذكور عليه ، وفي هذه الآية دلالة على إعجاز القرآن لأنه عليه الصلاة والسلام تحدى مصاقع العرب بسورة ما منه فلم يأتوا بذلك وإلا لنقل إلينا لتوفر الدواعي إلى نقله. وزعم بعض الملاحدة أنه لا يلزم من عجزهم عن الإتيان بذلك كونه من عند اللّه تعالى قطعا فإنه قد يتفق في الشخص خصوصية لا توجد في غيره فيحتمل أنه صلّى اللّه عليه وسلم كان مخصوصا بهذه المرتبة من الفصاحة والبلاغة ممتازا بها عن سائر العرب فأتى بما أتى دونهم ، وقد جاء من بعض الطرق أنه صلّى اللّه عليه وسلم قال : «أنا أفصح العرب بيد أني من قريش»
وأجيب بأنه صلّى اللّه عليه وسلم وإن كان في أقصى الغايات من الفصاحة حتى كأن اللّه تعالى شأنه وعزت قدرته محض اللسان العربي وألقى زبدته على لسانه صلّى اللّه عليه وسلم فما من خطيب يقاومه إلا نكص متفكك الرجل وما من مصقع يناهزه إلا رجع فارغ السجل إلا أن كلامه صلّى اللّه عليه وسلم لا يشبه ما جاء به من القرآن وكلام شخص واحد متشابه كما لا يخفى على ذوي الأذواق الواقفين على كلام البلغاء قديما وحديثا.
وتعقب بأنه لا يدفع ذلك الزعم لما فيه ظاهرا من تسليم كون كلامه عليه الصلاة والسلام معجزا لا تستطاع معارضته وحينئذ العجز عن معارضة القرآن يجعله دائرا بين كونه كلامه تعالى وكونه كلامه صلّى اللّه عليه وسلم ولا يثبت كونه كلام اللّه عز وجل إلا بضم امتيازه على كلامه صلّى اللّه عليه وسلم والزاعم لم يدع إلا عدم لزوم كونه من عند اللّه تعالى قطعا من عجزهم عن الإتيان بذلك ، وأيضا ينافي هذا التسليم ما تقدم في بيان حاصل فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ حيث علل بأنكم مثلي في العربية والفصاحة إلخ ، ومن هنا قيل : الأوجه في الجواب أن يلتزم عدم إعجاز كلامه صلّى اللّه عليه وسلم مع كونه عليه الصلاة والسلام أفصح العرب ولا منافاة بينهما كما لا يخفى على المتأمل.
وأطال بعضهم الكلام في هذا المقام ، وبعض أدرج مسألة خلق الأفعال في البين وجعل مدار الجواب مذهب الأشعري فيها ولعل الأمر غني عن الإطالة عند من انجاب عن عين بصيرته الغين بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ قيل : هو إضراب وانتقال عن إظهار بطلان ما قالوا في حق القرآن العظيم بالتحدي إلى إظهاره ببيان أنه كلام ناشىء عن عدم علمهم بكنه أمره والاطلاع على شأنه الجليل فما عبارة عن القرآن وهو المروي عن الحسن وعليه محققو المفسرين ، وقيل : هي عبارة عما ذكر فيه مما يخالف دينهم كالتوحيد والبعث والجزاء وليس بذاك سواء كانت الباء للتعدية كما هو المتبادر أم للسببية ، والمراد أنهم سارعوا إلى تكذيبه من غير أن يتدبروا ما فيه ويقفوا على ما في تضاعيفه من الشواهد الدالة على كونه كما وصف آنفا ويعلموا أنه ليس مما يمكن أن يؤتى بسورة مثله ، والتعبير عنه بهذا العنوان دون أن يقال : بل كذبوا به من غير أن يحيطوا بعلمه أو نحوه للإيذان بكمال جهلهم به وأنهم لم يعلموه إلا بعنوان عدم العلم به وبأن تكذيبهم به إنما هو بسبب عدم إحاطتهم بعلمه لما أن تعليق الحكم بالموصول مشعر بعلية ما في حيز الصلة له ، وأصل الكلام بما لم يحيطوا به علما إلا أنه عدل عنه إلى ما في النظم الكريم لأنه أبلغ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ عطف على الصلة أو حال من الموصول أي ولم يقفوا بعد على معانيه الوضعية والعقلية المنبئة عن علو شأنه وسطوع برهانه ، فالتأويل نوع من التفسير ، والإتيان مجاز عن المعرفة والوقوف ، ولعل اختياره للإشعار بأن تلك المعاني متوجهة إلى الأذهان منساقة إليها بنفسها ، وجوز أن يراد بالتأويل وقوع مدلوله وهو عاقبته وما يؤول إليه وهو المعنى الحقيقي عند بعض فإتيانه حينئذ مجاز عن تبينه وانكشافه ، أي ولم يتبين لهم إلى الآن تأويل ما فيه من الأخبار بالغيوب حتى يظهر أنه صدق أم كذب.
والمعنى أن القرآن معجز من جهة النظم والمعنى ومن جهة الإخبار بالغيب وهم فاجؤوا تكذيبه قبل أن يتدبروا نظمه ويتفكروا في معناه أو ينتظروا وقوع ما أخبر به من الأمور المستقبلة ، ونفي إتيان التأويل بكلمة لَمَّا الدالة على توقع منفيها بعد نفي الإحاطة بعلمه بكلمة - لم - لتأكيد الذم وتشديد التشنيع فإن الشناعة في تكذيب الشيء قبل علمه المتوقع إتيانه أفحش منها في تكذيبه قبل علمه مطلقا.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 113
وادعى بعضهم أن الإضراب عن التكذيب عنادا المدلول عليه بقوله سبحانه : قُلْ فَأْتُوا إلخ فإن الإلزام إنما يأتي بعد ظهور العجز ، ومعنى هذا الإضراب ذمهم على التقليد وترك النظر مع التمكن منه وهو أدخل في الذم من العناد من وجه ، وذلك لأن التقليد اعتراف من صاحبه بالقصور في الفطنة ثم لا يعذر فيه فلا يرتضي ذو عقل أن يقلد رجلا مثله من غير تقدم عليه بفطنة وتجربة وأما العناد فقد يحمده بعض النفوس الأبية بل في أشعارهم ما يدل على أنهم مفتخرون بذلك كقولهم :
فعاند من تطيق له عناد ولا يرد أن العناد لما كان بعد العلم كان أدخل في الذم فلا نسلم أنه أدخل فيه من التقليد بل من الجهل قبل التدبر دون اقتران التقليد به ، وإن سلم فهذا أيضا أدخل من وجه ، وقد جعل مصب الإنكار على جمعهم بين الأمرين والجمع على كل حال أدخل من التفرد بواحد صح الإضراب فكأنه قيل : دع تحديهم وإلزامهم فإنهم لا يستأهلون الخطاب لأنهم مقلدون متهافتون في الأمر لا عن خبر وحجى. وقد ذكر الزمخشري في هذا المقام ثلاثة أوجه ، الوجه الأول أن التقدير أم كذبوا وقالوا هو مفترى بعد العلم بإعجازه عنادا بل كذبوا به قبل أن يأتيهم العلم بوجه إعجازه أيضا فهم مستمرون على التكذيب في الحالين مذمومون به موسومون برذيلتي التقليد والعناد جامعون بينهما بالنسبة إلى وقتين ، ووجه ذلك بأن بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ صريح في تكذيبهم قبل العلم بوجه الإعجاز وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ يدل على امتداد هذا التكذيب إلى مجيء التأويل المنتظر بالنسبة إلى تكذيبهم قبل لا بالنسبة إلى زمان الإخبار فإن التأويل أيضا واقع ، وحينئذ إما أن يكون التكذيب كونه واردا ذما لهم بالتسرع إلى التكذيب الذي هو منطوق النص فيجب أن يكون العطف على قوله سبحانه : أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ويكون ذلك لبيان أنهم كذبوا عن علم وهذا لبيان تكذيبهم قبله أيضا ويكون الجهتان منظورتين وأنهم مذمومون فيهما.
والحاصل أن أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ لا مرية فيه أنه تكذيب بعد العلم لمكان الأمر بعده. لكن لما جعل التوقع المفاد بلما لعلم الإعجاز لزم أن يكون بالنسبة إلى حالهم الأولى وهو التكذيب قبل العلم فإن النبي صلّى اللّه عليه وسلم كان يتوقع زواله بالعلم ويكون معنى المبالغة في لَمَّا الإشعار باستغراق الوقت للتكذيب إلى زمان التأويل المنتظر الواقع الذي كذبوا فيه عنادا وبغيا. الوجه الثاني حمل التأويل على المعنى الثاني الذي ذكرناه ، والمعنى بل سارعوا إلى التكذيب قبل الإحاطة بعلمه ليعرفوا إعجاز نظمه ، وقيل : إتيان التأويل المنتظر وهو ما يؤول إليه من الصدق في الأخبار بالمغيبات ، والمقصود من هذا ذمهم بالتسارع إلى التكذيب من الوجهين لكن لما كان مع الوجهين علم ما يتضمنه لو يدبروا لم يكن فيه شيء منتظر والثاني لما لم يكن كذلك كان فيه أمر منتظر ، وأتى بحرف التوقع دليلا عن أن هذا المنتظر كائن وسيظهر أنهم مبطلون فيه أيضا كالأول ولا نظر إلى أنهم مذمومون حالتي العناد والتقليد بل المقصود كمال إظهار الإلزام بأنه مفروغ عنه مع أمثالهم للتهافت المذكور.
الوجه الثالث أن أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ذم لطائفة كذبوا عن علم وهذا ذم لأخرى كذبت عن شك ولما وجد فيما بينهم القسمان أسند الكل إلى الكل وليس بدعا في القرآن ، والغرض من الإضراب تعميم التكذيب وأنه كان الواجب على الشاك التوقف لا التسرع إلى التكذيب ومعنى التوقع أنه سيزول شكهم فسيعلم بعضهم ويبقى بعض على ما هو عليه ، والآية ساكتة عن التفصيل ناطقة بزوال الشك ولا خفاء أن الشاك ينتظر وكذلك كان صلّى اللّه عليه وسلم يتوقع زوال شكهم انتهى ، ولا يخفى أن ما نقلنا أولا أولى بالقبول عند ذوي العقول.
وأورد على دعوى أن أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ تكذيب بعد العلم أنها ناشئة من عدم العلم وما سيق لإثباتها في حيز

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 114
المنع فإن الإلزام بعد التحدي وذلك القول قبله ، وكونه مسبوقا بالتحدي الوارد في سورة البقرة يرده أنها مدنية وهذه مكية.
نعم ربما يقال في الاستدلال على كون ذلك القول بعد العلم بوقوع حكايته في النظم الكريم بعد حكاية الإشارة إلى مضمونه بقوله تعالى : قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ [يونس : 15] ورده بما سمعته هناك حسبما قرره الجمهور ، وبيان ذلك أنهم نقل عنهم أولا الإشارة إلى نسبة الافتراء إلى سيد الصادقين صلّى اللّه عليه وسلم ثم نقل عنهم التصريح بذلك ، والظاهر أن الأمر حسبما نقل لكثرة وقوع التصريح بعد الإشارة ، وقد تخلل رد ما أشاروا إليه في البين فيحتمل أنهم عقلوه وعلموا الحق لكنهم لم يقروا به عنادا وبغيا فصرحوا بما صرحوا فيكون ذلك منهم بعد العلم ولترقيهم من الإشارة إلى التصريح ترقي في إلزامهم فإن هذا التحدي أظهر في الإلزام مما تقدم كما هو ظاهر ، لكن للمناقشة في هذا مجال ، ويخطر بالبال أنه يحتمل أن يكون الإضراب عن ذمهم بالتكذيب بالقرآن إلى ذمهم بالمسارعة إلى تكذيب ما لم يحيطوا به علما وأن الوقوف على العلم به متوقع سواء كان قرآنا أو غيره - فما - عامة للأمرين ويدخل القرآن في العموم دخولا أوليا ولعله أولى مما قيل : إنه إضراب عن مقدر وينبغي أن تسمى - بل - هذه فصيحة فإن المعنى فما أجابوا أو ما قدروا أن يأتوا بل كذبوا إلخ كَذلِكَ أي مثل تكذيبهم من غير تدبر وتأمل كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي فعلوا التكذيب أو كذبوا أنبياءهم فيما أتوا به فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ خطاب لسيد المخاطبين صلّى اللّه عليه وسلم ويحتمل أن يكون عاما لكل من يصلح له ، والمراد
بالظالمين الذين من قبلهم ، ووضع المظهر موضع المضمر للإيذان بكون التكذيب ظلما وبعليته لإصابة ما أصابهم من سوء العاقبة وبدخول هؤلاء الذين حكي عنهم ما حكي في زمرتهم جرما ووعيدا دخولا أوليا ، والفاء لترتيب ما بعدها على محذوف ينساق إليه الكلام أي فأهلكناهم فانظر إلخ ، وكيف في موضع نصب خبر كان ، وقد يتصرف فيها فتوضع موضع المصدر وهو كيفية ويخلع عنها معنى الاستفهام بالكلية ، وهي هنا تحتمل ذلك ، وكذا قول البخاري رضي اللّه تعالى عنه : - كيف كان بدء الوحي - كما قال السمين ، ونقل عنه أن فعل النظر معلق عن العمل لمكان كيف لأنهم عاملوها في كل موضع معاملة الاستفهام المحض وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وصف لحالهم بعد إتيان التأويل المتوقع كما قيل إذ حينئذ يمكن تنويعهم إلى المؤمن به وغير المؤمن به ضرورة امتناع الإيمان بشيء من غير علم به واشتراك الكل في التكذيب قبل ذلك فالضمير للمكذبين ، ومعنى الإيمان به إما الاعتقاد بحقيته فقط أي منهم من يصدق به في نفسه أنه حق عند الإحاطة بعلمه وإتيان تأويله لكنه يعاند ويكابر وإما الإيمان الحقيقي أي منهم من سيؤمن به ويتوب عن الكفر وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ أي لا يصدق به في نفسه كما لا يصدق به ظاهرا لفرط غباوته المانعة عن الإحاطة بعلمه كما ينبغي أو لسخافة عقله واختلال تمييزه وعجزه عن تخليص علومه عن معارضة الظنون والأوهام التي ألفها فيبقى على ما كان عليه من الشك أو لا يؤمن به فيما سيأتي بل يموت على كفره معاندا كان أو شاكا وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ أي بكلا الفريقين على الوجه الأول من التفسير لا بالمعاندين فقط لاشتراكهما في أصل الإفساد المستدعي لاشتراكهما في الوعيد المراد من الكلام أو بالمصرين الباقين على الكفر على الوجه الثاني منه وَإِنْ كَذَّبُوكَ أي أصروا على تكذيبك بعد إلزام الحجة ، وأول بذلك لأن أصل التكذيب حاصل فلا يصح فيه
الاستقبال المفاد بالشرط ، وأيضا جوابه وهو قوله سبحانه : فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ المراد منه التبرؤ والتخلية إنما يناسب الإصرار على التكذيب واليأس من الإجابة ، والمعنى لي جزاء عملي ولكم جزاء عملكم كيفما كانا ، وتوحيد العمل المضاف إليهم باعتبار الاتحاد النوعي ولمراعاة كمال المقابلة كما قيل ، وقوله سبحانه : أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ تأكيد لما أفاده لام الاختصاص من عدم تعدي جزاء العمل إلى غير عامله أي لا تؤاخذون بعملي ولا أؤاخذ بعملكم ، وعلى هذا فالآية محكمة غير

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 115
منسوخة بآية السيف لما أن مدلولها اختصاص كل بأفعاله وثمراتها من الثواب والعقاب وآية السيف لم ترفع ذلك ، وعن مقاتل والكلبي وابن زيد أنها منسوخة بها وكأن ذلك لما فهموا منها الإعراض وترك التعرض بشيء ، ولعل وجه تقديم حكم المتكلم أولا وتأخيره ثانيا والعكس في حكم المخاطبين ظاهر مما ذكرناه في معنى الآية فافهم.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات : وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا وهو احتجابهم عن قبول صفات الحق وذلك لأنه بتوفر النعم الظاهرة والمرادات الجسمانية يقوي ميل النفس إلى الجهة السفلية فتحتجب عن قبول ذلك كما أنه بأنواع البلاء تنكسر سورة النفس ويتلطف القلب ويحصل الميل إلى الجهة العلوية والتهيؤ لقبول ذلك قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً بإخفاء القهر الحقيقي في هذا اللطف الصوري إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ في ألواح الملكوت هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أي يسير نفوسكم في بر المجاهدات وقلوبكم في بحر المشاهدات ، وقيل : يسير عقولكم في بر الأفعال وأرواحكم في بحر الصفات والذات حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ أي فلك العناية الأزلية وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وهي ريح صبا وصاله سبحانه وَفَرِحُوا بِها لإيذانها بذلك وتعطرها بشذا ديار الإنس ومرابع القدس :
ألا يا نسيم الريح ما لك كلما تقربت منا زاد نشرك طيبا
أظن سليمى خبرت بسقامنا فأعطتك رياها فجئت طبيبا
جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وذلك عاصف القهر وأمواج صفات الجلال ، وهذه سنة جارية في العاشقين لا يستمر لهم حال ولا يدون لهم وصال ، وللّه در من قال :
فبتنا على رغم الحسود وبيننا شراب كريح المسك شيب به الخمر
فوسدتها كفي وبت ضجيعها وقلت لليلي طل فقد رقد البدر
فلما أضاء الصبح فرق بيننا وأي نعيم لا يكدره الدهر
وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ أي إنهم من الهالكين في تلك الأمواج دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ بالتبري من غير اللّه تعالى قائلين لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لك بك فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وهو تجاوزهم عن حد العبودية بسكرهم في جمال الربوبية ، وذلك مثل ما عرا الحلاج وأضرابه ثم إنه سبحانه نبههم بعد رجوعهم من السكر إلى الصحو على أن الأمر وراء ذلك بقوله جل وعلا : يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أي إنه يرجع إليكم ما ادعيتم لا إليه تعالى فإنه سبحانه الموجود المطلق حتى عن قيد الإطلاق كذا قالوا.
وقال ابن عطاء في الآية حتى إذا ركبوا مراكب المعرفة وجرت بهم رياح العناية وطابت نفوسهم وقلوبهم بذلك وفرحوا بتوجههم إلى مقصودهم جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ أفنتهم عن أحوالهم وإرادتهم وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ أي تيقنوا أنهم مأخوذون عنهم ولم يبق لهم ولا عليهم صفة يرجعون إليها وأن الحق خصهم من بين عباده بأن سلبهم عنهم دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حيث صفى سبحانه أسرارهم وطهرها مما سواه فَلَمَّا أَنْجاهُمْ أي ردهم إلى أوصافهم وأشباحهم رجعوا إلى ما عليه عوام الخلق من طلب المعاش للنفوس انتهى. وكأنه حمل البغي على الطلب وضمنه معنى الاشتغال أي يطلبون في الأرض مشتغلين بغير الحق سبحانه وهو المعاش الذي به قوام أبدانهم ، ويشكل أمر الوعيد المنبئ به فَنُنَبِّئُكُمْ إلخ على هذا التأويل وما قبله لأن ما يقع في السكر لا وعيد عليه وكذا طلب المعاش ، وانظر هل يصح أن يقال : إن الأمر من باب حسنات الأبرار

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 116
سيئات المقربين؟ ثم إنه سبحانه مثل الحياة في سرعة زوالها وانصرام نعيمها غب إقبالها واغترار صاحبها بها بما أشار إليه سبحانه بقوله جل وعلا : كَماءٍ أَنْزَلْناهُ إلخ وفيه إشارة إلى ما يعرض والعياذ باللّه تعالى لمن سبقت شقاوته في الأزل من الحور بعد الكور فبينما تراه وأحواله حالية وأعوامه عن شوائب الكدر خالية وغصون أنسه متدلية ورياض قربه مونقة قلب الدهر له ظهر المجن وغزاه بجيوش المحن وهبت على هاتيك الرياض عاصفات القضاء وضاقت عليه فسيحات الفضاء وذهب السرور والإنس وجعل حصيدا كأن لم يغن بالأمس وأنشد لسان حاله :
قف بالديار فهذه آثارهم نبكي الأحبة حسرة وتشوقا
كم قد وقفت بها أسائل مخبرا عن أهلها أو صادقا أو مشفقا
فأجابني داعي الهوى في رسمها فارقت من تهوى فعز الملتقى
وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وهو العالم الروحاني السليم من الآفات وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ لا شعوب فيه وهو طريق الوحدة. وقد يقال : يدعو الجميع إلى داره. ويهدي خواص العارفين إلى وصاله.
أو يدعو السالكين إلى الجنة ويبدي المجذوبين إلى المشاهدة لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا وهم خواص الخواص الْحُسْنى وهي رؤية اللّه تعالى وَزِيادَةٌ وهي دوام الرؤية ، أو للذين جاؤوا بما يحسن به حالهم من خير قلبي أو قالبي ، المثوبة الحسنى من الكمال الذي يفاض عليهم وزيادة في استعداد قبول الخير إلى ما كانوا عليه قبل ، وقد يقال : الحسنى ما يقتضيه قرب النوافل والزيادة ما يقتضيه قرب الفرائض وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أي لا يصيبهم غبار الخجالة ولا ذل الفرقة أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ التي تقتضيها أفعالهم هُمْ فِيها خالِدُونَ ثم ذكر سبحانه حال الذين أساؤوا بقوله جل شأنه : وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ إلخ وأشار إلى أنه على عكس حال أولئك الكرام وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً في المجمع الأكبر ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا منهم وهم المحجوبون الواقفون مع الغير بالمحبة والطاعة مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ قفوا جميعا وانتظروا الحكم فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ أي قطعنا الأسباب التي كانت بينهم وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ بل كنتم تعبدون أشياء اخترعتموها في أوهامكم الفاسدة فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ لم نطلبها منكم لا بلسان حال ولا بلسان قال هُنالِكَ أي في ذلك الموقف تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ أي تذوق وتختبر ما أَسْلَفَتْ في الدنيا وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ المتولي لجزائهم بالعدل والقسط وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ من اختراعاتهم وتوهماتهم الكاذبة وأمانيهم الباطلة.
ثم ذكر سبحانه مما يدل على التوحيد ما ذكر ، والرزق من السماء عند العارفين هو رزق الأرواح ومن الأرض رزق الأشباح ، والحي عندهم العارف والميت الجاهل وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ذم لهم بعدم العلم بما يجب لمولاهم وما يمتنع وما يجوز ولا يكاد ينجو من هذا الذم إلا قليل ، ومنهم الذين عرفوه جل شأنه به لا بالفكر بل قد يكاد يقصر العلم عليهم فإن أدلة أهل الرسوم من المتكلمين وغيرهم متعارضه وكلماتهم متجاذبة فلا تكاد ترى دليلا سالما من قيل وقال ونزاع وجدال ، والوقوف على علم من ذلك مع ذلك أمر أبعد من العيوق وأعز من بيض الأنوق :
لقد طفت في تلك المعاهد كلها وسرحت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كف حائر على ذقن أو قارعا سن نادم
فمن أراد النجاة فليفعل ما فعل القوم ليحصل له ما حصل لهم أولا فليتبع السلف الصالح فيما كانوا عليه في أمر دينهم غير مكترث بمقالات الفلاسفة ومن حذا حذوهم من المتكلمين التي لا تزيد طالب الحق إلا شكا وَما كانَ

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 117
هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من اللوح المحفوظ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ الذي هو الأم ، أهي كيف يكون مختلقا وقد أثبت قبله في كتابين مفصلا ومجملا بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ذم لهم بالمسارعة إلى تكذيب الحق قبل التأمل والتدبر والاطلاع على الحقيقة وهذه عادة المنكرين أهل الحجاب مع كلمات القوم حيث إنهم يسارعون إلى إنكارها قبل التأمل فيها وتدبر مضامينها والوقوف على الاصطلاحات التي بنيت عليها وكان الحري بهم التثبت والتدبر واللّه تعالى ولي التوفيق.
[سورة يونس (10) : الآيات 42 إلى 89]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51)
ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (54) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60) وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61)
أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71)
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76)
قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81)
وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86)
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89)

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 118

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 119
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ بيان لكونهم مطبوعا على قلوبهم بحيث لا سبيل إلى إيمانهم ومَنْ مبتدأ خبره مقدم عليه ، وهو إما موصول أو نكرة موصوفة والجملة بعده إما صلة أو صفة ، وجمع الضمير الراجع إليه رعاية لجانب المعنى كما أفرد فيما بعد رعاية لجانب اللفظ ، ولعل ذلك للإيماء إلى كثرة المستمعين بناء على عدم توقف الاستماع على ما يتوقف عليه النظر من الشروط العادية أو العقلية ، والمعنى ومن المكذبين الذين أو أناس يصغون إلى القرآن أو إلى كلامك إذا علمت الشرائع وتصل الألفاظ لآذانهم ، ولكن لا ينتفعون بها ولا يقبلونها كالصم الذين لا يسمعون أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أي تقدر على أسماعهم وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ أي ولو انضم إلى صممهم عدم عقلهم لأن الأصم العاقل ربما تفرس إذا وصل إلى صماخه دوي وأما إذا اجتمع فقدان السمع والعقل فقد تم الأمر ، وإنما جعلوا كالصم الذين لا عقل لهم مع كونهم عقلاء لأن عقولهم قد أصيبت بآفة معارضة الوهم لها وداء متابعة الالف والتقليد ، ومن هنا تعذر عليهم فهم معاني القرآن والأحكام الدقيقة وإدراك الحكم الرشيقة الأنيقة فلم ينتفعوا بسرد الألفاظ عليهم غير ما تنتفع به البهائم من كلام الناعق وتقديم المسند إليه في أَفَأَنْتَ للتقوية عند السكاكي وجعله العلامة للتخصيص.
ففي تقديم الفاعل المعنوي وإيلائه همزة الإنكار الدلالة على أن نبي اللّه صلّى اللّه عليه وسلم تصور في نفسه من حرصه على إيمان القوم أنه قادر على الاسماع أو نزل منزلة من تصور أنه قادر عليه وأنه تعالى شأنه نفى ذلك عنه صلّى اللّه عليه وسلم وأثبته لنفسه سبحانه على الاختصاص كأنه قيل : أنت لا تقدر على إسماع أولئك بل نحن القادرون عليه كذا قيل وفي القلب منه شيء ، ولذا اختير هنا مذهب السكاكي ، وجعل إنكار الإسماع متفرعا على المقدمة الاستدراكية المطوية المفهومة من المقام حسبما أشير إليه ، وفيه اعتبار كون الهمزة مقدمة من تأخير لاقتضائها الصدارة وهو مذهب لبعضهم.
وقيل : إنها في موضعها ، وأدخلت الفاء لإنكار ترتب الإسماع على الاستماع لكن لا بطريق العطف على فعله المذكور الواقع صلة أو صفة للزوم اختلال المعنى على ذلك بل بطريق العطف على فعل مثله مفهوم من فحوى النظم غير واقع موقعه كأنه قيل : أيستمعون إليك فأنت تسمعهم ، وقد يراد إنكار إمكان وقوع الإسماع عقيب ذلك وترتبه عليه كما ينبىء عنه وضع الصم موضع ضميرهم ووصفهم بعدم العقل ، وجواب لَوْ محذوف لدلالة ما قبله عليه ، والجملة معطوفة على جملة مقدرة مقابلة لها ، والكل في موضع الحال من مفعول الفعل السابق ، أي أفأنت تسمع الصم لو كانوا يعقلون ولو كانوا لا يعقلون على معنى أفأنت تسمعهم على كل حال مفروض ويقال - للو - هذه وصلية وذلك أمر مشهور. واستشكل الإتيان بها هنا بأن الأصل فيها أن يكون الحكم على تقدير تحقق مدخولها ثابتا كما أنه ثابت على تقدير عدمه إلا أنه على تقدير عدمه أولى والأمر هنا بالعكس. وأجيب بأن اتصال الوصل بالإثبات جار على المعروف فإن تقديره تسمعهم ولو كانوا لا يعقلون وظاهر أن إسماعهم مع العقل بطريق الأولى ، والاستفهام إثبات بحسب الظاهر فإن نظر إليه فذاك وإن نظر إلى الإنكار وأنه نفي بحسب المعنى اعتبر أنه داخل على المجموع بعد

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 120
ارتباطه وكذا يقال فيما بعد فتأمل فيه ولا تغفل وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ ويعاين دلائل نبوتك الواضحة ولكن لا يهتدي بها كالأعمى أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ تقدر على هدايتهم وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ أي ولو انضم إلى عدم البصر عدم البصيرة فإن المقصود من الأبصار هو الاعتبار والاستبصار والعمدة في ذلك هي البصيرة ولذلك يحدس الأعمى المستبصر ويتفطن لما لا يدرك البصير الأحمق ، فلا يقال : كيف أثبت لهم النظر والأبصار أو لا ونفى عنهم ثانيا.
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ أي لا ينقصهم شَيْئاً مما نيطت به مصالحهم وكمالاتهم من مبادئ الإدراكات وأسباب العلوم والإرشاد إلى الحق بإرسال الرسل عليهم السلام ونصب الأدلة بل يوفيهم ذلك فضلا منه جل شأنه وكرما وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أي ينقصون ما ينقصون من ذلك لعدم استعمال مشاعرهم فيما خلقت له وإعراضهم عن قبول الحق وتكذيبهم للرسل وترك النظر في الأدلة - فشيئا - مفعول ثان - ليظلم - بناء على أنه مضمن معنى ينقص كما قيل أو أنه بمعناه من غير حاجة إلى القول بالتضمين كما نقول وأن النقص يتعدى لاثنين كما يكون لازما ومتعديا لواحد ، ولم يذكر ثاني مفعولي الثاني لعدم تعلق الغرض به ، وتقديم المفعول الأول يحتمل أن يكون لمجرد الاهتمام مع مراعاة الفاصلة من غير قصد إلى قصر المظلومية عليهم على رأي من لا يرى التقديم موجبا للقصر كابن الأثير ومن تبعه كما في قوله سبحانه : وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [هود : 101] ويحتمل أن يكون لقصر المظلومية على رأي من يرى التقديم موجبا لذلك كالجمهور ومن تبعهم ، ولعل إيثار قصرها على قصر الظالمية عليهم للمبالغة في بطلان أفعالهم وسخافة عقولهم على أن قصر الأولى عليهم مستلزم كما قيل لما يقتضيه ظاهر الحال من قصر الثانية عليهم فاكتفى بالقصر الأول عن الثاني مع رعاية ما ذكر من الفائدة.
وجوز بعضهم كون أَنْفُسَهُمْ تأكيدا للناس والمفعول حينئذ محذوف فيكون بمنزلة ضمير الفصل في قوله تعالى : وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ [الزخرف : 76] في قصر الظالمية عليهم ، والتعبير عن فعلهم ذلك بالنقص مع كونه تفويتا بالكلية لمراعاة جانب قرينه ، وصيغة المضارع للاستمرار نفيا وإثباتا أما الثاني فظاهر وأما الأول فلأن حرف النفي إذا دخل على المضارع يفيد بحسب المقام استمرار النفي لا نفي الاستمرار كما مر غير مرة.
وقيل : المعنى أن اللّه لا يظلم الناس بتعذيبهم يوم القيامة شيئا من الظلم ولكن الناس أنفسهم يظلمون ظلما مستمرا فإن مباشرتهم المستمرة للسيئات الموجبة للتعذيب عين ظلمهم لأنفسهم فالظلم على معناه المشهور ، وشَيْئاً مفعول مطلق والمضارع المنفي للاستقبال والمثبت للاستمرار ، ومساق الآية الكريمة على الأول لإلزام الحجة وعلى الثاني للوعيد وعلى الوجهين هي تذييل لما سبق ، وجعلها على الأول تذييلا لجميع التكاليف والأقاصيص المذكورة من أول السورة وإن كان متجها خلاف الظاهر لا سيما وما بعد ليس ابتداء مشروع في قصة آخرين.
وقيل : معنى الآية أن اللّه لا يظلم الناس شيئا بسلب حواسهم وعقولهم إن سلبها لأنه تصرف في خالص ملكه ولكن الناس أنفسهم يظلمون بإفساد ذلك وصرفه لما لا يليق ، وهي جواب لسؤال نشأ من الآية السابقة والظلم فيها على ظاهره أيضا. واستدل بها على أن للعبد كسبا وليس مسلوب الاختيار بالكلية كما ذهب إليه الجبرية والمختار عند كثير من المحققين أن نفي ظلم الناس عنه تعالى شأنه لأنه سبحانه جواد حكيم يفيض على القوابل حسب استعدادها الأزلي الثابت في العلم فما من كمال أو نقص في العبد إلا هو كماله أو نقصه الذي اقتضاه استعداده كما يرشد إلى ذلك قوله جل وعلا : أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ [طه : 50] وقوله سبحانه : فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 121
[الشمس : 8] وأن إثبات ظلم الناس لأنفسهم باعتبار اقتضاء استعدادهم الثابت في العلم الأزلي ما أفيض عليهم مما استحقوا به التعذيب.
وقد ذكروا أن هذا الاستعداد غير مجعول ضرورة أن الجعل مسبوق بتعلق القدرة المسبوق بتعلق الإرادة المسبوق بتعلق العلم والاستعداد ليس كذلك لأنه لم يثبت العلم إلا وهو متعلق به بل بسائر الأشياء أيضا لأن التعلق بالمعلوم من ضروريات العلم والتعلق بما لا ثبوت له أصلا مما لا يعقل ضرورة أنه نسبة وهي لا تتحقق بدون ثبوت الطرفين ، ولا يرد على هذا أنه يلزم منه استغناء الموجودات عن المؤثر لأنا نقول : إن كان المراد استغناءها عن ذلك نظرا إلى الوجود العلمي القديم فالأمر كذلك ولا محذور فيه وإن كان المراد استغناءها عن ذلك نظرا إلى وجودها الخارجي الحادث فلا نسلم اللزوم وتحقيق ذلك بما له وما عليه في محله ، وفي الآية على هذا تنبيه على أن كون أولئك المكذبين كما وصفوا إنما نشأ عن اقتضاء استعدادهم له ولذلك ذموا به لا عن محض تقديره عليهم من غير أن يكون منهم طلب له باستعدادهم ولعل تسمية التصرف على خلاف ما يقتضيه الاستعداد لو كان ظلما من باب المجاز وتنزيل المقتضى منزلة الملك وإلا فحقيقة الظلم مما لا يصح إطلاقه على تصرف من تصرفاته تعالى كيف كان إذ لا ملك حقيقة لأحد سواه في شيء من الأشياء ، ووضع الظاهر في الجملة الاستدراكية موضع الضمير لزيادة التعيين والتقرير.
وقرأ حمزة والكسائي بتخفيف «لكن» ورفع «الناس» وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ بالياء وهي قراءة حمزة على عاصم. وقرأ الباقون بالنون على الالتفات ويَوْمَ عند الأكثرين منصوب بمضمر أي اذكر لهم أو أنذرهم يوم نجمعهم لموقف الحساب كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا أي كأنهم أناس لم يلبسوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ أي شيئا قليلا منه فإنها مثل في غاية القلة وتخصيصها بالنهار لأن ساعات أعرف حالا من ساعاته الليل والجملة في موقع الحال من مفعول يَحْشُرُهُمْ أي نحشرهم مشبهين بمن لم يلبث في الدنيا أو في البرزخ إلا ذلك القدر اليسير ، وليس المراد من التشبيه ظاهره على ما قيل ، وقد صرح في شرح المفتاح أن التشبيه كثيرا ما يذكر ويراد به معان أخر تترتب عليه ، فالمراد إما التأسف على عدم انتفاعهم بأعمارهم أو تمني أن يطول مكثهم قبل ذلك حتى لا يشاهدوا ما شاهدوه من الأهوال فمآل الجملة في الآخرة نحشرهم متأسفين أو متمنين طول مكثهم قبل ذلك ، ويجوز أن يراد نحشرهم مشبهين في أحوالهم الظاهرة للناس بمن لم يلبث في الدنيا ولم يتقلب في نعيمها إلا يسيرا فإن من أقام بها دهرا وتمتع بمتاعها لا يخلو عن بعض آثار نعمة وأحكام بهجة منافية لما بهم من رثاثة الهيئة وسوء الحال وإليه ذهب بعضهم ، والظاهر أنه تكلف لإبقاء التشبيه على ظاهره والأول أولى كما لا يخفى ، وأيا ما كان ففائدة التشبيه كنار على علم ، والعجب ممن لم يرها فقال الظاهر إن كَأَنْ للظن ، وادعى البعض أن فائدة التقييد على تقدير أن يراد اللبث في البرزخ بيان كمال يسر الحشر بالنسبة إلى قدرته تعالى ولو بعد دهر طويل وإظهار بطلان استبعادهم وإنكارهم بقولهم : أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [المؤمنون : 82 ، الصافات : 16 ، الواقعة : 47] ونحو ذلك أو بيان تمام الوافقة بين النشأتين في الإشكال والصور فإن قلة اللبث في البرزخ من موجبات عدم التبدل والتغير ، ولعل مآل الحال على هذا ويوم نحشرهم على صورهم وأشكالهم غير متغيرين ، وجوز أبو علي كون الجملة في موضع الصفة - ليوم - والعائد محذوف تقديره كأن لم يلبثوا قبله أو لمصدر محذوف والعائد كذلك أي حشرا كأن لم يلبثوا قبله ، ورد بأن مثل هذا الرابط لا يجوز حذفه والأول بأن المراد بالظرف المضاف وهو الموصوف يوم القيامة وهو يوم معين وتقدير الكلام يوم حشره أو يوم حشرنا فيكون الموصوف معرفة والجمل نكرات ولا تنعت المعرفة بالنكرة. وأجيب بأن المنع من جواز حذف مثل ذلك الرابط في حيز المنع وبأن الجمل التي تضاف إليها أسماء الزمان قد يقدر حلها إلى معرفة فيكون ما أضيف إليها معرفة

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 122
وقد يقدر حلها إلى نكرة فيكون ذلك نكرة ، ولعل أبا علي يتكلف لاعتبار حلها إلى نكرة ويكون الموصوف هنا نكرة عنده فيرتفع محذور نعت المعرفة بالنكرة. وأنت تعلم أن الجواب إنما يدفع البطلان لا غير فالحق ترجيح الحالية ، وقوله سبحانه : يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ أي يعرف بعضهم بعضا كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلا يحتمل أن يكون استئنافا وأن يكون بيانا للجملة التشبيهية واستدلالا عليها كما قيل ، وذلك أنه لو طال العهد لم يبق التعارف لأن طول العهد منس مفض إلى التناكر لكن التعارف باق فطول العهد منتف وهو معنى لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً وفيه دغدغة.
وزعم أبو البقاء كونه حالا مقدرة ولا داعي لاعتبار كونها مقدرة لأن الظاهر عدم تأخر التعارف عن الحشر بزمان طويل ليحتاج إليه ، وقد صرحوا بأن التعارف بينهم يكون أول خروجهم من القبور ثم ينقطع لشدة الأهوال المذهلة واعتراء الأحوال المعضلة المغيرة للصور والأشكال المبدلة لها من حال إلى حال ، وعندي أن لا قطع بالانقطاع فالمواقف مختلفة والأحوال متفاوتة فقد يتعارفون بعد التناكر في موقف دون موقف وحال دون حال ، وفي بعض الآثار ما يؤيد ذلك. وزعم بعضهم المنافاة بين ما تدل عليه هذه الآية وما يدل عليه قوله سبحانه : فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ [المؤمنون : 101] وقوله تعالى : وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً [المعارج : 10] من عدم التعارف لولا اعتبار الزمانين.
وقيل : لا منافاة بناء على أن المثبت تعارف تقريع وتوبيخ والمنفي تعارف تواصل وشفقة ، ولمانع أن يمنع دلالة ما ذكر من الآيات على نفي التعارف ، وقصارى ما يدل عليه نفي نفع الأنساب وسؤال بعضهم بعضا ، والتعارف الذي تدل عليه هذه الآية لا ينافي ذلك ، فقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن أنه قال فيها : يعرف الرجل صاحبه إلى جنبه فلا يستطيع أن يكلمه ثم إن حمل التعارف على معرفة بعضهم بعضا هو المعروف عند المفسرين ، وقيل :
المراد به التعريف أي يعرف بعضهم بعضا ما كانوا عليه من الخطأ والكفر وفيه ما فيه.
وجوز بعضهم أن يكون الظرف السابق متعلقا - بيتعارفون - قيل فيعطف على ما سبق ولا يظهر له وجه وقوله تعالى : قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ جملة مستأنفة سيقت للشهادة منه تعالى على خسرانهم والتعجيب منه وهي خبرية لفظا إنشائية معنى ، وقيل : مقول لقول مقدر وقع حالا من ضمير يَتَعارَفُونَ أو من ضمير يَحْشُرُهُمْ إن كانت جملة يَتَعارَفُونَ حالا أيضا لئلا يفصل بين الحال وذيها أجنبي والاستئناف أظهر ، والتعبير عنهم بالموصول مع أن المقام مقام إضمار لذمهم بما في حيز الصلة وللإشعار بعليته لما أصابهم ، والظاهر أن المراد بلقاء اللّه تعالى مطلق الحساب والجزاء وبالخسران الوضيعة أي قد وضعوا في تجارتهم ومعاملتهم واشترائهم الكفر بالإيمان ، وجوز أن يراد بالأول سوء اللقاء وبالثاني الهلاك والضلال ، أي قد ضلوا وهلكوا بتكذيبهم بذلك وَما كانُوا مُهْتَدِينَ أي لطرق التجارة عارفين بأحوالها أو ما كانوا مهتدين إلى طريق النجاة ، والجملة عطف على جملة قَدْ خَسِرَ إلخ ، وجوز أن تكون معطوفة على صلة الموصول على أنها كالتأكيد لها وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ أصله إن نرينك وما مزيد لتأكيد معنى الشرط ومن تمت أكد الفعل بالنون والرؤية بصرية أي إما نرينك بعينك بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ من العذاب بأن نعذبهم في حياتك أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل ذلك فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ جواب للشرط وما عطف عليه.
والمعنى إن عذابهم في الآخرة مقرر عذبوا في الدنيا أو لا ، وقيل : هو جواب نَتَوَفَّيَنَّكَ كأنه قيل : إما نتوفينك فإلينا مرجعهم فنريكه في الآخرة وجواب محذوف أي إما نرينك فذاك المراد أو المتمنى أو نحو ذلك ، وقال الطيبي : أي فذاك حق وصواب أو واقع أو ثابت واختار الأول أبو حيان ، والاعتراض عليه بأن الرجوع لا يترتب على تلك الإراءة فيحتاج إلى التزام كون الشرطية اتفاقية ناشىء من الغفلة عن المعنى المراد ، والمراد من نَعِدُهُمْ وعدناهم إلا أنه عدل إلى صيغة

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 123
الاستقبال لاستحضار الصورة أو للدلالة على التجدد والاستمرار أي نعدهم وعدا متجددا حسبما تقتضيه الحكمة من إنذار غب إنذار.
وفي تخصيص البعض بالذكر قيل رمز إلى أن العدة بإراءة بعض الموعود وقد أراه صلّى اللّه عليه وسلم ذلك يوم بدر ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ من الأفعال السيئة التي حكيت عنهم ، والمراد من الشهادة لازمها مجازا وهو المعاقبة والجزاء فكأنه قيل : ثم اللّه تعالى معاقب على ما يفعلون ، وجوز أن يراد منها إقامتها وأداؤها بإنطاق الجوارح وإلا فشهادة اللّه سبحانه بمعنى كونه رقيبا وحافظا أمر دائم في الدارين وثُمَّ لا تناسب ذلك ، والظاهر أنها على هذين الوجهين على ظاهرها. وفي الكشف وغيره هي على الأول للتراخي الرتبي وعلى الثاني على الظاهر وظاهر كلام البعض استحسان حملها على التراخي الرتبي مطلقا ولا أرى لارتكاب خلاف الظاهر بعد ذلك الارتكاب داعيا ، وأن العطف بها على الجزاء لا على مجموع الشرطية ، وأنت تعلم أن العطف على ذاك يمنع من إرادة التعذيب منه أو إراءته أو نحو ذلك مما لا يصح أن يكون المعنى المعطوف بثم بعده ومترتبا عليه ، ولعل ما اعتبروه هناك ليس تفسيرا للرجوع بل هو بيان للمقصود من الكلام ، وإظهار اسم الجلالة لإدخال الروعة وتربية المهابة وتأكيد التهديد. وقرأ ابن أبي عبلة ثُمَّ بالفتح أي هنالك وَلِكُلِّ أُمَّةٍ يوم القيامة رَسُولٌ تنسب إليه وتدعى به فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ الموقف ليشهد عليهم بالكفر والإيمان قُضِيَ بَيْنَهُمْ أي بعد أن يشهد بِالْقِسْطِ بالعدل وحكم بنجاة المؤمن وعقاب الكافر وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أصلا والجملة قيل تذييل لما قبلها مؤكدة له.
وقيل : في موضع الحال أي مستمرا عدم ظلمهم ، ونظير هذه الآية على هذا قوله سبحانه : وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ [الزمر : 69] أو لكل أمة من الأمم الخالية رسول يبعث إليهم بشريعة اقتضتها الحكمة ليدعوهم إلى الحق فإذا جاء رسولهم فبلغهم ودعاهم فكذبوه وخالفوه قضي بينهم أي بين كل أمة ورسولها بالعدل وحكم بنجاة الرسول والمؤمنين به وهلاك المكذبين والأول مما رواه ابن جرير وغيره عن مجاهد ، والاستقبال عليه على ظاهره ولا يحتاج إلى تقدير مثل ما احتيج في التفسير الثاني وقد رجح بقوله تعالى :
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بناء على أن الظاهر أن المراد بالوعد الذي أشاروا إليه العذاب الدنيوي الموعود كما يرشد إليه ما بعد. واستشكل ما يقتضيه ظاهر الآية من أن اللّه تعالى لم يهمل أمة من الأمم قط بل بعث إلى كل واحدة منهم رسولا بأن أهل الفترة ليست فيهم رسول كما يشهد له قوله سبحانه : لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ [يس : 6] وأجيب بأن عموم الآية لا يقتضي أن يكون الرسول حاضرا مع كل أمة منهم لأن تقدمه على بعض منهم لا يمنع من كونه رسولا إلى ذلك البعض كما لا يمنع تقدم رسولنا صلّى اللّه عليه وسلم من كونه مبعوثا إلينا إلى آخر الأبد غاية ما في الباب أن ما وقع من تخليط القوم في زمن الفترة يكون مؤديا إلى ضعف أثر دعوة الأنبياء عليهم السلام انتهى وهو كما ترى. وقد يقال : إن المراد من كل أمة كل جماعة أراد اللّه تعالى تكليفها حسبما سبق به علمه أو أراد سبحانه تنفيذ كلمته فيها أو نحو ذلك من المخصصات التي لا يلغو معها الحكم لا كل جماعة من الناس مطلقا فلا إشكال أصلا فتدبر. ثم إن هذا القول من المكذبين استعجال لما وعدوا به وغرضهم منه على ما قيل استبعاد الموعود وأنه مما لا يكون وقد يراد بالاستفهام الاستبعاد ابتداء إذ المقام يقتضيه ولا مانع عنه والقول بأن ذلك إنما يكون ابتداء بأين وأنى ونحوهما دون متى غير مسلم كيف وهو معنى مجازي والمجاز لا حجر فيه والخطاب لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام والمؤمنين الذين يتلون عليهم الآيات المتضمنة لذلك ، وجواب إِنْ محذوف اعتمادا على ما تقدمه أي إن كنتم صادقين في أنه يأتينا فليأتنا عجلة ، ولكونه صلّى اللّه عليه وسلم هو الواسطة في إتيان ذلك ومنه نشأ الوعد دون

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 124
المؤمنين أمر صلّى اللّه عليه وسلم بالجواب بقوله سبحانه : قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً أي لا أقدر على شيء منهما بوجه من الوجوه وتقديم الضر لما أن مساق النظم الكريم لإظهار العجز عنه وأما ذكر النفع فللتعميم إظهارا لكمال العجز ، وقيل : إنه استطرادي لئلا يتوهم اختصاص ذلك بالضر والأول أولى ، وما وقع في سورة الأعراف من تقديم النفع فللإشعار بأهميته والمقام مقامه ، والمعنى لا أملك شيئا من شؤوني ردا وإيرادا مع إن ذلك أقرب حصولا فكيف أملك شؤونكم حتى أتسبب في إتيان عذابكم الموعود حسبما تريدون إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ استثناء منقطع عند جمع أي ولكن ما شاء اللّه تعالى كائن ، وقيل : متصل على معنى إلا ما شاء اللّه تعالى أن أملكه ، وتعقب بأنه يأباه مقام التبري عن أن يكون له صلّى اللّه عليه وسلم دخل في إتيان الوعد فإن ذلك يستدعي بيان كون المتنازع فيه مما لا يشاء أن يملكه عليه الصلاة والسلام : والمعتزلة قالوا باتصال الاستثناء واستدلوا بذلك على أن العبد مستقل بأفعاله من الطاعات والمعاصي ، وأنت تعلم أن ذلك بمراحل عن إثبات مدعاهم.
نعم استدل بها بعض من يرى رأي السلف من أن للعبد قدرة مؤثرة بإذن اللّه تعالى لا أنه ليس له قدرة أصلا كما يقوله الجبرية ، ولا أن له قدرة لكنها غير مؤثرة كما هو المشهور عن الأشاعرة ، ولا أن له قدرة مؤثرة إن شاء اللّه تعالى وإن لم يشأ كما هو رأي المعتزلة وقال : المعنى لا أقدر على شيء من الضر والنفع إلا ما شاء اللّه تعالى أن أقدر عليه منهما فإني أقدر عليه بمشيئته سبحانه ، وقال بعضهم : إذا كان الملك بمعنى الاستطاعة يكون الاستثناء متصلا وإذا أبقي على ظاهره تعين الانقطاع ، ولا يخفى أن الأصل الاتصال ولا ينبغي العدول عنه حيث أمكن من دون تعسف ، وأيا ما كان فظاهر كلامهم أن الاستثناء من المفعول إلا أنه على تقدير الانقطاع ليس المعنى على إخراج المستثنى من حكم المستثنى منه ولذا جعل الحكم على ذلك التقدير أنه كائن دون أملكه مثلا فلا تدافع في كلام من حكم بالانقطاع وقال في بيان المعنى أي ولكن ما شاء اللّه تعالى من ذلك كائن مشيرا بذلك إلى النفع والضر فإنه صريح في كون المستثنى من جنس المستثنى منه المقتضي للاتصال لأن المدار عند المحققين في الأمرين على الإخراج من الحكم وعدمه.
ومما يقضي منه العجب زعم أن الاستثناء من فاعل لا أَمْلِكُ وجعل المعنى لا أملك أنا ولكن اللّه سبحانه هو المالك لكل ما يشاء بمشيئته لِكُلِّ أُمَّةٍ من الأمم الذين أصروا على تكذيب رسلهم أَجَلٌ لعذابهم يحل بهم عند حلوله لا يتعدى إلى أمة أخرى إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ أي أجل كل أمة على ما هو الظاهر ، ووضع الظاهر موضع الضمير لزيادة التقرير ، والإضافة لإفادة كمال التعيين ، وجوز أن يكون الضمير للأمم المدلول عليه بكل أمة ، ووجه إظهار الأجل مضافا لذلك بأنه لإفادة المعنى المقصود الذي هو بلوغ كل أمة أجلها الخاص بها ومجيئه إياها بعينها من بين الأمم بواسطة اكتساب الأجل بإضافته عموما يفيده معنى الجمعية كأنه قيل : إذا جاءتهم آجالهم بالجمع كما قرأ به ابن سيرين بأن يجيء كل واحد من تلك الأمم أجلها الخاص بها ، ويفسر الأجل بحد معين من الزمان والمجيء عليه ظاهر وبما امتد إليه من ذلك فمجيئه حينئذ عبارة عن انقضائه إذ هناك يتحقق مجيئه بتمامه أي إذا تم وانقضى أجلهم الخاص بهم فَلا يَسْتَأْخِرُونَ عنه ساعَةً أي شيئا قليلا من الزمان وَلا يَسْتَقْدِمُونَ عليه ، والاستفعال عند جمع على أصله ، ونفي طلب التأخر والتقدم أبلغ ، وقال آخرون : إنه بمعنى التفعل أي لا يتأخرون ولا يتقدمون ، والجملة الثانية إما مستأنفة أو معطوفة على القيد والمقيد ومنعوا عطفها على فَلا يَسْتَأْخِرُونَ لئلا يرد أنه لا يتصور التقدم بعد مجيء الأجل فلا فائدة في نفيه ، وأجازه غير واحد والفائدة عنده في ذلك المبالغة في انتفاء التأخر لأنه لما نظم في سلكه أشعر بأنه بلغ في الاستحالة إلى مرتبته فهو مستحيل مثله للتقدير الإلهي وإن أمكن في نفسه ، قيل : وهذا هو السر في إيراد صيغة الاستفعال أي إنه بلغ في الاستحالة إلى أنه لا يطلب إذ المحال لا يطلب. ودفع بعضهم ذلك بأن

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 125
جاءَ بمعنى قارب المجيء نحو قولك : إذا جاء الشتاء فتأهب له. وتعقب بأنه ليس في تقييد عدم الاستئخار بالقرب والدنو مزيد فائدة ، وأشار الزمخشري إلى جواب آخر وهو أن لا يتأخر ولا يتقدم كناية عن كونه له حد معين وأجل مضروب لا يتعداه بقطع النظر عن التقدم والتأخر كقول الحماسي :
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي متقدم عنه ولا متأخر
فإنه أراد كما قال المرزوقي حبسني الهوى في موضع تستقرين فيه فألزمه ولا أفارقه وأنا معك مقيمة وظاعنة لا أعدل عنك ولا أميل إلى سواك ، ووجه تقديم بيان انتفاء الاستئخار على بيان انتفاء الاستقدام قد تقدم في آية الأعراف مع بسط كلام فيها ثم لا يخفى أن هذه الآية داخلة في حيز الجواب ولم تعطف على ما قبلها إيذانا باستقلالها فيه.
قال العلامة الطيبي طيب اللّه تعالى ثراه : إن الجواب بقوله سبحانه : قُلْ لا أَمْلِكُ إلخ وارد على الأسلوب الحكيم لأنهم ما أرادوا بالسؤال إلا استبعاد أن الموعود من اللّه تعالى وأنه صلوات اللّه تعالى وسلامه عليه هو الذي يدعي أن ذلك منه فطلبوا منه تعيين الوقت تهكما وسخرية فقيل في الجواب هذا التهكم إنما يتم إذا ادعيت بأني أنا الجالب لذلك الموعود : وإذا كنت مقرا بأني مثلكم في أني لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا كيف ادعي ما ليس لي بحق؟ ثم شرع في الجواب الصحيح ولم يلتفت صلّى اللّه عليه وسلم إلى تهكمهم واستبعادهم فقال : لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إلخ ، وحاصله على ما في الكشاف إن عذابكم له أجل مضروب عند اللّه تعالى وحد محدود من الزمان إذا جاء ذلك الوقت أنجز وعدكم لا محالة فلا تستعجلوا ، ومن هنا يعلم سر إسقاط الفاء من إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ وزيادتها في فَلا يَسْتَأْخِرُونَ على عكس آية الأعراف حيث أتى بها أولا ولم يؤت بها ثانيا ، وذلك أنه لما سيقت الآية جوابا عن استعجالهم العذاب الموعود حسبما علمت آنفا اعتنى بأمر الشرطية ولزومها كمال الاعتناء فأتى بها غير متفرعة على شيء كأنها من الأمور الثابتة في نفسها الغير المتفرعة على غيرها وقوي لزوم التالي فيها للمقدم بزيادة الفاء التي بها يؤتى للربط في أمثال ذلك ولا كذلك آية الأعراف كما لا يخفى إلا على الأنعام فاحفظه فإنه من الأنفال ، ولا يأباه ما مر في تقرير الاستفهام في صدر الكلام كما هو ظاهر لدى ذوي الأفهام ، وكذا لا يأباه ما قيل في ربط هذه الآية بما قبلها من أنها بيان لما أبهم في الاستثناء وتقييد لما في القضاء السابق من الإطلاق المشعر بكون المقضي به أمرا منجزا غير متوفق على شيء غير مجيء الرسول وتكذيب الأمة لأنه على ما فيه ما فيه إنكار المدخلية في الجواب ، ولعل الغرض يتم بمجرد ذلك لحصول التغاير بين مساقي الآيتين به أيضا ، وقد يقال : إن إسقاط
الفاء أولا لتكون الجملة في موضع الصفة - لأجل - تهويلا لأمره وتنويها بشأنه حسبما يقتضيه المقام ، أي لكل أمة أجل موصوف بأنه إذا جاء لا يستأخرون عنه ولا يستقدمون عليه البتة ، والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير مثل ما مر آنفا وليس بذاك ، ومما تضحك منه الموتى ما قاله بعض العظاميين بعد أن كاد يقضي عليه فكرا من أن السر في اختلاف الآيتين الإشارة منه تعالى إلى جواز الأمرين عربية ولم يعلم عافاه اللّه تعالى أن القرآن الكريم لم ينزل معلما للعربية مبينا لقواعدها وشارحا لما يجوز فيها وما لا يجوز ، بل نزل معجزا بفصاحته وبلاغته وما تضمنه من الأسرار أقواما كل منهم في ذلك الشأن - الجذيل المحكك والعذيق المرجب ..
وذكر بعض من أحيا ميت الفضل علمه وصفا عن تخليط أبناء العصر فهمه صفاء الدين عيسى البندنيجي أن مساق هذه الآية لتثبيت النبي صلّى اللّه عليه وسلم وشرح صدره عليه الصلاة والسلام عما عسى يضيق به بحسب البشرية من قولهم :
مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ولتلقينه صلّى اللّه عليه وسلم رد قولهم ذلك كما يشعر به السياق فناسب قطع كل من الجملتين عن الأخرى ليستقل كل منهما في إفادة التثبيت والرد للتأكيد والمبالغة فيها ولذا لم يؤت بالفاء في صدر

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 126
الشرطية وجيء بها في الجواب زيادة في ذلك لإفادتها تحقق ما بعدها عقيب ما يقتضيه بلا مهلة ، وآية الأعراف سيقت وعيدا لأهل مكة ، ومن البين أن محط الفائدة في إشعار أنه وعيد وأن ما هو أدخل في التخويف الجملة الشرطية ، لأنها النص في نزول العذاب عند حلول الأجل وأنه لا محيص لهم عن ذلك عنده دون لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فقط فكان المقام مقام ربط ووصل فجيء بالفاء لتدل على ذلك وتؤذن باتحاد الجملتين في كونهما وعيدا ولمسامحته سبحانه في الوعيد لم يؤت بالفاء في الجواب انتهى. ولعل ما قدمناه ليس بالبعيد عنه من وجه وإن خالفه من وجه آخر ولكل وجهة واللّه تعالى أعلم بأسرار كتابه.
قُلْ لهم بعد ما بينت لهم كيفية حالك وجريان سنة اللّه تعالى فيما بين الأمم على الإطلاق ونبهتهم على أن عذابهم أمر مقرر محتوم لا يتوقف إلا على مجيء أجله المعلوم إيذانا بكمال دنوه وتنزيلا له منزلة إتيانه حقيقة أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ الذي تستعجلون به ولعل استعمال إِنْ من باب المجاراة بَياتاً أي وقت بيات أَوْ نَهاراً أي عند اشتغالكم بمشاغلكم وإنما لم يقل ليلا ونهارا ليظهر التقابل لأن المراد الإشعار بالنوم والغفلة والبيات متكفل بذلك لأنه الوقت الذي يبيت فيه العدو ويوقع فيه ويغتنم فرصة غفلته وليس في مفهوم الليل هذا المعنى ولم يشتهر شهرة النهار بالاشتغال بالمصالح والمعاش حتى يحسن الاكتفاء بدلالة الالتزام كما في النهار ، وقد يقال : النهار كله محل الغفلة لأنه إما زمان اشتغال بمعاش أو زمان قيلولة بخلاف الليل فإن محل الغفلة فيه ما قارب وسطه وهو وقت البيات فلذا خص بالذكر ، والبيات جاء بمعنى البيتوتة وبمعنى التبييت كالسلام بمعنى التسليم والمعنى المراد هنا مبني على هذا ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ أي أي شيء يستعجلون من العذاب وليس شيء منه يوجب الاستعجال لما أن كله مكروه من المذاق موجب للنفار ، فمن للتبعيض والضمير للعذاب والتنكير في شيء للفردية ، وجوز أن يكون المعنى على التعجيب وهو مستفاد من المقام كأنه قيل : أي هول شديد يستعجلون منه ، فمن بيانية وتجريدية بناء على عد الزمخشري لها منها ، وقيل : الضمير للّه تعالى ، وعليه فالمعنى على الثاني ولكن تزول فائدة الإبهام والتفسير وما فيه من التفخيم.
وما قيل : إنه أبلغ على معنى هل تعرفون ما العذاب المعذب به هو اللّه سبحانه «1» فهو مشترك على التقديرين ألا ترى إلى قوله تعالى : عَذابُهُ ، وما ذا بمعنى أي شيء منصوب المحل مفعولا مقدما وهو أولى من جعله مبتدأ ، ومن فعل قدر العائد ، ومن قال : إن ضمير مِنْهُ هو الرابط مع تفسيره بالعذاب جنح إلى أن المستعجل من العذاب فهو شامل للمبتدأ فيقوم مقام رابطه لأن عموم الخبر في الاسم الظاهر يكون رابطا على المشهور ففي الضمير أولى.
وزعم أبو البقاء أن الضمير عائد إلى المبتدأ وهو الرابط وجعل ذلك نظير قولك : زيد أخذت منه درهما وليس بشيء كما لا يخفى ، والمراد من المجرمون المخاطبون ، وعدل عن الضمير إليه للدلالة على أنهم لجرمهم ينبغي أن يفزعوا من إتيان العذاب فضلا عن أن يستعجلوه ، وقيل : النكتة في ذلك إظهاره تحقيرهم وذمهم بهذه الصفة الفظيعة ، والجملة متعلقة - بأرأيتم - على أنها استئناف بياني أو في محل نصب على المفعولية وعلق عنها الفعل للاستفهام ، وهو في الأصل استفهام عن الرؤية البصرية أو العلمية ثم استعمل بمعنى أخبروني لما بين الرؤية والأخبار من السببية والمسببية في الجملة فهو مجاز فيما ذكر وإليه ذهب الكثير ، وذهب أبو حيان إلى أن ذلك بطريق التضمين ولم يستعمل إلا في الأمر العجيب ، وجواب الشرط محذوف أي إن أتاكم عذابه في أحد ذينك الوقتين تندموا أو تعرفوا الخطأ أو فاخبروني ماذا يستعجل منه المجرمون.
___________
(1) قوله «هو الله سبحانه» كذا بخطه رحمه الله تعالى.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 127
وزعم أبو حيان تعين الأخير لأن الجواب إنما يقدر مما تقدمه لفظا أو تقديرا ولم يدر أن تقديره من غير جنس المذكور إذا قامت قرينة عليه ليس بعزيز ، ولئن سلم صحة الحصر الذي ادعاه فما ذكر غير خارج عنه بناء على أن المقصود من أَرَأَيْتُمْ ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ إلخ تنديمهم أو تجهيلهم كما نص عليه بعض المحققين.
وفي الكشف تقرير لأحد الأوجه المذكورة في الكشاف أن ماذا إلخ متعلق الاستخبار والشرط مع جوابه المحذوف مقرر لمضمون الاستخبار ولهذا وسط بينهما ، ولما كان في الاستفهام تجهيل وتنديم قدر الجواب تندموا أو تعرفوا الخطأ ، ولا مانع من تقديرهما معا أو ما يفيد المعنيين ولهذا حذف الجواب ووسط تأكيدا على تأكيد انتهى.
وجوز كون ماذا يَسْتَعْجِلُ جوابا للشرط كقولك : إن أتيتك ماذا تطعمني والمجموع بتمامه متعلق «بأرأيتم» ورد بأن جواب الشرط إذا كان استفهاما فلا بد فيه من الفاء تقول أن زارنا فلان فأي رجل هو ولا تحذف إلا ضرورة ، وقد صرح في المفصل بأن الجملة إذا كانت إنشائية لا بد من الفاء معها ، والاستفهام وإن لم يرد به حقيقته لم يخرج عن الإنشائية ، والمثال مصنوع فلا يعول عليه.
وأجيب بأن الرضي صرح بأن وقوع الجملة الاستفهامية جوابا بدون الفاء ثابت في كثير من الكلام الفصيح ، ولو سلم ما ذكر فيقدر القول وحذفه كثير مطرد بلا خلاف ، وأورد أيضا على هذا الوجه أن استعجال العذاب قبل إتيانه فكيف يكون مرتبا عليه وجزاء له ، وأجيب بأنه حكاية عن حال ماضية أي ماذا كنتم تستعجلون ، ويشهد لهذا التصريح - بكنتم - فيما بعد والقرآن يفسر بعضه بعضا ، وأنت تعلم أن مجرد ذلك لا يجوز كونه جوابا لأن الاستعجال الماضي لا يترتب على إتيان العذاب فلا بد من تقدير نحو تعلموا أي تعلموا ماذا إلخ ، وقيل : إن أتاكم بمعنى إن قارب إتيانه إياكم أو المراد إن أتاكم أمارات عذابه ، وقيل : حيث إن المراد إنكار الاستعجال بمعنى نفيه رأسا صح كونه جوابا ، واعترض على جعل مجموع الشرطية متعلقا «بأرأيتم» بأنه لا يصح أن يكون مفعولا به له بناء على أنه بمعنى أخبروني وهو متعد بعن ولا تدخل الجملة إلا أنها إذا اقترنت بالاستفهام وقلنا بجواز تعليقها وفيه كلام في العربية جاز ، ودفع بأن مراد القائل بالتعلق التعلق اللغوي لأن المعنى أخبروني عن صنيعكم إن أتاكم إلخ ، والمراد بقوله سبحانه : أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ زيادة التنديم والتجهيل ، والمعنى أئذا وقع العذاب وحل بكم حقيقة آمنتم به وعاد استهزاؤكم وتكذيبكم تصديقا وإذعانا ، وجيء بثم دلالة على زيادة الاستبعاد ، وفيه أن هذا الثاني أبعد من الأول وأدخل في الإنكار.
وجوز أن يكون هذا جواب الشرط والاستفهامية الأولى اعتراض ، والمعنى أخبروني إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان ، وأصل الكلام على ما قيل : إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا أو وقع وتحقق آمنتم ثم جيء بحرف التراخي بدل الواو دلالة على الاستبعاد ثم زيد أداة الشرط دلالة على استقلاله بالاستبعاد وعلى أن الأول كالتمهيد له وجي ء - بإذا - مؤكدا - بما - ترشيحا لمعنى الوقوع والتحقيق وزيادة للتجهيل وأنهم لم يؤمنوا إلا بعد أن لم ينفعهم البتة ، وهذا الوجه مما جوزه الزمخشري. وتعقب بأنه في غاية البعد لأن ثم حرف عطف لم يسمع تصدير الجواب به والجملة المصدرة بالاستفهام لا تقع جوابا بدون الفاء وأجيب عن هذا بما مر.
وأما الجواب عنه بأنه أجرى ثُمَّ مجرى الفاء فكما أن الفاء في الأصل للعطف والترتيب وقد ربطت الجزاء فكذلك هذه فمخالف لإجماع النحاة ، وقياسه على الفاء غير جلي ولهذه الدغدغة قيل : مراد الزمخشري أنه يدل على الجواب التقدير إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه وما في النظم الكريم معطوف عليه للتأكيد نحو كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ وتعقب بأنه لا يخفى تكلفه فإن عطف التأكيد بثم مع حذف المؤكد مما لا ينبغي ارتكابه ولو قيل : المراد إن آمَنْتُمْ هو الجواب وأَ ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ معترض فالاعتراض بالواو والفاء وأما - بثم -

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 128
فلم يذهب إليه أحد ، وبالجملة قد كثر الجرح والتعديل لهذا الوجه ولا يصلح العطار ما أفسد الدهر. وقرىء «ثمّ» بفتح الثاء بمعنى هنالك ، وقوله سبحانه : آلْآنَ على تقدير القول وهو الأظهر والأقوى معنى أي قيل لهم عند إيمانهم بعد وقوع العذاب الآن آمنتم به ، فالآن في محل نصب على أنه ظرف لآمنتم مقدرا ، ومنع أن يكون ظرفا للمذكور لأن الاستفهام له صدر الكلام. وقرىء بدون همزة الاستفهام والظاهر عندي على هذا تعلقه بمقدر أيضا لأن الكلام على الاستفهام ، وبعض جوز تعلقه بالمذكور وليس بذاك. وعن نافع أنه قرىء «آلان» بحذف الهمزة التي بعد اللام وإلقاء حركتها على اللام ، وقوله سبحانه : وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ في موضع الحال من فاعل آمَنْتُمْ المقدر ، والكلام على ما قيل مسوق من جهته تعالى غير داخل تحت القول الملقن لتقرير مضمون ما سبق من إنكار التأخير والتوبيخ عليه ، وفائدة الحال تشديد التوبيخ والتقريع وزيادة التنديم والتحسير.
قال العلامة الطيبي : إن الآن آمنتم به يقتضي أن يقال بعده : وقد كنتم به تكذبون لا تَسْتَعْجِلُونَ إلا أنه وضع موضعه لأن المراد به الاستعجال السابق وهو ما حكاه سبحانه عنهم بقوله تعالى : مَتى هذَا الْوَعْدُ وكان ذلك تهكما منهم وتكذيبا واستبعادا ، وفي العدول استحضار لتلك المقالة الشنيعة فيكون أبلغ من تكذبون ، وتقديم الجار والمجرور على الفعل لمراعاة الفواصل ، وقوله تعالى : ثُمَّ قِيلَ إلخ عطف على قيل المقدر قبل آلْآنَ لتوكيد التوبيخ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أي وضعوا ما نهوا عنه من الكفر والتكذيب موضع ما أمروا به من الإيمان والتصديق أو ظلموا أنفسهم بتعريضها للهلاك والعذاب ، ووضع الموصول موضع الضمير لذمهم بما في حيز الصلة والإشعار بعليته لإصابة ما أصابهم ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ أي المؤلم على الدوام هَلْ تُجْزَوْنَ أي ما تجزون اليوم إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي إلا ما استمررتم على كسبه في الدنيا من أصناف الكفر التي من جملتها ما مر من الاستعجال ، وزاد غير واحد في البيان سائر أنواع المعاصي بناء أن الكفار مكلفون بالفروع فيعذبون على ذلك لكن هل العذاب عليه مستمر تبعا للكفر أو منته كعذاب غيرهم من العصاة؟
قيل : الظاهر الثاني وبالجمع بين النصوص الدالة على تخفيف عذاب الكفار وما يعارضها فقالوا : إن المخفف عذاب المعاصي والذي لا يخفف عذاب الكفر وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أي يستخبرونك أَحَقٌّ هُوَ أي العذاب الموعود كما هو الأنسب بالسياق دون ادعاء النبوة الذي جوزه بعضهم ، ورجح عليه أيضا بأنه لا يتأتى إثبات النبوة لمنكريها بالقسم.
وأجيب بأنه ليس المراد منه إثباتها بل كون تلك الدعوى جدا لا هزلا أو أنه بالنسبة لمن يقنع بالإثبات بمثله ، وقد يقال :
ما ذكر مشترك الإلزام لأن العذاب الموعود لا يثبت عند الزاعمين أنه افتراء قبل وقوعه بمجرد القسم أيضا فلا يصلح ما ذكر مرجحا ، والحق أن القسم لم يذكر للإلزام بل توكيد لما أنكروه ، والاستفهام للإنكار ، والاستنباء على سبيل التهكم والاستهزاء كما هو المعلوم من حالهم فلا يقتضي بقاءه على أصله ، وربما يقال : إن الاستنباء بمعنى طلب النبأ حقيقة لكن لا عن الحقية ومقابلها بالمعنى المتبادر لأنهم جازمون بالثاني بل المراد من ذلك الجد والهزل كأنهم قالوا : إنا جازمون بأن ما تقوله كذب لكنا شاكون في أنه جد منك أم هزل فأخبرنا عن حقيقة ذلك ، ونظير هذا قولهم : أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سبأ : 8] على ما قرره الجماعة إلا أن ذلك خلاف الظاهر ، وحَقٌّ خبر قدم على المبتدأ الذي هو هُوَ ليلي الهمزة المسئول عنه ، وجوز أن يكون مبتدأ وهو مرتفع به ساد مسدا لخبر لأنه بمعنى ثابت فهو حينئذ صفة وقعت بعد الاستفهام فتعمل ويكتفى بمرفوعها عن الخبر إذا كان اسما ظاهرا أو في حكمه كالضمير المنفصل هنا ، والمشهور أن استنبأ تتعدى إلى اثنين أحدهما بدون واسطة والآخر بواسطة - عن - فالمفعول الأول على هذا ليستنبؤن الكاف والثاني قامت مقامه هذه الجملة ، على معنى يسألونك عن جواب هذا السؤال إذ الاستفهام لا يسأل عنه وإنما يسأل عن جوابه والزمخشري لما رأى أن الجملة هنا لا تصلح أن تكون مفعولا ثانيا معنى لما عرفت ولفظا لأنه لا يصح دخول - عن - عليها جعل الفعل مضمنا معنى القول أي يقولون لك هذا ، والجملة في

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 129
محل نصب مفعول القول. وقرأ الأعمش «آلحق هو» بالتعريف مع الاستفهام وهي تؤيد كون الاستفهام للإنكار لما فيها من التعريض لبطلانه المقتضي لإنكاره لإفادة الكلام عليها القصر وهو من قصر المسند على المسند إليه على المشهور ، والمعنى أن الحق ما تقول أم خلافه ، وجعله الزمخشري من قصر المسند إليه على المسند حيث قال كأنه قيل : أهو الحق لا الباطل أو أهو الذي سميتموه الحق ، وأشار بالترديد إلى أن الغرض من هذا الوجه لا يختلف جعل الحصر حقيقيا تهكما أو ادعائيا. واعترض ذلك بأنه مخالف لما عليه علماء المعاني في مثل هذا التركيب. وفي الكشف أنه يتخايل أن الحصر على معنى أهو الحق لا غيره لا معنى أهو الحق لا الباطل على ما قرروه في قولهم : زيد المنطلق والمنطلق زيد ، فعلى هذا لا يسد ما ذكره الزمخشري ولكنه يضمحل بما حققناه في قوله تعالى : وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [البقرة : 24 ، التحريم : 6] وأن انحصار أحدهما في الآخر يلاحظ بحسب المقام وحينئذ لا يبالى قدم أو أخر ، وهاهنا المعنى على حصر العذاب في الحقية لا على حصر الحقيقة في العذاب.
وقد قال هناك : إن التحقيق أن نحو زيد المنطلق وعكسه إنما يحكم فيه بقصر الثاني أعني الانطلاق على الأول لأن المناسب قصر العام على الخاص ، وكذلك نحو الناس هم العلماء والعلماء هم الناس وإن كان بينهما عموم وخصوص من وجه لأن المقصود بين ، وأما في نحو قولنا : الخاشعون هم العلماء والعلماء هم الخاشعون فالحكم مختلف تقديما وتأخيرا وأحد القصرين غير الآخر ، فينبغي أن ينظر إلى مقتضى المقام إن تعين أحدهما لذلك حكم به قدم أو أخر وإلا روعي التقديم والتأخير ، وقد يكون القصر متعاكسا نحو زيد المنطلق إذا أريد المعهود وهذا ذاك ، وكذلك الجنسان إذا اتحدا موردا كقولك : الضاحك الكاتب إلى آخر ما قال ، وكون المعنى هاهنا على حصر العذاب في الحقية دون العكس هو المناسب ، ومخالفة علماء المعاني ليست بدعا من صاحب الكشاف وأمثاله ، والحق ليس محصورا بما هم عليه كما لا يخفى فتدبر قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ أي قل لهم غير مكترث باستهزائهم مغضيا عما قصدوا بانيا للأمر على أساس الحكمة : نعم إن ذلك العذاب الموعود ثابت البتة ، فضمير إِنَّهُ للعذاب أيضا وإِي حرف جواب وتصديق بمعنى نعم قيل : ولا تستعمل كذلك إلا مع القسم خاصة كما أن هل بمعنى قد في الاستفهام خاصة ، ولذلك سمع من كلامهم وصلها بواو القسم إذا لم يذكر المقسم به فيقولون - إيو - ويوصلون به هاء السكت أيضا فيقولون : - إيوه - وهذه اللفظة شائعة اليوم في لسان المصريين وأهل ذلك الصقع.
وادعى أبو حيان أنه يجوز استعمالها مع القسم وبدونه إلا أن الأول هو الأكثر قال : وما ذكر من السماع ليس بحجة لأن اللغة فسدت بمخالطة غير العرب فلم يبق وثوق بالسماع ، وحذف المجرور بواو القسم والاكتفاء بها لم يسمع من موثوق به وهو مخالف للقياس ، وأكد الجواب بأتم وجوه التأكيد حسب شدة إنكارهم وقوته وقد زيد تقريرا وتحقيقا بقوله جل شأنه : وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أي بفائتين العذاب على أنه من فاته الأمر إذا ذهب عنه ، ويصح جعله من أعجزه بمعنى وجده عاجزا أي ما أنتم بواجدي العذاب أو من يوقعه بكم عاجزا عن إدراككم وإيقاعه بكم ، وأيا ما كان فالجملة إما معطوفة على جواب القسم أو مستأنفة سيقت لبيان عجزهم عن الخلاص مع ما فيه من التقرير المذكور.
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ أي بالكفر أو بالتعدي على الغير أو غير ذلك من أصناف الظلم كذا قيل ، وربما يقتصر على الأول لأنه الفرد الكامل مع أن الكلام في حق الكفار ولَوْ قيل بمعنى أن وقيل على ظاهرها واستبعد ولا أراه بعيدا ما فِي الْأَرْضِ أي ما في الدنيا من خزائنها وأموالها ومنافعها قاطبة لَافْتَدَتْ بِهِ أي لجعلته فدية لها من العذاب من افتداه بمعنى فداه فالمفعول محذوف أي لافتدت نفسها به.
وجوز أن يكون افتدى لازما على أنه مطاوع فدى المتعدي يقال فداه فافتدى ، وتعقب بأنه غير مناسب للسياق

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 130
إذ المتبادر منه أن غيره فداه لأن معناه قبلت الفدية والقابل غير الفاعل ، ونظر فيه بأنه قد يتحد القابل والفاعل إذا فدى نفسه نعم المتبادر الأول وَأَسَرُّوا أي النفوس المدلول عليها بكل نفس ، والعدول إلى صيغة الجمع لإفادة تهويل الخطب بكون الأسرار بطريق المعية والاجتماع ، وإنما لم يراع ذلك فيما سبق لتحقيق ما يتوخى من فرض كون جمع ما في الأرض لكل واحد من النفوس ، وإيثار صيغة جمع المذكر لحمل لفظ النفس على الشخص أو لتغليب ذكور مدلوله على إنائه ، والأسرار الإخفاء أي أخفوا النَّدامَةَ أي الغم والأسف على ما فعلوا من الظلم ، والمراد إخفاء آثارها كالبكاء وعض اليد وإلا فهي من الأمور الباطنة التي لا تكون إلا سرا وذلك لشدة حيرتهم وبهتهم لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ أي عند معاينتهم من فظاعة الحال وشدة الأهوال ما لم يمر لهم ببال ، فأشبه حالهم حال المقدم للصلب يثخنه ما دهمه من الخطب ويغلب حتى لا يستطيع التفوه ببنت شفة ويبقى جامدا مبهوتا ، وقيل : المراد بالأسرار الإخلاص أي أخلصوا الندامة وذلك إما لأن إخفاءها إخلاصها وإما من قولهم : سر الشيء لخالصه الذي من شأنه أن يخفى ويصان ويضن به وفيه تهكم بهم : وقال أبو عبيدة. والجبائي : إن الأسرار هنا بمعنى الإظهار. وفي الصحاح أسررت الشيء كتمته وأعلنته أيضا وهو من الأضداد ، والوجهان جميعا يفسران في قوله تعالى : وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ وكذلك في قول امرئ القيس :
لو يسرون مقتلي
انتهى وفي القاموس أيضا أسره كتمه وأظهره ضد ، وفيه اختلاف اللغويين فإن الأزهري منهم ادعى أن استعمال أسر بمعنى أظهر غلط وأن المستعمل بذلك المعنى هو أشهر بالشين المعجمة لا غير. ولعله قد غلط في التغليط ، وعليه فالإظهار أيضا باعتبار الآثار على ما لا يخفى.
وجوز بعضهم أن يكون المراد بالإسرار الإخفاء إلا أن المراد من ضمير الجمع الرؤساء أي أخفى رؤساؤهم الندامة من سفلتهم الذين أضلوهم حياء منهم وخوفا من توبيخهم ، وفيه أن ضمير أَسَرُّوا عام لا قرينة على تخصيصه على أن هول الموقف أشد من أن يتفكر معه في أمثال ذلك ، وجملة أَسَرُّوا مستأنفة على الظاهر وقيل :
حال بتقدير قد ، ولَمَّا على سائر الأوجه بمعنى حين منصوب بأسروا ، وجوز أن يكون للشرط والجواب محذوف على الصحيح لدلالة ما تقدم عليه أي لما رأوا العذاب أسروا الندامة وَقُضِيَ أي حكم وفصل بَيْنَهُمْ أي بين النفوس الظالمة بِالْقِسْطِ أي بالعدل وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. أصلا لأنه لا يفعل بهم إلا ما يقتضيه استعدادهم ، وقيل :
ضمير بَيْنَهُمْ للظالمين السابقين في قوله سبحانه : وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ والمظلومين الذين ظلموهم وإن لم يجر لهم ذكر لكن الظلم يدل بمفهومه عليهم وتخصيص الظلم بالتعدي ، والمعنى وقعت الحكومة بين الظالمين والمظلومين وعومل كل منهما بما يليق به. وأنت تعلم أن المقام لا يساعد على ذلك لأنه إن لم يقتض حمل الظلم على أعظم أفراده وهو الشرك فلا أقل من أنه يقتضي حمله على ما يدخل ذلك فيه دخولا أوليا ، والظاهر أن جملة قُضِيَ مستأنفة ، وجوز أن تكون معطوفة على جملة رَأَوُا فتكون داخلة في حيز لما أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي إن له سبحانه لا لغيره تعالى ما وجد في هذه الإجرام العظيمة داخلا في حقيقتها أو خارجا عنها متمكنا فيها ، وكلمة ما لتغليب غير العقلاء على العقلاء ، وهو تذييل لما سبق وتأكيد واستدلال عليه بأن من يملك جميع الكائنات وله التصرف فيها قادر على ما ذكر وقيل : إنه متصل بقوله سبحانه : وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ كأنه بيان لعقدهم ما يفتدون به وعدم ملكهم شيئا حيث أفاد أن جميع ما في السماوات والأرض ملكه لا ملك لأحد فيه سواه جل وعلا وليس بشيء وإن ذكره بعض الأجلة واقتصر عليه أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 131
أي جميع ما وعد به كائنا ما كان فيندرج فيه العذاب الذي استعجلوه وما ذكر في أثناء بيان حاله اندراجا أوليا.
فالمصدر بمعنى اسم المفعول ، ويجوز أن يكون باقيا على معناه المصدري أي وعده سبحانه بجميع ما ذكر حَقٌّ أي ثابت واقع لا محالة أو مطابق للواقع ، والظاهر أن حمل الوعد على العموم بحيث يندرج فيه العذاب المذكور والعقاب للعصاة أو الوعد بهما يستدعي اعتبار التغليب في الكلام ، وبعضهم حمل الوعد على ما وعد به صلّى اللّه عليه وسلم من نصره وعقاب من لم يتبعه وقال : إن اعتبار التغليب توهم وليس بالمتعين ، وإظهار الاسم الجليل لتفخيم شأن الوعد والإشعار بعلة الحكم ، وتصدير الجملتين بحر في التنبيه والتحقيق للتسجيل على تحقق مضمونها المقرر لمضمون ما سلف من الآيات الكريمة والتنبيه على وجوب استحضاره والمحافظة عليه.
وذكر الإمام في توجيه ذكر أداة التنبيه في الجملة الأولى أن أهل هذا العالم مشغولون بالنظر إلى الأسباب الظاهرة فيضيفون الأشياء إلى ملاكها الظاهرة المجازية ويقولون مثلا الدار لزيد والغلام لعمرو والسلطنة للخليفة والتصرف للوزير فكانوا مستغرقين في نوم الجهل والغفلة حيث يظنون صحة تلك الإضافات فلذلك زادهم سبحانه بقوله عز اسمه : أَلا إِنَّ لِلَّهِ إلخ ، واستناد جميع ذلك إليه جل شأنه بالمملوكية لما ثبت من وجوب وجوده لذاته سبحانه وأن جميع ما سواه ممكن لذاته وأن الممكن لذاته مستند إلى الواجب لذاته إما ابتداء أو بواسطة وذلك يقتضي أن الكل مملوك له تعالى ، والكلام في ذكر الأداة في الجملة الثانية على هذا النمط لا يخلو عن تكلف ، والحق ما أشرنا إليه في وجه التصدير ، ووجه اتصال هذه الجملة بما تقدم ظاهر مما قررنا وللطبرسي في توجيه ذلك كلام ليس بشيء وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لسوء استعدادهم وقصور عقولهم واستيلاء الغفلة عليهم لا يَعْلَمُونَ فيقولون ما يقولون ويفعلون ما يفعلون هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ في الدنيا من غير دخل لأحد في ذلك ، وهذا على ما يفهم من كلام البعض استدلال على البعث والنشور على معنى أنه تعالى يفعل الإحياء والإماتة في الدنيا فهو قادر عليهما في العقبى لأن القادر لذاته لا تزول قدرته والمادة القابلة بالذات للحياة والموت قابلة لهما أبدا ، ولا يخفى أن ذكر القدرة على الإماتة استطرادي لا دخل له في الاستدلال على ذلك ، والظاهر عندي أنه كالذي قبله تذييل لما سبق وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ في الآخرة بالبعث والحشر يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ التفات ورجوع إلى استمالتهم نحو الحق واستنزالهم إلى قبوله واتباعه غب تحذيرهم من غوائل الضلال بما تلا عليهم من القوارع وإيذان بأن جميع ذلك
مسوق لمصالحهم وهذا وجه الربط بما تقدم. وقال أبو حبان في ذلك :
إنه تعالى لما ذكر الأدلة على الألوهية والوحدانية والقدرة ذكر الدلائل الدالة على صحة النبوة والطريق المؤدي إليها وهو المتصف بهذه الأوصاف والأول أولى ولا يأباه عموم الخطاب كما هو الظاهر واختار الطبري خلافا لمن جعله خاصا بقريش ، والموعظة كالوعظ والعظة تذكير ما يلين القلب من الثواب والعقاب ، وقيل : زجر مقترن بتخويف ، والشفاء الدواء ويجمع على أشفية وجمع الجمع أشافي ، والهدى معلوم مما مر غير مرة ، والرحمة الإحسان أو إرادته أو صفة غيرهما لائقة بمن قامت به ، ومِنْ رَبِّكُمْ متعلق بجاء ومِنْ ابتدائية أو بمحذوف وقع صفة لموعظة ومِنْ تبعيضية والكلام على حذف مضاف أي موعظة من مواعظ ربكم ولِما إما متعلق بما عنده واللام مقوية وإما متعلق بمحذوف وقع نعتا له وكذا يقال على ما قيل فيما بعد ، والمراد قد جاءكم كتاب جامع لهذه الفوائد والمنافع كاشف عن أحوال الأعمال حسناتها وسيئاتها مرغب في الأولى ورادع عن الأخرى ومبين للمعارف الحقة المزيلة لأدواء الشكوك وسوء مزاج الاعتقاد وهاد إلى طريق الحق واليقين بالإرشاد إلى الاستدلال بالدلائل الآفاقية والأنفسية ورحمة للمؤمنين حيث نجوا به من ظلمات الكفر والضلال إلى نور الإيمان وتخلصوا من دركات النيران

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 132
وارتقوا إلى درجات الجنان. قال بعض المحققين : إن في ذلك إشارة إلى أن للنفس الإنسانية مراتب كمال من تمسك بالقرآن فاز بها. أحدها تهذيب الظاهر عن فعل ما لا ينبغي وإليه الإشارة «بالموعظة» بناء على أن فيها الزجر عن المعاصي وثانيها تهذيب الباطن عن العقائد الفاسدة والملكات الردية وإليه الإشارة ب شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وثالثها تحلي النفس بالعقائد الحقة والأخلاق الفاضلة ولا يحصل ذلك إلا بالهدى. ورابعها تجلي أنوار الرحمة الإلهية وتختص بالنفوس الكاملة المستعدة بما حصل لها من الكمال الظاهر والباطن لذلك.
وقال الإمام : الموعظة إشارة إلى تطهر ظواهر الخلق عما لا ينبغي وهو الشريعة ، والشفاء إلى تطهر الأرواح عن العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة وهو الطريقة ، والهدى إلى ظهور الحق في قلوب الصديقين وهو الحقيقة ، والرحمة إلى بلوغ الكمال والإشراق حتى يكمل غيره ويفيض عليه وهو النبوة والخلافة فهذه درجات لا يمكن فيها تقديم ولا تأخير ، ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر جدا والذي يقتضيه الظاهر كون المذكورات أوصافا للقرآن باعتبار كونه سببا وآلة لها ، وجعلت عينه مبالغة وبينها تلازم في الجملة ، والتنكير فيها للتفخيم ، والهداية إن أخذت بمعنى الدلالة مطلقا فعامة أو بمعنى الدلالة الموصولة فخاصة وحينئذ يكون لِلْمُؤْمِنِينَ قيد الأمرين ، ويؤيد تقييد الهدى بذلك قوله سبحانه : هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة : 2] فالقرآن واعظ بما فيه من الترهيب والترغيب أو بما فيه من الزجر عن المعاصي كيفما كانت المقترن بالتخويف فقط بناء على التفسير الثاني للموعظة ، وشاف لما في الصدور من الأدواء المفضية إلى الهلاك كالجهل والشك والشرك والنفاق وغيرها ، ومرشد ببيان ما يليق وما لا يليق إلى ما فيه النجاة والفوز بالنعيم الدائم أو موصول إلى ذلك ، وسبب الرحمة للمؤمنين الذين آمنوا به وامتثلوا ما فيه من الأحكام ، وأما إذا ارتكب خلاف الظاهر فيقال غير ما قيل أيضا مما ستراه إن شاء اللّه تعالى في باب الإشارة. واستدل كما قال الجلال السيوطي بالآية على أن القرآن يشفي من الأمراض البدنية كما يشفي من الأمراض القلبية
فقد أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : «جاء رجل إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقال :
إني أشتكي صدري فقال عليه الصلاة والسلام : «اقرأ القرآن يقول اللّه تعالى شفاء لما في الصدور»
وأخرج البيهقي في الشعب عن واثلة بن الأسقع أن رجلا شكا إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم وجع حلقه فقال : «عليك بقراءة القرآن»
وأنت تعلم أن الاستدلال بها على ذلك مما لا يكاد يسلم ، والخبر الثاني لا يدل عليه إذ ليس فيه أكثر من أمره صلّى اللّه عليه وسلم الشاكي بقراءة القرآن إرشادا له إلى ما ينفعه ويزول به وجعه ونحن لا ننكر أن لقراءة القرآن بركة قد يذهب اللّه تعالى بسببها الأمراض والأوجاع وإنما ننكر الاستدلال بالآية على ذلك والخبر الأول وإن كان ظاهرا في المقصود لكن ينبغي تأويله كأن يقال : لعله صلّى اللّه عليه وسلم اطلع على أن في صدر الرجل مرضا معنويا قلبيا قد صار سببا للمرض الحسي البدني فأمره عليه الصلاة والسلام بقراءة القرآن ليزول عنه الأول فيزول الثاني ، ولا يستبعد كون بعض الأمراض القلبية قد يكون سببا لبعض الأمراض القالبية فإنا نرى أن نحو الحسد والحقد قد يكون سببا لذلك ، ومن كلامهم : للّه تعالى در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله : وهذا أولى من إخراج الكلام مخرج الأسلوب الحكيم.
والحسن البصري ينكر كون القرآن شفاء للأمراض ، فقد أخرج أبو الشيخ عنه ، أنه قال : إنّ اللّه تعالى جعل القرآن شفاء لما في الصدور ولم يجعله شفاء لأمراضكم ، والحق ما ذكرنا قُلْ تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ليأمر الناس بأن يغتنموا ما في القرآن العظيم من الفضل والرحمة أي قل لهم بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ متعلق بمحذوف ، وأصل الكلام ليفرحوا بفضل اللّه تعالى وبرحمته ثم قدم الجار والمجرور على الفعل لإفادة اختصاصه بالمجرور ثم أدخل عليه الفاء لإفادة معنى السببية فصار بفضل اللّه وبرحمته فليفرحوا ثم جيء بقوله سبحانه : فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا للتأكيد والتقرير ثم حذف الفعل الأول لدلالة الثاني عليه ، والفاء الأولى قيل جزائية والثانية زائدة للتأكيد ،

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 133
والأصل أن فرحوا بشيء فبذلك ليفرحوا لا بشيء آخر ثم زيدت الفاء لما ذكر ثم حذف الشرط ، وقيل : إن الأولى هي الزائدة لأن جواب الشرط في الحقيقة فليفرحوا - وبذلك - مقدم من تأخير لما أشير إليه ، وزيدت فيه الفاء للتحسين ، ولذلك جوز أن يكون بدلا من قوله سبحانه : بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ وحينئذ لا يحتاج إلى القول بحذف متعلقه ونظير ذلك في الاختلاف في تعيين الزائد فيه قول النمر بن تولب :
لا تجزعي إن منفسا أهلكته فإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي
ومن غريب العربية ما أشار إليه بعضهم أن الآية من باب الاشتغال وقد أقيم اسم الإشارة مقام ضمير المعمول وتوحيده باعتبار ما ذكر ونحوه كما هو شائع فيه ، ووجه غرابته أن المعروف في شرط الباب اشتغال العامل بضمير المعمول ولم يذكر أحد من النحاة اشتغاله باسم الإشارة إليه ، وجوز أن يقدر متعلق الجار والمجرور فليعتنوا أي بفضل اللّه ورحمته فليعتنوا فبذلك فليفرحوا ، والقرينة على تقدير ذلك أن ما يفرح به يكون مما يعتنى ويهتم بشأنه ، أو تقديم الجار والمجرور على ما قيل ، وقال الحلبي : الدلالة عليه من السياق واضحة وليس شرط الدلالة أن تكون لفظية ، فقول أبي حيان : إن ذلك إضمار لا دليل عليه ما لا وجه له ، وأن يقدر جاءتكم بعد قُلْ مدلولا عليه بما قبل أي قل جاءتكم موعظة وشفاء وهدى ورحمة بفضل اللّه وبرحمته ولا يجوز تعلقه بجاءتكم المذكور لأن قُلْ تمنع من ذلك ، - وذلك - على هذا إشارة إلى المصدر المفهوم من الفعل وهو المجيء أي فبمجيء المذكورات فليفرحوا ، وتكرير الباء في برحمته على سائر الأوجه للإيذان باستقلالها في استيجاب الفرح ، والمراد بالفضل والرحمة إما الجنس ويدخل فيه ما في مجيء القرآن من الفضل والرحمة دخولا أوليا وإما ما في مجيئه من ذلك ، ويؤيده ما روي عن مجاهد أن المراد بالفضل والرحمة القرآن.
وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن أنس قال قال : «رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فضل اللّه القرآن ورحمته أن جعلكم من أهله» وروي ذلك عن البراء وأبي سعيد الخدري رضي اللّه تعالى عنهما موقوفا.
وجاء عن جمع جم أن الفضل القرآن والرحمة الإسلام وهو في معنى الحديث المذكور. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن الفضل القرآن والرحمة الإسلام وهو في معنى الحديث المذكور. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن الفضل العلم والرحمة محمد صلّى اللّه عليه وسلم. وأخرج الخطيب ، وابن عساكر عنه تفسير الفضل بالنبي عليه الصلاة والسلام والرحمة بعلي كرم اللّه تعالى وجهه ، والمشهور وصف النبي صلّى اللّه عليه وسلم بالرحمة كما يرشد إليه قوله تعالى : وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء : 107] دون الأمير كرم اللّه تعالى وجهه ، وإن كان رحمة جليلة رضي اللّه تعالى عنه وأرضاه ، وقيل : المراد بهما الجنة والنجاة من النار وقيل غير ذلك ، ولا يجوز أن يراد بالرحمة على الوجه الأخير من أوجه الإعراب ما أريد بها أولا بل هي فيه غير الأولى كما لا يخفى. وروى رويس عن يعقوب أنه قرأ «فلتفرحوا» بتاء الخطاب ولام الأمر على أصل المخاطب المتروك بناء على القول بأن أصل صيغة الأمر الأمر باللام فحذفت مع تاء المضارعة واجتلبت همزة الوصل للتوصل إلى الابتداء بالساكن لا على القول بأنها صيغة أصلية ، وقد وردت هذه القراءة في حديث صحيح عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، وقد أخرجه جماعة منهم أبو داود وأحمد والبيهقي من طرق عن أبي ابن كعب رضي اللّه تعالى عنه مرفوعا ، وقرأ بها أيضا ابن عباس وقتادة وغيرهما.
وفي تعليقات الزمخشري على كشافه كأنه صلّى اللّه عليه وسلم إنما آثر القراءة بالأصل لأنه أدل على الأمر بالفرح وأشد تصريحا به إيذانا بأن الفرح بفضل اللّه تعالى وبرحمته بليغ التوصية به ليطابق التقرير والتكرير وتضمين معنى الشرط لذلك ، ونظيره مما انقلب فيه ما ليس بفصيح فصيحا قوله سبحانه : وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص : 4] من تقديم الظرف اللغو ليكون الغرض اختصاص التوحيد انتهى ،

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 134
وهو مأخوذ من كلام ابن جني في توجيه ذلك ، ونقل عن شرح اللب في توجيهه أنه لما كان النبي صلّى اللّه عليه وسلم مبعوثا إلى الحاضر والغائب جمع بين اللام والتاء قيل : وكأنه عنى أن الأمر لما كان لجملة المؤمنين حاضرهم وغائبهم غلب الحاضرون في الخطاب على الغائبين وأتى باللام رعاية لأمر الغائبين ، وهي نكتة بديعة إلا أنه أمر محتمل ، وما نقل عن صاحب الكشاف أولى بالقبول.
وقرىء «فافرحوا» وهي تؤيد القراءة السابقة لأنها أمر المخاطب على الأصل. وقرىء «فليفرحوا» بكسر اللام هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من الأموال والحرث والأنعام وسائر حطام الدنيا فإنها صائرة إلى الزوال مشرفة عليه وهو راجع إلى لفظ ذلك باعتبار مدلوله وهو مفرد فروعي لفظه وإن كان عبارة عن الفضل والرحمة.
ويجوز إرجاع الضمير إليهما ابتداء بتأويل المذكور كما فعل في ذلك أو جعلهما في حكم شيء واحد ، ولك أن تجعله راجعا إلى المصدر أعني المجيء الذي أشير إليه وما تحتمل الموصولية والمصدرية. وقرأ ابن عامر «تجمعون» بالخطاب لمن خوطب ب يا أَيُّهَا النَّاسُ سواء كان عاما أو خاصا بكفار قريش ، وضمير فَلْيَفْرَحُوا للمؤمنين أي فبذلك فليفرح المؤمنون فهو خير مما تجمعون أيها المخاطبون وعلى قراءة «فلتفرحوا» «وافرحوا» يكون الخطاب على ما قيل للمؤمنين ، وجوز أن يكون لهم على قراءة الغيبة أيضا التفاتا ، وتعقب بأن الجمع أنسب بغيرهم وإن صح وصفهم به في الجملة فلا ينبغي أن يلتزم القول بما يستلزمه ما دام مندوحة عنه.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ أي ما قدر لانتفاعكم من ذلك وإلا فالرزق ليس كله منزلا ، واستعمال أنزل فيما ذكر مجاز من إطلاق المسبب على السبب ، وجوز أن يكون الإسناد مجازيا بأن أسند الإنزال إلى الرزق لأن سببه كالمطر منزل ، وقيل : إن هناك استعارة مكنية تخيلية وهو بعيد. وجعل الرزق مجازا عن سببه أو تقدير لفظ سبب مما لا ينبغي وما إما موصولة في موضع النصب على أنها مفعول أول - لأرأيتم - والعائد محذوف أي أنزله والمفعول الثاني ما ستراه إن شاء اللّه تعالى قريبا وما استفهامية في موضع النصب على أنه مفعول أَنْزَلَ وقدم عليه لصدارته ، وهو معلق لما قبله إن قلنا بالتعليق فيه أي أي شيء أنزل اللّه تعالى من رزق فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا أي فبعضتموه وقسمتموه إلى حرام وحلال وقلتم ، هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ [الأنعام : 138] وما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا [الأنعام : 139] إلى غير ذلك.
قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ في جعل البعض منه حراما والبعض الآخر حلالا أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ أَمْ والهمزة متعادلتان والجملة في موضع المفعول الثاني - لأرأيتم - وقُلْ مكرر للتأكيد فلا يمنع من ذلك ، والعائد على المفعول الأول مقدر ، والمعنى أرأيتم الذي أنزله اللّه تعالى لكم من رزق ففعلتم فيه ما فعلتم أي الأمرين كائن فيه الأذن فيه من اللّه تعالى بجعله قسمين أم الافتراء منكم ، وكان أصل آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ إلخ آللّه أذن أم غيره فعدل إلى ما في النظم الجليل دلالة على أن الثابت هو الشق الثاني وهم نسبوا ذلك إليه سبحانه فهم مفترون عليه جل شأنه لا على غيره وفيه زجر عظيم كما لا يخفى ، ولعل هذا مراد من قال : إن الاستفهام للاستخبار ولم يقصد به حقيقته لينافي تحقق العلم بانتفاء الإذن وثبوت الافتراء بل قصد به التقرير والوعيد وإلزام الحجة.
وجوز أن يكون الاستفهام لإنكار الإذن وتكون أَمْ منقطعة بمعنى بل الاضرابية ، والمقصود الاضراب عن ذلك لتقرير افترائهم ، والجملة على هذا معمولة للقول وليست متعلقة - بأرأيتم - وهو قد اكتفى بالجملة الأولى كما أشرنا إليه ، ومن الناس من جوز كون أَمْ متصلة وكونها منفصلة على تقدير تعلق الجملة بفعل القول وأوجب الاتصال على تقدير تعلقها - بأرأيتم - وجعل الاسم الجليل مبتدأ مخبرا عنه بالجملة للتخصيص عند بعض ولتقوية

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 135
الحكم عند آخر ، والإظهار بعد في مقام الإضمار للإيذان بكمال قبح افترائهم ، وتقديم الجار والمجرور للقصر مطلقا في رأي ولمراعاة الفواصل على الوجه الأول وللقصر على الوجه الثاني في آخر.
واستدل المعتزلة بالآية على أن الحرام ليس برزق ولا دليل لهم فيها على ما ذكرناه لأن المقدر للانتفاع هو الحلال فيكون المذكور هنا قسما من الرزق وهو شامل للحلال والحرام والكفرة إنما أخطؤوا في جعل بعض الحلال حراما ، ومن جعل أهل السنة نظيرا لهم في جعلهم الرزق مطلقا منقسما إلى قسمين فقد أعظم الفرية وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ كلام مسوق من جهته تعالى لبيان هول ما سيلقونه غير داخل تحت القول المأمور به ، والتعبير عنهم بالموصول لقطع احتمال الشق الأول من الترديد والتسجيل عليهم بالافتراء ، وزيادة الكذب مع أن الافتراء لا يكون إلا كذلك لإظهار كمال قبح ما افتعلوا وكونه كذبا في اعتقادهم أيضا ، وما استفهامية مبتدأ وظَنُّ خبرها هو مصدر مضاف إلى فاعله ومفعولاه محذوفان.
وقوله سبحانه : يَوْمَ الْقِيامَةِ ظرف لنفس الظن لا بيفترون لعدم صحته معنى ولا بمقدر لأن التقدير خلاف الظاهر ، أي أي شيء ظنهم في ذلك اليوم أني فاعل بهم ، والمقصود التهديد والوعيد ، ويدل على تعلقه بالظن قراءة عيسى بن عمر وَما ظَنُّ بصيغة الماضي وما في هذه القراءة بمعنى الظن في محل نصب على المصدرية ، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع وأكثر أحوال القيامة يعبر عنها بذلك في القرآن لما ذكر ، والعمل في الظرف المستقبل لا يمنع لتصييره الفعل نصا في الاستقبال التجوز المذكور لأنه يقدر لتحققه أيضا ماضيا ، وقيل : الظرف متعلق بما يتعلق به ظنهم اليوم من الأمور التي ستقع يوم القيامة تنزيلا له ولما يقع فيه من الأهوال لمكان وضوح أمره في التحقق والتقرر منزلة المسلم عندهم ، أي أي شيء ظنهم لما سيقع يوم القيامة أيحسبون أنهم لا يسألون عن افترائهم أو لا يجازون جزاء يسيرا ولذلك ما يفعلون يفعلون كلا إنهم لفي أشد العذاب لأن معصيتهم أشد المعاصي ، والآية السابقة قيل متصلة بقوله سبحانه : قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [يونس : 31] إلخ كأنه قيل : حيث أقروا أنه سبحانه الرازق قل لهم أرأيتم ما أنزل اللّه إلخ ونقل ذلك عن أبي مسلم ، وقيل : بقوله تعالى : يا أَيُّهَا النَّاسُ إلخ ، وذلك أنه جل شأنه لما وصف القرآن بما وصفه وأمر نبيه صلّى اللّه عليه وسلم أن يرغب باغتنام ما فيه عقب ذلك بذكر مخالفتهم لما جاء به وتحريمهم ما أحل ، وقيل : إنها متصلة بالآيات الناعية عليهم سوء اعتقادهم كأنه سبحانه بعد أن نعي عليهم أصولهم بين بطلان فروعهم ، ولعل خير الثلاثة وسطها.
إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ أي عظيم لا يقدر قدره ولا يكتنه كنهه عَلَى النَّاسِ جميعا حيث أنعم عليهم بالعقل ورحمهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب وبين لهم ما لا تستقل عقولهم بإدراكه وأرشدهم إلى ما يهمهم من أمر المعاش والمعاد ورغبهم ورهبهم وشرح لهم الأحوال وما يلقاه الحائد عن الرشاد من الأهوال.
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ ذلك الفضل فلا ينتفعون به ، ولعل الجملة تذييل لما سبق مقرر لمضمونه.
وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ أي في أمر معتنى به ، من شأنه بالهمز كسأله إذا قصده وقد تبدل همزته ألفا ، وهو في الأصل مصدر وقد أريد المفعول وَما تَتْلُوا مِنْهُ الضمير المجرور للشأن والتلاوة أعظم شؤونه صلّى اللّه عليه وسلم ولذا خصت بالذكر أو للتنزيل ، والإضمار قبل الذكر لتفخيم شأنه أو للّه عز وجل ، ومِنْ قيل تبعيضية على الاحتمالين الأولين وابتدائية على الثالث والتي في قوله سبحانه : مِنْ قُرْآنٍ زائدة لتأكيد النفي على جميع التقادير وإلى ذلك ذهب القطب. وقال الطيبي : إن مِنْ الأولى على الاحتمال الأخير ابتدائية والثانية مزيدة ، وعلى الاحتمال الأولى الأولى للتبعيض والثانية للبيان ، وعلى الثاني الأولى ابتدائية والثانية للبيان.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 136
وفي إرشاد العقل السليم أن الضمير الأول للشأن والظرف صفة لمصدر محذوف أي تلاوة كائنة من الشأن أو للتنزيل ومِنْ ابتدائية أو تبعيضية أو للّه تعالى شأنه ومِنْ الثانية مزيدة وابتدائية على الوجه الأول وبيانية أو تبعيضية على الوجه الثاني والثالث. وأنت تعلم أنه قد يكون الظرف متعلقا بما عنده ، والتزام تعلقه بمحذوف وقع صفة لمصدر كذلك في جميع الاحتمالات مما لا حاجة إليه.
نعم اللازم بناء على المشهور أن لا يتعلق حرفان بمعنى بمتعلق واحد ، وذهب أبو البقاء إلى أن الضمير الأول للشأن و«من» الأولى للأجل كما في قوله سبحانه : مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا [نوح : 25] ومِنْ الثانية مزيدة وما بعدها مفعول به - لتتلو - وله وجه ، ومما يقضي منه العجب ما قاله بعضهم إنه يحتمل أن يكون ضمير مِنْهُ للشأن إما على تقدير ما تتلو حال كون القراءة بعض شؤونك وإما أن يحمل الكلام على حذف المضاف أي وما تتلو من أجل الشأن بأن يحدث لك شأن فتتلو القرآن من أجله فإن الحالية مما لا تكاد تخطر ببال من له أدنى ذوق في العربية ولم نر القول بتقدير مضاف في الكلام إذا كان فيه مِنْ الأجلية أو نحوها ، وما في كلام غير واحد من الأفاضل في أمثال ذلك تقدير معنى لا تقدير إعراب ، ويبعد حمل هذا البعض على ذلك كما لا يخفى «هذا» ثم إن القرآن عام للمقروء كلّا وبعضا وهو حقيقة في كل كما حقق في موضعه ، والقول بأنه مجاز في البعض بإطلاق الكل وإرادة الجزء مما لا يلتفت إليه وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ أي أي عمل كان ، والخطاب الأول خاص برأس النوع الإنساني وسيد المخاطبين صلّى اللّه عليه وسلم وهذا عام ويشمل سائر العباد برهم وفاجرهم لا الأخيرين فقط ، وقد روعي في كل من المقامين ما يليق به فعبر في مقام الخصوص في الأول بالشأن لأن عمل العظيم عظيم وفي الثاني بالعمل العام للجليل والحقير ، وقيل : الخطاب الأول عام للأمة أيضا كما في قوله تعالى : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطلاق : 1] إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً استثناء مفرغ من أعم أحوال المخاطبين بالأفعال الثلاثة أي وما تلابسون بشيء منها في حال من الأحوال إلا حال كوننا رقباء مطلعين عليه حافظين له كذا قالوا ، ويفهم منه أن الجار والمجرور متعلق بما بعده ، ولعل تقديمه للاهتمام بتخويف من أريد تخويفه من المخاطبين ، وكأنه
للمبالغة فيه جيء بضمير العظمة ، وأن المقصود من الاطلاع عليهم الاطلاع على عملهم إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ أي تشرعون فيه وتتلبسون به ، وأصل الإفاضة الاندفاع بكثرة أو بقوة ، وحيث أريد بالأفعال السابقة الحالة المستمرة الدائمة المقارنة للزمان الماضي أيضا أوثر في الاستثناء صيغة الماضي ، وفي الظرف كلمة إِذا التي تفيد المضارع معنى الماضي كذا قيل ، ولم أر من تعرض لبيان وجه اختيار النفي - بما - التي تخلص المضارع للحال عند الجمهور عند انتفاء قرينة خلافه في الجملتين الأوليين والنفي - بلا - التي تخلص المضارع للاستقبال عند الأكثرين خلافا لابن مالك في الجملة الثالثة ، ولعل ذلك من آثار اختلاف الخطاب خصوصا وعموما فتأمله فإنه دقيق جدا وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ أي ما يبعد وما يغيب ، ومنه يقال : الروض العازب وروض عزيب إذا كان بعيدا من الناس ، والكلام على حذف مضاف أي وما يعزب عن علم ربك عز وجل أو هو كناية عن ذلك ، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلّى اللّه عليه وسلم من الإشعار باللطف ما لا يخفى.
وقرأ الكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب بكسر الزاي مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ مِنْ مزيدة لتأكيد النفي ، والمثقال اسم لما يوازن الشيء ويكون في ثقله وهو في الشرع أربعة وعشرون قيراطا. وأخرج ذلك ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبي جعفر ، والصحيح أنه لم يختلف جاهلية وإسلاما فقد نقل الجلال السيوطي عن الرافعي أنه قال : أجمع أهل العصر الأول على التقدير بهذا الوزن وهو أن الدرهم ستة دوانيق وكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل ولم يتغير المثقال في الجاهلية ولا في الإسلام. والذرة واحدة الذر وهو النمل الأحمر الصغير ، وسئل ثعلب عنها فقال : إن مائة نملة وزن

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 137
حبة والذرة واحدة منها ، وقيل : الذرة ليس لها وزن ويراد بها ما يرى في شعاع الشمس الداخل في النافذة فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ أي في جهتي السفل والعلو أو في دائرة الوجود والإمكان لأن العامة لا تعرف سواهما ممكنا ليس فيهما ولا متعلقا بهما ، والكلام شامل لهما أنفسهما أيضا كما لا يخفى ، وتقديم الأرض على السماء مع أنها قدمت عليها في كثير من المواضع ووقعت أيضا في سبأ في نظير هذه الآية مقدمة لأن الكلام في حال أهلها والمقصود إقامة البرهان على إحاطة علمه سبحانه بتفاصيلها ، وذكر السماء لئلا يتوهم اختصاص إحاطة علمه جل وعلا بشيء دون شيء ، وحاصل الاستدلال أنه سبحانه لا يغيب عنه شيء ومن يكون هذا شأنه كيف لا يعلم حال أهل الأرض وما هم عليه مع نبيه صلّى اللّه عليه وسلم ، وقوله سبحانه : وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ جملة مستقلة ليست معطوفة على ما قبلها ، ولا نافية للجنس وأَصْغَرَ اسمها منصوب لشبهه بالمضاف وكذا أَكْبَرَ لتقدير عمله ، وقول السمين : إنهما مبنيان على الفتح ضعيف وهو مذهب البغداديين ، وزعم أنه سبق قلم متأخر عن حيز القبول ، وفِي كِتابٍ متعلق بمحذوف وقع خبرا.
وقرأ حمزة ويعقوب وخلف وسهل بالرفع على الابتداء والخبر ، ولا يجوز إلغاؤها إذا تكررت ، وأما قولهم :
إن الشبيه بالمضاف يجب نصبه فالمراد منه المنع من البناء لا المنع من الرفع والإلغاء كما توهمه بعضهم ، وجوز أن يكون ذلك على جعل لا عاملة عمل ليس ، وقيل : إن أَصْغَرَ على القراءة الأولى عطف على مِثْقالِ أو ذَرَّةٍ باعتبار اللفظ ، وجيء بالفتح بدلا عن الكسر لأنه لا ينصرف للوصف ووزن الفعل ، وعلى القراءة الأخرى معطوف على مِثْقالِ باعتبار محله لأنه فاعل ، ومِنْ كما عرفت مزيد. واستشكل بأنه يصير التقدير ولا يعزب عنه أصغر من ذلك ولا أكبر منه إلا في كتاب فيعزب عنه ومعناه غير صحيح. وأجيب بأن هذا على تقدير اتصال الاستثناء وأما على تقدير انقطاعه فيصير التقدير لكن لا أصغر ولا أكبر إلا هو في كتاب مبين ، وهو مؤكد لقوله سبحانه : لا يَعْزُبُ عَنْهُ [سبأ : 3] إلخ ، وأجاب بعضهم على تقدير الاتصال بأنه على حد لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان : 56] وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [النساء : 23] في رأي ، فالمعنى لا يبعد عن علمه شيء إلا ما في اللوح الذي هو محل صور معلوماته تعالى شأنه بناء على تفسير الكتاب المبين به أو إلا ما في علمه بناء على ما قيل : إن الكتاب العلم ، فإن عد ذلك من العزوب فهو عازب عن علمه وظاهر أنه ليس من العزوب قطعا فلا يعزب عن علمه شيء قطعا.
ونقل عن بعض المحققين في دفع الإشكال أن العزوب عبارة عن مطلق البعد ، والمخلوقات قسمان قسم أوجده اللّه تعالى من غير واسطة كالأرض والسماء والملائكة عليهم السلام وقسم أوجده بواسطة القسم الأول مثل الحوادث في العالم وقد تتباعد سلسلة العلية والمعلولية عن مرتبة وجود واجب الوجود سبحانه ، فالمعنى لا يبعد عن مرتبة وجوده تعالى ذرة في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين أثبت فيه سبحانه تلك المعلومات ، فهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال ، وإثبات العزوب بمعنى البعد عنه تعالى في سلسلة الإيجاد لا محذور فيه وهو وجه دقيق إلا أنه أشبه بتدقيقات الحكماء وإن خالف ما هم عليه في الجملة.
وقال الكواشي : معنى يعزب يبين وينفصل ، أي لا يصدر عن ربك شيء من خلقه ألا وهو في اللوح وتلخيصه أن كل شيء مكتوب فيه. واعترض بأن تفسيره يبين وينفصل غير معروف ، وقيل : المراد بالبعد عن الرب سبحانه البعد والخروج عن غيبه أي لا يخرج عن غيبه إلا ما كان في اللوح فيعزب عن الغيب ويبعد إذ لا يبقى ذلك غيبا حينئذ لاطلاع الملائكة عليهم السلام وغيرهم عليه فيفيد إحاطة علمه سبحانه بالغيب والشهادة.
ومن هنا يظهر وجه آخر لتقديم الأرض على السماء ، وقيل : إن إِلَّا عاطفة بمنزلة الواو كما قال بذلك الفراء

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 138
في قوله تعالى : لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ [النمل : 10 ، 11] والأخفش في قوله سبحانه : لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [البقرة : 15] وقوم في قوله جل شأنه : الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [النجم : 32] وهو مقدر بعدها ، والكلام قد تم عند قوله سبحانه : وَلا أَكْبَرَ ثم ابتدأ بقوله تعالى : إِلَّا فِي كِتابٍ أي وهو في كتاب ونقل ذلك مكي عن أبي علي الحسن بن يحيى الجرجاني ثم قال : وهو قول حسن لولا أن جميع البصريين لا يعرفون إِلَّا بمعنى الواو ، والإنصاف أنه لا ينبغي تخريج كلام اللّه تعالى العزيز على ذلك ولو اجتمع الخلق إنسهم وجنهم على مجيء إلا بمعنى الواو ، وقيل : إن الاستثناء من محذوف دل عليه الكلام السابق أي ولا شيء إلا في كتاب ونظيره ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام : 38] ويكون من مجموع ذلك إثبات العلم للّه تعالى في كل معلوم وإن كل شيء مكتوب في الكتاب ، ويشهد لهذا على ما قيل كثير من أساليب كلام العرب. ونقل عن صاحب كتاب تبصرة المتذكر أنه يجوز أن يكون الاستثناء متصلا بما قبل قوله تعالى : ولا يَعْزُبُ ويكون في الآية تقديم وتأخير ، وترتيبها وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا في كتاب مبين إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه إلي ولا أكبر ، وتلخيصه وما من شيء إلا وهو في اللوح المحفوظ ونحن نشاهده في كل آن. ونظر فيه البلقيني في رسالته المسماة بالاستغناء بالفتح المبين في الاستثناء في وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ بأنه على ما فيه من التكلف يلزم عليه القول بتركيب في الكلام المجيد لم يوجد في كلام العرب مثله أعني إلا في كتاب مبين إلا كنا عليكم شهودا وليس ذلك نظير. أمر ربهم إلا الفتى إلا العلا. كما لا يخفى.
وأنت تعلم أن أقل الأقوال تكلفا القول بالانقطاع ، وأجلها قدرا وأدقها سرا القول بالاتصال وإخراج الكلام مخرج إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [النساء : 22 ، 23] ونظائره الكثيرة نثرا ونظما ، ولا عيب فيه إلا أن الآية عليه أبلغ فليفهم ، ثم إنه تعالى لما عمم وعده ووعيده في حق كافة من أطاع وعصي أتبعه سبحانه بشرح أحوال أوليائه تعالى المخلصين فقال عز من قائل : أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وفي إرشاد العقل السليم أنه بيان على وجه التبشير والوعد لما هو نتيجة لأعمال المؤمنين وغاية لما ذكر قبله من كونه سبحانه مهيمنا على نبيه صلّى اللّه عليه وسلم وأمته في كل ما يأتون ويذرون وإحاطة علمه جل وعلا بعد ما أشير إلى فظاعة حال المفترين على اللّه تعالى يوم القيامة وما سيعتريهم من الهول إشارة إجمالية على طريق التهديد والوعيد ، وصدرت الجملة بحرف التنبيه والتحقيق لزيادة تقرير مضمونها ، والأولياء جمع ولي من الولي بمعنى القرب والدنو يقال : تباعد بعد ولي أي قرب ، والمراد بهم خلص المؤمنين لقربهم الروحاني منه سبحانه كما يفصح عنه تفسيرهم الآتي ، ويفسر الولي بالمحب وبين المعنيين تلازم ، وسيأتي تمام الكلام على ذلك قريبا إن شاء اللّه تعالى ، وجاء بمعنى النصير ويشير كلام البعض إلى صحة اعتبار هذا المعنى هنا ، والمراد من الجملتين المنفيتين المتعاطفتين دوام انتفاء مدلولهما كما مر تحقيقه غير مرة ، قيل : والمعنى لا خوف عليهم من لحوق مكروه ولا هم يحزنون من فوات مطلوب في جميع الأوقات أي لا يعتريهم ما يوجب ذلك أصلا لا أنه يعتريهم لكنهم لا يخافون ولا يحزنون ولا أنه لا يعتريهم خوف وحزن أصلا بل يستمرون على النشاط والسرور ، كيف لا واستشعار الخوف استعظاما لجلال اللّه تعالى واستقصارا للجد والسعي في إقامة حقوق العبودية من خصائص الخواص والمقربين بل كلما ازداد العبد قربا
من ربه سبحانه ازداد خوفا وخشية منه سبحانه ، ويرشد إلى ذلك غير ما خبر وقوله تعالى : إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر : 28] وإنما لا يعتريهم ذلك لأن مقصدهم ليس إلا اللّه تعالى ونيل رضوانه المستتبع للكرامة والزلفى وذلك مما لا ريب في حصوله ولا احتمال لفواته بموجب الوعد الإلهي ، وأما ما عدا

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 139
ذلك من الأمور الدنيوية المترددة بين الحصول والفوات فهي عندهم أحقر من ذبالة «1» عند الحجاج بل الدنيا بأسرها في أعينهم أقذر من ذراع خنزير ميت بال عليه كلب في يد مجذوم فهيهات أن تنتظم في سلك مقصدهم وجودا وعدما حتى يخافوا من حصول ضارها أو يحزنوا من فوات نافعها.
وقيل : المراد بانتفاء الخوف والحزن أمنهم من ذلك يوم القيامة بعد تحقق ما لهم من القرب والسعادة وإلا فالخوف والحزن يعرضان لهم قبل ذلك سواء كان سببهما دنيويا أو أخرويا ، ولا يجوز أن يراد أمنهم مما ذكر في الدنيا أو فيما يعمها والآخرة لأن في ذلك أمنا من مكر اللّه تعالى فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ [الأعراف : 99] وهذا مبني على أن الخوف المنفي مسند إليهم وليس بالمتعين ، فقد ذهب بعض الجلة إلى أنه مسند إلى غيرهم أي غيرهم لا يخاف عليهم ولا يلزم من ذلك أنهم لا يخافون ليجيء حديث لزوم الأمن ، وجعل ذلك نكتة اختلاف أسلوب الجملتين.
والعدول عن لا هم يخافون الأنسب - بل هم يحزنون - إلى ما في النظم الجليل ، وقد يقال : إذا كان المراد أنهم لا يعتريهم ما يوجب الخوف والحزن لا يبقى لحديث لزوم الأمن من مكر اللّه تعالى مجال على ما لا يخفى على المتدبر لكن لا يظهر عليه نكتة اختلاف أسلوب الجملتين وكونها اختلاف شأن الخوف والحزن بشيوع وصف الأخير بعدم الثبات كما قيل :
فلا حزن يدوم ولا سرور دون الأول ولذا ناسب أن يعبر بالاسم في الأول وبالفعل المفيد للحدوث التجدد في الثاني كما ترى.
وقيل : إن المراد نفي استيلاء الخوف عليهم ونفي الحزن أصلا ومفاد ذلك اتصافهم بالخوف في الجملة ، ففيه إشارة إلى أنهم بين الرجاء والخوف غير آيسين ولا آمنين ، ولهذا لم يؤت بالجملتين على طرز واحد ، وكذا لم يقل لا خوف لهم مثلا ، والأوجه عندي ما نقل عن بعض الجلة من أن معنى لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ لا يخاف عليهم غيرهم ويجعل الجملة الأولى عليه كناية عن حسن حالهم ، وأنت في الجملة الثانية بالخيار ، والخوف على ما قال الراغب توقع المكروه وضده الأمن ، والحزن من الحزن بالفتح وهو خشونة في النفس لما يحصل من الغم ويضاده الفرح ، وعلى هذا قالوا في بيان المعنى لا خوف عليهم من لحوق مكروه ولا هم يحزنون من فوات مأمول الَّذِينَ آمَنُوا أي بكل ما جاء من عند اللّه تعالى وَكانُوا يَتَّقُونَ عما يحق الاتقاء منه من الأفعال والتروك اتقاء دائما حسبما يفيده الجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل والموصول في محل الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، والجملة استئناف بياني كأنه قيل : من أولئك وما سبب فوزهم بما أشار إليه الكلام السابق؟ فقيل : هم الذين جمعوا بين الإيمان والتقوى المفضيين إلى كل خير المجنبين عن كل شر؟ ولك أن تقصر في السؤال على من أولئك فيكون ذلك بيانا وتفسيرا للمراد من الأولياء فقط ، وعلى الأول هذا مع الإشارة إلى ما به نالوا مالوا ، وقيل : محله النصب أو الرفع على المدح أو على أنه وصف للأولياء. ورد بأن في ذلك الفصل بين الصفة والموصوف بالخبر. وقد أباه النحاة.
نعم جوزه الحفيد ، وجوز فيه البدلية أيضا ، والمراد من التقوى عند جمع المرتبة الثالثة منها وهي التقوى المأمور بها في قوله تعالى : اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران : 102] وفسرت بتنزه الإنسان عن كل ما يشغل سره عن الحق والتبتل إليه بالكلية ، وبذلك يحصل الشهود والحضور والقرب الذي يدور إطلاق الاسم عليه ، وهكذا كان حال من دخل معه صلّى اللّه عليه وسلم تحت
___________
(1) قوله من ذبالة كذا في خطه رحمة اللّه تعالى بذال معجمة والمعروف كما في غير كتاب تبالة بتاء مفتوحة ا ه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 140
الخطاب بقوله سبحانه وتعالى : وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إلخ خلا أن لهم في شأن التبتل والتنزه درجات متفاوتة حسبما درجات تفاوت استعداداتهم ، وأقصى الدرجات ما انتهى إليه همم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حتى جمعوا بذلك بين رياسة النبوة والولاية ولم يعقهم التعلق بعالم الأشباح عن الاستغراق في عالم الأرواح ولم تصدهم الملابسة بمصالح الخلق عن التبتل إلى جناب الحق سبحانه عز وجل لكمال استعداد نفوسهم الزكية المؤيدة بالقوة القدسية كذا قيل ، وفي كون حال كل من دخل معه صلّى اللّه عليه وسلم تحت الخطاب مرادا به جميع الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم ما أشار إليه من التقوى الحقيقية المأمور بها في الآية التي بها يحصل الشهود والحضور والقرب بحث ، وقصارى ما تحقق بعد نزاع طويل ذكرناه في جوابنا لسؤال أهل - لاهور - أن الصحابة كلهم عدول من لابس منهم الفتنة ومن لم يلابسها ودعوى أن العدالة تستلزم الولاية بالمعنى السابق إن تمت تم المقصود وإلا فلا ، والآية ظاهرة في أن الأولياء هم المؤمنون المتقون وأقل ما يكفي في إطلاق الولي التقرب إليه سبحانه بالفرائض من امتثال الأوامر واجتناب الزواجر ، والأكمل التقرب إليه جل شأنه بكل ما يمكن من القرب ، وفي المبين المعين الولي هو من يتولى اللّه تعالى بذاته أمره فلا تصرف له أصلا إذ لا وجود له ولا ذات ولا فعل ولا وصف ، والتركيب يدل على القرب فكأنه قريب منه عز وجل لاستدامة عباداته واستقامة طاعاته أو لاستغراقه في بحر معرفته ومشاهدة طلعة عظمته انتهى ، وفيه القول بأن الولي فعيل بمعنى مفعول ، وجوز أن يكون بمعنى فاعل ، وفسر بأنه من يتولى عبادة اللّه تعالى وطاعته على التوالي من غير تخلل معصية ، وعن القشيري أن كلا الوصفين تولى اللّه تعالى أمره وتولية عبادة اللّه تعالى وطاعته شرط في الولاية غير أن الوصف الأول غالب على المجذوب المراد والثاني على السالك المريد ،
ولا يخفى أن هذا الكلام وكذا ما قبله يدل على أن تخلل المعصية مناف للولاية وهو الذي يشير إليه كلام غير واحد من الفضلاء ، وليس في ذلك قول بالعصمة التي لم يثبتها الجماعة إلا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام بل قصارى ما فيه القول بالحفظ ، وقد قيل : الأولياء محفوظون وفسر بعدم صدور الذنب مع إمكانه ، والقيد لإخراج العصمة.
نعم جاءت العصمة بمعنى الحفظ المفسر بما ذكر ، وعلى ذلك خرج قول صاحب حزب البحر اللهم اعصمني في الحركات والسكنات لأن الدعاء بما هو من خواص الأنبياء عليهم السلام لا يجوز كالدعاء بسائر المستحيلات كما حقق في محله. وأطلق بعضهم القول بأن تخلل ذلك غير مناف احتجاجا بما حكي عن الجنيد قدس سره أنه سئل هل يزني العارف؟ فقال : نعم وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً [الأحزاب : 38] ، وتعقب بأنه محمول على الإمكان سؤالا وجوابا ولا كلام فيه وإنما الكلام في أن الوقوع مناف أو غير مناف ، وقال بعضهم : لا شبهة في عدم بقاء وصف الولاية حال التلبس بالمعصية إذ لا تقوى حينئذ بالإجماع ومدار هذا الوصف عليها وكذا على الإيمان ، وهو غير كامل إذ ذاك عند أهل الحق وغير متحقق أصلا بل المتحقق الفسق المعنى بالواسطة أو الكفر عند آخرين ، وكذا لا شبهة في عدم منافاة وقوع المعصية الاتصاف بالولاية بعده بأن يعود من ابتلي بذلك إلى قوى اللّه تعالى ويتصف بما تتوقف الولاية عليه ، وهو نظير من يتصف بالإيمان أو بالعدالة مثلا بعد أن لم يكن متصفا بذلك بقي الكلام في منافاة الوقوع الاتصاف قبل ، فإن قيل : إنه مناف له بمعنى أنه لذلك لم يكن متصفا قبل بما هو إيمان وتقوى عند الناس فلا شبهة أيضا في عدم المنافاة بهذا المعنى وهو ظاهر وإن قيل : إنه مناف له بمعنى أنه لم يكن لذلك متصفا بما ذكر عند اللّه تعالى بناء على أن المراد بالتقوى التي هي شرط الولي التقوى الكاملة التي يترتب عليها حب اللّه تعالى المترتب عليه الحفظ كما أشير إليه فيما
رواه البخاري من حديث أبي هريرة قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إن اللّه تعالى قال : من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضت عليه ، ولا زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 141
أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها» الحديث.
وقد قال غير واحد في معنى الشرطية فإذا أحببته كنت حافظا حواسه وجوارحه فلا يسمع ولا يبصر ولا يأخذ ولا يمشي إلا فيما أرضى وأحب وينقلع عن الشهوات ويستغرق في الطاعات ، وقريب منه قول الخطابي : المراد من ذلك توفيقه في الأعمال التي يباشرها بهذه الأعضاء ، يعني ييسر عليه فيها سبيل ما يحبه ويعصمه عن موافقة ما يكرهه من إصغاء إلى لهو يسمعه ونظر إلى ما نهي عنه ببصره وبطش بما لا يحل بيده وسعى في باطل برجله ، وكذا قول بعضهم المعنى أجعل سلطان حبي غالبا عليه حتى أسلب عنه الاهتمام بشيء غير ما يقربه إلي فيصير متخليا عن اللذات متجنبا عن الشهوات متى ما يتقلب وأينما يتوجه لقي اللّه تعالى بمرأى فيه ومسمع منه ويأخذ حب اللّه تعالى مجامع قلبه فلا يسمع ولا يرى ولا يفعل إلا ما يحبه ويكون له في ذلك عونا ومؤيدا ووكيلا يحمي جوارحه وحواسه فله وجه لأنه إذا وقعت المعصية يعلم أنه لم يكن محفوظا وبه يعلم أنه لم يكن محبوبا وبذلك يعلم أنه لم يكن متقربا إليه تعالى شأنه ومتقيا إياه حق تقاته وإن ظنه الناس كذلك فهو ليس من أوليائه سبحانه في نفس الأمر.
نعم من اتصف بصفات الأولياء ظاهرا يجب تعظيمه واحترامه والتأدب معه والكف عن إيذائه بشيء من أنواع الإيذاء التي لا مسوغ لها شرعا كالإنكار عليه عنادا أو حسدا دون المنازعة في محاكمة أو خصومة راجعة لاستخراج حق أو كشف غامض ونحو ذلك لما دل عليه الحديث السابق المشتمل من تهديد المؤذي على الغاية القصوى والحكم على من ذكره لولاية إذا لم يكن هناك نص من معصوم على ما يدل على تحققها في نفس الأمر إنما هو بالنظر إلى الظاهر لا إلى ما عند اللّه تعالى لما أن من الذنوب ما لا يمكن أن يطلع عليه إلا علام الغيوب ومنها الذنوب القلبية التي هي أدواء قاتلة وسموم ناقعة مع أن الأعمال بخواتيمها وهي مجهولة إلا للمبدىء المعيد جل جلاله «هذا» وهو تحقيق يلوح عليه مخايل القبول ، ومن الناس من قسم الولاية إلى صغرى قد يقع فيها الذنب على الندرة لكن يبادر للتنصل منه فورا وعد العلامة ابن حجر عليه الرحمة من وقع منه الذنب كذلك فبادر للتنصل منه محفوظا فالوقوع عنده على الندرة مع المبادرة للتنصل لا ينافي الحفظ وإنما ينافيه تكرر الوقوع وكثرته وكذا ندرته مع عدم المبادرة للتنصل ، وكبرى لا يقع فيها الذنب أصلا مع إمكان الوقوع ولو قيل أو مع استحالته كما في ولاية الأنبياء عليهم السلام وادعى أن ذلك من خصوصيات ولايتهم فيكون الحفظ أعم من العصمة لم يبعد. وأنت تعلم أن قولهم الأنبياء معصومون ظاهر في كون العصمة من توابع النبوة ومعللة بها وهو مخالف لتلك الدعوى كما لا يخفى ، وما ذكر من التقسيم حسن ويعلم منه أن الكثير ممن يدعي الولاية في زماننا أو تدعى له ليس له منها سوى الدعوى لإصراره والعياذ باللّه تعالى على كبائر تقع منه في اليوم مرارا عافانا اللّه تعالى والمسلمين من ذلك. وقد جاء عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم في تفسير الأولياء ما يظن أنه مخالف لما دلت عليه الآية في ذلك.
فقد أخرج ابن المبارك ، والترمذي في نوادر الأصول وأبو الشيخ وابن مردويه وآخرون عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : قيل : يا رسول اللّه من أولياء اللّه؟ قال : «الذين إذا رؤوا ذكر اللّه تعالى»
أي لحسن سمتهم وأخباتهم.
وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والبيهقي وجماعة عن أبي مالك الأشعري قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إن اللّه تعالى عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء على مجالسهم وقربهم من اللّه تعالى. قال أعرابي : يا رسول اللّه انعتهم لنا قال : «هم أناس من أفناء الناس ونوازع القبائل لم تصل بينهم أرحام متقاربة تحابوا في اللّه وتصافوا في اللّه يضع اللّه تعالى لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسون عليها يفزع الناس وهم لا يفزعون وهم أولياء اللّه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون»
ولا مخالفة في الحقيقة فإن ما أشير إليه من حسن السمت والإخبات والتحاب في اللّه تعالى

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 142
من الأحكام اللازمة للإيمان والتقوى والآثار الخاصة بهما الحقيقة بالتخصيص بالذكر لظهورها وقربها من أفهام الناس ، وقد أورد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كلا من ذلك حسبما يقتضيه مقام الإرشاد والتذكير ترغيبا لسائل أو حاضر فيما خصه بالذكر من أحكامهما ، وأريد بوصفهم بأنهم يغبطهم النبيون على مجالسهم وقربهم الإشارة إلى راحتهم مما يعتري الأنبياء عليهم السلام من الاشتغال بأممهم ، والمراد أنهم يغبطونهم على مجموع الأمرين ، وعن الكواشي أن ذلك خارج مخرج المبالغة ، والمعنى أنه لو فرض قوم بهذه الصفة لكانوا هؤلاء. وقال بعض المحققين : إن ذلك تصوير لحسن حالهم على طريقة التمثيل ، وأيا ما كان فلا دليل فيه على أن الولاية أفضل من النبوة وقد كفر معتقد ذلك ، وقد يؤول له بحمل ذلك على أن ولاية النبي أفضل من نبوته كما حمل ما قاله العز بن عبد السلام المخالف للأصح من أن النبوة أفضل من الرسالة على نحو ذلك ، وكذا لنظير ما ذكرنا لا يخالف ما دلت الآية عليه تفسير عيسى عليه السلام لذلك.
فقد أخرج أحمد في الزهد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن وهب قال : قال الحواريون : يا عيسى من أولياء اللّه تعالى الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟ فقال عليه السلام : الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها والذين نظروا إلى آجل الدنيا حين نظر الناس إلى عاجلها وأماتوا منها ما يخشون أن يميتهم وتركوا ما علموا أن سيتركهم فصار استكثارهم منها استقلالا وذكرهم إياها فواتا وفرحهم بما أصابوا منها حزنا وما عارضهم من نائلها رفضوه وما عارضهم من رفعتها بغير الحق وضعوه ، خلقت الدنيا عندهم فليسوا يجددونها وخربت بينهم فليسوا يعمرونها وماتت في صدورهم فليسوا يحيونها ، يهدمونها فيبنون بها آخرتهم ويبيعونها فيشترون بها ما يبقى لهم ، رفضوها فكانوا برفضها هم الفرحين ، باعوها فكانوا ببيعها هم الرابحين ونظروا إلى أهلها صرعى قد خلت فيهم المثلات فأحيوا ذكر الموت وأماتوا ذكر الحياة ، يحبون اللّه سبحانه وتعالى ويستضيئون بنوره ويضيئون به لهم خبر عجيب وعندهم الخبر العجيب ، بهم قام الكتاب وبه قاموا وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا وبهم علم الكتاب وبه علموا ، ليس يرون نائلا مع ما نالوا ولا أماني دون ما يرجون ولا فرقا دون ما يحذرون.
ُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
استئناف جيء به في موضع التعليل لنفي حزنهم والخوف عليهم في قول ، وفي آخر جيء به بيانا لما أولاهم سبحانه من خيرات الدارين بعد أن أخبر جل وعلا بإنجائهم من شرورهما ومكارهما وكأنه على هذا قيل : هل لهم وراء ذلك من نعمة وكرامة؟ فقيل : لهم البشرى إلخ ، وتقديم الأول لما أن التخلية سابقة على التحلية مع ما فيه من رعاية حق المقابلة بين حسن حال المؤمنين وسوء حال المفترين وتعجيل إدخال المسرة بتبشير الخلاص عن الأهوال ، وتوسيط البيان السابق بين التخلية والتحلية لإظهار كمال العناية به مع الإيذان بأن انتفاء ما تقدم لإيمانهم واتقائهم عما يؤدي إليه من الأسباب ، ومن الناس من فسر الأولياء بالذين يتولونه تعالى بالطاعة ويتولاهم بالكرامة وجعل الَّذِينَ آمَنُوا إلخ تفسيرا لتوليهم إياه تعالى ، وهذه الجملة تفسيرا لتوليته تعالى إياهم.
وتعقب بأنه لا ريب في أن اعتبار القيد الأخير في مفهوم الولاية غير مناسب لمقام ترغيب المؤمنين في تحصيلها والثبات عليها وبشارتهم بآثارها ونتائجها بل مخل بذلك إذ التحصيل إنما يتعلق بالمقدور والاستبشار لا يحصل إلا بما علم وجود سببه والقيد المذكور ليس بمقدور لهم حتى يحصلوا الولاية بتحصيله ولا بمعلوم لهم عند حصوله حتى يعرفوا حصول الولاية لهم ويستبشروا بمحاسن آثارها بل التولي بالكرامة عين نتيجة الولاية فاعتباره في عنوان الموضوع ثم الاخبار بعدم الخوف والحزن مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل انتهى ، وأنت تعلم أن ما ارتكبه ذلك البعض تكلف وعدول عن الظاهر فلا ينبغي العدول إليه وإن كان ما ذكره المتعقب لا يخلو عن نظر.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 143
وجوز كون الموصول مبتدأ وهذه الجملة خبره ، وفي بعض الأخبار ما يؤيده ، وْبُشْرى
في الأصل الخبر بما يظهر السرور في بشرة الوجه ومثلها البشارة وتطلق على المبشر به من ذلك وإلى إرادة كل ذهب بعض ، والظرفان بعده على الأول متعلقان به وعلى الثاني في موضع الحال منه ، والعامل ما في الخبر من معنى الاستقرار أي لهم البشرى حال كونها في الدنيا وحال كونها في الآخرة أي عاجلة وآجلة أو من الضمير المجرور أي حال كونهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، والثابت في أكثر الروايات أن البشرى في الحياة الدنيا هي الرؤيا الصالحة التي هي جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة كما هو المشهور ، أو جزء من سبعين جزءا منها كما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عمر وأبي هريرة وهو وابن ماجة عن الأول.
فقد أخرج الطيالسي وأحمد والدارمي والترمذي وابن ماجة والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم عن عبادة بن الصامت قال : سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن قوله سبحانه : هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
قال : هي «الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له»
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود أنه سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن ذلك فأجيب بما ذكر أيضا ، وأخرج من طريق أبي سفيان عن جابر مثلي ذلك ، وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ وأبو القاسم ابن منده من طريق أبي جعفر عن جابر المذكور قال : أتى رجل من أهل البادية رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال :
يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أخبرني عن قول اللّه تعالى : الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى إلخ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عليه الصلاة والسلام : «أما قوله تعالى : هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
فهي الرؤيا الحسنة ترى للمؤمن فيبشر بها في دنياه أما قوله سبحانه : فِي الْآخِرَةِ
فإنها بشارة المؤمن عند الموت أن اللّه قد غفر لك ولمن حملك إلى قبرك»
وجاء مرفوعا وموقوفا عن غير واحد تفسيرها بما ذكر ، وأخرج ابن جرير وابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن البشرى في الحياة الدنيا هي قوله تعالى لنبيه صلّى اللّه عليه وسلم : وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً [الأحزاب : 47] وعن الزجاج والفراء أنها هذا وما يشاكله من قوله تعالى : وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ [يونس : 2] وقوله سبحانه : يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ [التوبة : 21] الآية ، وقوله جل وعلا : وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة : 155] إلى غير ذلك ، وأخرج ابن أبي شيبة وغيره عن الضحاك أنه قال في ذلك : إنهم يعلمون أين هم قبل أن يموتوا. وجاء في تفسير البشرى في الآخرة ما سمعت في الخبر عن جابر الأخير.
وأخرج ابن جرير وغيره عن أبي هريرة مرفوعا أنها الجنة ،
وعن عطاء أن البشرى في الدنيا أن تأتيهم الملائكة عند الموت بالرحمة قال اللّه تعالى : تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ [فصلت : 30] وأما البشرى في الآخرة فتلقى الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة وما يرون من بياض وجوههم وإعطاء الصحائف بأيمانهم وما يقرؤون منها وغير ذلك من البشارات ، وقيل : المراد بالبشرى العاجلة نحو النصر والفتح والغنيمة والثناء الحسن والذكر الجميل ومحبة الناس وغير ذلك ، وأما البشرى الآجلة فغنية عن البيان ، وأنت تعلم أنه لا ينبغي العدول عما ورد عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في تفسير ذلك إذا صح وحيث عدل من عدل لعدم وقوفه على ذلك فيما أظن ، فالأولى أن يحمل البشرى في الدارين على البشارة بما يحقق نفي الخوف والحزن كائنا ما كان ، ويرشد إلى ذلك السباق ، ومن أجل ذلك بشرى الملائكة لهم بذلك وقتا فوقتا حتى يدخلوا الجنة ، وقد نطق الكتاب العزيز في غير موضع بهذه البشرى من اللّه تعالى علينا بها برحمته وكرمه تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
أي لا تغيير لأقواله التي من جملتها مواعيده الواردة بشارة للمؤمنين المتقين فيدخل فيها البشارات الواردة هاهنا دخولا أوليا ويثبت امتناع الأخلاف فيها لطفا وكرما ثبوتا قطعيا ، وأريد من عدم تبديل كلماته سبحانه على تقدير أن يراد من البشرى الرؤيا الصالحة عدم الخلف بينها وبين ما دل على ثبوتها ووقوعها فيما سيأتي بطريق الوعد من قوله تبارك اسمه : هُمُ الْبُشْرى
لا عدم

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 144
الخلف بينها وبين نتائجها الدنيوية والأخروية ولم يظهر لي وجهه بعد التدبر ، والمشهور أن الرؤيا الصالحة لا يتخلف ما تدل عليه. وقد جاء من حديث الحكيم الترمذي وغيره عن عبادة رضي اللّه تعالى عنه أنه صلّى اللّه عليه وسلم قال له في الرؤيا الصالحة كلام يكلم به ربك عبده في المنام لِكَ
أي ما ذكر من أن لهم البشرى في الدارين وَالْفَوْزُ الْعَظِيمُ
الذي لا فوز وراءه ، وجوز أن تكون الإشارة إلى البشرى بمعنى التبشير وقيل : إن ذلك إشارة إلى النعيم الذي وقعت به البشرى وجعل غير واحد الجملة الأولى وهذه الجملة اعتراضا جيء به لتحقيق المبشر به لتعظيم شأنه وهو مبني على جواز تعدد الاعتراض وعلى أنه يجوز أن يكون في آخر الكلام. ولذا قال العلامة الطيبي : لو جعلت الأولى معترضة والثانية تذييلا للمعترض والمعترض فيه ومؤكدة لهما كان أحسن بناء على أن ما في آخر الكلام يسمى تذييلا لا اعتراضا وهو مجرد اصطلاح. ومن جعل قوله سبحانه : وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ معطوفا على الجملة قبل أي أن أولياء اللّه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون فلا يحزنك قول أعداء اللّه تعالى فالاعتراض عنده بين متصلين لا في آخر الكلام لكنه ليس بشيء ، والذي عليه الجمهور أنه استئناف سيق تسلية للرسول صلّى اللّه عليه وسلم عما كان يلقاه من جهة الأعداء من الأذية الناشئة مقالاتهم الرديئة الوحشية وتبشيرا له عليه الصلاة والسلام بالنصر والعز إثر بيان أن له ولأتباعه أمنا من كل محذور وفوزا بكل مطلوب فهو متصل بقوله سبحانه : أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ إلخ معنى. وقيل : إنه متصل بقوله سبحانه : وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ [يونس : 41] الآية واختاره على ما فيه من البعد الطبرسي.
وقرأ نافع «ولا يحزنك» من أحزن وهو في الحقيقة نهي له صلّى اللّه عليه وسلم عن الحزن كأنه قيل : لا تحزن بقولهم ولا تبال بكل ما يتفوهون به في شأنك مما لا خير فيه ، وإنما عدل عنه إلى ما في النظم الجليل للمبالغة في النهي عن الحزن لما أن النهي عن التأثير نهي عن التأثر بأصله ونفي له بالمرة ، ونظير ذلك كما مر قولهم - لا أرينك هاهنا - ولا يأكلك السبع - ونحوه ، وقد وجه فيه النهي إلى اللازم والمراد هو النهي عن الملزوم ، قيل : وتخصيص النهي عن الحزن بالإيراد مع شمول النفي السابق للخوف أيضا لما أنه لم يكن فيه صلّى اللّه عليه وسلم شائبة خوف حتى ينهى عنه وربما كان يعتريه صلّى اللّه عليه وسلم في بعض الأوقات حزن فسلي عنه ، ولا يخفى أن إذا قلنا إن الخوف والحزن متقاربان فإذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا كما علمت آنفا كان النهي عن الحزن نهيا عن الخوف أيضا إلا أن الأولى عدم اعتبار ما فيه توهم نسبة الخوف إلى ساحته عليه الصلاة والسلام وإن لم يكن في ذلك نقص. فقد جاء نهي الأنبياء عليهم السلام عن الخوف كنهيهم عن الحزن بل قد ثبت صريحا نسبة ذلك إليهم وهو مما لا يخل بمرتبة النبوة إذ ليس كل خوف نقصا لينزهوا عنه كيف كان.
إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً كلام مستأنف سيق لتعليل النهي ، وقيل : جواب سؤال مقدر كأنه قيل : لم لا يحزنه؟
فقيل : لأن الغلبة والقهر للّه سبحانه لا يملك أحد شيئا منها أصلا لا هم ولا غيرهم فلا يقهر ولا يغلب أولياءه بل يقهرهم ويغلبهم ويعصمك منهم. وقرأ أبو حيوة «أن» بالفتح على صريح التعليل أي لأن ، وحمل قتيبة بن مسلم ذلك على البدل ثم أنكر القراءة لذلك لأنه يؤدي إلى أن يقال : فلا يحزنك أن العزة للّه جميعا وهو فاسد. وذكر الزمخشري أنه لو حمل على البدل لكان له وجه أيضا على أسلوب فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ [القصص : 86] وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [الشعراء : 203 ، القصص : 88] فيكون للتهييج والإلهاب والتعريض بالغير وفيه بعد هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يسمع أقوالهم في حقك ويعلم ما يضمرونه عليك فيكافؤهم على ذلك وما ذكرناه في الآية هو الظاهر المتبادر.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : لما لم ينتفعوا بما جاءهم من اللّه تعالى وأقاموا على كفرهم كبر ذلك على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فجاءه من اللّه سبحانه فيما يعاتبه وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 145
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
يسمع ما يقولون ويعلمه فلو شاء بعزته لانتصر منهم ولا يخفى أنه خلاف الظاهر جدا مع ما فيه من تعليق العلم بما علق بالسمع ، ولعل روايته عن الحبر غير معول عليها.
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ أي من الملائكة والثقلين كما يدل عليه التعبير - بمن - الشائع في العقلاء ، والتغليب غير مناسب هنا ، ووجه تخصيصهم بالذكر الإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بغيرهم فإنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم إذا كانوا عبيد اللّه مملوكين له سبحانه فما عداهم من الموجودات أولى بذلك ، والجملة مع ما فيها من التأكيد لما سبق من اختصاص العزة به جل شأنه الموجب لسلوته عليه الصلاة والسلام وعدم مبالاته بمقالات المشركين تمهيد لما لحق من قوله سبحانه : وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ ودليل على بطلان ظنونهم وأعمالهم المبينة عليها والاقتصار على أحد الأمرين قصور فلا تكن من القاصرين ، وما نافية وشُرَكاءَ مفعول يَتَّبِعُ ومفعول يَدْعُونَ محذوف لظهوره ، أي ما يتبع الذين يدعون من دون اللّه شركاء شركاء في الحقيقة وإن سموها شركاء لجهلهم فالمراد سلب الصفة في الحقيقة ونفس الأمر فما ذكره أبو البقاء من عدم جواز هذا الوجه من الإعراب لأنه يدل على نفي اتباعهم الشركاء مع أنهم اتبعوهم ناشىء من الغفلة عما ذكرنا ، وجوز أن يكون شُرَكاءَ المذكور مفعول يَدْعُونَ ويكون مفعول يَتَّبِعُ محذوفا لانفهامه من قوله سبحانه :
إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ أي ما يتبعون يقينا وإنما يتبعون ظنهم الباطل أو ظنهم أنها شركاء بتقدير معمول الظن أو تنزيله منزلة اللازم ، وقدر بعضهم مفعول يَتَّبِعُونَ شركاء ميلا إلى إعمال الثاني في التنازع ، وتعقب بأنه لا يصح أن يكون من ذلك الباب لأن مفعول الفعل الأول مقيد دون الثاني فلا يتحد المعمول والاتحاد شرط في ذلك ، وكون التقييد عارضا بعد الإعمال بقرينة عامله فلا ينافي ما شرط في الباب بالباب كما لا يخفى ، وجوز أيضا أن تكون ما استفهامية منصوبة - بيتبع - وشُرَكاءَ مفعول يَدْعُونَ أي أي شيء يتبع المشركون أي ما يتبعونه ليس بشيء ، وأن تكون موصولة معطوفة على مَنْ أي وله تعالى ما يتبعه المشركون خلقا وملكا فكيف يكون شريكا له سبحانه ، وتخصيص ذلك بالذكر مع دخوله فيما سبق عبارة أو دلالة للمبالغة في بيان بطلان الاتباع وفساد ما بنوه عليه من الظن الذي هو من الفساد بمكان ، وجوز على احتمال الموصولية أن تكون مبتدأ خبره محذوف أي باطل ونحوه أو الخبر قوله سبحانه : إِنْ يَتَّبِعُونَ والعائد محذوف أي في عبادته أو اتباعه.
وقرأ السلمي «تدعون» بالتاء الخطابية ، وروي ذلك عن علي كرم اللّه وجهه وهي قراءة متجهة خلافا لزاعم خلافه فإن «ما» فيها استفهامية للتبكيت والتوبيخ والعائد على الَّذِينَ محذوف وشُرَكاءَ حال منه ، والمراد من الَّذِينَ الملائكة والمسيح وعزير عليهم الصلاة والسلام فكأنه قيل : أي شيء يتبع الذين تدعونهم حال كونهم شركاء في زعمكم من الملائكة والنبيين تقريرا لكونهم متبعين للّه تعالى مطيعين له وتوبيخا لهم على عدم اقتدائهم بهم في ذلك كقوله سبحانه : أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ [الإسراء : 57] وحاصله أن الذين تعبدونهم يعبدون اللّه تعالى ولا يعبدون غيره فما لكم لا تقتدون بهم ولا تتبعونهم في ذلك ثم صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة فقيل : إن يتبع هؤلاء إلا الظن ولا يتبعون ما يتبعه الملائكة والنبيون عليهم السلام من الحق وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أي يحزرون ويقدرون أنهم شركاء تقديرا باطلا أو يكذبون فيما ينسبونه إليه سبحانه وتعالى على أن الخرص إما بمعنى الحزر والتخمين كما هو الأصل الشائع فيه وإما بمعنى الكذب فإنه جاء استعماله في ذلك لغلبته في مثله.
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً تنبيه على تفرده تعالى بالقدرة الكاملة والنعمة

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 146
الشاملة ليدلهم على توحده سبحانه باستحقاق العبادة فتعريف الطرفين للقصر وهو قصر تعيين ، وفي ذلك أيضا تقرير لما سلف من كون جميع الموجودات الممكنة تحت قدرته وملكته المفصح عن اختصاص العزة به سبحانه.
والجعل إن كان بمعنى الإبداع والخلق - فمبصرا - حال وإن كان بمعنى التصيير - فلكم - المفعول الثاني أو حال كما في الوجه الأول فالمفعول الثاني لِتَسْكُنُوا فِيهِ أو هو محذوف يدل عليه المفعول الثاني من الجملة الثانية كما أن العلة الغائية منها محذوفة اعتمادا على ما في الأولى ، والتقدير هو الذي جعل لكم الليل مظلما لتسكنوا فيه والنهار مبصرا لتتحركوا فيه لمصالحكم فحذف من كل ما ذكر في الآخر اكتفاء بالمذكور عن المتروك وفيه على هذا صنعة الاحتباك والآية شائعة في التمثيل بها لذلك وهو الظاهر فيها وإن كان أمرا غير ضروري ، ومن هنا ذهب جمع إلى أنه لا احتباك فيها ، والعدول عن لتبصروا فيه الذي يقتضيه ما قبل إلى ما في النظم الجليل للتفرقة بين الظرف المجرور والظرف الذي هو سبب يتوقف عليه في الجملة وإسناد الأبصار إلى النهار مجازي كالذي في قول جرير :
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ونمت وما ليل المطي بنائم
وقولهم : - نهاره صائم - وغير ذلك مما يحصى كثرة. وإلى هذا ذهب ابن عطية وجماعة ، وقيل : إن مُبْصِراً للنسب كلابن وتامر أي ذا إبصار إِنَّ فِي ذلِكَ أي في الجعل المذكور أو في الليل والنهار ، وما في اسم الإشارة من معنى البعد للإيذان ببعد منزلة المشار إليه وعلو رتبته لَآياتٍ أي حججا ودلالات على توحيد اللّه تعالى كثيرة أو آيات أخر غير ما ذكر لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ أي الحجج مطلقا سماع تدبر واعتبار أو يسمعون هذه الآيات المتلوة ونظائرها المنبهة على تلك الآيات التكوينية الآمرة بالتأمل فيها ذلك السماع فيعملون بمقتضاها ، وتخصيص هؤلاء بالذكر مع أن الآيات منصوبة لمصلحة الكل لما أنهم المنتفعون بها.
قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً شروع في ذكر ضرب آخر من أباطيل المشركين وبيان بطلانه ، والمراد بهؤلاء المشركين على ما قيل : كفار قريش والعرب فإنهم قالوا : الملائكة بنات اللّه تعالى ، واليهود والنصارى القائلون : عزير وعيسى عليهما السلام ابناه عز وجل والاتخاذ صريح في التبني ، وظاهر الآية يدل على أن ذلك قول كل المشركين وإذا ثبت أن منهم من يقول بالولادة والتقدير حقيقة كان ما هنا قول البعض ولينظر هل يجري فيه احتمال إسناد ما للبعض للكل لتحقق شرطه أم لا يجري لفقد ذلك والولد يستعمل مفردا وجمعا.
وفي القاموس الولد محركة وبالضم والكسر والفتح واحد وجمع وقد يجمع على أولاد وولدة وإلدة بالكسر فيهما وولد الضم وهو يشمل الذكر والأنثى سُبْحانَهُ تنزيه وتقديس له تعالى عما نسبوا إليه على ما هو الأصل في معنى سبحان وقد يستعمل للتعجب مجازا ويصح إرادته هنا ، والمراد التعجب من كلمتهم الحمقى ، وجمع بعضهم بين التنزيه والتعجب ولعله مبني على أن التعجب معنى كنائي وأنه يصح إرادة المعنى الحقيقي في الكناية وهو أحد قولين في المسألة ، وقيل : إنه لا يلزم استفادة معنى التعجب منه باستعمال اللفظ فيه بل هو من المعاني الثواني ، وقوله سبحانه : هُوَ الْغَنِيُّ أي عن كل شيء في كل شيء علة لتنزهه تعالى وتقدس عن ذلك وإيذان بأن اتخاذ الولد مسبب عن الحاجة وهي التقوى أو بقاء النوع مثلا ، وقوله تعالى : لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي من العقلاء وغيرهم تقرير لمعنى الغني لأن المالك لجميع الكائنات هو الغني وما عداه فقير ، وقيل : هو علة أخرى لتنزه عن التبني لأنه ينافي المالكية ، وقوله جل شأنه : إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ أي حجة بِهذا أي بما ذكر من القول الباطل توضيح لبطلانه بتحقيق سلامة ما أقيم من البرهان الساطع عن المعارض والمنافي - فإن - نافية ومِنْ زائدة لتأكيد النفي ومجرورها مبتدأ والظرف المقدم خبره أو مرتفع على أنه فاعل له لاعتماده على النفي وبِهذا متعلق

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 147
إما - بسلطان - لأنه بمعنى الحجة كما سمعت وإما بمحذوف وقع صفة له ، وقيل : وقع حالا من الضمير المستتر في الظرف الراجع إليه وإما بما في عِنْدَكُمْ من معنى الاستقرار ، ويتعين على هذا كون سُلْطانٍ فاعلا للظرف لئلا يلزم الفصل بين العامل المعنوي ومتعلقه بأجنبي ، والالتفات إلى الخطاب لمزيد المبالغة في الإلزام والإفحام وتأكيد ما في قوله تعالى : أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ من التوبيخ والتقريع على جهلهم واختلاقهم ، وفي الآية دليل على أن كل قول لا دليل عليه فهو جهالة وأن العقائد لا بد لها من قاطع وأن التقليد بمعزل من الاهتداء ولا تصلح متمسكا لنفي القياس والعمل بخبر الآحاد لأن ذلك في الفروع وهي مخصوصة بالأصول لما قام من الأدلة على تخصيصها وإن عم ظاهرها.
قُلْ تلوين للخطاب وتوجيه له إلى سيد المخاطبين صلّى اللّه عليه وسلم ليبين سوء مغبتهم ووخامة عاقبتهم وفي ذلك إنذارهم عن الاستمرار على ما هم فيه ولغيرهم عن الوقوع في مثله إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ في كل أمر ويدخل الافتراء بنسبة الولد والشريك إليه تعالى دخولا أوليا وهو أولى من الاقتصار على ما الكلام فيه ، وحينئذ فالمراد بالموصول ما يعم أولئك المخاطبين وغيرهم ، أي إن من تكون هذه صفتهم كائنا ما كانوا لا يُفْلِحُونَ لا ينجون من مكروه ولا يفوزون بمطلوب أصلا ويندرج في ذلك عدم النجاة من النار وعدم الفوز بالجنة والاقتصار عليه في مقام المبالغة في الزجر عن الافتراء عليه سبحانه دون النعيم في المناسبة.
مَتاعٌ فِي الدُّنْيا خبر مبتدأ محذوف أي هو أو ذلك متاع ، والتنوين للتحقير والتقليل ، والظرف متعلق بما عنده أو بمحذوف وقع نعتا له ، والجملة كلام مستأنف سيق جوابا لسؤال مقدر عما يتراءى فيهم بحسب الظاهر من نيل المطالب والفوز بالحظوظ الدنيوية على الإطلاق أو في ضمن افترائهم وبيانا لأن ذلك بمعزل من أن يكون من جنس الفلاح كأنه قيل : كيف لا يفلحون وهم في غبطة ونعيم؟ فقيل : هو أو ذلك متاع حقير قليل في الدنيا وليس بفوز بالمطلوب ، ثم أشير إلى انتفاء النجاة عن المكروه أيضا بقوله سبحانه : ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ أي إلى حكمنا رجوعهم بالموت فيلقون الشقاء المؤبد ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ أي بسبب كفرهم المستمر أو بكفرهم في الدنيا فأين هم من الفلاح وما ذكرنا من كون متاع خبر مبتدأ محذوف هو الذي ذهب إليه غير واحد من المعربين ، غير أن أبا البقاء وآخرين منهم قدروا المبتدأ حياتهم أو تقلبهم أو افتراؤهم ، واعترض على تقدير الأخير بأن المتاع إنما يطلق على ما يكون مطبوعا عند النفس مرغوبا فيه في نفسه يتمتع به وينتفع وإنما عدم الاعتداد به لسرعة زواله ، ونفس الافتراء عليه سبحانه أقبح القبائح عند النفس فضلا عن أن يكون مطبوعا عندها.
وأجيب بأن إطلاق المتاع على ذلك باعتبار أنه مطبوع عند نفوسهم الخبيثة وفيه انتفاع لهم به حسبما يرونه انتفاعا وإن كان من أقبح القبائح وغير منتفع به في نفس الأمر ، ولا يخفى أن الوجه الأول مع هذا أوجه ، وقيل : إن المذكور مبتدأ محذوف الخبر أي لهم متاع إلخ وليس ببعيد ، والآية إما مسوقة من جهته سبحانه لتحقيق عدم أفلاحهم غير داخلة في الكلام المأمور به وهو الذي يقتضيه ظاهر قوله سبحانه : ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ وقوله تعالى : ثُمَّ نُذِيقُهُمُ وإما داخلة فيه على أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم مأمور بنقله وحكايته عنه تعالى شأنه وله نظائر في الكتاب العزيز وَاتْلُ عَلَيْهِمْ أي على المشركين من أهل مكة وغيرهم لتحقيق ما سبق من عدم إفلاح المفترين وكون ما يتمتعون به على جناح الفوات وأنهم مشرفون على الشقاء المؤبد والعذاب الشديد نَبَأَ نُوحٍ أي خبره الذي له شأن وخطر مع قومه الذين هم أضراب قومك في الكفر والعناد ليتدبروا ما فيه مما فيه مزدجر فلعلهم ينزجرون عما هم عليه أو تنكسر شدة شكيمتهم ولعل بعض من يسمع ذلك منك ممن أنكر صحة نبوتك أن يعترف بصحتها فيؤمن بك بأن يكون قد ثبت عنده ما يوافق ما تضمنه المتلو من

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 148
غير مخالفة له أصلا فيستحضر أنك لم تسمع ذلك من أحد ولم تستفده من كتاب فلا طريق لعلمك به إلا من جهة الوحي وهو مدار النبوة.
وفي ذلك من تقرير ما سبق من كون الكل للّه سبحانه ، واختصاص؟؟؟ العزة به تعالى ، وانتفاء الخوف على أوليائه وحزنهم ، وتشجيع النبي صلّى اللّه عليه وسلم وحمله على عدم المبالاة بهم وبأقوالهم وأفعالهم ما لا يخفى ، والاقتصار على بعض ذلك قصور وقد تقدم الكلام في نوح عليه السلام إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اللام للتبليغ أو للتعليل وإِذْ بدل من نَبَأَ بدل اشتمال أو معمولة له لا - لاتل - لفساد المعنى ، وجوز أبو البقاء تعلقه بمحذوف وقع حالا من نَبَأَ وأيّا ما كان فالمراد بعض نبئه عليه الصلاة والسلام لا كل ما جرى بينه وبين قومه وكانوا على ما قال الأجهوري من بني قابيل يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ أي عظم وشق عَلَيْكُمْ مَقامِي أي نفسي على أنه في الأصل اسم مكان وأريد منه النفس بطريق الكناية الإيمائية كما يقال المجلس السامي ، ويجوز أن يكون مصدرا ميميا بمعنى الإقامة يقال : قمت بالمكان وأقمت بمعنى أي إقامتي بين ظهرانيكم مدة مديدة ، وكونها ما ذكر اللّه تعالى ألف سنة إلا خمسين عاما يقتضي أن يكون القول في آخر عمره ومنتهى أمره ويحتاج ذلك إلى نقل ، أو المراد قيامه بدعوتهم وقريب منه قيامه لتذكيرهم ووعظهم لأن الواعظ كان يقوم بين من يعظهم لأنه أظهر وأعون على الاستماع كما يحكى عن عيسى عليه السلام أنه كان يعظ الحواريين قائما وهم قعود ، وكثيرا ما كان نبينا صلّى اللّه عليه وسلم يقوم على المنبر فيعظ الجماعة وهم قعود فيجعل القيام كناية أو مجازا عن ذلك أو هو عبارة عن ثبات ذلك وتقرره وَتَذْكِيرِي إياكم بِآياتِ اللَّهِ الدالة على وحدانيته المبطلة لما أنتم عليه من الشرك فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ لا على غيره ، والجملة جواب الشرط وهو عبارة عن عدم مبالاته والتفاته إلى استثقالهم ، ويجوز أن تكون قائمة مقامه ، وقيل : الجواب محذوف وهذا عطف عليه أي فافعلوا ما شئتم ، وقيل : المراد الاستمرار على تخصيص
التوكل به تعالى ، ويجوز أن يكون المراد إحداث مرتبة مخصوصة من مراتب التوكل وإلا فهو عليه السلام متوكل عليه سبحانه لا على غيره دائما ، وقوله سبحانه : فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ عطف على الجواب المذكور عند الجمهور والفاء لترتيب الأمر بالإجماع على التوكل لا لترتيب نفس الإجماع عليه ، وقيل : إنه الجواب وما سبق اعتراض وهو يكون بالفاء. فاعلم فعلم المرء ينفعه. ولعله أقل غائلة مما تقدم لما سمعته مع ما فيه من ارتكاب عطف الإنشاء على الخبر وفيه كلام. و«أجمعوا» بقطع الهمزة وهو كما قال أبو البقاء من أجمعت على الأمر إذا عزمت عليه إلا أنه حذف حرف الجر فوصل الفعل ، وقيل : إن أجمع متعد بنفسه واستشهد له بقول الحارث بن حلزة :
أجمعوا أمرهم بليل فلما أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
ونص السدوسي على أن عدم الإتيان بعلى كأجمعت الأمر أفصح من الإتيان بها كأجمعت على الأمر ، وقال أبو الهيثم : معنى أجمع أمره جعله مجموعا بعد ما كان متفرقا وتفرقته أن يقول مرة أفعل كذا ومرة أفعل كذا فإذا عزم فقد جمع ما تفرق من عزمه ثم صار بمعنى العزم حتى وصل بعلى وأصله التعدية بنفسه ، ولا فرق بين أجمع وجمع عند بعض ، وفرق آخرون بينهما بأن الأول يستعمل في المعاني والثاني في الأعيان فيقال : أجمعت أمري وجمعت الجيش ولعله أكثري لا دائمي ، والمراد بالأمر هنا نحو المكر والكيد وَشُرَكاءَكُمْ أي التي زعمتم أنها شركاء للّه سبحانه وتعالى ، وهو نصب على أنه مفعول معه من الفاعل لأن الشركاء عازمون لا معزوم عليهم ، ويؤيد ذلك قراءة الحسن وابن أبي إسحاق وأبي عبد الرحمن السلمي وعيسى الثقفي بالرفع فإن الظاهر أنه حينئذ معطوف على الضمير المرفوع المتصل ووجود الفاصل قائم مقام التأكيد بالضمير المنفصل.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 149
وقيل : إنه مبتدأ محذوف الخبر أي وشركاؤكم يجمعون ونحوه. وقيل : إن النصب بالعطف على أَمْرَكُمْ بحذف المضاف أي وأمر شركائكم بناء على أن أجمع تتعلق بالمعاني والكلام خارج مخرج التهكم بناء على أن المراد بالشركاء الأصنام ، وقيل : إنه على ظاهره والمراد بهم من على دينهم. وجوز أن لا يكون هناك حذف والكلام من الإسناد إلى المفعول المجازي على حد ما قيل في وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف : 82] وقيل : إن ذاك على المفعولية به لمقدر كما قيل في قوله :
علفتها تبنا وماء باردا أي وادعوا شركاءكم كما قرأ به أبي رضي اللّه تعالى عنه ، وقرأ نافع «فأجمعوا» بوصل الهمزة وفتح الميم من جمع ، وعطف الشركاء على الأمر في هذه القراءة ظاهر بناء على أنه يقال : جمعت شركائي كما يقال : جمعت أمري ، وزعم بعضهم أن المعنى ذوي أمركم وهو كما ترى ، والمعنى أمرهم بالعزم والإجماع على قصده والسعي في إهلاكه على أي وجه يمكنهم من المكر ونحوه ثقة باللّه تعالى وقلة مبالاة بهم ، وليس المراد حقيقة الأمر ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ ذلك عَلَيْكُمْ غُمَّةً أي مستورا من غمه إذا ستره ، ومنه حديث وائل بن حجر «لا غمة في فرائض اللّه تعالى» أي لا تستر ولا تخفي وإنما تظهر وتعلن ، والجار والمجرور متعلق - بغمة. ،
والمراد نهيهم عن تعاطي ما يجعل ذلك غمة عليهم فإن الأمر لا ينهى ويستلزم ذلك الأمر بالإظهار ، فالمعنى أظهروا ذلك وجاهروني به فإن الستر إنما يصار إليه لسد باب تدارك الخلاص بالهرب أو نحوه فحيث استحال ذلك في حقي لم يكن للستر وجه ، وكلمة «ثم» للتراخي في الرتبة ، وإظهار الأمر في مقام الإضمار لزيادة التقرير ، وقيل : أظهر لأن المراد به ما يعتريهم من جهته عليه السلام من الحال الشديدة عليهم المكروهة لديهم لا الأمر الأول ، والمراد بالغمة الغم كالكربة والكرب ، والجار والمجرور متعلق بمقدر وقع حالا منها ، وثم للتراخي في الزمان ، والمعنى ثم لا يكن حالكم غما كائنا عليكم وتخلصوا بهلاكي من ثقل مقامي وتذكيري بآيات اللّه تعالى ، واعترض عليه بأنه لا يساعده قوله تعالى شأنه : ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ أي أدوا إليّ ذلك الأمر الذي تريدون ولا تمهلوني على أن القضاء من قضى دينه إذا أداه ، ومفعوله محذوف كما أشرنا إليه وفيه استعاره مكنية والقضاء تخييل وقد يفسر القضاء بالحكم أي احكموا بما تؤدوه إلي ففيه تضمين واستعارة مكنية أيضا لأن توسيط ما يحصل بعد الإهلاك بين الأمر بالعزم على مباديه وبين الأمر بقضائه من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه ، والوجه الأول سالم عن ذلك وهو ظاهر ، وقيل : المراد بالغمة المعنى الأول وبالأمر ما تقدم وبالنهي الأمر بالمشاورة أي اجمعوا أمركم ثم تشاوروا فيه وفيه بعد لعدم ظهور كلا الترتيبين الدالة عليهما ثم سواء اعتبرت قراءة الجماعة أو قراءة نافع في «اجمعوا» وقرىء «أفضوا» إلي بالفاء أي انتهوا إليّ بشركم أو ابرزوا إليّ من أفضى إذا خرج إلى الفضاء كأبرز إذا خرج إلى البراز وهو المكان الواسع فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي بقيتم على إعراضكم عن تذكيري أو أحدثتم إعراضا مخصوصا عن ذلك بعد وقوفكم على أمري ومشاهدتكم مني ما يدل على صحة قولي فَما سَأَلْتُكُمْ بمقابلة تذكيري ووعظي مِنْ أَجْرٍ تؤدونه إلي حتى يؤدي ذلك إليكم إلى توليكم إما لاتهامكم إياي بالطمع أو لثقل دفع المسئول عليكم أو حتى يضرني توليكم المؤدي إلى الحرمان فالأول لإظهار بطلان التولي ببيان عدم ما يصححه والثاني لإظهار عدم مبالاته عليه السلام بوجوده وعدمه ، وعلى التقديرين فالفاء الأولى لترتب هذا الشرط على الجزاء قبله والفاء الثانية لسببية الشرط للإعلام بمضمون الجزاء بعده كما ذكره بعض المحققين ، أي إن توليتم فاعلموا أن ليس في مصحح له أولا تأثر منه على حد ما قيل في قوله تعالى : وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام : 17].

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 150
وذهب بعضهم إلى أن جواب الشرط محذوف أقيم ما ذكر وهو علته مقامه أي فلا باعث لكم على التولي ولا موجب له أو فلا ضير عليّ بذلك ، وكلام البعض مشعر بأنه مع اعتبار الحذف والإقامة المذكورين يجيء حديث اعتبار سببية الشرط للإعلام وهو الذي يميل إليه الذوق و«من» زائدة للتأكيد أي فما سألتكم أجرا ، وقوله تعالى : إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ تأكيد لما قبله على المعنى الأول وتعليل لاستغنائه عليه السلام على المعنى الثاني أي ما ثوابي على العظة والتذكير إلا عليه تعالى يثيبني بذلك آمنتم أو توليتم ، وقوله سبحانه : وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تذييل على ما قيل لمضمون ما قبله مقرر له ، والمعنى وأمرت بأن أكون منتظما في عداد المسلمين الذين لا يأخذون على تعليم الدين شيئا ولا يطلبون به دنيا ، وفيه حمل الإسلام على ما يساوق الإيمان واعتبار التقييد ، وعدل عنه بعضهم لما فيه من نوع تكلف
فحمل الإسلام على الاستسلام والانقياد ولم يقيد ، أي وأمرت بأن أكون من جملة المنقادين لحكمه تعالى لا أخالف أمره ولا أرجو غيره ، وفيه على هذا المعنى أيضا من تأكيد ما تقدم وتقرير مضمونه ما لا يخفى ، ولا يظهر أمر التأكيد على تقدير أن يكون المعنى من المستسلمين لكل ما يصيب من البلاء في طاعة اللّه تعالى ظهوره على التقديرين السابقين ، وبالجملة إنه عليه السلام لم يقصر في إرشادهم بهذا الكلام وبلغ الغاية القصوى فيه.
وذكر بعضهم وجه نظمه على هذا الأسلوب على بعض الأوجه المحتملة فقال : إنه عليه الصلاة والسلام قال في أول الأمر : فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فبين وثوقه بربه سبحانه أي إني وثقت به فلا تظنوا بي أن تهديدكم إياي بالقتل والإيذاء يمنعني من الدعاء إلى اللّه تعالى ، ثم أورد عليهم ما يدل على صحة دعواه فقال : فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ كأنه يقول : اجمعوا كل ما تقدرون عليه من الأشياء التي توجب حصول مطلوبكم ثم لم يقتصر على ذلك بل أمرهم أن يضيفوا إلى أنفسهم شركاءهم الذين كانوا يزعمون أن حالهم يقوى بمكانهم وبالتقرب إليهم ثم لم يقتصر على هذين بل ضم إليهما ثالثا وهو قوله : ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً فأراد أن يسعوا في أمره غاية السعي ويبالغوا فيه غاية المبالغة حتى يطيب عيشهم ، ثم لم يقتصر على ذلك حتى ضم إليه رابعا فقال : ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ آمرا لهم بأداء ذلك كله إليه ، ثم ضم إلى ذلك خامسا وَلا تُنْظِرُونِ فنهاهم عن الإمهال وفي ذلك من الدلالة على أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الغاية في التوكل على اللّه سبحانه وأنه كان قاطعا بأن كيدهم لا يضره ولا يصل إليه وأن مكرهم لا ينفذ فيه ما هو أظهر من الشمس وأبين من أمس ، ثم إنه عليه السلام أراد أن يجعل الحجة لازمة عليهم ويبرىء ساحته فنفى سؤاله إياهم شيئا من الأجر وأكد ذلك بأن أجره على اللّه سبحانه لا على غيره مشيرا إلى مزيد كرمه جل جلاله وأنه يثيبه على فعله سأله أو لم يسأله ولذا لم يقل إن سؤالي الأجر إلا من اللّه تعالى ، ثم لم يكتف بذلك حتى ضم إليه أنه مأمور بما يندرج فيه عدم سؤالهم والالتفات إلى ما عندهم وأن يتصف به على أتم وجه لأن مِنَ الْمُسْلِمِينَ أبلغ من مسلما كما تحقق في محله وفي ذلك قطع ما عسى أن يحول بينهم وبين إجابة دعوته والاتعاظ بعظته إلا أن القوم قد بلغوا الغاية في العناد والتمرد.
فَكَذَّبُوهُ أي فأصروا بعد أن لم يبق عليهم عليه السلام في قوس الإلزام منزعا وفي كأس بيان أن لا سبب لتوليهم غير التمرد مكرعا على ما هم عليه من التكذيب الدال عليه السباق واللحاق وهو عطف على جملة قوله تعالى :
قالَ لِقَوْمِهِ والفاء في قوله تعالى : فَنَجَّيْناهُ فصيحة في رأي أي فحقت عليهم كلمة العذاب فأنجيناه ، وأنكر ذلك الشهاب وادعى أن ذكر ما يشير إليه في عبارة بعض المفسرين توطئة للتفريع لا إشارة إلى أن الفاء فصيحة ، وأنا لا أرى فيه بأسا إلا أن تقدير فعاملنا كلا بما تقتضيه الحكمة ونحوه عندي أولى ، ومتعلق الإنجاء محذوف أي من الغرق كما يدل عليه المقام ، وقيل : من أيدي الكفار أي فخلصناه من ذلك وَمَنْ مَعَهُ من المؤمنين به وكانوا في

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 151
المشهور أربعين رجلا وأربعين امرأة وقيل دون ذلك فِي الْفُلْكِ أي السفينة وهو مفرد هاهنا والجار كما قال الأجهوري وغيره متعلق بأنجيناه أي وقع الإنجاء في الفلك ، ويجوز أن يتعلق بالاستقرار الذي تعلق به الظرف قبله الواقع صلة أي والذي استقروا معه في الفلك وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ عمن هلك بالإغراق بالطوفان وهو جمع خليفة وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وهم الباقون من قومه ، والتعبير عنهم بالموصول للإيذان بعلية مضمون الصلة للإغراق وتأخير ذكره عن ذكر الإنجاء والاستخلاف لإظهار كمال العناية بشأن المقدم ولتعجيل المسرة للسامعين وللإيذان بسبق الرحمة التي هي من مقتضيات الربوبية على الغضب الذي هو من مستتبعات جرائم المجرمين فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ المخوفين باللّه تعالى وعذابه والمراد بهم المكذبين ، والتعبير عنهم بذلك للإشارة إلى إصرارهم على التكذيب حيث لم ينجع الإنذار فيهم ولم يفدهم شيئا وقد جرت عادة اللّه تعالى أن لا يهلك قوما بالاستئصال إلا بعد الإنذار لأن من أنذر فقد أعذر ، والنظر كما قال الراغب يكون بالبصر والبصيرة والثاني أكثر عند الخاصة وسيق الكلام لتهويل ما جرى عليهم وتحذير من كذب بالرسول عليه الصلاة والسلام والتسلية له صلّى اللّه عليه وسلم ، والمراد اعتبر ما أخبر اللّه تعالى به لأنه لا يمكن أن ينظر إليه هو صلّى اللّه عليه وسلم ولا من أنذره ثُمَّ بَعَثْنا أي أرسلنا مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد نوح عليه الصلاة والسلام رُسُلًا أي كراما ذوي عذر كثير فالتنكير للتفخيم والتكثير إِلى قَوْمِهِمْ قيل أي إلى أقوامهم على معنى أرسلنا كل رسول اللّه إلى قوم خاصة مثل هود إلى عاد وصالح إلى ثمود وغير ذلك ممن قص منهم ومن لم يقص لا على معنى أرسلنا كل رسول منهم إلى أقوام الكل أو إلى قوم أي قوم كانوا ، وفيه إشارة إلى أن عموم الرسالة إلى البشر لم
يثبت لأحد من أولئك الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وظاهر كلامهم الإجماع على أن ذلك مخصوص بنبينا صلّى اللّه عليه وسلم ولم يثبت لأحد ممن أرسل بعد نوح ، واختلف فيه عليه السلام هل بعث إلى أهل الأرض كافة أو إلى أهل صقع منها ، وعليه يبنى النظر في الغرق هل عم جميع أهل الأرض أو كان لبعضهم وهم أهل دعوته المكذبين به كما هو ظاهر كثير من الآيات والأحاديث ، قال ابن عطية : الراجح عند المحققين هو الثاني ، وكثير من أهل الأرض كأهل الصين وغيرهم ينكرون عموم الغرق ، والأول لا ينافي القول باختصاص عموم الرسالة على العموم المشهور بين الخصوص والعموم بنبينا صلّى اللّه عليه وسلم لأنها لمن بعده إلى يوم القيامة.
وزعم بعضهم أن الغرق كان عاما مع خصوص البعثة ولا مانع من أن يهلك اللّه تعالى من لا جناية له مع من له جناية ولا اعتراض عليه سبحانه فيما ذكر إذ هو تصرف في خالص ملكه ولا يسئل عما يفعل. وفي قوله سبحانه :
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً نوع إشارة إلى ذلك. نعم قد ثبت لنوح عليه السلام عموم الرسالة انتهاء حيث لم يبق على وجه الأرض بعد الطوفان سوى من كان معه وهم جميع أهل الأرض إذ ذاك فالفرق بين رسالته عليه السلام ورسالة نبينا صلّى اللّه عليه وسلم ظاهر فإن رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام عامة ابتداء وانتهاء ورسالته عليه السلام عامة انتهاء لا ابتداء ولا يخلو عن نظر ، والأولى أن يعتبر في اختصاص عموم رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام كونها لمن بعده إلى يوم القيامة فإن عدم ثبوت ذلك لأحد من الرسل عليهم السلام قبل نوح وبعده ما لا يتنازع فيه ، وهذا كله إذا لم يلاحظ في العموم الجن وكذا الملائكة إذا لوحظ كما يفيده قوله سبحانه : لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان :
1] فأمر الاختصاص أظهر وأظهر.
فَجاؤُهُمْ أي فأتى كل رسول قومه المخصوصين به بِالْبَيِّناتِ أي بالمعجزات الواضحة الدالة على صدق ما يقولون ، والباء إما متعلقة بما عندها على أنها للتعدية أو بمحذوف وقع حالا من الضمير المرفوع أي متلبسين بالبينات لكن لا بأن يأتي كل رسول ببينة فقط بل بأن يأتي ببينة أو ببينات كثيرة خاصة به معينة له حسب اقتضاء

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 152
الحكمة ، وإلى نفي إرادة الإتيان ببينة وإرادة الإتيان ببينات كثيرة ذهب شيخ الإسلام ، ثم قال : فإن مراعاة انقسام الآحاد على الآحاد إنما هي في ضميري فَجاؤُهُمْ كما أشير إليه ، ولعل صنيعنا أحسن من صنيعه ، ويفهم من كلام بعض المحققين أن انفهام إرسال كل رسول إلى قومه من إضافة القوم إلى ضمير رُسُلًا وليس ذلك من مقابلة الجمع بالجمع المقتضي لانقسام الآحاد على الآحاد ، ولا شك أن انفهام مجيء كل رسول قومه المخصوصين به تابع لذلك. وبعد هذا كله إذا اعتبر مقابلة الجمع بالجمع في جاؤوهم بالبينات ، وقيل بانقسام الآحاد على الآحاد لا يلزم أن يكون لكل رسول بينة جاء بها كما أن - باع القوم دوابهم - لا يقتضي أن يكون لكل واحد من القوم دابة واحدة باعها فإن معناه باع كل من القوم ما له من الدواب وهو يعم الدابة الواحدة وغيرها ، وهذا بخلاف ركب القوم دوابهم فإنه يتعين فيه إرادة كل واحدة من الدواب لاستحالة ركوب الشخص دابتين مثلا.
وقد نص العلامة أبو القاسم السمرقندي في حواشيه على المطول أنه لا يشترط في مقابلة الجمع بالجمع انقسام الآحاد على الآحاد بمعنى أن يكون لكل واحد من أحد الجمعين واحد من الجمع الآخر وهو ظاهر فيما قلنا ، والمعول عليه في كون الآية من قبيل المثال الأول أمر خارج ، فإن من المعلوم أن الرسول الواحد من الرسل عليهم السلام قد جاء قومه ببينات فوق الواحدة فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بيان لاستمرار عدم إيمانهم في الزمان الماضي أي فما صح ولا استقام لهم في وقت من الأوقات أن يؤمنوا لشدة شكيمتهم ومزيد عنادهم ، وضمير الجمع عنا للقوم المبعوث إليهم وكذا في قوله تعالى : بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ والباء فيه صلة - يؤمنوا - وما موصولة والمراد بها جميع الشرائع التي جاء بها كل رسول أصولها وفروعها ، والمراد بعدم إيمانهم بها إصرارهم على ذلك بعد اللتيا والتي وبتكذيبهم من قبل تكذيبهم من حين مجيء الرسل عليهم السلام إلى زمان الإصرار والعناد ، وهذا بناء على أن المحكي آخر أحوالهم حسبما يشير إليه حكاية قوم نوح عليه السلام ، ولم يجعل التكذيب مقصودا بالذات كما جعل عدم إيمانهم كذلك إيذانا بأنه بين في نفسه غني عن البيان ، وإنما المحتاج إليه عدم إيمانهم بعد تواتر البينات وتظاهر المعجزات التي كانت تضطرهم إلى القبول لو كانوا من أهل العقول ، وإذا كان المحكي جميع أحوال أولئك الأقوام فالمراد بعدم إيمانهم المفاد بالنفي السابق كفرهم المستمر من حين مجيء الرسل عليهم السلام إلى زمان إصرارهم وبعدم إيمانهم المفهوم من جملة الصلة كفرهم قبل مجيء الرسل عليهم السلام ويراد حينئذ من الموصول أصول الشرائع التي أجمعت عليها الرسل قاطبة ودعوا أممهم إليها كالتوحيد ولوازمه مما يستحيل تبدله وتغيره ومعنى تكذيبهم بذلك قبل مجيء رسلهم أنهم ما كانوا أهل جاهلية بحيث لم يسمعوا بذلك قط بل كأن كل قوم يتسامعون به من بقايا من قبلهم
فيكذبونه ثم كانت حالهم بعد مجيء الرسل كحالهم قبل ذلك كأن لم يبعث إليهم أحد ، وقيل : المراد أنهم لم ينتفعوا بالبعثة وكانت حالهم بعد البعثة كحالهم قبلها في كونهم أهل جاهلية والأولى أولى ، وتخصيص التكذيب وعدم الإيمان بما ذكر من الأصول لظهور حال الباقي بدلالة النص ، فإنهم حين لم يؤمنوا بما اجتمعت عليه الكافة فلأن لا يؤمنوا بما تفرد به البعض أولى ، وعدم جعل هذا التكذيب مقصودا بالذات لأن ما عليه يدور أمر العذاب عند اجتماع التكذيبين هو التكذيب الواقع بعد البعثة والدعوة حسبما يعرب عنه قوله تعالى : وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء : 15] وإنما ذكر ما وقع قبل بيانا لعراقتهم في الكفر والتكذيب ، وفكك بعضهم بين الضمائر فقيل : ضمير كانُوا ويؤمنوا لقوم الرسل وضمير كَذَّبُوا لقوم نوح عليه السلام أي ما كان قوم الرسل ليؤمنوا بما كذب به قوم نوح أي بمثله ، والمراد به ما بعث الرسل عليهم السلام لإبلاغه وجوز على هذا القول أن يراد بالموصول نوح نفسه أي ما كان قوم الرسل ليؤمنوا بنوح عليه السلام إذ
لو آمنوا به

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 153
آمنوا بأنبيائهم عليهم السلام ولا يخفى ما في ذلك ، ومن الناس من جعل الباء سببية وما مصدرية والمعنى كذبوا رسلهم فكان عقابهم من اللّه تعالى أنهم لم يكونوا ليؤمنوا بسبب تكذيبهم من قبل وأيده بالآية الآتية ، وفيه مخالفة الجمهور من جعل ما المصدرية اسما كما هو رأي الأخفش. وابن السراج ليرجع الضمير إليها ، وفي إرجاعه إلى الحق بادعاء كونه مركوزا في الأذهان ما لا يخفى من التعسف ، وقيل : ما موصوفة والباء للسببية أيضا أو للملابسة أي بشيء كذبوا به وهو العناد والتمرد وهو كما ترى كَذلِكَ أي مثل ذلك الطبع المحكم نَطْبَعُ فالإشارة على حد ما قرر في قوله سبحانه : وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة : 143] ونظائره مما مر ، وجعل الإشارة إلى الإغراق كما فعل الخازن ليس بشيء ، والطبع يطلق على تأثير الشيء بنقش الطابع وعلى الأثر الحاصل عن النقش والختم مثله في ذلك على ما ذكره الراغب أيضا ، وذكر أنه تصور الشيء بصورة ما كطبع السكة وطبع الدراهم وأنه أعم من الختم وأخص من النقش ، والأكثرون على تفسيره بالختم مرادا به المنع أن نختم عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ أي المتجاوزين عن الحدود المعهودة في الكفر والعناد ونمنعها لذلك عن قبول الحق وسلوك سبيل الرشاد ، وقد جاء الطبع بمعنى الدنس ومنه طبع السيف لصدئه ودنسه ، وبعضهم حمل ما في الآية على ذلك ، وفسره المعتزلة حيث وقع منسوبا إليه تعالى بالخذلان تطبيقا له على مذهبهم ، ومن هنا قال الزمخشري : إنه جار مجرى الكناية عن عنادهم ولجاجهم لأن من عاند وثبت على اللجاج خذله اللّه تعالى ومنه التوفيق واللطف فلا يزال كذلك حتى يراكم الرين والطبع على قلبه ، ومراده كما قيل إن نَطْبَعُ بمعنى نخذل على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية لكن لما كان الطبع الذي هو الخذلان تابعا لعنادهم ولجاجهم لازما لهما أجري مجرى الكناية عنهما.
وقرىء «يطبع» بالياء على أن الضمير للّه سبحانه وتعالى ثُمَّ بَعَثْنا عطف على ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ عطف قصة على قصة مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد أولئك الرسل عليهم السلام مُوسى وَهارُونَ أؤثر التنصيص على بعثتهما عليهما السلام مع ضرب تفصيل إيذانا بخطر شأن القصة وعظم وقعها إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ أي أشراف قومه الذين يجتمعون على رأي فيملؤون العين رواء والنفوس جلالة وبهاء ، وتخصيصهم بالذكر لأصالتهم في إقامة المصالح والمهمات ومراجعة الكل إليهم في النوازل والملمات ، وقيل : المراد بهم هنا مطلق القوم من استعمال الخاص في العام بِآياتِنا أي أدلتنا ومعجزاتنا وهي الآيات المفصلات في الأعراف والباء للملابسة أي متلبسين بها فَاسْتَكْبَرُوا أي تكبروا وأعجبوا بأنفسهم وتعظموا عن الاتباع ، والفاء فصيحة أي فأتياهم فبلغاهم الرسالة فاستكبروا ، وأشير بهذا الاستكبار إلى ما وقع منهم أول الأمر من قول اللعين لموسى عليه السلام : أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ [الشعراء :
18] وغير ذلك وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ جملة معترضة تذييلية وجوز فيها الحالية بتقدير قد ، وعلى الوجهين تفيد اعتيادهم الإجرام وهو فعل الذنب العظيم ، أي وكانوا قوما شأنهم ودأبهم ذلك.
وقد يؤخذ مما ذكر تعليل استكبارهم ، والحمل على العطف الساذج لا يناسب البلاغة القرآنية ولا يلائمها فمعلوم هذا القدر من سوابق أوصافهم فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا الفاء فصيحة أيضا معربة عما صرح به في مواضع أخر كأنه قيل : قال موسى : قد جئتكم ببينة من ربكم إلى قوله تعالى : فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ [الأعراف : 107] فلما جاءهم الحق قالُوا من فرط عنادهم وعتوهم مع تناهي عجزهم :
إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ أي ظاهر كونه سحرا أو واضح في بابه فائق فيما بين أضرابه - فمبين - من أبان بمعنى ظهر واتضح لا بمعنى أظهر وأوضح كما هو أحد معنييه ، والإشارة إلى الحق الذي جاءهم ، والمراد به كما قال غير

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 154
واحد الآيات ، وقد أقيم مقام الضمير للإشارة إلى ظهور حقيته عند كل أحد ، ونسبة المجيء إليه على سبيل الاستعارة تشير أيضا إلى غاية ظهوره وشدة سطوعه بحيث لا يخفى على من له أدنى مسكة ، ومن هنا قيل في المعنى : فلما جاءهم الحق من عندنا وعرفوه قالوا إلخ ، فالاعتراض عليه بأنه لا دلالة في الكلام على هذه المعرفة وإنما تعلم في موضع آخر كقوله سبحانه : وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النمل : 14] من قلة المعرفة لظهور دلالة ما علمت ، وكذا ما قالوا بناء على ما قيل من دلالته على الاعتراف وتناهي العجز عليها ، وقرىء «لساحر» وعنوا به موسى عليه السلام لأنه الذي ظهر على يده ما أعجزهم قالَ مُوسى استئناف بياني كأنه قيل : فماذا قال لهم موسى عليه السلام؟ فقيل : قال لهم على سبيل الاستفهام الإنكاري التوبيخي : أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ الذي هو أبعد شيء من السحر الذي هو الباطل البحت لَمَّا جاءَكُمْ أي حين مجيئه إياكم ووقوفكم عليه وهو الذي يقتضيه ما أشير إليه آنفا ، أو من أول الأمر من غير تأمل وتدبر كما قيل ، وأيا ما كان فهو مما ينافي القول الذي في حيز الاستفهام ، والمقول محذوف ثقة بدلالة ما قبل وما بعد عليه وإيذانا بأنه مما لا ينبغي أن يتفوه به ولو على نهج الحكاية ، أي أتقولون له ما تقولون من أنه سحر مبين؟ يعني به أنه مما لا يمكن أن يقوله قائل ويتكلم به متكلم ، وجوز أن يكون مقول القول قوله عز وجل : أَسِحْرٌ هذا على أن مقصودهم بالاستفهام تقريره عليه السلام لا الاستفهام الحقيقي لأنهم قد بتوا القول بأنه سحر فكيف يستفهمون عنه ، والمحكي في أحد الموضعين مفهوم قولهم ومعناه وإلا فالقصة واحدة والصادر فيها بحسب الظاهر إحدى المقالتين ولا يخفى ضعفه ، وأن يكون القول بمعنى العيب والطعن من قولهم : فلأن يخاف القالة - وبين الناس تقاول - إذا قال بعضهم لبعض ما يسوءه ، ونظيره الذكر في قوله تعالى : سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ [الأنبياء : 60] وحينئذ يستغنى عن المفعول ، واللام لبيان المطعون فيه كما في قوله تعالى : هَيْتَ لَكَ [يوسف : 23] أي أتعيبونه وتطعنون فيه ، وعلى هذا الوجه وكذا الوجه الأول يكون قوله سبحانه : أَسِحْرٌ هذا إنكارا مستأنفا من جهة موسى عليه السلام لكونه سحرا وتكذيب لقولهم وتوبيخ لهم عليه إثر توبيخ وتجهيل إثر تجهيل ، أما على الوجه المتقدم فظاهر ، وأما على الوجه الأخير فوجه إيثار إنكار كونه سحرا على إنكار كونه معيبا بأن يقال : أفيه عيب؟ حسبما يقتضيه ظاهر الإنكار السابق التصريح بالرد عليهم في خصوصية ما عابوه به بعد التنبيه بالإنكار الأول على أنه ليس فيه شائبة عيب ما ، وتقديم الخبر للإيذان بأنه مصب الإنكار ، وما في اسم الإشارة من معنى القرب لزيادة تعيين المشار إليه واستحضار ما فيه من الصفات الدالة على كونه آية باهرة من آيات اللّه تعالى المنادية على امتناع كونه سحرا ، أي أسحر هذا الذي أمره واضح مكشوف وشأنه مشاهد معروف بحيث لا يرتاب فيه أحد ممن له عين مبصرة ، وقوله سبحانه : وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ تأكيد للإنكار السابق وما فيه من التوبيخ والتجهيل ، وقد استلزم القول بكونه سحرا القول بكون من أتى به ساحرا ، والجملة في موضع الحال من ضمير المخاطبين والرابط الواو بلا ضمير كما في قوله :
جاء الشتاء ولست أملك عدة وقولك : جاء زيد ولم تطلع الشمس ، أي أتقولون للحق إنه سحر والحال أنه لا يفلح فاعله أي لا يظفر بمطلوب ولا ينجو من مكروه وأنا قد أفلحت وفزت بالحجة ونجوت من الهلكة ، وجملة أَسِحْرٌ هذا معترضة بين الحال وذيها لتأكيد الإنكار السابق ببيان استحالة كونه سحرا بالنظر إلى ذاته قبل بيان استحالته بالنظر إلى صدوره منه عليه السلام ، ومن جعلها مقول القول أبقى الحالية على حالها ولا اعتراض عنده ، وكان المعنى على ذلك أتحملوني على الإقرار بأنه سحر وما أنا عليه من الفلاح دليل على أن بينه وبين السحر أبعد مما بين المشرق والمغرب ، وقيل : يجوز

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 155
أن تكون هذه الجملة كالتي قبلها في حيز قولهم وهي حالية أيضا لكن على نمط آخر والاستفهام مصروف إليها ، والمعنى أجئتنا بسحر تطلب به الفلاح والحال أنه لا يفلح الساحر ، أو هم يتعجبون من فلاحه وهو ساحر ، ولا يخفى أن السباق والسياق يأبيان هذا التجويز فلا ينبغي حمل النظم الجليل على ذلك ، وفي إرشاد العقل السليم أن تجويز أن يكون الكل مقول القول مما لا يساعده النظم الكريم أصلا ، أما أولا فلأن ما قالوا هو الحكم بأنه سحر من غير أن يكون فيه دلالة على ما تعسف فيه من المعنى بوجه من الوجوه ، فصرف جوابه عليه السلام عن صريح ما خاطبوه به إلى ما لا يفهم منه مما يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله وكون ذلك إعراضا عن رد الإنكار السابق إلى رد ما هو أبلغ منه في الإنكار لا أراه يحسن الالتفات هنا إلى قبول ذلك التجويز في كلام اللّه تعالى العزيز.
وأما ثانيا فلأن التعرض لعدم إفلاح السحرة على الإطلاق من وظائف من يتمسك بالحق المبين دون الكفرة المتشبثين بأذيال بعض منهم في معارضته عليه السلام ولو كان ذلك من كلامهم لناسب تخصيص عدم الإفلاح بمن زعموه ساحرا بناء على غلبة من يأتون به من السحرة ، والاعتذار بأن التشبث بأذيال بعض السحرة لا ينافي التعرض لعدم إفلاحهم على الإطلاق لجواز أن يكون اعتقادهم عدم الإفلاح مطلقا وتشبثهم بعد بما تشبثوا به من باب تلقي الباطل بالباطل لا أراه إلا من باب تشبث الغريق بالحشيش ، وأما ثالثا فلأن قوله عز وجل : قالُوا أَجِئْتَنا إلخ مسوق لبيان أنه عليه السلام ألقمهم الحجر فانقطعوا عن الإتيان بكلام له تعلق بكلامه عليه السلام فضلا عن الجواب الصحيح واضطروا إلى التشبث بذيل التقليد الذي هو دأب كل عاجز محجوج وديدن كل معالج لجوج على أنه استئناف وقع جوابا عما قبله من كلامه صلّى اللّه عليه وسلم على طريقة قالَ مُوسى كما أشير إليه كأنه قيل : فماذا قالوا لموسى عليه السلام حين قال لهم ما قال؟ فقيل : قالوا عاجزين عن المحاجة : أجئتنا لِتَلْفِتَنا أي لتصرفنا ، وبين اللفت والفتل مناسبة معنوية واشتقاقية وقد نص غير واحد على أنهما أخوان وليس أحدهما مقلوبا من الآخر كما قال الأزهري عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أي من عبادة غير اللّه تعالى ، ولا ريب في أن ذلك إنما يتسنى بكون ما ذكر من تتمة كلامه عليه السلام على الوجه الذي شرح إذ على تقدير كونه محكيا من قبلهم يكون جوابه عليه السلام خاليا عن التبكيت الملجئ لهم إلى العدول عن سنن المحاجة ، ولا ريب في أنه لا علاقة بين قولهم : أَجِئْتَنا إلخ وبين إنكاره عليه السلام لما حكي عنهم مصححة لكونه جوابا عنه ، وهذا ظاهر إلا على من حجب عن إدراك البديهيات ، وبالجملة الحق أن لا وجه لذلك التجويز بوجه والانتصار له من الفضول كما لا يخفى وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ أي الملك
كما روي عن مجاهد فهو من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم ، وعن الزجاج أنه إنما سمي الملك كبرياء لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا ، وقيل : أي العظمة والتكبر على الناس باستتباعهم. وقرأ حماد بن يحيى عن أبي بكر ، وزيد عن يعقوب «يكون» بالياء التحتانية لأن التأنيث غير حقيقي مع وجود الفاصل.
فِي الْأَرْضِ أي أرض مصر ، وقيل : أريد الجنس ، والجار متعلق - بتكون - أو الكبرياء أو بالاستقرار في - لكما - لوقوعه خبرا أو بمحذوف وقع حالا من الْكِبْرِياءُ أو من الضمير في لَكُمَا لتحمله إياه وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ أي بمصدقين فيما جئتما به أصلا ، وفيه تأكيد لما يفهم من الإنكار السابق ، والمراد بضمير المخاطبين موسى وهارون عليهما السلام ، وإنما لم يفردوا موسى عليه السلام بالخطاب هنا كما أفردوه به فيما تقدم لأنه المشافة لهم بالتوبيخ والإنكار تعظيما لأمر ما هو أحد سببي الإعراض معنى ومبالغة في إغاظة موسى عليه السلام وإقناطه عن الإيمان بما جاء به ، وفي إرشاد العقل السليم أن تثنية الضمير في هذين الموضعين بعد إفراده فيما تقدم من المقامين باعتبار شمول الكبرياء لهما عليهما السلام واستلزام التصديق لأحدهما التصديق للآخر ، وأما اللفت والمجيء له فحيث

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 156
كانا من خصائص صاحب الشريعة أسند إلى موسى عليه السلام خاصة انتهى فتدبر وَقالَ فِرْعَوْنُ أسند الفعل إليه وحده لأن الأمر من وظائفه دون الملأ وهذا بخلاف الأفعال السابقة من الاستكبار ونحوه فإنها مما تسند إليه وإلى ملئه ، لكن الظاهر أنه غير داخل في القائلين أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا لأنه عليه اللعنة لم يكن يظهر عبادة أحد كما كان يفعله ملؤه وسائر قومه ، أي قال لملئه يأمرهم بترتيب مبادئ الإلزام بالفعل بعد اليأس عن الإلزام بالقول ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ بفنون السحر حاذق ماهر فيه.
وقرأ حمزة والكسائي «سحار» فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ عطف على مقدر يستدعيه المقام قد حذف إيذانا بسرعة امتثالهم للأمر كما هو شأن الفاء الفصيحة ، وقد نص على نظير ذلك في قوله سبحانه : فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ [البقرة : 60] أي فأتوا به فلما جاؤوا قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ أي ما ثبتم واستقر رأيكم على إلقائه كائنا ما كان من أصناف السحر ، وأصل الإلقاء طرح الشيء حيث تلقاه أي تراه ثم صار في العرف اسما لكل طرح ، وكان هذا القول منه عليه السلام بعد ما قالوا له ما حكي عنهم في السور الأخر من قولهم : إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ [الأعراف : 115] ونحو ذلك ولم يكن في ابتداء مجيئهم ، وما موصولة والجملة بعدها صلة والعائد محذوف أي ملقون إياه ، ولا يخفى ما في الإبهام من التحقير والإشعار بعدم المبالاة ، والمراد أمرهم بتقديم ما صمموا على فعله ليظهر إبطاله وليس المراد الأمر بالسحر والرضا به فَلَمَّا أَلْقَوْا ما ألقوا من العصي والحبال واسترهبوا الناس وجاؤوا بسحر عظيم قالَ لهم مُوسى غير مكترث بهم بما صنعوا ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ ما موصولة وقعت مبتدأ والسِّحْرُ خبر وأل فيه للجنس والتعريف لإفادة القصر إفرادا أي الذي جئتم به هو السحر لا الذي سماه فرعون وملؤه من آيات اللّه تعالى سحرا وهو للجنس ، ونقل عن الفراء أن أل للعهد لتقدم السحر في قوله تعالى : إِنَّ هذا لَسِحْرٌ ورد بأن شرط كونها للعهد اتحاد المتقدم والمتأخر ذاتا كما في أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ [المزمل : 15 ، 16] ولا اتحاد فيما نحن فيه فإن السحر المتقدم ما جاء به موسى عليه السلام وهذا ما جاء به السحرة.
ومن الناس من منع اشتراط الاتحاد الذاتي مدعيا أن الاتحاد في الجنس كاف فقد قالوا في قوله تعالى : وَالسَّلامُ عَلَيَّ [مريم :
33] إن أل للعهد مع أن السلام الواقع على عيسى عليه السلام غير السلام الواقع على يحيى عليه السلام ذاتا ، والظاهر اشتراط ذلك وعدم كفاية الاتحاد في الجنس وإلا لصح في رأيت رجلا وأكرمت الرجل إذا كان الأول زيدا والثاني عمرا مثلا أن يقال : إن أل للعهد لأن الاتحاد في الجنس ظاهر ولم نجد من يقوله بل لا أظن أحدا تحدثه نفسه بذلك وما في الآية من هذا القبيل بل المغايرة بين المتقدم والمتأخر أظهر. إذ الأول سحر ادعائي والثاني حقيقي ، والسَّلامُ فيما نقلوا متحد وتعدد من وقع عليه لا يجعله متعددا في العرف والتدقيق الفلسفي لا يلتفت إليه في مثل ذلك.
وقد ذكر بعض المحققين أن القول بكون التعريف للعهد مع دعوى استفادة القصر منه مما يتنافيان لأن القصر إنما يكون إذا كان التعريف للجنس. نعم إذا لم يرد بالنكرة المذكورة أولا معين ثم عرفت لا ينافي التعريف الجنسية لأن النكرة تساوي تعريف الجنس فحينئذ لا ينافي تعريف العهد القصر وإن كان كلامهم يخالفه ظاهرا فليحرر انتهى.
وأقول : دعوى الفراء العهد هنا مما لا ينبغي أن يلتفت إليه ، ولعله أراد الجنس وإن عبر بالعهد بناء على ما ذكره الجلال السيوطي في همع الهوامع نقلا عن ابن عصفور أنه قال : لا يبعد عندي أن يسمى الألف واللام اللتان لتعريف الجنس عهديتين لأن الأجناس عند العقلاء معلومة مذ فهموها والعهد تقدم لمعرفة. وادعى أبو الحجاج يوسف بن معزوز أن أل لا تكون إلا عهدية وتأوله بنحو ما ذكر إلا أن ظاهر التعليل لا يساعد ذلك. وقرأ عبد اللّه «سحر» بالتنكير ، وأبيّ «ما أتيتم به سحر» والكلام على ذلك مفيد للقصر أيضا ، لكن بواسطة التعريض لوقوعه في مقابلة قولهم : إِنَّ هذا لَسِحْرٌ

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 157
مُبِينٌ
وجوز في ما في جميع هذا القراءات أن تكون استفهامية و«السحر» خبر مبتدأ محذوف. وقرأ أبو عمرو ، وأبو جعفر «آلسحر» بقطع الألف ومدها على الاستفهام - فما - استفهامية مرفوعة على الابتداء وجِئْتُمْ بِهِ خبرها و«السحر» خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف ، أي شيء جسيم جئتم به أهو السحر أو السحر هو ، وقد يجعل السحر بدلا من ما كما تقول ما عندك أدينار أم درهم ، وقد تجعل «ما» نصبا بفعل محذوف يقدر بعدها أي أي شيء أتيتم به وجِئْتُمْ بِهِ مفسر له وفي «السحر» الوجهان الأولان.
وجوز أن تكون موصولة مبتدأ والجملة الاسمية أي أهو السحر أو السحر هو خبره ، وفيه الإخبار بالجملة الإنشائية ، ولا يجوز أن تكون على هذا التقدير منصوبة بفعل محذوف يفسره المذكور لأن ما لا يعمل لا يفسر عاملا إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ أي سيمحقه بالكلية بما يظهره على يدي من المعجزة فلا يبقى له أثر أصلا أو سيظهر بطلانه وفساده للناس ، والسين للتأكيد إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ أي جنسهم على الإطلاق فيدخل فيه السحرة دخولا أولياء ، ويجوز أن يراد بالمفسدين المخاطبون فيكون من وضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل عليهم بالإفساد والإشعار بعلة الحكم ، والجملة تذييل لتعليل ما قبلها وتأكيده ، والمراد بعدم إصلاح ذلك عدم إثباته أو عدم تقويته بالتأييد الإلهي لا عدم جعل الفاسد صالحا لظهور أن ذلك مما لا يكون أي إنه سبحانه لا يثبت عمل المفسدين ولا يديمه بل يزيله ويمحقه أو لا يقويه ولا يؤيده بل يظهر بطلانه ويجعله معلوما.
واستدل بالآية على أن السحر إفساد وتمويه لا حقيقة له. وأنت تعلم أن في إطلاق القول بأن السحر لا حقيقة له بحثا ، والحق أن منه ما له حقيقة ومنه ما هو تخيل باطل ويسمى شعبذة وشعوذة وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ أي يثبته ويقويه وهو عطف على قوله سبحانه : سَيُبْطِلُهُ وإظهار الاسم الجليل في المقامين لإلقاء الروعة وتربية المهابة بِكَلِماتِهِ أي بأوامره وقضاياه ، وعن الحسن أي بوعده النصر لمن جاء به وهو سبحانه لا يخلف ذلك ، وعن الجبائي أي بما ينزله مبينا لمعاني الآيات التي أتى بها نبيه عليه السلام.
وقرىء «بكلمته» وفسرت بالأمر واحد الأوامر حسبما فسرت الكلمات بالأوامر وأريد منها الجنس فيتطابق القراءتان ، وقيل : يحتمل أن يراد بها قول كن وأن يراد بها الأمر واحد الأمور ويراد بالكلمات الأمور والشؤون وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ذلك ، والمراد بهم كل من اتصف بالإجرام من السحرة وغيرهم فَما آمَنَ لِمُوسى عطف على مقدر فصل في موضع آخر أي فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ [الشعراء : 45] إلخ ، وإنما لم يذكر تعويلا على ذلك وإيثارا للإيجاز وإيذانا بأن قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ مما لا يحتمل الخلف أصلا ، ولعل عطفه على ذلك بالفاء باعتبار الإيجاب الحادث الذي هو أحد مفهومي الحصر ، فإنهم قالوا : معنى ما قام إلا زيد قام زيد ولم يقم غيره ، وبعضهم لم يعتبر ذلك وقال : إن عطفه بالفاء على ذلك مع كونه عدما مستمرا من قبيل ما في قوله تعالى : فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وما في قولك : وعظته فلم يتعظ - وصحت به فلم ينزجر ، والسر في ذلك أن الإتيان بالشيء بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه وإن كان استمرارا عليه لكنه بحسب العنوان فعل جديد وصنع حادث أي فما آمن له عليه السلام في مبدأ أمره إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ أي إلا أولاد بعض بني إسرائيل حيث دعا عليه السلام الآباء فلم يجيبوه خوفا من فرعون وأجابته طائفة من شبانهم ، فالمراد من الذرية الشبان لا الأطفال.
ومِنْ للتبعيض ، وجوز أن تكون للابتداء والتبعيض مستفاد من التنوين ، والضمير لموسى عليه السلام كما هو إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وأخرج ابن جرير عنه أن الضمير لفرعون وبه قال جمع ، فالمؤمنون من غير بني إسرائيل ومنهم زوجته آسية وما شطته ومؤمن آل فرعون والخازن وامرأته ، وفي إطلاق الذرية على

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 158
هؤلاء نوع خفاء. ورجح بعضهم إرجاع الضمير لموسى عليه السلام بأنه المحدث عنه وبأن المناسب على القول الآخر الإضمار فيما بعد ، ورجح ابن عطية إرجاع الضمير لفرعون بأن المعروف في القصص أن بني إسرائيل كانوا في قهر فرعون وكانوا قد بشروا بأن خلاصهم على يد مولود يكون نبيا صفته كذا كذا فلما ظهر موسى عليه السلام اتبعوه ولم يعرف أن أحدا منهم خالفه فالظاهر القول الثاني ، وما ذكر من أن المحدث عنه موسى عليه السلام لا يخلو عن شيء ، فإن القائل أن يقابل ذلك بأن الكلام في قوم فرعون لأنهم القائلون إنه ساحر ولأن وعظ أهل مكة وتخويفهم المسوق له الآيات قاض بأن المقصود هنا شرح أحوالهم. وأنت تعلم أن للبحث في هذا مجالا والمعروف بعد تسليم كونه معروفا لا يضر القول الأول لأن المراد حينئذ فما أظهر إيمانه وأعلن به إلا ذرية من بني إسرائيل دون غيرهم فإنهم أخفوه ولم يظهروه عَلى خَوْفٍ حال من ذرية وعَلى بمعنى مع كما قيل في قوله تعالى : وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ [البقرة : 177] والتنوين للتعظيم أي كائنين مع خوف عظيم مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ الضمير لفرعون ، والجمع عند غير واحد على ما هو المعتاد في ضمائر العظماء. ورد بأن الواو في كلام العرب الجمع في ضمير المتكلم كنحن وضمير المخاطب كما في قوله تعالى : رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون : 99] وقوله :
ألا فارحموني يا إله محمد ولم ينقل في ضمير الغائب كما نقل عن الرضي ، وأجيب بأن الثعالبي ، والفارسي نقلاه في الغائب أيضا والمثبت مقدم على النافي ، وبأنه لا يناسب تعظيم فرعون فإن كان على زعمه وزعم قومه فإنما يحسن في كلام ذكر أنه محكي عنهم وليس فليس ، ويجاب بأن المراد من التعظيم تنزيله منزلة المتعدد ، وكونه لا يناسب في حيز المنع ، لم لا يجوز أن يكون مناسبا لما فيه من الإشارة إلى مزيد عظم الخوف المتضمن زيادة مدح المؤمنين؟ وقيل : إن ذلك وارد على عادتهم في محاوراتهم في مجرد جمع ضمير العظماء وإن لم يقصد التعظيم أصلا فتأمله وجوز أن يكون الجمع لأن المراد من فِرْعَوْنَ آله كما يقال : ربيعة ، ومضر ، واعترض عليه بأن هذا إنما عرف في القبيلة وأبيها إذ يطلق اسم الأب عليهم وفرعون ليس من هذا القبيل ، على أنه قد قيل : إن إطلاق أبي نحو القبيلة عليها لا يجوز ما لم يسمع ويتحقق جعله علما لها ، ألا تراهم لا يقولون : فلان من هاشم ولا من عبد المطلب بل من بني هاشم وبني عبد المطلب فكيف يراد من فرعون آله ولم يتحقق فيه جعله علما لهم ، ودعوى التحقق هنا أول المسألة فالقول بأن الجمع لأن المراد به آله كربيعة ليس بشيء إلا أن يراد أن فرعون ونحوه من الملوك إذا ذكر خطر بالبال خطر اتباعه معه فعاد الضمير على ما في الذهن ، وتمثيله بما ذكر لأنه نظيره في الجملة ، ثم إنه لا يخفى أنه إذا أريد من فرعون آله ينبغي أن يراد من آلِ فِرْعَوْنَ فرعون وآله على التغليب ، وقيل : إن الكلام على حذف مضاف أي آل فرعون فالضمير راجع إلى ذلك المحذوف ، وفيه أن الحذف يعتمد القرينة ولا قرينة هنا ، وضمير الجمع يحتمل رجوعه لغير ذلك المحذوف كما ستعلمه قريبا إن شاء اللّه تعالى فلا يصلح لأن يكون قرينة ، وأما أن المحذوف لا يعود إليه ضمير كما قال أبو البقاء فليس بذاك لأنه إن أريد أنه لا يعود إليه مطلقا فغير صحيح وإن أريد إذا حذف لقرينة
فممنوع لأنه حينئذ في قوة المذكور ، وقد كثر عود الضمير إليه كذلك في كلام العرب ، وقريب من هذا القيل زعم أن هناك معطوفا محذوفا إليه يعود الضمير أي على خوف من فرعون وقومه وملئهم ، ويرد عليه أيضا ما قيل : إن هذا الحذف ضعيف غير مطرد.
وقيل : الضمير للذرية أو للقوم أي على خوف من فرعون ومن أشراف بني إسرائيل حيث كانوا يمنعونهم خوفا من فرعون عليهم أو على أنفسهم ، أو من أشراف القبط ورؤسائهم حيث كانوا يمنعونهم انتصارا لفرعون ، ولعل المنساق إلى الذهن رجوعه إلى الذرية والجمع باعتبار المعنى ، ويؤول المعنى إلى أنهم آمنوا على خوف من فرعون ومن أشراف

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 159
قومهم أَنْ يَفْتِنَهُمْ أي يبتليهم ويعذبهم ، وأصل الفتن كما قال الراغب إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته واستعمل في إدخال الإنسان النار كما في قوله سبحانه : يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [الذاريات : 13] ويسمى ما يحصل منه العذاب فتنة ويستعمل في الاختبار وبمعنى البلاء والشدة وهو المراد هنا ، و«أن» وما بعدها في تأويل مصدر وقع بدلا من فرعون بدل اشتمال أي على خوف من فرعون فتنته ، ويجوز أن يكون مفعول خَوْفٍ لأنه مصدر منكر كثر إعماله ، وقيل : إنه مفعول له والأصل لأن يفتنهم فحذف الجار وهو مما يطرد فيه الحذف ، ولا يضر في مثل هذا عدم اتحاد فاعل المصدر والمعلل به على أن مذهب بعض الأئمة عدم اشتراط ذلك في جواز النصب وإليه مال الرضي وأيده بما ذكرناه في حواشينا على شرح القطر للمصنف ، وإسناد الفعل إلى فرعون خاصة لأنه مدار أمر التعذيب ، وفي الكلام استخدام في رأي حيث أريد من فرعون أولا آله وثانيا هو وحده وأنت تعلم ما فيه.
وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ أي لغالب قاهر في أرض مصر ، واستعمال العلو بالغلبة والقهر مجاز معروف وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ أي المتجاوزي الحد في الظلم والفساد بالقتل وسفك الدماء أو في الكبر والعتو حتى ادعى الربوبية واسترق أسباط الأنبياء عليهم السلام ، والجملتان اعتراض تذييلي مؤكد لمضمون ما سبق وفيهما من التأكيد ما لا يخفى وَقالَ مُوسى لما رأى تخوف المؤمنين يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ أي صدقتم به وبآياته فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا أي اعتمدوا لا على أحد سواه فإنه سبحانه كافيكم كل شر وضر. إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ أي مستسلمين لقضاء اللّه تعالى مخلصين له ، وليس هذا من تعليق الحكم بشرطين بل من تعليق شيئين بشرطين لأنه علق وجوب التوكل المفهوم من الأمر وتقديم المتعلق بالإيمان فإنه المقتضي له وعلق نفس التوكل ووجود بالإسلام والإخلاص لأنه لا يتحقق مع التخليط ، ونظير ذلك - إن دعاك زيد فأجبه إن قدرت عليه - فإن وجوب الإجابة معلق بالدعوة ونفس الدعوة معلقة بالقدرة ، وحاصله إن كنتم آمنتم باللّه فيجب عليكم التوكل عليه سبحانه فافعلوه واتصفوا به إن كنتم مستسلمين له تعالى.
وهذا النوع على ما في الكشف يفيد مبالغة في ترتب الجزاء على الشرط على نحو - إن دخلت الدار فأنت طالق إن كنت زوجتي - وجعله بعضهم من باب التعليق بشرطين المقتضي لتقدم الشرط الثاني على الأول في الوجود حتى لو قال : إن كلمت زيدا فأنت طالق إن دخلت الدار لم تطلق ما لم تدخل قبل الكلام لأن الشرط الثاني شرط للأول فيلزم تقدمه عليه ، وقرره بأن هاهنا ثلاثة أشياء : الإيمان ، والتوكل ، والإسلام ، والمراد بالإيمان التصديق وبالتوكل إسناد الأمور إليه عز وجل ، وبالإسلام تسليم النفس إليه سبحانه وقطع الأسباب فعلق التوكل بالتصديق بعد تعليقه بالإسلام لأن الجزاء معلق بالشرط الأول وتفسير للجزاء الثاني كأنه قيل : إن كنتم مصدقين باللّه تعالى وآياته فخصوه سبحانه بإسناد جميع الأمور إليه وذلك لا يتحصل إلا بعد أن تكونوا مخلصين للّه تبارك وتعالى مستسلمين بأنفسكم له سبحانه ليس للشيطان فيكم نصيب وإلا فاتركوا أمر التوكل.
ويعلم منه أن ليس لكل أحد من المؤمنين الخوض في التوكل بل للآحاد منهم وإن مقام التوكل دون مقام التسليم والأكثر على الأول ولعله أدق نظرا فَقالُوا مجيبين له عليه السلام من غير تلعثم وبلع ريق في ذلك عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا لا على غيره سبحانه ويؤخذ من هذا القصر والتعبير بالماضي دون نتوكل أنهم كانوا مؤمنين مخلصين ، قيل : ولذا أجيب دعاؤهم رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي موضع فتنة وعذاب لهم بأن تسلطهم علينا فيعذبونا أو يفتنونا عن ديننا أو يفتنوا بنا ويقولوا : لو كان هؤلاء على الحق لما أصيبوا وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ دعاء بالإنجاء من سوء جوارهم وسوء صنيعهم بعد الإنجاء من ظلمهم ، ولذا عبر عنهم بالكفر بعد ما

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 160
وصفوا بالظلم ففيه وضع المظهر موضع المضمر ، وجوز أن يراد من القوم الظالمين الملأ الذين تخوفوا منهم ومن القوم الكافرين ما يعمهم وغيرهم ، وفي تقديم التوكل على الدعاء وإن كان بيانا لامتثال أمر موسى عليه السلام لهم به تلويح بأن الداعي حقه أن يبني دعاءه على التوكل على اللّه تعالى فإنه أرجى للإجابة ولا يتوهمن أن التوكل مناف للدعاء لأنه أحد الأسباب للمقصود والتوكل قطع الأسباب لأن المراد بذاك قطع النظر عن الأسباب العادية وقصره على مسببها عز وجل واعتقاد أن الأمر مربوط بمشيئته سبحانه فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وقد صرحوا أن الشخص إذا تعاطى الأسباب معتقدا ذلك يعد متوكلا أيضا ، ومثل التوكل في عدم المنافاة للدعاء على ما تشعر به الآية الاستسلام. نعم في قول بعضهم : إن الاستسلام من صفات إبراهيم عليه السلام وكان من آثاره ترك الدعاء حين ألقي في النار واكتفاؤه عليه السلام بالعلم المشار إليه بقوله : حسبي من سؤالي علمه بحالي ما يشعر بالمنافاة ومن عرف المقامات أمعن النظر هان عليه أمر الجمع وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا أَنْ مفسرة لأن في الوحي معنى القول ، ويحتمل أن تكون مصدرية والتبوء اتخاذ المباءة أي المنزل كالتوطن اتخاذ الوطن ، والجمهور على تحقيق الهمزة ومنهم من قرأ «تبويا» لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً فجعلها ياء وهي مبدلة من الهمزة تخفيفا ، والفعل على ما قيل مما يتعدى لواحد فيقال : تبوأ زيد كذا لكن إذا أدخلت اللام على الفاعل فقيل : تبوأ لزيد كذا تعدى لما كان فاعلا باللام فيتعدى لاثنين ، وخرجت الآية على ذلك - فلقومكما - أحد المفعولين ، وقيل : هو متعد لواحد ولِقَوْمِكُما متعلق بمحذوف وقع حالا من البيوت ، واللام على الوجهين غير زائدة.
وقال أبو علي : هو متعد بنفسه لاثنين واللام زائدة كما في رَدِفَ لَكُمْ [النمل : 72] وفعل وتفعل قد يكونان بمعنى مثل علقتها وتعلقتها ، والتقدير بوئا قومكما بيوتا يسكنون فيها أو يرجعون إليها للعبادة. ومصر غير منصرف لأنه مؤنث معرفة ولو صرفته لخفته كما صرفت هندا لكان جائزا ، والجار متعلق - بتبوأ - وجوز أن يكون حالا من بُيُوتاً أو من - قومكما - أو من ضمير الفاعل في تَبَوَّءا وفيه ضعف وَاجْعَلُوا أنتما وقومكما ففيه تغليب المخاطب على غيره بُيُوتَكُمْ تلك فالإضافة للعهد قِبْلَةً أي مصلى ، وقيل : مساجد متوجهة نحو القبلة يعني الكعبة فإن موسى عليه السلام كان يصلي إليها ، وعلى التفسيرين تكون القبلة مجازا فيما فسرت به بعلاقة اللزوم أو الكلية والجزئية ، والاختلاف في المراد هنا ناظر للاختلاف في أن تلك البيوت المتخذة هل للسكنى أو للصلاة فإن كان الأول فالقبلة مجاز عن المصلى وإن كان الثاني فهو مجاز عن المساجد.
واعترض القول بحمل القبلة على المساجد المتوجهة إلى الكعبة بأن المنصوص عليه في الحديث الصحيح أن اليهود تستقبل الصخرة والنصارى مطلع الشمس ولم يشتهر أن موسى عليه السلام كان يستقبل الكعبة في صلاته فالقول به غريب ، وأغرب منه ما قاله العلائي : من أن الأنبياء عليهم السلام كانت قبلتهم كلهم الكعبة ، قيل : وجعل البيوت مصلى ينافيه ما
في الحديث «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا»
من أن الأمم السالفة كانوا لا يصلون إلا في كنائسهم ، وأجيب عن هذا بأن محله إذا لم يضطروا فإذا اضطروا جازت لهم الصلاة في بيوتهم كما رخص لنا صلاة الخوف ، فإن فرعون لعنه اللّه تعالى خرب مساجدهم ومنعهم من الصلاة فأوحى إليهم أن صلوا في بيوتكم كما روي عن ابن عباس وابن جبير ، وقد يقال : إنه لا منافاة أصلا بناء على أن المراد تعيين البيوت للصلاة وعدم صحة الصلاة في غيرها فيكون حكمها إذ ذاك حكم الكنائس اليوم وما هو من الخصائص صحة الصلاة في أي مكان من الأرض وعدم تعين موضع منها لذلك فلا حاجة إلى ما يقال : من أن اعتبار جعل الأرض كلها مسجدا خصوصية بالنظر إلى ما استقرت عليه شريعة موسى عليه السلام من تعين الصلاة في الكنائس وعدم جوازها في أي مكان أراده المصلي من الأرض ، وما تقدم من استقبال اليهود الصخرة فالمشهور أنه كان في بيت المقدس وأما قبل بعد نزول التوراة فكانوا

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 161
يستقبلون التابوت وكان يوضع في قبة موسى عليه السلام ، على أنه قد قيل : إن الاستقبال في بيت المقدس كان للتابوت أيضا وكانوا يضعونه على الصخرة فيكون استقباله استقبالها ، وأما استقبالهم في مصر فيحتمل أنه كان للكعبة كما روي عن الحسن وما في الحديث محمول على آخر أحوالهم ، ويحتمل أنه كان للصخرة حسبما هو اليوم ويحتمل غير ذلك واللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال ، وقيل : معنى قِبْلَةً متقابلة ورواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أي اجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ فيها ، قيل : أمروا بذلك في أول أمرهم لئلا يظهر عليهم الكفرة فيؤذونهم ويفتنونهم في دينهم ، وهو مبني على أن المراد بالبيوت المساكن فلا يصح كما لا يخفى ، ولعل التوجيه على ذلك هو أنهم أمروا بالصلاة ليستعينوا ببركتها على مقصودهم فقد قال سبحانه :
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة : 45 ، 153] وهي في المساجد أفضل فتكون أرجى للنفع وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بحصول مقصودهم ، وقيل : بالنصرة في الدنيا إجابة لدعوتهم والجنة في العقبى ، وإنما ثني الضمير أولا لأن التبوء للقوم واتخاذ المعابد مما يتولاه رؤساء القوم بتشاور ، ثم جمع ثانيا لأن جعل البيوت مساجد والصلاة فيها مما يفعله كل أحد مع أن في إدخال موسى وهارون عليهما السلام مع القوم في الأمرين المذكورين ترغيبا لهم في الامتثال ، ثم وجد ثالثا لأن بشارة الأمة وظيفة صاحب الشريعة وهي من الأعظم أسر وأوقع في النفس ، ووضع المؤمنين موضع ضمير القوم لمدحهم بالإيمان وللإشعار بأنه المدار في التبشير قالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً أي ما يتزين به من اللباس والمراكب ونحوها وتستعمل مصدرا وَأَمْوالًا أنواعا كثيرة من المال كما يشعر به الجمع والتنوين ، وذكر ذلك بعد الزينة من ذكر العام بعد الخاص للشمول ، وقد يحمل على ما عداه بقرينة المقابلة ، وفسر بعضهم الزينة بالجمال وصحة البدن وطول القامة ونحوه فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ أي لكي يضلوا عنها وهو تعليل للإيتاء السابق ، والكلام إخبار من موسى عليه السلام بأن اللّه تعالى إنما أمدهم بالزينة والأموال استدراجا ليزدادوا إثما وضلالة كما أخبر سبحانه عن أمثالهم بقوله سبحانه : إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [آل عمران :
178] وإلى كون اللام للتعليل ذهب الفراء. والظاهر أنه حقيقة فيكون ذلك الضلال مراد اللّه تعالى ، ولا يلزم ما قاله المعتزلة من أنه إذا كان مرادا يلزم أن يكونوا مطيعين به بناء على أن الإرادة أمر أو مستلزم له لما أنه قد تبين بطلان هذا المبنى في الكلام ، وقدر بعضهم حذرا من ذلك لئلا يضلوا كما قدر في شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا [الأعراف : 17] شهدنا أن لا تقولوا ولا حاجة إليه ، وقيل : إن التعليل مجازي لأنهم لما ضلوا بسبب ذلك جعل إيتاؤه كأنه للضلال فيكون في اللام استعارة تبعية ، وقال الأخفش : اللام للعاقبة فيكون ذلك إخبارا منه عليه السلام لممارسته لهم وتفرسه بهم أو لعلمهم بالوحي على ما قيل بأن عاقبة ذلك الإيتاء الضلال.
والفرق بين التعليل المجازي وهذا إن قلنا بأنه معنى مجازي أيضا أن في التعليل ذكر ما هو سبب لكن لم يكن إيتاؤه لكونه سببا وفي لام العاقبة لم يذكر سبب أصلا وهي كاستعارة أحد الضدين للآخر ، وقال ابن الأنباري : إنها للدعاء ولا مغمز على موسى عليه السلام في الدعاء عليهم بالضلال إما لأنه عليه السلام علم بالممارسة أو نحوها أنه كائن لا محالة فدعا به وحاصله أنه دعاء بما لا يكون إلا ذلك فهو تصريح بما جرى قضاء اللّه تعالى به ، ونحوه لعن اللّه تعالى الشيطان وإما لأنه ليس بدعاء حقيقة ، وليس النظر إلى تنجيز المسئول وعدمه بل النظر إلى وصفهم بالعتو وإبلاء عذره عليه السلام في الدعوة فهو كناية إيمائية على هذا ، وما قيل : هذا شهادة بسوء حالهم بطريق الكناية في الكناية لأن الضلالة رديف الإضلال وهو منع اللطف فكنى بالضلال عن الإضلال والإضلال رديف كونهم كالمطبوع عليهم فكان هذا كشفا وبيانا لحالهم بطريق الكناية فهو على ما فيه شيء عنه غني لأن الطبع مصرح به بعد بل النظر هاهنا إلى

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 162
الزبدة والخلاصة من هذه المطالب كلها ، ويشعر كلام الزمخشري باختيار كونها للدعاء ، وفي الانتصاف أنه اعتزال أدق من دبيب النمل يكاد الاطلاع عليه يكون كشفا ، والظاهر أنها للتعليل ، وقال صاحب الفرائد : لولا التعليل لم يتجه قوله : إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً ولم ينتظم وأورده عليه أيضا أنه ينافي غرض البعثة وهو الدعوة إلى الإيمان والهدى ، ولا يخفى أن دفع هذا يعلم مما قدمنا آنفا. وأما وجه انتظام الكلام فهو كما قال غير واحد : إن موسى عليه السلام ذكر قوله : إِنَّكَ آتَيْتَ إلخ تمهيدا للتخلص إلى الدعاء عليهم أي إنك أوليتهم هذه النعمة ليعبدوك ويشكروك فما زادهم ذلك إلا طغيانا وكفرا وإذا كانت الحال هذه فليضلوا عن سبيلك ولو دعا ابتداء لم يحسن إذ ربما لم يعذر فقدم الشكاية منهم والنعي بسوء صنيعهم ليتسلق منه إلى الدعاء مع مراعاة تلازم الكلام من إيراد الأدعية منسوقة نسقا واحدا وعدم الاحتياج إلى الاعتذار عن تكرير النداء كما احتاج القول بالتعليل إلى الاعتذار عنه بأنه للتأكيد وللإشارة إلى أن المقصود عرض ضلالهم وكفرانهم تقدمة للدعاء عليهم بعد. وادعى الطيبي أنه لا مجال للقول بالاعتراض لأنه إنما يحسن موقعه إذا التذت النفس بسماعه ، ولذا عيب قول النابعة :
لعل زيادا لا أبا لك غافل وفي كلامه ميل إلى القول بأن اللام للدعاء وهو لدى المنصف خلاف الظاهر ، وما ذكروه له لا يفيده ظهورا. وقرىء «ليضّلوا» بضم الياء وفتحها رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ أي أهلكها كما قال مجاهد ، فالطمس بمعنى الإهلاك ، وفعله من باب ضرب ودخل ، ويشهد له قراءة «اطمس» بضم الميم ، ويتعدى ولا يتعدى ، وجاء بمعنى محو الأثر والتغيير وبهذا فسره أكثر المفسرين قالوا : المعنى ربنا غيرها عن جهة نفعها إلى جهة لا ينتفع بها.
وأنت تعلم أن تغييرها عن جهة نفعها إهلاك لها أيضا فلا ينافي ما أخرجه ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن الضحاك أنه بعد هذا الدعاء صارت دراهمهم ودنانيرهم ونحاسهم وحديدهم حجارة منقوشة. وعن محمد القرظي قال : سألني عمر بن عبد العزيز عن هذه الآية فأخبرته أن اللّه تعالى طمس على أموال فرعون وآل فرعون حتى صارت حجارة فقال عمر : مكانك حتى آتيك فدعا بكيس مختوم ففكه فإذا فيه البيضة مشقوقة وهي حجارة وكذا الدراهم والدنانير وأشباه ذلك. وفي رواية عنه أنه صار سكرهم حجارة وأن الرجل بينما هو مع أهله إذ صارا حجرين وبينما المرأة قائمة تخبز إذ صارت كذلك ، وهذا مما لا يكاد يصح أصلا وليس في الآية ما يشير إليه بوجه ، وعندي أن أخبار تغيير أموالهم إلى الحجارة لا تخلو عن وهن فلا يعول عليها ، ولعل الأولى أن يراد من طمسها إتلافها منهم على أتم وجه ، والمراد بالأموال ما يشمل الزينة من الملابس والمراكب وغيرها وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ أي اجعلها قاسية واطبع عليها حتى لا تنشرح للإيمان كما هو قضية شأنهم فَلا يُؤْمِنُوا جواب للدعاء أعني اشْدُدْ دون اطْمِسْ فهو منصوب ، ويحتمل أن يكون دعاء بلفظ النهي نحو إلهي لا تعذبني فهو مجزوم ، وجوز أن يكون عطفا على لِيُضِلُّوا وما بينهما دعاء معترض فهو حينئذ منصوب أو مجزوم حسبما علمت من الخلاف في اللام حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ أي يعاينوه ويوقنوا به بحيث لا ينفعهم ذلك إذ ذاك ، والمراد به جنس العذاب الأليم. وأخرج غير واحد عن ابن عباس تفسيره بالغرق.
واستدل بعضهم بالآية على أن الدعاء على شخص بالكفر لا يعد كفرا إذا لم يكن على وجه الاستيجاز والاستحسان للكفر بل كان على وجه التمني لينتقم اللّه تعالى من ذلك الشخص أشد انتقام ، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام خواهر زادة ، فقولهم : الرضا بكفر الغير كفر ليس على إطلاقه عنده بل هو مقيد بما إذا كان على وجه الاستحسان ، لكن قال صاحب الذخيرة : قد عثرنا على رواية عن أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه أن الرضا بكفر الغير

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 163
كفر من غير تفصيل ، والمنقول عن علم الهدى أبي منصور الماتريدي التفصيل ففي المسألة اختلاف ، قيل : والمعول عليه أن الرضا بالكفر من حيث إنه كفر كفر وإن الرضا به لا من هذه الحيثية بل من حيثية كونه سببا للعذاب الأليم أو كونه أثرا من آثار قضاء اللّه تعالى وقدره مثلا ليس بكفر وبهذا يندفع التنافي بين قولهم : الرضا بالكفر كفر ، وقولهم :
الرضا بالقضاء واجب بناء على حمل القضاء فيه على المقضي ، وعلى هذا لا يتأتى ما قيل : إن رضا العبد بكفر نفسه كفر بلا شبهة على إطلاقه بل يجري فيه التفصيل السابق في الرضا بكفر الغير أيضا ، ومن هذا التحقيق يعلم ما في قولهم : إن من جاءه كافر ليسلم فقال له : اصبر حتى أتوضأ أو أخره يكفر لرضاه بكفره في زمان من النظر ، ويؤيده ما
في الحديث الصحيح في فتح مكة أن ابن أبي سرح أتى به عثمان رضي اللّه تعالى عنه إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم وقال : يا رسول اللّه بايعه فكف صلّى اللّه عليه وسلم يده عن بيعته ونظر إليه ثلاث مرات كل ذلك يأبى أن يبايعه فبايعه بعد الثلاث ثم أقبل صلّى اللّه عليه وسلم على أصحابه فقال : أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟ قالوا : وما يدرينا يا رسول اللّه ما في نفسك ألا أومأت إلينا بعينك فقال عليه الصلاة والسلام : إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة أعين ، وقد أخرجه ابن أبي شيبة ، وأبو داود. والنسائي. وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص
وهو معروف في السير فإنه ظاهر في أن التوقف مطلقا ليس كما قالوه كفرا فليتأمل.
قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما هو خطاب لموسى وهارون عليهما السلام ، وظاهره أن هارون عليه السلام دعا بمثل ما دعا موسى عليه السلام حقيقة لكن اكتفي بنقل دعاء موسى عليه السلام لكونه الرسول بالاستقلال عن نقل دعائه وأشرك بالبشارة إظهارا لشرفه عليه السلام ، ويحتمل أنه لم يدع حقيقة لكن أضيفت الدعوة إليه أيضا بناء على أن دعوة موسى في حكم دعوته لمكان كونه تابعا ووزيرا له ، والذي تضافرت به الآثار أنه عليه السلام كان يؤمن لدعاء أخيه والتأمين دعاء ، فإن معنى آمين استجب وليس اسما من أسمائه تعالى كما يروونه عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه ، قيل : ولكونه دعاء استحب الحنفية الإسرار به ، وفيه نظر لأن الظاهر أن مدار استحباب الإسرار والجهر ليس كونه دعاء فإن الشافعية استحبوا الجهر به مع أن المشهور عنهم أنهم قائلون أيضا بكونه دعاء ، وظاهر كلام بعض المحققين أن إضافة الرب إلى ضمير المتكلم مع الغير في المواقع الثلاثة تشعر بأنه عليه السلام كان يؤمن لدعاء موسى عليه السلام ولا يخفى ما في ذلك الإشعار من الخفاء. وقرىء «دعواتكما» بالجمع ووجهه ظاهر فَاسْتَقِيما فامضيا لأمري واثبتا على ما أنتم عليه من الدعوة وإلزام الحجة ولا تستعجلا فإن ما طلبتماه كائن في وقته لا محالة. أخرج ابن المنذر عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : يزعمون أن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة ، وأخرج ابن جرير عن ابن جريج مثله وأخرج الترمذي عن مجاهد أن الدعوة أجيبت بعد أربعين سنة ولم يذكر الزعم وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ بعادات اللّه تعالى في تعليق الأمور بالحكم والمصالح أو سبيل الجهلة في عدم الوثوق بوعد اللّه سبحانه ، والنهي لا يقتضي صحة وقوع المنهي عنه فقد كثر نهي الشخص عما يستحيل وقوعه منه ، ولعل الغرض منه هنا مجرد تأكيد أمر الوعد وإفادة أن في تأخير إنجازه حكما إلهية.
وعن ابن عامر أنه قرأ وَلا تَتَّبِعانِّ بالنون الخفيفة المكسورة لالتقاء الساكنين ، ووجه ذلك ابن الحاجب بأن لا نافية والنون علامة الرفع ، والجملة إما في موضع الحال من الضمير المرفوع في - استقيما - كأنه قيل : استقيما غير متبعين ، والجملة المضارعية المنفية - بلا - الواقعة حالا يجوز اقترانها بالواو وعدمه خلافا لمن زعم وجوب عدم الاقتران بالواو إلا أن يقدر مبتدأ ، وإما معطوفة على الجملة الطلبية التي قبلها وهي وإن كانت خبرية لفظا إلا أنها طلبية معنى لأن المراد منها النهي كما في قوله تعالى : تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [الصف : 11] ولا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ [البقرة : 83] والنهي المخرج بصورة الخبر

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 164
أبلغ من النهي المخرج بصورته ، ويجوز أن تعتبر الجملة مستأنفة للإخبار بأنهما لا يتبعان سبيل الجاهلين ، ومن الناس من جعل لا في قراءة العامة نافية أيضا وهو ضعيف لأن النفي لا يؤكد على الصحيح ، وقيل : لا ناهية والنون نون التوكيد الخفيفة كسرت لالتقاء الساكنين وهو تخريح لين فإن الكسائي وسيبويه لا يجيزانه لأنهما يمنعان وقوع الخفيفة بعد الألف سواء كانت ألف التثنية أو الألف الفاصلة بين نون الإناث ونون التوكيد نحو هل تضربنان يا نسوة ، وأيضا النون الخفيفة إذا لقيها ساكن لزم حذفها عند الجمهور ولا يجوز تحريكها ، لكن يونس والفراء أجازا ذلك وفيه عنهما روايتان إبقاؤها ساكنة لأن الألف لخفتها بمنزلة الفتحة وكسرها على أصل التقاء الساكنين وعلى هذا يتم ذاك التخريج.
وقيل : إن هذه النون هي نون التوكيد الثقيلة إلا أنها خففت وهو كما ترى ، وعنه أيضا «ولا تتبعان» بتخفيف التاء الثانية وسكونها وبالنون المشددة من تبع الثلاثي ، وأيضا «ولا تتبعان» وهي كالأولى إلا أن النون ساكنة على إحدى الروايتين عمن تقدم في تسكين النون الخفيفة بعد الألف على الأصل واغتفار التقاء الساكنين إذا كان الأول ألفا كما في محياي. ثم اعلم أنه اشتهر في تعليل كسر النون في قراءة العامة بأنه لالتقاء الساكنين وظاهره أنه بذلك زال التقاء الساكنين وليس كذلك إذ الساكنان هما الألف والنون الأولى ولا شيء منهما بمتحرك وإنما المتحرك النون الثانية ، ومن هنا قال بعض محققي النحاة : إن أصل التحريم ليتأتى الإدغام وكونه بالكسر تشبيها بنون التثنية ، والتقاء الساكنين أعني الألف والنون الأولى غير مضر لما قالوا من جوازه إذا كان الأول حرف مد والثاني مدغما في مثله كما في - دابة - لارتفاع اللسان بهما معا حينئذ وقد حقق ذلك في موضعه فليراجع هذا واللّه تعالى أعلم.
ومن باب الإشارة في الآيات : وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ أشار سبحانه إلى أنهم يستمعون لكن حكمهم حكم الأصم في عدم الانتفاع وذلك لعدم استعدادهم حقيقة أو حكما بأن كان ولكن حجب نوره رسوخ الهيئات المظلمة ، وكذا يقال فيما بعد ، ثم إنه تعالى رفع ما يتوهم من أن كونهم في تلك الحالة ظلم منه سبحانه لهم بقوله جل شأنه : إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً بسلب حواسهم وعقولهم مثلا وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث طلب استعدادهم الغير المجعول ذلك وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ لذهولهم بتكاثف ظلمات المعاصي على قلوبهم يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ بحكم سابقة الصحبة وداعية الهوى اللازمة للجنسية الأصلية ، وهذا التعارف قد يبقى إذا اتحدوا في الوجهة واتفقوا في المقصد وقد لا يبقى وذلك إذا اختلفت الأهواء وتباينت الآراء فحينئذ تتفاوت الهيئات المستفادة من لواحق النشأة فيقع التناكر وعوارض العادة قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ لما ينتفعون به وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ من جنسهم ليتمكنوا من الاستفاضة منه فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بإنجاء من اهتدى به وإثابته وإهلاك من أعرض عنه وتعذيبه لظهور أسباب ذلك بوجوده وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ فيعاملوا بخلاف ما يستحقون وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إنكار للقيامة لاحتجابهم بما هم فيه من الكثافة قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ سلب لاستقلاله في التأثير وبيان لأنه لا يملك إلا ما أذن اللّه تعالى فيه ، وهذا نوع من توحيد الأفعال وفيه إرشاد لهم بأنه لا يملك استعجال ما وعدهم به يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ
جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي تزكية لنفوسكم بالوعد والوعيد والزجر عن الذنوب المتسببة للعقاب والتحريض على الطاعة الموجبة بفضل اللّه تعالى للثواب وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ أي دواء للقلوب من أمراضها التي هي أشد من أمراض الأبدان كالشك والنفاق والحسد والحقد وأمثال ذلك بتعليم الحقائق والحكم الموجبة لليقين والتصفية والتهيؤ لتجليات الصفات الحقة وَهُدىً لأرواحكم إلى الشهود الذاتي وَرَحْمَةٌ بإفاضة الكمالات اللائقة بكل مقام من المقامات الثلاثة بعد حصول الاستعداد في مقام

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 165
النفس بالموعظة ومقام القلب بالتصفية ومقام الروح بالهداية للمؤمنين بالتصديق أولا ثم باليقين ثانيا ثم بالعيان ثالثا.
وذكر بعضهم الموعظة للمريدين والشفاء للمحبين والهدى للعارفين والرحمة للمستأنسين والكل مؤمنون إلا أن مراتب الإيمان متفاوتة والخطاب في الآية لهم وفيها إقامة الظاهر مقام المضمر ، ويقال : إنه سبحانه بدأ بالموعظة لمريض حبه لأنها معجون لإسهال شهواته فإذا تطهر عن ذلك يسقيه شراب ألطافه فيكون ذلك شفاء له مما به فإذا شفي يغذيه بهدايته إلى نفسه فإذا كمل بصحبته يطهره بمياه رحمته من وسخ المرض ودرن الامتحان قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ بتوفيقه للقبول في المقامات وَبِرَحْمَتِهِ بالمواهب الخلقية والعملية والكشفية فيها فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا لا بالأمور الفانية القليلة المقدار الدنية القدر هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من الخسائس والمحقرات ، وفسر بعضهم الفضل بانكشاف صباح الأزل لعيون أرواح المريدين وزيادة وضوحه في لحظة حتى تطلع شموس الصفات. وأقمار الذات فيطيرون في أنوار ذلك بأجنحة الجذبات إلى حيث شاء اللّه تعالى والرحمة بتتابع مواجيد الغيوب للقلوب بنعت التفريد بلا انقطاع ، ومن هنا قال ضرغام أجمة التصوف أبو بكر الشبلي قدس سره : وقتي سرمد وبحري بلا شاطىء وقيل : فضله الوصال ورحمته الوقاية عن الانفصال ، وقيل : فضله إلقاء نيران المحبة في قلوب المريدين ورحمته جذبه أرواح المشتاقين ، وقيل : فضله سبحانه على العارفين كشف الذات وعلى المحبين كشف الصفات وعلى المريدين كشف أنوار الآيات ورحمته جل شأنه على العارفين العناية وعلى المحبين الكفاية وعلى المريدين الرعاية.
وقال الجنيد : فضل اللّه تعالى في الابتداء ورحمته في الانتهاء وهو مناسب لما قلنا ، وقال الكتاني : فضل اللّه تعالى النعم الظاهرة ورحمته النعم الباطنة وقيل غير ذلك ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ أي أخبروني ما أنزل اللّه سبحانه من رزق معنوي كالمعارف الحقانية وكالآداب الشرعية فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً كالقسم الأول حيث أنكرتموه على أهله ورميتموه بالزندقة وَحَلالًا كالقسم الثاني حيث قبلتموه قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ في الحكم بالتحليل والتحريم أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ في ذلك ، ثم إنه سبحانه أوعد المفترين بقوله عز ومن قائل : وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ إلخ ، ففي الآية إشارة إلى سوء حال المنكرين على من تحلى بالمعارف الإلهية ، ولعل منشأ ذلك زعمهم انحصار العلم فيما عندهم ولم يعلموا أن وراء علومهم علوما لا تحصى يمنّ اللّه تعالى بها على من يشاء ، وفي قوله تعالى : وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه : 114] إشارة إلى ذلك فما أولاهم بأن يقال لهم : ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء : 85] ومن العجيب أنهم إذا سمعوا شيئا من أهل اللّه تعالى مخالفا لما عليه مجتهدوهم ردوه وقالوا : زيغ وضلال واعتمدوا في ذلك على مجرد تلك المخالفة ظنا منهم أن الحق منحصر فيما جاء به أحد أولئك المجتهدين مع أن الاختلاف لم يزل قائما بينهم على ساق.
على أنه قد يقال لهم : ما يدريكم أن هذا القائل الذي سمعتم منه ما سمعتم وأنكرتموه أنه مجتهد أيضا كسائر مجتهديكم؟ فإن قالوا : إن للمجتهد شروطا معلومة وهي غير موجودة فيه قلنا : هذه الشروط التي وضعت للمجتهد في دين اللّه تعالى هل هي منقولة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم صريحا أو صنعتموها أنتم من تلقاء أنفسكم أو صنعها المجتهد؟ فإن كانت منقولة عن الرسول عليه الصلاة والسلام فأتوا بها واتلوها وصححوا نقلها إن كنتم صادقين وهيهات ذاك ، وإن كان الواضع لها أنتم - وأنتم أجهل من ابن يوم - فهي رد عليكم ولا حبا ولا كرامة على أن في اعتبارها أخذا بكلام من ليس مجتهدا وأنتم لا تجوزونه ، وإن كان الواضع لها المجتهد فإثبات كونه مجتهدا متوقف على اعتبار تلك الشروط واعتبار تلك الشروط متوقف على إثبات كونه مجتهدا وهل هذا إلا دور وهو محال لو تعقلونه ، وأيضا لم لا يجوز أن تكون تلك الشروط شروطا للمجتهد النقلي وهناك مجتهد آخر شرطه تصفية النفس وتزكيتها وتخلقها بالخلق الرباني

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 166
وتهيؤها واستعدادها لقبول العلم من اللّه تعالى وأي مانع من أن يخلق اللّه تعالى العلم فيمن صفت نفسه وتهيأت بالفقر واللجأ إلى اللّه تعالى وصدق عزمه في الأخذ ولم يتكل على حوله وقوته كما يخلقه فيمن استوفى شروط الاجتهاد عندكم فاجتهد وصرف فكره ونظره؟ والقول بأنه سبحانه إنما يخلق العلم في هذا دون ذاك حجر على اللّه تعالى وخروج عن الإنصاف كما لا يخفى ، فلا ينبغي للمصنف العارف بأن الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء من عباده إلا أن يسلم لمن ظهرت فيه اثار التصفية والتهيؤ وسطعت عليه أنوار التخلق بالخلق الرباني ما أتى به ولو لم يأت به مجتهد ما لم يخالف ما علم مجيئه من الدين بالضرورة ، ويأبى اللّه تعالى أن يأتي ذلك بمثل ما ذكر.
لكن ذكر مولانا الإمام الرباني ومجدد الألف الثاني قدس سره في بعض مكتوباته الفارسية أنه لا يجوز تقليد أهل الكشف في كشفهم لأن الكشف لا يكون حجة على الغير وملزما له ، وقد يقال : ليس في هذا أكثر من منع تقليد أهل الكشف ، ومحل النزاع الإنكار عليهم ورميهم والعياذ باللّه تعالى بالزندقة وليس في الكلام أدنى رائحة منه كما لا يخفى إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ بصنفي العلمين وإفاضتهما بعد تهيئة الاستعداد لقبولهما وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ ذلك ولا يعرفون قدره فيمنعون عن الزيادة وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ إخبار منه تعالى بعظيم اطلاعه سبحانه على الخواطر وما يجري في الضمائر فلا يخفى عليه جل شأنه خاطر ولا ضمير أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ثم أخبر جل وعلا عن سلطان إحاطته على كل ذرة من العرش إلى ما تحت الثرى بقوله تبارك اسمه : وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ أي إن علمه سبحانه محيط بما في العالم السفلي والعلوي فكل ذرة من ذراته داخلة في حيطة علمه كيف لا وكلها قائمة به جل شأنه ينظر إلى كل في كل آن نظر الحفظ والرعاية ولولا ذلك لهلكت الذرات واضمحلت سائر الموجودات أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ إذ لم يبق منهم بقية يخاف بسببها من حرمان وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لامتناع فوات شيء من الكمالات واللذات منهم الَّذِينَ آمَنُوا الإيمان الحقيقي وَكانُوا يَتَّقُونَ بقاياهم وظهور تلوناتهم هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
بوجود الاستقامة والأخلاق المبشرة بجنة النفوس فِي الْآخِرَةِ
بظهور أنوار الصفات والحقائق عليهم المبشرة بجنة القلوب والظاهر أن الموصول بيان للأولياء ، فالولي هو المؤمن المتقي على الكمال ولهم في تعريفه عبارات شتى تقدم بعضها.
وفي الفتوحات : هو الذي تولاه اللّه تعالى بنصرته في مقام مجاهدته الأعداء الأربعة الهوى والنفس والشيطان والدنيا ، وفيها تقسيم الأولياء إلى عدة أقسام منها الأقطاب والأوتاد والأبدال والنقباء والنخباء وقد ورد ذلك مرفوعا وموقوفا من حديث عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وأنس ، وحذيفة بن اليمان ، وعبادة بن الصامت ، وابن عباس ، وعبد اللّه بن عمر ، وابن مسعود ، وعوف بن مالك ، ومعاذ بن جبل ، وواثلة بن الأسقع ، وأبي سعيد الخدري ، وأبي هريرة ، وأبي الدرداء ، وأم سلمة ، ومن مرسل الحسن ، وعطاء ، وبكر بن خنيس ، ومن الآثار عن التابعين ومن بعدهم ما لا يحصى. وقد ذكر ذلك الجلال السيوطي في رسالة مستقلة له وشيد أركانه ، وأنكره - كما قدمنا - بعضهم والحق مع المثبتين ، وأنا والحمد للّه تعالى منهم وإن كنت لم أشيد قبل أركان ذلك ، والأئمة والحواريون والرجبيون والختم والملامية والفقراء وسقيط الرفرف ابن ساقط العرش والأمناء والمحدثون إلى غير ذلك ، وعد الشيخ الأكبر قدس سره منهم الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والبيان الذي في الآية صادق عليهم عليهم السلام على أتم وجه ، ونسب إليه رضي اللّه تعالى عنه القول بتفضيل الولي على النبي والرسول وخاض فيه كثير من المنكرين حتى كفروه وحاشاه بسبب ذلك ، وقد صرح في غير موضع من فتوحاته وكذا من سائر تأليفه بما ينافي هذا القول حسبما فهمه المنكرون ،

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 167
وقد ذكر في كتاب القربة أنه ينبغي لمن سمع لفظة من عارف متحقق مبهمة كأن يقول الولاية هي النبوة الكبرى أو الولي العارف مرتبته فوق مرتبة الرسول أن يتحقق المراد منها ولا يبادر بالطعن ، ثم ذكر في بيان ما ذكر ما نصه : اعلم أنه لا اعتبار للشخص من حيث ما هو إنسان فلا فضل ولا شرف في الجنس بالحكم الذاتي وإنما يقع التفاضل بالمراتب ، فالأنبياء صلوات اللّه تعالى عليهم ما فضلوا الخلق إلا بها ، فالنبي صلّى اللّه عليه وسلم له مرتبة الولاية والمعرفة والرسالة ومرتبة الولاية والمعرفة دائمة الوجود ومرتبة الرسالة منقطعة فإنها تنقطع بالتبليغ والفضل للدائم الباقي ، والولي العارف مقيم عنده سبحانه والرسول خارج وحالة الإقامة أعلى من حالة الخروج ، فهو صلّى اللّه عليه وسلم من حيثية كونه وليا وعارفا أعلى وأشرف من حيثية كونه رسولا وهو صلّى اللّه عليه وسلم الشخص بعينه واختلفت مراتبه لا أن الولي منا أرفع من الرسول نعوذ باللّه تعالى من الخذلان ، فعلى هذا الحد يقول تلك الكلمة أصحاب الكشف والوجود إذ لا اعتبار عندنا إلا للمقامات ولا نتكلم إلا فيها لا في الأشخاص ، فإن الكلام في الأشخاص قد يكون بعض الأوقات غيبة ، والكلام على المقامات والأحوال من صفات الرجال ، ولنا في كل حظ شرب معلوم ورزق مقسوم انتهى ، وهو صريح في أنه قدس سره لا يقول هو ولا غيره من الطائفة بأن الولي أفضل من النبي حسبما ينسب إليه ، وقد نقل الشعراني عنه أنه قال : فتح لي قدر خرم إبرة من مقام النبوة تجليا لا دخولا فكدت أحترق ، فينبغي تأويل جميع ما يوهم القول بذلك كأخباره في كتابة التجليات وغيره باجتماعه ببعض الأنبياء عليهم السلام وإفادته لهم من العلم ما ليس عندهم.
وكقول الشيخ عبد القادر الجيلي قدس سره وقد تقدم : يا معاشر الأنبياء أوتيتم الألقاب وأوتينا ما لم تؤتوه إلى غير ذلك ، فإن اعتقاد أفضلية ولي من الأولياء على نبي من الأنبياء كفر عظيم وضلال بعيد ، ولو ساغ تفضيل ولي على نبي لفضل الصديق الأكبر رضي اللّه تعالى عنه على أحد من الأنبياء لأنه أرفع الأولياء قدرا كما ذهب إليه أهل السنة ونص عليه الشيخ قدس سره في كتاب القربة أيضا مع أنه لم يفضل كذلك بل فضل على من عداهم كما نطق به «ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين أفضل من أبي بكر الصديق» فمتى لم يفضل الصديق وهو الذي وقر في صدره ما وقر ونال من الكمال ما لا يحصر فكيف يفضل غيره؟.
وفضل كثير من الشيعة عليا كرم اللّه تعالى وجهه وكذا أولاده الأئمة الطاهرين رضي اللّه تعالى عنهم أجمعين على كثير من الأنبياء والمرسلين من أولي العزم وغيرهم ولا مستند لهم في ذلك إلا أخبار كاذبة وأفكار غير صائبة.
وبالجملة متى رأينا الشخص مؤمنا متقيا حكمنا عليه بالولاية نظرا لظاهر الحال ووجب علينا معاملته بما هو أهله من التوقير والاحترام غير غالين فيه بتفضيله على رسول أو نبي أو نحو ذلك مما عليه العوام اليوم في معاملة من يعتقدونه وليا التي هي أشبه شيء بمعاملة المشركين من يعتقدونه إلها نسأل اللّه تعالى العفو والعافية ، ولا يشترط فيه صدور كرامة على يده كما يشترط في الرسول صدور معجزة ، ويكفيه الاستقامة كرامة كما يدل عليه ما اشتهر عن أبي يزيد قدس سره ، بل الولي الكامل لا التفات له إليها ولا يود صدورها على يده إلا إذا تضمنت مصلحة للمسلمين خاصة أو عامة. وفي الجواهر والدر للشعراني سمعت شيخنا يقول : إذا زل الولي ولم يرجع لوقته عوقب بالحجاب ، وهو أن يحبب إليه إظهار خرق العوائد المسماة في لسان العامة كرامات فيظهر بها ويقول : لو كنت مؤاخذا بهذه الذلة لقبض عني التصريف وغاب عنه أن ذلك استدراج بل ولو سلم من الزلة فالواجب خوفه من المكر والاستدراج ، وقال بعضهم : الكرامة حيض الرجال ومن اغتر بالكرامات بالكرى مات. وأضر الكرامات للولي ما أوجب الشهرة فإن الشهرة آفة ، وقد نقل عن الخواص أنها تنقص مرتبة الكمال ، وأيد ذلك بالأثر المشهور خص بالبلاء من عرفه الناس. نعم ذكر في أسرار القرآن أن الولاية لا تتم إلا بأربع مقامات الأول مقام المحبة. والثاني مقام الشوق. والثالث مقام العشق.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 168
والرابع مقام المعرفة ، ولا تكون المحبة إلا بكشف الجمال ولا يكون الشوق إلا باستنشاق نسيم الوصال ولا يكون العشق إلا بدنو الأنوار ولا تكون المعرفة إلا بالصحبة ، وتتحقق الصحبة بكشف الألوهية مع ظهور أنوار الصفات ، ولحصول ذلك آثار وعلامات مذكورة فيه فليراجعه من أرادها والكلام في هذا المقام كثير وكتب القوم ملأى منه وما ذكرناه كفاية لغرضنا. وأحسن ما يعتمد عليه في معرفة الولي اتباع الشريعة الغراء وسلوك المحجة البيضاء فمن خرج عنها قيد شبر بعد عن الولاية بمراحل فلا ينبغي أن يطلق عليه اسم الولي ولو أتى بألف ألف خارق ، فالولي الشرعي اليوم أعز من الكبريت الأحمر ولا حول ولا قوة إلا باللّه :
أما الخيام فإنها كخيامهم وأرى نساء الحي غير نسائها
تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
أي لما سبق لهم في الأزل من حسن العناية ، أو لا تبديل لحقائقه سبحانه الواردة عليهم وأسمائه تعالى المنكشفة لهم وأحكام تجلياته جل وعلا النازلة بهم ، أو لا تبديل لفطرهم التي فطرهم عليها ، ويقال لكل محدث - كلمة - لأنه أثر الكلمة وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ أي لا تتأثر به إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً لا يملك أحد سواه منها شيئا فسيكفيكهم اللّه تعالى ويقهرهم وهُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم الْعَلِيمُ بما ينبغي أن يفعل بهم.
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ أي إن كل من في ذلك تحت ملكه سبحانه وتصرفه وقهره لا يقدرون على شيء من غير إذنه فهو كالتأكيد لما أفادته الآية السابقة أو أن من فيها من الملائكة والثقلين الذين هم أشرف الممكنات عبيد له سبحانه لا يصلح أحد منهم للربوبية فما لا يعقل أحق بأن لا يصلح لذلك فهو كالدليل على قوله سبحانه : وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إلا ما يتوهمونه ويتخيلونه شريكا ولا شركة له في الحقيقة هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ إشارة إلى سكون العشاق والمشتاقين في الليل إذا مد أطنابه ونشر جلبابه وميلهم إلى مناجاة محبوبهم وانجذابهم إلى مشاهدة مطلوبهم وتلذذهم بما يرد عليهم من الواردات الإلهية واستغراقهم بأنواع التجليات الربانية ، ومن هنا قال بعضهم : لولا الليل لما أحببت البقاء في الدنيا ، وهذه حالة عشاق الحضرة وهم العشاق الحقيقيون نفعنا اللّه تعالى بهم ، وأنشد بعض المجازيين :
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ويجمعني بالليل والهم جامع
نهاري نهار الناس حتى إذا بدا لي الليل هزتني إليك المضاجع
وَالنَّهارَ مُبْصِراً أي ألبسه سربال أنوار القدرة لتقضوا فيها حاجاتكم الضرورية ، وقيل : الإشارة بذلك إلى ليل الجسم ونهار الروح أي جعل لكم ليل الجسم لتسكنوا فيه ونهار الروح لتبصروا به حقائق الأشياء وما تهتدون به إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ كلام اللّه تعالى فيقيمون بواطنه وحدوده ويطلعون به على صفاته وأسمائه سبحانه وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً أي معلولا يجانسه سُبْحانَهُ أي أنزهه جل وعلا من ذلك هُوَ الْغَنِيُّ الذي وجوده بذاته وبه وجود كل شيء وذلك ينافي الغنى وأكد غناه جل شأنه بقوله تعالى : لَهُ ما فِي السَّماواتِ إلخ ، وقوله سبحانه : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إلخ أمر له صلّى اللّه عليه وسلم أن يتلو عليهم نبأ نوح عليه السلام في صحة توكله على اللّه تعالى ونظره إلى قومه وشركائهم بعين الغنى وعدم المبالاة بهم وبمكائدهم ليعتبروا به حاله عليه الصلاة والسلام فإن الأنبياء عليهم السلام في ملة التوحيد والقيام باللّه تعالى وعدم الالتفات إلى الخلق سواء ، أو أمر له صلّى اللّه عليه وسلم بأن يتلو نبأ نوح مع قومه ليتعظ قومه وينزجروا عما هم عليه مما يفضي إلى إهلاكهم وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ أي إيمانا حقيقيا فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ أي منقادين ، أي إن صح إيمانكم يقينا فعليه توكلوا بشرط أن لا يكون لكم فعل ولا تروا لأنفسكم ولا لغيركم قوة ولا تأثيرا بل تكونوا منقادين كالميت بين يدي مغسله ، فإن شرط

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 169
صحة التوكل فناء بقايا الأفعال والقوى قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما أي على ما أنتما عليه من الدعوة شكرا لتلك الإجابة ، وقيل : أي استقيما على معرفتكما مقام السؤال وهو مقام الرضوان والبسط ليستجاب لكما بعد إذا دعوتما فإن من لم يعرف مقام السؤال قد يوقعه في غير مقامه فيسيء الأدب فلا يستجاب له ، وقيل : إن هذا عتاب لهما عليهما السلام أي قد أجيب دعوتكما لضعفكما عن تحمل وارد امتحاني فاستقيما بعد ذلك على تحمل بلائي والصبر فيه فإنه اللائق بشأنكما ، وقد قيل : المعرفة تقتضي الرضا بالقضاء والسكون في البلاء ، وقيل : أي استقيما في دعائكما والاستقامة في الدعاء على ما قال ذو النون المصري أن لا يغضب الداعي لتأخير الإجابة ولا يسأل سؤال خصوص نسأل اللّه تعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى.
[سورة يونس (10) : الآيات 90 إلى 109]
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92) وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94)
وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104)
وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109)

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 170
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ من جاوز المكان إذا قطعه وتخطاه ، وهو متعد إلى المفعول الأول الذي كان فاعلا في الأصل بالباء وإلى الثاني بنفسه ، والمعنى جعلناهم مجاوزين البحر بأن جعلناه يبسا وحفظناهم حتى بلغوا الشط. وقرأ الحسن «وجوزنا» بالتضعيف ، وفعل بمعنى فاعل فهو من التجويز المرادف للمجاوزة بالمعنى السابق وليس بمعنى نفذ لأنه لا يحتاج إلى التعدية بالباء ويتعدى إلى المفعول الثاني بفي كما في قوله :
ولا بد من جار يجيز سبيلها كما جوز السكي في الباب فيتق
فكان الواجب هنا من حيث اللغة أن يقال : وجوزنا بني إسرائيل البحر أي نفذناهم وأدخلناه فيه ، وفي الآية إشارة إلى انفصالهم عن البحر وإلى مقارنة العناية الإلهية لهم عند الجواز كما هو المشهور في الفعتداء ، وهما مصدران منصوبان على الحال بتأويل اسم الفاعل أي باغين وعادين أو على المفعولية لأجله أي للبغي والعدوان.
وقرأ الحسن «وعدوا» بضم العين والدال وتشديد الواو ، وذلك أن اللّه سبحانه وتعالى لما أخبر موسى وهارون عليهما السلام بإجابة دعوتهما أمر موسى عليه السلام بإخراج بني إسرائيل من مصر ليلا وكانوا كما ذكره غير واحد ستمائة ألف فخرج بهم على حين غفلة من فرعون وملئه فلما أحسن بذلك خرج هو وجنوده على أثرهم مسرعين فالتفت القوم فإذا الطامة الكبرى وراءهم فقالوا : يا موسى هذا فرعون وجنوده وراءنا وهذا البحر أمامنا فكيف الخلاص فأوحى اللّه تعالى إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق اثني عشر فرقا كل فرق كالطود العظيم وصار لكل سبط طريق فسلكوا ووصل فرعون ومن معه إلى الساحل وهم قد خرجوا من البحر ومسلكهم باق على حاله فسلكه بمن معه أجمعين فلما دخل آخرهم وهم أولهم بالخروج غشيهم من اليم ما غشيهم حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ أي لحقه ، والمراد بلحوقه إياه وقوعه فيه وتلبسه بأوائله ، وقيل : معنى أدركه قارب إدراكه كجاء الشتاء فتأهب لأن حقيقة اللحوق تمنعه من القول الذي قصة سبحانه بقوله جل شأنه : قالَ آمَنْتُ إلخ ، ومن الناس من أبقى الإدراك على ظاهره وحمل القول على النفسي وزعم أن الآية دليل على ثبوت الكلام النفسي ، ونظر فيه بأن قيام الاحتمال يبطل صحة الاستدلال ، وأيّا ما كان فليس المراد الإخبار بإيمان سابق كما قيل بل إنشاء إيمان أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ أي بأنه ، وقدر الجار لأن الإيمان وكذا الكفر متعد بالباء ومحل مدخوله بعد حذفه الجر أو النصب فيه خلاف شهير وجعله متعديا بنفسه فلا تقدير لأنه في أصل وضعه كذلك مخالفة للاستعمال المشهور فيه.
وقرأ حمزة والكسائي «إنه» بالكسر على إضمار القول أي وقال إنه أو على الاستئناف لبيان إيمانه أو الإبدال من جملة آمنت والجملة الاسمية يجوز إبدالها من الفعلية ، والاستئناف على البدلية باعتبار المحكي لا الحكاية لأن الكلام في الأول ، والجملة الأولى في كلامه مستأنفة والمبدل من المستأنف مستأنف والضمير للشأن ، وعبر عنه تعالى بالموصول وجعل صلته إيمان بني إسرائيل به تعالى ولم يقل كما قال السحرة آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ [الأعراف : 121 ، 122] للإشعار

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 171
برجوعه عن الاستعصاء واتباعه لمن كان يستتبعهم طمعا في القبول والانتظام معهم في سلك النجاة وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي الذين أسلموا نفوسهم للّه تعالى أي جعلوها خالصة سالمة له سبحانه ، وأراد بهم إما بني إسرائيل خاصة وإما الجنس وهم إذ ذاك داخلون دخولا أولياء ، والظاهر أن الجملة على التقديرين معطوفة على جملة آمَنْتُ وإيثار الاسمية لادعاء الدوام والاستمرار.
وقيل : إنها على جملة الأول معطوفة وعلى الثاني تحتمل الحالية أيضا من ضمير المتكلم أي آمنت مخلصا للّه تعالى منتظما في سلك الراسخين في ذلك ، ولقد كرر المعنى الواحد بثلاث عبارات وبالغ ما بالغ حرصا على القبول المقتضي للنجاة وليت بعض ذلك قد كان حين ينفعه الإيمان وذلك قبل اليأس ، فإن إيمان اليأس غير مقبول كما عليه الأئمة الفحول آلْآنَ الاستفهام للإنكار والتوبيخ ، والظرف متعلق بمحذوف يقدر مؤخرا أي الآن تؤمن حين يئست من الحياة وأيقنت بالممات ، وقدر مؤخرا ليتوجه الإنكار والتوبيخ إلى تأخير الإيمان إلى حد يمتنع قبوله فيه ، والكلام على تقدير القول أي فقيل له ذلك وهو معطوف على على قالَ ، وهذا إلى آيَةً حكاية لما جرى منه سبحانه من الغضب على المخذول ومقابلة ما أظهره بالرد الشنيع وتقريعه بالعصيان والإفساد إلى غير ذلك ، وفي حذف الفعل المذكور وإبراز الخبر المحكي في صورة الإنشاء من الدلالة على عظم السخط وشدة الغضب ما لا يخفى. والقائل له ذلك قيل : هو اللّه تعالى ، وقيل : هو جبريل عليه السلام ، وقيل : إنه ميكائيل عليه السلام.
فقد أخرج أبو الشيخ عن أبي أمامة قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال لي جبريل عليه السلام : ما أبغضت شيئا من خلق اللّه تعالى ما أبغضت إبليس يوم أمر بالسجود فأبى أن يسجد وما أبغضت شيئا أشد بغضا من فرعون فلما كان يوم الغرق خفت أن يعتصم بكلمة الإخلاص فينجو فأخذت قبضة من حمأة فضربت بها في فيه فوجدت اللّه تعالى عليه أشد غضبا مني فأمر ميكائيل فأتاه فقال الآن» إلخ
وما تضمنه هذا الخبر من فعل جبريل عليه السلام جاء في غير ما خبر. ومن ذلك ما
أخرجه الطيالسي وابن حبان وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، والترمذي ، والحاكم وصححاه عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال لي جبريل : لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في في فرعون مخافة أن تدركه الرحمة»
واستشكل هذا التعليل.
وفي الكشاف أن ذلك من زيادات الباهتين للّه تعالى وملائكته عليهم السلام : وفيه جهالتان : إحداهما أن الإيمان يصح بالقلب كإيمان الأخرس فحال البحر لا يمنعه. والأخرى أن من كره إيمان الكافر وأحب بقاءه على الكفر فهو كافر لأن الرضا بالكفر كفر ، وارتضاه ابن المنير قائلا : لقد أنكر منكرا وغضب للّه تعالى وملائكته عليهم السلام كما يجب لهم ، والجمهور على خلافه لصحة الحديث عند الأئمة الثقات كالترمذي المقدم على المحدثين بعد مسلم. وغيره ، وقد خاضوا في بيان المراد منه بحيث لا يبقى فيه إشكال.
ففي إرشاد العقل السليم أن المراد بالرحمة الرحمة الدنيوية أي النجاة التي هي طلبة المخذول وليس من ضرورة إدراكها صحة الإيمان كما في إيمان قوم يونس عليه السلام حتى يلزم من كراهته ما لا يتصور في شأن جبريل عليه السلام من الرضا بالكفر إذ لا استحالة في ترتب هذه الرحمة على مجرد التفوه بكلمة الإيمان وإن كان ذلك في حالة البأس واليأس فيحمل دسه عليه السلام على سد باب الاحتمال البعيد لكمال الغيظ وشدة الحرد انتهى.
ولا يخفى أن حمل الرحمة على الرحمة الدنيوية بعيد ويكاد يأبى عنه ما
أخرجه ابن جرير والبيهقي عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال لي جبريل عليه السلام : لو رأيتني يا محمد وأنا أغط فرعون بإحدى يدي وأدس من الحال في فيه مخافة أن تدركه رحمة اللّه تعالى فيغفر له»
فإنه رتب فيه المغفرة على إدراك

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 172
الرحمة وهو ظاهر في أنه ليس المراد بها الرحمة الدنيوية لأن المغفرة لا تترب عليها وإنما يترتب عليها النجاة.
وقال بعض المحققين : إنما فعل جبريل عليه السلام ما فعل غضبا عليه لما صدر منه وخوفا أنه إذا كرر ذلك ربما قبل منه على سبيل خرق العادة لسعة بحر الرحمة الذي يستغرق كل شيء ، وأما الرضا بالكفر فالحق أنه ليس بكفر مطلقا بل إذا استحسن وإنما الكفر رضاه بكفر نفسه كما في التأويلات لعلم الهدى انتهى ، وقد تقدم آنفا ما يتعلق بهذه المسألة فتذكره فما في العهد من قدم ، نعم قيل : إن الرضا بكفر نفسه إنما يكون وهو كافر فلا معنى لعده كفرا والكفر حاصل قبله ، وهو على ماله وما عليه بحث آخر لا يضر فيما نحن فيه.
والطيبي بعد أن أجاب بما أجاب أردف ذلك بقوله : على أنه ليس للعقل مجال في مثل هذا النقل الصحيح إلا التسليم ونسبة القصور إلى النفس ، وقد يقال : إن الخبر متى خالف صريح العقل أو تضمن نسبة ما لا يتصور شرعا في حق شخص إليه ولم يمكن تأويله على وجه يوافق حكم العقل ويندفع به نسبة النقص لا يكون صحيحا ، واتهام الراوي بما يوهن أمر روايته أهون من اتهام العقل الصريح ونسبة النقص إليه دون نسبة النقص إلى من شهد اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلم بعصمته وكماله فتأمل واللّه تعالى الموفق ، وقوله سبحانه : وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ في موضع الحال من فاعل الفعل العامل في الظرف جيء به لتشديد التوبيخ والتقريع على تأخير الإيمان إلى هذا الآن ببيان أنه لم يكن تأخيره لما عسى يعد عذرا بل كان ذلك على طريقة الرد والاستعصاء والإفساد فإن قوله تعالى : وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ عطف على عَصَيْتَ داخل في حيز الحال والتحقيق أي وقد كنت من المفسدين الغالين في الضلال والإضلال عن الإيمان فهذا عبارة عن فساده الراجح إلى نفسه والساري إلى غيره من الظلم والتعدي وصد بني إسرائيل عن السبيل والأول عن عصيانه الخاص به ، وقوله جل شأنه : فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ تهكم به وتخييب له وحسم لأطماعه بالمرة ، والمراد فاليوم نخرجك مما وقع فيه قومك من قعر البحر ونجعلك طافيا ملابسا ببدنك عاريا عن الروح إلا أنه عبر عن ذلك بالتنجية مجازا ، وجعل الجار والمجرور في موضع الحال من ضمير المخاطب لذلك مع ما فيه من التلويح بأن مراده بالإيمان هو النجاة ، وقيل : معنى الحال عاريا عن اللباس أو تام الأعضاء كاملها.
وجعل بعض الأفاضل الكلام على التجريد ، وجوز أن يكون الباء زائدة - وبدنك - بدل بعض من ضمير المخاطب كأنه قيل : ننجي بدنك ، وجعل الباء للآلة ليكون على وزن قولك - أخذته بيدك - ونظرته بعينك - إيذانا بحصول هذا المطلوب البعيد التناول وجه لكنه غير وجيه كما لا يخفى ، وقيل : التنجية الإلقاء على النجوة وهي المكان المرتفع ، قيل : وسمي به لنجاته عن السيل ، وإلى هذا ذهب يونس بن حبيب النحوي ، فقد أخرج ابن الأنباري.
وأبو الشيخ عنه أنه قال : المعنى نجعلك على نجوة من الأرض كي يراك بنو إسرائيل فيعرفوا أنك قد مت ، وجاء تفسير البدن بالدرع ، وروي ذلك عن محمد بن كعب وأبي ، وكانت له درع من ذهب يعرف بها ، وفي رواية أنها كانت من لؤلؤ.
وأخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن أبي جهضم موسى بن سالم أنه كان لفرعون شيء يلبسه يقال له البدن يتلألأ ، وقرأ يعقوب «ننجيك» من باب الافعال وهو بمعنى التفعيل بمعنييه السابقين ، وأخرج ابن الأنباري عن محمد بن السميفع اليماني ، ويزيد البربري أنهما قرآ «ننحيك» بالحاء المهملة ونسبت إلى أبي بن كعب ، وأبي السمال أي نجعلك في ناحية ونلقيك على الساحل. وقرأ أبو حنيفة رضي اللّه تعالى عنه «بأبدانك» على صيغة الجمع بجعل كل عضو بمنزلة البدن فأطلق الكل على الجزء مجازا وعلى هذا جمع الإجرام في قوله :
وكم موطن لولاي طحت كما هوى بإجرامه من قلة النيق منهوي

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 173
أو بإرادة دروعك بناء على أن المخذول كان لابسا درعا على درع. وأخرج ابن الأنباري عن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه أنه قرأ «بندائك» أي بدعائك لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً أي لتكون لمن يأتي بعدك من الأمم إذا سمعوا حال أمرك ممن شاهد حالك وما عراك عبرة ونكالا من الطغيان أو حجة تدلهم على أن الإنسان وإن بلغ الغاية القصوى من عظم الشأن وعلو الكبرياء وقوة السلطان فهو مملوك مقهور بعيد عن مظان الألوهية والربوبية ، وقيل : المراد بمن خلفه من بقي بعده من بني إسرائيل أي لتكون لهم علامة على صدق موسى عليه السلام إذا كان في نفوسهم من عظمته ما خيل إليه أنه لا يهلك فكذبوا لذلك خبر موسى عليه السلام بهلاكه حتى عاينوه على ممرهم من الساحل أحمر قصيرا كأنه ثور وروي هذا عن مجاهد. وقرىء «لمن خلفك» فعلا ماضيا أي حل مكانك ، ونسب إلى ابن السميقع ، وأبي السمال أنهما أيضا قرآ «لمن خلقك» بفتح اللام والقاف أي لتكون لخالقك آية كسائر الآيات فإن إفراده سبحانه إياك بالإلقاء إلى الساحل دليل على أنه قصد منه جل شأنه لكشف تزويرك وإماطة الشبهات في أمرك وبرهان نير على كمال علمه وقدرته وحكمته وإرادته وهو معنى لا بأس به يصح أن توجه به الآية على القراءة المشهورة أيضا.
ذكر في النشر أن مما لا يوثق بنقله قراءة ابن السميقع ، وأبي السمال «ننحيك» بالحاء و«لمن خلقك» بالقاف ، وفي تعليل تنجيته بما ذكر كما قاله بعض المحققين إيذان بأنها ليست لإعزازة أو لفائدة أخرى عائدة إليه بل لكمال الاستهانة به وتفضيحه على رؤوس الأشهاد وزيادة تفظيع حاله كمن يقتل ثم يجر جسده في الأسواق ويطرح جيفة في الميدان أو يدار برأسه في النواحي والبلدان ، واللام الأولى متعلقة بالفعل قبلها والثانية بمحذوف وقع حالا من «آية» أي كائنة لمن خلقك ، وجاد الرد على هذا المخذول على طرز ما أتى به في قوله : آمَنْتُ أَنَّهُ إلخ في اشتماله على المبالغة كما لا يخفى على من تفكر في الآية ، وقد قرر فحوى المحكي بقوله سبحانه : وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ أي لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها ، وهو اعتراض تذييلي جيء به عند الحكاية لذلك ، ولهذه الآية وأشباهها وقع الإجماع على كفر المخذول وعدم قبول إيمانه ، ويشهد لذلك أيضا ما
رواه ابن عدي ، والطبراني من أنه صلّى اللّه عليه وسلم قال : «خلق اللّه تعالى يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنا وخلق فرعون في بطن أمه كافرا»
فهو من أهل النار المخلدين فيها بلا ريب وبذلك قال الشيخ الأكبر قدس سره في أول كتابه الفتوحات في الباب الثاني والستين منه حيث ذكر أن الذين خذلهم اللّه تعالى من العباد جعلهم طائفتين ، طائفة لا تضرهم الذنوب التي وقعت منهم وإليهم الإشارة بقوله تعالى : وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا [البقرة : 268] وهؤلاء لا تمسهم النار بما تاب اللّه تعالى عليهم واستغفار الملأ الأعلى ودعائهم لهم.
وقسم الطائفة الأخرى إلى قسمين قسم أخرجهم من النار بالشفاعة هم طائفة من المؤمنين وأهل التوحيد ماتوا ولم تكفر عنهم خطاياهم ، وقسم آخر أبقاهم في النار وهم المجرمون خاصة الذين يقال لهم يوم القيامة : وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس : 59] ولهم يقال : أهل النار لأنهم الذين يعمرونها ، وهم على أربع طوائف كلهم في النار لا يخرجون منها. الطائفة الأولى المتكبرون على اللّه تعالى كفرعون وأشباهه ممن ادعى الربوبية لنفسه ونفاها عن اللّه تعالى فقال : ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص : 38] وقال : أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات : 24] يريد به ما في السماء غيري وكذلك نمرود وغيره.
والثانية المشركون وهم الذين أثبتوا اللّه تعالى إلا أنهم جعلوا معه آلهة أخرى وقالوا : ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر : 3] والثالثة المعطلة وهم الذين نفوا الإله جملة واحدة فلم يثبتوا للعالم إلها أصلا. والرابعة المنافقون وهم الذين أظهروا الإيمان للقهر الذي حكم عليهم وهم في نفوسهم على ما هم عليه من اعتقاد إحدى هذه

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 174
الطوائف الثلاث فهؤلاء الأصناف الأربعة هم أهل النار الذين لا يخرجون منها من الجن والإنس انتهى. وهو صريح فيما قلنا إلا أنه ذهب في موضع آخر من الكتاب المذكور إلى خلافه فقال في الباب السابع والستين ومائة ما حاصله :
إن اللّه تعالى لما علم أنه قد طبع على كل قلب مظهر للجبروت والكبرياء وأن فرعون في نفسه أذل الأذلاء أمر موسى وهارون عليهما السلام أن يعاملاه بالرحمة واللين لمناسبة باطنه واستنزال ظاهره من جبروته وكبريائه فقال سبحانه : فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه : 44] ولعل وعسى من اللّه تعالى واجبتان فتذكر بما يقابله من اللين والمسكنة ما هو عليه في باطنه ليكون الظاهر والباطن على السواء فما زالت تلك الخميرة معه تعمل في باطنه مع الترجي الإلهي الواجب فيه وقوع المترجى ويتقوى حكمها إلى حين انقطاع يأسه من اتباعه وحال الغرق بينه وبين أطماعه لجأ إلى ما كان مستترا في باطنه من الذلة والافتقار ليتحقق عند المؤمنين وقوع الرجاء الإلهي فقال : آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فرفع الاشكال من الاشكال كما قالت السحرة لما آمنت : آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ [الأعراف : 121 ، 122] أي الذي يدعوان إليه فجاءت بذلك لدفع الارتياب ورفع الإشكال ، وقوله : وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ خطاب منه للحق تعالى لعلمه أنه سبحانه يسمعه ويراه فخاطبه الحق بلسان الغيب وسمعه الآن أظهرت ما قد كنت تعلمه وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين لأتباعك ، وما قال له وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فهي كلمة بشرى له عرفنا بها لنرجو رحمته مع إسرافنا وإجرامنا ثم قال سبحانه :
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً يعني لتكون النجاة لمن يأتي بعدك آية أي علامة إذا قال ما قال ما قلته تكون له النجاة مثل ما كانت لك ، وما في الآية أن بأس الآخرة لا يرتفع وأن إيمانه لم يقبل وإنما فيها أن بأس الدنيا لا يرتفع عمن نزل به إذا آمن في حال نزوله إلا قوم يونس عليه السلام فقوله سبحانه : فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ بمعنى أن العذاب لا يتعلق إلا بظاهرك وقد أريت الخلق نجاته من العذاب فكان ابتداء الغرق عذابا فصار الموت فيه شهادة خالصة بريئة لم يتخللها معصية فقبض على أفضل عمل وهو التلفظ بالإيمان كل ذلك حتى لا يقنط أحد من رحمة اللّه تعالى والأعمال بخواتيمها فلم يزل الإيمان باللّه تعالى يجول في باطنه وقد حال الطابع الإلهي الذاتي في الخلق بين الكبرياء واللطائف الإنسانية فلم يدخلها قط كبرياء ، وأما قوله تعالى : فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غافر :
85] فكلام محقق في غاية الوضوح فإن النافع هو اللّه تعالى فما نفعهم إلا هو سبحانه ، وقوله عز وجل : سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ [غافر : 85] فيعني بذلك الإيمان عند رؤية البأس الغير المعتاد ، وقد قال تعالى : وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً فغاية هذا الإيمان أن يكون كرها وقد أضافه الحق سبحانه إليه والكراهة محلها القلب والإيمان كذلك واللّه تعالى لا يأخذ العبد بالأعمال الشاقة عليه من حيث ما يجده من المشقة فيها بل يضاعف له فيها الأجر ، وأما في هذا الموطن فالمشقة منه بعيدة بل جاء طوعا في إيمانه وما عاش بعد ذلك بل قبض ولم يؤخر لئلا يرجع إلى ما كان عليه من الدعوى ولو قبض ركاب البحر الذين قال سبحانه فيهم : ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء : 67] عند نجاتهم لماتوا موحدين وقد حصلت لهم النجاة ، ثم قوله تعالى في تتميم قصته هذه :
وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ على معنى قد ظهرت نجاتك آية أي علامة على حصول النجاة فغفل أكثر الناس عن هذه الآية فقضوا على المؤمن بالشقاء ، وأما قوله تعالى : فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [هود : 98] فليس فيه أنه يدخلها معهم بل قال جل وعلا : أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غافر : 46] ولم يقل أدخلوا فرعون وآله ، ورحمة اللّه تعالى أوسع من أن لا يقبل إيمان المضطر وأي اضطرار أعظم من اضطرار فرعون في حال الغرق؟ واللّه تبارك وتعالى يقول : أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل : 62] فقرن للمضطر إذا دعاه بالإجابة

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 175
وكشف السوء عنه ، وهذا آمن للّه تعالى خالصا وما دعاه في البقاء في الحياة الدنيا خوفا من العوارض وأن يحال بينه وبين هذا الإخلاص الذي جاءه في هذه الحال فرجح جانب لقاء اللّه تعالى على البقاء بالتلفظ بالإيمان وجعل ذلك الغرق نكال الآخرة والأولى فلم يكن عذابه أكثر من غم الماء الأجاج وقبضه على أحسن صفة ، وهذا هو الذي يعطيه ظاهر اللفظ وهو معنى قوله تعالى : إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى [النازعات : 26] يعني في أخذه نكال الآخرة والأولى.
وقدم سبحانه : ذكر الآخرة على الأولى ليعلم أن ذلك العذاب أعني عذاب الغرق هو نكال الآخرة وهذا هو الفضل العظيم انتهى ، وهو نص في إيمانه بل في كونه من الشهداء بناء على أن الموت غرقا شهادة للمؤمنين كما أجمع عليه أئمة الدين على خلاف في موت من قصر في تعلم السباحة غريقا هل يعد شهادة أم لا؟ فإن بعض الشافعية ذهب إلى أن المقصر المذكور إذا مات غريقا مات عاصيا لا شهيدا ، وإنما الشهيد من مات كذلك وكان عارفا بالسباحة أو غير مقصر في تعلمها لكن لا يتعلم وكأن الشيخ قدس سره لا يقول بهذا التفصيل أو كان يعلم أن فرعون كان ممن يعلم السباحة أو ممن لم يقصر في تعلمها أو أنه يقول : إن الإيمان كفر عنه كل معصية قبله ومن جملة ذلك معصية التقصير مثلا التي هي دون قوله : أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات : 24] وما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص : 38] بألف ألف مرتبة لكن لا أدري هل الغريق شهيد في شريعة موسى عليه السلام كما هو كذلك في شريعتنا أم هذا الأمر من خواص هذه الشريعة التي أنعم اللّه تعالى على أهلها بما أنعم كرامة لنبيها صلّى اللّه عليه وسلم ، وقد ذهب قدس سره في كتابه فصوص الحكم إلى نحو ما ذهب إليه أخيرا في كتابه الفتوحات ، وقد اعترض عليه بذلك غير واحد وهو عندي ليس بأعظم من قوله قدس سره بإيمان قوم نوح عليه السلام وكثير من أضرابهم ونجاتهم يوم القيامة وقد نص على ذلك في الفصوص ، والعجب أنه لم يكثر معترضوه في ذلك كثرتهم في القول بإيمان فرعون وقد انتصر له بعض الناس ومنهم في المشهور الجلال الدواني وله رسالة في ذلك أتى فيها بما لا يعد شيئا عند أصاغر الطلبة ، لكن في تاريخ حلب للفاضل الحلبي كما قال مولانا الشهاب إنها ليست للجلال وإنما هي لرجل يسمى محمد بن هلال النحوي وقد ردها القزويني وشنع عليه وقال : إنما مثله مثل رجل خامل الذكر لما قدم مكة بال في زمزم ليشتهر بين الناس ، وفي المثل خالف
تعرف ، ويؤيد كونها ليست للجلال أنه شافعي المذهب كما يشهد لذلك حاشيته على الأنوار. وفي فتاوى ابن حجر أن بعض فقهائنا كفر من ذهب إلى إيمان فرعون مع ما عليه تلك الرسالة من اختلال العبارة وظهور الركاكة وعدم مشابهتها لسائر تأليفاته ، ولولا خوف الإطالة لسردتها عليك ، وبالجملة ظواهر الآي صريحة في كفر فرعون وعدم قبول إيمانه ، ومن ذلك قوله سبحانه : وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطان ُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
[العنكبوت : 38 - 40] فإنه ظاهر في استمرار فرعون على الكفر والمعاصي الموجبة لما حل به كما يدل عليه التعبير بكان والفعل المضارع ومع الإيمان لا استمرار ، على أن نظمه في سلك من ذكر معه ظاهر أيضا في المدعى. وألحق بعضهم بذلك قوله تعالى : يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ [طه : 39] بناء على أن عَدُوٌّ صفة مشبهة وهي للثبوت فيدل على ثبوت عداوته للّه تعالى وعداوته لرسوله عليه السلام وثبوت إحدى العداوتين كاف في سوء حاله خلافا لمن وهم ، وقد صرحوا أيضا بأن إيمان البأس واليأس غير مقبول ولا شك أن إيمان المخذول كان من ذلك القبيل وإنكاره مكابرة ، وقد حكي إجماع الأئمة

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 176
المجتهدين على عدم القبول ومستندهم فيه الكتاب والسنة ، وما ينقل عن الإمام مالك من القبول لم يثبت عند المطلعين على أقوال المجتهدين واختلافاتهم. نعم صرح الإمام القاضي عبد الصمد من ساداتنا الحنفية في تفسيره بأن مذهب الصوفية أن الإيمان ينتفع به ولو عند معاينة العذاب ، وهذا الإمام متقدم على الشيخ الأكبر قدس سره بنحو مائة سنة ، وحينئذ تشكل حكاية الإجماع إلا أن يقال : بعدم تسليم صحة ذلك عن الصوفية الذين هم من أهل الاجتهاد المعول عليهم لما فيه من المخالفة للأدلة الظاهرة في عدم النفع فلا يخل ذلك بالإجماع بالإجماع. وفي الزواجر أنه على تقدير التسليم لا يضرنا ذلك في دعوى إجماع الأمة على كفر
فرعون لأنا لم نحكم بكفره لأجل إيمانه عند البأس فحسب بل لما انضم إليه من أنه لم يؤمن باللّه تعالى إيمانا صحيحا بل كان تقليدا محضا بدليل قوله : إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ فكأنه اعترف بأنه لا يعرف اللّه تعالى وإنما سمع من بني إسرائيل أن للعالم إلها فآمن بذلك الإله الذي سمع بني إسرائيل يقرون بوجوده وهذا هو محض التقليد الذي لا يقبل لا سيما من مثل فرعون الذي كان دهريا منكرا لوجود الصانع فإنه لا بد له من برهان قطعي يزيل ما هو عليه من الاعتقاد الخبيث البالغ نهاية القبح والفحش ، وأيضا لا بد في إسلام الدهري ونحوه ممن كان قد دان بشيء أن يقر ببطلان ذلك الشيء الذي كفر به فلو قال : آمنت بالذي لا إله غيره لم يكن مسلما ، وفرعون لم يعترف ببطلان ما كان كفر به من نفي الصانع وادعاء الإلهية لنفسه الخبيثة ، وقوله : إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ لا يدرى ما الذي أراد به فلذا صرح الأئمة بأن آمنت بالذي لا إله غيره لا يحصل الإيمان للاحتمال فكذا ما قاله ، وعلى التنزيل فالإجماع منعقد على أن الإيمان باللّه تعالى مع عدم الإيمان بالرسول لا يصح فلو سلمنا أن فرعون آمن باللّه تعالى إيمانا صحيحا فهو لم يؤمن بموسى عليه السلام ولا تعرض له أصلا فلم يكن إيمانه نافعا ، ألا ترى أن الكافر لو قال ألوفا من المرات أشهد أن لا إله إلا اللّه أو إلا الذي آمن به المسلمون لا يكون مؤمنا حتى يقول وأن محمدا رسول اللّه.
والسحرة تعرضوا في إيمانهم للإيمان بموسى عليه السلام بقولهم : آمنا برب العالمين رب موسى وهارون فلا يقال :
إن إيمان فرعون طرز إيمانهم لذلك على أن إيمانهم حين آمنوا كان بمعجزة موسى عليه السلام والإيمان باللّه تعالى مع الإيمان بمعجزة الرسول إيمان بالرسول فهم آمنوا بموسى عليه السلام بخلاف فرعون فإنه لم يتعرض للإيمان به عليه السلام أصلا بل في ذكره بني إسرائيل دونه مع أنه الرسول العارف بالإله وما يليق به والهادي إلى طريقه إشارة ما إلى بقائه على كفره به.
وما ذكره الشيخ الأكبر قدس سره في توجيه آية حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ إلخ خارج عن ذوق الكلام العربي وتجشم تكلف لا معنى له ، ويرشدك إلى بعض ذلك أنه قدس سره حمل قوله تعالى : آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ إلخ على العتب والبشرى ، مع أنه لا يخفى أنه لو صح إيمانه وإسلامه لكان الأنسب بمقام الفضل الذي إليه طمح نظر الشيخ أن يقال له : الآن نقبلك ونكرمك لاستلزام صحة إيمانه رضا الحق عنه ومن وقع له الرضا لا يخاطب بمثل ذلك الخطاب كما لا يخفى على من له وقوف على أساليب كلام العرب ومحاوراتهم ، وأيضا كيف يخاطب بمثل ذلك الخطاب كما لا يخفى على من له وقوف على أساليب كلام العرب ومحاوراتهم ، وأيضا كيف يخاطب من محا الإيمان عصيانه وإفساده بما هو ظاهر في التأنيب المحض والتقريع الصرف والتوبيخ البحت فما ذلك إلا لإقامة أعظم نواميس الغضب عليه وتذكيره بقبائحه التي قدمها وإعلامه بأنها هي التي منعته عند النطق بالإيمان إلى حيث لا ينفعه وكذا تأويله فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ [غافر : 85] بأن النافع هو اللّه تعالى مع أن اصطلاح الكتاب والسنة نسبة الأشياء إلى أسبابها إيجابا وسلبا ، فإذا قيل : لا ينفع الإيمان فليس معناه الشرعي إلا الحكم عليه بأنه باطل لا يعتد به وأي معنى سوغ تخصيص نفع اللّه تعالى بهذه الحالة التي هي حالة وقوع العذاب مع النظر إلى ما هو الواقع من أن اللّه تعالى هو النافع حقيقة في كل وقت ولو نفعهم لما استأصلهم بالعذاب ، وقوله تعالى : وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ [غافر : 78] دليل

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 177
واضح على أن المراد فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ [غافر : 85] أنهم باقون مع ذلك الإيمان على الكفر إلى غير ذلك مما لا يخفى على الناظر في كلامه قدس سره ، فالذي ينبغي أن يعول عليه ما ذهب أولا إليه ، وقد قالوا : إذا اختلف كلام إمام يؤخذ منه بما يوافق الأدلة الظاهرة ويعرض عما خالفها ، ولا شك أن ما ذهب إليه أولا هو الموافق لذلك ، على أنه لو لم يكن له قدس سره إلا القول بقبول إيمانه لا يلزمنا اتباعه في ذلك والأخذ به لمخالفته ما دل عليه الكتاب والسنة وشهدت به أئمة الصحابة والتابعين فمن بعدهم من المجتهدين ، وجلالة قائله لا توجب القبول ، فقد قال مالك ، وغيره : ما من أحد إلا مأخوذ من قوله ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر يعني النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، وعن علي كرم اللّه تعالى وجهه : لا تنظر إلى من قال وانظر إلى ما قال ،
وكأن الشيخ قدس سره قال ذلك من طريق النظر والنظر يخطىء ويصيب ، وعن علم أن للنبي عليه الصلاة والسلام اجتهادا جاء الوحي بخلافه لم يستعظم ما قيل في الشيخ وإن كان هو - هو - على أنه لو كان قال ذلك من طريق الكشف إلا أنه أبدى الاستدلال تفهيما وإرشادا إلى أن فهمه لم يخالف ما يدل عليه الكتاب لم يلزمنا أيضا تقليده بل قد مر عن الإمام الرباني قدس سره أنه لا يجوز تقليد الكشف ، وصرح غير واحد بأنه ليس بحجة على الغير كالإلهام ولا يثبت به حكم شرعي.
وأنت تعلم أنه لو كان كل من القولين من طريق الكشف يلزم انقسام الكشف إلى صواب وخطأ كالنظر ضرورة عدم اجتماع الإيجاب والسلب على الكذب ولا على الصدق وهو ظاهر ، وقد قال بعضهم : بالانقسام ويخفى وجهه ، ومن الناس من أول كلام الشيخ المثبت لقبول الإيمان بأن المراد بفرعون فيه النفس الأمارة وبموسى وهارون المأمورين بالقول اللين موسى الروح وهارون القلب وأخذ يقرر الكلام على هذا السنن ، ولا يخفى أن ارتكاب ذلك على ما فيه من التكلف الظاهر الكلف في كلام الشيخ ما يأباه ولعله خلاف مطمح نظره ولذلك لم يرتكبه أجلة أصحابه بل أبقوا كلامه على ظاهره وهو الظاهر ، وإكفار بعض المنكرين له فيه ضلال وأي ضلال وظلم عظيم موجب للنكال ، فإن له قدس سره في ذلك مستندا كغيره المقابل له وإن اختلفا في القوة والضعف ، على أن الوقوف على حقيقة هذه المسألة ليس مما كلفنا به فلا يضر الجهل بها في الدين واللّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ كلام مستأنف سيق لبيان النعم الفائضة عليهم أثر نعمة الإنجاء على وجه الإجمال وإخلالهم بشكرها ، وبوأ بمعنى أنزل كأباء والاسم منه البيئة بالكسر كما في القاموس ، وجاء بوأه منزلا وبوأه في منزل وكذا بوأت له مكانا إذا سويته ، وهو مما يتعدى لواحد ولاثنين أي أنزلناهم بعد أن أنجيناهم وأهلكنا أعداءهم مُبَوَّأَ صِدْقٍ أي منزلا صالحا مرضيا وهو اسم مكان منصوب على الظرفية ، ويحتمل المصدرية بتقدير مضاف أي بمكان مبوأ وبدونه ، وقد يجعل مفعولا ثانيا ، وأصل الصدق ضد الكذب لكن جرت عادة العرب على أنهم إذا مدحوا شيئا أضافوه إلى الصدق فقالوا : رجل صدق مثلا إذا كان كاملا في صفته صالحا للغرض المطلوب منه كأنهم لاحظوا أن كل ما يظن به فهو صادق ، والمراد بهذا المبوأ كما رواه ابن المنذر.
وغيره عن الضحاك الشام ومصر ، فإن بني إسرائيل الذين كانوا في زمان موسى عليه السلام وهم المرادون هنا ملكوا ذلك حسبما ذهب إليه جمع من الفضلاء.
وأخرج أبو الشيخ ، وغيره عن قتادة أن المراد به الشام وبيت المقدس واختاره بعضهم بناء على أن أولئك لم يعودوا إلى مصر بعد ذلك ، وأنت تعلم أنه ينبغي أن يراد ببني إسرائيل عن القولين ما يشمل ذريتهم بناء على أنهم ما دخلوا الشام في حياة موسى عليه السلام وإنما دخلها أبناؤهم وقد تقدم لك ما يتعلق بهذه المقام فتذكره.
وقيل : المراد به أطراف المدينة إلى جهة الشام ، وببني إسرائيل بنو إسرائيل الذين كانوا على عهد نبينا عليه أفضل الصلاة وأكمل السلام وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي اللذائذ قيل : وقد يفسر بالحلال فَمَا اخْتَلَفُوا في

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 178
أمور دينهم بل كانوا متبعين أمر رسولهم عليه السلام حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ أي إلا بعد ما علموا بقراءة التوراة والوقوف على أحكامها ، وقيل : المعنى ما اختلفوا في أمر محمد صلّى اللّه عليه وسلم إلا بعد ما علموا صدق نبوته بنعوته المذكورة في كتابهم وتظاهر معجزاته ، وهو ظاهر على القول الأخير في المراد من بني إسرائيل المبوئين ، وأما على القول الأول ففيه خفاء لأن أولئك المبوئين الذين كانوا في عصر موسى عليه السلام لم يختلفوا في أمر نبينا صلّى اللّه عليه وسلم ضرورة لينسب إليهم ذلك الاختلاف حقيقة ، وليس هذا نظير قوله تعالى : وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [الأعراف : 141] الآية ولا قوله سبحانه : فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ [البقرة : 91] ليعتبر المجاز ، وزعم الطبرسي أن المعنى أنهم كانوا جميعا على الكفر لم يختلفوا فيه حتى أرسل إليهم موسى عليه السلام ونزلت التوراة فيها حكم اللّه تعالى فمنهم من آمن ومنهم من أصر على كفره وليس بشيء أصلا كما لا يخفى إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فيميز بين المحق والمبطل بالإثابة والعقوبة فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ أي في شك ما يسير ، والخطاب قيل : له صلّى اللّه عليه وسلم والمراد إن كنت في ذلك على سبيل الفرض والتقدير لأن الشك لا يتصور منه عليه الصلاة والسلام لانكشاف الغطاء له ولذا عبر - بإن - التي تستعمل غالبا فيما لا تحقق له حتى تستعمل في المستحيل عقلا وعادة كما في قوله سبحانه : قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ [الزخرف : 81] وقوله تعالى : فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ [الأنعام : 35] وصدق الشرطية لا يتوقف على وقوعها كما هو ظاهر والمراد بالموصول القصص ، أي إن كنت في شك من القصص المنزلة إليك التي من جملتها قصة فرعون وقومه وأخبار بني إسرائيل فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ فإن ذلك محقق عندهم ثابت في كتبهم حسبما أنزلناه إليك ، وخصت القصص بالذكر لأن الأحكام المنزلة إليه عليه الصلاة والسلام ناسخة لأحكامهم مخالفة لها فلا يتصور سؤالهم عنها ، والمراد بالكتاب جنسه فيشمل التوراة والإنجيل وهو المروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، ويؤيده أنه قرىء «الكتب» بالجمع ، وفسر الموصول بمن لم يؤمن من أهل الكتاب لأن إخبارهم بما يوافق ما أنزل المترتب على السؤال أجدى في المقصود ، وفسره بعضهم بالمؤمنين منهم كعبد اللّه بن سلام. وتميم الداري ونسب ذلك إلى ابن عباس والضحاك ومجاهد.
وتعقب بأن ابن سلام وغيره إنما أسلموا بالمدينة وهذه السورة مكية ، وينبغي أن يكون المراد الاستدلال على حقية المنزل والاستشهاد بما في الكتب المتقدمة على ما ذكر وأن القرآن مصدق لها ، ومحصل ذلك أن الفائدة دفع الشك إن طرأ لأحد غيره صلّى اللّه عليه وسلم بالبرهان أو وصف أهل الكتاب بالرسوخ في العلم بصحة نبوته صلّى اللّه عليه وسلم وتوبيخهم على ترك الإيمان أو تهييج الرسول عليه الصلاة والسلام وزيادة تثبيته ، وليس الغرض إمكان وقوع الشك له صلّى اللّه عليه وسلم أصلا ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام حين جاءته الآية على ما أخرج عبد الرزاق ، وابن جرير عن قتادة : «لا أشك ولا أسأل».
وزعم الزجاج أن إن نافية وقوله سبحانه : فَسْئَلِ جواب شرط مقدر أي ما كنت في شك مما أنزلنا إليك فإن أردت أن تزداد يقينا فاسأل وهو خلاف الظاهر وفيما ذكر غنى عنه ، ومثله ما قيل : إن الشك بمعنى الضيق والشدة بما يعاينه صلّى اللّه عليه وسلم من تعنت قومه وأذاهم أي إن ضقت ذرعا بما تلقى من أذى قومك وتعنتهم فاسأل أهل الكتاب كيف صبر الأنبياء عليهم السلام على أذى قومهم وتعنتهم فاصبر كذلك بل هو أبعد جدا من ذلك ، وقيل : الخطاب له صلّى اللّه عليه وسلم والمراد به أمته أو لكل من يسمع أي إن كنت أيها السامع في شك مما أنزلنا على لسان نبينا إليك فاسأل ، أَنْزَلْنا إِلَيْكَ على هذا نظير قوله سبحانه : وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً [النساء : 174] وفي جعل القراءة صلة الموصول إشارة إلى أن الجواب لا يتوقف على أكثر منها ، وفي الآية تنبيه على أن من خالجته شبهة في الدين ينبغي له

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 179
مراجعة من يزيلها من أهل العلم بل المسارعة إلى ذلك حسبما تدل عليه الفاء الجزائية بناء على أنها تفيد التعقيب لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ الواضح الذي لا محيد عنه ولا ريب في حقيته مِنْ رَبِّكَ القائم بما يصلح شأنك فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ أي بالتزلزل عما أنت عليه من الحزم واليقين ودم على ذلك كما كنت من قبل ، والامتراء الشك والتردد وهو أخف من التكذيب فلذا ذكر أولا ، وعقب بقوله سبحانه : وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ أي بشيء منها فَتَكُونَ بذلك مِنَ الْخاسِرِينَ أنفسا وأعمالا ، والتعبير بالخاسرين أظهر في التحذير من التعبير بالكافرين ، وفائدة النهي في الموضعين التهييج والإلهاب نظير ما مر ، والمراد بذلك إعلام أن الامتراء والتكذيب قد بلغا في القبح والمحذورية إلى حيث ينبغي أن ينهى عنهما من لا يمكن أن يتصف بهما فكيف بمن يمكن اتصافه وفيه قطع لأطماع الكفرة.
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ إلخ بيان لمنشأ إصرار الكفرة على ما هم عليه من الكفر والضلال إلى حيث لا ينتفعون بالإيمان أي إن الذين ثبتت عليهم كَلِمَتُ رَبِّكَ أي حكمه وقضاؤه المفسر عند الأشاعرة بإرادته تعالى الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال بأنهم يموتون على الكفر أو يخلدون في النار لا يُؤْمِنُونَ إذ لا يمكن أن ينتقض قضاؤه سبحانه وتتخلف إرادته جل جلاله لَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ واضحة المدلول مقبولة لدى العقول حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ الإغراق ونحوه وحينئذ يقال لهم - الصيف ضيعت اللبن - وفسر الزمخشري بقول اللّه تعالى الذي كتبه في اللوح وأخبر سبحانه به الملائكة أنهم يموتون كفارا وجعل تلك كتابة معلوم لا كتابة مقدر ومراد ، ولا ضير في تفسير الكلمة بذلك إلا أن جعل الكتابة كتابة معلوم لا كتابة مقدر ومراد مبني على مذهب الاعتزال ، والذي عليه أهل السنة أن أفعال العباد بأسرها معلومة له تعالى ومرادة ولا يكون إلا ما أراده سبحانه ، وعلمه عز شأنه وإرادته متوافقان ولا تجوز المخالفة بينهما ولا يتعلق علمه سبحانه إلا بما عليه الشيء في نفسه ولا يريد إلا ما علم ولا يقدر إلا ما يريد ولا جبر هناك ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين ، وفسره المولى الكوراني في شرحه للمقدمات الأربع المذكورة في توضيح الأصول بأن العبد مجبور باختياره وفصله بما لا مزيد عليه ، وبإثبات الاستعداد وأنه غير مجعول تتضح الحجة البالغة وبسط الكلام في علم الكلام ، وقد تقدم بعض ما ينفع في هذا المقام ، وإن أردت ما يطمئن به الخاطر وتنشرح له الضمائر فعليك برسائل ذلك المولى في هذا الشأن فإنها واضحة المسالك في تحصيل الإيقان فَلَوْ لا كانَتْ كلام مستأنف لتقرير هلاكهم ولولا هنا تحضيضية فيها معنى التوبيخ كهلا ومثلها ما في قول الفرزدق :
تعدون عقر النيب أفضل مجدكم بني ضوطرى لولا الكميّ المقنعا
ويشهد لذلك قراءة أبي وابن مسعود رضي اللّه تعالى عنهما «فهلا» ، والتوبيخ على ما نقل عن السفاقسي على ترك الإيمان المذكور بعد ، «وكان» كما اختاره بعض المحققين ناقصة ، وقوله تعالى : قَرْيَةٌ اسمها ، وجملة قوله سبحانه : آمَنَتْ خبرها ، وقوله جل شأنه : فَنَفَعَها إِيمانُها معطوف على الخبر ، أي فهلا كانت قرية من القرى التي أهلكت هلاك الاستئصال آمنت قبل معاينة العذاب ولم تؤخر إيمانها إلى حين معاينته كما أخر فرعون إيمانه فنفعها ذلك بأن يقبله اللّه تعالى منها ، ويكشف بسببه العذاب عنها ، وذهب السمين وغيره إلى أنها تامة وقَرْيَةٌ فاعلها وجملة آمَنَتْ صفة «ونفعها» معطوفة عليها. وتعقب بأنه يلزم حينئذ أن يكون التحضيض والتوبيخ على الوجود مع أنه ليس بمراد. وأجيب بأنه لا مانع من أن يكون التحضيض على الصفة وحينئذ لا غبار على ما قيل ، وأيا ما كان

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 180
فالمراد بالقرية أهلها مجازا شائعا والقرينة هنا أظهر من أن تخفى ، وقوله تبارك وتعالى : إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ استثناء منقطع كما قال الزجاج وسيبويه والكسائي. وأكثر النحاة أي لكن قوم يونس لَمَّا آمَنُوا عند ما رأوا أمارات العذاب ولم يؤخروا إلى حلوله كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ أي الذل والهوان فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بعد ما أظلهم وكاد ينزل بهم وَمَتَّعْناهُمْ بمتاع الدنيا بعد كشف العذاب عنهم إِلى حِينٍ أي زمان من الدهر مقدر لهم في علم اللّه تعالى. ونقل عن ابن عباس أن المراد إلى يوم القيامة فهم اليوم أحياء إلا أن اللّه تعالى سترهم عن الناس على حد ما يقال في الخضر عليه السلام ، ورأيت في بعض الكتب ما يوافقه إلا أنه ذكر فيه أنهم يظهرون أيام المهدي ويكونون من جملة أنصاره ثم يموتون والكل مما لا صحة له. وقال آخرون : الاستثناء متصل ، ويراد من القرية أهلها المشرفون على الهلاك.
وقيل : العاصون ويعتبر النفي الذي يشعر به التحضيض وهو مشعر بالأمر أيضا ولذا جعلوه في حكمه إلا أنه لا يصح اعتباره على تقدير الاتصال لما يلزمه من كون الإيمان من المستثنين غير مطلوب وهو غير مطلوب بل فاسد ، وقيل : لا مانع من ذلك على ذلك التقدير لأن أهل القرى محضوضون على الإيمان النافع وليس قوم يونس محضوضين عليه لأنهم آمنوا ، والذوق يأبى إلا اعتبار النفي فقط حال اعتبار الاتصال» ويكون قوله سبحانه : لَمَّا آمَنُوا استئنافا لبيان نفع إيمانهم. وقرىء «إلا قوم» بالرفع على البدل من قرية المراد بها أهلها ، وأيد بذلك القول بالاتصال واعتبار النفي لأن البدل لا يكون إلا في غير الموجب ، وخرج بعضهم هذه القراءة على أن إِلَّا بمعنى غير وهي صفة ظهر إعرابها فيما بعدها كما في قوله على رأي :
وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان
وظاهر كلامهم أن الاستثناء مطلقا من قرية ، وعن الزمخشري أنه على الأول من القرية لا من الضمير في آمَنَتْ وعلل بأن المنقطع بمعنى لكن فيتوسط بين الكلامين المتغايرين فلا يعتمد ما لا يستقل ولأنه لا مدخل للوصف أعني الإيمان في المستثنى منه فالاستثناء عن أصل الكلام ، وأما على الثاني فهو استثناء من الضمير من حيث المعنى جعل في اللفظ منه أو من القرية إذ لا فرق في قولك : كان القوم منطلقين إلا زيدا بين جعله من الاسم أو من الضمير في الخبر لأن الحكم إنما يتم بالخبر ، وإنما الفرق في نحو ضربت القوم العالمين إلا زيدا ، ثم قال : ونظير هذا في الوجهين قوله تعالى : إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ [الحجر : 58 ، 59] ووجه ذلك ظاهر. وفي الكشف أن وجه الشبه اختلاف معنى الهلاك على الوجهين كاختلاف معنى الإرسال هنالك على الوجهين ، وكأنه عنى بالهلاك المأخوذ قيدا في قوله فهلا كانت قرية من القرى التي أهلكناها فتدبر. وفي يُونُسَ لغات تثليث النون مهموزا وغير مهموز والمتواتر منها الضم بلا همز.
وكان من قصة هؤلاء القوم على ما روي عن غير واحد أن يونس عليه السلام بعث إلى أهل نينوى من أرض الموصل وكانوا أهل كفر وشرك فدعاهم إلى الإيمان باللّه تعالى وحده وترك ما يعبدون من الأصنام فأبوا عليه وكذبوه فأخبرهم أن العذاب مصبحهم إلى ثلاث فلما كانت الليلة الثالثة ذهب عنهم من جوف الليل فلما أصبحوا تغشاهم العذاب فكان فوق رؤوسهم ليس بينهم وبينه إلا قدر ثلثي ميل ، وجاء أنه غامت السماء غيما أسود هائلا يدخن دخانا شديدا فهبط حتى غشي مدينتهم واسودت أسطحتهم فلما أيقنوا بالهلاك طلبوا نبيهم فلم يجدوه فخرجوا إلى الصحراء بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم ولبسوا المسوح وأظهروا الإيمان والتوبة وفرقوا بين الوالدة وولدها من الناس

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 181
والدواب فجن البعض إلى البعض وعلت الأصوات وعجوا جميعا وتضرعوا إليه تعالى وأخلصوا النية فرحمهم ربهم واستجاب دعاءهم وكشف عنهم ما نزل بهم من العذاب وكان ذلك يوم عاشوراء وكان يوم الجمعة.
قال ابن مسعود : إنه بلغ من توبتهم أن ترادوا المظالم فيما بينهم حتى إن كان الرجل ليأتي إلى الحجر قد وضع أساس بنيانه عليه فيقلعه ويرده إلى صاحبه ، وجاء في رواية عن قتادة أنهم عجوا إلى اللّه تعالى أربعين صباحا حتى كشف ما نزل بهم ، وأخرج أحمد في الزهد وابن جرير وغيرهما عن ابن غيلان قال : لما غشي قوم يونس العذاب مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا : ما ترى؟ قال : قولوا : يا حي حين لا حي ويا حي محيي الموتى ويا حي لا إله إلا أنت فقالوها فكشف عنهم العذاب ، وقال الفضيل بن عياض : قالوا : اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم وأجل فافعل بنا ما أنت أهله ، ولا تفعل بنا ما نحن أهله ، وكان يونس عليه السلام إذ ذهب عنهم قعد في الطريق يسأل الخبر كما جاء مرفوعا فمر به رجل فقال له : ما فعل قوم يونس؟ فحدثه بما صنعوا فقال : لا أرجع إلى قوم قد كذبتهم وانطلق مغاضبا حسبما قصه اللّه تعالى في غير هذا الموضع مما سيأتي إن شاء اللّه تعالى ، وظاهر الآية يستدعي أن القوم شاهدوا العذاب لمكان كَشَفْنا وهو الذي يقتضيه أكثر الأخبار وإليه ذهب كثير من المفسرين ، ونفع الإيمان لهم بعد المشاهدة من خصوصياتهم فإن إيمان الكفار بعد مشاهدة ما وعدوا به إيمان بأس غير نافع لارتفاع التكليف حينئذ وعادة اللّه إهلاكهم من غير إمهال كما أهلك فرعون ، والقول بأنه بقي حيا إلى ما شاء اللّه تعالى وسكن أرض الموصل من مفتريات اليهود.
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ تحقيق لدوران إيمان جميع المكلفين وجودا وعدما على قطب مشيئته سبحانه مطلقا بعد بيان تبعية كفر الكفرة لكلمته ، ومفعول المشيئة هنا محذوف حسب المعهود في نظائره أي لو شاء سبحانه إيمان من في الأرض من الثقلين لآمن كُلُّهُمْ بحيث لا يشذ منهم أحد جَمِيعاً أي مجتمعين على الإيمان لا يختلفون فيه لكنه لم يشأ ذلك لأن سبحانه لا يشاء إلا ما يعلم ولا يعلم إلا ما له ثبوت في نفسه فيما لا ثبوت له أصلا لا يعلم وما لا يعلم لا يشاء ، وإلى هذا التعليل ذهب الكوراني عليه الرحمة وأطال الكلام في تحريره والذب عنه في غير ما رسالة ، والجمهور على أنه سبحانه لا يشاؤه لكونه مخالفا للحكمة التي عليها بناء أساس التكوين والتشريع.
والآية حجة على المعتزلة الزاعمين أن اللّه تعالى شاء الإيمان من جميع الخلق فلم يؤمن إلا بعضهم ، والمشيئة عندهم قسمان تفويضية يجوز تخلف الشيء عنها وقسرية لا يجوز التخلف عنها وحملوا ما في الآية على هذا الأخير ، فالمعنى عندهم لو شاء ربك مشيئة الجاء وقسر إيمان الثقلين لآمنوا لكنه سبحانه لم يشأ كذلك بل أمرهم بالإيمان وخلق لهم اختيار إله ولضده وفوض الأمر إليهم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وهذا دينهم في كل ما ورد عليهم من الآيات الظاهرة في إبطال ما هم عليه ، وفيه أنه لا قرينة على التقييد مع أن قوله سبحانه : أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ يأباه فيما قيل ، فإن الهمزة للإنكار وهي لصدارتها مقدمة من تأخير على ما عليه الجمهور والفاء للتفريع والمقصود تفرع الإنكار على ما قبل ولا فائدة بل لا وجه لاعتبار مشيئة القسر والإلجاء خاصة في تفرع الإنكار ، وقيل : إن الهمزة في موضعها والعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام كأنه قيل : أربك لا يشاء ذلك فأنت تكرههم حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ والإنكار متوجه إلى ترتيب الإكراه المذكور على عدم مشيئته تعالى والآباء هو الآباء فلا بد من حمل المشيئة على إطلاقها ، والمراد بالناس من طبع عليهم أو الجميع مبالغة ، وجوز في «أنت» أن يكون فاعلا بمقدر يفسره ما بعده وأن يكون مبتدأ خبره الجملة بعده ويعدونه فاعلا معنويا ، وتقديمه لتقوية حكم الإنكار كما ذهب إليه الشريف قدس سره في شرح المفتاح وذكر فيه أن المقصود إنكار صدور الفعل من المخاطب لا إنكار كونه هو الفاعل مع تقرر

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 182
أصل الفعل ، وقيل : إن التقديم للتخصيص ففيه إيذان بأن الإكراه أمر ممكن لكن الشأن في المكره من هو وما هو إلا سبحانه وحده لا يشارك فيه لأنه جل شأنه القادر على أن يفعل في قلوبهم ما يضطرهم إلى الإيمان وذلك غير مستطاع للبشر.
وَما كانَ لِنَفْسٍ بيان لتبعية إيمان النفوس التي علم اللّه تعالى إيمانها لمشيئته تعالى وجودا وعدما بعد بيان الدوران الكلي عليها كذلك ، وقيل : هو تقرير لما يدل عليه الكلام السابق من أن خلاف المشيئة مستحيل أي ما صح وما استقام لنفس من النفوس التي علم اللّه تعالى أنها تؤمن أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بمشيئته وإرادته سبحانه ، والأصل في الإذن بالشيء الإعلام بإجازته والرخصة فيه ورفع الحجر عنه ، وجعلوا ما ذكر من لوازمه كالتسهيل الذي ذكره بعضهم في تفسيره ، وخصصت النفس بالصفة المذكورة ولم تجعل من قبيل قوله تعالى : وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران : 145] قيل لأن الاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي ما كان لنفس أن تؤمن في حال من أحوالها إلا حال كونها ملابسة بإذنه سبحانه فلا بد من كون الإيمان مما يؤول إليه حالها كما أن الموت حال لكل نفس لا محيص لها عنه فلا بد من التخصيص بما ذكر ، فإن النفوس التي علم اللّه تعالى أنها لا تؤمن ليس لها حال تؤمن فيها حتى تستثنى تلك الحال من غيرها انتهى ، وقد يقال : إن هذا الاستثناء بالنظر إلى النفس التي علم اللّه تعالى أنها لا تؤمن مفيد لعدم إيمانها على أتم وجه على حد ما قيل في قوله تعالى : وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [النساء : 23] فكأنه قيل : ما كان لنفس علم اللّه تعالى أنها لا تؤمن أن تؤمن في حال من الأحوال كسلامة العقل وصحة البدن وغيرهما إلا في حال ملابستها إذن اللّه تعالى وإرادته أن تؤمن وهي تابعة لعلمه بذلك وعلمه به محال لأنه قد علم نقيضه فيلزم انقلاب العلم جهلا فتكون إرادته ذلك محالا فيكون إيمانها محالا إذ الموقوف على المحال محال.
وفي الحواشي الشهابية أن ما كانَ إن كان بمعنى ما وجد احتاج إلى تقييد النفس بمن علم أنها تؤمن وإن كان بمعنى ما صح لا يحتاج إليه ولذا ذكره من ذكره وتركه من تركه وفيه خفاء فتأمل وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ أي الكفر كما في قوله تعالى : فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التوبة : 125] بقرينة ما قبله ، وأصله الشيء الفاسد المستقذر وعبر عنه بذلك لكونه علما في الفساد والاستقذار ، وقيل : المراد به العذاب وعبر عنه بذلك لاشتراكهما في الاستكراه والتنفر ، وإن إرادة الكفر منه باعتبار أنه نقل أولا عن المستقذر إلى العذاب للاشتراك فيما ذكر ثم أطلق على الكفر لأنه سببه فيكون مجازا في المرتبة الثانية ، واختار الإمام التفسير الأول تحاشيا مما في إطلاق المستقذر على عذاب اللّه تعالى من الاستقذار وبعض الثاني لما أن كلمة عَلَى في قوله تعالى : عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ أي لا يستعملون عقولهم بالنظر في الحجج والآيات أو لا يعقلون دلائله وأحكامه لما على قلوبهم من الطبع تأبى الأول. وتعقب بأن المعنى يقدره عليهم فلا إباء ، ويفسر الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ بما يكون به تأسيسا كما سمعت في تفسيره ، ومنه تعلم أن الفعل منزل منزلة اللازم أو له مفعول مقدر ، وقد يفرق بين التفسيرين بأنهم على الأول لم يسلبوا قوة النظر لكنهم لم يوفقوا لذلك وعلى الثاني بخلافه والأمر الآتي ظاهر في الأول ، والجملة معطوفة على مقدر كأنه قيل : فيأذن لهم الإيمان ويجعل إلخ أو فيأذن لبعضهم بذلك ويجعل إلخ.
وقرىء «الرجز» بالزاي وقرأ حماد ويحيى عن أبي بكر «ونجعل» بالنون قُلِ انْظُرُوا خطاب لسيد المخاطبين صلّى اللّه عليه وسلم أن يأمر الكفرة الذين هو عليه الصلاة والسلام بين ظهرانيهم بالتفكر في ملكوت السموات والأرض وما فيهما من عجائب الآيات الآفاقية والأنفسية ليتضح له صلّى اللّه عليه وسلم أنهم من الذين لا يعقلون وكأنه متعلق بما عنده ، وتعليقه بقوله سبحانه : أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ إلخ على معنى لا تكره الناس على الإيمان ولكن اؤمرهم بما يتوصل به إليه عادة من النظر لا يخلو عن النظر ، وقيل : إنه تعالى لما أفاد فيما تقدم

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 183
أن الإيمان بخلقه سبحانه وأنه لا يؤمن إلا من بعد إذنه وأن الذين حقت عليهم الكلمة لا يؤمنون أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يأمر بالنظر لئلا يزهد فيه بعد تلك الإفادة ، وأرى الأول أولى ، وجاء ضم لام قل وكسرها وهما قراءتان سبعيتان ، وقوله سبحانه : ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ في محل نصب بإسقاط الخافض
لأن الفعل قبله معلق بالاستفهام لأن ما استفهامية وهي مبتدأ وذا بمعنى الذي والظرف صلته وهو خبر المبتدأ ، ويجوز أن يكون ماذا كله اسم استفهام مبتدأ والظرف خبره أي أي شيء بديع في السموات والأرض من عجائب صنعته تعالى الدالة على وحدته وكمال قدرته جل شأنه.
وجوز أن يكون ماذا كله موصولا بمعنى الذي وهو في محل نصب بالفعل قبله ، وضعفه السمين بأنه لا يخلو حينئذ من أن يكون النظر قلبيا كما هو الظاهر فيعدى بفي وأن يكون بصريا فيعدى بإلى. وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ أي ما تكفيهم وما تنفعهم. وقرىء بالتذكير ، والمراد بالآيات ما أشير إليه بقوله سبحانه :
ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ففيه إقامة الظاهر مقام المضمر وَالنُّذُرُ جمع نذير بمعنى أي الرسل المنذرون أو بمعنى إنذار إي الإنذارات ، وجمع لإرادة الأنواع ، وجوز أن يكون النُّذُرُ نفسه مصدرا بمعنى الإنذار ، والمراد بهؤلاء القوم المطبوع على قلوبهم أي لا يؤمنون في علم اللّه تعالى وحكمه وما نافية والجملة اعتراضية ، وجوز أن يكون في موضع الحال من ضمير قُلِ وفي القلب من جعلها حالا من ضمير انْظُرُوا شيء فانظروا ، ويتعين كونها اعتراضية إذا جعلت ما استفهامية إنكارية ، وهي حينئذ في موضع النصب على المصدرية للفعل بعدها أو على أنه مفعول به له ، والمفعول على هذا وكذا على احتمال النفي محذوف إن لم ينزل الفعل منزلة اللازم أي ما تغني شيئا فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ أي هؤلاء المأمورون بالنظر من مشركي مكة وأشرافهم إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا أي مثل وقائعهم ونزول بأس اللّه تعالى بهم إذ لا يستحقون غير ذلك ، وجاء استعمال الأيام في الوقائع كقولهم : أيام العرب ، وهو مجاز مشهور من التعبير بالزمان عما وقع فيه كما يقال : المغرب للصلاة الواقعة فيه ، والمراد بالموصول المشركون من الأمم الماضية مِنْ قَبْلِهِمْ متعلق - بخلوا - جيء به للتأكيد والإيماء بأنهم سيخلون كما خلوا قُلْ تهديدا لهم فَانْتَظِرُوا ذلك إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ إياه فمتعلق الانتظار واحد بالذات وهو الظاهر وجوز أن يكون مختلفا بالذات متحدا بالجنس أي فانتظروا إهلاكي إني معكم من المنتظرين هلاككم ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا بالتشديد ، وعن الكسائي ، ويعقوب بالتخفيف ، وهو عطف على مقدر يدل عليه قوله سبحانه : مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا وما بينهما اعتراض جيء به مسارعة إلى التهديد ومبالغة في تشديد الوعيد كأنه قيل : نهلك الأمم ثم ننجي المرسل إليهم وَالَّذِينَ آمَنُوا بهم ، وعبر بالمضارع لحكاية الحال الماضية
لتهويل أمرها باستحضار صورها ، وتأخير حكاية التنجية عن حكاية الإهلاك على عكس ما جاء في غير موضع ليتصل به قوله سبحانه : كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ أي ننجيهم إنجاء كذلك الإنجاء الذي كان لمن قبلهم على أن الإشارة إلى الإنجاء ، والجار المجرور متعلق بمقدر وقع صفة لمصدر محذوف. وجوز أن يكون الكاف في محل نصب بمعنى مثل سادة مسد المفعول المطلق. ويحتمل عند بعض أن يكون في موقع الحال من الإنجاء الذي تضمنه نُنَجِّي بتأويل نفعل الإنجاء حال كونه مثل ذلك الإنجاء وأن يكون في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك ، وحَقًّا نصب بفعله المقدر أي حق ذلك حقا ، والجملة اعتراض بين العامل والمعمول على تقدير أن يكون كَذلِكَ معمولا للفعل المذكور بعد ، وفائدتها الاهتمام بالإنجاء وبيان أنه كائن لا محالة وهو المراد بالحق ، ويجوز أن يراد به الواجب ، ومعنى كون الإنجاء واجبا أنه كالأمر الواجب عليه تعالى وإلا فلا وجوب حقيقة عليه سبحانه ، وقد صرح بأن الجملة

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 184
اعتراضية غير واحد من المعربين ويستفاد منه أنه لا بأس «1» الجملة الاعتراضية إذا بقي شيء من متعلقاتها ، وجوز أن يكون بدلا من الكاف التي هي بمعنى مثل أو من المحذوف الذي نابت عنه.
وقيل : إن كَذلِكَ منصوب - بننجي - الأول وحَقًّا منصوب بالثاني وهو خلاف الظاهر ، والمراد بالمؤمنين إما الجنس المتناول للرسل عليهم السلام وأتباعهم فقط ، وإما الأتباع فقط وإنما لم يذكر إنجاء الرسل إيذانا بعدم الحاجة إليه ، وأيّا ما كان ففيه تنبيه على أن مدار الإنجاء هو الإيمان ، وجيء بهذه الجملة تذييلا لما قبلها مقررا لمضمونه قُلْ لجميع من شك في دينك وكفر بك يا أَيُّهَا النَّاسُ أوثر الخطاب باسم الجنس مصدرا بحرف التنبيه تعميما للتبليغ وإظهارا لكمال العناية بشأن ما بلغ إليهم إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي الذي أعبد اللّه تعالى به وأدعوكم إليه ولم تعلموا ما هو ولا صفته حتى قلتم إنه صبأ.
فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ في وقت من الأوقات وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ ثم يفعل بكم ما يفعل من فنون العذاب ، وجعل هذه الجملة باعتبار مضمونها جوابا بتأويل الأخبار وإلا فلا ترتب لها على الشرط بحسب الظاهر ، فالمعنى إن كنتم في شك من ذلك فأخبركم أنه تخصيص العبادة به تعالى ورفض عبادة ما سواه من الأصنام وغيرها مما تعبدونه جهلا ، وقد كثر جعل الأخبار بمفهوم الجملة جزاء نحو إن أكرمتني اليوم فقد أكرمتك أمس ، وعلى هذا الطراز قوله تعالى : وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل : 53] فإن استقرار النعمة ليس سببا لحصولها من اللّه تعالى بل الأمر بالعكس ، وإنما سبب للإخبار بحصولها منه تعالى كما قرره ابن الحاجب.
وقد يكون المعنى إن كنتم في شك من صحة ديني وسداد فأخبركم أن خلاصته العبادة لإله هذا شأنه دون ما تعبدونه مما هو بمعزل عن ذلك الشأن فاعرضوا ذلك على عقولكم وأجيلوا فيه أفكاركم وانظروا بعين الإنصاف لتعلموا صحته وحقيته ، وذكر بعضهم أنه لا يحتاج على هذا إلى جعل المسبب الإخبار والإعلام بل يعتبر الجزاء الأمر بعرض ما ذكر على عقولهم والتفكر فيه ، والأظهر اعتبار كون الأخبار جزاء كما في المعنى الأول ، والتعبير عما هم عليه بالشك مع كونهم قاطعين بعدم الصحة للإيذان بأن أقصى ما يمكن عروضه للعاقل في هذا الباب هو الشك في الصحة وأما القطع بعدمها فما لا سبيل إليه ، وقيل : لا نسلم أنهم كانوا قاطعين بل كانوا في شك واضطراب عند رؤية المعجزات ، وجي ء - بأن - للإشارة إلا أنه مما لا ينبغي أن يكون لوجود ما يزيله.
وجوز أن يكون المعنى إن كنتم في شك من ديني ومما أنا عليه أأثبت عليه أم أتركه وأوافقكم فلا تحدثوا أنفسكم بالمحال ولا تشكوا في أمري واقطعوا عني أطماعكم واعملوا أني لا أعبد الذين تعبدون من دون اللّه ولا أختار الضلالة على الهدى كقوله تعالى : قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ [الكافرون : 1 ، 2] ولا يخفى أن ما قبل أوفق بالمقام ، وتقديم ترك عبادة غير اللّه تعالى على عبادته سبحانه لتقدم التخلية على التحلية كما في كلمة التوحيد والإيذان بالمخالفة من أول الأمر ، وتخصيص التوفي من بين سائر صفات الأفعال بالذكر متعلقا بهم للتخويف فإنه لا شيء أشد عليهم من الموت ، وقيل : المراد أعبد اللّه الذي خلقكم ثم يتوفاكم ثم يعيدكم وفيه إيماء إلى الحشر الذي ينكرونه وهو من أمهات أصول الدين ثم حذف الطرفان وأبقى الوسط ليدل عليهما فإنهما قد كثر اقترانهما به في القرآن وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي أوجب اللّه تعالى على ذلك فوجوب الإيمان باللّه تعالى شرعي كسائر
___________
(1) قوله لا بأس الجملة إلخ كذا بخطه رحمه الله.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 185
الواجبات ، وذكر المولى صدر الشريعة أن للشرعي معنيين ما يتوقف علي الشرع كوجوب الصلاة والصوم ، وما ورد به الشرع ولا يتوقف على الشرع كوجوب الإيمان باللّه سبحانه ووجوب تصديقه صلّى اللّه عليه وسلم فإنه لا يتوقف على الشرع فهو ليس بشرعي بالمعنى الأول ، وذلك لأن ثبوت الشرع موقوف على الإيمان بوجود الباري تعالى وعلمه وقدرته وكلامه وعلى التصديق بنبوة النبي عليه الصلاة والسلام بدلالة معجزاته فلو توقف شيء من هذه الأحكام على الشرع لزم الدور ، ولقائل أن يمنع توقف الشرع على وجوب الإيمان ونحوه سواء أريد بالشرع خطاب اللّه تعالى أو شريعة النبي صلّى اللّه عليه وسلم وتوقف التصديق بثبوت شرع النبي صلّى اللّه عليه وسلم على الإيمان باللّه تعالى وصفاته وعلى التصديق بنبوة النبي صلّى اللّه عليه وسلم ودلالة معجزاته لا يقتضي توقفه على وجوب الإيمان والتصديق ولا على العلم بوجوبهما غايته أنه يتوقف على نفس الإيمان والتصديق وهو غير مفيد لتوقفه على وجوب الإيمان والتصديق ولا مناف لتوقف وجوب الإيمان ونحوه على الشرع كما هو المذهب عندهم من أن لا وجوب إلا بالسمع ، وقول الزمخشري هنا : إنه عليه الصلاة والسلام أمر بالعقل والوحي لا يخلو عن نزغة اعتزالية كما هو دأبه في كثير من المواضع ، ومن قال من المفسرين منا : إنه وجب على ذلك بالعقل والسمع أراد بالعقل التابع لما سمع بالشرع فلا تبعية ، والكلام على حذف الجار أي أمرت بأن أكون ، وحذفه من أن وأن مطرد وإن وقع النظر عن ذلك فالحذف بعد أمر مسموع عن العرب كقوله :
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به فقد تركتك ذا مال وذا نشب
وأدخل بعضهم هذه الجملة في الجزاء وليس بمتعين وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ عطف كما قال غير واحد على أَنْ أَكُونَ واعترض بأن إِنْ في المعطوف عليه مصدرية بلا كلام لعملها النصب والتي في جانب المعطوف لا يصح أن تكون كذلك لوقوع الأمر بعدها ، وكذا لا يصح أن تكون مفسرة لعطفها على المصدرية ولأنه يلزم دخول الباء المقدرة عليها والمفسرة لا يدخل عليها ذلك ، ودفع ذلك باختيار كونها مصدرية ووقوع الأمر بعدها لا يضر في ذلك ، فقد نقل عن سيبويه أنه يجوز وصلها به ، ولا فرق في صلة الموصول الحرفي بين الطلب والخبر لأنه إنما منع في الموصول الاسمي لأنه وضع للتوصل به إلى وصف المعارف بالجمل والجمل الطلبية لا تكون صفة ، والمقصود من أن هذه يذكر بعدها ما يدل على المصدر الذي تأول به وهو يحصل بكل فعل ، وكون تأويله يزيل معنى الأمر المقصود منه مدفوع بأنه يؤول كما أشرنا إليه فيما مر بالأمر بالإقامة إذ كما يؤخذ المصدر من المادة قد يؤخذ من الصيغة مع أنه لا حاجة إليه هنا لدلالة قوله تعالى : أُمِرْتُ عليه ، وفي الفرائد أنه يجوز أن يقدر وأوحى إلي أن أقم ، وتعقبه الطيبي بأن هذا سائغ إعرابا إلا أن في ذلك العطف فائدة معنوية وهي أن وَأَنْ أَقِمْ إلخ كالتفسير - لأن أكون - إلخ على أسلوب - أعجبني زيد وكرمه - داخل معه في حكم المأمور فلو قدر ذلك فات غرض التفسير وتكون الجملة مستقلة معطوفة على مثلها ، وفيه تأمل لجواز أن تكون هذه الجملة مفسرة للجملة المعطوفة هي عيها ، وقدر أبو حيان ذلك وزعم أن أَنْ حينئذ يجوز أن تكون مصدرية وأن تكون مفسرة لأن في الفعل المقدر معنى القول دون حروفه وأنه على ذلك يزول قلق العطف ويكون الخطاب في وَجْهَكَ في محله ، ورد بأن الجملة المفسرة لا يجوز حذفها ، وأما صحة وقوع المصدرية فاعلا أو مفعولا فليس بلازم ولا قلق في العطف الذي عناه ، وأمر الخطاب سهل لأنه لملاحظة المحكي والأمر المذكور
معه.
وإقامة الوجه للدين كناية عن توجيه النفس بالكلية إلى عبادته تعالى والإعراض عمن سواه ، فإن من أراد أن ينظر إلى شيء نظر استقصاء يقيم وجهه في مقابلته بحيث لا يلتفت يمينا ولا شمالا إذ لو التفت بطلت المقابلة ، والظاهر أن الوجه على هذا ظاهره ويجوز أن يراد به الذات ، والمراد اصرف ذاتك وكليتك للدين واجتهد بأداء الفرائض والانتهاء

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 186
عن القبائح ، فاللام صلة أَقِمْ وقيل : الوجه على ظاهره وإقامته توجيهه للقبلة أي استقبل القبلة ولا تلتفت إلى اليمين أو الشمال ، فاللام للتعليل وليس بذاك ، ومثله القول بأن ذلك كناية عن صرف العقل بالكلية إلى طلب الدين حَنِيفاً أي مائلا عن الأديان الباطلة ، وهو حال إما من الوجه أو من الدين ، وعلى الأول تكون حالا مؤكدة لأن إقامة الوجه تضمنت التوجه إلى الحق والإعراض عن الباطل ، وعلى الثاني قيل تكون حالا منتقلة وفيه نظر ، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في أَقِمْ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عطف على أَقِمْ داخل تحت الأمر وفيه تأكيد له أي لا تكونن منهم اعتقادا ولا عملا وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ استقلالا ولا اشتراكا ما لا يَنْفَعُكَ بنفسه إذا دعوته بدفع مكروه أو جلب محبوب وَلا يَضُرُّكَ إذا تركته بسلب المحبوب دفعا أو رفعا أو بإيقاع المكروه ، والجملة قيل معطوفة على جملة النهي قبلها ، واختار بعض المحققين عطفها على قوله سبحانه : قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ فهي غير داخلة تحت الأمر لأن ما بعدها من الجمل إلى آخر الآيتين متسقة لا يمكن فصل بعضها عن بعض ولا وجه لإدراج الكل تحت الأمر.
وأنت تعلم أنه لو قدر فعل الإيحاء في وَأَنْ أَقِمْ كما فعل أبو حيان وصاحب الفرائد لا مانع من العطف كما هو الظاهر على جملة النهي المعطوفة على الجملة الأولى وإدراج جميع المتسقات تحت الإيحاء ، وقد يرجح ذلك التقدير بأنه لا يحتاج معه إلى ارتكاب خلاف الظاهر من العطف على البعيد ، وقيل : لا حاجة إلى تقدير الإيحاء والعطف كما قيل والأمر السابق بمعنى الوحي كأنه قيل : وأوحى إلي أن أكون إلخ والاندراج حينئذ مما لا بأس به وهو كما ترى ولا أظنك تقبله فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ أي معدودا في عدادهم ، والفعل كناية عن الدعاء كأنه قيل : فإن دعوت ما لا ينفع ولا يضر ، وكني عن ذلك على ما قيل تنويها لشأنه عليه الصلاة والسلام وتنبيها على رفعة مكانه صلّى اللّه عليه وسلم من أن ينسب إليه عبادة غير اللّه تعالى ولو في ضمن الجملة الشرطية.
والكلام في فائدة نحو النهي المذكور قد مر آنفا ، وجواب الشرط على ما في النهي جملة فَإِنَّكَ وخبرها أعني مِنَ الظَّالِمِينَ وتوسطت إِذاً بين الاسم والخبر مع أن رتبتها بعد الخبر رعاية للفاصلة. وفي الكشاف أن إِذاً جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدر كأن سائلا سأل عن تبعة عبادة الأوثان فجعل من الظالمين لأنه لا ظلم أعظم من الشرك إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان : 13] وهذه عبارة النحويين ، وفسرت كما قال الشهاب : بأن المراد أنها تلد على أن ما بعدها مسبب عن شرط محقق أو مقدر وجواب عن كلام محقق أو مقدر. وقد ذكر الجلال السيوطي عليه الرحمة في جمع الجوامع - بعد أن بين أن - إذا - الظرفية قد يحذف جزء الجملة التي أضيفت هي إليها أو كلها فيعوض عنه التنوين وتكسر للساكنين لا للإعراب خلافا للأخفش وقد تفتح - إن شيخه الكافيجي ألحق بها إذن ، ثم قال في شرحه همع الهوامع : وقد أشرت بقولي : وألحق شيخنا بها في ذلك إذن إلى مسألة غريبة قل من تعرض لها وذلك أني سمعت شيخنا عليه الرحمة يقول في قوله تعالى : وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ [المؤمنون : 34] ليست إذن هذه الكلمة المعهودة وإنما هي إذا الشرطية حذفت جملتها التي يضاف إليها وعوض عنها التنوين كما في يومئذ وكنت أستحسن هذا جدا وأظن أن الشيخ لا سلف له في ذلك حتى رأيت بعض المتأخرين جنح إلى ما جنح إليه الشيخ ، وقد أوسعت الكلام في ذلك في حاشية المغني انتهى.
وأنت تعلم أن الآية التي ذكرها كالآية التي نحن فيها وما ذكره مما يميل إليه القلب ولا أرى فيه بأسا ولعله أولى مما قاله صاحب الكشاف ومتبعوه فليحمل ما في الآية عليه ، وكان كثيرا ما يخطر لي ذلك إلا أني لم أكد أقدم على إثباته حتى رأيته لغيري ممن لا ينكر فضله فأثبته حامدا للّه تعالى وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ تقرير لما أورد في حيز الصلة من سلب النفع من المعبودات الباطلة وتصوير لاختصاصه به سبحانه أي وإن يصبك بسوء ما فَلا كاشِفَ لَهُ

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 187
عنك كائنا من كان وما كان إِلَّا هُوَ وحده فثبت عدم كشف الأصنام بالطريق البرهاني ، وهو بيان لعدم النفع برفع المكروه المستلزم لعدم النفع بجلب المحبوب استلزاما ظاهرا ، فإن رفع المكروه أدنى مراتب النفع فإذا انتفى انتفى النفع بالكلية وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ تحقيق لسلب الضرر الوارد في حيز الصلة أي إن يرد أن يصيبك بخير فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ الذي من جملته ما أرادك به من الخير ، فهو دليل على جواب الشرط لا نفس الجواب ، وفيه إيذان بأن فيضان الخير منه تعالى بطريق التفضل والكرم من غير استحقاق عليه سبحانه أي لا أحد يقدر على رده كائنا من كان فيدخل فيه الأصنام دخولا أوليا ، وهو بيان لعدم ضرها بدفع المحبوب قبل وقوعه المستلزم لعدم ضرها برفعه أو بإيقاع المكروه استلزاما جليا ولعل ذكره الإرادة مع الخير والمس مع الضر مع تلازم الأمرين لأن ما يريده سبحانه يصيب وما يصيب لا يكون إلا بإرادته تعالى للإيذان بأن الخير مقصود للّه تعالى بالذات والضر إنما يقع جزاء على الأعمال وليس مقصودا بالذات ، ويحتمل أنه أريد معنى الفعلين في كل من الخير والضر لاقتضاء المقام تأكيد كل من الترغيب والترهيب إلا أنه قصد الإيجاز في الكلام فذكر في أحدهما المس وفي الآخر الإرادة ليدل بما ذكر في كل جانب على ما ترك في الجانب الآخر ، ففي الآية نوع من البديع يسمى احتباكا وقد تقدم في غير آية ، ولم يستثن سبحانه في جانب الخير إظهارا لكمال العناية به وينبىء عن ذلك قوله تعالى : يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ حيث صرح جل شأنه بالإصابة بالفضل المنتظم لما أراد من الخير ، وقيل : إنما لم يستثن جل وعلا في ذلك لأنه قد فرض فيه أن تعلق الخير به واقع بإرادته تعالى وصحة الاستثناء تكون بإرادة ضده في ذلك الوقت وهو محال ، وهذا بخلاف مس الضر فإن إرادة كشفه لا تستلزم المحال وهو تعلق الإرادتين بالضدين في وقت واحد ، وفي العدول عن يرد
بك الخير إلى ما في النظم الجليل إيماء كما قيل إلى أن المقصود هو الإنسان وسائر الخيرات مخلوقة لأجله ، وما أشرنا إليه من رجوع ضمير بِهِ إلى الفضل هو الظاهر المناسب ، وجوز رجوعه لما ذكر وليس بذاك ، وحمل الفضل على العموم أولا وآخرا حسبما علمت هو الذي ذهب إليه بعض المحققين رادا على من جعله عبارة عن ذلك الخير بعينه على أن يكون الإتيان به أولا ظاهرا من باب وضع المظهر موضع المضمر إظهارا لما ذكره من الفائدة بأن قوله سبحانه : مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يأبى ذلك لأنه ينادي بالعموم ، ويجوز عندي أن يكون الكلام من باب - عندي درهم ونصف ، وقوله سبحانه : وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ تذييل لقوله تعالى : يُصِيبُ بِهِ إلخ مقرر لمضمونه والكل تذييل للشرطية الأخيرة مقرر لمضمونها. وذكر الإمام في هذه الآيات أن قوله تعالى : وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لا يمكن أن يكون نهيا عن عبادة الأوثان لأن ذلك مذكور في قوله سبحانه أول الآية : فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فلا بد من حمل هذا الكلام على ما فيه فائدة زائدة وهي أن من عرف مولاه لو التفت بعد ذلك إلى غيره كان ذلك شركا وهو الذي يسميه أصحاب القلوب بالشرك الخفي ، ويجعل قوله سبحانه : وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ إشارة إلى مقام هو آخر درجات العارفين لأن ما سوى الحق ممكن لذاته موجود بإيجاده والممكن لذاته معدوم بالنظر إلى ذاته وموجود بإيجاد الحق وحينئذ فلا نافع إلا الحق ولا ضار إلا هو وكل شيء هالك إلا وجهه وإذا كان كذلك فلا رجوع إلا إليه عز شأنه في الدارين.
ومعنى فَإِنْ فَعَلْتَ إلخ فإن اشتغلت بطلب المنفعة والمضرة من غير اللّه تعالى فأنت من الظالمين أي الواضعين للشيء في غير موضعه إذا ما سوى اللّه تعالى معزول عن التصرف فإضافة التصرف إليه وضع للشيء في غير موضعه وهو الظلم ، وطلب الانتفاع بالأشياء التي خلقها اللّه تعالى للانتفاع بها من الطعام والشراب ونحوهما لا ينافي الرجوع بالكلية إلى اللّه تعالى بشرط أن يكون بصر العقل عند التوجه إلى شيء من ذلك مشاهدا لقدرة اللّه تعالى

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 188
وجوده وإحسانه في إيجاد تلك الموجودات وإيداع تلك المنافع فيها مع الجزم بأنها في أنفسها وذواتها معدومة وهالكة ولا وجود لها ولا بقاء ولا تأثير إلا بإيجاد اللّه تعالى وإبقائه وإفاضة ما فيها من الخواص عليها بجوده وإحسانه ، وقوله تبارك وتعالى : وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ إلخ تقرير لأن جميع الممكنات مستندة إليه سبحانه وتعالى وأنه لا معول إلا عليه عز شأنه ، وهو كلام حسن بيد أن زعمه أن قوله تعالى : وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لا يمكن أن يكون نهيا عن عبادة الأوثان إلخ لا يخفى ما فيه. وقد ذكر نحو هذا الكلام في الآيات ساداتنا الصوفية ، ففي أسرار القرآن أنه سبحانه خوف نبيه صلّى اللّه عليه وسلم من الالتفات إلى غيره في إقباله عليه سبحانه بقوله : وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي من الطالبين غيري والمؤثرين على جمال مشاهدتي ما لا يليق من الحدثان ، وقد ذكروا أن إقامة الملة الحنيفية بتصحيح المعرفة وهو لا يكون إلا بترك النظر إلى ما سوى الحق جل جلاله ، ثم إنه تعالى زاد تأكيدا للإقبال عليه والإعراض عما سواه بقوله جل شأنه : وَلا تَدْعُ إلخ حيث أشار فيه إلى أن من طلب النفع أو الضر من غيره تعالى فهو ظالم أي واضع للربوبية في غير موضعها. ومن هنا قال شقيق البلخي : الظالم من طلب نفعه ممن لا يملك نفع نفسه واستدفع الضر ممن لا يملك الدفاع عن نفسه ومن عجز ذلك إقامة نفسه كيف يقيم غيره ، وقرر ذلك بقوله تعالى : وإن يمسسك إلخ.
ومن ذلك قال ابن عطاء : إنه تعالى قطع على عباده الرهبة والرغبة إلا منه وإليه بإعلامه أنه الضار النافع وقد يكون الضر إشارة إلى الحجاب والخير إشارة إلى كشف الجمال أي إن يمسسك اللّه بضر الحجاب فلا كاشف لضرك إلا هو بظهور أنوار وصاله وإن يردك بكشف جماله فلا راد لفضل وصاله من سبب وعلة فإن المختص في الأزل بالوصال لا يحتجب بشيء من الأشياء لأنه في الفضل السابق مصون من جريان القهر هذا ولعله مغن عن الكلام من باب الإشارة في الآيات حسبما هو العادة في الكتاب قُلْ يا أيها الرسول مخاطبا لأولئك الكفرة بعد ما بلغتهم ما أوحي إليك أو للمكلفين مطلقا كما قال الطبرسي يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ وهو القرآن العظيم الظاهر الدلالة المشتمل على محاسن الأحكام التي من جملتها ما مر آنفا من أصول الدين واطلعتم على ما في تضاعيفه من البينات والهدى ولم يبق لكم عذر ، وقيل : المراد من الحق النبي صلّى اللّه عليه وسلم وفيه من المبالغة ما لا يخفى.
وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد أن الْحَقُّ هو ما دل عليه قوله تعالى : وَإِنْ يَمْسَسْكَ إلخ وهو كما ترى فَمَنِ اهْتَدى بالإيمان والمتابعة فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أي منفعة اهتدائه لها وَمَنْ ضَلَّ بالكفر والإعراض فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أي فوبال ضلاله عليها ، وقيل : والمراد تنزيه ساحة الرسالة عن شائبة غرض عائد إليه عليه الصلاة والسلام من جلب نفع ودفع ضر ، ويلوح إليه إسناد المجيء إلى الحق من غير إشعار بكون ذلك بواسطته صلّى اللّه عليه وسلم وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أي بحفيظ موكول إلى أمركم وإنما أنا بشير ونذير ، وفي الآية إشارة إلى أنه عليه الصلاة والسلام لا يجبرهم على الإيمان ولا يكرههم عليه وإنما عليه البلاغ ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنها منسوخة بآية السيف وَاتَّبِعْ في جميع شؤونك من الاعتقاد والعمل والتبليغ ما يُوحى إِلَيْكَ على نهج التجدد والاستمرار ، والتعبير عن بلوغ الحق المفسر بالقرآن إليهم بالمجيء وإليه صلّى اللّه عليه وسلم بالوحي تنبيه على ما بين المرتبتين من التنافي ، وإذا أريد من الحق ما قيل فالأمر ظاهر جدا وَاصْبِرْ على ما يعتريك من مشاق التبليغ وأذى من ضل حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بالنصرة عليه أو بالأمر بالقتال وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ إذ لا يمكن الخطأ في حكمه تعالى لاطلاعه على السرائر كاطلاعه على الظواهر ، وغيره جل شأنه من الحاكمين إنما يطلع على الظواهر فيقع الخطأ في حكمه ، ولا يخفى ما في هذه الآيات من الموعظة الحسنة وتسلية النبي صلّى اللّه عليه وسلم ووعد المؤمنين والوعيد للكافرين والحمد للّه تعالى رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين الذي يؤنس ذكره قلوب الموحدين وعلى آله وصحبه أجمعين.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 189
سورة هود
كما أخرج ذلك ابن النحاس في تاريخه ، وأبو الشيخ وابن مردويه من طرق عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وابن مردويه عن عبد اللّه بن الزبير رضي اللّه تعالى عنهما ولم يستثنيا منها شيئا وإلى ذلك ذهب الجمهور ، واستثنى بعضهم منها ثلاث آيات فَلَعَلَّكَ تارِكٌ [هود : 12]. أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ [هود : 17].
أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ [هود : 114] وروي استثناء الثالثة عن قتادة ، قال الجلال السيوطي : ودليله ما صح من عدة طرق أنها نزلت بالمدينة في حق أبي اليسر ، وهي كما قال الداني في كتاب العدد مائة وإحدى وعشرون آية في المدني الأخير واثنتان في المدني الأول وثلاث في الكوفي ، ووجه اتصالها بسورة يونس عليه السلام أنه ذكر في سورة يونس قصة نوح عليه السلام مختصرة جدا محملة فشرحت في هذه السورة وبسطت فيها ما لم تبسط في غيرها من السور ولا سورة الأعراف على طولها ولا سورة إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً [نوح : 1] التي أفردت لقصته فكانت هذه السورة شرحا لما أجمل في تلك السورة وبسطا له ثم إن مطلعها شديد الارتباط بمطلع تلك فإن قوله تعالى هنا : الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ [هود : 1] نظير قوله سبحانه هناك : الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ [يونس : 1] بل بين مطلع هذه وختام تلك شدة ارتباط أيضا حيث ختمت بنفي الشرك واتباع الوحي وافتتحت هذه ببيان الوحي والتحذير من الشرك ، وورد في فضلها ما ورد ،
فقد أخرج الدارمي وأبو داود في مراسيله والبيهقي في شعب الإيمان. وغيرهم عن كعب قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم اقرؤوا هودا يوم الجمعة».
وأخرج الترمذي وحسنه وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في البعث والنشور من طريق عكرمة عن ابن عباس قال : «قال أبو بكر رضي اللّه تعالى عنه : يا رسول اللّه قد شبت قال : شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت».
وأخرج ابن عساكر من طريق يزيد الرقاشي عن أنس عن الصديق رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : «يا رسول اللّه أسرع إليك الشيب قال : أجل شيبتني سورة هود وأخواتها الواقعة والقارعة والحاقة وإذا الشمس كورت وسأل سائل».
وقد جاء في بعض الروايات أيضا أن عمر رضي اللّه تعالى عنه قال له عليه الصلاة والسلام : أسرع إليك الشيب يا رسول اللّه فأجابه بنحو ما ذكر إلا أنه ذكر من الأخوات الواقعة ، وعم ، وإذا الشمس كورت ، وفي رواية أخرى عن سعد بن أبي وقاص قال : قلت يا رسول اللّه لقد شبت فقال : شيبتني هود والواقعة
إلى آخر ما في خبر عمر ، وفي بعضها الاقتصار على
«شيبتني هود وأخواتها» ،
وفي بعض آخر بزيادة
«وما فعل بالأمم من قبلي» وقد أخرج ذلك ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه رضي اللّه تعالى عنهما مرفوعا.
وأخرج ابن مردويه وغيره عن عمران بن حصين «أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال له أصحابه : أسرع إليك الشيب فقال :

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 190
شيبتني هود وأخواتها من المفصل والواقعة»
وكل ذلك يدل على خطرها وعظم ما اشتملت عليه وأشارت إليه وهو الذي صار سببا لإسراع الشيب إليه صلّى اللّه عليه وسلم ، وفسره بعضهم بذكر يوم القيامة وقصص الأمم ويشهد له بعض الآثار.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أبي علي الشتري قال : رأيت النبي صلّى اللّه عليه وسلم في المنام : فقلت يا رسول اللّه روي عنك أنك قلت : «شيبتني هود» قال : نعم. فقلت : ما الذي شيبك منها قصص الأنبياء عليهم السلام وهلاك الأمم؟ قال : لا ولكن قوله تعالى : فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود : 112] وهذا هو الذي اعتمد عليه بعض السادة الصوفية قدس اللّه تعالى أسرارهم وبينه بما بينه ، والحق أن الذي شيبه صلّى اللّه عليه وسلم ما تضمنته هذه السورة أعم من هذا الأمر وغيره ما عظم أمره على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بمقتضى علمه الجليل ومقامه الرفيع ، وهذا هو المنقدح لذهن السامع ولذلك لم يسأله صلّى اللّه عليه وسلم أصحابه عما شيبه منها ومن أخواتها بل اكتفوا بما يتبادر من أمثال ذلك الكلام.
ودعوى أن المتبادر لهم رضي اللّه تعالى عنهم ما خفي على أبي علي فلذلك لم يسألوا على تقدير تسليمها يبقى أنهم لم يسألوا عما شيبه عليه الصلاة والسلام من الأخوات مع أنه ليس فيها إلا ذكر يوم القيامة وهلاك الأمم دون ذلك الأمر؟ وكونهم علموا أن المشيب فيها ذلك وفي أخواتها شيء آخر هو ذكر يوم القيامة وهلاك الأمم يأباه ما في خبر أبي علي من نفيه صلّى اللّه عليه وسلم ، وكون ما ذكر مشيبا مفهوما من سورة دون أخرى لا يخفى حاله ، وبالجملة لا ينبغي التعويل على هذه الرواية وإن سلم أنها صحت عن أبي علي ، واتهام الرائي بعدم الحفظ أو بعدم تحقيق المرئي أهون من القول بصحة الرؤية والتكلف لتوجيه ما فيها ، وسيأتي في آخر السورة إن شاء اللّه تعالى تمام الكلام في هذا المقام فليفهم.
[سورة هود (11) : الآيات 1 إلى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5)
الر اسم للسورة على ما ذهب إليه الخليل وسيبويه وغيرهما أو للقرآن على ما روي عن الكلبي والسدي ، وقيل : إنها إشارة إلى اسم من أسمائه تعالى أو صفة من صفاته سبحانه ، وقيل : هي إقسام منه تعالى بما هو من أصول اللغات ومبادئ كتبه المنزلة ومباني أسمائه الكريمة ، وقيل وقيل ، وقد تقدم الكلام فيما ينفعك هنا على أتم تفصيل ، واختار غير واحد من المتأخرين كونها اسما للسورة وأنها خبر مبتدأ محذوف أي هذه السورة مسماة - بالر - وقيل :
محلها الرفع على الابتداء أو النصب بتقدير فعل يناسب المقام نحو اذكر أو اقرأ ، وقوله سبحانه : كِتابٌ خبر لها على تقدير ابتدائيتها أو لمبتدأ محذوف على غيره من الوجوه ، والتنوين فيه للتعظيم أي كتاب عظيم الشأن جليل القدر أُحْكِمَتْ آياتُهُ أي نظمت نظما محكما لا يطرأ عليه اختلال فلا يكون فيه تناقض أو مخالفة للواقع والحكمة أو شيء مما يخل بفصاحته وبلاغته فالإحكام مستعار من إحكام البناء بمعنى إتقانه أو منعت من النسخ لبعضها أو لكلها

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 191
بكتاب آخر كما وقع للكتب السالفة فالإحكام من أحكمه إذا منعه ويقال : أحكمت السفيه إذا منعته من السفاهة ، ومنه قول جرير :
أبي حنيفة أحكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم إن أغضبا
وقيل : المراد منعت من الفساد أخذا من أحكمت الدابة إذا جعلت في فمها الحكمة وهي حديدة تجعل في فم الدابة تمنعها من الجماح ، فكأن ما فيها من بيان المبدأ والمعاد بمنزلة دابة منعها الدلائل من الجماح ، ففي الكلام استعارة تمثيلية أو مكنية. وتعقب بأن تشبيهها بالدابة مستهجن لا داعي إليه ، ولعل الذوق يفرق بين ذلك وبين تشبيهها بالجمل الأنوف الوارد في بعض الآثار لانقيادها مع المتأولين لكثرة وجوه احتمالاتها الموافقة لأغراضهم.
واعترض بعضهم على إرادة المنع من الفساد بأن فيه إيهام ما لا يكاد يليق بشأن الآيات الكريمة من التداعي إلى الفساد لولا المانع ، فالأول إذ يراد معنى المنع أن يراد المنع من النسخ ويراد من الكتاب القرآن وعدم نسخه كلّا أو بعضا على حسب ما أشرنا إليه وكون ذلك خلاف الظاهر في حيز المنع.
وادعى بعضهم أن المراد بالآيات آيات هذه السورة وكلها محكمة غير منسوخة بشيء أصلا ، وروي ذلك عن ابن زيد وخولف فيه. وادعى أن فيها من المنسوخ أربع آيات قوله سبحانه : إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [هود : 12]. وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ [هود : 121] والتي تليها ونسخت جميعا بآية السيف ومَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها [هود : 15] الآية ونسخت بقوله سبحانه : مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء : 18] ولا يخلو عن نظر ، ويجوز أن يكون المعنى منعت من الشبه بالحجج الباهرة وأيدت بالأدلة الظاهرة أو جعلت حكيمة أي ذات حكمة لاشتمالها على أصول العقائد والأعمال الصالحة والنصائح والحكم ، والفعل على هذا منقول من حكم بالضم إذا صار حكيما ، ومنه قول نمر بن تولب :
وأبغض بغيضك بغضا رويدا إذا أنت حاولت أن تحكما
فقد قال الأصمعي : إن المعنى إذا حاولت أن تكون حكيما ، وفي إسناد الإحكام على الوجوه المذكورة إلى الآيات دون الكتاب نفسه لا سيما إذا أريد ما يشمل كل آية آية من حسن الموقع والدلالة على كونه في أقصى غاياته ما لا يخفى ثُمَّ فُصِّلَتْ أي جعلت مفصلة كالعقد المفصل بالفرائد التي تجعل بين اللآلئ ، ووجه جعلها كذلك اشتمالها على دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص أو فصل فيها مهمات العباد في المعاش والمعاد على الإسناد المجازي أو جعلت فصلا فصلا من السور ويراد بالكتاب القرآن ، وقيل : يصح أن يراد به هذه السورة أيضا على أن المعنى جعلت معاني آياتها في سور ولا يخفى أنه تكلف لا حاجة إليه. أو فرقت في التنزيل فلم تنزل جملة بل نزلت نجما نجما على حسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة ، وثُمَّ على هذا ظاهرة في التراخي الزماني لما أن المتبادر من التنزيل المنجم فيه التنزيل المنجم بالفعل ، وإن أريد جعلها في نفسها بحيث يكون نزولها منجما حسب الحكمة فهو رتبي لأن ذلك وصف لازم لها حقيق بأن يرتب على وصف أحكامها ، وهي على الأوجه الأول للتراخي الرتبي لا غير ، وقيل : للتراخي بين الإخبارين. واعترض بأنه لا تراخي هناك إلا أن يراد بالتراخي الترتيب مجازا أو يقال بوجوده باعتبار ابتداء الخبر الأول وانتهاء الثاني.
وأنت تعلم أن القول بالتراخي في الرتبة أولى خلا أن تراخي رتبة التفضيل بأحد المعنيين الأولين عن رتبة الاحكام أمر ظاهر وبالمعنى الثالث فيه نوع خفاء ، ولا يخفى عليك أن الاحتمالات في الآية الحاصلة من ضرب معاني

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 192
الاحكام الأربعة في معاني التفصيل كذلك وضرب المجموع في احتمالات المراد - بثم - تبلغ اثنين ثلاثين أو ثمانية وأربعين احتمالا ولا حجر. والزمخشري ذكر للاحكام ما في الكشف ثلاثة أوجه أخذه من أحكام البناء نظرا إلى التركب البالغ حد الإعجاز. أو من الاحكام جعلها حكيمة ، أو جعلها ذات حكمة فيفيد معنى المنع من الفساد ، وللتفصيل أربعة جعلها كالقلائد المفصلة بالفرائد لما فيها من دلائل التوحيد وأخواتها. وجعلها فصولا سورة سورة وآية آية وتفريقها في التنزيل وتفصيل ما يحتاج إليه العباد وبيانه فيها روي هذا عن مجاهد ، وقال : إن معنى ثُمَّ ليس التراخي في الوقت ولكن في الحال كما تقول هي محكمة أحسن الإحكام ثم مفصلة أحسن التفصيل ، وفلان كريم الأصل ثم كريم الفعل.
والظاهر أنه أراد أنها في جميع الاحتمالات كذلك ، وفيه أيضا أنه إذا أريد بالاحكام أحد الأولين وبالتفصيل أحد الطرفين فالتراخي رتبي لأن الاحكام بالمعنى الأول راجع إلى اللفظ والتفصيل إلى المعنى ، وبالمعنى الثاني وإن كان معنويا لكن التفصيل إكمال لما فيه من الإجمال ، وأن أريد أحد الأوسطين فالتراخي على الحقيقة لأن الاحكام بالنظر إلى كل آية في نفسها وجعلها فصولا بالنظر إلى بعضها مع بعض أو لأن كل آية مشتملة على جمل من الألفاظ المرصفة وهذا تراخ وجودي ، ولما كان الكلام من السائلات كان زمانيا أيضا ، ولكن الزمخشري آثر التراخي في الحال مطلقا حملا على التراخي في الأخبار في هذين الوجهين ليطابق اللفظ الوضع وليظهر وجه العدول من الفاء إلى ثم ، وإن أريد الثالث وبالتفصيل أحد الطرفين فرتبي وإلا فإخباري ، والأحسن أن يراد بالاحكام الأول وبالتفصيل أحد الطرفين وعليه ينطبق المطابقة بين حَكِيمٍ وخَبِيرٍ وأُحْكِمَتْ وفُصِّلَتْ ثم قال : ومنه ظهر أن التراخي في الحال يشمل التراخي الرتبي والإخباري انتهى فليتأمل ، وقرىء «أحكمت» بالبناء للفاعل المتكلم و«فصلت» بفتحتين مع التخفيف وروي هذا عن ابن كثير ، والمعنى ثم فرقت بين الحق والباطل ، وقيل : «فصلت» هنا مثلها في قوله تعالى :
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ [يوسف : 94] أي انفصلت وصدرت مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ صفة لكتاب وصف بها بعد ما وصف بأحكام آياته وتفصيلها الدالين على علو مرتبته من حيث الذات إبانة لجلالة شأنه من حيث الإضافة أو خبر ثان للمبتدأ الملفوظ أو المقدر أو هو معمول لأحد الفعلين على التنازع مع تعلقه بهما معنى أي من عنده أحكامها وتفصيلها واختار هذا في الكشف. وفي الكشاف أن فيه طباقا حسنا لأن المعنى أحكمها حكيم وفصلها أي بينها وشرحها خبير عالم بكيفيات الأمور ففي الآية اللف والنشر ، وأصل الكلام على ما قال الطيبي : أحكم آياته الحكيم وفصلها الخبير ثم عدل عنه إلى أحكمت حكيم وفصلت خبير على حد قوله تعالى : يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ [النور : 36 ، 37] على قراءة البناء للمفعول ، وقوله :
ليبك يزيد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح
ثم إلى ما في النظم الجليل لما في الكناية من الحسن مع إفادة التعظيم البالغ الذي لا يصل إلى كنهه وصف الواصف لا سيما وقد جيء بالاسمين الجليلين منكرين بالتنكير التفخيمي ، ولَدُنْ من الظروف المبنية وهي لأول غاية زمان أو مكان ، والمراد هنا الأخير مجازا ، وبنيت لشبهها بالحرف في لزومها استعمالا واحدا وهي كونها مبدأ غاية وامتناع الإخبار بها وعنها ولا يبنى عليها المبتدأ بخلاف عند و- لدي - فإنهما لا يلزمان استعمالا واحدا بل يكونان لابتداء الغاية وغيرها ويبنى عليهما المبتدأ كما في قوله سبحانه : وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ [الأنعام : 59] ولَدَيْنا مَزِيدٌ [ق : 35] قيل : ولقوة شبهها بالحرف وخروجها عن نظائرها لا تعرب إذا أضيفت ، نعم جاء عن قيس إعرابها تشبيها بعند وعلى ذلك خرجت قراءة عاصم بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ [الكهف : 2] بالجر وإشمام الدال

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 193
الساكنة الضم واقترانها بمن كما في الآية ، وكذا إضافتها إلى مفرد كيفما كان هو الغالب وقد تتجرد عن - من - وقد تضاف إلى جملة اسمية كقوله :
وتذكر نعماه لدن أنت يافع وفعلية كقوله :
صريع غوان راقهن ورقنه لدن شب حتى شاب سود الذوائب
ومنع ابن الدهان من إضافتها إلى الجملة وأول ما ورد من ذلك على تقدير أن المصدرية بدليل ظهورها معها في قوله :
وليت فلم تقطع لدن أن وليتنا قرابة ذي قربى ولا حق مسلم
ولا يخفى ما في التزام ذلك من التكلف لا سيما في مثل - لدن أنت يافع - وتتمحض للزمان إذا أضيفت إلى الجملة ، وجاء نصب غدوة بعدها في قوله :
لدن غدوة حتى دنت لغروب وخرج على التمييز ، وحكى الكوفيون رفعها بعدها وخرج على إضمار كان ، وفيها ثمان لغات ، فمنهم من يقول لَدُنْ بفتح اللام وضم الدال وسكون النون وهي اللغة المشهورة ، وتخفف بحذف الضمة كما في عضد وحينئذ يلتقي ساكنان. فمنهم من يحذف النون لذلك فيبقى - لد - بفتح اللام وسكون الدال. ومنهم من لا يحذف ويحرك الدال فتحا فيقول : لدن بفتح اللام والدال وسكون النون ، ومنهم من لا يحذف ويحرك الدال كسرا فيقول لدن بفتح اللام وكسر الدال وسكون النون ومنهم من لا يحذف ويحرك النون بالكسر فيقول لدن بفتح اللام وسكون الدال وكسر النون ، وقد يخفف بنقل ضمة الدال إلى اللام كما يقال في عضد عضد بضم العين وسكون الضاد على قلة ، وحينئذ يلتقي ساكنان أيضا. فمنهم من يحذف النون لذلك فيقول - لد - بضم اللام وسكون الدال ، ومنهم من لا يحذف ويحرك النون بالكسر فيقول لدن بضم اللام وكسر النون فهذه سبع لغات. وجاء - لد - بحذف نون لدن التي هي أم الجميع وبذلك تتم الثمانية ، ويدل على أن أصل - لد - لدن إنك إذا أضفته لمضمر جئت بالنون فتقول : من لدنك ولا يجوز من - لدك - كما نبه عليه سيبويه ، وذكر لها في همع الهوامع عشر لغات ما عدا اللغة القيسية فليراجع.
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ في موضع العلة للفعلين السابقين على جعل «أن» مصدرية وتقدير اللام معها كأنه قيل : كتاب أحكمت آياته ثم فصلت لئلا تعبدوا إلا اللّه أي لتتركوا عبادة غيره عز وجل وتتمحضوا لعبادته سبحانه ، فإن الأحكام والتفصيل مما يدعوهم إلى الإيمان والتوحيد وما يتفرع عليه من الطاعات قاطبة. وجوز أن تكون مفسرة لما في التفصيل من معنى القول دون حروفه كأنه قيل : فصل وقال : لا تعبدوا إلا اللّه أو أمر أن لا تعبدوا إلا اللّه ، وقيل : إن هذا كلام منقطع عما قبله غير متصل به اتصالا لفظيا بل هو ابتداء كلام قصد به الإغراء على التوحيد على لسانه صلّى اللّه عليه وسلم و«أن» وما بعدها في حيز المفعول به لمقدر كأنه قيل : الزموا ترك عبادة غيره تعالى ، واحتمال أن يكون ما قبل أيضا مفعولا به بتقدير قل أول الكلام خلاف الظاهر ، ومثله احتمال كون «أن» والفعل في موقع المطلق ، وقد صرح بعض المحققين أن ذلك مما لا يحسن أو لا يجوز فلا ينبغي أن يلتفت إليه إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ضمير الغائب المجرور للّه تعالى و«من» لابتداء الغاية ، والجار والمجرور في الأصل صفة النكرة فلما قدم عليها صار حالا كما هو المعروف في أمثاله أي إني لكم من جهته تعالى نذير أنذركم عذابه إن لم

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 194
تتركوا ما أنتم عليه من عبادة غيره سبحانه وبشير أبشركم ثوابه إن آمنتم وتمحضتم في عبادته عز وجل ، وجوز كون «من» صلة النذير والضمير إما له تعالى أيضا ، والمعنى حينئذ على ما قال أبو البقاء نذير من أجل عذابه وأما للكتاب على معنى إني لكم نذير من مخالفته وبشير لمن آمن به ، وقوله تعالى : وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ عطف على أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ سواء كان نهيا أو نفيا وفي أَنِ الاحتمالان السابقان وقد علمت أن الحق أن أَنِ المصدرية توصل بالأمر والنهي كما توصل بغيرهما ، وفي توسيط جملة إِنَّنِي لَكُمْ إلخ بين المتعاطفين ما لا يخفى من الإشارة إلى علو شأن التوحيد ورفعه قدر النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، وقد روعي في تقديم الإنذار على التبشير ما روعي في الخطاب من تقديم النفي على الإثبات والتخلية على التحلية للتجاوب الأطراف ، والتعرض لوصف الربوبية تلقين للمخاطبين وإرشاد لهم إلى طريق الابتهال في السؤال وترشيح لما يذكر من التمتيع وإيتاء الفضل ، وقوله سبحانه : ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ عطف على اسْتَغْفِرُوا واختلف في توجيه توسيط ثُمَّ بينهما مع أن الاستغفار بمعنى التوبة في العرف فقال الجبائي : إن المراد بالاستغفار هنا التوبة عما وقع من الذنوب وبالتوبة الاستغفار عما يقع منها بعد وقوعه أي استغفروا ربكم من ذنوبكم التي فعلتموها ثم توبوا إليه من ذنوب تفعلونها ، فكلمة ثُمَّ على ظاهرها من التراخي في الزمان ، وقال الفراء : إن ثُمَّ بمعنى الواو كما في قوله :
بهز «1» كهز الرديني جرى في الأنابيب ثم اضطرب
والعطف تفسيري ، وقيل : لا نسلم أن الاستغفار هو التوبة بل هو ترك المعصية والتوبة هي الرجوع إلى الطاعة ولئن سلم أنهما بمعنى - فثم - للتراخي في الرتبة ، والمراد بالتوبة الإخلاص فيها والاستمرار عليها وإلى هذا ذهب صاحب الفرائد. وقال بعض المحققين : الاستغفار هو التوبة إلا أن المراد بالتوبة في جانب المعطوف التوصل إلى المطلوب مجازا من إطلاق السبب على المسبب ، وثُمَّ على ظاهرها وهي قرينة على ذلك.
وأنت تعلم أن أصل معنى الاستغفار طلب الغفر أي الستر ومعنى التوبة الرجوع ، ويطلق الأول على طلب ستر الذنب من اللّه تعالى والعفو عنه والثاني على الندم عليه مع العزم على عدم العود فلا اتحاد بينهما بل ولا تلازم عقلا ، لكن اشترط شرعا لصحة ذلك الطلب وقبوله الندم على الذنب مع العزم على عدم العود إليه ، وجاء أيضا استعمال الأول في الثاني ، والاحتياج إلى توجيه العطف على هذا ظاهر ، وأما على ذاك فلأن الظاهر أن المراد من الاستغفار المأمور به الاستغفار المسبوق بالتوبة بمعنى الندم فكأنه قيل : استغفروا ربكم بعد التوبة ثم توبوا إليه ولا شبهة في ظهور احتياجه إلى التوجيه حينئذ ، والقلب يميل فيه إلى حمل الأمر الثاني على الإخلاص في التوبة والاستمرار عليها ، والتراخي عليه يجوز أن يكون رتيبا وأن يكون زمانيا كما لا يخفى يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً مجزوم بالطلب ، ونصب مَتاعاً على أنه مفعول مطلق من غير لفظه كقوله تعالى : أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح : 17] ويجوز أن يكون مفعولا به على أنه اسم لما ينتفع به من منافع الدنيا من الأموال والبنين وغير ذلك ، والمعنى كما قيل يعشكم في أمن وراحة ، ولعل هذا لا ينافي كون الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ولا كون أشد الناس بلاء الأمثل فالأمثل لأن المراد بالأمن أمنه من غير اللّه تعالى وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق : 3] وبالراحة طيب عيشه برجاء اللّه تعالى والتقرب إليه حتى يعد المحنة منحة :
وتعذيبكم عذب لدي وجوركم علي بما يقضي الهوى لكم عدل
___________
(1) قوله بهز إلخ كذا في خطه رحمه الله والمعروف
كهز الرديني تحت العجاج
جرى إلخ. [.....]

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 195
وقال الزجاج : المراد يبقيكم ولا يستأصلكم بالعذاب كما استأصل أهل القرى الذين كفروا ، والخطاب لجميع الأمة بقطع النظر عن كل فرد فرد إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى مقدر عند اللّه تعالى وهو آخر أعماركم أو آخر أيام الدنيا كما يقتضيه كلام الزجاج ، ولا دلالة في الآية على أن للإنسان أجلين كما زعمه المعتزلة وَيُؤْتِ أي يعط كُلَّ ذِي فَضْلٍ أي زيادة في العمل الصالح فَضْلَهُ أي جزاء فضله في الدنيا أو في الآخرة لأن العمل لا يعطي ، وقد يقال :
لا حاجة إلى تقدير المضاف ، والمراد المبالغة على حد سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ [الأنعام : 139] والضمير لكل ، ويجوز أن يعود إلى الرب ، والمراد بالفضل الأول ما أريد به أولا وبالثاني زيادة الثواب بقرينة أن الإعطاء ثواب وحينئذ يستغني عن التأويل.
واختار بعض المحققين التفسير الأول ثم قال : وهذه تكملة لما أجمل من التمتيع إلى أجل مسمى وتبيين لما عسى أن يعسر فهم حكمته من بعض ما يتفق في الدنيا من تفاوت الحال بين العالمين فرب إنسان له فضل طاعة وعمل لا يمتع في الدنيا أكثر مما متع آخر دونه في الفضل وربما يكون المفضول أكثر تمتيعا فقيل : ويعط كل فاضل جزاء فضله إما في الدنيا كما يتفق في بعض المواد وإما في الآخرة وذلك مما لا مرد له انتهى.
ويفهم من كلام بعضهم عدم اعتبار الانفصال على أنه سبحانه ينعم على ذي الفضل في الدنيا والآخرة ولا يختص إحسانه بإحدى الدارين ، ولا شك أن كل ذي عمل صالح منعم عليه في الآخرة بما يعلمه اللّه تعالى وكذا في الدنيا بتزيين العمل الصالح في قلبه والراحة حسب تعليق الرجاء بربه ونحو ذلك ولا إشكال في ذلك كما هو ظاهر للمتأمّل ، وقيل : في الآية لف ونشر فإن التمتيع مرتب على الاستغفار وإيتاء الفضل مرتب على التوبة انتهى.
وأيّا ما كان ففي الكلام ضرب تفصيل لما أجمل فيما سبق من البشارة ، ثم شرع في الإنذار بقوله سبحانه :
وَإِنْ تَوَلَّوْا أي تستمروا على الإعراض عما ألقي إليكم من التوحيد والاستغفار والتوبة ، وأصله تتولوا فهو مضارع مبدوء بتاء الخطاب لأن ما بعده يقتضيه وحذفت منه إحدى التاءين كما فعل في أمثاله ، وقيل : إن تَوَلَّوْا ماض غائب فلا حذف ويقدر فيما بعد فقل لهم وهم خلاف الظاهر ، وأخر الإنذار عن البشارة جريا على سنن تقدم الرحمة على الغضب أو لأن العذاب قد علق بالتولي عما ذكر من التوحيد وما معه وذلك يستدعي سابقة ذكره.
وقرأ عيسى بن عمرو واليماني «تولوا» بضم التاء وفتح الواو وضم اللام وهو مضارع - ولى - من قولهم : ولى هاربا أي أدبر فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ بمقتضى الشفقة والرأفة أو أتوقع عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ هو يوم القيامة وصف بذلك لكبر ما يكون فيه ولذا وصف بالثقل أيضا ، وجوز وصفه بالكبر لكونه كذلك في نفسه ، وقيل : المراد به زمان ابتلاهم اللّه تعالى فيه في الدنيا ، وقد روي أنهم ابتلوا بقحط عظيم أكلوا فيه الجيف ، وأيّا ما كان ففي إضافة العذاب إليه تهويل وتفظيع له إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ مصدر ميمي وكان قياسه فتح الجيم لأنه من باب ضرب وقياس مصدره الميمي ذلك كما علم من محله ، أي إليه تعالى رجوعكم بالموت ثم البعث للجزاء في مثل ذلك اليوم لا إلى غيره جميعا لا يتخلف منكم أحد وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيندرج في تلك الكلية قدرته سبحانه على إماتتكم ثم بعثكم وجزائكم فيعذبكم بأفانين العذاب ، وهذا تقرير وتأكيد لما سلف من ذكر اليوم وتعليل للخوف.
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ كأنه جواب سؤال مقدر ، وذلك أنه لما ألقي إليهم ما ألقي وسيق إليهم ما سيق من الترغيب والترهيب وقع في ذهن السامع أنهم بعد ما سمعوا مثل هذا المقال الذي تخر له صم الجبال

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 196
هل قابلوا بالإقبال أم تمادوا فيما كانوا عليه من الإعراض والضلال فقيل : مصدرا بكلمة التنبيه إشعارا بأن ما بعدها من هناتهم أمر ينبغي أن يفهم ويتعجب منه أَلا إِنَّهُمْ إلخ ، فضمير إِنَّهُمْ للمشركين المخاطبين فيما تقدم و«يثنون» بفتح الياء مضارع ثنى الشيء إذا لواه وعطفه ، ومنه على ما قيل الاثنان ، لعطف أحدهما على الآخر والثناء لعطف المناقب بعضها على بعض وكذا الاستثناء للعطف على المستثنى منه بالإخراج ، وأصله يثنيون فأعل بالإعلال المعروف في نحو يرمون ، وفي المراد منه احتمالات : منها أن الثني كناية أو مجاز عن الإعراض عن الحق لأن من أقبل على شيء واجهه بصدره ومن أعرض صرفه عنه ، أي إنهم يثنون صدورهم عن الحق ويتحرفون عنه ، والمراد استمرارهم على ما كانوا عليه من التولي والإعراض المشار إليه بقوله سبحانه : وَإِنْ تَوَلَّوْا إلخ. ومنها أنه مجاز عن الإخفاء لأن ما يجعل داخل الصدر فهو خفي أي إنهم يضمرون الكفر والتولي عن الحق وعداوة النبي صلّى اللّه عليه وسلم.
ومنها أنه باق على حقيقته ، والمعنى أنهم إذا رأوا النبي عليه الصلاة والسلام فعلوا ذلك وولوا ظهورهم ، والظاهر أن اللام متعلقة - بيثنون - على سائر الاحتمالات ، وكأن بعضهم رأى عدم صحة التعلق على الاحتمال الأول لما أن التولي عن الحق لا يصلح تعليله بالاستخفاء لعدم السببية فقدر لذلك متعلقا فعل الإرادة على أنه حال أو معطوف على ما قبله ، أي ويريدون ليستخفوا من اللّه تعالى فلا يطلع رسوله عليه الصلاة والسلام والمؤمنين على أغراضهم ، وجعله في قود المعنى أليه من قبيل الإضمار في قوله تعالى : اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشعراء : 63] أي فضرب فانفلق ، لكن لا يخفى أن انسياق الذهن إلى توسيط الإرادة بين ثني الصدور والاستخفاء ليس بمثابة انسياقه إلى توسيط الضرب بين الأمر والانفلاق كما ذكره العلامة القسطلاني وغيره ، وقيل : إنه لا حاجة إلى التقدير في الاحتمالين الأولين لأن انحرافهم عن الحق بقلوبهم وعطف صدورهم على الكفر والتولي وعداوة النبي صلّى اللّه عليه وسلم وعدم إظهارهم ذلك يجوز أن يكون للاستخفاء من اللّه تعالى لجهلهم بما لا يجوز على اللّه تعالى ، وأما على الاحتمال الثالث فالظاهر أنه لا بد من التقدير إلا أن يعاد الضمير منه إلى الرسول صلّى اللّه عليه وسلم وهو الذي يقتضيه سبب النزول على ما ذكره أبو حيان من أن الآية نزلت في بعض الكفار الذين كانوا إذا لقيهم النبي صلّى اللّه عليه وسلم تطامنوا وثنوا صدورهم كالمستتر وردوا إليه ظهورهم وغشوا وجوههم بثيابهم تباعدا منه وكراهة للقائه عليه الصلاة والسلام وهم يظنون أنه يخفى عليه صلّى اللّه عليه وسلم ، لكن ظاهر قوله تعالى الآتي :
يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ يقتضي عود الضمير إليه تعالى. واختار بعض المحققين الاحتمال الثاني من الاحتمالات الثلاث ، وأمر التعليل والضمير عليه ظاهر ، وأيده بما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنها نزلت في الأخنس بن شريق وكان رجلا حلو المنطق حسن السياق للحديث يظهر لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم المحبة ويضمر في قلبه ما يضادها لكنه ليس بمجمع عليه لما سمعت عن أبي حيان.
وقيل : إنه كان الرجل من الكفار يدخل بيته ويرخي ستره ويحني ظهره ويتغشى بثوبه ويقول : هل يعلم اللّه ما في قلبي فنزلت ، وأخرج ابن جرير : وغيره عن عبد اللّه بن شداد أنها نزلت في المنافقين كان أحدهم إذا مر بالنبي صلّى اللّه عليه وسلم ثنى صدره وتغشى لئلا يراه ، وهو في معنى ما تقدم عن أبي حيان إلا أن فيه بعض الكفار دون المنافقين ، فلا يرد عليه ما أورد على هذا من أن الآية مكية والنفاق إنما حدث بالمدينة فكيف يتسنى القول بأنها نزلت في المنافقين؟ وقد أجيب عن ذلك بأنه ليس المراد بالنفاق ظاهره بل ما كان يصدر من بعض المشركين الذين كان لهم مداراة تشبه النفاق ، وقد يقال : إن حديث حدوث النفاق بالمدينة ليس إلا غير مسلم بل ظهوره إنما كان فيها والامتياز إلى ثلاث طوائف ، ثم لو سلم فلا إشكال بل يكون على أسلوب قوله سبحانه : كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ [الحجر : 90] إذا فسر باليهود ويراد به ما جرى على بني قريظة فإنه إخبار عما سيقع ، وجعله كالواقع لتحققه وهو من الإعجاز لأنه وقع كذلك فكذا

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 197
ما نحن فيه. نعم الثابت في صحيح البخاري. وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق محمد بن عباد ابن جعفر أنه سمع ابن عباس يقرأ الآية فسأله عنها فقال : أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء وإن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء فنزل ذلك فيهم ، وليس في الروايات السابقة ما يكافىء هذه الرواية في الصحة ، وأمر يَثْنُونَ عليها ظاهر خلا أنه إذا كان المراد بالأناس جماعة من المسلمين كما صرح به الجلال السيوطي أشكل الأمر ، وذلك لأن الظاهر من حال المسلم إذا استحى من ربه سبحانه فلم يكشف عورته مثلا في خلوة كان مقصوده مجرد إظهار الأدب مع اللّه تعالى مع علمه بأنه جل شأنه لا يحجب بصره حاجب ولا يمنع علمه شيء ومثل هذا الحياء أمر لا يكاد يذمه أحد بل في الآثار ما هو صريح في الأمر به وهو شعار كثير من كبار الأمة ، والقول بأن استحياء أولئك المسلمين كان مقرونا بالجهل بصفاته عز وجل فظنوا أن الثني يحجب عن اللّه سبحانه فرد عليهم بما رد لا أظنك تقبله ، وبالجملة الأمر على هذه الرواية لا يخلو عن إشكال ولا يكاد يندفع بسلامة الأمر ، والذي يقتضيه السياق ويستدعيه ربط الآيات كون الآية في المشركين حسبما تقدم فتدبر واللّه تعالى أعلم.
وقرأ الحبر رضي اللّه تعالى عنه ومجاهد ، وغيرهما «تثنوني» بالتاء لتأنيث الجمع وبالياء التحتية لأن التأنيث غير حقيقي ، وهو مضارع اثنونى كاحلولى فوزنه تفعوعل بتكرير العين وهو من أبنية المزيد الموضوعة للمبالغة لأنه يقال حلي فإذا أريد المبالغة قيل احلولى وهو لازم - فصدورهم - فاعلة ، ويراد منه ما أريد من المعاني في قراءة الجمهور إلا أن المبالغة ملحوظة في ذلك فيقال : المعنى مثلا تنحرف صدورهم انحرافا بليغا. وعن الحبر أيضا وعروة وغيرهما أنهم قرؤوا «تثنون» بفتح التاء المثناة من فوق وسكون التاء وفتح النون وكسر الواو وتشديد النون الأخيرة ، والأصل تثنونن بوزن تفعوعل من الثن بكسر الثاء وتشديد النون وهو ما هش وضعف من الكلأ أنشد أبو زيد :
يا أيها المفضل المعني إنك ريان فصمت عني
تكفي اللقوح أكلة من ثن
ولزم الإدغام لتكرير العين إذا كان غير ملحق وصُدُورَهُمْ على هذه مرفوع أيضا على الفاعلية ، والمعنى على وصف قلوبهم بالسخافة والضعف كذلك النبت الضعيف ، فالصدور مجاز عما فيها من القلوب ، وجوز أن يكون مطاوع ثناه فإنه يقال : ثناه فانثنى واثنونى كما صرح به ابن مالك في التسهيل فقال : وافعوعل للمبالغة وقد يوافق استفعل ويطاوع فعل ومثلوه بهذا الفعل ، فالمعنى أن صدورهم قبلت الثني ويؤول إلى معنى انحرفت كما فسر به قراءة الجمهور. وعن مجاهد وكذا عروة الأعشى أنه قرأ «تثنئن» كتطمئن وأصله يثنان فقلبت الألف همزة مكسورة رغبة في عدم التقاء الساكنين وإن كان على حدة ، ويقال في ماضيه اثنان كاحمأر وابيأض ، وقيل : أصله تثنون بواو مكسورة فاستثقلت الكسرة على الواو فقلبت همزة كما قيل في وشاح أشاح وفي وسادة إسادة فوزنه على هذا تفوعل وعلى الأول تفعال ، ورجح باطراده وهو من الثن الكلأ الضعيف أيضا ، وقرىء «تثنوي» كترعوي ونسب ذلك إلى ابن عباس أيضا ، وغلط النقل بأنه لا حظ للواو في هذا الفعل إذ لا يقال : ثنوته فانثوى كرعوته فارعوى ووزن ارعوى من غريب الأوزان ، وفي الصحاح تقديره افعول ووزنه افعلل ، وإنما لم يدغم لسكون الياء وتمام الكلام فيه يطلب من محله ، وقرىء بغير ذلك ، وأوصل بعضهم القراءات إلى ثلاث عشرة وفصلها في الدر المصون ، ومن غريبها أنه قرىء «يثنون» بالضم.
واستشكل ذلك ابن جني بأنه لا يقال : أثنيته بمعنى ثنيته ولم يسمع في غير هذه القراءة ، وقال أبو البقاء : لا يعرف ذلك في اللغة إلا أن يقال : معناه عرضوها للانثناء كما تقول : أبعت الفرس إذا عرضته للبيع أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ أي يجعلونها أغشية ، ومنه قول الخنساء :

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 198
أرعى النجوم وما كلفت رعيتها وتارة أتغشى فضل أطماري
وحاصله حين يأوون إلى فراشهم ويلتحفون بما يلتحف به النائم ، وهو وقت كثيرا ما يقع فيه حديث النفس عادة ، وعن ابن شداد حين يتغطون بثيابهم للاستخفاء ، وأيّا ما كان فالمراد من الثياب معناه الحقيقي وقيل : المراد به الليل وهو يستر كما تستر الثياب ، ومن ذلك قولهم : الليل أخفى للويل ، والظرف متعلق بقوله سبحانه : يَعْلَمُ أي ألا يعلم ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ حين يستغشون ثيابهم ولا يلزم منه تقييد علم اللّه تعالى بذلك الوقت لأن من يعلم فيه يعلم فيه غيره بالطريق الأولى ، وجوز تعلقه بمحذوف وقدره السمين وأبو البقاء يستخفون وبعضهم يريدون ، و«ما» في الموضعين إما مصدرية أو موصولة عائدها محذوف أي الذي يسرونه في قلوبهم والذي يعلنونه أي شيء كان ويدخل ما يقتضيه السياق دخولا أوليا ، وخصه بعضهم به ، وقدم هنا السر على العلن نعيا عليهم من أول الأمر ما صنعوا وإيذانا بافتضاحهم ووقوع ما يحذرونه وتحقيقا للمساواة بين العلمين على أبلغ وجه فكأن علمه سبحانه بما يسرونه أقدم منه بما يعلنونه ، وحاصل المعنى يستوي بالنسبة إلى علمه المحيط سرهم وعلنهم فكيف يخفى عليه سبحانه ما عسى أن يظهروه.
وقرأ ابن عباس «على حين يستغشون» قال ابن عطية : ومن هذا الاستعمال قول النابغة :
على حين عاتبت المشيب على الصبا إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تعليل لما سبق وتقرير له ، والمراد - بذات الصدور - الأسرار المستكنة فيها أو القلوب التي في الصدور ، وأيّا ما كان فليست الذات مقحمة كما في ذات غدوة ولا من إضافة المسمى إلى اسمه كما توهم ، أي إنه تعالى مبالغ في الإحاطة بمضمرات جميع الناس وأسرارهم أو بالقلوب وأحوالها فلا يخفى عليه سر من أسرارها فكيف يخفى عليه ما يسرون وما يعلنون ، وكان التعبير بالجملة الاسمية للإشارة إلى أنه سبحانه لم يزل عالما بذلك ، وفيه دليل على أنه تعالى يعلم الأشياء قبل وجودها الخارجي ، وهذا مما لا ينكره أحد سوى شرذمة من المعتزلة قالوا : إنه تعالى إنما يعلم الأشياء بعد حدوثها تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، ولا يلزم هذا بعض المتكلمين المنكرين للوجود الذهني لأنهم إذا لم يقولوا به مع إنكار الوجود الذهني يلزمهم القول بتعلق العلم بالمعدوم الصرف ، وامتناعه من أجل البديهيات ، والإنكار مكابرة أو جهل بمعنى التعلق بالمعدوم الصرف ، وقد أورد ذلك عليهم المحقق الدواني ، وهو ناشىء على ما قيل عن الذهول عن معنى إنكار الوجود الذهني وبعد تحقيق المراد منه يندفع ذلك وبيانه أنه ليس معنى إنكارهم ذلك أنه لا يحصل صورة عند العقل إذا تصورنا شيئا أو صدقنا به لأن حصولها عنده في الواقع بديهي لا ينكره إلا مكابر ، وكيف ينكره الجمهور والعلم الحادث مخلوق عندهم والخلق إنما يتعلق بأعيان الموجودات بل هو بمعنى أن ذلك الحصول ليس نحوا آخر من وجود الماهية المعلومة بأن يكون الماهية واحدة كالشمس مثلا وجودان ، أحدهما خارجي والآخر ذهني كما يقول به مثبتوه ، فهم لا ينكرون الوجود عن صور الأشياء وأشباحها وهي موجودات خارجية وكيفيات نفسانية وهي المخلوقة عندهم ، وإنما ينكرون الوجود الذهني عن أنفس تلك الأشياء وذلك بشهادة أدلتهم حيث قالوا : لو حصلت النار في الأذهان لاحترقت الأذهان بتصورها واللازم باطل فإنه كما ترى إنما ينفي الوجود عن نفس النار لا عن شبحها ومثالها ، فالحق أن الجمهور إنما أنكر وإما ذهب إليه محققو الحكماء من أن الحاصل في الأذهان أنفس ماهيات الأشياء ولم ينكروا ما ذهب إليه أهل الأشباح ، وحينئذ يقال : علم الواجب عندهم إما تعلقه بأشباح الأشياء أو صفة ذات ذلك التعلق فلا يلزمهم القول بما قاله الشرذمة ، ولا يتجه عليهم أن التعلق بتلك الأشباح الموجودة في الأزل لكونه نسبة بينها وبينه تعالى متأخر عنها فيلزم إيجاد تلك الأشباح بلا علم

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 199
وهو محال ، لأنا نقول لما كان الواجب «1» تعالى موجبا فيعلمه وسائر صفاته الذاتية كان وجود تلك الصور الإدراكية التي هي تلك الأشباح مقتضى ذاته تعالى فلا بأس في كونها سابقة على العلم بالذات وإنما المسبوق بالعلم هو أفعاله الاختيارية ، ثم ينبغي أن يعلم أنه ليس معنى قولهم : إن علم الواجب تبارك وتعالى بالأشياء أزلي وتعلقه بها حادث أنه ليس هناك إلا تعلق حادث لأنه يلزم حدوث نفس العلم فيعود ما ارتكبه الشرذمة للقطع بأنه لا يصير المعلوم معلوما قبل تعلق العلم به وهو من الفساد بمكان ، بل معناه أن التعلق الذي لا تقتضيه حقيقة العلم حادث وهناك تعلق تقتضيه تلك الحقيقة وهو قديم ، وذلك لأن الأشباح والأمثال معلومة بالذات وبواسطتها تعلم الأشياء ، فتعلق العلم عندهم أعم من تعلقه بذات الشيء المعلوم أو بمثاله وشبحه ، ولما لم يمكن وجود الحوادث في الأزل كان العلم الممكن بالنسبة إليها بالتعلق بأمثالها وأشباحها وبعد حدوثها يتجدد التعلق بأن يكون بذات تلك الحوادث. وبالجملة تعلق العلم بأمثال الحوادث وأشباحها أزلي وبأنفسها وذواتها حادث ولا إشكال فيه أصلا ، وبهذا التحقيق يندفع شبهات كثيرة كما قيل ، لكن أورد عليه أن برهان التطبيق جار في هاتيك الأشباح لما أنها متميزة الآحاد في نفس الأمر فيلزم أحد المحذورين.
وفي المقام أبحاث طويلة الذيل وقد بسط الكلام في ذلك مولانا إسماعيل أفندي الكلنبوي في حواشيه على شرح العضدية ، وللمولى الشيخ إبراهيم الكوراني تحقيق على طرز آخر ذكره في كتابه مطلع الجود فارجع إليه.
وبالجملة لا تخفى صعوبة هذه المسألة وهي مما زلت فيها أقدام أقوام ، ولعل اللّه سبحانه يرزقك تحقيقها بمنه سبحانه ، وقد قال به أفضل المتأخرين مولانا إسماعيل أفندي الكنبوي «2».
___________
(1) قوله «لما كان الواجب» إلخ كذا بخطه وتأمله
(2) تم الجزء الحادي عشر بحول الله وقوته ويليه الجزء الثاني عشر واوله وَما مِنْ دَابَّةٍ.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 200

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 201
الجزء الثاني عشر

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 202

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 203
بسم اللّه الرحمن الرحيم
[سورة هود (11) : الآيات 6 إلى 11]
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)
إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها الدابة اسم لكل حيوان ذي روح ذكرا كان أو أنثى عاقلا أو غيره ، مأخوذ من الدبيب ، وهو في الأصل المشي الخفيف ومنه قوله :
زعمتني شيخا ولست بشيخ إنما الشيخ من يدب دبيبا
واختصت في العرف بذوات القوائم الأربع وقد تخص بالفرس ، والمراد بها هنا المعنى اللغوي باتفاق المفسرين أي وما من حيوان يدب على الأرض إلا على اللّه تعالى غذاؤه ومعاشه ، والمراد أن ذلك كالواجب عليه تعالى إذ لا وجوب عليه سبحانه عند أهل الحق كما بين في الكلام ، فكلمة عَلَى المستعملة للوجوب مستعارة استعارة تبعية لما يشبهه ويكون من المجاز بمرتبتين ، وذكر الإمام أن الرزق واجب بحسب الوعد والفضل والإحسان على معنى أنه باق على تفضله لكن لما وعده سبحانه وهو جل شأنه لا يخل بما وعد صوره بصورة الوجوب لفائدتين : التحقيق لوصوله. وحمل العباد على التوكل فيه ، ولا يمنع من التوكل مباشرة الأسباب مع العلم بأنه سبحانه المسبب لها
ففي الخبر «اعقل وتوكل»
وجاء «لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا اللّه تعالى وأجملوا في الطلب»
ولا ينبغي أن يعتقد أنه لا يحصل الرزق بدون مباشرة سبب فإنه سبحانه يرزق الكثير من دون مباشرة سبب أصلا ، وفي بعض الآثار «إن موسى عليه السلام عند نزول الوحي تعلق قلبه بأحوال أهله فأمره اللّه تعالى بأن يضرب بعصاه صخرة فضرب

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 204
فانشقت الصخرة وخرجت صخرة ثانية فضربها فخرجت ثالثة فضربها فانشقت عن دودة كالذرة وفي فمها شيء يجري مجرى الغذاء لها وسمعها تقول : سبحان من يراني ويسمع كلامي ويعرف مكاني ويذكرني ولا ينساني»
وما أحسن قول ابن أذينة :
لقد علمت وما الإشراف من خلقي إن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى إليه فيعييني تطلبه ولو أقمت أتاني لا يعنيني
وقد صدقه اللّه تعالى في ذلك يوم وفد على هشام فقرعه بقوله هذا فرجع إلى المدينة فندم هشام على ذلك وأرسل بجائزته إليه ، ويقرب من قصته قصة الثقفي مع عبيد اللّه بن عامر خال عثمان بن عفان رضي اللّه تعالى عنه وهي مشهورة حكاها ابن أبي الدنيا ونقلها غير واحد ، وقد ألغى أمر الأسباب جدا من قال :
مثل الرزق الذي تطلبه مثل الطل الذي يمشي معك
أنت لا تدركه متبعا وإذا وليت عنه تبعك
وبالجملة ينبغي الوثوق باللّه تعالى وربط القلب به سبحانه فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن واحتج أهل السنة بالآية على أن الحرام رزق وإلا فمن لم يأكل طول عمره إلا من الحرام يلزم أن لا يكون مرزوقا ، وأجيب بأن هذا مجرد فرض إذ لا أقل من التغذي بلبن الأم مثلا وهو حلال على أن المراد أن كل حيوان يحتاج إلى الرزق إذا رزق فإنما رزقه من اللّه تعالى وهو لا ينافي أن يكون هناك من لا رزق له كالمتغذي بالحرام ، وكذا من لم يرزق أصلا حتى مات جوعا ، وروي هذا عن مجاهد وقد تقدم الكلام في ذلك.
وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها موضع قرارها في الأصلاب وَمُسْتَوْدَعَها موضعها في الأرحام وما يجري مجراها من البيض ونحوه ، فالمستقر والمستودع اسما مكان ، وجوز فيهما أن يكونا مصدرين وأن يكون المستودع اسم مفعول لتعدي فعله ، ولا يجوز في المستقر ذلك لأن فعله لازم. والأول هو الظاهر ، وإنما خص كل من الاسمين بما خص به من المحل - كما قال بعض الفضلاء - لأن النطفة مثلا بالنسبة إلى الأصلاب في حيزها الطبيعي ومنشئها الخلقي ، وأما بالنسبة إلى الأرحام مثلا فهي مودعة فيها إلى وقت معين ، وعن عطاء تفسير المستقر بالأرحام والمستودع بالأصلاب وكأنه أخذ تفسير الأول بذلك من قوله سبحانه : وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ [الحج : 5] ، وجوز أن يكون المراد بالمستقر مساكنها من الأرض حيث وجدت بالفعل ، وبالمستودع محلها من المواد والمقار حين كانت بعد بالقرة ، وهذا عام لجميع الحيوانات بخلاف الأول إذ من الحيوانات ما لم يستقر في صلب كالمتكون من عفونة الأرض مثلا ، ولعل تقديم محلها باعتبار حالتها الأخيرة لرعاية المناسبة بينها وبين عنوان كونها دابة في الأرض مثلا ، والمعنى على ما قيل : ما من دابة في الأرض إلا يرزقها اللّه تعالى حيث كانت من أماكنها يسوقه إليها ويعلم موادها المختلفة المندرجة في مراتب الاستعدادات المتفاوتة المتطورة في الأطوار المتباينة ومقارها المتنوعة يفيض عليها في كل مرتبة ما يليق بها من مبادئ وجودها وكمالاتها المتفرعة عليها ، ولا يخلو عن حسن إلا أن فيه بعدا ، وأخرج عبد الرزاق وجماعة عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن مستقرها حيث تأوي ومستودعها حيث تموت ، وتعقب بأن تفسير المستودع بذلك لا يلائم مقام التكفل بأرزاقها ، وقد يقال : لعل ذلك إشارة إلى نهاية أمد ذلك التكفل ، وفي خبر ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه إشارة إلى ما هو كالمبدأ له أيضا ، فقد أخرج عنه ابن جرير والحاكم وصححه أنه قال : مستقرها
الأرحام ، ومستودعها حيث تموت ، فكأنه قيل : إنه سبحانه متكفل برزق كل دابة ويعلم مكانها أول ما تحتاج إلى

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 205
الرزق ومكانها آخر ما تحتاج إليه فهو سبحانه يسوقه إليها ولا بد إلى أن ينتهي أمد احتياجها ، وجوز في هذه الجملة أن تكون استئنافا بيانيا وأن تكون معطوفة على جملة عَلَى اللَّهِ رِزْقُها داخلة في حيز إِلَّا وعليه اقتصر الأجهوري.
كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي كل واحد من الدواب ورزقها ومستقرها ومستودعها ، أو كل ما ذكر وغيره مثبت في اللوح المحفوظ البين لمن ينظر فيه من الملائكة عليهم السلام ، أو المظهر لما أثبت فيه للناظرين ، والجملة - على ما قال الطيبي - كالتتميم لمعنى وجوب تكفل الرزق كمن أقر بشيء في ذمته ثم كتب عليه صكا ، وفي الكشف إن الأظهر أنها تحقيق للعلم وكأنه تعالى لما ذكر أنه يعلم ما يسرون وما يعلنون أردفه بما يدل على عموم علمه ، ثم أتى سبحانه بما يدل على عظيم قدرته جل شأنه من قوله تبارك وتعالى :
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ تقريرا للتوحيد لأن من شمل علمه وقدرته هو الذي يكون إلها لا غيره مما لا يعلم ولا يقدر على ضر ونفع وتأكيدا لما سبق من الوعد والوعيد لأن العالم القادر يرجى ويخشى ، وجوز أن تكون الآية تقريرا لقوله سبحانه : يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ وما بعدها تقريرا لقوله سبحانه :
وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وفيه بعد ، وكأن المراد بخلق السماوات والأرض إلخ خلقهما وما فيهما ، أو تجعل السماوات مجازا عن العلويات فتشملها وما فيها ، وتجعل الأرض مجازا بمعنى السفليات فتشملها وما فيها من غير تقدير ، واحتيج لذلك لاقتضاء المقام إياه وإلا فخلقهما في تلك المدة لا ينافي خلق غيرهما فيها ، والمراد باليوم الوقت مطلقا لا المتعارف إذ لا يتصور ذلك حين لا شمس ولا أرض ، وقيل أريد به مدة زمان دور المحدد المسمى بالعرش دورة تامة ، وإليه ذهب الشيخ الأكبر قدس سره ، وقد علمت حاله فيما تقدم ، وقيل : غير ذلك.
وفي عدم خلقهما دفعة كما علمت دليل - كما قال غير واحد - على كونه سبحانه قادرا مختارا مع ما فيه من الاعتبار للنظار والحث على التأني في الأمور ، وقد تقدم ما قيل في وجه تخصيص هذا العدد دون الزائد عليه كالسبعة أو الناقص عنه كالخمسة للخلق ، ولعلنا نحقق ذلك في موضع آخر ، وإيثار صيغة الجمع في السماوات لاختلافها بالأصل والذات دون الأرض ، وإن قيل : إنها مثل السماء في كونها سبعا طباقا بين كل أرض وأرض مسافة وفيها مخلوقات ، وبذلك فسر قوله سبحانه : وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق : 2] والكثير على أن الأرض كرة واحدة منقسمة إلى سبعة أقاليم وحملوا الآية على ذلك.
وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ عطف على جملة خَلَقَ مع ضميره المستتر أو حال من الضمير بتقدير قد على ما هو المشهور في الجملة الحالية الماضوية من اشتراط قد ظاهرة أو مقدرة والمضي المستفاد - من كان - بالنسبة للحكم لا للتكلم أي كان عرشه على الماء قبل خلقهما وهو الذي يقتضيه كلام مجاهد ، وبه صرح القاضي البيضاوي ، ثم قال : لم يكن حائل بينهما أي العرش والماء لا أنه كان موضوعا على متن الماء ، واستدل به على إمكان الخلاء وأن الماء أول حادث بعد العرش من اجرام هذا العالم انتهى ، وكذا صرح به العلامة أبو السعود مفتي الديار الرومية لكنه قال : ليس تحته - يعني العرش - شيء غيره أي الماء سواء كان بينهما فرجة ، أو موضوعا على متنه كما ورد في الأثر فلا دلالة فيه على إمكان الخلاء كيف لا ولو دل لدل على وجوده لا على إمكانه فقط ولا على كون الماء أول ما حدث في العالم بعد العرش وإنما يدل على أن خلقهما أقدم من خلق السماوات والأرض من غير تعرض للنسبة بينهما انتهى ، ولا يخفى ما بين القاضي والمفتي من المخالفة ، والأكثرون على أن الحق مع المفتي كما ستعلمه إن شاء اللّه تعالى.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 206
وانتصر بعضهم للقاضي بأنه لو كان موضوعا على متن الماء للزم قبل خلق تمام العالم أحد الأمور الستة : إما خروج الماء عن حيزه الطبيعي ، أو خروج العرش عن حيزه الطبيعي ، أو تخلخل الماء ، أو نموه أو تخلخل العرش أو نموه ، وحين خلق العالم أحد الأمور الخمسة : إما حركة العرش بالاستقامة إلى حيزه الطبيعي. أو تكاثف الماء أو ذبوله أو تكاثف العرش أو ذبوله ، وهذه الأمور باطلة كما لا يخفى على من تدرب في الحكمة ، ويحمل الإمكان في كلامه على الإمكان الوقوعي ، أو يراد به الإمكان الذاتي وبالخلاء الخلاء في عالمنا هذا فإنه المتنازع فيه فكأنه قيل واستدل به على أن الخلاء في عالمنا ممكن بالإمكان الذاتي وتوجيه الاستدلال به حينئذ على ذلك هو أن الخلاء قبل عالمنا هذا كان واقعا ووقوع شيء في وقت من الأوقات دليل على إمكانه الذاتي في جميع الأوقات فإن ثبوت الإمكان للممكن واجب فالممكن في وقت ممكن في وقت آخر كما حققه شارح حكمة العين ، ووجه الدلالة على أن الماء أول حادث بعد العرش أن كل جسم بسيط فله مكان طبيعي وأن المكان من لوازم وجود الجسم فإن الفاعل إذا أوجد الجسم أوجده لا محالة في مكان كما صرحوا به ، والمكان للخفيف من الأجسام هو الفوق ، وللثقيل التحت على حسب الثقل والخفة وتحددهما إنما هو بالفلك الأعظم فوجود الماء في جوف العرش يتوقف على وجود مكانه المتوقف على وجود العرش فيتأخر عنه حدوثا ولا يخفى ما في هذا الوجه من النظر ، ولا أقل من أن يقال لم لا يجوز أن يخلق اللّه تعالى العرش والماء معا؟ على أنه قد جاء في بعض الآثار ما هو ظاهر في أن الماء كان مخلوقا قبل العرش
فقد أخرج الطيالسي وأحمد والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الأسماء والصفات وغيرهم عن أبي رزين العقيلي قال : «قلت : يا رسول اللّه أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ قال : كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء وخلق عرشه على الماء»
وقال بعض في بيان وجه ذلك إنه لما كان معنى كون العرش على الماء أنه موضوع فوقه لا مماسه وأن خلق السماوات إنما كان بعدهما اقتضى ذلك أن العرش مخلوق قبل وأن الماء أول حادث بعده وهو من فحوى الخطاب ، وقوله : لا إنه كان موضوعا إلخ لأن سياقه لبيان قدرته تعالى يقتضيه وفيه ما فيه كما لا يخفى ، وتعقب بعض فضلاء الروم ما ذكر أولا بأن حاصله أن الشق الثاني من الشقين المذكورين في كلام العلامة الثاني مستلزم لأحد أمور تقرر في علم الحكمة بطلانها فيتعين الأول منهما ، وهو الذي ذهب إليه العلامة الأول ، وهو إنما يتم أن لو كانت المقدمات المذكورة في إبطال تلك الأمور يقينية وهو ممنوع فإن أكثرها مبني على أصول الفلاسفة ، وقد بين القاضي نفسه بطلان أكثرها في الطوالع وهو إنما يراعي القواعد الحكمية إذا لم تكن مخالفة للقواعد الإسلامية على أن في كلام ذلك المنتصر خللا من وجوه : الأول أن قوله : يلزم إما خروج الماء عن حيزه الطبيعي إلخ يقال في جوابه : إنه يجوز أن يخرج الماء عن حيزه الطبيعي وذلك غير محال وإن كان خروجه بنفسه بطريق السيلان عن حيزه الطبيعي محالا ، ويشهد لذلك أنهم ذكروا أن الماء لثقله الإضافي يقتضي أن يكون فوق الأرض والأرض لثقلها الحقيقي تقتضي أن تكون مغمورة بأسرها فيه بحيث يمكن أن يفرض في جوفها نقطة تكون الخطوط الخارجة منها إلى سطح الماء متساوية من جميع الجهات مع أن الأمر اليوم ليس كذلك لانكشاف ربع شمالي من الأرض ، وانحسار الماء عنه إما بسبب قرب الشمس في الجنوب إلى الأرض عند كونها في الحضيض بقدر ثخن المتمم المحوي كما قيل أو
لأمر آخر يعلمه اللّه تعالى والثاني أن ما ذكره من استحالة تخلخل الماء ممنوع عندهم أيضا ، وما يقال : إن القول بالتخلخل لا يتصور في البسائط الحقيقية للزوم تركيب ما فيه مدفوع. فقد صرح في حكمة العين وشرحها بأن التخلخل الحقيقي - وهو أن يزداد مقدار الجسم من غير أن يزاد عليه شيء من خارج - ممكن ، وحققه سيد المحققين في حواشيه بأن الجسم سواء كان مركبا من الهيولى والصورة أو لم يكن يمكن التخلخل والتكاثف فيه لأن مقدار الجسم زائد عليه والجسم من حيث هو لا مقدار له في ذاته فنسبته إلى جميع

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 207
المقادير على السواء فأمكن أن يتصف بأكبر مما هو متصف به أو أصغر ، وأيضا الجسم متصل واحد والمقدار زائد عليه والجسم البسيط جزؤه يساوي كله فإذا اتصف الكل بمقدار خاص فجزؤه إذا انفرد وجب أن يكون قابلا للاتصاف بذلك المقدار والكل بالعكس ضرورة تساوي المتماثلات في الأحكام ، وحينئذ يتحقق إمكان ذلك ، والثالث أن التوجيه بحمل الإمكان على الإمكان الذاتي إلخ منظور فيه إذ لا يلزم من وقوع شيء في وقت من الأوقات إلا إمكان وجوده في ذلك الوقت وإن كان ذلك الإمكان مستمرا واجبا في جميع الأوقات ، فقوله : إن ثبوت الإمكان للممكن واجب ، فالممكن في وقت ممكن في كل وقت إن أراد به أن إمكانه أمر ثابت له في كل وقت على أن قوله في كل وقت ظرف للإمكان فهو مسلم لكن اللازم منه أن يكون ذلك الشيء متصفا بالإمكان إمكانا مستمرا دائما غير مسبوق بعدم الاتصاف ولا سابق عليه ولا يلزم منه أن يكون وجوده في كل وقت ممكنا لجواز أن يكون وجود الشيء في الجملة ممكنا إمكانا مستمرا ولا يكون وجوده في كل وقت ممكنا بل ممتنع ، ولا يلزم من هذا أن يكون الشيء من قبيل الممتنعات دون الممكنات فإن إمكان الشيء ليس معناه جواز اتصافه بجميع أنحاء الوجود بل معناه جواز اتصافه بوجود ما في الجملة فيكفي في إمكان الشيء جواز اتصافه بالوجود الواقع في وقت ، والممتنع هو الذي لا يقبل الوجود بوجه من الوجوه ، وإن أراد أنه ممكن الوجود في كل وقت على أن يكون في كل وقت ظرفا للوجود فهو ممنوع ولا يتفرع على كون ثبوت الإمكان للممكن واجبا ، فإنه قد حقق المحقق الدواني في بعض تصانيفه أن إمكان الممكن وإن كان مستمرا في جميع الأزمنة لا يستلزم إمكان وجود ذلك الممكن في تلك الأزمنة ، وعلى هذا اعتمد المتكلمون في الجواب عن استدلال الفلاسفة على قدم العالم بأنه ممكن الوجود في الأزل وإلا لزم الانقلاب وهو محال بالضرورة ، وقدرة الباري تعالى أزلية بالاتفاق فلو كان العالم
حادثا لزم ترك الجود وهو إفاضة الوجود وما يتبعه من الكمالات
على الممكنات مدة غير متناهية وهو محال على الجواد الحق الكريم وحاصل الجواب أن قولكم العالم ممكن الوجود في الأزل إن أردتم به أنه يمكن له الوجود الأزلي على أن يكون في الأزل متعلقا بالوجود فهو ممنوع لجواز أن يكون وجوده في الأزل ممتنعا ، وإن أردتم به أن إمكان وجوده في الجملة مستمر في الأزل على أن يكون الظرف متعلقا بالإمكان فمسلم ، ولا يلزم أن يكون وجود العالم في الأزل ممكنا لجواز أن يكون وجوده في الأزل مستحيلا مع أنه في الأزل متصف بإمكان وجوده فيما لا يزال ، وهذا ما يقال إن أزلية الإمكان لا تستلزم إمكان الأزلية ، وما قيل في إثبات الاستلزام إن إمكانه إذا كان مستمرا في الأزل لم يكن هو في ذاته مانعا من قبول الوجود في شيء من أجزاء الأزل فيكون عدم منعه منه أمرا مستمرا في جميع تلك الأجزاء ، فإذا نظر إلى ذاته من حيث هو لم يمنع من اتصافه بالوجود في شيء منها بل جاز اتصافه به في كل منها بدلا فقط بل معا أيضا ، وجواز اتصافه في كل منها هو إمكان اتصافه بالوجود المستمر في جميع أجزاء الأزل بالنظر إلى ذاته فأزلية الإمكان مستلزمة لإمكان الأزلية صحيح إلى قوله : لم يمنع من اتصافه بالوجود في شيء منها فإنه إن أراد أن ذاته لا تمنع في شيء من أجزاء الأزل من الاتصاف بالوجود في الجملة بأن يكون قوله في شيء منها متعلقا بعدم المنع فيكون معناه أنه لا يمنع في شيء من أجزاء الأزل من الوجود بعده فهو بعينه أزلية الإمكان ولا يلزم منه عدم منعه من الوجود الأزلي الذي هو إمكان الأزلية ، وإن أراد به أن ذاته لا تمنع من الوجود في شيء من أجزاء الأزل بأن يكون الجار متعلقا بالوجود فهو بعينه إمكان الأزلية ، والنزاع إنما وقع فيه فهو مصادرة على المطلوب ، وليت شعري كيف صدر هذا الكلام من قائله مع أن من الموجودات ما هو إني الوجود كبعض الحروف ومع التصريح بأن
ماهية الزمان تقتضي لذاتها عدم اجتماع أجزائها وتقدم بعضها على بعض إذ يلزم منه إمكان وجود كل من تلك الأجزاء في الأزل نظرا إلى ذاته ، وتمام الكلام في ذلك يطلب من شرح المواقف وحواشيه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 208
وأورد على كون المراد بالخلاء الخلاء في عالمنا لأنه المتنازع فيه أنه صرح غير واحد بأن المتنازع فيه إنما هو الخلاء داخل العالم وحقيقته أن يكون الجسمان بحيث لا يتماسان وليس بينهما ما يماسهما بناء على كونه متقدرا قطعا ، وأما الخلاء خارج العالم فمتفق عليه إذ لا تقدر هناك بحسب نفس الأمر ، فالنزاع إنما هو في التسمية بالبعد ، فالفلاسفة يقولون حقه أن لا يسمى بعدا ولا خلاء ، والمتكلمون يسمونه بعدا موهوما ولا شك أن عالم كون العرش على الماء من داخل العالم فالخلاء فيه داخل في المتنازع فيه ، وقد نص عليه أيضا بعض المتأخرين.
ومن الناس من اعترض على قوله : إنه لو كان موضوعا على متن الماء للزم إلخ بأن الأمور التي يلزم أحدها ذلك التقدير - وهي فاسدة - أكثر مما ذكر وسود وجه القرطاس ببيان ذلك وهو مما لا يحتاج إليه بل ولا يعول عليه ، وزعم البعض أن ما راعاه القاضي في هذا الفصل ليس شيء منه مخالفا للقواعد الإسلامية ، ووسوست له نفسه أن خروج الماء عن حيزه مما لا يجوز لأن اللّه سبحانه إن كان موجبا بالذات فلا يتصور الإخراج منه سبحانه لأن نسبته إليه على السوية بحسب الأوقات فلا يمكن كونه قاصرا في بعض دون بعض ، وإن كان مختارا يقال : إن ذلك الخروج ممتنع في نفسه وهو سبحانه لا يفعل الممتنع ولا تتعلق قدرته به ، وكذا يقال في التخلخل والتكاثف ، ويجوز أن يكون بالطبع وإلا لكانا دائمين لأن مقتضى الذات لا يتخلف عنه ، وممن ذهب إلى امتناعهما الأصفهاني في شرح حكمة المطالع ثم تكلم منتصرا لنفسه.
وللقاضي بما لا يسمن ولا يغني ، وقال ابن صدر الدين بعد نقل كلام العلامتين : قد تقرر في علم الأبعاد والأجرام أن ليس لمجموع كرات العناصر بالنسبة إلى الفلك الأعظم الذي هو المراد بالعرش قدر محسوس فلا يتصور كونه موضوعا على متن كرة الماء فإن ذلك إنما يكون إذا كان عظم كرة الماء بحيث يملأ جوف العرش مماسا محد به مقعره وإلا لم يكن موضوعا على متنه الذي هو عبارة عن السطح المحدب بل إما أن لا يتماسا أصلا أو يتماسا بنقطة على ما يشهد به التخيل الصحيح ، وكيف يتصور كونه مالئا له وهو الآن لم يمتلىء إلا بالسماوات والأرض والكرسي والعناصر بجملتها ، وليس لك أن تقول : لعل الماء في ابتداء الخلقة قد كان على هذا المقدار الصغير الذي الآن عليه فتخلخل إلى حيث ملأ جوفه لامتناع الخلاء ، فلما خلق سائر الأجرام العلوية والسفلية عاد بطبعه إلى ما تراه لأنا نقول : التخلخل عبارة عن ازدياد مقدار الجسم من غير أن ينضم إليه شيء فيستدعي حركة أينية وهي تستدعي وجود فضاء خال عن الشاغل وهو المراد بالخلاء ، وكذا ليس لك أن تقول : فليكن في ابتداء الخلقة عظيم المقدار بحيث يملأ جوف العرش وتكاثف بعد خلق سائر الأجرام إلى هذا المقدار الصغير لأنا نقول أيضا : التكاثف الذي هو عبارة عن انتقاص مقدار الجسم من غير أن ينقص منه شيء سببه على ما تقرر عندهم أمران : أحدهما التخلخل السابق العارض له بما يوجبه فإذا زال ذلك العارض عاد بطبعه إلى مقداره الأول كما في المد والجزر ، وفي الصورة المذكورة لا يتصور هذا لأن المفروض أنه خلق ابتداء عظيم المقدار بحيث يملأ جوف العرش فكيف يتصور أن يتخلخل بعارض حتى يعود عند زواله إلى مقداره الطبيعي الصغير وهو ظاهر وثانيهما الانجماد باستيلاء البرودة الشديدة ، وهذا أيضا لا يتصور هاهنا أما أولا فلأن الماء المنعقد جمدا وإن كان أصغر مقدارا منه غير منعقد لكنه لا إلى مرتبة لا يكون له قدر محسوس بالنسبة إلى
مقداره الأول بل يقرب منه في الحس كما يشاهد في المياه المنعقدة ولا قدر لكرة الماء الموجود الآن بالنسبة إلى المالئ جوف العرش وهذا مثل أن ينعقد البحر فيصير كالعدسة ولا يلتزمه عاقل.
وأما ثانيا فلأن كرة الماء على ما يشاهد غير متجمدة بل باقية على طبعها من الذوبان ، فإن قلت : بقي على تقدير كون الماء في ابتداء الخلقة عظيم المقدار مالئا لجوف العرش احتمال آخر وهو أن يفرز بعض أجزاء هذه الكرة العظيمة ويجعل مادة لسائر الأجرام السماوية والأرضية كما في سورة انقلاب بعض العناصر إلى بعض.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 209
ويؤيده ما
ورد في الأثر من أن العرش كان قبل خلق السماوات والأرض على الماء ، ثم إنه تعالى أحدث في الماء اضطرابا فأزبد فارتفع منه دخان وبقي الزبد على وجه الماء فخلق فيه اليبوسة فصار أرضا ، وخلق من الدخان السماوات ،
وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ [فصلت : 11] قلنا : إن هذا الاحتمال غير واقع إما على تقدير تركب الجسم من الهيولى والصورة على ما ذهب إليه المشاءون من الفلاسفة فلأن هيولى العناصر وإن كانت واحدة بالشخص قابلة لأن يتوارد عليها صور العناصر بواسطة استعدادات متعاقبة تعرض إلا أن هيولى كل فلك مخالفة لهيولى فلك آخر لا تقبل إلا الصورة التي حصلت فيها ، وإما على تقدير تركبه من الجواهر الفردة على ما هو مذهب أهل الحق فلأنها متخالفة الحقائق عند محققي المتأخرين على ما صرحوا به ، فما يتركب منه الماء لا يجوز أن يتركب منه سائر الأجسام ، وأما ما ورد في الأثر وأشارت إليه الآية من جعل الدخان المرتفع من الماء مادة للسماوات فمصروف عن ظاهره إذ الدخان أجزاء نارية خالطتها أجزاء صغار أرضية تلطفت بالحرارة ولا تمايز بينهما في الحس لغاية الصغر ، فقبل خلق السماوات والأرض بما فيهما لم تكن نار وأرض ، فمن أين يتولد الدخان؟
وكذا إن أريد بالدخان البخار لأنه أجزاء هوائية مازجتها أجزاء صغار مائية تلطفت بالحرارة بحيث لا تمايز بينهما في الحس أيضا فحيث لا هواء لا بخار ، ولهذا قال القاضي في تفسير وَهِيَ دُخانٌ : أمر ظلماني ، ولعله أراد به مادتها أو الأجزاء المتصغرة التي ركبت منها ، ومن هنا ظهر أن ما في الأثر لا يؤيد كون العرش موضوعا على متن الماء ملتصقا به بل يؤيد أن لا يكون بينهما حائل إذ ارتفاع الدخان والبخار يستدعي وجود فضاء تتحرك فيه تلك الأجزاء ، وفي صورة الالتصاق لا يمكن ذلك كما لا يخفى على من له تخيل سليم.
ويعلم مما ذكر أنه يجب تفسير الآية بما فسرها به القاضي ولا مجال للقول بالوضع على المتن فيتم الاستدلال ، وأما قول أبي السعود : إنه لو دل إلخ ففيه أن الوقوع أدل دليل على إمكان الشيء ، ومثل هذا الاستدلال ، شائع ذائع في كلامهم ، وأما أن المراد بالإمكان الإمكان الوقوعي فكلا إذ النزاع في الإمكان لا الوقوع ، وما ينقل عن الأصمعي من أن هذا كقولهم السماء على الأرض مع أن أحدهما ليس ملتصقا بالآخر ، وحينئذ يكون معنى قول القاضي : لم يكن حائل بينهما أنه لم يكن حائل محسوس بينهما وكان حائل غير محسوس وهو الهواء ليس بشيء ولا يصلح ما ذكر معنى لذلك إذ الفوقية كانت قبل خلق جميع أجرام هذا العالم فعلى تقدير عدم الالتصاق لا يتصور حائل أصلا ، ثم بين وجه دلالة الآية على أن الماء أول حادث بعد العرش بنحو ما قدمنا ذكره انتهى المراد منه.
«وأقول» إن هذا الاحتمال الذي أجاب عنه بزعمه قوي جدا ، وما ذكره عن محققي المتأخرين صرح الجمهور بخلافه ، وقد حقق ذلك في موضعه فلا مانع من أن يخلق اللّه تعالى من الماء الأجرام السماوية والأرضية بل وكل شيء ، وما ذكره في حيز تعليل صرف الأثر عن ظاهره ليس بشيء أصلا إذ يجوز أن يحيل سبحانه بعض ذلك الماء المالئ أجزاء نارية وبعضه أجزاء أرضية ويجعل المجموع دخانا ، وكذا يجوز أن يحيل البعض أجزاء هوائية فتمازج أجزاء صغارا مائية متلطفة بحرارة يخلقها حيث شاء فيتكون البخار ، وفي الأثر عن وهب بن منبه أنه جل شأنه قبض قبضة من الماء ثم فتح القبضة فارتفع الدخان ثم قضاهن سبع سماوات في يومين ويؤول حديث الارتفاع بما لا يستدعي الفضاء نحو أن يكون المعنى فوجد بعضه دخانا مرتفعا ، وقد يقال : يجوز أن يكون الماء في ابتداء الخلقة مالئا للعرش ثم إنه سبحانه لما أراد أن يخلق ما يخلق أفنى منه ما أراد وخلق بلا فاصل يتحقق معه الخلاء بدله ما خلق لا من شيء ، والقول باستحالة هذا الخلق مفض إلى فساد عظيم وخطب جسيم لا يكاد يستسهله أحد من المسلمين وهو ظاهر ، وما ذكره في دفع قول شيخ الإسلام : إنه لو دل لدل إلخ غير ظاهر فيه قيل : إذ الاعتراض بطريق أنه لو دل لدل

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 210
على وجود الخلاء لا على إمكانه الصرف لأن الشيء إذا كان موجودا كان وجوده ضروريا لا ممكنا صرفا على ما بين في محله ، وينادي على أن الاعتراض كذلك تقييد الإمكان في عبارته بقيد فقط مع القول بالدلالة على الوجود.
وأورد بعضهم على قوله : قد تقرر في علم الأبعاد والأجرام إلخ أن ذلك مبني على ظن أن الماء في الآية هو الماء العنصري وأنه من بعض الظن إذ ذاك إنما خلق بعد خلق الأرض فكيف يتصور أن يكون العرش الذي خلق قبل السماوات والأرض عليه فضلا عن أن يكون موضوعا على متنه أو غير موضوع عليه من غير حائل بينهما ، وإنما هو الماء الطبيعي النوري العمائي الذي تكون العرش منه ، وفيه صرف اللفظ عن ظاهره ، ونظير ذلك ما قاله الكامل بن الكمال :
ليس المراد في العرش تاسع الأفلاك ، ولا من الماء أحد العناصر لما شهد بذلك شهادة صحيحة لا مرد لها ما
أخرجه مسلم في صحيحه من قوله صلّى اللّه عليه وسلم : «كان اللّه تعالى ولم يكن معه شيء وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السماوات والأرض»
فلا وجه للاستدلال به على إمكان الخلاء ، وأن الماء أول حادث بل عرشه سبحانه عبارة عن قيوميته بناء على أنه في الأصل سرير الملك وهو مظهر سلطانه ، والماء إشارة إلى صفة الحياة باعتبار أن منه كل شيء حي ، فمعنى وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ وكان حيا قيوما ، وفي لفظة عَلَى تنبيه على ترتب أحدهما على الآخر فتدبر انتهى.
ولعل وجه شهادة الخبر بذلك النفي تضمنه على تقدير الإثبات ما ينافي ما تضمنه النفي فيه إذ يكون حينئذ شيئان معه سبحانه فضلا عن شيء ، ولا يخفى أن هذا إنما يتم لو كانت الجملة الماضوية في موضع الحال ، والظاهر أنها كغيرها معطوفة على الجملة المستأنفة ، وليس في الكلام ما يقتضي أن المعنى وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ مع وجوده تعالى بدون معية شيء له ليضطر إلى حمل الماء والعرش على ما علمت من صفتيه تعالى ، ولا أرى في الحديث أكثر من إفادة ثبوت ما تضمنته المتعاطفات قبل خلق السماوات والأرض ، وأما أن كونه تعالى ولم يكن معه شي ء - وكون عرشه سبحانه على الماء ، وكتابته في الذكر ما كتب كلها في وقت واحد هو وقت وجوده تعالى الواقع بعده خلق السماوات والأرض بمهلة وتراخ - فلا أراه ، وقد جاء في بعض الروايات عطف الخلق على ما قبله بالواو كسائر المعطوفات.
أخرج أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم عن عمران بن حصين قال : «قال أهل اليمن : يا رسول اللّه أخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان؟ قال : كان اللّه تعالى قبل كل شيء وكان عرشه على الماء وكتب في اللوح المحفوظ ذكر كل شيء وخلق السماوات والأرض» الخبر ،
ثم إنه لا يتم أمر الشهادة بمجرد ما تقدم بل لا بد أيضا من حمل الكتابة في الذكر على التقدير ، ونفى أن يكون هناك كتابه ومكتوب فيه حسبما يتبادر منهما ، ويلتزم هذا في الخبر الثاني أيضا ، ومع ذلك يعكر على القول بكون زمن التقدير متحدا كزمن قيوميته وحياته تبارك وتعالى مع زمن وجوده سبحانه ما
أخرجه مسلم والترمذي والبيهقي عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : «إن اللّه تعالى قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء»
لأن أجزاء الزمان الموهوم الفاصل بين زمان وجوده تعالى ووجود صفاته وزمان وجود الخلق غير متناهية ، فكيف تقدر بخمسين ألف سنة وضربها في نفسها وضرب الحاصل من ذلك بنفسه ألف ألف مرة أقل قليل بل لا شيء يذكر بالنسبة إلى غير المتناهي ويعارض هذه الشهادة أيضا ما تقدم
في حديث أبي رزين العقيلي من قوله عليه الصلاة والسلام : «وخلق عرشه على الماء»
فإنه نص في أن العرش مخلوق ، ولا يجوز أن تكون القيومية مخلوقة ، وكذا ما
روي عن كعب من أنه سبحانه خلق ياقوتة خضراء فنظر إليها بالهيبة فصارت ماء ، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها ، ثم وضع العرش على الماء ،

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 211
وجاء حديث كون الماء على متن الريح عن ابن عباس ، وقد أخرج ذلك عنه ابن جرير وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، والبيهقي ، وغيرهم ، وإباء ما ذكر عن كون الماء بمعنى صفة الحياة له تعالى ظاهر ، ومثله ما أخرجه ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن الربيع بن أنس أنه قال : كان عرشه سبحانه على الماء فلما خلق السماوات والأرض قسم ذلك الماء قسمين فجعل نصفا تحت العرش - وهو البحر المسجور - فلا تقطر منه قطرة حتى ينفخ في الصور فينزل منه مثل الطل فتنبت منه الأجسام ، وجعل النصف الآخر تحت الأرض السفلى ، ولعل وجه الأمر بالتدبر في كلام هذا الفاضل الإشارة إلى ما ذكرنا.
وبالجملة لا شك أن المتبادر من الماء ما هو أحد العناصر ومن العرش الجسم الذي جاء في الأخبار من وصفه ما يبهر العقول وشهادة الخبر السابق مع كونها شهادة نفي عارضتها شهادات إثبات غير نص في المطلوب كما علمت ، ومن كون العرش على الماء ما يعم الشقين كونه موضوعا على متنه مماسا له وكونه فوقه من غير أن يكون بينهما ما يماسهما ، وتخصيصه بالشق الثاني مما لا يتم له دليل ولا يصفو عن القال والقيل ، وأن الآية لا تصلح دليلا على كون الماء أول حادث بعد العرش ، ومن رجع إلى الأخبار المعول عليها رأى بعضها كخبر أبي رزين الذي حسنه الترمذي ظاهرا في أن الماء قبل العرش وقصارى ما يقال في هذا المقام : إن الحق مع شيخ الإسلام وإن نصرة القاضي - وإن كان ناصر الدين - نصرة خارجة عن الطريق المستبين ، فلا تلتفت هداك اللّه سبحانه إلى من أطال في ذلك بلا طائل ، وأتى بكلام لا يشبه كلام عاقل ، وزعم أن ذاك من الحكمة وهو عنها - علم اللّه - بمراحل ، ولولا الوقوع في العبث لنقلناه ونبهنا على ما فيه ، وإن كان حال ظاهره مؤذنا بحال خافيه ، نعم قد يقال : إن البيضاوي إنما ذكر أنه استدل بالآية على كذا وكذا ، ولم يدّع أن فيها دليلا على ذلك ، فما يتوجه من الاعتراضات إنما يتوجه على المستدل دونه وكأن من وجه إليه ذلك ادعى ارتضاءه للاستدلال بدليل ما وطأه له من المقال ، وزعم الجبائي أن في الآية دلالة على أنه كان قبل خلق السماوات والأرض حي مكلف لأن خلق العرش على الماء لا وجه لحسنه إلا أن يكون فيه لطف بمكلف يمكنه الاستدلال به ، ورده على ابن عيسى بأنه لا يلزم ذلك ويكتفي بكون الإخبار به نافعا للمكلفين واختاره المرتضى ، ومنشأ ذلك الاعتزال ، واللّه تعالى الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب.
لِيَبْلُوَكُمْ اللام للتعليل مجازا متعلقة ب خَلَقَ أي خلق السماوات والأرض وما فيهما من المخلوقات التي من جملتها أنتم ، ورتب فيهما جميع ما تحتاجون إليه من مبادئ وجودكم وأسباب معاشركم وأودع في تضاعيفهما ما تستدلون به من تعاجيب الصنائع والعبر على مطالبكم الدينية ليعاملكم معاملة من يختبركم.
أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فيجازيكم حسب أعمالكم ، وقيل : متعلق بفعل مقدر أي أعلم بذلك لِيَبْلُوَكُمْ وقيل : التقدير وخلقكم لِيَبْلُوَكُمْ وقيل : في الكلام جملة محذوفة أي وكان خلقه لهما لمنافع يعود عليكم نفعها في الدنيا دون الآخرة وفعل ذلك لِيَبْلُوَكُمْ والكل كما ترى ، والابتلاء في الأصل الاختبار والكلام خارج مخرج التمثيل والاستعارة ، ولا يصح إرادة المعنى الحقيقي لأنه إنما يكون لمن لا يعرف عواقب الأمور.
وقيل : إنه مجاز مرسل عن العلم للتلازم بين العلم والاختبار ، وهو محوج إلى تكلف أن يراد ليظهر تعلق علمه الأزلي ، وإلا فالعلم القديم الذاتي ليس متفرعا على غيره ، وما تقدم لا تكلف فيه ، وهو مع بلاغته مصادف محزه ، والمراد بالعمل ما يشمل عمل القلب وعمل القالب ، ويؤيد ذلك ما
أخرجه ابن جرير ، وابن أبي حاتم والحاكم في التاريخ وابن مردويه عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما قال : «تلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم هذه الآية لِيَبْلُوَكُمْ إلخ فقلت :

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 212
ما معنى ذلك يا رسول اللّه؟ قال : ليبلوكم أيكم أحسن عقلا ، ثم قال : وأحسنكم عقلا أورعكم عن محارم اللّه تعالى وأعملكم بطاعة اللّه تعالى»
لكن ذكر الحافظ السيوطي أن سنده واه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان أن معنى أَحْسَنُ عَمَلًا أزهد في الدنيا ، وعن مقاتل أتقى للّه تعالى ، وعن الضحاك أكثرهم شكرا. ولعل أخذ العمل شاملا للأمرين أولى ، وأفضلها ما كان عمل القلب كيف لا ومدار العبادة القالبية الواجبة على العباد معرفة اللّه تعالى التي تحل القلب ، وقد يرفع به للعبد في يوم مثل عمل أهل الأرض.
وفي بعض الآثار «تفكر ساعة يعدل عبادة سبعين سنة»
واعتبار خلق السماوات في ضمن المفرع عليه لما أن في السماوات مما هو من مبادئ النظر وتهيئة أسباب المعاش الأرضية التي بها قوام القالب ما لا يخفى ، وقريب من هذا أن ذكر السماوات وخلقها لتكون أمكنة الكواكب والملائكة العاملين فيها لأجل الإنسان.
وقال بعض المحققين : إن كون خلق الأرض وما فيها للابتلاء ظاهر ، وأما خلق السماوات فذكر تتميما واستطرادا مع أن السماوات مقر الملائكة الحفظة وقبلة الدعاء ومهبط الوحي إلى غير ذلك مما له دخل في الابتلاء في الجملة ، ولعل ما أشير إليه أولا أولى ، وجملة الاستفهام في موضع المفعول الثاني لفعل البلوى على المشهور ، وجعل في الكشاف الفعل هنا معلقا لما فيه من معنى العلم ، ومنع في سورة الملك تسمية ذلك تعليقا مدعيا أنه إنما يكون إذا وقع بعد الفعل ما يسدّ مسدّ المفعولين جميعا - كعلمت أيهما فعل كذا. وعلمت أزيد منطلق - وبين كلاميه في السورتين اضطراب بحسب الظاهر ، وأجاب عنه في الكشف بما حاصله أن للتعليق معنيين : مصطلح ويعدى بعن وهو المنفي في تلك السورة ولغوي ويعدى بالباء وعلى ، وهو خاص بفعل القلب من غير تخصيص بالسبعة المتعدية إلى مفعولين ولا يكون إلا في الاستفهام خاصة دون ما فيه لام الابتداء ونحوه ، ومعنى تعليق الفعل على ما فيه ذلك أن يرتبط به معنى وإعرابا سواء كان لفظا أو محلا وهو المثبت هاهنا ، وقال الطيبي : يمكن أن يكون ما هنا على إضمار العلم كأنه قيل : لِيَبْلُوَكُمْ فيعلم أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا والتعليق فيه ظاهر ، وما هناك على تضمين الفعل معنى العلم كأنه قيل : ليعلمكم أيكم إلخ فيصح النفي ، ولا يخفى على من راجع كلامه أن فيه ما يأبى ذلك ، وقد يقال : إن التعليق لا يختص بما كان من الأفعال بمعنى العلم كما ذهب إليه ثعلب والمبرد وابن كيسان ، وإن وجهه أويس بما في همع الهوامع ، ورجحه الشلوبين ، ولا بالفعل القلبي مطلقا بل يكون فيه وفي غيره مما ألحق به لكن مع الاستفهام خاصة ، واقتصر بعضهم في الملحق على بصر وتفكر وسأل - وزاد ابن خروف نظر - ووافقه ابن عصفور ، وابن مالك ، وزاد الأخير نسي كما في قوله :
ومن أنتم إنا نسينا من أنتم ونازعه أبو حيان بأن - من - تحتمل الموصولية والعائد محذوف أي من هم أنتم ، وكذا زاد أيضا ما قارب المذكورات من الأفعال التي لها تعلق بفعل القلب - كترى البصرية - في قوله : أما ترى أي برق هنالك. وكيستنبئون في قوله تعالى : وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ [يونس : 53] وكنبلو فيما نحن فيه ، ونازعه أبو حيان بأن ترى في الأول علمية ، وأيكم في الأخير موصولة حذف صدر صلتها فبنيت وهي بدل من ضمير الخطاب بدل بعض ، ونقل ذلك عنه الجلال السيوطي ولم أجده في بحره ، وفي الرضي أن جميع أفعال الحواس تعلق عن العمل ، وفي التسهيل ما يؤيده ، وأجاز يونس تعليق كل فعل غير ما ذكر ، وخرج عليه ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ [مريم : 69] والجمهور لم يوافقوه على ذلك ، وقد ذكر بعض الفضلاء أن الفعل القلبي وما جرى مجراه إما متعد إلى واحد أو اثنين ، فالأول يجوز تعليقه سواء تعدى بنفسه كعرف ، أو بحرف كتفكر لأن معموله لا يكون إلا مفردا ، وبالتعليق بطل عمله في

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 213
المفرد الذي هو مقتضاه وتعلق بالجملة ، ولا معنى للتعليق إلا إبطال العمل لفظا لا محلا وإن تعدى لاثنين ، فإما أن يجوز وقوع الثاني جملة كما في باب علم أولا ، فإن جاز علق عن المفعولين نحو علمت لزيد قائم لا عن الثاني لأنه يكون جملة بدون تعليق فلا وجه لعده منه إذ لا فرق بين أداة التعليق وعدمها فالتعليق لا يبطل عمل الفعل أصلا كما في علمت زيدا أبوه قائم ، وعلمت زيدا لا أبوه قائم ، فإن عمله في محل الجملة لا فرق فيه بين وجود حرف التعليق وعدمه وإن لم يجز ، وورد فيه كلمة تعليق كان منه نحو يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ [البقرة : 215] فإن المسئول عنه لا يكون إلا مفردا.
والفعل فيما نحن فيه يحتمل أن يكون عاملا فيما بعده وهو المختبر به غير متضمن علما ، وفعل البلوى إذا كان كذلك يتعدى بالباء إلى المختبر به ولا يكون إلا مفردا كما في قوله تعالى : وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ [البقرة : 155] والاستفهام قد أبطل مقتضاه لفظا وهو التعليق ، ويحتمل أن يكون متضمنا معنى العلم ويكون العلم عاملا فيه وهو مفعوله الثاني ، وحينئذ لا تعليق ، ومن هنا يظهر أن تعليق الفعل في الآية إنما هو على تقدير إعمال فعل البلوى ، وعدم تعليقه على تقدير إعمال العلم فلا منافاة بين الكلامين انتهى وهو تفصيل حسن ، وفي الهمع أن الجملة بعد المعلق في باب علم وأخواتها في موضع المفعولين فإن كان التعليق بعد استيفاء المفعول الأول فهي في موضع المفعول الثاني ، وأما في غير هذا الباب فإن كان الفعل مما يتعدى بحرف الجر فالجملة في موضع نصب بإسقاطه نحو فكرت أهذا صحيح أم لا ، وجعل ابن مالك منه فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً [الكهف : 19] وإن كان مما يتعدى لواحد فهي في موضعه نحو عرفت أيهم زيد ، فإن كان مفعوله مذكورا نحو عرفت زيدا أبو من هو ، فالجملة بدل منه على ما اختاره السيرافي وابن مالك ، وهو بدل كل من كل بتقدير مضاف أي قصة زيد أو أمره عند ابن عصفور ، والتزم ذلك ليكون المبدل منه جملة في المعنى ، وبدل اشتمال ولا حاجة إلى التقدير عند ابن الصائغ ، وذهب المبرد والأعلم وابن خروف وغيرهم إلى أن الجملة في موضع نصب على الحال ، وذهب الفارسي إلى أنها في موضع المفعول الثاني لعرفت على تضمينه معنى علمت ، واختاره أبو حيان وفيه نوع مخالفة في الظاهر لما تقدم تظهر بالتأمل إلا أنه اعترض القول بأن ما بعد فعل البلوى مختبر به بأن المختبر به إنما هو خلق السماوات والأرض ، وأجيب بأن ذلك وإن كان في نفس الأمن مختبرا عنه والمختبر به ما ذكر إلا أنه جعل مختبرا به باعتبار ترتبه على ذلك ، ولا يخفى ما فيه ، وقال بعض أرباب التحقيق في دفع المخالفة : إن الزمخشري جعل قوله سبحانه هنا : لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا بجملته استعارة تمثيلية فتكون مفرداته مستعملة في معناها الحقيقي معطاة ما تستحقه ، وفعل البلوى يعلق عن المفعول الثاني لأنه لا يكون جملة إذ هو يتعدى له بالباء وحرف الجر لا يدخل على الجمل ، وجرى التعليق فيه بناء على أنه مناسب لفعل القلوب معنى ، وقد صرح غير واحد بجريانه في ذلك وجعله ثمة مستعارا لمعنى العلم ، والفعل إذ تجوز به عن معنى فعل آخر عمل عمله وجرى عليه حكمه ، وعلم لا يعلق عن المفعول الثاني فكذا ما هو بمعناه فيكون قد سلك في كل من الموضعين مسلكا تفننا ، وكثيرا ما يفعل ذلك في كتابه ، ولعله لم يعكس الأمر لأن ما فعله في كل أنسب بما قبله من خلق السماوات والأرض وما فيها من النعم والمنافع وخلق الموت والحياة ، ولا يخفى أن هذا قريب مما تقدم وفيه ما فيه.
والإتيان بصيغة التفضيل الدالة على الاختصاص بالمختبرين الأحسنين أعمالا مع شمول الاختبار لفرق المكلفين وتتفاوت أعمال الكفار منهم إلى حسن شرعي وقبيح لا إلى حسن وأحسن كما في أعمال المؤمنين للتحريض على أحاسن المحاسن ، والتحضيض على الترقي دائما لدلالته على أن الأصل المقصود بالاختبار ذلك الفريق ليجازيهم

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 214
أكمل الجزاء فكأنه قيل : المقصود أن يظهر أفضليتكم لأفضلكم فإن ذلك مفروغ عنه لا يحيد عنه ذو لب ، وجوز أن يكون من باب الزيادة المطلقة وأن يكون من باب أي الفريقين خير مقاما ، وأيّا ما كان فالخطاب ليس خاصا بالمؤمنين لأن إظهار حال غيرهم مقصود أيضا لكنه لا بالذات على الوجه الأول.
وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ. أي مثله في الخديعة والبطلان ، فالتركيب من التشبيه البليغ ، والإشارة إلى القول المذكور ، وجوز أن تكون للقرآن كأنه قيل : لو تلوت عليهم من القرآن ما فيه إثبات البعث لقالوا هذا المتلو سحر ، والمراد إنكار البعث بطريق الكناية الإيمائية لأن إنكار البعث إنكار للقرآن ، وقيل : إن الأخبار عن كونهم مبعوثين وإن لم يجب عن كونه بطريق الوحي المتلو إلا أنهم عند سماعهم ذلك تخلصوا إلى القرآن لإنبائه عنه في كل موضع وكونه علما عندهم في ذلك فعمدوا إلى تكذيبه ، وتسميته سحرا تماديا منهم في العناد ، وتفاديا عن سنن الرشاد وهو خلاف الظاهر ، وقيل : الإشارة إلى نفس البعث ، وتعقب بأنه لا يلائمه التسمية بالسحر فإنه إنما يطلق على شيء موجود ظاهرا لا أصل له في الحقيقة ، ونفس البعث عندهم معدوم بحت ، وفيه بحث لجواز أنهم أرادوا من السحر الأمر الباطل والشيء الذي لا أصل له ولا حقيقة لشيوعه فيما بينهم بذلك حتى كأنه علم له.
وجوز أن تكون الإشارة إلى القائل ، والاخبار عنه بالسحر للمبالغة ، والخطاب في إِنَّكُمْ إن كان لجميع المكلفين فالموصول مع صلته للتخصيص أي ليقولن الكافرون منهم ، وإن كان للكافرين فذكر الموصول ليتوصل به إلى ذمهم بعنوان الصلة ، وتعلق الآية الكريمة بما قبلها إما من حيث إن البعث من تتمات الابتلاء المذكور فيه كأنه قيل :
الأمر كما ذكر ، ومع ذلك إن أخبرتهم بمقدمة فذة من مقدماته وقضية فردة من تتماته يقولون ما يقولون فضلا عن أنهم يصدقون بما وقع هذا تتمة له ، وإما من حيث إن البعث خلق جديد فكأنه قيل : وهو الذي خلق جميع المخلوقات ليترتب عليها ما يترتب ، ومع ذلك إن أخبرتهم بأنه سبحانه يعيدهم تارة أخرى وهو أهون عليه يعدون ذلك ما يعدون فسبحان اللّه عما يصفون.
وقرأ عيسى الثقفي «ولئن قلت» بضم التاء على أن الفعل مسند إليه تعالى أي وَلَئِنْ قُلْتَ ذلك في كتابي المنزل عليك لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إلخ ، وفي البحر أن المعنى على ذلك وَلَئِنْ قُلْتَ مستدلا على البعث من بعد الموت إذ في قوله تعالى : وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ إلخ دلالة على القدرة العظيمة ، فمتى أخبر بوقوع ممكن وقع لا محالة وقد أخبر بالبعث فوجب قبوله وتيقن وقوعه انتهى وهو لدى الذوق السليم كماء البحر.
وقرأ الأعمش «أنكم» بفتح الهمزة على تضمين قُلْتَ معنى ذكرت وَلَئِنْ قُلْتَ ذاكرا «أنكم مبعوثون» فإن وما بعدها في تأويل مصدر مفعول للذكر ، واستظهر بعضهم كون القول بمعنى الذكر مجازا ، وتعقب بأن الذكر والقول مترادفان فلا معنى للتجوز حينئذ ، ولما كان القول باقيا في التضمين جاء الخطاب على مقتضاه.
وجوز أن تكون أن بمعنى عل ، ونقل ذلك عن سيبويه ، وجاء ائت السوق علك تشتري لحما وأنك تشتري لحما ، وهي لتوقع المخاطب لكن لا على سبيل الاخبار فإنهم لا يتوقعون البعث بل على سبيل الأمر كأنه قيل : توقعوا بعثكم ولا تبتوا القول بإنكاره ، وبذلك يندفع ما يقال : إن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قاطع بالبعث فكيف يقول لعلكم مبعوثون ، وأيضا القراءة المشهورة صريحة في القطع والبت ، وهذه صريحة في خلافه فيتنافيان ، ومنهم من قال : يجوز أن يكون هذا من الكلام المنصف والاستدراج فربما ينتبهون إذا تفكروا ويقطعون بالبعث إذا نظروا.
وقرأ حمزة والكسائي - «إلا ساحر» - والإشارة إلى القائل ، ولا مبالغة في الإخبار كما كانت على هذا الاحتمال

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 215
في قراءة الجمهور ، ويجوز أن تكون للقول أو للقرآن ، وفيه من المبالغة ما في قولهم : شعر شاعر وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ أي المترتب على بعثهم أو الموعود بقوله سبحانه : وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ وقيل : عذاب يوم بدر ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قتل جبريل عليه السلام المستهزئين وهم خمسة نفر أهلكوا قبل بدر ، والظاهر أن المراد العذاب الشامل للكفرة ، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال : لما نزل اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ [الأنبياء : 1] قال ناس : إن الساعة قد اقتربت فتناهوا فتناهى القوم قليلا ثم عادوا إلى أعمالهم أعمال السوء فأنزل اللّه سبحانه أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل : 1] فقال أناس من أهل الضلالة : هذا أمر اللّه تعالى قد أتى فتناهى القوم ثم عادوا إلى عكرهم عكر السوء فأنزل اللّه تعالى هذه الآية إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ أي طائفة من الأيام قليلة لأن ما يحصره العد قليل.
وقيل : المراد من الأمة الجماعة من الناس أي ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى جماعة يتعارفون ولا يكون فيهم مؤمن ونقل هذا عن علي بن عيسى ، وعن الجبائي أن المعنى إلى أمة بعد هؤلاء نكلفهم فيعصون فتقتضي الحكمة إهلاكهم وإقامة القيامة ، وروى الإمامية - وهم بيت الكذب -
عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنهما أن المراد بالأمة المعدودة أصحاب المهدي في آخر الزمان وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا كعدة أهل بدر
لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أي أيّ شيء يمنعه من المجيء فكأنه يريده ويمنعه مانع ، وكانوا يقولون ذلك بطريق الاستعجال وهو كناية عن الاستهزاء والتكذيب لأنهم لو صدقوا به لم يستعجلوه وليس غرضهم الاعتراف بمجيئه والاستفسار عن حابسه كما يرشد إليه ما بعد.
أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ ذلك العذاب الأخروي أو الدنيوي لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ أي أنه لا يرفعه رافع أبدا ، أو لا يدفعه عنهم دافع بل هو واقع بهم ، والظاهر أن يَوْمَ منصوب - بمصروفا - الواقع خبر ليس ، واستدل بذلك جمهور البصريين على جواز تقديم خبرها عليها كما يجوز تقديمه على اسمها بلا خلاف معتد به لأن تقديم المعمول يؤذن بتقديم العامل بطريق الأولى وإلا لزم مزية الفرع على أصله ، وذهب الكوفيون والمبرد إلى عدم الجواز وادعوا أن الآية لا تصلح حجة لأن القاعدة المشار إليها غير مطردة ألا ترى قوله سبحانه : فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ [الضحى : 9] كيف تقدم معمول الفعل مع امتناع تقديمه لأن الفعل لا يلي أما ، وجاء عن الحجازيين أنهم يقولون ما اليوم زيد ذاهبا مع أنه لا يجوز تقديم خبر ما اتفاقا ، وأيضا المعمول فيها ظرف والأمر فيه مبني على التسامح مع أنه قيل : إنه متعلق بفعل محذوف دل عليه ما بعده ، والتقدير ألا يصرف عنهم العذاب أو يلازمهم يوم يأتيهم ، ومنهم من جعله متعلقا - بيخافون - محذوفا أي ألا يخافون يوم إلخ ، وقيل : هو مبتدأ لا متعلق - بمصروفا - ولا بمحذوف ، وبني على الفتح لإضافته للجملة ، ونظير ذلك قوله سبحانه : هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ [المائدة : 119] على قراءة الفتح ، وأنت تعلم أن في بناء الظرف المضاف لجملة صدرها مضارع معرف خلافا بين النحاة ، وأن الظاهر تعلقه - بمصروفا - نعم عدم صلاحية الآية للاحتجاج مما لا ريب فيه ، وفي البحر قد تتبعت جملة من دواوين العرب فلم أظفر بتقديم خبر ليس عليها ولا بتقديم معموله إلا ما دل عليه ظاهر هذه الآية الكريمة ، وقول الشاعر :
فيأبى فما يزداد إلا لجاجة وكنت أبيا في الخنى لست أقدم
وَحاقَ بِهِمْ أي نزل وأحاط ، وأصله حق فهو - كزل وزال - وذم وذام - والمراد يحيق بهم. ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ إلا أنه عبر بالماضي لتحقق الوقوع ، والمراد بالموصول العذاب وعبر به عنه تهويلا لمكانه ، وإشعارا بعلية ما ورد في حيز الصلة من استهزائهم به لنزوله وإحاطته ووضع الاستهزاء موضع الاستعجال لأنه كان استهزاء وَلَئِنْ

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 216
أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً
أي أعطيناه نعمة من صحة وأمن وجدة وغيرها وأوصلناها إليه بحيث يجد لذتها فالإذاقة مجاز عن هذا الإعطاء ثُمَّ نَزَعْناها أي سلبنا تلك الرحمة مِنْهُ صلة النزع ، والتعبير به للإشعار بشدة تعلقه بها وحرصه عليه إِنَّهُ لَيَؤُسٌ شديد اليأس كثيره قطوع رجائه من عود مثل تلك النعمة عاجلا أو آجلا بفضل اللّه تعالى لعدم صبره وتوكله عليه سبحانه وثقته به.
كَفُورٌ كثير الكفران لما سلف للّه تعالى عليه من النعم ، وتأخير هذا الوصف عن وصف يأسهم لرعاية الفواصل على أن اليأس من باب الكفران للنعمة السالفة أيضا وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ كصحة وأمن وجدة بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ كسقم وخوف وعدم ، وفي إسناد الإذاقة إليه تعالى دون المس إشعار بأن إذاقة النعمة مقصودة بالذات دون مس الضر بل هو مقصود بالعرض ، ومن هنا قال بعضهم : إنه ينبغي أن تجعل - من - في قوله سبحانه : مِنْهُ للتعليل أن نزعناها من أجل شؤمه وسوء صنيعه وقبح فعله ليكون منا ، مِنْهُ مشيرا إلى هذا المعنى ومنطبقا عليه كما قال سبحانه : ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء : 79] ولا يخفى أن تفسير مِنْهُ بذلك خلاف الظاهر المتبادر ولا ضرورة تدعو إليه ، وإنما لم يؤت ببيان تحول النعمة إلى الشدة وبيان العكس على طرز واحد بل خولف التعبير فيهما حيث بدىء في الأول بإعطاء النعمة وإيصال الرحمة ولم يبدأ في الثاني بإيصال الضر على نمطه تنبيها على سبق الرحمة على الغضب واعتناء بشأنها ، وفي التعبير عن ملابسة الرحمة والنعماء بالذوق المؤذن على ما قيل بلذتهما وكونهما مما يرغب فيه وعن ملابسة الضراء بالمس المشعر بكونها في أدنى ما يطلق عليه اسم الملاقاة من مراتبها من اللطف ما لا يخفى ، ولعله يقوي عظم شأن الرحمة.
وذكر البعض أن في لفظ الإذاقة والمس بناء على أن الذوق ما يختبر به الطعوم ، والمس أول الوصول تنبيها على أن ما يجد الإنسان في الدنيا من المنح والمحن نموذج لما يجده في الآخرة ، وأنه يقع في الكفران والبطر بأدنى شيء لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي أي المصائب التي تسوءني ولن يعتريني بعد أمثالها إِنَّهُ لَفَرِحٌ بطر بالنعمة مغتر بها ، وأصله فارح إلا أنه حول لما ترى للمبالغة ، وفي البحر أن فعلا بكسر العين هو قياس اسم الفاعل من فعل اللازم ، وقرىء «فرح» بضم الراء كما تقول : ندس ونطس ، وأكثر ما ورد الفرح في القرآن للذم فإذا قصد المدح قيد كقوله سبحانه : فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [آل عمران : 170] فَخُورٌ متعاظم على الناس بما أوتي من النعم مشغول بذلك عن القيام بحقها ، واللام في لَئِنْ في الآيات والأربع موطئة للقسم ، وجوابه سادّ مسدّ جواب الشرط كما في قوله :
لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها وأمكنني منها إذن لا أقبلها
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا استثناء من الإنسان ، وهو متصل إن كانت أل فيه لاستغراق الجنس ، وهو الذي نقله الطبرسي مخالفا لابن الخازن عن الفراء ، ومنقطع إن كانت للعهد إشارة إلى الإنسان الكافر مطلقا ، وعن ابن عباس أن المراد منه كافر معين وهو الوليد بن المغيرة ، وقيل : هو عبد اللّه بن أمية المخزومي ، وذكره الواحدي ، وحديث الانقطاع على الروايتين متصل ، ونسب غير مقيد بهما إلى الزجاج والأخفش ، وأيّا ما كان فالمراد صبروا على ما أصابهم من الضراء سابقا أو لاحقا إيمانا باللّه تعالى واستسلاما لقضائه تعالى.
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ شكرا على نعمه سبحانه السابقة واللاحقة ، قال المدقق في الكشف : لما تضمن اليأس عدم الصبر والكفران عدم الشكر كان المستثنى من ذلك ضده ممن اتصف بالصبر والشكر فلما قيل : إِلَّا الَّذِينَ إلخ كان بمنزلة إلا الذين صبروا وشكروا وذلك من صفات المؤمن ، فكنى بهما عنه فلذا فسره الزمخشري بقوله : إلا الذين آمنوا ، فإن عادتهم إذا أتتهم رحمة أن يشكروا وإذا زالت عنهم نعمة أن يصبروا فلذا حسنت الكناية به عن الإيمان ، ثم عرض

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 217
بشيخه الطيبي بقوله : وأما دلالة صَبَرُوا على أن العمل الصالح شكر لأنه
ورد في الأثر الإيمان نصفان : نصف صبر ، ونصف شكر ،
ودلالة عملوا على أن الصبر إيمان لأنهما ضميمتان في الأكثر فغير مطابق لما نحن فيه إلا أن يراد وجه آخر كأنه قيل : إلا المؤمن الصالح الصابر الشاكر وهو وجه - لكن القول ما قالت حذام - لأن الكناية تفيد ذلك مع ما فيها من الحسن والمبالغة أُولئِكَ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة أي أولئك الموصوفون بتلك الصفات الحميدة لَهُمْ مَغْفِرَةٌ عظيمة لذنوبهم ما كانت وَأَجْرٌ ثواب لأعمالهم الحسنة كَبِيرٌ وصف بذلك لما احتوى عليه من النعيم السرمدي ورفع التكاليف والأمن من العذاب ورضا اللّه سبحانه عنهم والنظر إلى وجهه الكريم في جنة عرضها السماوات والأرض ، ووجه تعلق الآيات الثلاث بما قبلهن على ما في البحر أنه تعالى لما ذكر أن عذاب الكفار وإن تأخر لا بد أن يحيق بهم ذكر ما يدل على كفرهم وكونهم مستحقين العذاب لما جبلوا عليه من كفر نعماء اللّه تعالى وما يترتب على إحسانه تعالى إليهم مما لا يليق بهم من البطر والفخر ، قيل : وهو إشارة إلى أن الوجه تضمن الآيات تعليل الحيق ويبعده تعليله بما في حيز الصلة قبل ، واختار بعضهم أنه الاشتراك في الذم فما تضمنه الآيات قبل بيان بعض هناتهم وما تضمنته هذه بيان بعض آخر.
وقال بعض المحققين : إن وجه التعلق من حيث إن إذاقة النعماء ومساس الضراء فصل من باب الابتلاء واقع موقع التفصيل من الإجمال في قوله سبحانه : لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا والمعنى أن كلّا من إذاقة النعماء ونزعها مع كونه ابتلاء للإنسان أيشكر أم يكفر لا يهتدي إلى سنن الصواب بل يحيد في كلتا الحالتين عنه إلى مهاوي الضلال فلا يظهر منه حسن عمل إلا من الصابرين الصالحين ، أو من حيث إن إنكارهم البعث واستهزاءهم بالعذاب بسبب بطرهم وفخرهم كأنه قيل : إنما فعلوا ما فعلوا لأن طبيعة الإنسان مجبولة على ذلك انتهى ، ولا يخفى ما في الأول من البعد. والثاني أقرب ، واللّه تعالى أعلم.
من باب الإشارة في الآيات : الر إشارة إلى ما مرت الإشارة إليه أُحْكِمَتْ آياتُهُ أي حقائقه وأعيانه في العالم الكلي فلا تتبدل ولا تتغير ثُمَّ فُصِّلَتْ في العالم الجزئي وجعلت مبينة معينة بقدر معلوم مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ فلذا أحكمت خَبِيرٍ فلذا فصلت ، وقد يقال : الإشارة إلى آيات القرآن قد أحكمت في قلوب العارفين ثُمَّ فُصِّلَتْ أحكامها على أبدان العاملين ، وقيل : أُحْكِمَتْ بالكرامات ثُمَّ فُصِّلَتْ بالبينات أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ أي أن لا تشركوا في عبادته سبحانه وخصصوه عز وجل بالعبادة إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ عقاب الشرك وتبعته وَبَشِيرٌ بثواب التوحيد وفائدته ، وقيل. نَذِيرٌ بعظائم قهره وَبَشِيرٌ بلطائف وصله وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ اطلبوا منه سبحانه أن يستركم عن النظر إلى الغير حتى أفعالكم وصفاتكم ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ارجعوا بالفناء ذاتا ، وقيل :
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ من الدعاوى وتُوبُوا إِلَيْهِ من الخطرات المذمومة يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً بتوفيقكم لاتباع الشريعة حال البقاء بعد الفناء ، ويقال : المتاع الحسن صفاء الأحوال ، وسناء الأذكار ، وحلاوة الأفكار وتجلي الحقائق ، وظهور اللطائف ، والفرح برضوان اللّه تعالى وطيب العيش بمشاهدة أنواره سبحانه ، والمتاع كل المتاع مشاهدة المحب حبيبه ، وللّه در من قال :
مناي من الدنيا لقاؤك مرة فإن نلتها استوفيت كل منائيا
إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو وقت وفاتكم وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ بالسعي والاجتهاد وبذل النفس فَضْلَهُ في الدرجات والقرب إليه سبحانه ويقال : يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ في الاستعداد فَضْلَهُ في الكمال ، وسئل أبو عثمان عن معنى ذلك فقال : يحقق آمال من أحسن به ظنه وَإِنْ تَوَلَّوْا أي تعرضوا عن امتثال الأمر والنهي فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ وهو يوم الرجوع إلى اللّه تعالى الذي يظهر فيه عجز ما سواه تعالى ويتبين قبح

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 218
مخالفة ما أمر به وفظاعة ارتكاب ما نهي عنه أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ يعطفون صُدُورَهُمْ على ما فيها من الصفات المذمومة لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ تعالى وذلك لمزيد جهلهم بما يجوز عليه جل شأنه وما لا يجوز أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ من الأقوال والأفعال وسائر الأحوال ، وقيل : ما يُسِرُّونَ من الخطرات وَما يُعْلِنُونَ من النظرات ، وقيل : ما يُسِرُّونَ بقلوبهم وَما يُعْلِنُونَ بأفواههم ، وقيل : ما يُسِرُّونَ بالليل وَما يُعْلِنُونَ بالنهار ، والتعميم أولى ومن الناس من جعل ضمير منه للرسول صلّى اللّه عليه وسلم وقد علمت أنه يبعده ظهور أن ضمير يَعْلَمُ له تعالى لكن ذكر في أسرار القرآن أنه تعالى كسا أنوار جلاله أفئدة الصديقين فيرون بأبصار قلوبهم ما يجري في صدور الخلائق من المضمرات والخطرات كما يرون الظواهر بالعيون الظاهرة ، وقد جاء «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللّه تعالى»
وعلى هذا فيمكن أن يكون ضمير يَعْلَمُ للرسول عليه الصلاة والسلام ، وأيّا ما كان فالآية نازلة في غير المؤمنين حسبما يقتضيه الظاهر ، وقد تقدم لك أن الأمر على ما روي عن الحبر رضي اللّه تعالى عنه مشكل.
وقال بعض أرباب الذوق : إن الآية عليه إشارة إلى أن أولئك الأناس لم يصلوا إلى مقام الجمع ولم يتحققوا بأعلى مراتب التوحيد وفيه خفاء أيضا فتفطن وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها أي ما تتغذى به شبحا وروحا ، ويقال : لكل رزق عليه تعالى بقدر حوصلته فرزق الظاهر للأشباح ، ورزق المشاهدة للأرواح ، ورزق الوصلة للأسرار ورزق الرهبة للنفوس ، ورزق الرغبة للعقول ، ورزق القربة للقلوب ، وهذا بالنظر إلى الإنسان ، وأما بالنظر إلى سائر الحيوانات فلها أيضا رزق محسوس ، ورزق معقول يعلمه اللّه تعالى وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها فمستقر الجميع أصلاب العدم وَمُسْتَوْدَعَها أرحام الحدوث وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وما في كل فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ أي كان حيا قيوما - كما قال ابن الكمال ..
وقيل : الماء إشارة إلى المادة الهيولانية ، والمعنى وَكانَ عَرْشُهُ قبل خلق السماوات والأرض بالذات لا بالزمان مستعليا على المادة فوقها بالرتبة ، وقيل : غير ذلك ، وإن شئت التطبيق على ما في تفاصيل وجودك فالمعنى على ما قيل : خلق سماوات قوى الروحانية ، وأرض الجسد في الأشهر الستة التي هي أقل مدة الحمل ، وكان عرشه الذي هو قلب المؤمن على ماء مادة الجسد مستوليا عليه متعلقا به تعلق التصوير والتدبير لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا قيل : جعل غاية الخلق ظهور الأعمال أي خلقنا ذلك لنعلم العلم التفصيلي التابع للوجود الذي يترتب عليه الجزاء أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً إلخ تضمن الإشارة إلى أنه ينبغي للعبد أن يكون في السراء والضراء واثقا بربه تعالى متوكلا عليه غير محتجب عنه برؤية الأسباب لئلا يحصل له اليأس والكفران والبطر والفخر بذلك وجودا وعدما. فإن آتاه رحمة شكره أولا برؤية ذلك منه جل شأنه بقلبه ، وثانيا باستعمال جوارحه في مراضيه وطاعاته والقيام بحقوقه تعالى فيها ، وثالثا بإطلاق لسانه بالحمد والثناء على اللّه تعالى وبذلك يتحقق الشكر المشار إليه بقوله تعالى : وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ : 13] وإلى ذلك أشار من قال :
أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا
وبالشكر تزداد النعم كما قال تعالى : لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم : 7] ، وعن علي كرم اللّه تعالى وجهه إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر ،
ثم إن نزعها منه فليصبر ولا يتهم اللّه تعالى بشيء فإنه تعالى أبر بالعبد وأرحم وأخبر بمصلحته وأعلم ، ثم إذا أعادها عليه لا ينبغي أن يبطر ويغتر ويفتخر بها على الناس فإن الاغترار والافتخار بما لا يملكه من الجهل بمكان ، وقد أفاد سبحانه أن من سجايا الإنسان في الشدة بعد الرحمة اليأس

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 219
والكفران وبالنعماء بعد الضراء الفرح والفخر إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا مع اللّه تعالى في حالتي النعماء والضراء والشدة والرخاء ، فالفقر والغنى مثلا عندهم مطيتان لا يبالون أيهما امتطوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ما فيه صلاحهم في كل أحوالهم أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ من ذنوب ظهور النفس باليأس والكفران والفرح والفخر وَأَجْرٌ كَبِيرٌ من ثواب تجليات الأفعال والصفات وجنانهما ، واللّه تعالى ولي التوفيق.
[سورة هود (11) : الآيات 12 إلى 49]
فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16)
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (21)
لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)
فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36)
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46)
قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 220
فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ أي تترك تبليغ بعض ما يوحى إليك وهو ما يخالف رأي المشركين مخافة ردهم واستهزائهم به ، فاسم الفاعل للمستقبل ولذا عمل ، و- لعل - للترجي وهو يقتضي التوقع ولا يلزم من توقع الشيء وقوعه ولا ترجح وقوعه لجواز أن يوجد ما يمنع منه ، فلا يشكل بأن توقع ترك التبليغ منه صلّى اللّه عليه وسلم مما لا يليق بمقام النبوة ، والمانع من ذلك فيه عليه الصلاة والسلام عصمته كسائر الرسل الكرام عليهم السلام عن كتم الوحي المأمور بتبليغه والخيانة فيه وتركه تقية ، والمقصود من ذلك تحريضه صلّى اللّه عليه وسلم وتهييج داعيته لأداء الرسالة ، ويقال نحو ذلك في

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 221
كل توقع نظير هذا التوقع ، وقيل : إن التوقع تارة يكون للمتكلم وهو الأصل لأن المعاني الإنشائية قائمة به ، وتارة للمخاطب ، وأخرى لغيره ممن له تعلق وملابسة به ، ويحتمل أن يراد هنا هذا الأخير ويجعل التوقع للكفار ، والمعنى أنك بذا لمن لا يقدر عليه ، فالمعنى لا تترك ، وقيل : إنها للاستفهام الإنكاري كما
في الحديث «لعلنا أعجلناك»
واختار السمين. وغيره كونها للترجي بالنسبة إلى المخاطب على ما علمت آنفا ، ولا يجوز أن يكون المعنى كأني بك ستترك بعض ما أوحي إليك مما شق عليك بإذني ووحي مني ، وهو أن يرخص لك فيه كأمر الواحد بمقاومة عشرة إذ أمروا بمقاومة الواحد لاثنين وغير ذلك من التخفيفات لأنه وإن زال به الإشكال إلا أن قوله تعالى بعد أن يقولوا يأباه ، نعم قيل : لو أريد ترك الجدال بالقرآن إلى الجلاد والضرب والطعان - لأن هذه السورة مكية نازلة قبل الأمر بالقتال - صح لكن في الكشف بعد كلام : اعلم لو أخذت التأمل لاستبان لك أن مبنى هذه السورة الكريمة على إرشاده تعالى كبرياؤه نبيه صلّى اللّه عليه وسلم إلى كيفية الدعوة من مفتتحها إلى مختتمها وإلى ما يعتري لمن تصدى لهذه الرتبة السنية من الشدائد واحتماله لما يترتب عليه في الدارين من العوائد لا على التسلي له عليه الصلاة والسلام فإنه لا يطابق المقام ، وانظر إلى الخاتمة الجامعة أعني قوله سبحانه : وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود : 123] تقضي العجب وهو يبعد هذه الإرادة إن قلنا : إن ذلك من باب التخفيف المؤذن بالتسلي فتأمله ، والضمير في قوله سبحانه : وَضائِقٌ بِهِ لما يوحى أو للبعض وهو الظاهر عند أبي حيان ، وقيل : للتبليغ أو للتكذيب ، وقيل : هو مبهم يفسره أن يقولوا ، والواو للعطف وَضائِقٌ قيل : عطف على تارِكٌ وقوله تعالى : صَدْرُكَ فاعله ، وجوز أن يكون الوصف خبرا مقدما وصَدْرُكَ مبتدأ والجملة معطوفة على تارِكٌ ، وقيل : يتعين أن تكون الواو للحال ، والجملة بعدها حالية لأن هذا واقع لا متوقع فلا يصح العطف ، ونظر فيه بأن ضيق صدره عليه الصلاة والسلام بذلك إن حمل على ظاهره ليس بواقع ، وإنما يضيق صدره الشريف لما يعرض له في تبليغه من الشدائد ، وعدل عن ضيق الصفة المشبهة إلى - ضائق - اسم الفاعل ليدل على أن الضيق مما يعرض له صلّى اللّه عليه
وسلم أحيانا ، وكذا كل صفة مشبهة إذا قصد بها الحدوث تحول إلى فاعل فتقول في سيد وجواد وسمين مثلا : سائد وجائد وسامن ، وعلى ذلك قول بعض اللصوص يصف السجن ومن سجن فيه :
بمنزلة أما اللئيم «فسامن» بها وكرام الناس باد شحوبها وظاهر كلام البحر أن ذلك مقيس فكل ما يبنى من الثلاثي للثبوت والاستقرار على غير وزن فاعل يرد إليه إن أريد معنى الحدوث من غير توقف على سماع ، وقيل : إن العدول لمشاركة تارِكٌ وليس بذلك. أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أي مال كثير ، وعبروا بالإنزال دون الإعطاء لأن مرادهم التعجيز بكون ذلك على خلاف العادة لأن الكنوز إنما تكون في الأرض ولا تنزل من السماء ، ويحتمل أنهم أرادوا بالإنزال الإعطاء من دون سبب عادي كما يشير إليه سبب النزول أي لولا أعطي ذلك ليتحقق عندنا صدقه أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ يصدقه لنصدقه ،
روي أنهم قالوا : اجعل لنا جبال مكة ذهبا أو ائتنا بملائكة يشهدون بنبوتك إن كنت رسولا فنزلت ،
وروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن كلَّا من القولين قالته طائفة فقال عليه الصلاة والسلام : لا أقدر على ذلك فنزلت ،
وقيل : القائل لكل عبد اللّه بن أمية المخزومي ، ووجه الجمع عليه يعلم مما مر غير مرة ، ومحل أَنْ يَقُولُوا نصب أو جر وكان الأصل كراهة أو مخافة أَنْ يَقُولُوا أو لئلا أو لأن أو بأن يقولوا ، ولوقوع القول قالوا : إن المضارع بمعنى الماضي ، وأَنْ المصدرية خارجة عن مقتضاها ، ورجحوا تقدير

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 222
الكراهة على المخافة لذلك ، وقد يراد عند تقديرها مخافة أن يكرروا هذا القول واختار بعض أن يكون المعنى على الجميع أن يقولوا مثل قولهم لولا إلخ - فأن - على مقتضاها ، ولا يرد شيء إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ أي ليس عليك إلا الإنذار بما أوحى غير مبال بما يصدر عنهم وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أي قائم به وحافظ له فيحفظ أحوالك وأحوالهم فتوكل عليه في جميع أمورك فإنه فاعل بهم ما يليق بحالهم ، والاقتصار على النذير في أقصى غاية من إصابة المحز ، والآية قيل : منسوخة ، وقيل : محكمة.
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ إضراب بأم المنقطعة عن ذكر ترك اعتدادهم بما يوحى وعدم اكتفائهم بما فيه من المعجزات الظاهرة الدالة على صدق الدعوى ، وشروع في ذكر ارتكابهم لما هو أشد منه وأعظم ، وتقدر ببل والهمزة الإنكارية أي بل أيقولون ، وذهب ابن القشيري إلى أن أَمْ متصلة ، والتقدير أيكتفون بما أوحينا إليك أم يقولون إنه ليس من عند اللّه ، والأول أظهر ، وأيا ما كان فالضمير البارز في افْتَراهُ لما يوحى قُلْ إن كان الأمر كما تقولون فَأْتُوا أنتم أيضا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ في البلاغة وحسن النظم وهو نعت - لسور - وكان الظاهر مطابقته لها في الجمع لكنه أفرد باعتبار مماثلة كل واحدة منها إذ هو المقصود لا مماثلة المجموع ، وقيل : مثل وإن كان مفردا يجوز فيه المطابقة وعدمها فيوصف به الواحد وغيره نظرا إلى أنه مصدر في الأصل كقوله تعالى : أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا [المؤمنون : 47] وقد يطابق كقوله سبحانه : ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [محمد : 38] ، وقيل : إنه هنا صفة لمفرد مقدر أي قدر عشر سور مثله ، وقيل : إنه وصف لمجموع العشر لأنها كلام وشيء واحد ، وأيضا - عشر - ليس بصيغة جمع فيعطى حكم المفرد - كنخل منقعر - وقوله سبحانه : مُفْتَرَياتٍ نعت آخر - لسور - قيل : أخر عن نعتها بالمماثلة لما يوحى لأنه النعت المقصود بالتكليف إذ به قعودهم على العجز عن المعارضة ، وأما نعت الافتراء فلا يتعلق به غرض يدور عليه شيء في مقام التحدي ، وإنما ذكر على نهج المساهلة وإرخاء العنان ولأنه لو عكس الترتيب لربما توهم أن المراد هو المماثلة له في الافتراء ، والمعنى فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مماثلة له في البلاغة مختلقات من عند أنفسكم إن صح أني اختلقته من عند نفسي فإنكم عرب فصحاء بلغاء ومبادي ذلك فيكم من ممارسة الخطب والأشعار ومزاولة أساليب النظم والنثر وحفظ الوقائع والأيام أتم.
والكثير على أن هذا التحدي وقع أولا فلما عجزوا تحداهم بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ كما نطقت به سورة [البقرة :
23] ويونس ، وهو وإن تأخر تلاوة متقدم نزولا وأنه لا يجوز العكس إذ لا معنى للتحدي بعشر لمن عجز عن التحدي بواحدة وأنه ليس المراد تعجيزهم عن الإتيان بعشر سور مماثلات لعشر معينة من القرآن.
وروي عن ابن عباس أن المراد ذلك ، وجعل العشر ما تقدم من السور إلى هنا ، واعترضه أبو حيان بأن أكثر ما ذكر مدني وهذه السورة حسبما علمت مكية فكيف تصح الحوالة بمكة على ما لم ينزل بعد ، ثم قال : ولعل هذا لا يصح عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وذهب ابن عطية إلى أن هذا التحدي إنما وقع بعد التحدي بسورة ، وروي هذا عن المبرد وأنكر تقدم نزول هذه السورة على نزول تينك السورتين وقال : بل نزلت سورة يونس أولا ، ثم نزلت سورة هود.
وقد أخرج ذلك ابن الضريس في فضائل القرآن عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما. ووجه ذلك بأن ما وقع أولا هو التحدي بسورة مثله في البلاغة والاشتمال على ما اشتمل عليه من الأخبار عن المغيبات والأحكام وأخواتها ، فلما عجزوا عن ذلك أمرهم بأن يأتوا بعشر سور مثله في النظم وإن لم تشتمل على ما اشتمل عليه ، وضعفه في الكشف ، وقال : إنه لا يطرد في كل سورة من سور القرآن ، وهب أن السورة متقدمة النزول إلا أنها لما نزلت على التدريج جاز أن تتأخر تلك الآية عن هذه ، ولا ينافي تقدم السورة على السورة انتهى.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 223
وتعقبه الشهاب بأن قوله لا يطرد مما لا وجه له لأن مراد المبرد اشتماله على شيء من الأنواع السبعة ولا يخلو شيء من القرآن عنها ، وادعاء تأخر نزول تلك الآية خلاف الظاهر ، ومثله لا يقال بالرأي ، وادعى أن الحق ما قاله المبرد من أنه عليه الصلاة والسلام تحداهم أولا بسورة مثله في النظم والمعنى ، ثم تنزل فتحداهم بعشر سور مثله في النظم من غير حجر في المعنى ، ويشهد له توصيفها بمفتريات ، وأيد بعضهم نظر المبرد بأن التكليف في آية البقرة إنما كان بسبب الريب ولا يزيل الريب إلا العلم بأنهم لا يقدرون على المماثلة التامة ، وهو في هذه الآية ليس إلا بسبب قولهم :
افْتَراهُ فكلفوا نحو ما قالوا ، وفيه أن الأمر في سورة يونس كالأمر هنا مسبوق بحكاية زعمهم الافتراء قاتلهم اللّه تعالى مع أنهم لم يكلفوا إلا بنحو ما كلفوا به في آية البقرة على أن في قوله : ولا يزيل الريب إلخ منعا ظاهرا ، وللعلامة الطيبي هاهنا كلام - زعم أنه الذي يقتضيه المقام - وهو على قلة جدواه لا وجه لما أسسه عليه كما بين ذلك صاحب الكشف.
هذا ونقل الإمام أنه استدل بهذه الآية على أن إعجاز القرآن بفصاحته لا باشتماله على المغيبات وكثرة العلوم إذ لو كان كذلك لم يكن لقوله سبحانه : مُفْتَرَياتٍ معنى أما إذا كان وجه الإعجاز الفصاحة صح ذلك لأن فصاحة الكلام تظهر إن صدقا وإن كذبا ، واعترض عليه الفاضل الجلبي بما هو مبني على الغفلة عن معنى الافتراء والاختلاق ، نعم ما ذكر إنما يدل على صحة كون وجه الإعجاز ذلك ولا يمنع احتمال كونه الأسلوب الغريب وعدم اشتماله على التناقض كما قيل به.
وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ أي استعينوا بمن أمكنكم أن تستعينوا به من آلهتكم التي تزعمون أنها ممدة لكم في كل ما تأتون وما تذرون. والكهنة الذين تلجئون إلى آرائهم في الملمات ليسعدوكم في ذلك.
مِنْ دُونِ اللَّهِ متعلق - بادعوا - أي متجاوزين اللّه تعالى ، وفيه على ما قال غير واحد إشارة إلى أنه لا يقدر على مثله إلا اللّه عز وجل إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أني افتريته ، فإن ذلك يستلزم الإتيان بمثله وهو أيضا يستلزم قدرتكم عليه ، وجواب إِنْ محذوف دل عليه المذكور قبل فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ الخطاب - على ما روي عن الضحاك - للمأمورين بدعاء من استطاعوا ، وضمير الجمع الغائب عائد إلى من أي فإن لم يستجب لكم من تدعونه من دون اللّه تعالى إلى الإسعاد والمظاهرة على المعارضة لعلمهم بالعجز عنه وأن طاقتهم أقصر من أن تبلغه فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ أي ما أنزل إلا ملتبسا بعلمه تعالى لا بعلم غيره على ما تقتضيه كلمة أَنَّما فإنها تفيد الحصر كالمكسورة على الصحيح ، قيل : وهو معنى قول من قال : أي ملتبسا بما لا يعلمه إلا اللّه تعالى ولا يقدر عليه سواه.
وادعى بعضهم أن الحصر إنما أفادته الإضافة كما في قوله تعالى : فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً [الجن : 26] والمراد بما لا يعلمه غيره تعالى الكيفيات والمزايا التي بها الإعجاز والتحدي ، وذكر عدم قدرة غيره سبحانه مما يقتضيه السياق وإلا فالمذكور في النظم الكريم العلم دون القدرة ، وقيل : ذاك لأن نفي العلم بالشيء يستلزم نفي القدرة لأنه لا يقدر أحد على ما لا يعلم ، والجملة الشرطية داخلة في حيز القول وإيراد كلمة الشك مع الجزم بعدم الاستجابة من جهة من يدعونه تهكم بهم وتسجيل عليهم بكمال سخافة العقل ، وترتيب الأمر بالعلم على مجرد عدم الاستجابة من حيث إنه مسبوق بالدعاء المسبوق بتعجيزهم واضطرارهم فكأنه قيل : فإن لم يستجيبوا لكم عند التجائكم إليهم بعد ما اضطررتم إلى ذلك وصاعت عليكم الحيل وعيت بكم العلل فَاعْلَمُوا إلخ أو من حيث إن من يدعونهم إلى المعارضة أقوى منهم في اعتقادهم فإذا ظهر عجزهم بعدم استجابتهم وإن كان ذلك قبل ظهور عجز أنفسكم يكون عجزهم أظهر وأوضح.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 224
وبمجموع ما ذكرنا يظهر أن لا إشكال في الآية ، ومما يقتضى منه العجب قول العز بن عبد السلام في أماليه : إن ترتيب هذا المشروط يعني العلم على ذلك الشرط يعني عدم الاستجابة مشكل ، وكذا قوله سبحانه : أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ مشكل أيضا إذ لا تصلح الباء للسببية إذ ليس العلم سببا في إنزاله ولا للمصاحبة إذ العلم لا يصحبه في إنزاله ، وأن الجواب أنه ليس المراد بالعلم إلا علمنا نحن ، وأضيف إليه عز وجل لأنه مخلوق له تعالى ، ونظير ذلك ما في قوله جل وعلا : وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ [المائدة : 106] حيث أضيفت الشهادة إلى اللّه سبحانه باعتبار أنه تعالى شرعها ، والقرآن قد نزل بأدلة العلم بأحكام اللّه تبارك اسمه ، فعبر بالمدلول عن الدليل ، والتقدير فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ مصحوبا بانتشار علم الأحكام ، وهي الأدلة ، ولا شك أنه يناسب إذا عجزوا عن معارضته أن يعلموا أن هذه الآيات أدلة أحكام اللّه تعالى انتهى ، وليت شعري كيف غفل هذا العالم الماهر عن ذلك التفسير الظاهر ، ولعله كما قيل : من شدة الظهور الخفاء وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي واعلموا أيضا أنه تعالى المختص بالألوهية وأحكامها وأن آلهتكم بمعزل عن رتبة الشركة له تعالى في ذلك فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي داخلون في الإسلام إذ لم يبق بعد شائبة شبهة في حقيته وفي بطلان ما أنتم فيه من الشرك ، فيدخل فيه الإذعان بكون القرآن من عند اللّه تعالى دخولا أوليا ، أو منقادون للحق الذي هو كون القرآن من عند اللّه تعالى وتاركون ما أنتم عليه من المكابرة والعناد ، وفي هذا الاستفهام إيجاب بليغ لما فيه من معنى الطلب والتنبيه على قيام الموجب وزوال المانع ، ولهذا جيء بالفاء ، وفي التعبير - بمسلمون - دون تسلمون تأييد لما يقتضيه ترتيب ما ذكر على ما قيل بها من وجوبه بلا مهلة ، قيل : وفي ذلك أيضا إقناط لهم من أن يجيرهم آلهتهم من بأس اللّه تعالى شأنه وعز
سلطانه ، وجوز أن يكون الضمير في لَكُمْ للرسول صلّى اللّه عليه وسلم ، ويؤيده أنه جاء في آية أخرى فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ [القصص : 50] ، وروي ذلك عن مجاهد ، وكان المناسب للأمر بقل الافراد لكنه جمع للتعظيم ، وهو لا يختص بضمير المتكلم كما قاله الرضي ، ومن ذلك :
وإن شئت حرمت النساء سواكم والجملة غير داخلة في حيز القول بل هي من قبله تعالى للحكم بعجزهم كقوله سبحانه : فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة : 24] وعبر بالاستجابة إيماء إلى أنه صلّى اللّه عليه وسلم على كمال الأمن من أمره كأن أمره عليه الصلاة والسلام لهم بالإتيان بمثله دعاء لهم إلى أمر يريد وقوعه ، ويجوز أن يكون الضمير له صلّى اللّه عليه وسلم وللمؤمنين لأنهم أتباع له صلّى اللّه عليه وسلم في الأمر بالتحدي ، وفيه تنبيه لطيف على أن حقهم أن لا ينفكوا عنه عليه الصلاة والسلام ويناصبوا معه لمعارضة المعاندين كما كانوا يفعلونه في الجهاد وإرشاد إلى أن ذلك مما يفيد الرسوخ في الإيمان ، ولذلك رتب عليه ما ترتب.
والمراد بالعلم المأمور به ما هو في المرتبة العليا التي كأن ما عداها من مراتب العلم ليس بعلم لكن لا للإشعار بانحطاط تلك المراتب بل بارتفاع هذه المرتبة ، ويعلم من ذلك سر إيراد كلمة الشك مع القطع بعدم الاستجابة ، فإن تنزيل سائر المراتب منزلة العدم مستتبع لتنزيل الجزم بعدم الاستجابة منزلة الشك ، ويجوز أن يكون المأمور به الاستمرار على ما هم عليه من العلم ومعنى مُسْلِمُونَ مخلصون في الإسلام أو ثابتون عليه ، والكلام من باب التثبيت والترقية إلى معارج اليقين ، واختار تفسير الآية بذلك الجبائي وغيره ، وذكر شيخ الإسلام أنه أنسب بما سلف من قوله تعالى : وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ولما سيأتي إن شاء اللّه تعالى من قوله سبحانه : فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ وأشد بما يعقبه ، وقد يؤيد أيضا بما أشرنا إليه لكن لا يخفى أن الكلام على التفسير الأول موافق لما قبله لأن ضمير الجمع في الآية المتقدمة للكفار والضمير في هذه ضمير الجمع فليكن لهم أيضا ، ولأن الكفار أقرب المذكورين فرجوع الضمير إليهم أولى ، ولأن في التفسير الثاني تأويلات لا يحتاج إليها في الأول.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 225
ومن هنا استظهره أبو حيان واستحسنه الزمخشري ، ولعل مرجحاته أقوى من مرجحات الأخير عند من تأمل فلذا قدمناه ، وإن قيل : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك ، ويكتب - فما لم - في المصحف - على ما قال الأجهوري - بغير نون ، وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما - نزل - بفتح النون والزاي وتشديدها ، وفي البحر أن - ما - يحتمل أن تكون مصدرية أي إن التنزيل ، وأن تكون موصولة بمعنى الذي أي إن الذي نزله ، وحذف العائد المنصوب في مثل ما ذكر شائع ، وفعل - نزل - ضميره تعالى ، وجوز بعضهم كون - ما - موصولة على قراءة الجمهور أيضا ، ويبعد ذلك بحسب المعروف في مثله أنها موصولة فافهم.
مَنْ كانَ يُرِيدُ أي بأعماله الصالحة بحسب الظاهر الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها أي ما يزينها ويحسنها من الصحة والأمن وكثرة الأموال والأولاد والرياسة وغير ذلك ، وإدخال كانَ للدلالة على الاستمرار أي من يريد ذلك بحيث لا يكاد يريد الآخرة أصلا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها أي نوصل إليهم أجور أعمالهم في الدنيا وافية ، فالكلام على حذف مضاف ، وقيل : الأعمال عبارة عن الأجور مجازا ، وإليه يشير كلام شيخ الإسلام والأول أولى ، ونُوَفِّ متضمن معنى نوصل ولذا عدي بإلى ، وإلا فهو مما يتعدى بنفسه ، وقيل : إنه مجاز عن ذلك ، وقرأ طلحة بن ميمون - «يوف» - بالياء ، وإسناد الفعل إلى اللّه تعالى ، وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما - «يوف» - بالياء مخففا مضارع أوفى ، وقرى ء - «توّف» - بالتاء مبنيا للمفعول ، ورفع «أعمالهم» والفعل في كل ذلك مجزوم على أنه جواب الشرط كما انجزم في قوله سبحانه : مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ [الشورى : 20] وحكى الفراء أن كانَ زائدة ولذا جزم الجواب ، وتعقبه أبو حيان بأنه لو كانت زائدة لكان فعل الشرط يُرِيدُ وكان يكون مجزوما ، وأجيب بأنه يحتمل أنه أراد بكونها زائدة أنها غير لازمة في المعنى ، وقرأ الحسن - نوفي - بالتخفيف وإثبات الياء ، وذلك إما على لغة من يجزم المنقوص بحذف الحركة المقدرة كما في قوله :
ألم يأتيك والأنباء تنمي أو على ما سمع في كلام العرب إذا كان الشرط ماضيا من عدم جزم الجزاء وإما لأن الأداة لما لم تعمل في الشرط القريب ضعفت عن العمل في لفظ الجزاء البعيد فعملت في محله.
ونقل عن عبد القاهر أنها لا تعمل فيه أصلا لضعفها ، والمشهور فيه عن النحاة مذهبان : كون الجزاء في نية التقديم. وكونه على تقدير الفاء والمبتدأ ، ويمكن أن يرد ذلك إلى هذا ، وليس هذا مخصوصا فيما إذا كان الشرط كان على الصحيح لمجيئه في غيره كثيرا ، ومنه :
وإن أتاه خليل يوم مسغبة يقول : لا غائب مالي ولا حرم
وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ أي لا ينقصون ، والظاهر أن الضمير المجرور - للحياة الدنيا - وقيل : الأظهر أن يكون للأعمال لئلا يكون تكرارا بلا فائدة ، وردّ بأن فائدته إفادته من أول الأمر أن عدم البخس ليس إلا في الدنيا فلو لم يذكر توهم أنه مطلق على أنه لا يجوز أن يكون للتأكيد ولا ضرر فيه ، وإنما عبر عن ذلك بالبخس الذي هو نقص الحق ، ولذلك قال الراغب : هو نقص الشيء على سبيل الظلم مع أنه ليس لهم شائبة حق فيما أوتوه كما عبر عن إعطائه بالتوفية التي هي إعطاء الحقوق مع أن أعمالهم بمعزل من كونها مستوجبة لذلك - كما قال بعض المحققين - بناء للأمر على ظاهر الحال ومحافظة على صور الأعمال ومبالغة في نفي النقص كأن ذلك نقص لحقوقهم فلا يدخل تحت الوقوع والصدور عن الكريم أصلا لكن ينبغي أن يعلم أن هذا ليس على إطلاقه بل الأمر دائر على المشيئة الجارية على قضية الحكمة كما نطق به قوله سبحانه : مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء : 18].

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 226
وأخرج النحاس في ناسخه عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن هذه الآية نسخت الآية التي نحن فيها ، وأنت تعلم أنه لا نسخ في الأخبار ، ولعل هذا إن صح محمول على المسامحة أُولئِكَ إشارة إلى المذكورين باعتبار استمرارهم على إرادة الحياة الدنيا ، أو باعتبار توفيتهم أجورهم فيها من غير بخس ، أو باعتبارهما معا ، وما فيه من معنى للإيذان ببعد منزلتهم في سوء الحال الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ لأن هممهم كانت مصروفة إلى اقتناص الدنيا وأعمالهم كانت ممدودة ومقصورة على تحصيلها وقد ظفروا بما يترتب على ذلك ولم يريدوا به شيئا آخر فلا جرم لم يكن لهم في الآخرة إلا النار وعذابها المخلد.
وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها أي في الآخرة كما هو الظاهر ، فالجار متعلق - بحبط - وما تحتمل المصدرية والموصولية أي ظهر في الآخرة حبوط صنعهم ، أو الذي صنعوه من الأعمال التي كانت تؤدي إلى الثواب الأخروي لو كانت معمولة للآخرة ، ويجوز أن يعود الضمير إلى الدنيا فيكون الجار متعلقا - بصنعوا - وما على حالها ، والمراد بحبوط الأعمال عدم مجازاتهم عليها لفقد الاعتداد بها لعدم الإخلاص الذي هو شرط ذلك ، وقيل : لجزائهم عليها في الدنيا وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ قال أبو حيان : هو تأكيد لقوله سبحانه : حَبِطَ إلخ. والظاهر أنه حمل ما كانُوا يَعْمَلُونَ على معنى ما صَنَعُوا والبطلان على عدم النفع وهو راجع إلى معنى الحبوط.
ولما رأى بعضهم أن التأسيس أولى من التأكيد أبقى ما يَعْمَلُونَ على ذلك المعنى ، وحمل بطلان ذلك على فساده في نفسه لعدم شرط الصحة ، وقال : كأن كلّا من الجملتين علة لما قبلها على معنى ليس لهم في الآخرة إلا النار لحبوط أعمالهم وعدم ترتب الثواب عليها لبطلانها وكونها ليست على ما ينبغي ، والأولى ما صنعه المولى أبو السعود عليه الرحمة حيث حمل البطلان على الفساد في نفسه ، وما كانُوا يَعْمَلُونَ على أعمالهم في أثناء تحصيل المطالب الدنيوية. ثم قال : ولأجل أن الأول من شأنه استتباع الثواب والأجر وأن عدمه لعدم مقارنته للإيمان والنية الصحيحة ، وأن الثاني ليس له جهة صالحة قط علق بالأول الحبوط المؤذن بسقوط أجره بصيغة الفعل المنبئ عن الحدوث ، وبالثاني البطلان المفصح عن كونه بحيث لا طائل تحته أصلا بالاسمية الدالة على كون ذلك وصفا لازما له ثابتا فيه ، وفي زيادة - كان - في الثاني دون الأول إيماء إلى أن صدور أعمال البر منهم وإن كان لغرض فاسد ليس في الاستمرار والدوام كصدور الأعمال التي هي مقدمات مطالبهم الدنيئة انتهى.
ويحتمل عندي على بعد أن يراد - بما كانوا يعملون - هو ما استمروا عليه من إرادة الحياة الدنيا وهو غير ما صنعوه من الأعمال التي نسب إليها الحبوط وإطلاق مثل ذلك على الإرادة مما لا بأس به لأنها من أعمال القلب ، ووجه الإتيان - بكان - فيه موافقته لما أشار هو إليه ، وفي الجملة تصريح باستمرار بطلان تلك الإرادة وشرح حالها بعد شرح حال المريد وشرح أعماله أراد بها الحياة الدنيا وزينتها ، وأيا ما كان فالظاهر أن باطِلٌ خبر مقدم وما كانُوا هو المبتدأ ، وجوز في البحر كون باطِلٌ خبرا بعد خبر ، وما مرتفعة به على الفاعلية ، وقرى ء - وبطل - بصيغة الفعل أي ظهر بطلانه حيث علم هناك أن ذاك وما يستتبعه من الحظوظ الدنيوية مما لا طائل تحته أو انقطع أثره الدنيوي فبطل مطلقا ، وقرأ أبي وابن مسعود - وباطلا - بالنصب ونسب ذلك إلى عاصم وخرجه صاحب اللوامح على أن ما سيف خطيب - وباطل - مفعول - ليعملون - وفيه تقديم معمول كان وفيه - كتقديم الخبر - خلاف ، والأصح الجواز لظاهر قوله تعالى : أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ [سبأ : 40] ومن منع تأول ، وجوز أن يكون منصوبا - بيعملون - و«ما» إبهامية صفة له أي باطلا أي باطل ، ونظير ذلك حديث ما على قصره ولأمر ما جدع قصير أنفه ، وأن يكون مصدرا بوزن فاعل ، وهو منصوب بفعل مقدر ، و«ما» اسم موصول فاعله أي بطل بطلانا الذي كانوا يعملونه ، ونظيره خارجا في قول الفرزدق :

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 227
ألم ترني عاهدت ربي وأنني لبين رتاج قائما ومقام
عليّ حلفة لا أشتم الدهر مسلما ولا «خارجا» من في زور كلام
فإنه أراد ولا يخرج من في زور كلام خروجا ، وفي ذلك على ما في البحر إعمال المصدر الذي هو بدل من الفعل في غير الاستفهام والأمر هذا ، والظاهر أن الآية في مطلق الكفرة الذين يعملون البر لا على الوجه الذي ينبغي ، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما عن أنس رضي اللّه تعالى عنه أنها نزلت في اليهود والنصارى ، ولعل المراد - كما قال ابن عطية - إنهم سبب النزول فيدخلون فيها لا أنها خاصة بهم ولا يدخل فيها غيرهم ، وقال الجبائي : هي في الذين جاهدوا من المنافقين مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم جعل اللّه تعالى حظهم من ذلك سهمهم في الغنائم ، وفيه أن ذلك إنما كان بعد الهجرة والآية مكية ، وقيل : في أهل الرياء يقال لقارىء القرآن منهم : أردت أن يقال : فلان قارئ ، فقد قيل :
اذهب فليس لك عندنا شيء ، وهكذا لغيره من المتصدق والمقتول في الجهاد وغيرهما ممن عمل من أعمال البر لا لوجه اللّه تعالى ، وربما يؤيد ذلك ما روي عن معاوية حين حدثه أبو هريرة بما تضمن ذلك فبكى ، وقال : صدق اللّه ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها إلى قوله سبحانه : وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ وعليه فلا بد من تقييد قوله عز وجل : لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ بأن ليس لهم بسبب أعمالهم الريائية إلا ذلك وهو خلاف الظاهر ، والسياق يقتضي أنها في الكفرة مطلقا وبرهم كما قلنا ، ومن هنا اشتهر أن الكافر يعجل له ثواب أعماله في الدنيا بتوسعة الرزق وصحة البدن وكثرة الولد ونحو ذلك وليس لهم في الآخرة من نصيب لكن ذهب جماعة إلى أنه يخفف بها عنه عذاب الآخرة ، ويشهد له قصة أبي طالب ، وذهب آخرون إلى أن ما يتوقف على النية من الأعمال لا ينتفع الكافر به في الآخرة أصلا لفقدان شرطه إذ لم يكن من أهل النية لكفره ، وما لا ينتفع به ويخفف به عذابه ، وبذلك يجمع بين الظواهر المقتضي بعضها للانتفاع في الجملة وبعضها لعدمه أصلا فتدبر.
ووجه ارتباط هذه الآية بما قبلها على ما في مجمع البيان أنه سبحانه لما قال : فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ؟ فكأن قائلا قال : إن أظهرنا الإسلام لسلامة النفس والمال يكون ماذا؟ فقيل : مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا إلخ ، أو يقال :
إن فيما قبل ما يتضمن إقناط الكفرة من أن يجيرهم آلهتهم من بأس اللّه عز سلطانه كما تقدم ، وذكره بعض المحققين فلا يبعد أن يكون سماعهم ذلك سببا لعزمهم على إظهار الإسلام ، أو فعل بعض الأعمال الصالحة ظنا منهم أن ذلك مما يجيرهم وينفعهم فشرح لهم حكم مثل ذلك بقوله سبحانه : مَنْ كانَ يُرِيدُ إلخ لكن أنت تعلم أن هذا يحتاج إلى ادعاء أن ذلك العزم من باب الاحتياط ، وفي البحر في بيان المناسبة أنه سبحانه لما ذكر شيئا من أحوال الكفار في القرآن ذكر شيئا من أحوالهم الدنيوية وما يؤولون إليه في الآخرة ، وأبو السعود بين ذلك على وجه يقوي به ما ادعاه من أنسبية كون الخطاب فيما سلف له عليه الصلاة والسلام والمؤمنين ، فقال : والذي يقتضيه جزالة النظم الكريم أن المراد مطلق الكفرة بحيث يندرج فيهم القادحون في القرآن العظيم اندراجا أوليا فإنه عز وجل لما أمر نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم والمؤمنين بأن يزدادوا علما ويقينا بأن القرآن منزل بعلم اللّه سبحانه وبأن لا قدرة لغيره سبحانه على شيء أصلا وهيجهم على الثبات على الإسلام والرسوخ فيه عند ظهور عجز الكفرة وما يدعون من دون اللّه تعالى عن المعارضة وتبين أنهم ليسوا على شيء أصلا اقتضى الحال أن يتعرض لبعض شؤونهم الموهمة لكونهم على شيء في الجملة من نيلهم الحظوظ العاجلة واستوائهم على المطالب الدنيوية ، وبيان أن ذلك بمعزل عن الدلالة عليه ، ولقد بين ذلك أي بيان انتهى ، ولا يخفى أنه يمكن أن يقرر هذا على وجه لا يحتاج فيه إلى توسيط حديث جعل الخطاب السابق له صلّى اللّه عليه وسلّم والمؤمنين فليفهم ، واستدل في الأحكام بالآية على أن ما سبيله أن لا يفعل إلا على وجه القربة لا يجوز أخذ الأجرة عليه لأن الأجرة من

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 228
حظوظ الدنيا فمن أخذ عليه الأجرة خرج من أن يكون قربة بمقتضى الكتاب والسنة ، وادعى الكيا أنها مثل
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «إنما الأعمال بالنيات»
وتدل على أن من صام في رمضان لا عن رمضان لا يقع عن رمضان ، وعلى أن من توضأ للتبرد أو التنظف لا يصح وضوءه ، وفي ذلك خلاف مبسوط بما له وعليه في محله.
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ تدل على الحق والصواب فيما يأتيه ويذره ، ويدخل في ذلك الإسلام دخولا أوليا ، واقتصر عليه بعضهم بناء على أنه المناسب لما بعد ، وأصل - البينة - كما قيل : الدلالة الواضحة عقلية كانت أو محسوسة ، وتطلق على الدليل مطلقا ، وهاؤها للمبالغة ، أو النقل ، وهي وإن قيل : إنها من بان بمعنى تبين واتضح لكنه اعتبر فيها دلالة الغير والبيان له ، وأخذها بعضهم من صيغة المبالغة ، والتنوين فيها هنا للتعظيم أي بينة عظيمة الشأن ، والمراد بها القرآن وباعتبار ذلك أو البرهان ذكر الضمير الراجع إليها في قوله سبحانه : وَيَتْلُوهُ أي يتبعه شاهِدٌ عظيم يشهد بكونه من عند اللّه تعالى شأنه وهو - كما قال الحسين بن الفضل - الإعجاز في نظمه ، ومعنى كون ذلك تابعا له أنه وصف له لا ينفك عنه حتى يرث اللّه تعالى الأرض ومن عليها فلا يستطيع أحد من الخلق جيلا بعد جيل معارضته ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. وكان الضمير في مِنْهُ وهو متعلق بمحذوف وقع صفة لشاهد ، ومعنى كونه منه أنه غير خارج عنه.
وجوز أن يكون هذا الضمير راجعا إلى الرب سبحانه ، ومعنى كونه منه تعالى أنه وارد من جهته سبحانه للشهادة ، وعلى هذا يجوز أن يراد بالشاهد المعجزات الظاهرة على يد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فإنها من الشواهد التابعة للقرآن الواردة من قبله عز وجل ، وأمر التبعية فيها ظاهر ، والمراد بالموصول كل من اتصف بتلك الكينونة من المؤمنين.
وعن أبي العالية أنه النبي عليه الصلاة والسلام ولا يخفى أن قوله سبحانه الآتي : أُولئِكَ إلخ لا يلائمه إلا أن يحمل على التعظيم ، وأيضا إن السياق كما ستعلم إن شاء اللّه تعالى للفرق بين الفريقين المؤمنين ومن يريد الحياة الدنيا لا بينهم وبين النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، وفسر أبو مسلم وغيره البينة بالدليل العقلي ، والشاهد بالقرآن وضمير مِنْهُ للّه تعالى ، ومن ابتدائية ، أو للقرآن فقد تقدم ذكره ، ومن حينئذ إما بيانية ، وإما تبعيضية بناء على أن القرآن ليس كله شاهدا وليس من التجريد على ما توهم الطيبي ، فيكون في الآية إشارة إلى الدليلين العقلي ، والسمعي ، ومعنى كون الثاني تابعا للأول على ما قيل : إنه موافق له لا يخالفه أصلا ، ومن هنا قالوا : إن النقل الصحيح لا يخالف العقل الصريح ، ولذا أولوا الدليل السمعي إذا خالف ظاهره الدليل العقلي ، ولعل في التعبير عن الأول بالبينة التي جاء إطلاقها في كلام الشارع على شاهدين ، وعن الثاني بالشاهد الإيماء إلى أن الدليل العقلي أقوى دلالة من الدليل السمعي لأن دلالة الأول قطعية ، ودلالة الثاني ظنية غالبا للاحتمالات الشهيرة التي لا يمكن القطع معها ، وقد يقال : إن التعبير عن الثاني بالشاهد لمكان التلو.
وعن ابن عباس ، ومجاهد ، والنخعي ، والضحاك ، وعكرمة ، وأبي صالح ، وسعيد بن جبير أن البينة القرآن ، والشاهد هو جبريل عليه السلام - ويتلو - من التلاوة لا التلو ، وضمير مِنْهُ للّه تعالى ، وفي رواية عن مجاهد أن الشاهد ملك يحفظ القرآن وليس المراد الحفظ المتعارف لأنه - كما قال ابن حجر - خاص بجبريل عليه السلام ، وضمير مِنْهُ كما في سابقه إلا أن يتلو من التلو والضمير المنصوب للبينة ، وقيل : لمن كان عليها ، وعن الفراء أن الشاهد هو الإنجيل ، وَيَتْلُوهُ وضمير مِنْهُ على طرز ما روي عن مجاهد سوى أن ضمير - يتلوه - للقرآن.
وأخرج أبو الشيخ عن محمد بن الحنفية أن الشاهد لسانه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وقد ذكر أهل اللغة ذلك ، وكذا الملك من معانيه ، و- يتلو - حينئذ من التلاوة ، والإسناد مجازي ومفعوله للبينة ، وضمير مِنْهُ للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم بناء على أنه المراد

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 229
بالموصول ، ومن تبعيضية ، وقيل : الشاهد صورته عليه الصلاة والسلام ومخائله لأن كل عاقل يراه يعلم أنه عليه الصلاة والسلام رسول اللّه.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن علي كرم اللّه تعالى وجهه قال : «ما من رجل من قريش إلا نزل فيه طائفة من القرآن ، فقال له رجل : ما نزل فيك؟ قال : أما تقرأ سورة هود أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ الآية من كان على بينة من ربه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأنا شاهد منه» ، وأخرج المنهال عن عبادة بن عبد اللّه مثله ،
وأخرج ابن مردويه بوجه آخر عن علي كرم اللّه تعالى وجهه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ أنا وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ علي.
وأخرج الطبرسي نحو ذلك عن بعض أهل البيت رضي اللّه تعالى عنهم وتعلق به بعض الشيعة في أن عليا كرم اللّه تعالى وجهه هو خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لأن اللّه تعالى سماه شاهدا كما سمى نبيه عليه الصلاة والسلام كذلك في قوله سبحانه : إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً [الفتح : 8] والمراد شاهِداً على الأمة كما يشهد له عطف مُبَشِّراً وَنَذِيراً عليه فينبغي أن يكون مقامه كرم اللّه تعالى وجهه بين الأمة كمقامه عليه الصلاة والسلام بينهم.
وحيث أخبر سبحانه أنه يتلوه أي يعقبه ويكون بعده دل على أنه خليفته ، وأنت تعلم أن الخبر مما لا يكاد يصح ، وفيما سيأتي في الآية إن شاء اللّه تعالى إباء عنه ، ويكذبه ما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والطبراني في الأوسط عن محمد بن الحنفية رضي اللّه تعالى عنه قال : قلت لأبي كرم اللّه تعالى وجهه : إن الناس يزعمون في قول اللّه تعالى : وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ أنك أنت التالي؟ قال : وددت أني هو ولكنه لسان محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، على أن في تقرير الاستدلال ضعفا وركاكة بلغت الغاية القصوى كما لا يخفى على من له أدنى فطنة.
ونقل أبو حيان أن هذا الشاهد هو أبو بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه وفيه ما فيه ، وفي عطف - يتلوه - احتمالان : الأول أن يكون على ما وقع صفة لبينة ، والثاني أن يكون على جملة «كان» ومرفوعها ، وقوله سبحانه : وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى عطف على شاهِدٌ والضمير المجرور له ، وقد توسط الجار والمجرور بينهما ، والظاهر أنه متعلق بمحذوف وقع حالا من الكتاب أي وَيَتْلُوهُ في التصديق كِتابُ مُوسى منزلا من قبله ، وحاصله أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ويشهد لصدقه شاهد منه وشاهد آخر من قبله وهو كتاب موسى ، قيل : وإنما قدم في الذكر المؤخر في النزول لكونه وصفا لازما له غير مفارق عنه ولعراقته في وصف التلو ، وهذا على تقدير أن يكون المراد بالشاهد الإعجاز - كما اختاره بعض المحققين - وقد يقال : إن تأخير بيان شهادة هذا الشاهد عن بيان شهادة الشاهد الأول لأنها ليست في الظهور عند الأمة كشهادة الأول وهو جار على غير ذلك التقدير أيضا ، وتخصيص كتاب موسى عليه السلام بالذكر بناء على عدم إرادة الإنجيل فيما تقدم لأن الملتين مجتمعتان على أنه من عند اللّه تعالى بخلاف الإنجيل فإن اليهود مخالفون فيه فكان الاستشهاد بما تقوم به الحجة على الفريقين أولى.
وأوجب بعضهم كون وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى جملة مبتدأة غير داخلة في حيز شيء مما قبلها وهو مبني على كثير من الاحتمالات السابقة في الشاهد ، وقرأ محمد بن السائب الكلبي وغيره كِتابُ بالنصب على أنه معطوف على مفعول - يتلوه - أو منصوب بفعل مقدر أي ويتول كتاب موسى ، والأول أولى لأن الأصل عدم التقدير ، ويتلو في هذه القراءة من التلاوة ، والضمير المنصوب للقرآن والمجرور لمن ، ومِنْ تبعيضية لا تجريدية ، والمعنى على ما يقتضيه كلام الكشاف أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ على أن القرآن حق لا مفترى ، والمراد به أهل الكتاب ممن كان يعلم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على الحق وأن كتابه هو الحق لما كانوا وجدوه في التوراة ، ويقرأ القرآن شاهد من هؤلاء ، ويقرأ من قبل القرآن كتاب موسى ، والمراد بهذا الشاهد ما أريد به في قوله سبحانه : وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 230
إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ [الأحقاف : 10] وهو عبد اللّه بن سلام رضي اللّه تعالى عنه ، ففي الآية مدح أهل الكتاب وخص من بينهم تالي الكتابين وشاهدهم بالذكر دلالة على مزيد فضله وتنبيها على أنهم مشايعوه في اتباع الحق وإن لم يبلغوا رتبة الشاهد ، وفي قوله تعالى : يَتْلُوهُ استحضار للحال ودلالة على استمرار التلاوة ، وهو كما قيل في غاية التطابق للكلام إِماماً ، أي مؤتما به في الدين ومقتدى ، وفي التعرض لهذا الوصف مع بيان تلو الكتاب ما لا يخفى من تفخيم شأن المتلو والتنوين فيه للتعظيم ، وكذا في قوله سبحانه : وَرَحْمَةً أي نعمة عظيمة على من أنزل إليهم ومن بعدهم إلى يوم القيامة باعتبار أحكامه الباقية المؤيدة بالقرآن العظيم وهما حالان من الكتاب أُولئِكَ أي الموصوفون بتلك الصفة الحميدة وهي الكون على بينة يُؤْمِنُونَ بِهِ أي يصدقون بالقرآن حق التصديق حسبما يشهد به تلك الشواهد الحقة المعربة عن حقيته ولا يقلدون أحدا من عظماء الدين فالضمير للقرآن ، وقيل : إنه لكتاب موسى عليه السلام لأنه أقرب ولا يناسب ما بعد ، وإن لم يك خاليا عن الفائدة ، وقيل : إنه للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ أي بالقرآن ولم يعتد بتلك الشواهد الحقة ولم يصدق بها مِنَ الْأَحْزابِ من أهل مكة ومن تحزب معهم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قاله بعضهم ، وأخرج عبد الرزاق عن قتادة أن الأحزاب الكفار مطلقا فإنهم تحزبوا على الكفر ، وروي ذلك عن ابن جبير ، وفي رواية أبي الشيخ عن قتادة أنهم اليهود والنصارى ، وقال السدي : هم قريش ، وقال مقاتل : هم بنو أمية وبنو المغيرة ابن عبد اللّه المخزومي وآل أبي طلحة بن عبيد اللّه فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ أي يردها لا محالة حسبما نطق به قوله سبحانه :
لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وآيات أخر ، والموعد اسم مكان الوعد كما في قول حسان :
أوردتموها حياض الموت ضاحية فالنار موعدها والموت لاقيها
وفي جعل النار موعدا إشعار بأن له فيها ما لا يوصف من أفانين العذاب فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ أي في شك من أمر القرآن وكونه من عند اللّه تعالى غبّ ما شهدت به الشواهد وظهر فضل من تمسك به ، أو لا تك في شك من كون النار موعدهم ، وادعى بعضهم أنه الأظهر وليس كذلك ، وأيا ما كان فالخطاب إن كان عاما لمن يصلح له فالمراد التحريض على النظر الصحيح المزيل للشك ، وإن كان للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم فهو بيان لأنه ليس محلا للشك تعريضا بمن شك فيه ولا يلزم من نهيه عليه الصلاة والسلام عنه وقوعه ولا توقعه منه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وقرأ السلمي وأبو رجاء وأبو الخطاب السدوسي والحسن مِرْيَةٍ بضم الميم وهي لغة أسد وتميم ، والكسر لغة أهل الحجاز إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أي الذي يربيك في دينك ودنياك وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ بذلك إما لقصور أنظارهم واختلال أفكارهم وإما لاستكبارهم وعنادهم والنَّاسِ على ما روي عن ابن عباس أهل مكة ، وقال صاحب الفينان : جميع الكفار ، هذا والهمزة في أَفَمَنْ قيل : للتقرير و- من - مبتدأ والخبر محذوف أي أفمن كان كذا كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها ، وحذف معادل الهمزة ومثله كثير ، واختار هذا أبو حيان ، والذي يقتضيه كلام الزمخشري - ولعله الأولى - خلافه حيث قال : المعنى أمن كان يريد الحياة الدنيا كمن كان على بينة أي لا يعقبونهم ولا يقاربونهم في المنزلة إلى آخر ما قال ، وحاصله على ما في الكشف أن الفاء عاطفة للتعقيب مستدعية ما يعطف عليه وهو الدال عليه قوله سبحانه : مَنْ كانَ الآية ، فالتقدير أمن كان يريد الحياة الدنيا على أنها موصولة فمن كان على بينة من ربه ، والخبر محذوف لدلالة الفاء أي يعقبونهم أو يقربونهم ، والاستفهام للإنكار فيفيد أن لا تقارب بين الفريقين فضلا عن التماثل فلذلك صار
أبلغ من نحو قوله تعالى : أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً [السجدة : 18] وأما إنها عطف على قوله تعالى : مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا فلا وجه له لأنه يصير من عطف الجملة ، ولا يدل على إنكار التماثل ، ولا معنى لتقدير الاستفهام في الأول فإن الشرط والجزاء لا إنكار عليه انتهى ، وهو جار على أحد مذهبين للنحاة في مثله ، ويعلم مما

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 231
تقرر أن الآية مرتبطة بقوله سبحانه : مَنْ كانَ إلخ ، ومساقها عند شيخ الإسلام للترغيب أيضا فيما ذكر من الإيمان بالقرآن والتوحيد والإسلام ، وادعى الطبرسي أنها مرتبطة بقوله تعالى : قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ [هود : 13] وأن المراد أنهم إذا لم يأتوا بذلك فقل لهم : أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ ولا بينة على ذلك.
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن نسب إليه ما لا يليق به كقولهم : الملائكة بنات اللّه تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا. وقولهم لآلهتهم : هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس : 18] والمراد من الآية ذم أولئك الكفرة بأنهم مع كفرهم بآيات اللّه تعالى مفترون عليه سبحانه ، ويجوز أن تكون لنوع آخر من الدلالة على أن القرآن ليس بمفترى ، فإن من يعلم حال من يفتري على اللّه سبحانه كيف يرتكبه ، وأن تكون من الكلام المنصف أي لا أحد أظلم مني أن أقول لما ليس بكلام اللّه تعالى إنه كلامه كما زعمتم ، أو منكم إن كنتم نفيتم أن يكون كلامه سبحانه مع تحقق أنه كلامه جل وعلا ، وفيه من الوعيد والتهويل ما لا يخفى ، ويجوز عندي إذا كان ما قبل في مؤمني أهل الكتاب أن يكون هذا في بيان حال كفرتهم الذين أسندوا إليه سبحانه ما لم ينزله من المحرف الذي صنعوه ونفوا عنه سبحانه ما أنزله من القرآن أو من نعت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، وأيا ما كان فالمراد نفي أن يكون أظلم من ذلك أو مساويا في الظلم على ما تقدم أُولئِكَ أي الموصوفون بالظلم البالغ وهو الافتراء يُعْرَضُونَ من حيث إنهم موصوفون بذلك عَلى رَبِّهِمْ أي مالكهم الحق والمتصرف فيهم حسبما يريد ، وفيه على ما قيل : إيماء إلى بطلان رأيهم في اتخاذهم أربابا من دونه سبحانه وتعالى ، وجعل بعضهم الكلام على تقدير المضاف أي تعرض أعمالهم ، أو على ارتكاب المجاز ولا يحتاج إلى ذلك على ما أشير إليه لأن عرضهم من تلك الحيثية وبذلك العنوان عرض لأعمالهم على وجه أبلغ فإن عرض العامل بعمله أفظع من عرض عمله مع غيبته ، والظاهر أنه لا حذف في قوله سبحانه : عَلى رَبِّهِمْ ويفوض من يقف على اللّه.
وقيل : هناك مضاف محذوف أي على ملائكة ربهم وأنبياء ربهم وهم المراد بالأشهاد في قوله تعالى : وَيَقُولُ الْأَشْهادُ وتفسيرهم بالملائكة مطلقا هو المروي عن مجاهد ، وعن ابن جريج تفسيرهم بالحفظة من الملائكة عليهم السلام ، وقيل : المراد بهم الملائكة ، والأنبياء ، والمؤمنون ، وقيل : جوارحهم ، وعن مقاتل وقتادة هم جميع أهل الموقف ، وهو جمع شاهد بمعنى حاضر - كصاحب وأصحاب - بناء - على جواز جمع فاعل على أفعال ، أو جمع شهيد بمعناه كشريف وأشراف أي ويقول الحاضرون عند العرض أو في موقف القيامة هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ ويحتمل أن يكون شهادة على تعيين من صدر منه الكذب كأن وقوعه أمر واضح غني عن الشهادة ، وإنما المحتاج إليها ذلك ولذا لم يقولوا : هؤلاء كذبوا بدون الموصول ، ويحتمل أن يكون ذما لهم بتلك الفعلة الشنيعة لا شهادة عليهم كما يشعر به قوله تعالى : وَيَقُولُ دون ويشهد ، وتوطئة لما يعقبه من قوله تعالى : أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ أي بالافتراء المذكور ، والظاهر أن هذا من كلام الأشهاد على الاحتمالين ، ويؤيده ما
أخرجه الشيخان وخلق كثير عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : «إن اللّه تعالى يدني المؤمن حتى يضع كنفه عليه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه ويقول له : أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول : رب أعرف حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال : فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ثم يعطي كتاب حسناته ، وأما الكفار والمنافقون فيقول : الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة اللّه على الظالمين».
وجوز على الاحتمال الأول أن يكون من كلام اللّه تعالى ، وحينئذ يجوز أن يراد بالظالمين ما يعم الظالمين بالافتراء والظالمين بغير ذلك ، ويدخل فيه الأولون دخولا أولياء ، ويؤيده ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 232
قال : إن الرجل ليصلي ويلعن نفسه في قراءته فيقول : ألا لعنة اللّه على الظالمين وهو ظالم. وربما يجوز ذلك على الاحتمال الثاني أيضا ، وأيّا ما كان - فهؤلاء الذين - مبتدأ وخبر ، واحتمال أن يكون هؤُلاءِ مبتدأ ، والَّذِينَ تابع له ، وجملة أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ خبره ، وقد أقيم الظاهر مقام المضمر أي عليهم لذمهم بمبدأ الاشتقاق مع الإشارة إلى علة الحكم كما ترى ، وجملة - يقول الأشهاد - قيل : مستأنفة على أنها جواب سؤال مقدر كأن سائلا سأل إذ سمع أنهم يعرضون على ربهم ماذا يكون إذ ذاك؟ فأجيب بما ذكر ، وقيل وهو الظاهر - إنها معطوفة على جملة يُعْرَضُونَ على معنى أولئك يعرضون ويقول الأشهاد في حقهم ، أو ويقول أشهادهم والحاضرون عند عرضهم هؤُلاءِ إلخ ، وكأن هذا لبيان أنها مرتبطة في التقدير بالمبتدأ كارتباط الجملة المعطوفة هي عليها به ، وقيل : كفى اسم الإشارة القائم مقام الضمير للتحقير رابطا فتدبر.
الَّذِينَ يَصُدُّونَ أي كل من يقدرون على صده أو يفعلون الصد عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي دينه القويم وإطلاق ذلك عليه كالصراط المستقيم مجاز وَيَبْغُونَها عِوَجاً أي يطلبون لها انحرافا ، والمراد أنهم يصفونها بذلك وهي أبعد شيء عنه ، وإطلاق الطلب على الوصف مجاز من إطلاق السبب على المسبب ، ويجوز أن يكون الكلام على حذف مضاف أي يبغون أهلها أن ينحرفوا عنها ويرتدوا ، وقيل : المعنى يطلبونها على عوج ونصب عِوَجاً على أنه مفعول به ، وقيل : على أنه حال ويؤول بمعوجين وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ أي والحال أنهم لا يؤمنون بالآخرة ، وتكرير الضمير لتأكيد كفرهم واختصاصهم به لأنه بمنزلة الفصل فيفيد الاختصاص وضربا من التأكيد ، والاختصاص ادعائي مبالغة في كفرهم بالآخرة كأن كفر غيرهم بها ليس بكفر في جنبه ، وقيل : إن التكرير للتأكيد وتقديم بِالْآخِرَةِ للتخصيص ، والأولى كون تقديمه لرؤوس الآي.
أُولئِكَ الموصوفون بما يوجب التدمير لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ للّه تعالى مفلتين أنفسهم من أخذه لو أراد ذلك فِي الْأَرْضِ مع سعتها وإن هربوا منها كل مهرب بعضهم كناية عن الدنيا وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ينصرونهم من بأسه ولكن أخر ذلك لحكمة تقتضيه. ومِنْ زائدة لاستغراق النفي ، وجمع أَوْلِياءَ إما باعتبار أفراد الكفرة كأنه قيل : وما كان لأحد منهم من ولي ، أو باعتبار تعدد ما كانوا يدعون من دون اللّه تعالى فيكون ذلك بيانا لحال آلهتهم من سقوطها عن رتبة الولاية يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ جملة مستأنفة بين فيها ما يكون لهم ويحل بهم ، وادعى أنها تتضمن حكمة تأخير المؤاخذة ، وزعم بعضهم أنها من كلام الأشهاد ، وهي دعائية ليس بشيء.
وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب - «يضعّف» - بالتشديد ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ أي إنهم كانوا يستثقلون سماع الحق الذي جاء به الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ويستكرهونه إلى أقصى الغايات حتى كأنهم لا يستطيعونه ، وهو نظير قول القائل : العاشق لا يستطيع أن يسمع كلام العاذل ، ففي الكلام استعارة تصريحية تبعية ، ولا مانع من اعتبار الاستعارة التمثيلية بدلها وإن قيل به ، وبالجملة لا ترد الآية على المعتزلة وكذا على أهل السنة لأنهم لا ينفون الاستطاعة رأسا وإن منعوا إيجاد العبد لشيء ما ، وكأنه لما كان قبح حالهم في عدم إذعانهم للقرآن الذي طريق تلقيه السمع أشد منه في عدم قبولهم سائر الآيات المنوطة بالإبصار. بالغ سبحانه في نفي الأول عنهم حسبما علمت واكتفى في الثاني بنفي الإبصار فقال عز قائلا : وَما كانُوا يُبْصِرُونَ أي أنهم كانوا يتعامون عن آيات اللّه تعالى المبسوطة في الأنفس والآفاق ، وكأن الجملة جواب سؤال مقدر عن علة مضاعفة العذاب كأنه قيل : ما لهم استوجبوا تلك المضاعفة؟ فقيل :
لأنهم كرهوا الحق أشد الكراهة واستثقلوا سماعه أعظم الاستثقال وتعاموا عن آيات الملك المتعال ، ولا يشكل على

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 233
هذا قوله سبحانه : مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الأنعام : 160] بناء على أن المراد بمثل السيئة ما تقتضيه من العقاب عند اللّه تعالى فلعل ما فعلوه من السيئات يقتضي تلك المضاعفة فتكون هي المثل كما أن مثل سيئة الكفر هو الخلود في النار ، وقيل : إن المضاعفة لافترائهم وكذبهم على ربهم وصدّهم عن سبيل اللّه تعالى وبغيهم إياها العوج وكفرهم بالآخرة - على ما يدل عليه نسبة مضاعفة العذاب إلى هؤلاء الموصوفين بتلك الصفات - وبه جمع بين ما هنا وقوله سبحانه : مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ [الأنعام : 106] الآية ، ولعل التعليل بما تفيده الجملة على هذا لأنه الأصل الأصيل لسائر قبائحهم ومعاصيهم.
وزعم بعضهم أن المضاعفة لحفظ الأصل إذ لولا ذلك لارتفع ولم يبق عذابا للألف بطول الأمد وفيه ما فيه ، وقيل : إن الجملة بيان لما نفي من ولاية الآلهة فإن ما لا يسمع ولا يبصر بمعزل عن الولاية وقوله سبحانه : يُضاعَفُ إلخ اعتراض وسط بينهما نعيا عليهم من أول الأمر بسوء العاقبة ، وفيه أنه مخالف للسياق ومستلزم تفكيك الضمائر ، وجوز أبو البقاء أن تكون ما مصدرية ظرفية أي يضاعف لهم العذاب مدة استطاعتهم السمع وإبصارهم ، والمعنى أن العذاب وتضعيفه دائم لهم متماد ، وأجاز الفراء أن تكون مصدرية وحذف حرف الجر منها كما يحذف من أن وأن ، وفيه بعد لفظا ومعنى أُولئِكَ
الموصوفون بتلك القبائح.
الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
باشتراء عبادة الآلهة بعبادة اللّه تعالى شأنه ، وقيل : خَسِرُوا
بسبب تبديلهم الهداية بالضلالة والآخرة بالدنيا وضاع عنهم ما حصلوه بذلك التبديل من متاع الحياة الدنيا والرياسة.
وفي البحر أنه على حذف مضاف أي خَسِرُوا
سعادة أنفسهم وراحتها فإن أنفسهم باقية معذبة.
وتعقب بأن إبقاءه على ظاهره أولى لأن البقاء في العذاب كلا بقاء وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ
من الآلهة وشفاعتها لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ أي لا أحد أبين أو أكثر خسرانا منهم ، فأفعل للزيادة إما في الكم أو الكيف ، وتعريف المسند بلام الجنس لإفادة الحصر ، وإن جعل هُمُ ضمير فصل أفاد تأكيد الاختصاص ، وإن جعل مبتدأ وما بعده خبره والجملة خبر أن أفاد تأكيد الحكم ، وفي لا جَرَمَ أقوال : ففي البحر عن الزجاج أن - لا - نافية ومنفيها محذوف أي لا ينفعهم فعلهم مثلا ، و- جرم - فعل ماض بمعنى كسب يقال : جرمت الذنب إذا كسبته وقال الشاعر :
نصبنا رأسه في جذع نخل بما «جرمت» يداه وما اعتدينا
وما بعده مفعوله ، وفاعله ما دل عليه الكلام أي كسب ذلك أظهرية أو أكثرية خسرانهم ، وحكي هذا عن الأزهري ، ونقل عن سيبويه أن - لا - نافية حسبما نقل عن الزجاج ، و- جرم - فعل ماض بمعنى حق ، وما بعد فاعله كأنه قيل : لا ينفعهم ذلك الفعل حق أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ إلخ.
وذكر أبو حيان أن مذهب سيبويه وكذا الخليل أيضا كون مجموع لا جَرَمَ بمعنى حق وأن ما بعده رفع به على الفاعلية ، وقيل : لا صلة وجَرَمَ فعل بمعنى كسب أو حق ، وعن الكسائي أن لا نافية وجَرَمَ اسمها مبني معها على الفتح نحو لا رجل ، والمعنى لا ضد ولا منع ، والظاهر أن الخبر على هذا محذوف وحذف حرف الجر من أن ويقدر حسبما يقتضيه المعنى ، وقيل : إن جَرَمَ اسم لا ومعناه القطع من جرمت الشيء أي قطعته ، والمعنى لا قطع لثبوت أكثرية خسرانهم أي إن ذلك لا ينقطع في وقت فيكون خلافه.
ونقل السيرافي عن الزجاج أن لا جَرَمَ في الأصل بمعنى لا يدخلنكم في الجرم أي الإثم كإثمه أي أدخله في الإثم ، ثم كثر استعماله حتى صار بمعنى لا بد ، ونقل هذا المعنى عن الفراء ، وفي البحر أن جَرَمَ عليه اسم

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 234
لا ، وقيل : إن جَرَمَ بمعنى باطل إما على أنه موضوع له ، وإما أنه بمعنى كسب والباطل محتاج له ، ومن هنا يفسر لا جَرَمَ بمعنى حقا لأن الحق نقيض الباطل ، وصار لا باطل يمينا كلا كذب في
قول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : «أنا النبي لا كذب»
وفي القاموس أنه يقال : لا جَرَمَ ولاذا جرم ولا أن ذا جرم ولا عن ذا جرم ولا جرم ككرم ، ولا جَرَمَ بالضم أي لا بد أو حقا أو لا محالة وهذا أصله ثم كثر حتى تحول إلى معنى القسم فلذلك يجاب عنه باللام ، فيقال :
لا جَرَمَ لآتينك انتهى ، وفيه مخالفة لما نقله السيرافي عن الزجاج ، وما ذكره من لا جَرَمَ ككرم رواه بعضهم عن أبي عمرو في الآية ، ومن لا ذا جرم حكاه الفراء عن بني عامر ، وحكي أيضا لا جَرَمَ بالضم عن أناس من العرب ، ولكن قال الشهاب : إن في ثبوت هذه اللغة في فصيح كلامهم ترددا ، وجرم فيها يحتمل أن يكون اسما وأن يكون فعلا مجهولا سكن للتخفيف ، وحكى بعضهم لا ذو جرم ولا عن جرم ولا جر بحذف الميم لكثرة الاستعمال كما حذفت الفاء من سوف لذلك في قولهم : سو ترى.
والظاهر أن المقحمات بين لا وجَرَمَ زائدة ، وإليه يشير كلام بعضهم ، وحكي بغير لا جرم أنك أنت فعلت ذاك ، ولعل المراد أن كونك الفاعل لا يحتاج إلى أن يقال فيه لا جرم فليراجع ذاك واللّه تعالى يتولى هداك.
ثم إنه تعالى لما ذكر طريق الكفار وأعمالهم وبين مصيرهم وما لهم شرع في شرح حال أضدادهم وهم المؤمنون وبيان ما لهم من العواقب الحميدة تكملة لما سلف من محاسن المؤمنين المذكورة عند جمع في قوله سبحانه : أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ الآية ليتبين ما بينهما من التباين البين حالا ومآلا فقال عز من قائل :
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أي صدقوا بكل ما يجب التصديق به من القرآن وغيره ولا يكون ذلك إلا باستماع الحق ومشاهدة الآيات الآفاقية والأنفسية والتدبر فيها ، أو المعنى فعلوا الإيمان واتصفوا به كما في فلان يعطي ويمنع وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الأعمال الصالحات ولعل المراد بها ما يشمل الترغيب في سلوك سبيل اللّه عز وجل ونحوه مما على ضده فريق الكفار وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أي اطمأنوا إليه سبحانه وخشعوا له ، وأصل الإخبات نزول الخبت وهو المنخفض من الأرض ، ثم أطلق على اطمئنان النفس والخشوع تشبيها للمعقول بالمحسوس ثم صار حقيقة فيه ، ومنه الخبيت بالتاء المثناة للدنيء ، وقيل : إن التاء بدل من الثاء المثلثة أُولئِكَ المنعوتون بتلك النعوت الجليلة الشأن أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون أبدا وليس المراد حصر الخلود فيها لأن العصاة من المؤمنين يدخلون الجنة عند أهل الحق ويخلدون فيها ، ولعل من يدعي ذلك يريد بنفي الخلود عن العصاة نقصه من أوله كما قيل به فيما ستسمعه إن شاء اللّه تعالى مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ المذكورين من المؤمنين والكفار أي حالهما العجيب ، وأصل المثل كالمثل النظير ثم استعير لقول شبه مضربه بمورده ولا يكون إلا لما فيه غرابة وصار في ذلك حقيقة عرفية ، ومن هنا يستعار للقصة والحال والصفة العجيبة.
كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ أي كحال من جمع بين العمى والصمم ، ومن جمع بين البصر والسمع فهناك تشبيهان : الأول تشبيه حال الكفرة الموصوفين بالتعامي والتصام عن آيات اللّه تعالى بحال من خلق أعمى أصم لا تنفعه عبارة ولا إشارة ، والثاني تشبيه حال الذين آمنوا وعملوا الصالحات فانتفعوا بأسماعهم وأبصارهم اهتداء إلى الجنة وانكفاء عما كانوا خابطين فيه من ضلال الكفر والدجنة بحال من هو بصير سميع يستضيء بالأنوار في الظلام ويستفيء بمغانم الإنذار والإبشار فوزا بالمرام ، والعطف لتنزيل تغاير الصفات منزلة تغاير الذوات كما في قوله :
يا لهف زيابة للحرث الص ابح فالغانم فالآيب
ويحتمل أن يكون هناك أربع تشبيهات بأن يعتبر تشبيه حال كل من الفريقين الفريق الكافر والفريق المؤمن بحال

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 235
اثنين أي مثل الفريق الكافر كالأعمى ومثله أيضا كالأصم ، ومثل الفريق المؤمن كالبصير ومثله أيضا كالسميع ، وقد يعتبر تنويع كل من الفريقين إلى نوعين فيشبه نوع من الكفار بالأعمى ونوع منهم بالأصم ويشبه نوع من المؤمنين بالبصير ونوع منهم بالسميع ، واستبعد ذلك إذ تقسيم الكفار إلى مشبه بالأول ومشبه بالثاني وكذلك المؤمنون غير مقصود البتة بدليل نظائره في الآيات الأخر كقوله سبحانه : وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ [فاطر : 19 ، غافر : 58] وكقوله تعالى : خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [البقرة : 7] في الكفار الخلص ، وقوله تبارك وتعالى : صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [البقرة :
18 ، 171] في المنافقين ، وللآية على احتمالاتها شبه في الجملة بقول امرئ القيس :
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا لدى وكرها العناب والحشف البالي
فتدبره ، وقد يعتبر التشبيه تمثيليا بأن ينتزع من حال الفريق الأول في تصامهم وتعاميهم المذكورين ووقوعهم بسبب ذلك في العذاب المضاعف والخسران الذي لا خسران فوقه هيئة منتزعة ممن فقد مشعري البصر والسمع فتخبط في مسلكه فوقع في مهاوي الردى ولم يجد إلى مقصده سبيلا ، وينتزع من حال الفريق الثاني في استعمال مشاعرهم في آيات اللّه تعالى حسبما ينبغي وفوزهم بدار الخلود هيئة تشبه بهيئة منتزعة ممن له بصر وسمع يستعملهما في مهماته فيهتدي إلى سبيله وينال مرامه ، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر. ولعل أظهر الاحتمالات ما أشير إليه أولا ، والكلام من باب اللف والنشر ، واللف إما تقديري إن اعتبر في الفريقين لأنه في قوة الكافرين والمؤمنين ، أو تحقيقي إن اعتبر فيما دل عليه قوله تعالى : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى إلخ ، وقوله سبحانه : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا الآية ، وأمر النشر ظاهر ، ولا يخفى ما فيه من الطباق بين الأعمى والبصير وبين الأصم والسميع ، وقدم ما للكافرين قيل : مراعاة لما تقدم ولأن السياق لبيان حالهم ، وقدم الأعمى على الأصم لكونه أظهر وأشهر في سوء الحال منه.
وفي البحر إنما لم يجىء التركيب كالأعمى والبصير ، والأصم والسميع ليكون كل من المتقابلين على إثر مقابلة لأنه تعالى لما ذكر انسداد العين أتبعه بانسداد السمع ، ولما ذكر انفتاح البصر أتبعه بانفتاح السمع وذلك هو الأسلوب في المقابلة والأتم في الإعجاز ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى نظير ذلك في قوله سبحانه : إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى [طه : 118 ، 119] ثم الظاهر مما تقدم أن الكلام على حذف مضاف وهو مجرور بالكاف ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبرا عن مثل.
وجوز أن تكون الكاف نفسها خبر المبتدأ ويكون معناها معنى المثل ، ولا حاجة إلى تقدير مضاف أي مثل الفريقين مثل الأعمى والأصم والبصير والسميع هَلْ يَسْتَوِيانِ يعني الفريقين المذكورين ، والاستفهام إنكاري مذكر على ما قيل : لما سبق من إنكار المماثلة في قوله سبحانه : أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ إلخ مَثَلًا أي حالا وصفة ونصبه على التمييز المحول عن الفاعل ، والأصل هل يستوي مثلهما.
وجوز ابن عطية أن يكون حالا ، وفيه بعد أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي أتشكون في عدم الاستواء وما بينهما من التباين أو تغفلون عنه فلا تتذكرونه بالتأمل فيما ذكر لكم من المثل ، فالهمزة للاستفهام الإنكاري وهو وارد على المعطوفين معا أو أتسمعون هذا فلا تتذكرون فيكون الإنكار واردا على عدم التذكر بعد تحقق ما يوجب وجوده وهو المثل المضروب أي أفلا تفعلون التذكر ، أو أفلا تعقلون ، ومعنى إنكار عدم التذكر استبعاده من المخاطبين وأنه مما لا يصح أن يقع ، وليس من قبيل الإنكار في أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وهَلْ يَسْتَوِيانِ فإن ذلك لنفي المماثلة ونفي الاستواء ، ثم إنه تعالى شرع في ذكر قصص الأنبياء الداعين إلى اللّه تعالى وبيان حالهم مع أممهم ليزداد صلّى اللّه عليه وسلّم تشميرا في الدعوة وتحملا لما يقاسيه من المعاندين ، فقال عز من قائل : وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ الواو ابتدائية

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 236
واللام واقعة في جواب قسم محذوف ويقدر حرفه ياء لا واو وإن كان هو الشائع لئلا يجتمع واوان. وبعضهم يقدرها - ولا يبالي بذلك ..
ونوح في المشهور ابن لمك بن متوشلخ بن إدريس عليه السلام وأنه أول نبي بعث بعده قال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما : بعث عليه السلام على رأس أربعين من عمره ولبث يدعو قومه ما قص اللّه تعالى ألف سنة إلا خمسين عاما وعاش بعد الطوفان ستين سنة وكان عمره ألفا وخمسين سنة. وقال مقاتل : بعث وهو ابن مائة سنة ، وقيل : ابن خمسين ، وقيل : ابن مائتين وخمسين ومكث يدعو قومه ما قص سبحانه وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة فكان عمره ألفا وأربعمائة وخمسين سنة إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ بالكسر على إرادة القول أي فقال أو قائلا.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالفتح على إضمار حرف الجر أي ملتبسا بذلك الكلام وهوإِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ
فلما اتصل الجار فتح كما فتح في كان ، والمعنى على الكسر وهو قولك : إن زيدا كالأسد بناء على أن كان مركبة وليست حرفا برأسه ، وليس في ذلك خروج من الغيبة إلى الخطاب خلافا لأبي علي ، ولعل الاقتصار على ذكر كونه عليه السلام نذيرا لأنهم لم يغتنموا مغانم إبشاره عليه السلام مُبِينٌ أي موضح لكم موجبات العذاب ووجه الخلاص منه أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ أي بأن لا تعبدوا إلا اللّه على أن أَنْ مصدرية والباء متعلقة - بأرسلنا - ولا ناهية أي أرسلناه ملتبسا بنهيهم عن الإشراك إلا أنه وسط بينهما بيان بعض أوصافه ليكون أدخل في القبول ولم يفعل ذلك في صدر السورة لئلا يكون من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه ، وجوز كون أَنْ وما بعدها في تأويل مصدر مفعولا - لمبين - أي مبينا النهي عن الإشراك ، ويجوز أن تكون أَنْ مفسرة متعلقة - بأرسلنا - أو - بنذير - أو - بمبين - أي أرسلناه بشيء أو نذير بشيء أو مبين شيئا هو أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ لكن قيل : الإنذار في هذا غير ظاهر وهذا على قراءة الكسر فيما مر ، وأما على قراءة الفتح فإن لا إلخ بدل من إِنِّي لَكُمْ إلخ ويقدر القول بعد أَنْ فيكون التقدير أرسلناه بقوله : إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ ، وبقوله لا تَعْبُدُوا فهو بدل البعض أو الكل على المبالغة ، وادعاء أَنْ الإنذار كله هو ، وجاز أن لا يقدر القول ، فالأظهر حينئذ بدل الاشتمال ، ومن زعم أنه كذلك مطلقا إذ لا علاقة بينهما بجزئية أو كلية فقد غفل عن أنه على تقدير القول يكون قوله تعالى : إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ المعلل به النهي من جملة المقول ، وهو إنذار خاص فيكون ذلك بعضا له أو كلّا على الادعاء ، والظاهر أن المراد - باليوم - يوم القيامة ، وجوز أن يكون يوم الطوفان ، ووصفه - بالأليم - أي المؤلم على الإسناد المجازي لأن المؤلم هو اللّه سبحانه نزل الظرف منزلة الفاعل نفسه لكثرة وقوع الفعل فيه ، فجعل كأنه
وقع الفعل منه ، وكذا وصف العذاب بذلك في غير موضع من القرآن العظيم ويمكن اعتباره هنا أيضا ، وجعل الجر للجوار ، ووجه التجوز حينئذ أنه جعل وصف الشيء لقوة تلبسه به كأنه عينه فأسند إليه ما يسند إلى الفاعل ، ونظير ذلك على الوجهين نهاره صائم ، وجد جده ، وقد يقال : إن وصف العذاب بالإيلام حقيقة عرفية ومثله يعدّ فاعلا في اللغة ، فيقال :
آلمه العذاب من غير تجوز ، قيل : وهذه المقالة - وكذا ما في معناها - مما قص في غير آية لما لم تصدر عنه عليه السلام مرة واحدة بل كان يكررها في مدته المتطاولة حسبما نطق به قوله تعالى حكاية عنه : رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً [نوح : 5] الآيات عطف على فعل الإرسال المقارن لها أو القول المقدر بعده جوابهم المتعرض لأحوال المؤمنين الذين اتبعوه بعد اللتيا والتي بالفاء التعقيبية فقال سبحانه : فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ أي الأشراف منهم - وهو كما قال غير واحد - من قولهم : فلان مليء بكذا إذا كان قادرا عليه لأنهم ملئوا بكفاية الأمور وتدبيرها ، أو لأنهم متمالئون أي متظاهرون متعاونون ، أو لأنهم يملؤون القلوب جلالا والعيون جمالا والأكف نوالا ، أو

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 237
لأنهم مملؤون بالآراء الصائبة والأحلام الراجحة على أنه من الملأ لازما ، ومتعديا ووصفهم بالكفر لذمهم والتسجيل عليهم بذلك من أول الأمر لا لأن بعض أشرافهم ليسوا بكفرة.
ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا أرادوا ما أنت إلا بشر مثلنا ليس فيك مزية تخصك من بيننا بالنبوة ولو كان ذلك لرأيناه لا أن ذلك محتمل لكن لا نراه ، وكذا الحال في وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ فالفعلان من رؤية العين - وبشرا واتبعك - حالان من المفعول بتقدير قد في الثاني أو بدونه على الخلاف ويجوز أن يكونا من رؤية القلب وهو الظاهر فهما حينئذ المفعول الثاني ، وتعلق الرأي في الأول بالمثلية لا البشرية فقط ، ويفهم من الكشاف أن في الآية وجهين : الأول أنهم أرادوا التعريض بأنهم أحق بالنبوة كأنهم قالوا : هب أنك مثلنا في الفضيلة والمزية من كثرة المال والجاه فلم اختصصت بالنبوة من دوننا ، والثاني أنهم أرادوا أنه ينبغي أن يكون ملكا لا بشرا ، وتعقب هذا بأن فيه اعتزالا خفيا ، وقد بينه العلامة الطيبي ، ونوزع في ذلك ففي الكشف أن قولهم مِثْلَنا علية لتحقيق البشرية ، وقولهم وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إلخ استدلال بأنهم ضعفاء العقول لا تمييز لهم ، فجوّزوا أن يكون الرسول بشرا وقولهم الآتي وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ تسجيل بأن دعوى النبوة باطلة - لإدخاله عليه السلام والأراذل - في سلك على أسلوب يدل على أنهم أنقص البشر فضلا عن الارتقاء ، وليس في هذا الكلام اعتزال خفي ولا المقام عنه أبي انتهى.
وفي الانتصاف يجوز أن يكونوا قد أرادوا الوجهين جميعا كأنهم قالوا : من حق الرسول أن يكون ملكا لا بشرا وأنت بشر ، وإن جاز أن يكون الرسول بشرا فنحن أحق منك بالرسالة ، ويشهد لإرادتهم الأولى قوله في الجواب وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ ويشهد لإرادتهم الثانية وَما نَرى لَكُمْ إلخ ، والظاهر أن مقصودهم ليس إلا إثبات أنه عليه السلام مثلهم وليس فيه مزية يترتب عليها النبوة ووجوب الإطاعة والاتباع ، ولعل قولهم وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إلخ جواب عما يرد عليهم من أنه عليه السلام ليس مثلهم حيث اتبعه من وفق لاتباعه ، فكأنهم قالوا : إنه لم يميزك اتباع من اتبعك فيوجب علينا اتباعك لأنه لم يتبعك إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا أي أخساؤنا وأدانينا ، وهو جمع أرذل والأغلب الأقيس في مثله إذا أريد جمعه أن يجمع جمع سلامة كالأخسرون جمع أخسر لكنه كسر هنا لأنه صار بالغلبة جاريا مجرى الاسم ، ولذا جعل في القاموس الرذل والأرذل بمعنى وهو الخسيس الدنيء ، ومعنى جريانه مجرى الاسم أنه لا يكاد يذكر الموصوف معه كالأبطح والأبرق.
وجوز أن يكون جمع أرذل جمع رذل فهو جمع الجمع ونظير ذلك أكالب وأكلب وكلب وكونه جمع رذل مخالف للقياس وإنما لم يقولوا : إلا أراذلنا مبالغة في استرذالهم وكأنهم إنما استرذلوهم لفقرهم لأنهم لما لم يعلموا إلا ظاهرا من الحياة الدنيا كان الأشرف عندهم الأكثر منها حظا والأرذل من حرمها ولم يفقهوا أن الدنيا بحذافيرها لا تعدل عند اللّه تعالى جناح بعوضة وأن النعيم إنما هو نعيم الآخرة. والأشرف من فاز به والأرذل من حرمه ، ومثل هؤلاء في الجهل كثير من أهل هذا الزمان عافانا اللّه سبحانه مما هم فيه من الخذلان والحرمان وكان القوم على ما في بعض الأخبار حاكة وأساكفة وحجامين وأرادوا بقولهم بادِيَ الرَّأْيِ ظاهره وهو ما يكون من غير تعمق ، والرأي من رؤية الفكر والتأمل ، وقيل : من رؤية العين وليس بذاك.
وجوز أن يكون البادي بمعنى الأول ، وهو على الأول من البدو ، وعلى الثاني من البدء ، والباء مبدلة من الهمزة لانكسار ما قبلها وقد قرأ أبو عمرو وعيسى الثقفي بها ، وانتصابه على القراءتين على الظرفية - لاتبعك - على معنى اتبعوك في ظاهر رأيهم أو أوله ولم يتأملوا ولم يتثبتوا ولو فعلوا ذلك لم يتبعوك وغرضهم من هذا المبالغة في عدم اعتبار

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 238
ذلك الاتباع وجعل ذلك بعضهم علة الاسترذال وليس بشيء ، وقيل : المعنى أنهم اتبعوك في أول رأيهم أو ظاهره وليسوا معك في الباطن.
واستشكل هذا التعليق بأن ما قبل إِلَّا لا يعمل فيما بعدها إلا إذا كان مستثنى منه نحو ما قام إلا زيدا القوم أو مستثنى نحو جاء القوم إلا زيدا أو تابعا للمستثنى منه نحو ما جاءني أحد إلا زيدا خير من عمرو ، وبادِيَ الرَّأْيِ ليس واحدا من هذه الثلاثة في بادي الرأي وأجيب بأنه يغتفر ذلك في الظرف لأنه يتسع فيه ما لا يتسع في غيره ، واستشكل أمر الظرفية بأن فاعلا ليس بظرف في الأصل ، وقال مكي : إنما جاز في فاعل أن يكون ظرفا كما جاز في فعيل كقريب ، ومليء لإضافته إلى الرأي وهو كثيرا ما يضاف إلى المصدر الذي يجوز نصبه على الظرفية نحو جهد رأيي أنك منطلق.
وقال الزمخشري : - وتابعه غيره - أن الأصل وقت حدوث أول أمرهم أو وقت حدوث ظاهر رأيهم فحذف ذلك وأقيم المضاف إليه مقامه ، ولعل تقدير الوقت ليكون نائبا عن الظرف فينتصب على الظرفية ، واعتبار الحدوث بناء على أن اسم الفاعل لا ينوب عن الظرف وينتصب والمصدر ينوب عنه كثيرا فأشاروا بذكره إلى أنه متضمن معنى الحدوث بمعنييه فلذا جاز فيه ذلك ، وليس مرادهم أنه محذوف إذ لا داعي لذلك في المعنى على التفسيرين ، وما ذكروه هنا من أن الصفات لا ينوب منها عن الظرف إلا فعيل من الفوائد الغريبة - كما قال الشهاب - لكن استدركه بالمنع لأن فاعلا وقع ظرفا كثيرا كفعيل ، وذلك مثل خارج الدار وباطن الأمر وظاهره وغير ذلك مما هو كثير في كلامهم ، وقيل : هو ظرف - لنراك - أي ما نراك في أول رأينا أو فيما يظهر منه ، وقيل : لأراذلنا أي أنهم أراذل في أول النظر أو ظاهره لأن رذالتهم مكشوفة لا تحتاج إلى تأمل.
وقيل : هو نعت - لبشرا - وقيل : منصوب على أنه حال من ضمير نوح في اتَّبَعَكَ أي وأنت مكشوف الرأي لا حصافة فيك ، وقيل : انتصب على النداء لنوح عليه السلام أي - يا بادي الرأي - أي ما في نفسك من الرأي ظاهر لكل أحد ، وقيل : هو مصدر على فاعل منصوب على المفعولية المطلقة والعامل فيه ما تقدم على تقدير الظرفية.
وَما نَرى لَكُمْ خطاب له عليه السلام ولمتبعيه جميعا على سبيل التغليب أي وما نرى لك ولمتبعيك.
عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ أي زيادة تؤهلكم لاتباعنا لكم ، وعن ابن عباس تفسير ذلك بالزيادة في الخلق والخلق ، وعن بعضهم تفسيره بكثرة الملك والملك ، ولعل ما ذكرناه أولى ، وكأنّ مرادهم نفي رؤية فَضْلٍ بعد الاتباع أي ما نرى فيك وفيهم بعد الاتباع فضيلة علينا لنتبع وإلا فهم قد نفوا أولا أفضليته عليه السلام في قولهم ما نَراكَ إلخ وصرحوا بأن متبعيه - وحاشاهم - أراذل ، وهو مستلزم لنفي رؤية فَضْلٍ لهم عليهم ، وقيل : إن هذا تأكيد لما فهم أولا ، وقيل : الخطاب لأتباعه عليه السلام فقط فيكون التفاتا أي ما نرى لكم علينا شرف في تلك التبعية لنوافقكم فيها ، وحمل الفضل على التفضل والإحسان في احتمالي الخطاب على أن يكون مراد الملأ من جوابهم له عليه السلام حين دعاهم إلى ما دعاهم إليه أنا لا نتبعك ولا نترك ما نحن عليه لقولك لأنك بشر مثلنا ليس فيك ما يستدعي نبوتك وكونك رسول اللّه تعالى إلينا بذلك وأتباعك أراذل اتبعوك من غير تأمل وتثبت فلا يدل اتباعهم على أن فيك ما يستدعي ذلك وخفي عنا ، وأيضا لست ذا تفضل علينا ليكون تفضلك داعيا لنا لموافقتك كيفما كنت ولا أتباعك ذوو تفضل علينا لتوافقهم وإن كانوا أراذل مراعاة لحق التفضل ، فإن الإنسان قد يوافق الرذيل لتفضله ولا يبالي بكونه رذيلا لذلك مما يدور في الخلد إلا أن في القلب منه شيئا بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ جميعا لكون كلامكم واحدا ودعوتكم واحدة أو إياك في دعوى النبوة وإياهم في تصديقك ، قيل : واقتصروا على الظن احترازا منهم عن نسبتهم إلى المجازفة كما

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 239
أنهم عبروا بما عبروا أولا لذلك مع التعريض من أول الأمر برأي المتبعين ومجاراة معه عليه السلام بطريق الآراء على نهج الإنصاف قالَ استئناف بياني يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني ، وفيه إيماء إلى ركاكة رأيهم المذكور إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ حجة ظاهرة مِنْ رَبِّي وشاهد يشهد لي بصحة دعواي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ هي النبوة على ما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وجوز أن تكون هي البينة نفسها جيء بها إيذانا بأنها مع كونها بينة من اللّه تعالى رحمة ونعمة عظيمة منه سبحانه ، ووجه إفراد الضمير في قوله تعالى : فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أي أخفيت على هذا ظاهر ، وإن أريد بها النبوة وبالبينة البرهان الدال على صحتها فالافراد لإرادة كل واحدة منهما ، أو لكون الضمير للبينة والاكتفاء بذلك لاستلزام خفاء البينة خفاء المدعى ، وجملة وَآتانِي رَحْمَةً على هذا معترضة أو لكونه للرحمة ، وفي الكلام مقدر أي أخفيت الرحمة بعد إخفاء البينة وما يدل عليها وحذف للاختصار ، وقيل : إنه معتبر في المعنى دون تقدير ، أو لتقدير - عميت - غير المذكور بعد لفظ البينة وحذف اختصارا ، وفيه تقدير جملة قبل الدليل.
وقرأ أكثر السبعة «فعميت» بفتح العين وتخفيف الميم مبنيا للفاعل ، وهو من العمى ضد البصر ، والمراد به هذا الخفاء مجازا يقال : حجة عمياء كما يقال : مبصرة للواضحة ، وفي الكلام استعارة تبعية من حيث إنه شبه خفاء الدليل بالعمى في أن كلّا منهما يمنع الوصول إلى المقاصد ، ثم فعل ما لا يخفى عليك ، وجوز أن يكون هناك استعارة تمثيلية بأن شبه الذي لا يهتدي بالحجة لخفائها عليه بمن سلك مفازة لا يعرف طرقها واتبع دليلا أعمى فيها ، وقيل : الكلام على القلب ، والأصل فعميتم عنها كما تقول العرب : أدخلت القلنسوة في رأسي ، ومنه قول الشاعر :
ترى الثور فيها يدخل الظل رأسه
وقوله سبحانه : فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ [إبراهيم : 47] وتعقبه أبو حيان بأن القلب عند أصحابنا مطلقا لا يجوز إلا في الضرورة ، وقول الشاعر ليس منه بل من باب الاتساع في الظرف ، وكذا الآية ليست منه أيضا لأن أخلف يتعدى إلى المفعولين ، والوصف منه كذلك ولك أن تضيفه إلى أيهما شئت على أنه لو كان ما ذكر من القلب لكان التعدي بعن دون على ، ألا ترى أنك تقول : عميت عن كذا ولا تقول : عميت على كذا.
وروى الأعمش عن وثاب - وعميت - بالواو الخفيفة ، وقرأ أبيّ والسلمي والحسن وغيرهم فعماها عليكم على أن الفعل للّه تعالى ، وقرىء بالتصريح به وظاهر ذلك مع أهل السنة القائلين بأن الحسن والقبيح منه تعالى ، ولذا أوله الزمخشري حفظا لعقيدته أَنُلْزِمُكُمُوها أي أنكرهكم على الاهتداء بها وهو جواب أرأيتم وساد مسد جواب الشرط.
وفي البحر أنه في موضع المفعول الثاني له ومفعول الأول البينة مقدرا وجواب الشرط محذوف دل عليه أَرَأَيْتُمْ أي إِنْ كُنْتُ إلخ فأخبروني وحيث اجتمع ضميران منصوبان وقد قدم أعرفهما - وهو ضمير المخاطب الأعرف من ضمير الغائب - جاز في الثاني الوصل والفصل فيجوز في غير القرآن أنلزمكم إياها وهو الذي ذهب إليه ابن مالك في التسهيل ووافقه عليه بعضهم ، وقال ابن أبي الربيع : يجب الوصل في مثل ذلك ويشهد له قول سيبويه في الكتاب : فإذا كان المفعولان اللذان تعدى إليهما فعل الفاعل مخاطبا وغائبا فبدأت بالمخاطب قبل الغائب فإن علامة الغائب العلامة التي لا يقع موقعها إياه وذلك نحو أعطيتكه وقد أعطاكه ، قال اللّه تعالى : أَنُلْزِمُكُمُوها فهذا كهذا إذ بدأت بالمخاطب قبل الغائب انتهى ، ولو قدم الغائب وجب الانفصال على الصحيح فيقال : أنلزمها إياكم.
وأجاز بعضهم الاتصال ، واستشهد بقول عثمان رضي اللّه تعالى عنه : أراهمني ، ولم يقل : أراهم إياي ، وتمام الكلام على ذلك في محله ، وجيء بالواو تتمة لميم الجمع ، وحكي عن أبي عمرو إسكان الميم الأولى تخفيفا ،

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 240
ويجوز مثل ذلك عند الفراء ، وقال الزجاج : أجمع النحويون البصريون على أنه لا يجوز إسكان حركة الإعراب إلا في ضرورة الشعر كقوله :
فاليوم أشرب غير مستحقب إثما من اللّه ولا واغل
وقوله :
وناع يخبرنا بمهلك سيد تقطع من وجد عليه الأنامل
وأما ما روي عن أبي عمرو من الإسكان فلم يضبطه عنه الراوي ، وقد روى عنه سيبويه أنه كان يخفف الحركة ويختلسها وهذا هو الحق ، وذكر نحو ذلك الزمخشري ، وقال : إن الإسكان الصريح لحن عند الخليل ، وسيبويه ، وحذاق البصريين ، وفي قراءة أبيّ «أنلزمكموها» من شطر أنفسنا ، وروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قرأ من شطر قلوبنا أي من تلقائها وجهتها ، وفي البحر أن ذلك على جهة التفسير لا على أنه قرآن لمخالفته سواد المصحف وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ أي لا تختارونها ولا تتأملون فيها ، والجملة في موضع الحال قال السمين : إما من الفاعل ، أو من أحد المفعولين ، واختير أنها في موضع الحال من ضمير المخاطبين ، وقدم الجار رعاية للفواصل ، ومحصول الجواب أخبروني إن كنت على حجة ظاهرة الدلالة على صحة دعواي إلا أنها خافية عليكم غير مسلمة لديكم أيمكننا أن نكرهكم على قبولها وأنتم معرضون عنها غير متدبرين فيها أي لا يكون ذلك - كذا قرره شيخ الإسلام - ثم قال :
وظاهره مشعر بصدوره عنه عليه السلام بطريق إظهار اليأس عن إلزامهم والقعود عن محاجتهم كقوله : وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي [هود : 34] إلخ لكنه محمول على أن مراده عليه السلام ردهم عن الإعراض عنها وحثهم على التدبر فيها بصرف الإنكار المستفاد من الهمزة إلى الإلزام حال كراهتهم لا إلى الإلزام مطلقا ، وقال مولانا سعدي جلبي : إن المراد من الإلزام هنا الجبر بالقتل ونحوه لا الإيجاب لأنه واقع فليفهم.
وجوز أن يراد بالبينة دليل العقل الذي هو ملاك الفضل وبحسبه يمتاز أفراد البشر بعضها عن بعض وبه تناط الكرامة عند اللّه عز وجل والاجتباء للرسالة وبالكون عليها التمسك به والثبات عليه وبخفائها على الكفرة على أن يكون الضمير للبينة عدم إدراكهم لكونها رحمة عليهم وبالرحمة النبوة التي أنكروا اختصاصه عليه السلام بها بين ظهرانيهم ويكون المعنى أنكم زعمتم أن عهد النبوة لا يناله إلا من له فضيلة على سائر الناس مستتبعة لاختصاصه به دونهم أخبروني إن امتزت عليكم بزيادة مزية وحيازة فصيلة من ربي وآتاني بحسبها نبوة من عنده فخفيت عليكم تلك البينة ولم تصيبوها ولم تنالوها ولم تعلموا حيازتي لها وكوني عليها إلى الآن حتى زعمتم أني مثلكم وهي متحققة في نفسها أنلزمكم قبول نبوتي التابعة لها والحال أنكم كارهون لذلك ، ثم قيل : فيكون الاستفهام للحمل على الإقرار وهو الأنسب بمقام المحاجة ، وحينئذ يكون كلامه عليه السلام جوابا عن شبهتهم التي أدرجوها في خلال مقالهم من كونه عليه السلام بشرا قصارى أمره أن يكون مثلهم من غير فضل له عليهم وقطعا لشأفة آرائهم الركيكة انتهى ، وفيه أن كون معنى - أنلزمكموها - أنلزمكم قبول نبوتي التابعة لها غير ظاهر على أن في أمر التبعية نظرا كما لا يخفى ، ولعل الإتيان بما أتي به من الشرط من باب المجاراة وإسناد الإلزام لضمير الجماعة إما للتعظيم أو لاعتبار متبعيه عليه السلام معه في ذلك وَيا قَوْمِ ناداهم بذلك تلطفا بهم واستدراجا لهم لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي التبليغ المفهوم مما تقدم ، وقيل :
الضمير للإنذار ، وإفراد اللّه سبحانه بالعبادة ، وقيل : للدعاء إلى التوحيد ، وقيل : غير ذلك ، وكلها أقوال متقاربة أي لا أطلب منكم على ذلك مالًا تؤدونه إلي بعد إيمانكم ، وأجرا لي في مقابلة اهتدائكم إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ فهو سبحانه يثيبني على ذلك في الآخرة ولا بدّ حسب وعده الذي لا يخلف. فالمراد بالأجر الأجر على التبليغ ، وجوز

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 241
أن يراد الأجر على الطاعة مطلقا ، ويدخل فيه ذلك دخولا أوليا ، وفي التعبير بالمال أولا وبالأجر ثانيا ما لا يخفى من مزية ما عند اللّه تعالى على ما عندهم وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا قيل : هو جواب عما لوحوا به بقولهم : وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا من أنه لو اتبعه الأشراف لوافقوهم وأن اتباع الفقراء مانع لهم عن ذلك كما صرحوا به في قولهم أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء : 111] فكان ذلك التماسا منهم لطردهم وتعليقا لإيمانهم به عليه السلام بذلك أنفة من الانتظام معهم في سلك واحد انتهى ، والمروي عن ابن جريج أنهم قالوا له : يا نوح إن أحببت أن نتبعك فاطرد هؤلاء وإلا فلن نرضى أن نكون نحن وهم في الأمر سواء ، وذلك كما قال قريش للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم في فقراء الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم : اطرد هؤلاء عنك ونحن نتبعك فإنا نستحيي أن نجلس معهم في مجلسك فهو جواب عما لم يذكر في النظم الكريم لكن فيه نوع إشارة إليه ، وقرىء «بطارد» بالتنوين قال الزمخشري : على الأصل يعني أن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال فأصله أن يعمل ولا يضاف ، وهو ظاهر كلام سيبويه ، واستدرك عليه أبو حيان بأنه قد يقال : إن الأصل الإضافة لأنه قد اعتوره شبهان : أحدهما شبهه بالمضارع وهو شبه بغير جنسه ، والآخر شبهه بالأسماء إذا كانت فيها الإضافة ، وإلحاقه بجنسه أولى من إلحاقه بغير جنسه انتهى ، وربما يقال : إن أولوية إلحاقه بالأسماء إنما يتم القول بها إذا كانت الإضافة في الأسماء هي الأصل وليس فليس إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ تعليل للامتناع من طردهم كأنه قيل : لا أطردهم ولا أبعدهم عن مجلسي لأنهم من أهل الزلفى المقربون الفائزون عند اللّه تعالى وانفهام الفوز بمعونة المقام وإلا فملاقاة اللّه تعالى تكون للفائز وغيره ، أو أنهم ملاقو ربهم فيخاصمون طاردهم عنده
فيعاقبه على ما فعل - وحمله على أنهم مصدقون في الدنيا بلقاء ربهم موقنون به عالمون أنهم ملاقوه لا محالة فكيف أطردهم - خلاف الظاهر على أن هذا التصديق من توابع الإيمان ، وقيل : المعنى أنهم يلاقونه تعالى فيجازيهم على ما في قلوبهم من إيمان صحيح ثابت كما ظهر لي أو على خلاف ذلك مما تعرفونهم به من بناء أمرهم على بادىء الرأي من غير تعمق في الفكر ، وما علي أن أشق عن قلوبهم وأتعرف سر ذلك منهم حتى أطردهم إن كان الأمر كما تزعمون ، وفيه أنه مع كونه مبنيا على أن سؤال الطرد لعدم إخلاصهم لا لاسترذالهم وحاله أظهر من أن يخفى يأباه الجزم بترتب غضب اللّه تعالى على طردهم كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى : وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ أي بكل ما ينبغي أن يعلم ، ويدخل فيه جهلهم بمنزلتهم عند اللّه تعالى وبما يترتب من المحذور على طردهم وبركاكة رأيهم في التماس ذلك ، وتوقيف إيمانهم عليه وغير ذلك وإيثار صيغة الفعل للدلالة على التجدد والاستمرار ، وعبر بالرؤية موافقة لتعبيرهم ، وجوز أن يكون الجهل بمعنى الجناية على الغير وفعل ما يشق عليه لا بمعنى عدم العلم المذموم وهو معنى شائع كما في قوله :
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
أي ولكني أراكم قوما تتسفهون على المؤمنين بنسبتهم إلى الخساسة وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ أي من يصونني منه تعالى ويدفع عني حلول سخطه ، والاستفهام للإنكار أي لا ينصرني أحد من ذلك إِنْ طَرَدْتُهُمْ وأبعدتهم عني وهم بتلك المثابة والزلفى منه تعالى ، وفي الكلام ما لا يخفى من تهويل أمر طردهم أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي أتستمرون على ما أنتم عليه من الجهل فلا تتذكرون ما ذكر من حالهم حتى تعرفوا أن ما تأتونه بمعزل عن الصواب ، قيل : ولكون هذه العلة مستقلة بوجه مخصوص ظاهر الدلالة على وجوب الامتناع عن الطرد أفردت عن التعليل السابق وصدرت - بيا قوم - وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ شروع - على ما قال غير واحد - في دفع الشبه التي أوردوها تفصيلا وذلك من قبيل النشر المشوش ثقة بعلم السامع وتخلل ما تخلل بين شبههم وجوابها - على ما قال العلامة

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 242
الطيبي - لأنه مقدمة وتمهيد للجواب ، وبينه بأن قوله يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ إثبات لنبوته يعني ما قلت لكم إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إلا عن بينة على إثبات نبوتي وصحة دعوتي لكن خفيت عليكم وعميت حتى أوردتم تلك الشبه الواهية ومع ذلك ليس نظري فيما ادعيت إلا إلى الهداية وإني لا أطمع بمال حتى ألازم الأغنياء منكم وأطرد الفقراء وأنتم تجهلون هذا المعنى حيث تقولون : اطرد الفقراء وإن اللّه سبحانه ما بعثني إلا للترغيب في طلب الآخرة ورفض الدنيا فمن ينصرني إن كنت أخالف ما جئت به ، ثم شرع فيما شرع ، وفي الكشف إن قوله أَرَأَيْتُمْ الآية جواب إجمالي عن الشبه كلها مع التعبير بأنهم لا يرجعون فيما يرمون إلى أدنى تدبر وقوله وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ تتميم للتعبير وحث على ما ضمنه من التشويق إلى ما عنده ، وقوله :
ما أَنَا بِطارِدِ تصريح بجواب ما ضمنوه في قولهم : وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا من خسة الشركاء وأنه لولا مكانهم لكان يمكن الاتباع إظهارا للتصلب فيما هو فيه وأن ما يورده ويصدره عن برهان من اللّه تعالى يوافيه وأنى يدع الحق الأبلج بالباطل اللجلج ، ثم شرع في الجواب التفصيلي بقوله : وَلا أَقُولُ إلخ ، وهو أحسن مما ذكره الطيبي ، وجعلوا هذا ردا لقولهم : وَما نَرى لَكُمْ إلخ كأنه يقول : عدم اتباعي وتكذيبي إن كان لنفيكم عني فضل المال والجاه فأنا لم أدعه ولم أقل لكم إن خزائن رزق اللّه تعالى وماله عندي حتى أنكم تنازعوني في ذلك وتنكرونه وإنما كان مني دعوى الرسالة المؤيدة بالمعجزات ، ولعل جوابه عليه السلام عن ذلك من حيث إنه معني به مستتبع للجواب عنه من حيث إنه عني به متبعوه عليه السلام أيضا ، وجعله جوابا عن قولهم : ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا كما جوزه الطبرسي ليس بشيء ، وحمل الخزائن على ما أشرنا إليه هو المعول عليه.
وقال الجبائي وأبو مسلم : إن المراد بها مقدورات اللّه تعالى أي لا أقول لكم حين أدعي النبوة عندي مقدورات اللّه تعالى فأفعل ما أشاء وأعطي ما أشاء وأمنع ما أشاء وليس بشيء ، ومثله - بل أدهى وأمر - قول ابن الأنباري : إن المراد بها غيوب اللّه تعالى وما انطوى عن الخلق ، وجعل ابن الخازن هذه الجملة عطفا على لا أَسْئَلُكُمْ إلخ ، والمعنى عنده لا أسألكم عليه مالا ولا أقول لكم عندي خزائن اللّه التي لا يفنيها شيء فأدعوكم إلى اتباعي عليها لأعطيكم منها وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ عطف على عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ المقول للقول ، وذكر معه النفي مع أن العطف على مقول القول المنفي منفي أيضا من غير أن يذكر معه أداة نفي لتأكيد النفي السابق والتذكير به ودفع احتمال أن لا يقول هذا المجموع فلا ينافي أن يقول أحدهما أي ولا أقول أنا أعلم الغيب حتى تكذبوني لاستبعاد ذلك وما ذكرت من دعوى النبوة والإنذار بالعذاب إنما هو بوحي وإعلام من اللّه تعالى مؤيد بالبينة والغيب ما لم يوح به ولم يقم عليه دليل ، ولعله إنما لم ينف عليه السلام القول بعلم الغيب على نحو ما فعل في السابق واللاحق مبالغة في نفي هذه الصفة التي ليس لأحد سوى اللّه تعالى منها نصيب أصلا ، ويجوز عطفه على أَقُولُ أي لا أقول لكم ذلك ولا أدعي علم الغيب في قولي إني نذير مبين إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم حتى تسارعوا إلى الإنكار والاستبعاد ، وقيل : هو معطوف على هذا أو ذاك إلا أن المعنى لا أعلم الغيب حتى أعلم أن هؤلاء اتبعوني بادي الرأي من غير بصيرة وعقد قلب ولا يخفى حاله ، واعترض على الأول بأنه غير ملائم للمقام ، ثم قيل : والظاهر أنه صلّى اللّه عليه وسلّم حين ادعى النبوة سألوه عن المغيبات ، وقالوا له : إن كنت صادقا أخبرنا عنها فقال : أنا أدعي النبوة بآية من ربي ولا أعلم الغيب إلا بإعلامه سبحانه ، ولا يلزم أن يذكر ذلك في النظم الكريم كما أن
سؤال طردهم كذلك انتهى ، وفيه أن زعم عدم الملاءمة ليس على ما ينبغي ، وأيضا لا يخفى أنه لا قرينة تدل على وقوعه جوابا لما لم يذكر ، وأما سؤال طردهم فإن الاستحقار قرينة عليه في الجملة ، وقد صرح بعض السلف به ومثله لا يقال من قبل الرأي وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ رد لقولهم ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا أي لا أقول ترويجا لما أدعيه من النبوة إني ملك حتى تقولوا لي ذلك وتكذبوني فإن البشرية ليست من موانع النبوة بل من

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 243
مباديها يعني كما قيل : إنكم اتخذتم فقدان هذه الأمور الثلاثة ذريعة إلى تكذيبي ، والحال أني لا أدعي شيئا من ذلك ولا الذي يتعلق بشيء منها ، وإنما الذي أدعيه يتعلق بالفضائل التي تتفاوت بها مقادير البشر ، وقيل : أراد بهذا لا أقول :
إني روحاني غير مخلوق من ذكر وأنثى بل إنما أنا بشر مثلكم فلا معنى لردكم علي بقولكم ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وعلى القولين لا دليل فيه على أن الملائكة أفضل من الأنبياء عليهم السلام خلافا لمن استدل به ، وجعل ذلك كلاما آخر ليس ردا لما قالوه سابقا مما لا وجه له فتدبر وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ أي تستحقرهم والأصل تزتري بالتاء إلا أنها قلبت دالا لتجانس الزاي في الجهر لأنها من المهموسة ، وأصل الازدراء الإعابة يقال : ازدراه إذا عابه ، والتعبير بالمضارع للاستمرار ، أو لحكاية الحال لأن الازدراء قد وقع ، وإسناده إلى الأعين مجاز للمبالغة في رأي من حيث إنه إسناد إلى الحاسة التي لا يتصور منها تعييب أحد فكأن من لا يدرك ذلك يدركه ، وللتنبيه على أنهم استحقروهم بادي الرؤية وبما عاينوا من رثاثة حالهم وقلة منالهم دون تأمل وتدبر في معانيهم وكمالاتهم ، وعائد الموصول محذوف كما أشرنا إليه ، واللام للأجل لا للتبليغ وإلا لقيل فيما بعد يؤتيكم أي لا أقول مساعدة لكم ونزولا على هواكم في شأن الذين استرذلتموهم واستحقرتموهم لفقرهم من المؤمنين لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً في الدنيا أو في الآخرة فعسى اللّه سبحانه يؤتيهم خيري الدارين.
اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ مما يستعدون به لإيتاء ذلك ، وفي إرشاد العقل السليم من الإيمان ، وفيه توجيه لعطف نفي هذا القول الذي ليس مما يستنكره الكفرة ولا مما يتوهمون صدوره عنه عليه السلام أصالة واستتباعا على نفي هاتيك الأقوال التي هي مما يستنكرونه ويتوهمون صدوره عنه عليه السلام إن ذلك من جهة أن كلا النفيين رد لقياسهم الباطل الذي تمسكوا به فيما سلف فإنهم زعموا أن النبوة تستتبع الأمور المذكورة من ادعاء الملكية وعلم الغيب وحيازة الخزائن وأن العثور على مكانها واغتنام مغانمها ليس من داب الأراذل ، فأجاب عليه السلام بنفي ذلك جميعا فكأنه قال : لا أقول وجود تلك الأشياء من مواجب النبوة ولا عدم المال والجاه من موانع الخير ، واقتصر عليه السلام على نفي القول المذكور مع أنه عليه السلام جازم بأن اللّه سبحانه سيؤتيهم خيرا عظيما في الدارين وأنهم على يقين راسخ في الإيمان جريا على سنن الإنصاف مع القوم واكتفاء بمخالفة كلامهم وإرشادا لهم إلى مسلك الهداية بأن اللائق لكل أحد أن لا يبت القول إلا فيما يعلمه يقينا ويبني أموره على الشواهد الظاهرة ولا يجارف فيما ليس فيه على بينة انتهى ، وأنت تعلم أنه عليه السلام قد بتّ القول بفوز هؤلاء في قوله : وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ بناء على أنهم المعنيون بالذين آمنوا ، وأن المراد من كونهم ملاقو ربهم أنهم مقربون في حضرة القدس - كما قال به غير واحد - وكذا الحكم إذا كان المعني بالموصول من اتصف بعنوان الصلة مطلقا إذ يدخلون فيه دخولا أوليا لما أن المسئول صريحا أو تلويحا طردهم ، ولعل البت تارة وعدمه أخرى لاقتضاء المقام ذلك وأن في كون الكفرة قد زعموا أن العثور على مكان النبوة واغتنام مغانمها ليس من دأب الأراذل خفاء مع دعوى أنهم لوحوا بقولهم : وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إلخ الذي هو مظنة ذلك الزعم إلى التماس
طردهم وتعليق إيمانهم به عليه السلام بذلك أنفة من الانتظام معهم في سلك واحد.
وفي البحر أن معنى وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ إلخ ليس احتقاركم إياهم ينقص ثوابهم عند اللّه تعالى ولا يبطل أجورهم ولست أحكم عليهم بشيء من هذا ، وإنما الحكم بذلك للذي يعلم ما في أنفسهم فيجازيهم عليه ، وقيل : إن هذا رد لقولهم وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إلخ على معنى لست أحكم عليهم بأن لا يكون لهم خير لظنكم بهم أن بواطنهم ليست كظواهرهم اللّه أعلم بما في نفوسهم انتهى ، ولا يخفى ما فيه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 244
وقد أخرج أبو الشيخ عن السدي أنه فسر الخير بالإيمان أي - لا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم اللّه إيمانا - واستشكل بأن الظاهر أن المراد بالموصول أولئك المتبعون المسترذلون وهم مؤمنون عندهم فلا معنى لنفي القول بإيتاء اللّه تعالى إياهم الإيمان مساعدة لهم ونزولا على هواهم.
وأجيب بأن المراد من هذا الإيمان هو المعتد به الذي لا يزول أصلا كما ينبىء عن ذلك التعبير عنه بالخير وهم إنما أثبتوا لهم الاتباع بادي الرأي وأرادوا بذلك أنهم آمنوا إيمانا لا ثبات له ، ويجعل ذلك ردا لذلك القول ، ويراد من لَنْ يُؤْتِيَهُمُ ما آتاهم فكأنهم قالوا : إنهم اتبعوك وآمنوا بك بلا تأمل ومثل ذلك الإيمان في معرض الزوال ، فهم لا يثبتون عليه ويرتدون فرد عليهم عليه السلام بأني لا أحكم على أولئك بأن اللّه تعالى ما آتاهم إيمانا لا يزول وأنهم سيرتدون كما زعمتم ويكون قوله عليه السلام : اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ تفويضا للحكم بذلك إليه تعالى أو إشارة إلى جلالة ما آتاهم اللّه تعالى إياه من الإيمان كما يقال اللّه تعالى أعلم بما يقاسي زيد من عمرو وإذا كان ما يقاسيه منه أمرا عظيما لا يستطاع شرحه ، فكأنه قيل : إن إيمانهم عظيم القدر جليل الشأن فكيف أقول لن يؤتيهم اللّه تعالى إيمانا ثابتا ، وفيه من التكلف والتعسف ما اللّه تعالى به أعلم ، وحمل الموصول على أناس مسترذلين جدا غير أولئك ولم يؤمنوا بعد أي لا أقول للذين تزدريهم أعينكم ولم يؤمنوا بعد لن يوفقهم اللّه تعالى للإيمان حيث كانوا في غاية من رثاثة الحال والدناءة التي تزعمونها مانعة من الخير اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ مما يتأهلون به لإفاضة التوفيق عليهم وهو المدار لذلك لا الأحوال الظاهرة مما لا أقول به إِنِّي إِذاً أي إذا قلت ذلك لَمِنَ الظَّالِمِينَ لهم بحط مرتبتهم ونقص حقوقهم ، أو من الظالمين لأنفسهم بذلك ، وفيه تعريض بأنهم ظالمون في ازدرائهم واسترذالهم.
ويجوز أن يكون إذا قلت شيئا مما ذكر من حيازة الخزائن وادعاء علم الغيب والملكية ، ونفي إيتاء اللّه تعالى أولئك الخير والقوم لمزيد جهلهم محتاجون لأن يعلل لهم نحو الأقوال الأول بلزوم الانتظام في زمرة الظالمين.
قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا أي خاصمتنا ونازعتنا ، وأصله من جدلت الحبل أي أحكمت فتله ومنه الجديل وجدلت البناء أحكمته ، ودرع مجدولة ، والأجدل الصقر المحكم البنية ، والمجدل القصر المحكم البناء ، وسميت المنازعة جدالا لأن المتجادلين كأنهما يفتل كل واحد منهما الآخر عن رأيه ، وقيل : الأصل في الجدال الصراع وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة ، وهي الأرض الصلبة فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا عطف على ما قبله على معنى شرعت في جدالنا فأطلته أو أتيت بنوع من أنواع الجدال فأعقبته بأنواع أخر فالفاء على ظاهرها ، ولا حاجة إلى تأويل جادَلْتَنا بأردت جدالنا - كما قاله الجمهور - في قوله تعالى : فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل : 98] ونظير ذلك جادل فلان فأكثر ، وجعل بعضهم مجموع ذلك كناية عن التمادي والاستمرار.
وقرأ ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما جدلنا ، وهو - كما قال ابن جني - اسم بمعنى الجدال ولما حجهم عليه السلام وأبرز لهم ما ألقمهم به الحجر ضاقت عليهم الحيل وعيت بهم العلل. وقالوا : فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب المعجل ، وجوز أن يكون المراد به العذاب الذي أشير إليه في قوله : إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ بناء على أن لا يكون المراد باليوم يوم القيامة ، و«ما» موصولة والعائد محذوف أي بالذي تعدنا به ، وفي البحر تعدناه ، وجوز أن تكون مصدرية وفيه نوع تكلف إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في حكمك بلحوق العذاب إن لم نؤمن بك.
قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ أي إن ذلك ليس إلي ولا مما هو داخل تحت قدرتي وإنما هو للّه عز وجل الذي كفرتم به وعصيتم أمره يأتيكم به عاجلا أو آجلا إن تعلقت به مشيئته التابعة للحكمة ، وفيه كما قيل : ما لا يخفى

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 245
من تهويل الموعود ، فكأنه ، قيل : الإتيان به أمر خارج عن دائرة القوى البشرية وإنما يفعله اللّه تعالى.
وفي الإتيان بالاسم الجليل الجامع تأكيد لذلك التهويل وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ بمصيريه سبحانه وتعالى عاجزا بدفع العذاب أو الهرب منه ، والباء زائدة للتأكيد ، والجملة الاسمية للاستمرار ، والمراد استمرار النفي وتأكيده لا نفي الاستمرار والتأكيد وله نظائر وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي النصح تحري قول أو فعل فيه صلاح وهو كلمة جامعة ، وقيل :
هو إعلام مواقع الغي ليتقي ومواضع الرشد ليقتفي ، وهو من قولهم : نصحت له الود أي أخلصته ، وناصح العسل خالصه ، أو من قولهم نصحت الجلد خطته ، والناصح الخياط ، والنصاح الخيط ، وقرأ عيسى بن عمر الثقفي «نصحي» بفتح النون وهو مصدر ، وعلى قراءة الجماعة - على ما قال أبو حيان - يحتمل أن يكون مصدرا كالشكر ، وأن يكون اسما إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ شرط حذف جوابه لدلالة ما سبق عليه وليس جوابا له لامتناع تقدم الجواب على الشرط على الأصح الذي ذهب إليه البصريون أي إن أردتم أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي ، والجملة كلها دليل جواب قوله سبحانه : إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ والتقدير إن كان اللّه يريد أن يغويكم فإن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي ، وجعلوا الآية من باب اعتراض الشرط على الشرط ، وفي شرح التسهيل لابن عقيل أنه إذا توالى شرطان مثلا كقولك : إن جئتني إن وعدتك أحسنت إليك ، فالجواب للأول ، واستغنى به عن جواب الثاني ، وزعم ابن مالك أن الشرط الثاني مفيد للأول بمنزلة الحال ، فكأنه قيل في المثال : إن جئتني في حال وعدي لك أحسنت إليك ، والصحيح في المسألة أن الجواب للأول ، وجواب الثاني محذوف لدلالة الشرط الثاني وجوابه عليه ، فإذا قلت : إن دخلت الدار إن كلمت زيدا إن جاء إليك فأنت حر ، فأنت حر جواب إن دخلت وهو وجوابه دليل جواب إن كلمت وإن كلمت وجوابه دليل جواب إن جاء ، والدليل على الجواب جواب في المعنى ، والجواب متأخر ، فالشرط الثالث مقدم وكذا الثاني ، فكأنه قيل إن جاء فإن كلمت فإن دخلت فأنت حر فلا يعتق إلا إذا وقع هكذا مجيء. ثم كلام ثم دخول ، وهو مذهب الشافعي عليه الرحمة ، وذكر الجصاص أن فيها خلافا بين محمد وأبي يوسف رحمهما اللّه تعالى ، وليس مذهب الإمام الشافعي فقط ، وقال بعض الفقهاء : إن الجواب للأخير. والشرط الأخير وجوابه جواب الثاني.
والشرط الثاني وجوابه جواب الأول ، وعلى هذا لا يعتق حتى يوجد هكذا دخول ثم كلام ثم مجيء ، وقال بعضهم : إذا اجتمعت حصل العتق من غير ترتيب وهذا إذا كان التوالي بلا عاطف فإن عطف بأو فالجواب لأحدهما دون تعيين نحو إن جئتني أو إن أكرمت زيدا أحسنت إليك وإن كان بالواو فالجواب لهما وإن كان بالفاء فالجواب للثاني وهو وجوابه جواب الأول فتخرج الفاء عن العطف ، وادعى ابن هشام أن في كون الآية من ذلك الباب نظرا قال : إذ لم يتوال شرطان وبعدهما جواب كما فيما سمعت من الأمثلة ، وكما في قول الشاعر :
إن تستغيثوا بنا إن تذعروا تجدوا منا معاقل عز زانها كرم
إذا لم يذكر فيها جواب وإنما تقدم على الشرطين ما هو جواب في المعنى للأول فينبغي أن يقدر إلى جانبه ويكون الأصل إن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي إن كان اللّه يريد أن يغويكم ، وأما أن يقدر الجواب بعدهما ثم يقدر بعد ذلك مقدما إلى جانب الشرط الأول فلا وجه له انتهى.
وقد ألف في المسألة رسالة - كما قال الجلال السيوطي - وأوردها في حاشيته على المغني حسنة ، ولا يخفى عليك أن المقدر في قوة المذكور ، والكثير في توالي شرطين بدون عاطف تأخره سماعا فيقدر كذلك ويجري عليه حكمه.
والكلام على ما تقدم متضمن لشرطين مختلفين : أحدهما جواب للآخر وقد جعل المتأخر في الذكر متقدما في

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 246
المعنى على ما هو المعهود في المسألة ، وهو عند الزمخشري على ما قيل شرطية واحدة مقيدة حيث جعل لا ينفعكم دليل الجواب لأن كان ، وجعل إن أردت قيدا لذلك نظير إن أحسنت إلي أحسنت إليك إن أمكنني فتأمل ، والكلام متعلق بقولهم : قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا صدر عنه عليه السلام إظهارا للعجز عن ردهم عما هم عليه من الضلال بالحجج والبينات لفرط تماديهم في العناد وإيذانا بأن ما سبق منه إنما كان بطريق النصيحة لهم والشفقة عليهم وأنه لم يأل جهدا في إرشادهم إلى الحق وهدايتهم إلى سبيله المستبين ولكن لا ينفعهم ذلك عند إرادته سبحانه لإغوائهم ، وتقييد عدم نفع النصح بإرادته مع أنه محقق لا محالة للإيذان بأن ذلك النصح مقارن للإرادة والاهتمام به ، ولتحقيق المقابلة بين ذلك ، وبين ما وقع بإزائه من إرادته تعالى لإغوائهم ، وإنما اقتصر في ذلك على مجرد إرادة الإغواء دون نفسه حيث لم يقل إن كان اللّه يغويكم مبالغة في بيان غلبة جنابه جل جلاله حيث دل ذلك على أن نصحه المقارن للاهتمام به لا يجديهم نفعا عند مجرد إرادة اللّه تعالى إغواءهم فكيف عند تحققه وخلقه فيهم ، وزيادة كان للإشعار بتقدم إرادته تعالى زمانا كتقدمه رتبة ، وللدلالة على تجددها واستمرارها ، وقدم على هذا الكلام ما يتعلق بقولهم : فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من قوله : إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ ردا عليهم من أول الأمر وتسجيلا عليهم بحلول العذاب مع ما فيه من اتصال الجواب بالسؤال - قال ذلك مولانا شيخ الإسلام - ثم إن إِنْ أَرَدْتُ أن أبقى على الاستقبال لا ينافي كونه نصحهم في الزمن الماضي ، وقيل : إنه مجاراة لهم لاستظهار الحجة لأنهم زعموا أن ما فعله ليس بنصح إذ لو كان نصحا قبل منه ، واللام في لَكُمْ ليست للتقوية كما قد يتوهم لتعدي الفعل بنفسه كما في قوله :
نصحت بني عوف فلم يتقبلوا رسولي ولم تنجح لديهم رسائلي
لما في الصحاح أنه باللام أفصح ، وفي الآية دليل على أن إرادة اللّه تعالى مما يصح تعلقها بالإغواء وأن خلاف مراده سبحانه محال ، وإلا لم تصدق الشرطية الدالة على لزوم الجواب للشرط ، والمعتزلة وقعوا في حيص بيص منها واختلفوا في تأويلها ، فقيل : إن يُغْوِيَكُمْ بمعنى يهلككم من غوى الفصيل إذا بشم من كثرة شرب اللبن فهلك ، وقد روي مجيء الغوي - بمعنى الهلاك - الفراء. وغيره ، وأنكره مكي.
وقيل : إن الإغواء مجاز عن عقوبته أي إن كان اللّه يريد عقوبة إغوائكم الخلق وإضلالكم إياهم.
وقيل : إن قوم نوح كانوا يعتقدون أن اللّه تعالى أراد إغواءهم فأخرج عليه السلام ذلك مخرج التعجب والإنكار أي إن نصحي لا ينفعكم إن كان الأمر كما تزعمون ، وقيل : سمي ترك إلجائهم وتخليتهم وشأنهم إغواء مجازا ، وقيل :
إن نافية أي ما كان اللّه يريد أن يغويكم ، ونفي ذلك دليل على نفي الإغواء ، ويكون لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إلخ إخبارا منه عليه السلام لهم وتعزية لنفسه عنهم لما رأى من إصرارهم وتماديهم على الكفر ، ولا يخفى ما في ذلك من مخالفة الظاهر المعروف في الاستعمال وارتكاب ما لا ينبغي ارتكاب مثله في كلام الملك المتعال.
ومن الناس من اعترض الاستدلال بأن الشرطية لا تدل على وقوع الشرط ولا جوازه فلا يتم ولا يحتاج إلى التأويل ولا إلى القال والقيل ، ودفع بأن المقام ينبو عنه لعدم الفائدة في مجرد فرض ذلك فإن أرادوا إرجاعه إلى قياس استثنائي فإما أن يستثنى عين المقدم فهو المطلوب أو نقيض التالي فخلاف الواقع لعدم حصول النفع.
وبالجملة الآية ظاهرة جدا فيما ذهب إليه أهل السنة ، واللّه سبحانه الموفق هُوَ رَبُّكُمْ أي خالقكم ومالك أمركم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيجازيكم على أفعالكم لا محالة.
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما : يعني نوحا عليه السلام أي بل أيقول قوم نوح إن

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 247
نوحا افترى ما جاء به مسندا إلى اللّه عز وجل قُلْ يا نوح إِنِ افْتَرَيْتُهُ بالفرض البحت. فَعَلَيَّ إِجْرامِي أي وباله فهو على تقدير مضاف ، أو على التجوز بالسبب عن المسبب ، وفسر الإجرام بكسب الذنب وهو مصدر أجرم ، وجاء على قلة جرم ، ومن ذلك قوله :
طريد عشيرة ورهين ذنب بما «جرمت» يدي وجنى لساني
وقرىء «أجرامي» بفتح الهمزة على أنه كما قال النحاس : جمع جرم ، واستشكل العز بن عبد السلام الشرطية بأن الافتراء المفروض هنا ماض والشرط يخلص للاستقبال بإجماع أئمة العربية ، وأجاب أن المراد - كما قال ابن السراج - إن ثبت أني افتريته فعلي إجرامي على ما قيل في قوله تعالى : إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ [المائدة : 116] وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ أي من إجرامكم في إسناد الافتراء إلي ، قيل : والأصل إن افتريته فعلي عقوبة افترائي ولكنه فرض محال وأنا بريء من افترائكم أي نسبتكم إياي إلى الافتراء ، وعدل عنه إدماجا لكونهم مجرمين ، وأن المسألة معكوسة ، وحملت ما على المصدرية لما في الموصولية من تكلف حذف العائد مع أن ذلك هو المناسب لقوله إِجْرامِي فيما قبل ، وما يقتضيه كلام ابن عباس من أن الآية من تتمة قصة نوح عليه السلام وفي شأنه هو الظاهر ، وعليه الجمهور ، وعن مقاتل أنها في شأن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مع مشركي مكة أي بل أيقول مشركو مكة افترى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خبر نوح ، قيل : وكأنه إنما جيء به في تضاعيف القصة عند سوق طرف منها تحقيقا لحقيقتها وتأكيدا لوقوعها وتشويقا للسامعين إلى استماعها لا سيما وقد قص منها طائفة متعلقة بما جرى بينه عليه السلام وبين قومه من المحاجة ، وبقيت طائفة مستقلة متعلقة بعذابهم ، ولا يخفى أن القول بذلك بعيد وإن وجه بما وجه ، وقال في الكشف : إن كونها في شأن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أظهر وأنسب من كونها من تتمة قصة نوح عليه السلام لأن أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ كالتكرير لقوله سبحانه :
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ دلالة على كمال العناد وأن مثله بعد الإتيان بالقصة على هذا الأسلوب المعجز مما لا ينبغي أن ينسب إلى افتراء فجاء زيادة إنكار على إنكار كأنه قيل : بل أمع هذا البيان أيضا يقولون : افْتَراهُ وهو نظير اعتراض قوله سبحانه في سورة وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ [العنكبوت : 18] بين قصة إبراهيم عليه السلام في أحد الوجهين انتهى ، ولا أراه معولا عليه.
وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ إقناط له عليه السلام من إيمانهم وإعلام بأنه لم يبق فيهم من يتوقع إيمانه ، أخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس قال : إن نوحا عليه السلام كان يضرب ثم يلف في لبد فيلقى في بيته يرون أنه قد مات ثم يخرج فيدعوهم ، واتفق أن جاءه رجل ومعه ابنه وهو يتوكأ على عصا فقال :
يا بني انظر هذا الشيخ لا يغرنك قال : يا أبت أمكني من العصا فأخذ العصا ثم قال : ضعني على الأرض فوضعه فمشى إليه فضربه فشجه موضحة في رأسه وسالت الدماء فقال نوح عليه السلام : رب قد ترى ما يفعل بي عبادك فإن يك لك في عبادك حاجة فاهدهم وإن يكن غير ذلك فصبرني إلى أن تحكم وأنت خير الحاكمين فأوحى اللّه تعالى إليه وآيسه من إيمان قومه وأخبره أنه لم يبق في أصلاب الرجال ولا في أرحام النساء مؤمن. وقال سبحانه : يا نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ إلخ ، والمراد بمن آمن قيل : من استمر على الإيمان وللدوام حكم الحدوث ، ولذا لو حلف لا يلبس هذا الثوب وهو لابسه فلم ينزعه في الحال حنث ، وقيل : المراد إلا من قد استعد للإيمان وتوقع منه ولا يراد ظاهره وإلا كان المعنى إلا من آمن فإنه يؤمن ، وأورد عليه أنه مع بعده يقتضي أن من القوم من آمن بعد ذلك ، وهو ينافي تقنيطه من إيمانهم ، وقد يقال : المراد ما هو الظاهر والاستثناء على حد الاستثناء في قوله تعالى : وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [النساء : 23] على ما قاله غير واحد ، فيفيد الكلام الإقناط على أتم وجه وأبلغه أي لن يحدث من قومك إيمانا

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 248
ويحصله بعد إلا من قد أحدثه وحصله قبل ، وذلك مما لا يمكن لما فيه من تحصيل الحاصل وإحداث المحدث ، فإحداث الإيمان وتحصيله بعد مما لا يكون أصلا ، وفي الحواشي الشهابية لو قيل : إن الاستثناء منقطع وإن المعنى لا يؤمن أحد بعد ذلك غير هؤلاء لكان معنى بليغا فتدبر ، وقرأ أبو البرهسم وَأُوحِيَ مبنيا للفاعل وأنه بكسر الهمزة على إضمار القول على مذهب البصريين وعلى إجراء أُوحِيَ مجرى قال على مذهب الكوفيين ، واستدل بالآية من أجاز التكليف بما لا يطاق.
فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ أي لا تلتزم البؤس ولا تحزن بما كانوا يتعاطونه من التكذيب والاستهزاء والإيذاء في هذه المدة الطويلة فقد حان وقت الانتقام منهم وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا عطف على فَلا تَبْتَئِسْ والأمر قيل للوجوب إذ لا سبيل إلى صيانة الروح من الغرق إلا به فيجب كوجوبها ، وقيل : للإباحة وليس بشيء ، وأل في الْفُلْكَ إما للجنس أو للعهد بناء على أنه أوحي إليه عليه السلام من قبل أن اللّه سبحانه سيهلكهم بالغرق وينجيه ومن معه بشيء يصنعه بأمره تعالى من شأنه كيت وكيت واسمه كذا ، والباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال من الفاعل ، والأعين حقيقة في الجارحة وهي جارية مجرى التمثيل كأن للّه سبحانه أعينا تكلؤه من تعدي الكفرة ومن الزيغ في الصنعة ، والجمع للمبالغة ، وقد انسلخ عنه لإضافته على ما قيل. معنى القلة وأريد به الكثرة ، وحينئذ يقوى أمر المبالغة ، وزعم بعضهم أن الأعين بمعنى الرقباء وأن في ذلك ما هو من أبلغ أنواع التجريد ، وذلك أنهم ينتزعون من نفس الشيء آخر مثله في صفته مبالغة بكمالها كما أنشد أبو علي :
أفات بنو مروان ظلما دماءنا وفي اللّه إن لم يعدلوا حكم عدل
وقد جرد هاهنا من ذات المهيمن جماعة الرقباء وهو سبحانه الرقيب نفسه ، وقيل : إن ملابسة العين كناية عن الحفظ وملابسة الأعين لمكان الجمع كناية عن كمال الحفظ والمبالغة فيه ، ونظير ذلك بسط اليد وبسط اليدين ، فإن الأول كناية عن الجود والثاني عن المبالغة فيه ، وجوز أن يكون المراد الحفظ الكامل على طريقة المجاز المرسل لما أن الحفظ من لوازم الجارحة ، وقيل : المراد من أعيننا ملائكتنا الذين جعلناهم عيونا على مواضع حفظك ومعونتك ، والجمع حينئذ على حقيقته لا للمبالغة ، ويفهم من صنيع بعضهم أن هذا من المتشابه ، والكلام فيه شهير ، ففي الدر المنثور عند الكلام على هذه الآية أخرج البيهقي عن سفيان بن عيينة قال : ما وصف اللّه تبارك وتعالى به نفسه في كتابه فقراءته تفسيره ليس لأحد أن يفسره بالعربية ولا بالفارسية ، وقرأ أبو طلحة بن مصرف بأعينا بالإدغام وَوَحْيِنا إليك كيف تصنعها وتعليمنا ، أخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه عليه السلام لم يعلم كيف صنعة الفلك فأوحى اللّه تعالى إليه أن اجعل رأسها كرأس الديك. وجؤجؤها كجؤجؤ الطير ، وذنبها كذنب الديك ، واجعل لها أبوابا في جنبها وشدها بدسر وأمره أن يطلبها بالقار ولم يكن في الأرض قار ففجر اللّه تعالى له عين القار حيث ينحتها يغلي غليانا حتى طلاها الخبر ، وفيه أن اللّه تعالى بعث جبريل عليه السلام فعلمه صنعتها ، وقيل : كانت الملائكة عليهم السلام تعلمه.
وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا أي لا تراجعني فيهم ولا تدعني باستدفاع العذاب عنهم وفيه من المبالغة ما ليس فيما لو قيل : ولا تدعني فيهم ، وحيث كان فيه ما يلوح بما يستتبعه أكد التعليل فقيل : إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ أي محكوم عليهم بالإغراق وقد جرى به القضاء وجف القلم فلا سبيل إلى كفه ، والظاهر أن المراد من الموصول من لم يؤمن من قومه مطلقا ، وقيل : المراد واعلة زوجته وكنعان ابنه وليس بشيء وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ حكاية حال ماضية لاستحضار صورتها العجيبة.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 249
وقيل : تقديره ، وأخذ أو أقبل يصنع الفلك ، وكانت على ما روي عن قتادة وعكرمة والكلبي من خشب الساج وقد غرسه بنفسه ولم يقطعه حتى صار طوله أربعمائة ذراع والذراع إلى المنكب في أربعين سنة على ما روي عن سليمان الفراسي ، وقيل : أبقاه عشرين سنة ، وقيل : مكث مائة سنة يغرس ويقطع وييبس ، وقال عمرو بن الحارث : لم يغرسه بل قطعه من جبل لبنان.
وعن ابن عباس أنها كانت من خشب الشمشاد وقطعه من جبل لبنان ، وقيل : إنه ورد في التوراة أنها كانت من الصنوبر ، وروي أنه كان سام وحام ويافث ينحتون معه ، وفي رواية أنه عليه السلام كان معه أيضا أناس استأجرهم ينحتون ، وذكر أن طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسون وارتفاعها في السماء ثلاثون.
وأخرج ابن جرير وغيره عن الحسن قال : كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع وصنع لها بابا في وسطها ، وأتم صنعها على ما روي عن مجاهد في ثلاث سنين.
وعن كعب الأحبار في أربعين سنة ، وقيل : في ستين ، وقيل : في مائة سنة ، وقيل : في أربعمائة سنة ، واختلف في أنه في أي موضع صنعها ، فقيل : في الكوفة ، وقيل : في الهند ، وقيل : في أرض الجزيرة ، وقيل : في أرض الشام ، وسفينة الأخبار في تحقيق الحال فيما أرى لا تصلح للركوب فيها إذ هي غير سالمة عن عيب ، فالحري بحال من لا يميل إلى الفضول أن يؤمن بأنه عليه السلام صنع الفلك حسبما قص اللّه تعالى في كتابه ولا يخوض في مقدار طولها وعرضها وارتفاعها ومن أي خشب صنعها وبكم مدة أتم عملها إلى غير ذلك مما لم يشرحه الكتاب ولم تبينه السنة الصحيحة ، هذا وفي التعبير - بيصنع - على ما قيل : ملاءمة للاستمرار المفهوم من الجملة الواقعة حالا من ضميره أعني قوله تعالى :
وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ أي استهزؤوا به لعمله السفينة إما لأنهم ما كانوا يعرفونها ولا كيفية استعمالها فتعجبوا من ذلك وسخروا منه ، ويشهد لعدم معرفتهم ما روي عن ابن عباس أنه عليه السلام حين قال اللّه تعالى له : اصْنَعِ الْفُلْكَ قال : يا رب وما الفلك؟ قال : بيت من خشب يجري على وجه الماء ، قال : يا رب وأين الماء؟ قال : إني على ما أشاء قدير ، وإما لأنه عليه السلام كان يصنعها في برية بعيدة عن الماء وكانوا يتضاحكون ، ويقولون : يا نوح صرت نجارا بعد ما كنت نبيا ، وهذا مبني على أن السفينة كانت معروفة بينهم ، ويشهد له ما
أخرجه ابن جرير والحاكم وصححه - وضعفه الذهبي - عن عائشة قالت : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : كان نوح قد مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم حتى كان آخر زمانه غرس شجرة فعظمت وذهبت كل مذهب ثم قطعها ثم جعل يعملها سفينة فيرونه ويسألونه فيقول أعملها سفينة فيسخرون منه ويقولون : تعمل سفينة في البر وكيف تجري؟ فيقول :
سوف تعلمون الحديث
والأكثرون - كما قال ابن عطية - على أنهم لم يكونوا رأوا سفينة قط ولا كانت إذ ذاك ، وقد ذكر في كتب الأوليات أن نوحا عليه السلام أول من عمل السفينة ، والحق أنه لا قطع بذلك ، و- كل - منصوب على الظرفية و«ما» مصدرية وقتية أي كل وقت مرور ، والعامل فيه جوابه وهو سَخِرُوا وقوله سبحانه :
قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ استئناف بياني كأن سائلا سأل فقال : فما صنع نوح عليه السلام عند بلوغهم منه هذا المبلغ؟ فقيل : قال : إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا لهذا العمل ومباشرة أسباب الخلاص من العذاب فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ لما أنتم فيه من الإعراض عن استدفاعه بالإيمان والطاعة ومن الاستمرار على الكفر والمعاصي ، والتعرض لأسباب حلول سخط اللّه تعالى التي من جملتها سخريتكم منا واستهزاؤكم بنا ، وإطلاق السخرية عليهم حقيقة ، وعليه عليه السلام للمشاكلة لأنها لا تليق بالأنبياء عليهم السلام ، وفسرها بعضهم بالاستجهال وهو مجاز لأنه سبب للسخرية ، فأطلقت السخرية وأريد سبها.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 250
وقيل : إنها منه عليه السلام لما كانت لجزأئهم من جنس صنيعهم لم تقبح فلا حاجة لارتكاب خلاف الظاهر ، وجمع الضمير في مِنَّا إما لأن سخريتهم منه عليه السلام سخرية من المؤمنين أيضا أو لأنهم كانوا يسخرون منهم أيضا إلا أنه اكتفى بذكر سخريتهم منه عليه السلام ولذلك تعرض الجميع للمجازاة في قوله : نَسْخَرُ مِنْكُمْ فتكافأ الكلام من الجانبين ، والتشبيه في قوله سبحانه : كَما تَسْخَرُونَ إما في مجرد التحقق والوقوع ، وإما في التجدد والتكرر حسبما صدر عن ملأ بعد ملأ ، وقيل : لا مانع من أن يراد الظاهر ولا ضرر في ذلك لحديث الجزاء ، ومن هنا قال بعضهم : إن في الآية دليلا على جواز مقابلة نحو الجاهل والأحمق بمثل فعله ويشهد له قوله تعالى : فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى [البقرة : 194] وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى : 40] وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل : 126] إلى غير ذلك ، والظاهر أن كلا الفعلين واقع في الحال.
وقال ابن جريج : المعنى إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا في الدنيا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ في الآخرة ، وقيل : في الدنيا عند الغرق. وفي الآخرة عند الحرق ، قال الطبرسي : إن المراد من نسخر منكم على هذا نجازيكم على سخريتكم أو نشمت بكم عند غرقكم وحرقكم ، وفيه خفاء ، هذا وجوز أن يكون عامل كُلَّما قال ، وهو الجواب ، وجملة سَخِرُوا صفة لملأ أو بدل من مَرَّ بدل اشتمال لأن مرورهم للسخرية فلا يضركون السخرية ليست بمعنى المرور ولا نوعا منه ، وأبو حيان جعل ذلك مبعدا للبدلية وليس بذلك ، ويلزم على هذا التجويز استمرار هذا القول منه عليه السلام وهو ظاهر ، وعلى الاعراب قيل : لا استمرار وإنما أجابهم به في بعض المرات ، ورجح بأن المقصود بيان تناهيهم في إيذائه عليه السلام وتحمله لأذيتهم لا مسارعته عليه السلام إلى الجواب كُلَّما وقع منهم ما يؤذيه من الكلام ، وقد يقال : إن في ذلك إشارة إلى أنه عليه السلام بعد أن يئس من إيمانهم لم يبال بإغضابهم ولذا هددهم التهديد البليغ بقوله : فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ أي يفضحه أو يذله أو يهلكه ، وهي أقوال متقاربة ، والمراد بذلك العذاب الغرق وَيَحِلُّ عَلَيْهِ حلول الدين المؤجل عَذابٌ مُقِيمٌ أي دائم وهو عذاب النار ، ومَنْ عبارة عنهم ، وهي موصولة في محل نصب مفعول للعلم ، وهو بمعنى المعرفة فيتعدى إلى واحد.
وجوز ابن عطية أن يراد العلم المتعدي إلى مفعولين لكنه اقتصر على واحد ، وتعقبه في البحر بأنه لا يجوز حذف الثاني اقتصارا لأن أصله خبر مبتدأ ، ولا اختصارا هنا لأنَّه لا دليل على حذفه.
وقيل : إن مَنْ استفهامية مبتدأ ، والجملة بعدها خبر ، وجملة المبتدأ والخبر معلق عنها سادة مسد المفعول أو المفعولين ، قيل : ولما كان مدار سخريتهم استجالهم إياه عليه السلام في مكابدة المشاق الفادحة لدفع ما لا يكاد يدخل تحت الصحة على زعمهم من الطوفان ومقاساة الشدائد في عمل السفينة وكانوا يعدونه عذابا قيل : بعد استجهالهم فَسَوْفَ إلخ يعني أن ما أباشره ليس فيه عذاب لاحق بي فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ من يعذب ، ولقد أصاب العلم بعد استجالهم محزه انتهى ، وهو ظاهر على تقدير حمل السخرية المنسوبة إليه عليه السلام على الاستجهال.
ولعله يمكن إجراؤه على تقدير حملها على ظاهرها أيضا بأدنى عناية فافهم ، ووصف العذاب بالإخزاء لما في الاستهزاء والسخرية من لحوق الخزي والعار عادة والتعرض لحلول العذاب المقيم للمبالغة في التهديد ، وفيه من المجاز ما لا يخفى ، وتخصيصه بالمؤجل ، وإيراد الأول بالإتيان غاية الجزالة ، وحكى الزهراوي أنه قرىء يحل بضم الحاء.
حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا غاية لقوله سبحانه : يَصْنَعُ الْفُلْكَ وحَتَّى إما جارة متعلقة به ، وإِذا لمجرد الظرفية ، وإما ابتدائية داخلة على الشرط وجوابه ، والجملة لا محل لها من الإعراب ، وحال ما وقع في البين قد

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 251
مرت الإشارة إليه ، والأمر إما واحد الأوامر أي الأمر بركوب السفينة أو بالفوران أو للسحاب بالإرسال أو للملائكة عليهم السلام بالتصرف فيما يراد أو نحو ذلك ، وإما واحد الأمور وهو الشأن أعني نزول العذاب بهم وَفارَ التَّنُّورُ أي نبع منها الماء وارتفع بشدة كما تفور القدر بغليانها وفيه من الاستعارة ما لا يخفى ، والمراد من التنور تنور الخبز عند الجمهور ، وكان على ما روي عن الحسن ومجاهد تنورا لحواء تخبز فيه ثم صار لنوح عليه السلام وكان من حجارة ، وقيل :
هو تنور في الكوفة في موضع مسجدها عن يمين الداخل مما يلي باب كندة ، وجاء ذلك في رواية عن علي كرم اللّه تعالى وجهه ،
وقيل : تنور بالهند ، وقيل : بعين وردة من أرض الجزيرة العمرية أو من أرض الشام ، وقيل : ليس المراد به تنورا معينا بل الجنس ، والمراد فار الماء من التنانير ، وفي ذلك من عجيب القدرة ما لا يخفى ، ولا تنافي بين هذا وقوله سبحانه : وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً [القمر : 12] إذ يمكن أن يكون التفجير غير الفوران فحصل الفوران للتنور والتفجير للأرض ، أو يراد بالأرض أماكن التنانير ، ووزنه تفعول من النور ، وأصله تنوور فقلبت الواو الأولى همزة لانضمامها ، ثم حذفت تخفيفا ، ثم شددت النون عوضا عما حذف ، ونقل هذا عن ثعلب ، وقال أبو علي الفارسي : وزنه فعول ، وقيل : على هذا إنه أعجمي ولا اشتقاق له ، ومادته تنر ، وليس في كلام العرب نون قبل راء ، ونرجس معرب أيضا ، والمشهور أنه مما اتفق فيه لغة العرب والعجم كالصابون والسمور ، وعن ابن عباس وعكرمة والزهري أن التَّنُّورُ وجه الأرض هنا ، وعن قتادة أنه أشرف موضع منها أي أعلاه وأرفعه ، وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ وغيرهما عن علي كرم اللّه تعالى وجهه أنه تنوير الصبح ،
والظاهر أنه لم يستعمل في اللغة العجمية بهذه المعاني الأخيرة ، وجوز أن يكون فوران التنور مجازا عن ظهور العذاب وشدة الهول ، وهذا كما جاء في الخبر حمى الوطيس مجازا عن شدة الحرب وليس بين الجملتين كثير فرق في المعنى وهو معنى حسن لكنه بعيد عما جاءت به الأخبار قُلْنَا احْمِلْ فِيها أي في الفلك ، وأنث الضمير لأنه بمعنى السفينة ، والجملة استئناف أو جواب إذا مِنْ كُلٍّ أي من كل نوع من الحيوانات ينتفع به الذين ينجون من الغرق وذراريهم بعد ، ولم تكن العادة جارية بخلقه من غير ذكر وأنثى ، والجار والمجرور متعلق - بأحمل - أو بمحذوف وقع حالا من مفعوله أعني قوله سبحانه : زَوْجَيْنِ وهو تثنية زوج ، والمراد به الواحد المزدوج بآخر من جنسه ، فالذكر زوج للأنثى كما هي زوج له ، وقد يطلق على مجموعها ، وليس بمراد ، وإلا لزم أن يحمل من كل صنف أربعة ، ولئلا يراد ذلك وصف بقوله تعالى : اثْنَيْنِ وحاصل المعنى احمل ذكرا وأنثى من كل نوع من الحيوانات ، وقرأ الأكثرون مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ بالإضافة فاثنين على هذا مفعول - احمل - ومِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ حال منه ، ولو أخر لكان صفة له أي احمل اثنين من كل زوجين أي صنف ذكر وصنف أنثى ، وقيل : مِنْ زائدة وما بعدها مفعول احمل ، واثْنَيْنِ نعت لزوجين بناء على جواز زيادة مِنْ في الموجب ثم ما ذكرناه في تفسير العموم الذي مال إليه البعض وأدرج فيه أناس الهوام والطير ، وذكر أنه
روي أنه عليه السلام جعل للسفينة ثلاثة بطون وحمل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام ، وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام ، وركب هو ومن معه في البطن الأعلى مع ما يحتاج إليه من الزاد ، وحمل معه جسد آدم عليه السلام وجعله معترضا بين الرجال والنساء ، وكان حمله بوصية منه عليه السلام توارثها ولده حتى وصلت إلى نوح عليه السلام ،
ويعارض هذا التقسيم ما
روي أن الطبقة السفلى للوحش. والوسطى للطعام والعليا له عليه السلام ولمن آمن ،
وتوسع بعضهم في العموم فأدرج فيه ما ليس من جنس الحيوان ، وأيد بما
أخرجه إسحاق بن بشر وغيره عن علي كرم اللّه تعالى وجهه مرفوعا أن نوحا عليه السلام حمل معه في السفينة من جميع الشجر ،
وبما
أخرجه أبو الشيخ عن جعفر بن محمد رضي اللّه تعالى عنهما قال : أمر نوح عليه السلام أن يحمل معه مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ فحمل من التمر العجوة واللون.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 252
وأخرج النسائي عن أنس بن مالك أن نوحا عليه السلام نازعه الشيطان في عود الكرم ، فقال : هذا لي ، وقال نوح : هو لي فاصطلحا على أن لنوح ثلثها ، وللشيطان ثلثيها
ولا يكاد يعول على مثل هذه الأخبار عند التنقير ، ومما يحمل معها في سفينة ما
أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : تأذى أهل السفينة بالفأر فعطس الأسد فخرج من منخريه سنوران ذكر وأنثى فأكلا الفأر إلا ما أراد اللّه تعالى أن يبقي منه ، وتأذوا بأذى أهل السفينة فعطس الفيل فخرج من منخريه خنزيران ذكر وأنثى فأكلا أذى أهل السفينة ،
وفي رواية الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وغيرهما عنه أن نوحا عليه السلام شكا إلى اللّه تعالى قرض الفأر حبال السفينة فأوحى اللّه إليه فسمح جبهة الأسد فخرج سنوران ، وشكا عذرة في السفينة فأوحى إليه سبحانه ، فمسح ذنب الفيل فخرج خنزيران فأكلا العذرة.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق زيد بن أسلم عن أبيه مرفوعا أن أهل السفينة شكوا الفأرة فقالوا : الفويسقة تفسد علينا طعامنا ومتاعنا. فأوحى اللّه تعالى إلى الأسد فعطس فخرجت الهرة منه فتخبأت الفأرة منها ،
ولم يذكر فيه بحث الخنزير ، ويفهم منها على ما فيها أن الهرة لم تكن عند الحمل ، ومن الأولين أنها والخنزير لم يكونا ، وفي بعض الآثار ما يخالفه ،
فقد أخرج أحمد في الزهد وأبو الشيخ عن وهب بن منبه قال لما أمر اللّه تعالى نوحا عليه السلام بالحمل قال : كيف أصنع بالأسد ، والبقرة وكيف أصنع بالعناق والذئب ، وكيف أصنع بالحمام والهر؟ فقال اللّه تعالى : من ألقى بينهما العداوة؟ قال : أنت يا رب قال : فإني أؤلف بينهم حتى لا يتضارون ،
ولا يخفى ما بين هذا وبين التقسيم الأول أيضا ، وجاء في شأن الأسد روايات مختلفة :
ففي رواية أن أصحابه عليه السلام قالوا : كيف نطمئن ومعنا الأسد؟
فسلط اللّه تعالى عليه الحمى ، وكانت أول حمى نزلت الأرض وفي رواية أنه كان يؤذيهم في السفينة فألقيت عليه الحمى ليشتغل بنفسه ، وفي أخرى أنه عليه السلام حين أمر بالحمل قال : يا رب كيف بالأسد والفيل؟ فقال له سبحانه :
سألقي عليهما الحمى وهي ثقيلة وفي أخرى عن أبي عبيدة أنه عليه السلام حين أمر بالحمل لم يستطع أن يحمل الأسد حتى ألقيت عليه الحمى فحمله فأدخله ،
ولا يخفى أنها مع دلالة بعضها على أن إلقاء الحمى قبل الدخول ، وبعضها على أنه بعده ، وكان يغني عن إلقائها بعد دفعا لأذاء التأليف بينه وبين الإنسان كما ألف بين ما مر بعضه مع بعض ، ولعل لدفع الأذى بالحمى دون التأليف إن صح ذلك حكمة لكنها غير ظاهرة لنا ، وجاء في بعض الآثار ما يفهم منه أنه كان معه عليه السلام في السفينة من الجن ما كان ، وفي بعضها أن إبليس عليه اللعنة كان أيضا.
فعن ابن عباس أنه لما أراد اللّه تعالى أن يدخل الحمار السفينة أخذ نوح بأذني الحمار وأخذ إبليس بذنبه فجعل نوح يجذبه وجعل إبليس يجذبه فقال نوح عليه السلام : ادخل شيطان فدخل الحمار ودخل إبليس معه فلما سارت السفينة جلس في ذنبها يتغنى فقال له نوح : ويلك من أذن لك؟ قال : أنت قال : متى؟ قال : إذ قلت للحمار ادخل شيطان فدخلت بإذن منك ، وفي رواية أخرى عنه أن نوحا عليه السلام قال للحمار : ويحك ادخل وإن كان الشيطان معك كلمة جرت على لسانه فدخل ودخل معه الشيطان.
وأخرج ابن عساكر عن عطاء أن اللعين جاء ليركب السفينة فدفعه نوح عليه السلام فقال : يا نوح إني منظور ولا سبيل لك علي فعرف أنه صادق فأمره أن يجلس على خيزران السفينة ،
وهو بظاهره مخالف لما روي عن ابن عباس ، واختلفوا في أنه كيف جمعت الحيوانات على تفرقها في أكناف الأرض ، فقيل : إنها أحست بالعذاب فاجتمعت وعن الزهري أن اللّه تعالى بعث ريحا فحمل إليه من كل زوجين اثنين من الطير والسباع والوحش والبهائم.
وعن جعفر بن محمد رضي اللّه تعالى عنهما أن اللّه تعالى بعث جبريل عليه السلام فحشرها فجعل عليه السلام=

16. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ( نسخة محققة )
المؤلف : شهاب الدين محمود ابن عبد الله الحسيني الآلوسي

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 253
يضرب بيديه على الزوجين فتقع يده اليمنى على الذكر واليسرى على الأنثى فيدخلهما السفينة حتى أدخل عدة ما أمر اللّه تعالى به ،
وروى إسحاق بن بشر وغيره عن زيد بن ثابت أنه استعصت عليه عليه السلام الماعزة فدفعها في ذنبها فمن ثم انكسر وبدا حياها ومضت النعجة حتى دخلت فمسح على ذنبها فستر حياها.
وفي كتب الأخبار كثير من هذه الآثار التي يقضى منها العجب ، وأنا لا أعتقد سوى أن اللّه عزت قدرته خلق الماعزة والنعجة من قبل على ما هما عليه اليوم وأنه سبحانه لم يخلق الهرة من الأسد وإن أشبهته صورة ولا الخنزير من الفيل وإن كان بينهما شبه ما كما شاهدناه عام مجيء الفيل إلى بغداد ولو كلف الفيل أكل العذرة لكان أحب إلى أهل السفينة من زيادة خنزير فيها وأحب من ذلك كله إليهم أن لا يكون في السفينة غيرهم أو يكون حيوان واحد يخلق لهم من عطاسه ما يريدونه من الحيوانات ويحتاجون إليه بعد.
والذي يميل القلب إليه أن الطوفان لم يكن عاما - كما قال به البعض - وأنه عليه السلام لم يؤمر بحمل ما جرت العادة بتكونه من عفونة الأرض كالفأر والحشرات بل أمر بحمل ما يحتاج إليه إذا نجا ومن معه من الغرق لئلا يغتموا لفقده ويتكلفوا مشقة جلبه من الأصقاع النائية التي لم يصلها الغرق فكأنه قيل : قلنا احمل فيها من كل ما تحتاجونه إذا نجوتم زوجين اثنين ، وإن قلنا بعموم الغرق نقول أيضا : إنه عليه السلام لم يكلف بحمل شيء من المتكونات من العفونة بل كلف بالحمل مما يتناسل من الحيوانات لمصلحة بقاء النوع ، وكانت السفينة بحيث تسع ذلك عادة أو معجزة وقدرة اللّه تعالى أجل من أن تضيق عن ذلك ، وإن قيل بالعموم على وجه يبقى معه بعض الجبال أجاز أن يقال : إنه عليه السلام لم يحمل إلا مما لا مهرب له ويضر فقده بجماعته ، ولو قيل : إن العموم على إطلاقه وأنه عليه السلام لم يحمل في السفينة إلا ما تتسع له عادة مما يحتاج إليه لئلا يضيق أصحابه ذرعا بفقده بالكلية حسبما تقتضيه الطباع البشرية وغرق ما عدا ذلك لكن اللّه تعالى جلت قدرته خلق نظير ما غرق بعد على الوجه الذي فعل قبل لم يكن ذلك بدعا ممن أمره بين الكاف والنون جل شأنه وعظم سلطانه.
هذا وإنما قدم ذلك على أهله وسائر المؤمنين قيل : لكونه عريقا بالحمل المأمور به لأنه يحتاج إلى مزاولة الأعمال منه عليه السلام في تمييز بعض عن بعض وتعيين الأزواج ، وأما البشر فإنما يدخل الفلك باختياره فيخف فيه معنى الحمل ، أو لأن ذلك إنما يحمل بمباشرة البشر وهم إنما يدخلونها بعد حملهم إياه ، ويجوز أن يكون التقديم حفظا للنظم الكريم عن الانتشار ، وأيا ما كان فقوله سبحانه : وَأَهْلَكَ عطف على زَوْجَيْنِ أو على اثْنَيْنِ والمراد بأهله على ما في بعض الآثار امرأته المسلمة وبنوه منها وهم سام عليه السلام - وهو أبو العرب - وأصله على ما قال البكري : بالشين المعجمة ، وحام - وهو أبو السودان - قيل : إنه أصاب زوجته في السفينة فدعا نوح عليه السلام أن تغير نطفته فغيرت ، وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن أبي صالح ، ويافث كصاحب - وهو أبو الترك ويأجوج ومأجوج - وزوجة كل منهم إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بأنه من المغرقين لظلمهم ، وذلك في قوله سبحانه :
وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا الآية ، والمراد زوجة له أخرى تسمى واعلة بالعين المهملة ، وفي رواية والقة وابنه منها كنعان وكان اسمه فيما قيل : يام وهذا لقبه عند أهل الكتاب وكانا كافرين ، وفي هذا دلالة على أن الأنبياء عليهم السلام يحل لهم نكاح الكافرة بخلاف نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم لقوله تعالى : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ [الأحزاب : 50] الآية ، والاستثناء جوز أن يكون متصلا إن أريد بالأهل الأهل إيمانا ، وأن يكون منقطعا إن أريد به الأهل قرابة ، ويكفي في صحة الاستثناء المعلومية عند المراجعة إلى أحوالهم والتفحص عن أعمالهم ، وجيء بعلى لكون السابق ضارا لهم كما جيء باللام فيما هو نافع في قوله تعالى : وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ [الصافات : 171] وقوله سبحانه : إِنَّ

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 254
الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى
[الأنبياء : 101] وَمَنْ آمَنَ عطف على الأهل أي والمؤمنين من غيرهم وإفراد أولئك منهم للاستثناء المذكور ، وإيثار صيغة الافراد في آمَنَ محافظة على لفظ مِنْ للإيذان بالقلة كما أفصح عن ذلك قوله تعالى : وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ قيل : كانوا سبعة زوجته وأبناؤه الثلاثة وكنائنه الثلاث ، وروي هذا عن قتادة والحكم بن عقبة وابن جريج ومحمد بن كعب ، ويرده عطف وَمَنْ آمَنَ على الأهل إلا أن يكون الأهل بمعنى الزوجة فإنه قد ثبت بهذا المعنى لكن قيل : إنه خلاف الظاهر ، والاستثناء عليه منقطع أيضا ، وعن ابن إسحاق أنهم عشرة خمسة رجال وخمس نسوة ، وعنه أنهم كانوا مع نوح عليه السلام عشرين نصفهم رجال ونصفهم الآخر نساؤهم ، وقيل : كانوا ثمانية وسبعين نصفهم ذكور ونصفهم إناث ، وقيل : كانوا ثمانين رجلا وثمانين امرأة - وقيل :
والرواية الصحيحة أنهم كانوا تسعة وسبعين ، زوجته وبنوه الثلاثة ونساؤهم واثنان وسبعون رجلا وامرأة من غيرهم من بني شيث ، واعتبار المعية في الإيمان للإيماء إلى المعية في مقر الإيمان والنجاة.
وَقالَ أي نوح عليه السلام لمن معه من المؤمنين كما ينبىء عنه قوله تعالى : إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.
وقيل : الضمير للّه تعالى ، وفيه أنه لو كان كذلك لكان المناسب إن ربكم إلخ ، ولعل هذا القول بعد إدخال ما أمر بحمله في الفلك من الأزواج كأنه قيل : فحمل الأزواج حسبما أمر أو أدخلها في الفلك ، وقال للمؤمنين ارْكَبُوا فِيها أي صيروا فيها ، وجعل ذلك ركوبا لأنها في الماء كالمركوب في الأرض ففيه استعارة تبعية من حيث تشبيه الصيرورة فيها بالركوب ، وقيل : استعارة مكنية والتعدية بفي لاعتبار الصيرورة وإلا فالفعل يتعدى بنفسه ، وإلى هذا ذهب القاضي البيضاوي ، وقيل : التعدية بذلك لأنه ضمن معنى ادخلوا ، وقيل : تقديره اركبوا الماء فيها ، وقيل : في زائدة للتوكيد ، وكأن الأول أولى ، وقال بعض المحققين : الركوب العلو على شيء متحرك ويتعدى بنفسه واستعماله هاهنا بفي ليس لأن المأمور به كونهم في جوفها لا فوقها كما ظن فإن أظهر الروايات أنه عليه السلام ركب هو ومن معه في الأعلى بل لرعاية جانب المحلية والمكانية في الفلك.
والسر فيه أن معنى الركوب العلو على شيء له حركة إما إرادية كالحيوان أو قسرية كالسفينة والعجلة ونحوهما فإذا استعمل في الأول توفر له حظ الأصل فيقال : ركبت الفرس ، وعليه قوله تعالى : وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها [النحل : 8] وإن استعمل في الثاني يلوح بمحلية المفعول بكلمة في فيقال : ركبت في السفينة ، وعليه الآية الكريمة ، وقوله سبحانه : فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ [العنكبوت : 65] وحَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها [الكهف : 71] انتهى ، وظاهره أن الركوب هاهنا حقيقي. وصرح بعضهم أنه ليس به.
وقال الراغب : الركوب في الأصل كون الإنسان على ظهر حيوان ، وقد يستعمل في السفينة ، وفيه تأكيد لما صرح به البعض بِسْمِ اللَّهِ حال من فاعل «1» ارْكَبُوا والباء للملابسة ولما كانت ملابسة اسم اللّه عز اسمه بذكره قالوا : المعنى اركبوا مسمين اللّه ، وجوزوا أن تكون الحال محذوفة وهذا معمول لها سادّ مسدّها ولذلك سموه حالا ، والأصل ارْكَبُوا قائلين بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها نصب على الظرفية أي وقت إجرائها وإرسائها على أنهما اسما زمان أو مصدران ميميان بمعنى الإجراء والإرساء ، ويقدر مضاف محذوف وهو وقت كما في قولك :
أتيتك خفوق النجم فإن التقدير وقت خفوقه إلا أنه لما حذف المضاف سدّ المضاف إليه مسده وانتصب انتصابه وهو
___________
(1) قوله : حال من فاعل اركبوا في طرة الأصل بخطه رحمه الله ما نصه ، وجوز في هذه الحال أن تكون مقارنة وأن تكون مقدرة بناء على أن الركوب المأمور به ليس إحداثه بل الاستمرار عليه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 255
كثير في المصادر ، ويجوز أن يكونا اسمي مكان وانتصابهما بالاستقرار الذي تعلق به الجار والمجرور أو بقائلين ، ولا يجوز أن يكون - باركبوا - إذ ليس المعنى على ارْكَبُوا في وقت الإجراء والإرساء ، أو في مكانهما وإنما المعنى متبركين أو قائلين فيهما ، وتعقب القول بانتصابهما مطلقا بأنهما محدودان ومحدود المكان لا بد له من في ، وبعضهم يجوز النصب في مثل ذلك بما فيه من الإبهام ، وجوز رفعهما فاعلين بالظرف لاعتماده على ذي الحال أو على أنهما مبتدأ ومعطوف عليه وبِسْمِ اللَّهِ خبرا والخبر محذوف تقديره متحققان ونحوه وهو صلة لهما ، والجملة إما مقتضية منقطعة عما قبلها لاختلافهما خبرا وطلبا على أن نوحا عليه السلام أمرهم بالركوب في السفينة ثم أخبرهم بأن إجراءها وإرساءها بسم اللّه تعالى أو بأن إجراءها وإرساءها باسمه تعالى متحققان لا يشك فيهما ، وفي ذلك حث على الركوب وإزالة لما عسى يختلج في قلوبهم من خوف الغرق ونحوه ، ويروى عن الضحاك أنه عليه السلام كان إذا أراد أن يجريها ، ويقول : بِسْمِ اللَّهِ فتجري ، وإذا أراد أن يرسيها قال : بِسْمِ اللَّهِ فترسوا ، وإما في موضع الحال من ضمير الفلك أي اركبوا فيها مجراة ومرساة باسم اللّه وهي حال مقدرة إذ لا إجراء ولا إرساء وقت الركوب كذا قيل ، وتعقبه في التقريب بأن الحال إنما تكون مقدرة إذا كانت مفردة كمجراة أما إذا كانت جملة فلا لأن معنى الجملة اركبوا وإجراؤها بِسْمِ اللَّهِ وهذا واقع حال الركوب انتهى ، وأجاب عنه في الكشف بأنه لا فرق بين قوله تعالى :
فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزمر : 73] وقول القائل : ادخلوها وأنتم مخلدون في عدم المقارنة والرجوع إلى الحال المقدرة فكذلك ما نحن فيه ، واعترض على المجيب بأن مراد ذلك القائل إجراؤها مجرى المفرد على نحو كلمته فوه إلى في بأنه تكلف لا حاجة إليه ، وهو غير مسلم في المستشهد به أيضا ، وإنما ذلك في قول القائل كلمته فاه إلى في انتهى ، وكأنه لم ينكشف له مراد صاحب التقريب فإنهم ذكروا أن الفرق بين الحال إذا كانت مفردة وإذا كانت جملة أن الثانية تقتضي التحقق في نفسها والتلبس بها ، وربما أشعرت بوقوعها قبل العامل واستمرارها معه كما إذا قلت :
جاءني وهو راكب فإنه يقتضي تلبسه بالركوب واستمراره عليه ، وهذا ينافي كونها منتظرة ولا أقل من أن لا يحسن الحمل عليه حيث تيسر الإفراد فافهم ، وجوز أن تكون حالا مقدرة أيضا من فاعل ارْكَبُوا ، واعترض بأنه لا عائد على ذي الحال ، وضمير بِسْمِ اللَّهِ للمبتدأ وتقديره أي فإجراؤها معكم أو بكم كائن بِسْمِ اللَّهِ تكلف ، والقول بأن الرضي قد ذكر أن الجملة الحالية إذا كانت اسمية قد تخلو من الرابطين عند ظهور الملابسة نحو خرجت زيد على الباب ليس بشيء لضعف ما ذكر في العربية فلا ينبغي التخريج عليه نعم كون الاسمية لا بد فيها من الواو والقول بأن الحال المقدرة لا تكون جملة مطلقا كل منهما في حيز المنع كما لا يخفى. وجوز أن يكون الاسم مقحما كما في قول لبيد :
فقوما وقولا بالذي قد عرفتما ولا تخمشا وجها ولا تحلقا الشعر
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
ويراد باللّه إجراؤها وإرساؤها أي بقدرته أو بأمره أو بإذنه ، ويقدر ذلك أو يراد معنى ، وخص بعضهم هذا الجواز بما إذا لم يقدر مسمين أو قائلين إذ لا يظهر المعنى حينئذ ، ويجري على تقديري الكلام الواحد والكلامين ، وكذا على تقدير الزمان والمكان في رأي ، ويعتبر الإسناد مجازيا من قبيل نهاره صائم وطريق بر.
وقرأ - مجراها ومرساها - بفتح الميم مصدرين أو زمانين أو مكانين على أنهما من جرى ورسا الثلاثيين ، وقرأ مجاهد - مجريها ومرسيها - بصيغة اسم الفاعل ، وخرج ذلك أبو البقاء على أنهما صفتان للاسم الجليل ، وقيل عليه : إن إضافة اسم الفاعل إذا كان بمعنى المستقبل لفظية فهو نكرة لا يصح توصيف المعرفة به فالحق البدلية ، والقول بأن مراد المعرب الصفة المعنوية لا النعت النحوي فلا ينافي البدلية بعيد لكن عن الخليل إن ما كانت إضافته غير محضة قد

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 256
يصح أن تجعل محضة فتعرف إلا ما كان من الصفة المشبهة فلا تتمحض إضافتها فلا تعرف ، والرسو الثبوت والاستقرار ومنه قول الشاعر :
فصبرت نفسا عند ذلك حرة «ترسو» إذا نفس الجبان تطلع
إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ قيل : الجملة مستأنفة لبيان الموجب أي لولا مغفرته لفرطانكم ورحمته إياكم لما أنجاكم من هذه الطامة إيمانكم ، وفيه دلالة على أن نجاتهم لم تكن عن استحقاق بسبب أنهم كانوا مؤمنين بل بمحض رحمة اللّه تعالى وغفرانه على ما عليه أهل السنة ، ومنع صلاحية كونها علة - لاركبوا - لعدم المناسبة فيقدر ما يصح به الكلام بأن يقال : امتثلوا هذا الحكم لينجيكم من الهلاك بمغفرته ورحمته ، أو يقال : ارْكَبُوا فِيها ذاكرين اللّه تعالى ولا تخافوا الغرق لما عسى فرط منكم من التقصير لأن اللّه تعالى شأنه غفور للخطايا والذنوب رحيم بعباده ، وجعلها بعضهم تعليلا بالنظر إلى ما فيها من الإشارة إلى النجاة فكأنه قيل : اركبوا لينجيكم اللّه سبحانه ، وقوله سبحانه : وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ جوز فيه ثلاثة أوجه : الأول أن يكون مستأنفا ، الثاني أن يكون حالا من الضمير المستتر في بِسْمِ اللَّهِ أي جريانها استقر بِسْمِ اللَّهِ حال كونها جارية ، الثالث أنه حال من شيء محذوف دل عليه السياق أي فركبوا فيها جارية ، والفاء المقدرة للعطف ، وبِهِمْ متعلق - بتجري - أو بمحذوف أي ملتبسة والمضارع لحكاية الحال الماضية ولا معنى للحالية من الضمير المستتر في الحال الأولى كما لا يخفى ، والموج ما ارتفع من الماء عند اضطرابه ، واحده موجة وكَالْجِبالِ في موضع الصفة لموج أي في موج مرتفع متفاوت في الارتفاع متراكم ، قيل : إنها جرت بهم في موج كذلك وقد بقي منها فوق الماء ستة أذرع ، واستشكل هذا الجريان مع ما روي أن الماء طبق ما بين السماء والأرض وأن السفينة كانت تجري في داخله كالسمك ، وأجيب بأن الرواية مما لا صحة لها ويكاد العقل يأبى ذلك ، نعم أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن عساكر وعبد بن حميد من طريق مجاهد عن عبيد بن عمير قال : إن الماء علا رأس كل جبل خمسة عشر ذراعا على أنه لو سلم صحة ما ذكر فهذا
الجريان كان في ابتداء الأمر قبل أن يتفاقم الخطب كما يدل عليه قوله سبحانه : وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ إلخ فإن ذلك إنما يتصور قبل أن تنقطع العلاقة بين السفينة والبر إذ حينئذ يمكن جريان ما جرى بين نوح عليه السلام وبين ابنه من المفاوضة والاستدعاء إلى السفينة ، والجواب بالاعتصام بالجبل.
وقال بعض المحققين : إن هذا النداء إنما كان قبل الركوب في السفينة والواو لا تدل على الترتيب ، وعن علي كرم اللّه تعالى وجهه أنه قرأ ابنها على أن ضمير التأنيث لامرأته ، وفي إضافته إليها إشعار بأنه ربيبه لأن الإضافة إلى الأم مع ذكر الأب خلاف الظاهر ، وإن جوزوه ، ووجه بأنه نسب إليها لكونه كافرا مثلها ، وما يقال من أنه كان لغير رشدة لقوله سبحانه : فَخانَتاهُما [التحريم : 10] فارتكاب عظيمة لا يقادر قدرها فإن اللّه تعالى قد طهر الأنبياء عليهم السلام عما هو دون ذلك من النقص بمراحل فحاشاهم ثم حاشاهم أن يشار إليهم بأصبع الطعن وإنما المراد بالخيانة الخيانة في الدين ، ونسبة هذا القول إلى الحسن ومجاهد - كما زعم الطبرسي - كذب صريح ، وقرأ محمد بن علي وعروة بن الزبير رضي اللّه تعالى عنهم ابْنَهُ بهاء مفتوحة دون ألف اكتفاء بالألف «1» عنها وهو لغة - كما قال ابن عطية - ومن ذلك قوله :
أما تقود بها شاة فتأكلها أو أن تبيعه في بعض الأراكيب
___________
(1) قوله اكتفاء بالألف إلخ كذا في خطه ، ولعله بالفتحة عن الألف.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 257
قيل : وهو ضعيف في العربية حتى خصه بعضهم بالضرورة والضمير للأم أيضا ، وقرأ ابن عباس ابنه بسكون الهاء ، وهي على ما قال ابن عطية وأبو الفضل الرازي لغة أزد فإنهم يسكنون هاء الكناية من المذكر ، ومنه قوله :
ونضواي «2» مشتاقان له أرقان وقيل : إنها لغة لبني كلاب وعقيل ، ومن النحويين من يخص هذا السكون بالضرورة وينشد :
وأشرب الماء ما بي نحوه عطش ألا لأن عيونه سيل واديها
وقرأ السدي - «ابناه» - بألف وهاء سكت ، وخرج ذلك على الندبة ، واستشكل بأن النحاة صرحوا بأن حرف النداء لا يحذف في الندبة ، وأجيب بأن هذا حكاية ، والذي منعوه في الندبة نفسها لا في حكايتها ، وعن ابن عطية - أبناه - بفتح همزة القطع التي للنداء ، وفيه أنه لا ينادي المندوب بالهمزة ، وأن الرواية بالوصل فيها والنداء بالهمزة لم يقع في القرآن ، ويبعد القول بالندبة أنها لا تلائم الاستدعاء إلى السفينة بعد كما لا يخفى ولو قيل : إن ابناه على هذه القراءة مفعول - نادى - أيضا كما في غيرها من القراءات ، والألف للإشباع والهاء الساكنة هاء الضمير في بعض اللغات لم يكن هناك محذور من جهة المعنى وهو ظاهر ، نعم يتوقف القول بذلك على السماع في مثله ومتى ثبت تعين عندي تخريج القراءة إن صحت عليه ، وقرأ الجمهور «ابنه» بالإضافة إلى ضمير نوح ، ووصلوا بالهاء واوا وتوصل في الفصيح ، وتنوين «نوح» مكسور عند الجمهور دفعا لالتقاء الساكنين ، وقرأ وكيع بضمه اتباعا لحركة الإعراب.
وقال أبو حاتم : هي لغة سوء لا تعرف وَكانَ فِي مَعْزِلٍ أي مكان عزل فيه نفسه عن أبيه وإخوته ومن آمن من قومه ، والمراد بعده عنهم إما حسا أو معنى ، وحاصله المخالفة لهم في الدين فمعزل بالكسر اسم مكان العزلة ، وهي إما حقيقية أو مجازية ، وقد يكون اسم زمان ، وإذا فتح كان مصدرا ، وقيل : المراد - كان في معزل - عن الكفار قد انفرد عنهم ، وظن نوح عليه السلام أنه يريد مفارقتهم ولذلك دعاه إلى السفينة ، وقيل : إنما ناداه لأنه كان ينافقه فظن أنه مؤمن ، واختاره كثير من المحققين كالماتريدي وغيره ، وقيل : كان يعلم أنه كافر إلى ذلك الوقت لكنه عليه السلام ظن أنه عند مشاهدة تلك الأهوال وبلوغ السيل الزبي ينجر عما كان عليه ويقبل الإيمان ، وقيل : لم يجزم بدخوله في الاستثناء لما أنه كان كالمجمل فحملته شفقة الأبوة على أن ناداه يا بُنَيَّ بفتح الياء التي هي لام الكلمة اجتزاء بالفتحة عن الألف المبدلة من ياء الإضافة في قوله يا بنيا ، وقيل : إنها سقطت لالتقائها ساكنة مع الراء الساكنة بعدها ، ويؤيد الأول أنه قرىء كذلك حيث لا ساكن بعد.
ومن الناس من قال : فيه ضعف على ما حكاه يونس من ضعف يا أب ويا أم بحذف الألف والاجتزاء عنها بالفتحة.
وقرأ الجمهور بالكسر اقتصارا عليه من ياء الإضافة ، وقيل : إنها حذفت لالتقاء الساكنين كما قيل ذلك في الألف ، ونداؤه بالتصغير من باب التحنن والرأفة ، وكثيرا ما ينادي الوالد ولده كذلك ارْكَبْ مَعَنا أي في السفينة ولتعينها وللإيذان بضيق المقام حيث حال الجريض دون القريض مع إغناء المعية عن ذكرها لم تذكر ، وأطلق الركوب وتخفيف الباء وإدغامها في الميم قراءتان سبعيتان ووجه الإدغام التقارب في المخرج وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ تأكيد للأمر وهو نهي عن مشايعة الكفرة والدخول في غمارهم ، وقطع بأن الدخول فيه يوجب الغرق على الطريق البرهاني قالَ سَآوِي أي سأنضم إِلى جَبَلٍ من الجبال ، وقيل : عنى طورزيتا يَعْصِمُنِي أي يحفظني بارتفاعه مِنَ
___________
(2) قوله : ونضواي كذا بخطه رحمه الله ، والذي في الصحاح وغيره ومطواي.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 258
الْماءِ فلا يصل إلي. قال ذلك زعما منه أن ذلك كسائر المياه في أزمنة السيول المعتادة التي ربما يتقي منها بالصعود إلى مرتفع وجهلا منه بأن ذلك إنما كان لإهلاك الكفرة فلا بد أن يدركهم ولو كانوا في قلل الجبال قالَ مبينا له حقيقة الحال وصارفا له عن ذلك الفكر المحال لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ نفي لجنس العاصم المنتظم لنفي جميع أفراده ذاتا وصفة للمبالغة في نفي كون الجبل عاصما ، وزاد الْيَوْمَ للتنبيه على أنه ليس كسائر الأيام التي تقع فيها الوقائع وتلم فيها الملمات المعتادة التي ربما يتخلص منها بالالتجاء إلى بعض الأسباب العادية ، وعبر عن الماء في محل إضماره بأمر اللّه أي عذابه الذي أشير إليه أولا بقوله سبحانه : حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا تفخيما لشأنه وتهويلا لأمره وتنبيها لابنه على خطئه في تسميته ماء وتوهمه أنه كسائر المياه التي يتخلص منها بالهرب إلى بعض المهارب المعهودة ، وتعليلا للنفي المذكور فإن أمر اللّه سبحانه لا يغالب وعذابه لا يرد ، وتمهيدا لحصر العصمة في جناب اللّه تعالى عز جاره بالاستثناء كأنه قيل : لا عاصم من أمر اللّه تعالى إلا هو تعالى ، وإنما قيل : إِلَّا مَنْ رَحِمَ تفخيما لشأنه الجليل جل شأنه وإشعارا بعلية رحمته بموجب سبقها غضبه كل ذلك لكمال عنايته عليه السلام بتحقيق ما يتوخاه من نجاة ابنه ببيان شأن الداهية وقطع أطماعه الفارغة وصرف عنانه عن التعلل بما لا يغني عنه شيئا وإرشاده إلى العياذ بالمعاذ الحق عز حماه ، ولذا عدل عما يقتضيه الظاهر من الجواب بقوله : لا يعصمك الجبل منه كذا ذكره بعض المحققين وهو أحد أوجه في الآية وأقواها.
والوجه الثاني أن عاصما صيغة نسبة ، والمراد بالموصول المرحوم أي لا ذا عصمة أي معصوم إلا من رحمه اللّه تعالى ، وأيد ذلك بأنه قرىء إِلَّا مَنْ رَحِمَ بالبناء للمفعول ، واعترضه في الكشف بأن فاعلا بمعنى النسبة قليل ، وأجيب بأنه إن أراد قلته في نفسه فممنوع وإن بالنسبة إلى الوصف فلا يضر.
والثالث أن - عاصما - على ظاهره ، ومَنْ رَحِمَ بمعنى المرحوم والاستثناء منقطع لا متصل كما في الوجهين الأولين أي لا عاصم من أمر اللّه لكن من رحمه اللّه تعالى فهو معصوم ، وأورد عليه بأن مثل هذا المنقطع قليل لأنه في الحقيقة جملة منقطعة تخالف الأولى لا في النفي والإثبات فقط بل في الاسمية والفعلية أيضا ، والأكثر فيه مثل ما جاءني القوم إلا حمارا ، والرابع أن - عاصما - بمعنى معصوم كدافق بمعنى مدفوق وفاتن بمعنى مفتون في قوله :
بطيء القيام رخيم الكلا م أمسى فؤادي به «فاتنا»
ومَنْ رَحِمَ بمعنى الراحم ، والاستثناء منقطع أيضا أي لا معصوم إلا الراحم على معنى لكن الراحم يعصم من أراد ، والخامس أن الكلام على إضمار المكان والاستثناء متصل أي لا عاصم إلا مكان من رحمه اللّه من المؤمنين وهو السفينة ، قيل : وهو وجه حسن فيه مقابلة لقوله : يَعْصِمُنِي وهو المرجح بعد الأول ، والعاصم على هذا حقيقة لكن إسناده إلى المكان مجازي ، وقيل : إنه مجاز مرسل عن مكان الاعتصام ، والمعنى لا مكان اعتصام إلا مكان من رحمه اللّه ، وادعى أنه أرجح من الكل لأنه ورد جوابا عن قوله : سَآوِي إِلى جَبَلٍ إلخ وليس بمسلم ، والسادس ما أبداه صاحب الكشف من عنده وهو أن المعنى لا معصوم إلا مكان من رحمه اللّه تعالى ، ويراد به عصمة من فيه على الكناية فإن السفينة إذا عصمت عصم من فيها ، والسابع أن الاستثناء مفرغ ، والمعنى لا عاصم اليوم أحدا أو لأحد إلا من رحمه اللّه أو لمن رحمه اللّه سبحانه ، وعده بعضهم أقربها ، ولا أظنك تعدل بالوجه الأول وجها وهو الذي اختاره ، والظاهر على ما قال أبو حيان : إن خبر لا محذوف للعلم به أي لا عاصِمَ موجود ، والأكثر الحذف في مثل ذلك عند الحجازيين ، والتزم الحذف فيه بنو تميم ويكون اليوم منصوبا على إضماره فعل يدل عليه عاصِمَ أي لا عاصِمَ

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 259
يعصم اليوم والجار والمجرور متعلق بذلك الفعل ومنع جواز أن يكون الْيَوْمَ منصوبا باسم - لا - وأن يكون الجار متعلقا به لأنه يلزم حينئذ أن يكون معربا منونا للطول.
وجوز الحوفي أن يكون الْيَوْمَ متعلقا بمحذوف وقع خبرا - للا - والجار متعلق بذلك المحذوف أيضا ، وأن يكون متعلقا بمحذوف هو الخبر ، والْيَوْمَ في موضع النعت لعاصم ، ورد أبو البقاء خبرية اليوم بأنه ظرف زمان وهو لا يكون خبرا عن الجثة ، والتزم كونه معمول من أمر اللّه وكون الخبر هو الجار والمجرور ، ورد أبو حيان جواز النعتية بأن ظرف الزمان لا يكون نعتا للجثث كما لا يكون خبرا عنها وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ أي بين نوح عليه السلام وابنه فانقطع ما بينهما من المجاوبة ، قيل : كانا يتراجعان الكلام فما استتمت المراجعة حتى جاءت موجة عظيمة وكان راكبا على فرس قد بطر وأعجب بنفسه فالتقمته وفرسه ، وليس في الآية هنا إلا إثبات الحيلولة ، وأما علمه عليه السلام بغرقه فلم يحصل إلا بعد ، وقال الفراء : بينهما أي بين ابن نوح عليه السلام والجبل ، وأخرج ذلك ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن القاسم بن أبي بزة ، وتعقبه العلامة أبو السعود بأن قوله تعالى : فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ إنما يتفرع على حيلولة الموج بينه عليه السلام وبين ابنه لا بينه وبين الجبل لأنه بمعزل عن كونه عاصما وإن لم يحل بينه وبين الملتجأ إليه موج ، وأجيب بأن التفريع لا ينافي ذلك لأن المراد فكان من غير مهلة أو هو بناء على ظنه أن الماء لا يصل إليه ، وفي الآية دلالة على غرق سائر الكفرة على أبلغ وجه. فكأن ذلك أمر مقرر الوقوع غير مفتقر إلى البيان ، وفي إيراد - كان - دون صار مبالغة في كونه منهم وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي أي انشفي استعير من ازدراد الحيوان ما يأكله للدلالة على أن ذلك ليس كالشف المعتاد التدريجي ، وتخصيص البلع بما يؤكل هو المشهور عن اللغويين ، وقال الليث : يقال :
بلع الماء إذا شربه وهو ظاهر في أنه غير خاص بالمأكول ، وذكر السيد أن ذلك مجاز ، وأخرج ابن المنذر وغيره عن وهب بن منبه أن البلع بمعنى الازدراد لغة حبشية ، وأخرج أبو الشيخ عن جعفر بن محمد عن أبيه أنه بمعنى الشرب لغة هندية ماءَكِ أي ما على وجهك من ماء الطوفان وعبر عنه بالماء بعد ما عبر عنه فيما سلف بأمر اللّه تعالى لأن المقام مقام النقص والتقليل لا مقام التفخيم والتهويل وَيا سَماءُ أَقْلِعِي أي أمسكي عن إرسال المطر يقال : أقلعت السماء إذا انقطع مطرها وأقلعت الحمى إذا كفت ، والظاهر أن المطر لم ينقطع حتى قيل للسماء ما قيل ، وهل فوران الماء كان مستمرا حتى قيل للأرض ما قيل أم لا؟ لم أر فيه شيئا ، والآية ليست نصا في أحد الأمرين وَغِيضَ الْماءُ أي نقص يقال : غاضه إذا نقصه وجميع معانيه راجعة إليه.
وقول الجوهري : غاض الماء إذا قل ونضب ، وغيض الماء فعل به ذلك لا يخالفه فإن القلة عين النقصان ، وتفسير ذلك بالنقص مروي عن مجاهد وَقُضِيَ الْأَمْرُ أي أنجز ما وعد اللّه تعالى نوحا عليه السلام من إهلاك كفار قومه وإنجائه بأهله المؤمنين ، وجوز أن يكون المعنى أتم الأمر وَاسْتَوَتْ استقرت يقال : استوى على السرير إذا استقر عليه عَلَى الْجُودِيِّ بتشديد الياء ، وقرأ الأعمش وابن أبي عبلة بتخفيفها وهما لغتان - كما قال ابن عطية - وهو جبل بالموصل ، أو بالشام ، أو بآمل - بالمد وضم الميم والمشهور الأول.
وجاء في بعض الآثار أن الجبال تشامخت إذ ذاك وتواضع هو للّه تعالى شأنه فأكرمه سبحانه باستواء السفينة عليه ، من تواضع اللّه سبحانه رفعه ، وكان استواؤها عليه يوم عاشوراء فقد أخرج أحمد وغيره عن أبي هريرة قال : «مر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بأناس من اليهود وقد صاموا يوم عاشوراء فقال : ما هذا الصوم؟ فقيل : هذا اليوم الذي أنجى اللّه تعالى فيه موسى عليه السلام وبني إسرائيل من الغرق وغرق فيه فرعون ، وهذا يوم استوت فيه السفينة على الجودي فصامه نوح وموسى عليهما السلام شكرا للّه تعالى ، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : أنا أحق بموسى عليه السلام وأحق بصوم هذا اليوم فصامه وأمر أصحابه بالصوم»
وأخرج الأصبهاني في الترغيب عنه رضي اللّه تعالى عنه أنه اليوم الذي ولد فيه عيسى عليه

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 260
السلام أيضا وأن صيامه يعدل سنة مبرورة ، وكان ركوبه عليه السلام - فيما روي عن قتادة - في عشر خلون من رجب.
وأخرج ابن جرير عن عبد العزيز بن عبد الغفور عن أبيه مرفوعا أنه عليه السلام ركب في أول يوم من رجب فصام هو ومن معه وجرت بهم السفينة ستة أشهر فانتهى ذلك إلى المحرم فأرست السفينة على الجودي يوم عاشوراء فصام نوح عليه السلام وأمر جميع من معه من الوحش والدواب فصاموا شكرا للّه.
وفي بعض الآثار أنها طافت بهم الأرض كلها ولم تدخل الحرم لكنها طافت به أسبوعا وأن الحجر الأسود خبىء في جبل أبي قبيس وأن البيت رفع إلى السماء ، وفي رواية ابن عساكر عن مجاهد أنه لم يدخل الحرم من الماء شيء ،
والظاهر على هذا أنه لا خبء كما أنه لا رفع ، وعندي أن رواية ثبوتهما جميعا مما لا تكاد تصح ، وبفرض صحتها لا يظهر لي سر رفع البيت بلا حجر وخبء الحجر بلا بيت بل عندي في رفع البيت مطلقا تردد ، وإن كنت ممن لا يتردد في أن اللّه تعالى على كل شيء قدير وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي هلاكا لهم ، واللام صلة المصدر ، وقيل : متعلق بقيل وأن المعنى قيل لأجلهم بعدا وهو خلاف الظاهر ، والتعرض لوصف الظلم للإشعار بعليته للهلاك ولتذكير ما سبق في قوله سبحانه : وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا [هود : 37] ولا يخفى ما في هذه الآية أيضا من الدلالة على عموم هلاك الكفرة. ويشهد لذلك آيات أخر وأخبار كثيرة بل فيها ما هو على علاته ظاهر في عموم هلاك من على الأرض ما عدا أهل السفينة فعن عبيد بن عمير أن فيمن أصاب الغرق امرأة معها صبي لها فوضعته على صدرها فلما بلغها الماء وضعته على منكبها فلما بلغها الماء وضعته على يديها فقال اللّه سبحانه : لو رحمت أحدا من أهل الأرض لرحمتها ولكن حق القول مني.
وزعم بعضهم أنه لم ينج أحد من الكفار سوى عوج بن عوق وكان الماء يصل إلى حجرته ، وسبب نجاته أن نوحا عليه السلام احتاج إلى خشب ساج فلم يمكنه نقله فحمله عوج من الشام إليه عليه السلام فنجاه اللّه تعالى من الغرق لذلك ، وظاهر كلام القاموس يقتضي نجاته ، فقد ذكر فيه عوج بن عوق - بضمهما - رجل ولد في منزل آدم عليه السلام فعاش إلى زمن موسى عليه السلام ، والحق أنه لم ينج أحد من الكفار أصلا ، وخبر عوج يرويه هيان بن بيان فلا تعج إلى القول به ولا يشكل إغراق الأطفال الذين لا ذنب لهم لما أنه مجرد سبب للموت بالنسبة إليهم وأي محذور في إماتة من لا ذنب له وفي كل وقت يميت اللّه سبحانه من ذلك ما لا يحصى وهو جل شأنه المالك الحق والمتصرف المطلق يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، ولا يحتاج في الجواب إلى ما
أخرجه إسحاق بن بشر وابن عساكر عن عبد اللّه ابن زياد بن سمعان عن رجال سماهم أن اللّه تعالى أعقم رجالهم قبل الطوفان بأربعين عاما وأعقم نساءهم فلم يتوالدوا أربعين عاما منذ دعا نوح عليه السلام حتى أدرك الصغير فبلغ الحنث وصارت للّه تعالى عليهم الحجة ثم أنزل السماء عليهم بالطوفان إذ يبقى عليه مع ضعفه والتعارض بينه
وبين الخبر السابق آنفا أمر إهلاك ما لم يكن في السفينة من الحيوانات وقد جاء عن جعفر الصادق رضي اللّه تعالى عنه أن نوحا عليه السلام لما حمل من حمل في السفينة رأت البهائم والوحش والسباع العذاب فجعلت تلحس قدمه عليه السلام وتقول : احملنا معك فيقول : إنما أمرت أن أحمل من كل زوجين اثنين ولم يحملها وكذا لا يحتاج إلى الجواب بأن اللّه تعالى إنما أهلك أولئك الأطفال لعلمه جل شأنه بما كانوا فاعلين وذلك كما يقال في وجه إدخال أطفال الكفار النار يوم القيامة على قول من يراه لما أن فيه ما فيه ، وبالجملة إماتة الأحياء بأي سبب كان دفعة أو تدريجا مما لا محذور فيه ولا يسأل عنه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 261
هذا واعلم أن هذه الآية الكريمة قد بلغت من مراتب الإعجاز أقاصيها واستذلت مصاقع العرب فسفعت بنواصيها وجمعت من المحاسن ما يضيق عنه نطاق البيان وكانت من سمهري البلاغة مكان السنان ، يروى أن كفار قريش قصدوا أن يعارضوا القرآن فعكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصفوا أذهانهم فلما أخذوا فيما قصدوه وسمعوا هذه الآية قال بعضهم لبعض : هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين فتركوا ما أخذوا فيه وتفرقوا ، ويروى أيضا أن ابن المقفع - وكان كما في القاموس فصيحا بليغا ، بل قيل : إنه أفصح أهل وقته - رام أن يعارض القرآن فنظم كلاما وجعله مفصلا وسماه سورا فاجتاز يوما بصبي يقرؤها في مكتب فرجع ومحا ما عمل ، وقال : أشهد أن هذا لا يعارض أبدا وما هو من كلام البشر ، ولا يخفى أن هذا لا يستدعي أن لا يكون سائر آيات القرآن العظيم معجزا لما أن حد الإعجاز هو المرتبة التي يعجز البشر عن الإتيان بمثلها ولا تدخل على قدرته قطعا ، وهي تشتمل على شيئين : الأول الطرف الأعلى من البلاغة أعني ما ينتهي إليه البلاغة ولا يتصور تجاوزها إياه ، والثاني ما يقرب من ذلك الطرف أعني المراتب العلية التي تتقاصر القوى البشرية عنها أيضا ومعنى إعجاز آيات الكتاب المجيد بأسرها هو كونها مما تتقاصر القوى البشرية عن الإتيان بمثلها سواء كانت من القسم الأول أو الثاني ، فلا يضر تفاوتها في البلاغة وهو الذي قاله علماء هذا الشأن ، وأنشد بعض الفرس في ذلك :
در بيان ودر فصاحت كي بود يكسان سخن ور چه كوينده بود جون حافظ وجون أصمعي
در كلام ايزد بيجون كه وحي منزلست كي بود تيت يداجون قيل : يا أرض ابلعي
وقد فصل بعض مزايا هذه الآية المهرة المتقنون وتركوا من ذلك ما لا يكاد يصفه الواصفون ، ولا بأس بذكر شيء مما ذكر إفادة لجاهل وتذكير لفاضل غافل ، فنقول : ذكر العلامة السكاكي أن النظر فيها من أربع جهات : من جهة علم البيان ، ومن جهة علم المعاني وهما مرجعا البلاغة ومن جهة الفصاحة المعنوية ومن جهة الفصاحة اللفظية ، أما النظر فيها من جهة علم البيان وهو النظر فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بذلك من القرينة والترشيح والتعريض فهو أنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى أردنا أن نردّ ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد. وأن نقطع طوفان السماء فانقطع ، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض ، وأن نقضي أمر نوح عليه السلام وهو إنجاء ما كنا وعدناه من إغراق قومه فقضى ، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت وأبقينا الظلمة غرقى ، بنى سبحانه الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتى منه لكمال هيبته من الآمر العصيان ، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويرا لاقتداره سبحانه العظيم ، وأن هذه الأجرام العظيمة من السماوات والأرض تابعة لإرادته تعالى إيجادا وإعداما ولمشيئته فيها تغييرا أو تبديلا كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه جل شأنه حق معرفته وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره والإذعان لحكمه وتحتم بذل المجهود عليه في تحصيل مراده وتصوروا مزيد اقتداره فعظمت مهابته في نفوسهم وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم فكما يلوح لهم إشارته سبحانه كان المشار إليه مقدما ، وكما يرد عليهم أمره تعالى شأنه كان المأمور به متمما لا تلقى لإشارته بغير الإمضاء والانقياد ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال.
ثم بنى على مجموع التشبيهين نظم الكلام فقال جل وعلا : قِيلَ على سبيل المجاز عن الإرادة من باب ذكر المسبب وإرادة السبب لأن الإرادة تكون سببا لوقوع القول في الجملة وجعل قرينة هذا المجاز خطاب الجماد وهو يا أَرْضُ وَيا سَماءُ إذ يصح أن يراد حصول شيء متعلق بالجماد ولا يصح القول له ثم قال سبحانه كما ترى : يا أَرْضُ وَيا سَماءُ مخاطبا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور ، والظاهر أنه أراد أن هناك استعارة بالكناية حيث ذكر المشبه أعني السماء والأرض المراد منهما حصول أمر وأريد المشبه به أعني المأمور

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 262
الموصوف بأنه لا يتأتى منه العصيان ادعاء بقرينة نسبة الخطاب إليه ودخول حرف النداء عليه - وهما من خواص المأمور المطيع - ويكون هذا تخييلا.
وقد يقال : أراد أن الاستعارة هاهنا تصريحية تبعية في حرف النداء بناء على تشبيه تعلق الإرادة بالمراد منه بتعلق النداء والخطاب بالمنادى المخاطب وليس بشيء إذ لا يحسن هذا التشبيه ابتداء بل تبعا للتشبيه الأول فكيف يجعل أصلا لمتبوعه؟! على أن قوله للشبه المذكور يدفع هذا الحمل ، ثم استعار لغور الماء في الأرض البلع الذي هو اعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي.
وفي الكشاف جعل البلع مستعارا لنشف الأرض الماء وهو أولى ، فإن النشف دال على جذب من أجزاء الأرض لما عليها كالبلع بالنسبة إلى الحيوان ، ولأن النشف فعل الأرض والغور فعل الماء مع الطباق بين الفعلين تعديا ، ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام ، وجعل قرينة الاستعارة لفظة ابْلَعِي لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء.
ولا يخفى عليك أنه إذا اعتبر مذهب السلف في الاستعارة يكون ابْلَعِي استعارة تصريحية ومع ذلك يكون بحسب اللفظ قرينة للاستعارة بالكناية في الماء على حد ما قالوا في : يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ [البقرة : 27 ، الرعد :
25] وأما إذا اعتبر مذهبه فينبغي أن يكون البلع باقيا على حقيقته كالإنبات في أنبت الربيع البقل وهو بعيد ، أو يجعل مستعارا لأمر متوهم كما في نطقت الحال ، فيلزمه القول بالاستعارة التبعية كما هو المشهور ، ثم إنه تعالى أمر على سبيل الاستعارة للتشبيه الثاني وخاطب في الأمر ترشيحا لاستعارة النداء.
والحاصل أن في لفظ ابْلَعِي باعتبار جوهره استعارة لغور الماء وباعتبار صورته أعني كونه صورة أمر استعارة أخرى لتكوين المراد وباعتبار كونه أمر خطاب ترشيح للاستعارة المكنية التي في المنادى فإن قرينتها النداء وما زاد على قرينة المكنية يكون ترشيحا لها ، وأما جعل النداء استعارة تصريحية تبعية حتى يكون خطاب الآمر ترشيحا لها فقد عرفت ما فيه ، ثم قال جل وعلا : ماءَكِ بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك ، واختار ضمير الخطاب لأجل الترشيح ، وحاصله أن هناك مجازا لغويا في الهيئة الإضافية الدالة على الاختصاص الملكي ولهذا جعل الخطاب ترشيحا لهذه الاستعارة من حيث إن الخطاب يدل على صلوح الأرض للمالكية فما قيل : إن المجاز عقلي والعبارة مصروفة عن الظاهر ليس بشيء ، ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان من المطر أو الفعل ففي أَقْلِعِي استعارة باعتبار جوهره وكذا باعتبار صيغته أيضا وهي مبنية على تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ ، والخطاب فيه أيضا ترشيح لاستعارة النداء ، والحاصل أن الكلام فيه مثل ما مر في ابْلَعِي ثم قال سبحانه : وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً فلم يصرح جل وعلا بمن غاض الماء ولا بمن قضى الأمر وسوى السفينة وقال بعدا كما لم يصرح سبحانه بقائل يا أَرْضُ وَيا سَماءُ في صدر الآية سلوكا في كل واحد من ذلك لسبيل الكناية لأن تلك الأمور العظام لا تصدر إلا من ذي قدرة لا يكتنه قهار لا يغالب فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره جلت عظمته قائلا : يا أَرْضُ ويا سَماءُ ولا غائض ما غاض ولا قاضي مثل ذلك الأمر الهائل ، أو أن يكون تسوية السفينة وإقرارها بتسوية غيره.
والحاصل أن الفعل إذا تعين لفاعل بعينه استتبع لذلك أن يترك ذكره ويبني الفعل لمفعوله ، أو يذكر ما هو أثر لذلك الفعل على صيغة المبني للفاعل ، ويسند إلى ذلك المفعول فيكون كناية عن تخصيص الصفة التي هي الفعل بموصوفها ، وهذا أولى مما قيل في تقرير الكناية هنا : إن ترك ذكر الفاعل وبناء الفعل للمفعول من لوازم العلم بالفاعل

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 263
وتعينه لفاعلية ذلك الفعل فذكر اللازم وأريد الملزوم لما أن استوت غير مبني للمفعول - كقيل وغيض - ثم إنه تعالى ختم الكلام بالتعريض تنبيها لسالكي مسلك أولئك القوم في تكذيب الرسل عليهم السلام ظلما لأنفسهم لا غير ختم إظهار لمكان السخط ولجهة استحقاقهم إياه وأن قيامة الطوفان وتلك الصورة الهائلة ما كانت إلا لظلمهم كما يؤذن بذلك الدعاء بالهلاك بعد هلاكهم والوصف بالظلم مع تعليق الحكم به ، وذكر بعضهم أن البعد في الأصل ضد القرب وهو باعتبار المكان ويكون في المحسوس ، وقد يقال في المعقول نحو ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً [النساء : 167] واستعماله في الهلاك مجاز ، قال ناصر الدين : يقال بعد بعدا بضم فسكون وبعدا بالتحريك إذا بعد بعدا بعيدا بحيث لا يرجى عوده ، ثم استعير للهلاك وخص بدعاء السوء ولم يفرق في القاموس بين صيغتي الفعل في المعنيين حيث قال :
البعد معروف والموت وفعلهما - ككرم وفرح - بعدا وبعدا فافهم.
وزعم بعضهم أن الأرض والسماء أعطيتا ما يعقلان به الأمر فقيل لهما حقيقة ما قيل ، وأن القائل بُعْداً نوح عليه السلام ومن معه من المؤمنين ، ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر ولا أثر فيه يعول عليه ، والكلام على الأول أبلغ ، وأما النظر فيها من جهة علم المعاني وهو النظر في فائدة كل كلمة فيها وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها فذلك أنه اختير يا دون سائر أخواتها لكونها أكثر في الاستعمال وأنها دالة على بعد المنادى الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة وإبداء شأن العزة والجبروت ، وهو تبعيد المنادى المؤذن بالتهاون به ولم يقل يا أَرْضُ بالكسر لأن الإضافة إلى نفسه جل شأنه تقتضي تشريفا للأرض وتكريما لها فترك إمدادا للتهاون لم يقل يا أيتها الأرض مع كثرته في نداء أسماء الأجناس قصدا إلى الاختصار والاحتراز عن تكلف التنبيه المشعر بالغفلة التي لا تناسب ذلك المقام ، واختير لفظ الأرض والسماء على سائر أسمائهما كالمقلة والغبراء وكالمظلة والخضراء لكونهما أخصر وأورد في الاستعمال وأوفى بالمطابقة ، فإن تقابلهما إنما اشتهر بهذين الاسمين ، واختير لفظ ابْلَعِي على ابتلعي لكونه أخصر وأوفر تجانسا - باقلعي - لأن همزة الوصل إن اعتبرت تساويا في عدد الحروف وإلا تقاربا فيه بخلاف ابتلعي ، وقيل :
ماءَكِ بالإفراد دون الجمع لما فيه من صورة الاستكثار المتأبى عنها مقام إظهار الكبرياء وهو الوجه في إفراد الأرض والسماء وإنما لم يقل ابْلَعِي بدون المفعول لئلا يستلزم تركه ما ليس بمراد من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وساكنات الماء بأسرهن نظرا إلى مقام عظمة الآمر المهيب وكمال انقياد المأمور ، ولما علم أن المراد بلع الماء وحده علم أن المقصود بالإقلاع إمساك السماء عن إرسال الماء فلم يذكر متعلق أَقْلِعِي اختصارا واحترازا عن الحشو المستغنى عنه وهذا هو السبب في ترك ذكر حصول المأمور به بعد الأمر فلم يقل قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي فبلعت وَيا سَماءُ أَقْلِعِي فقلعت لأن مقام الكبرياء وكمال الانقياد يغني عن ذكره الذي ربما أوهم إمكان المخالفة ، واختير غيض على غيض المشدد لكونه أخصر.
وقيل : الماء دون ماء طوفان السماء ، وكذا الأمر دون أمر نوح وهو إنجاز ما وعد لقصد الاختصار ، والاستغناء بحرف التعريف عن ذلك لأنه إما بدل من المضاف إليه كما هو مذهب الكوفية ، وإما لأنه يغني غناء الإضافة في الإشارة إلى المعهود ، واختير استوت على سويت أي أقرت مع كونه أنسب بأخواته المبنية للمفعول اعتبارا لكون الفعل المقابل للاستقرار أعني الجريان منسوبا إلى السفينة على صيغة المبني للفاعل في قوله تعالى : وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ مع أن اسْتَوَتْ أخصر من سويت ، واختير المصدر أعني بُعْداً على ليبعد القوم طلبا لتأكيد معنى الفعل بالمصدر مع الاختصار في العبارة وهو نزول بُعْداً وحده منزلة ليبعدوا بعدا مع فائدة أخرى هي الدلالة على استحقاق الهلاك بذكر اللام ، وإطلاق الظلم عن مقيداته في مقام المبالغة يفيد تناول كل نوع فيدخل فيه ظلمهم على

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 264
أنفسهم لزيادة التنبيه على فظاعة سوء اختيارهم في التكذيب من حيث إن تكذيبهم للرسل ظلم على أنفسهم لأن ضرره يعود إليهم ، هذا من حيث النظر إلى تركيب الكلم ، وأما من حيث النظر إلى ترتيب الجمل فذلك أنه قدم النداء على الأمر فقيل : يا أَرْضُ ابْلَعِي وَيا سَماءُ أَقْلِعِي دون أن يقال : ابلعي يا أرض ، واقلعي يا سماء جريا على مقتضى اللازم فيمن كان مأمورا حقيقة من تقديم التنبيه ليتمكن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادى قصدا بذلك لمعنى الترشيح للاستعارة المكنية في الأرض والسماء ، ثم قدم أمر الأرض على أمر السماء لكونها الأصل نظرا إلى كون ابتداء الطوفان منها حيث فار تنورها أولا ، ثم جعل قوله سبحانه : وَغِيضَ الْماءُ تابعا لأمر الأرض والسماء لاتصاله بقصة الماء وأخذه بحجزتها ، ألا ترى أصل الكلام قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ فبلعت ماءها وَيا سَماءُ أَقْلِعِي عن إرسال الماء فأقلعت عن إرساله وَغِيضَ الْماءُ النازل من السماء فغاض.
وقيد الماء بالنازل وإن كان في الآية مطلقا لأن ابتلاع الأرض ماءها فهم من قوله سبحانه : ابْلَعِي ماءَكِ.
واعترض بأن الماء المخصوص بالأرض إن أريد به ما على وجهها فهو يتناول القبيلين الأرضي والسمائي وإن أريد به ما نبع منها فاللفظ لا يدل عليه بوجه ، ولهذا حمل الزمخشري الماء على مطلقه ، وأشعر كلامه بأن غيض الماء إخبار عن الحصول المأمور به من قوله سبحانه : يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي فالتقدير قيل لهما ذلك فامتثلا الأمر ونقص الماء.
ورجح الطيبي ما ذهب إليه السكاكي زاعما أن معنى الغيض حينئذ ما قاله الجوهري ، وهو عنده مخالف للمعنى الذي ذكره الزمخشري فقال : إن إضافة الماء إلى الأرض لما كانت ترشيحا للاستعارة تشبيها لاتصاله بها باتصال الملك بالمالك ولذا جيء بضمير الخطاب اقتضت إخراج سائر المياه سوى الذي بسببه صارت الأرض مهيأة للخطاب بمنزلة المأمور المطيع وهو المعهود في قوله تعالى : وَفارَ التَّنُّورُ وبهذا الاعتبار يحصل التواغل في تناسي التشبيه والترشيح ، ولو أجريت الإضافة على غير هذا تكون كالتجريد وكم بينهما ، هذا ولو حمل على العموم لاستلزام تعميم ابتلاعه المياه بأسرها لورود الأمر من مقام العظمة كما علمت من كلام السكاكي ، وليس بذاك ، وتعقبه في الكشف بأنه دعوى بلا دليل ورد يمين إذ لا معهود ، والظاهر ما على وجه الأرض من الماء ولا ينافي الترشيح وإضافة المالكية ، ثم الظاهر من تنزيل الماء منزلة الغذاء أن تجعل الإضافة من باب إضافة الغذاء إلى المغتذي في النفع والتقوية وصيرورته جزءا منه ولا نظر فيه إلى كونه مملوكا أو غير ذلك ، وأما التعميم فمطلوب وحاصل على التفسيرين لانحصار الماء في الأرضي والسمائي ، وقد قلتم بنضوبهما من قوله سبحانه فبلعت.
وقوله تعالى : وَغِيضَ ولا شك أن ما عندنا من الماء غير ماء الطوفان ، هذا والمطابق تفسير الزمخشري ، ألا ترى إلى قوله جل وعلا : فَالْتَقَى الْماءُ أي الأرضي والسمائي ، وهاهنا تقدم الماءان في قوله سبحانه : ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي لأن تقديره عن إرسال الماء على زعمهم ، فإذا قيل : وغيض الماء رجع إليهما لا محالة لتقدمهما ، ثم إذا جعل من توابع أَقْلِعِي خاصة لم يحسن عطفه على أصل القصة أعني وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي كيف وفي إيثار هذا التفسير الإشارة إلى أنه زال كونه طوفانا لأن نقصان الماء غير الإذهاب بالكلية ، وإلى أن الأجزاء الباطنة من الأرض لم تبق على ما كانت عليه من قوة الإنباع ورجعت إلى الاعتدال المطلوب وليس في الاختصاص بالنضوب هذا المعنى البتة انتهى.
وزعم الطبرسي أن أئمة البيت رضي اللّه تعالى عنهم على أن الماء المضاف هو ما نبع وفار وأنه هو الذي ابتلع وغاض لا غير ، وأن ماء السماء صار بحارا أو نهارا.
وأخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن ابن عباس ما يؤيده ، وهذا مخالف لما يقتضيه كلام السكاكي مخالفة

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 265
ظاهرة ، وفي القلب من صحته ما فيه ، ثم إنه تعالى أتبع غيض الماء ما هو المقصود الأصلي من القصة ، وهو قوله جلت عظمته : وَقُضِيَ الْأَمْرُ ثم أتبع ذكر المقصود حديث السفينة لتأخره عنه في الوجود ، ثم ختمت القصة بالتعريض الذي علمته ، وهذا كله نظر في الآية من جانبي البلاغة ، وأما النظر فيها من جانب الفصاحة المعنوية فهي كما ترى نظم للمعاني لطيف. وتأدية لها ملخصة مبينة لا تعقيد يعثر الكفر في طلب المراد ولا التواء يشيك الطريق إلى المرتاد بل إذا جربت نفسك عند استماعها وجدت ألفاظها تسابق معانيها ومعانيها تسابق ألفاظها فما من لفظة فيها تسبق إلى أذنك إلا ومعناها أسبق إلى قلبك ، وأما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية فألفاظها على ما ترى عربية مستعملة جارية على قوانين اللغة سليمة عن التنافر بعيدة عن البشاعة عذبة على العذبات سلسلة على الإسلات كل منها كالماء في السلالة وكالعسل في الحلاوة وكالنسيم في الرقة ، وللّه تعالى در التنزيل ماذا جمعت آياته :
وعلى تفنن واصفيه بحسنه يفني الزمان وفيه ما لم يوصف
وما ذكر في شرح مزايا هذه الآية بالنسبة إلى ما فيها قطرة من حياض وزهرة من رياض ، وقد ذكر ابن أبي الأصبع أن فيها عشرين ضربا من البديع مع أنها سبع عشرة لفظة وذلك المناسبة التامة في ابْلَعِي وأَقْلِعِي والاستعارة فيهما والطباق بين الأرض والسماء والمجاز في يا سَماءُ فإن الحقيقة يا مطر السماء ، والإشارة في وَغِيضَ الْماءُ فإنه عبر به عن معان كثيرة لأن الماء لا يغيض حتى يقلع مطر السماء وتبلع الأرض ما يخرج منها فينقص ما على وجه الأرض ، والإرداف في وَاسْتَوَتْ والتمثيل في وَقُضِيَ الْأَمْرُ والتعليل فإن غيض الماء علة للاستواء وصحة التقسيم فإنه استوعب أقسام الماء حال نقصه والاحتراس في الدعاء لئلا يتوهم أن الغرق لعمومه شمل من لا يستحق الهلاك فإن عدله تعالى يمنع أن يدعو على غير مستحق ، وحسن النسق وائتلاف اللفظ مع المعنى والإيجاز فإنه سبحانه قص القصة مستوعبة بأخصر عبارة ، والتسهيم لأن أول الآية يدل على آخرها ، والتهذيب لأن مفرداتها موصوفة بصفات الحسن ، وحسن البيان من جهة أن السامع لا يتوقف في فهم معنى الكلام ولا يشكل عليه شيء منه ، والتمكين لأن الفاصلة مستقرة في محلها مطمئنة في مكانها ، والانسجام ، وزاد الجلال السيوطي بعد أن نقل هذا عن ابن أبي الأصبع الاعتراض ، وزاد آخرون أشياء كثيرة إلا أنها ككلام ابن أبي الأصبع قد أشير إليها بأصبع الاعتراض ، وقد ألف شيخنا علاء الدين - أعلى اللّه تعالى درجته في أعلى عليين - رسالة في هذه الآية الكريمة جمع فيها ما ظهر له ووقف عليه من مزاياها فبلغ ذلك مائة وخمسين مزية ، وقد تطلبت هذه الرسالة لأذكر شيئا من لطائفها فلم أظفر بها وكأن طوفان الحوادث أغرقها ، ولعل فيما نقلناه سدادا من عوز ، واللّه تعالى الموفق للصواب وعنده علم الكتاب.
وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ أي أراد ذلك بدليل تفريع قوله سبحانه : فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي عليه ، وقيل :
النداء على حقيقته والعطف بالفاء لكون حق التفصيل يعقب الإحمال وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ أي وإن وعدك ذلك أو كل وعد تعده حق لا يتطرق إليه خلف فيدخل فيه الوعد المعهود دخولا أوليا.
وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ لأنك أعلمهم وأعدلهم ، وقد ذكر أنه إذا بنى أفعل من الشيء الممتنع من التفضيل والزيادة يعتبر فيما يناسب معناه معنى الممتنع ، وقال العز بن عبد السلام في أماليه : إن هذا ونحوه من أرحم الراحمين وأحسن الخالقين مشكل لأن أفعل لا يضاف إلا إلى جنسه ، وهنا ليس كذلك لأن الخلق من اللّه سبحانه بمعنى الإيجاد ومن غيره بمعنى الكسب وهما متباينان يعني على المشهور من مذهب الأشاعرة ، والرحمة من اللّه تعالى إن حملت على الإرادة أو جعلت من مجاز التشبيه صح وإن أريد إيجاد فعل الرحمة كان مشكلا أيضا إذ لا موجد سواه سبحانه ،

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 266
وأجاب الآمدي بأنه بمعنى أعظم من يدعي بهذا الاسم ، واستشكل بأن فيه جعل التفاضل في غير ما وضع اللفظ بإزائه وهو يناسب مذهب المعتزلة فافهم ، وقيل : المعنى هنا أنك أكثر حكمة من ذوي الحكم على أن الحاكم من الحكم كالدارع من الدرع ، واعترض عليه بأن الباب ليس بقياسي وأنه لم يسمع حاكم بمعنى حكيم وأنه لا يبنى منه أفعل إذا لأنه ليس جاريا على الفعل لا يقال : ألبن وأتمر من فلان إذا لا فعل بذلك المعنى ، والجواب بأنه قد كثر في كلامهم فجوز على أن يكون وجها مرجوحا وبأنه من قبيل أحنك الشاتين لا يخلو عن تعسف كما في الكشف ، وتعقب بأن للحكمة فعلا ثلاثيا وهو حكم ، وأفعل من الثلاثي مقيس ، وأيضا سمع احتنك الجراد وألبن وأتمر فغايته أن يكون من غير الثلاثي ولا يخفى ما فيه ، ومنهم من فسره على هذا بأعلمهم بالحكمة كقولهم : آبل من أبل بمعنى أعلم وأحذق بأمر الإبل ، وأيا ما كان فهذا النداء منه عليه السلام يقطر منه الاستعطاف ، وجميل التوسل إلى من عهده منعما مفضلا في شأنه أولا وآخرا وهو على طريقة دعاء أيوب عليه السلام إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء :
83] فيكون ذلك قبل الغرق ، والواو لا تقتضي الترتيب ، وقيل : إن النداء إنما كان بعده والمقصود منه الاستفسار عن سبب عدم إنجائه مع سبق وعده تعالى بإنجاء أهله وهو منهم ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى قريبا تمام الكلام في ذلك قالَ استئناف بياني كأنه قيل ، ما قال له ربه سبحانه حين ناداه بذلك؟ فقيل : قال : يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ أي ليس منهم أصلا لأن مدار الأهلية هو القرابة الدينية وقد انقطعت بالكفر فلا علاقة بين مسلم وكافر ولذا لم يتوارثا ، وقد ذكروا أن قرابة الدين أقرب من قرابة النسب كما أشار إلى ذلك أبو فراس بقوله :
كانت مودة سلمان له نسبا ولم يكن بين نوح وابنه رحم
أو لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ الذين أمرتك بحملهم في الفلك لخروجه عنهم بالاستثناء ، وحكي هذا عن ابن جرير وعكرمة ، والأول عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وعلى القولين ليس هو من الذين وعد بإنجائهم ، وكأنه لما كان دعاؤه عليه السلام بتذكير وعده جل ذكره مبنيا على كون كنعان من أهله نفى أولا كونه منهم ، ثم علل عدم كونه منهم على طريقة الاستئناف التحقيقي بقوله سبحانه : إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ وأصله إنه ذو عمل فاسد فحذف ذو للمبالغة بجعله عين عمله لمداومته عليه ، ولا يقدر المضاف لأنه حينئذ تفوت المبالغة المقصودة منه ، ونظير ذلك ما في قول الخنساء ترثي أخاها صخرا.
ما أم سقب على بو تحن له قد ساعدتها على التحنان آظار
ترتع ما رتعت حتى إذا ادّكرت فإنما هي إقبال وإدبار
يوما بأوجع مني حين فارقني صخر وللعيش إحلاء وإمرار
وأبدل فاسد بغير - صالح - إما لأن الفاسد ربما يطلق على ما فسد ومن شأنه الصلاح فلا يكون نصا فيما هو من قبيل الفاسد المحض كالمظالم ، وإما للتلويح بأن نجاة من نجا إنما هو لصلاحه.
وقرأ الكسائي ويعقوب «إنه عمل غير صالح» على صيغة الماضي ، ونصب «غير» وهي قراءة عليّ كرم اللّه تعالى وجهه وابن عباس وأنس وعائشة ، وقد روتها هي وأم سلمة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، والأصل عمل عملا غير صالح ، وبه قرىء أيضا كما روي عن عكرمة فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه ، وذلك شائع مطرد عند انكشاف المعنى وزوال اللبس ، وضعفه بعضهم هنا بأن العرب لا تكاد تقول : عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ وإنما تقول عمل عملا غير صالح ، وليس بشيء ، وأيد بهذه القراءة كون ضمير إنه في القراءة الأولى لابن نوح لأنه فيها له قطعا فيضعف ما قيل : إنه في الأولى لترك الركوب معهم والتخلف عنهم أي إن ذلك الترك عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ على أنه خلاف الظاهر في نفسه كما لا

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 267
يخفى. ومثله في ذلك ما قيل : إنه لنداء نوح عليه السلام أي إن نداءك هذا عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ وتخرج بذلك الجملة عن أن تكون تعليلا لما تقدم ويفوت ما في ذاك من الفائدة ولا يكون الكلام على مساق واحد ، نعم روي عن ابن عباس ما يقتضيه فقد أخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عنه أنه قال : إن نساء الأنبياء عليهم السلام لا يزنين ، ومعنى الآية مساءلتك إياي يا نوح عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ لا أرضاه لك.
وفي رواية ابن جرير عنه سؤالك ما ليس لك به علم غير صالح ، ولعل ذلك لم يثبت عن هذا الحبر لأن الظاهر من الرواية الأولى أنه إنما جعل الضمير للمسألة دون ابن نوح لما في ذلك من نسبة الزنا إلى من لا ينسب إليه وهو رضي اللّه تعالى عنه أجل قدرا من أن يخفى عليه أنه لا يلزم من ذلك هذا المحذور ، ثم إنه لما كان دعاؤه عليه السلام مبنيا على كون كنعان من أهله وقد نفى ذلك وحقق ببيان علته فرع على ذلك النهي عن سؤال إنجائه إلا أنه جيء بالنهي على وجه عام يندرج فيه ما ذكر اندراجا أوليا فقال سبحانه : فَلا تَسْئَلْنِ أي إذا وقفت على جلية الحال فلا تطلب مني ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي مطلبا لا تعلم يقينا أن حصوله صواب وموافق للحكمة على تقدير كون ما عبارة عن المسئول الذي هو مفعول للسؤال أو طلبا لا تعلم أنه صواب على تقدير كونه عبارة عن المصدر الذي هو مفعول مطلق فيكون النهي واردا بصريحه في كل من معلوم الفساد ومشتبه الحال قاله شيخ الإسلام ، وجوز أن يكون ما ليس لك علم بأنه صواب أو غير صواب وهو الذي ذهب إليه القاضي فيكون النهي واردا في مشتبه الحال ويفهم منه حال معلوم الفساد بالطريق الأولى ، وأيا ما كان فهو عام يندرج تحته ما نحن فيه كما ذكرنا ، وسمي النداء سؤالا لتضمنه إياه وإن لم يصرح به كما لا يخفى ، وبه على ما نقل عن أبي علي إما متعلق بما يدل عليه العلم المذكور وإن لم يتسلط عليه كقوله :
ربيته حتى إذا تمعددا كان جزائي بالعصا أن أجلدا
وإما أن يتعلق بالمستقر في ذلك وكذا الكلام فيما سيأتي إن شاء اللّه تعالى ، والآية ظاهرة في أن نداءه عليه السلام لم يكن استفسارا عن سبب عدم إنجائه مع تحقق سبب الإنجاء فيما عنده كما جوزه القاضي بناء على أنه كان بعد الغرق بل هو دعاء منه عليه السلام لإنجاء ابنه حين حال الموج بينهما ولم يعلم بهلاكه بعد إما بتقريبه إلى الفلك بتلاطم الأمواج مثلا أو بتقريبها إليه ، وقيل : أو بإنجائه بسبب آخر ويأباه تذكير الوعد في الدعاء فإنه مخصوص بالإنجاء في الفلك ، ومجرد حيلولة الموج لا يستوجب الهلاك فضلا عن العلم به لظهور إمكان عصمة اللّه تعالى عليه إياه برحمته ، وقد وعده بإنجاء أهله ولم يعتقد أن فيه مانعا من الانتظام في سلكهم لمكان النفاق وعدم المجاهرة بالكفر لما في ذلك لفظا من الاحتياج إلى القول بالحذف والإيصال ، ومعنى من أن النهي عن الاستفسار عما لا يعلم غير موافق للحكمة إذ عدم العلم بالشيء داع إلى الاستفسار عنه لا إلى تركه.
وقيل : إن السؤال عن موجب عدم النجاة مع ما فيه من الجرأة ، وشبه الاعتراض فيه أنه تعين له عليه السلام أنه من المستثنين بهلاكه فهو غير سديد كيف ونداؤه ذاك مما يقطر منه الاستعطاف.
وقيل : إن النهي إنما هو عن سؤال ما لا حاجة إليه إما لأنه لا يهمّ أو لأنه قامت القرائن على حاله لا عن السؤال للاسترشاد فلا ضير إذن في كلام القاضي وهو كما ترى :
ولا يصلح العطار ما أفسد الدهر فالحق أن ذلك مسألة الإنجاء ، وكان قبل تحقق الغرق عند رؤية المشارفة عليها ولم يكن عالما بكفره إذ ذاك لأنه لم يكن مجاهرا به وإلا لم يدع له بل لم يدعه أيضا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ لا يدل على أنه كافر عنده بل هو

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 268
نهي عن الدخول في غمارهم ، وقطع بأن ذلك يوجب الغرق على الطريق البرهاني كما قدمنا ، وكأنه عليه السلام حمل مقاولته على غير المكابرة والتعنت لغلبة المحبة وذهوله عن إعطاء التأمل حقه فلذلك طلب ما طلب ، فعوتب بأن مثله في معرض الإرشاد والقيام بأعباء الدعوة تلك المدة المتطاولة لا ينبغي أن يشتبه عليه كلام المسترشد والمعاند ، ويرجع هذا إلى ترك الأولى ، وهو المراد بقوله : إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ.
وذكر شيخ الإسلام أن اعتزاله قصده الالتجاء إلى الجبل ليس بنص في الإصرار على الكفر لظهور جواز أن يكون ذلك لجهله بانحصار النجاة في الفلك ، وزعمه أن الجبل أيضا يجري مجراه أو لكراهة الاحتباس في الفلك بل قوله : سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ بعد ما قال له نوح وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ ربما يطعمه عليه السلام في إيمانه حيث لم يقل أكون معهم أو سنأوي أو يعصمنا فإن إفراد نفسه بنسبة الفعلين المذكورين ربما يشعر بانفراده من الكافرين واعتزاله عنهم وامتثاله ببعض ما أمره به نوح عليه السلام إلا أنه عليه السلام لو تأمل في شأنه حق التأمل وتفحص عن أحواله في كل ما يأتي وما يذر لما اشتبه عليه أنه ليس بمؤمن وأنه مستثنى من أهله ولذلك قيل له :
إِنِّي إلخ ، وهو ظاهر في أن مدار العتاب الاشتباه كما ذكرنا ، وإليه ذهب الزمخشري قال : إن اللّه تعالى قدم إليه عليه السلام الوعد بإنجاء أهله مع استثناء من سبق عليه القول منهم فكان عليه أن يعتقد أن في الجملة من هو مستوجب للعذاب لكونه غير صالح وأن كلهم ليسوا بناجين وأن لا تخالجه شبهة حين شارف ولده الغرق في أنه من المستثنين لا من المستثنى منهم فعوتب على أن اشتبه عليه ما يجب أن لا يشتبه ، وكأنه أراد أن الاستثناء دل على أن المعنى المعتبر الصلاح لا القرابة فكان ينبغي أن يجعله الأصل ويتفحص في الأهل عن وجوده ، وأن يجعل كلهم سواسية في استحقاق العذاب إلا من علم صلاحه وإيمانه لا أن يجعل كونه من الأهل أصلا فيسأل إنجاءه مع الشك في إيمانه فقد قصر فيما كان عليه بعض التقصير وأولي العزم مؤاخذون بالنقير والقطمير وحسنات الأبرار سيئات المقربين ، وابن المنير لم يرض كون ذلك عتابا قال : وفي كلام الزمخشري ما يدل على أنه يعتقد أن نوحا عليه السلام صدر منه ما أوجب نسبة الجهل إليه ومعاتبته على ذلك وليس الأمر كما تخيله ، ثم قال : ونحن نوضح أن الحق في الآية منزلا على نصها مع تبرئة نوح عليه السلام مما توهم الزمخشري نسبته إليه فنقول : لما وعد عليه السلام بتنجية أهله إلا من سبق عليه القول منهم ولم يكن كاشفا لحال ابنه ولا مطلعا على باطن أمره بل كان معتقدا بظاهر الحال أنه مؤمن بقي على التمسك بصيغة العموم للأهلية الثابتة ولم يعارضها يقين في كفر ابنه حتى يخرج من الأهل ويدخل في المستثنين فسأل اللّه تعالى فيه بناء على ذلك فبين له أنه في علمه من المستثنين وأنه هو لا علم له بذلك فلذلك سأل فيه ، وهذا بأن يكون إقامة عذر أولى منه من أن يكون عتبا فإن نوحا عليه السلام لا يكلفه اللّه تعالى علم ما استأثر به غيبا وأما قوله سبحانه : إِنِّي أَعِظُكَ إلخ فالمراد النهي عن وقوع السؤال في المستقبل بعد أن أعلمه سبحانه
باطن أمره وأنه إن وقع في المستقبل في السؤال كان من الجاهلين ، والغرض من ذلك تقديم ما يبقيه عليه السلام على سمت العصمة ، والموعظة لا تستدعي وقوع ذنب بل المقصد منها أن لا يقع الذنب في الاستقبال ولذلك امتثل عليه السلام ذلك واستعاذ باللّه سبحانه أن يقع منه ما نهى عنه كما يدل عليه قوله سبحانه : قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ولا يخفى سقوطه على ما علمت وهو خلاف الظاهر جدا ، وقد جاء عن الفضيل بن عياض أنه قال : بلغني أن نوحا عليه السلام بكى عن قول اللّه تعالى له ما قال أربعين يوما ، وأخرج أحمد في الزهد عن وهيب بن الورد الحضرمي قال : لما عاتب اللّه تعالى نوحا في ابنه وأنزل عليه إِنِّي أَعِظُكَ بكى ثلاثمائة عام حتى صار تحت عينيه مثل الجدول من البكاء.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 269
وزعم الواحدي أن السؤال قبل الغرق ومع العلم بكفره ، وذلك أن نوحا عليه السلام لم يعلم أن سؤاله ربه نجاة ولده محظور عليه مع إصراره على الكفر حتى أعلمه اللّه تعالى ذلك ، واعترض بأنه إذا كان عالما بكفره مع التصريح بأن في أهله من يستحق العذاب كان طلب النجاة منكرا من المناكير فتدبر ، والظاهر على ما قررنا أن قوله : رَبِّ إلخ توبة مما وقع منه عليه السلام وما هنا أيضا عبارة إما عن المسئول أو عن السؤال أي أعوذ بك أن أطلب منك من بعد مطلوبا لا أعلم أن حصوله مقتضى الحكمة أو طلبا لا أعلم أنه صواب سواء كان معلوم الفساد أو مشتبه الحال ، أو لا أعلم أنه صواب أو غير صواب ، ولم يقل أعوذ بك منه أو من ذلك مبالغة في التوبة وإظهارا للرغبة والنشاط فيها وتبركا بذكر ما لقنه اللّه تعالى وهو أبلغ من أن يقول : أتوب إليك أن أسألك لما فيه من الدلالة على كون ذلك أمرا هائلا محذورا لا محيص منه إلا بالعوذ باللّه تعالى وأن قدرته عليه السلام قاصرة عن النجاة من المكاره إلا بذلك كما في إرشاد العقل السليم ، واحتمال أن يكون فيه رد وإنكار نظير ما في [البقرة : 67] من قول موسى عليه السلام :
أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ مما لا يكاد يمر بفكر أحد من الجاهلين.
هذا وفي مصحف ابن مسعود إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ أن تسألني ، ورجح به كون ضمير إِنَّهُ في القراءة المتواترة للنداء المتضمن للسؤال ، وقرأ ابن كثير فَلا تَسْئَلْنِ بفتح اللام وتشديد النون مفتوحة وهي قراءة ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وكذا قرأ نافع وابن عامر غير أنهما كسرا النون على أن أصله تسألنني فحذفت نون الوقاية لاجتماع النونات وكسرت الشديدة للياء ثم حذفت الياء اكتفاء بالكسرة ، وقرأ أبو جعفر وشيبة وزيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما كذلك إلا أنهم أثبتوا الياء بعد النون وأمره ظاهر ، وقرأ الحسن وابن أبي مليكة «تسألني» من غير همز من سال يسال فهما يساولان ، وهي لغة سائرة ، وقرأ باقي السبعة بالهمز وإسكان اللام وكسر النون وتخفيفها. وأثبت الياء في الوصل ورش وأبو عمرو ، وحذفها الباقون وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي ما صدر عني من السؤال المذكور وَتَرْحَمْنِي بقبول توبتي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ أعمالا بسبب ذلك وتأخير ذكر هذا عن حكاية الأمر الوارد على الأرض والسماء وما يتلوه مع أن حقه أن يذكر عقيب قوله سبحانه : فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ حسبما وقع في الخارج على ما علمت من أن النداء كان لطلب الإنجاء قبل العلم بالهلاك قيل : ليكون على أسلوب قصة البقرة في سورتها دلالة على استقلال هذا المعنى بالغرض لما فيه من النكت من جعل قرابة الدين غامرة لقرابة النسب وأن لا يقدم في الأمور الدينية الأصولية إلا بعد اليقين ، وتعقب بالفرق بين ما هنا وما هناك عند من كان ذا قلب ، وما ذكر من جعل قرابة الدين غامرة لقرابة النسب إلخ لا يفوت على تقدير سوق الكلام على ترتيب الوقوع أيضا.
واختار بعض المحققين أن ذلك لأن ذكر هذا النداء كما ترى مستدع لما مر من الجواب المستدعي لذكر توبته عليه السلام المؤدي إلى ذكر قبولها في ضمن الأمر بهبوطه عليه السلام من الفلك بالسلام والبركات الفائضة عليه وعلى المؤمنين حسبما يجيء إن شاء اللّه تعالى ، ولا ريب أن هذه المعاني آخذ بعضها بحجزة بعض بحيث لا تكاد تفرق الآيات الكريمة المنطوية عليها بعضها من بعض وأن ذلك إنما يتم بتمام القصة ، وذلك إنما يكون بتمام الطوفان فلا جرم اقتضى الحال ذكر تمامها قبل هذا النداء وهو إنما يكون عند ذكر كون كنعان من المغرقين ، ولهذه النكتة ازداد حسن موقع الإيجاز البليغ ، وفيه فائدة أخرى هي التصريح بهلاكه من أول الأمر ولو ذكر النداء بعد فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ لربما توهم من أول الأمر إلى أن يرد أنه ليس من أهلك إلخ أنه ينجو بدعائه فنص على هلاكه ، ثم ذكر القصة على وجه أفحم مصاقع البلغاء ، ثم تعرض لما وقع في تضاعيف ذلك مما جرى بين نوح عليه السلام ورب العزة جلت حكمته وعلت كلمته ، ثم ذكر بعد توبته عليه السلام قبولها : بقوله عز وجل : قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ إلخ وهو من

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 270
الحسن بمكان ، وبني الفعل لما لم يسم فاعله لظهور أن القائل هو اللّه تعالى ، وقيل : القائل الملائكة عليهم السلام والهبوط النزول قيل : أي أنزل من الفلك ، وقيل : من الجبل إلى الأرض وذلك أنه روي أن السفينة استوت على الجودي في عاشر ذي الحجة فأقام بمن معه هناك شهرا ، ثم قيل له : اهبط فهبط بأرض الموصل وبنى قرب الجبل قرية يقال لها :
قرية الثمانين عدد من في السفينة ، وفي رواية عن ابن عباس أنه بنى كل منهم بيتا فسميت سوق الثمانين.
وأخرج ابن مردويه عن عمر رضي اللّه تعالى عنه قال : لما استقرت السفينة على الجودي لبث نوح عليه السلام ما شاء اللّه تعالى ، ثم إنه أذن له بالهبوط فهبط على الجبل فدعا الغراب فقال : ائتني بخبر الأرض ، فانحدر إلى الأرض وفيها الغرقى من قوم نوح فوقع على جيفة منهم فأبطأ عليه فلعنه ، ودعا الحمامة فوقفت على كفه فقال : اهبطي فأتني بخبر الأرض فانحدرت فلم تلبث قليلا حتى جاءت تنفض ريشها بمنقارها فقالت : اهبط فقد أنبتت الأرض فقال نوح :
بارك اللّه تعالى فيك وفي بيت يأويك وحببك إلى الناس ولولا أن يغلبك الناس على نفسك لدعوت اللّه سبحانه أن يجعل رأسك من الذهب ،
والظاهر عندي أن الهبوط من الجودي الذي استقرت عليه السفينة إلى الأرض ، وليس في الكلام ما يستدعي أن يكون بعد الاستقرار بلا مهلة ليقال : إن ما تحت الجبل مغمور إذ ذاك بالماء ، والتعبير بالهبوط على هذا في غاية الظهور ، ولعل ذلك على أن يكون المراد من السفينة لمكان الركوب ، وخبر الحمامة والغراب قد طار في الآفاق وأولع به القصاصون ، واللّه تعالى أعلم بصحته ، وغالب الظن أنه لم يصح ، وكذا اشتهر خبر قرية الثمانين في أرض الموصل وأنها لما ضاقت عليهم تحولوا إلى بابل فبنوها.
وأخرج ابن عساكر عن كعب الأحبار أنه قال : أول حائط وضع على وجه الأرض بعد الطوفان حائط حران ودمشق ثم بابل وقرىء اهْبِطْ بضم الباء بِسَلامٍ أي ملتبسا بسلامة مما تكره كائنة مِنَّا أي من جهتنا ، ويجوز أن يكون السلام بمعنى التسليم والتحية أي مسلما عليك من جهتنا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ أي خيرات نامية في نسلك وما يقوم به معاشك ومعاشهم من أنواع الأرزاق ، أو مباركا عليك أي مدعوا لك بالبركة بأن يقال : بارك اللّه تعالى فيك وهو مناسب لكون السلام بمعنى التسليم فيكون كقوله : السلام عليك ورحمة اللّه تعالى وبركاته. وأصل البرك - كما قال الراغب - صدر البعير يقال : برك البعير إذا ألقى بركه ، واعتبر فيه اللزوم ولذا سمي محتبس الماء بركة ، والبركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء سمي بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البركة.
ولما كان الخير الإلهي يصدر على وجه لا يحس ولا يحصى قيل لكل ما يشاهد فيه زيادة غير محسوسة : هو مبارك وفيه بركة ، ولما في ذلك من الإشعار باللزوم - وكونه غير محسوس - اختص تبارك بالاستعمال في اللّه تبارك وتعالى كما قيل : وفي الكشف كل شيء ثبت وأقام فقد برك وأخذ بروك البعير منه ، ثم البرك بمعنى الصدر من الثاني لأنه آلة بروكه أظهر ، وحكى عبد العزيز بن يحيى عن الكسائي أنه قرأ - وبركة - بالتوحيد ، وفي الآية على القراءتين صنعة الاحتباك لأنه حذف من الثاني ما ذكر في الأول ، وذكر فيه ما حذف من الأول ، والتقدير سلام منا عليك وبركات ، أو وبركة منا عليك ، وهذا منه تعالى إعلام وبشارة بقبول توبته عليه السلام وخلاصه من الخسران مع الإشارة إلى عود الأرض إلى حالها من الإنبات وغيره وَعَلى أُمَمٍ ناشئة مِمَّنْ مَعَكَ متشعبة منهم - فمن - ابتدائية ، والمراد الأمم المؤمنة المتناسلة ممن معه إلى يوم القيامة ، والمراد - ممن معه - أولاده من إطلاق العام وإرادة الخاص بناء على ما قيل : إنه لم يعقب غيرهم ، فالناس كلهم على هذا من نسل نوح عليه السلام ومن هنا سمي عليه السلام آدم الثاني وآدم الأصغر ، واستدل لذلك بقوله تعالى : وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ [الصافات : 77] وقد يقال ببقاء - من - على عمومه بناء على ما عليه أكثر المفسرين من عدم اختصاص النسل بأولاده عليه السلام بل لمن معه نسل باق

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 271
أيضا ، والكلام في استدلال الأولين سيأتي إن شاء اللّه تعالى ، وقوله سبحانه : وَأُمَمٌ بالرفع - وهو على ما ذهب إليه الزمخشري - مبتدأ ، وجملة قوله تعالى : سَنُمَتِّعُهُمْ صفته ، والخبر محذوف أي ومنهم أمم ، وساغ ذلك لدلالة ما سبق عليه فإن إيراد الأمم المبارك عليهم المتشعبة منهم نكرة يدل على أن بعض من يتشعب منهم ليسوا على صفتهم ، والمعنى ليس جميع من يتشعب منهم مشاركا له في السلام والبركات بل منهم أمم يمتعون في الدنيا ثُمَّ يَمَسُّهُمْ فيها أو في الآخرة أو فيهما مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ وجوز أبو حيان أن يكون أُمَمٍ مبتدأ محذوف الصفة وهي المسوغة للابتداء بالنكرة ، والتقدير وأمم منهم ، وجملة سَنُمَتِّعُهُمْ هو الخبر كما قالوا : السمن منوان بدرهم ، وأن يكون مبتدأ ولا يقدر له صفة والخبر أيضا سَنُمَتِّعُهُمْ ومسوغ الابتداء كون المكان مكان تفصيل فكان مثل قول الشاعر :
إذا ما بكى من خلفها انحرفت له بشق وشق عندنا لم يحول
وقول القرطبي : إنه ارتفع أُمَمٍ على معنى ويكون أمم إن أراد به تفسير معنى فحسن وإن أراد الإعراب فليس يجيد لأن هذا ليس من مواضع إضمار يكون ، وقال الأخفش : هذا كما تقول : كلمت زيدا وعمرو جالس يحتمل أن يكون من باب العطف ، ويحتمل أن يكون الواو للحال وتكون الجملة هنا حالا مقدرة لأن وقت الأمر بالهبوط لم تكن تلك الأمم موجودة.
وقال أبو البقاء : إن أُمَمٍ معطوف على الضمير في اهْبِطْ والتقدير - اهبط أنت وأمم - وكان الفصل بينهما مغنيا عن التأكيد ، وسَنُمَتِّعُهُمْ نعت لأمم ، وفيه إن الذين كانوا مع نوح عليه السلام في السفينة كلهم مؤمنون لقوله تعالى : وَمَنْ آمَنَ ولم يكونوا قسمين كفارا ومؤمنين ليؤمر الكفار بالهبوط معه اللهم إلا أن يلتزم أن من أولئك المؤمنين من علم اللّه سبحانه أنه يكفر بعد الهبوط فأخبر عنهم بالحالة التي يؤولون إليها وفيه بعد.
وجوز أن تكون - من - في مِمَّنْ مَعَكَ بيانية أي وعلى أمم هم الذين معك ، وسموا أمما لأنهم أمم متحزبة وجماعات متفرقة أو لأن جميع الأمم إنما تشعبت منهم فهم أمم مجازا فحينئذ يكون المراد بالأمم المشار إليهم في قوله سبحانه : وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ بعض الأمم المتشعبة منهم وهي الأمم الكافرة المتناسلة منهم إلى يوم القيامة.
وفي الكشاف إن الوجه هو الأول قيل : ليقابل قوله تعالى : وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ولأنه أشمل ولأن - من - الابتدائية لا سيما في المنكر أكثر وللنكتة في إدخال الناشئين في المسلم عليهم ، وقطع الممتعين عنهم من الدلالة على ما صرح به في قوله سبحانه : إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ولهذه النكتة حذف منهم في الثاني ، واكتفى بسلام نوح عليه السلام عن سلام مؤمني قومه لأن النبي زعيم أمته وكفاهم هذا التعظيم والاتحاد معه عليه السلام ، فلا يراد أن الحمل على البيانية أرجح لئلا يلزم أن لا يكون مسلما عليهم على أن لفظ الأمم في الإطلاق على من معه بأحد الاعتبارين لا فخامة فيه لأن تسمية الجماعة القليلة بالأمة لا يناسب فكيف بالأمم ، ولا مبالغة في هذا المقام فيه فلا يعدل عن الحقيقة ، وإن جعل من باب إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل : 120] لم يلائم تفخيم نوح عليه السلام ، وقد ذكر أنه يبقى على البيانية أمر الأمم المؤمنة الناشئة من الذين معه عليه السلام مبهما غير متعرض له ولا مدلول عليه إلا أن يقال :
حيث كان المراد بمن معك المؤمنين يعلم أن المشاركين لهم في وصف الإيمان مثلهم فيما تقدم ، نعم قيل : إن في دلالة المذكور على الخبر المحذوف على ذلك الوجه خفاء لأن - من المذكورة بيانية ، والمحذوفة تبعيضية ، أو ابتدائية ، وربما يجاب عنه أيضا بإلزام أن لا حذف أصلا كما هو أحد الأوجه التي ذكرناها آنفا فتدبر جميع ما ذكر.
والمأثور عدم تخصيص الأمم في الموضعين بمؤمنين معينين وكافرين كذلك ، فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 272
وغيرهما عن محمد القرظي قال : دخل في ذلك السلام والبركات كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة ودخل في ذلك المتاع والعذاب الأليم كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة ، وأخرج أبو الشيخ عن الحسن أنه قال في الآية ما زال اللّه تعالى يأخذ لنا بسهمنا وحظنا ويذكرنا من حيث لا نذكر أنفسنا كلما هلكت أمة خلقنا في أصلاب من ينجو بلطفه حتى جعلنا في خير أمة أخرجت للناس ، وقيل : المراد بالأمم الممتعة قوم هود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام ، وبالعذاب ما نزل بهم ، وبالغ بعضهم في عموم الأمم في الأول فجعلها شاملة لسائر الحيوانات التي كانت معه عليه السلام فإن اللّه تعالى جعل فيها البركة - وليس بشي ء - كما لا يخفى ، وهاهنا لطيفة وهي أنه قد تكرر في هذه الآية حرف واحد مرات مع غاية الخفة ولم تتكرر الراء مثله في قوله :
وقبر حرب بمكان قفر وليس قرب قبر حرب قبر
ومع ما ترى فيه من غاية الثقل وعسر النطق ، وللّه تعالى شأن التنزيل ما أكثر لطائفه تِلْكَ إشارة إلى قصة نوح عليه السلام وهي لتقضيها في حكم البعيد ، ويحتمل أنه أشير بأداة البعد إلى بعد منزلتها ، وقيل : إن الإشارة إلى آيات القرآن وليس بذاك وهي في محل الرفع على الابتداء ، وقوله سبحانه : مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ أي بعض أخباره التي لها شأن وكونها بعض ذلك باعتبار أنها على التفصيل لم تبق لطول العهد معلومة لغيره تعالى حتى أن المجوس على ما قيل : ينكرونها رأسا ، وقيل : إن كونها من الغيب لغير أهل الكتاب. وقد ذكر غير واحد أن الغيب قسمان : ما لا يتعلق به علم مخلوق أصلا وهو الغيب المطلق ، وما لا يتعلق به علم مخلوق معين وهو الغيب المضاف بالنسبة إلى المخلوق ، وهو مراد الفقهاء في تكفير الحاكم على الغيب ، وقوله سبحانه : نُوحِيها خبر ثان - لتلك - والضمير لها أي موحاة إِلَيْكَ أو هو الخبر ، ومِنْ أَنْباءِ متعلق به ، وفائدة تقديمه نفي أن يكون علم ذلك بكهانة أو تعلم من الغير ، والتعبير بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية ، أو مِنْ أَنْباءِ هو الخبر ، وهذا في موضع الحال من أَنْباءِ والمقصود من ذكر كونها موحاة إلجاء قومه صلّى اللّه عليه وسلَّم للتصديق بنبوته عليه الصلاة والسلام وتحذيرهم مما نزل بالمكذبين ، وقوله تعالى :
ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ خبر آخر أي مجهولة عندك وعند قومك مِنْ قَبْلِ هذا أي الإيحاء إليك المعلوم مما مر ، وقيل : أي الوقت ، وقيل : أي العلم المكتسب بالوحي.
وفي مصحف ابن مسعود - من قبل هذا القرآن - ويحتمل أن يكون حالا من الهاء في نُوحِيها أو الكاف من إِلَيْكَ أي غير عالم أنت ولا قومك بها ، وذكر القوم معه صلّى اللّه عليه وسلّم من باب الترقي كما تقول : هذا الأمر لا يعلمه زيد ولا أهل بلدة لأنهم مع كثرتهم إذا لم يعلموا ذلك فكيف يعلمه واحد منهم ، وقد علم أنه لم يخالط غيرهم. فَاصْبِرْ متفرع على الإيحاء أو على العلم المستفاد منه المدلول عليه بما تقدم مِنْ قَبْلِ هذا أي وإذ قد أوحيناها إليك أو علمتها بذلك فاصبر على مشاق تبليغ الرسالة وأذية قومك كما صبر نوح عليه السلام على ما سمعته من أنواع البلايا في هذه المدة المتطاولة. قيل : وهذا ناظر إلى ما سبق من قوله سبحانه : فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ [هود :
12] إلخ إِنَّ الْعاقِبَةَ بالظفر في الدنيا وبالفوز بالآخرة لِلْمُتَّقِينَ كما سمعت ذلك في نوح عليه السلام وقومه ، قيل : وهو تعليل للأمر بالصبر وتسلية له صلّى اللّه عليه وسلّم ، والمراد بالتقوى الدرجة الأولى منها ، وجوز أن يراد بها الدرجة الثالثة وهي بذلك المعنى منطوية على الصبر فكأنه قيل : فاصبر فإن العاقبة للصابرين ، وقيل : الآية فذلكة لما تقدم وبيان للحكمة في إيحاء ذلك من إرشاده صلّى اللّه عليه وسلّم وتهديد قومه المكذبين له واللّه تعالى أعلم.
ومن باب الإشارة في الآيات : فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ إلخ لما كان مقتضى الطباع البشرية عدم

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 273
نشاط المتكلم إذا لم يجد محلا قابلا لكلامه وضيق صدره من ذلك هيج جل شأنه نشاط نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم بما أنزل عليه من هذه الآية الكريمة ، وقال سبحانه : إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ ولا يخلو الإنذار عن إحدى فائدتين : رفع الحجاب عمن وفق وإلزام الحجة لمن خذل وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ فكل الهداية إليه مَنْ كانَ يُرِيدُ بعلمه الذي هو بظاهره من أعمال الآخرة الْحَياةَ الدُّنْيا كالجاه والمدح نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ أي جزاءها فيها إن شئنا وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ أي لا ينقصون شيئا منها أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ لتعذب قلوبهم بالحجب الدنيوية وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها من أعمال البر فلم ينتفعوا بها ، وجاء «إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى» الحديث
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ أي يقين برهاني عقلي أو وجداني كشفي وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وهو القرآن المصدق لذلك ، ومن هنا تؤيد الأدلة العقلية بالآيات النقلية القرآنية. ويحكم بكون الكشف صحيحا إذا شهدت له ووافقته ، ولذا قالوا : كل كشف خالف ما جاء عن اللّه تعالى ليس بمعتبر وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى أي يتبع البرهان من قبل هذا الكتاب كتاب موسى عليه السلام في حالة كونه إِماماً يؤتم به في تحقيق المطالب وَرَحْمَةً لمن يهتدي به ، وهذا وجه في الآية ذكره بعضهم ، وقد قدمنا ما فيها من الاحتمالات وقد ذكروا أن المراد بيان بعد ما بين مرتبتي من يريد الحياة الدنيا ومن هو على بينة من ربه.
وللصوفية قدست أسرارهم عبارات شتى في البينة فقال رويم : هي الإشراف عن القلوب والحكم على الغيوب ، وقال سيد الطائفة : هي حقيقة يؤيدها ظاهر العلم ، وقيل : غير ذلك ، وعن أبي بكر بن طاهر أن من كان على بينة من ربه كانت جوارحه وقفا على الطاعات والموافقات ولسانه مشغولا بالذكر ونشر الآلاء والنعماء وقلبه منورا بأنوار التوفيق وضياء التحقيق وسره وروحه مشاهدين للحق في جميع الأوقات وكان عالما بما يبدو من مكنون الغيوب ورؤيته يقين لا شك فيه وحكمه على الخلق كحكم الحق لا ينطق إلا بالحق ولا يرى إلا الحق لأنه مستغرق به فأنى يرى سواه وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً إلخ جعله بعضهم إشارة إلى المثبتين لغيره سبحانه وجودا وهم أهل الكثرة والحجاب ، وفسر الأشهاد بالموحدين الذين لا يشهدون في الدار غيره سبحانه ديارا.
ومن الناس من عكس الأمر وجعلها ردا على أهل الوحدة القائلين : إن كل ما شاهدته بعينك أو تصورته بفكرك فهو اللّه سبحانه بمعنى كفر النصارى إيمان بالنسبة إليه وحاش أهل اللّه تعالى من القول به على ما يشعر به ظاهره ، ومنهم من جعلها مشيرة إلى حال من يزعم أنه ولي اللّه تعالى ويتزيا بزي السادات ويتكلم بكلماتهم وهو في الباطن أفسق من قرد وأجهل من حمار تومه مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ قيل : الْبَصِيرِ من عاين ما يراد به وما يجري له وعليه في جميع أوقاته وَالسَّمِيعِ من يسمع ما يخاطب به من تقريع وتأديب وحث وندب لا يغفل عن الخطاب في حال من الأحوال ، وقيل : الْبَصِيرِ الناظر إلى الأشياء بعين الحق فلا ينكر شيئا ولا يتعجب من شيء وَالسَّمِيعِ من يسمع من الحق فيميز الإلهام من الوسواس ، وقيل : الْبَصِيرِ هو الذي يشهد أفعاله بعلم اليقين وصفاته بعين اليقين وذاته بحق اليقين فالغائبات له حضور والمستورات له كشف وَالسَّمِيعِ من يسمع من دواعي العلم شرعا ، ثم من خواطر التعريف قدرا ، ثم يكاشف بخطاب من الحق سرا ، وقيل : السَّمِيعِ من لا يسمع إلا كلام حبيبه ، والْبَصِيرِ من لا يشاهد إلا أنواره فهو في ضيائها ليلا ونهارا ، وإلى هذا يشير قول قائلهم :
ليلي من وجهك شمس الضحى وإنما السدفة في الجو
الناس في الظلمة من ليلهم ونحن من وجهك في الضو
وفسر كل من - الأعمى والأصم - بضد ما فسر به الْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ والمراد من قوله سبحانه : هَلْ

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 274
يَسْتَوِيانِ
أنهما لا يستويان لما بينهما من التقابل والتباعد إلى حيث لا تتراءى نارهما ، ثم إنه تعالى ذكر من قصة نوح عليه السلام مع قومه ما فيه إرشاد وتهديد وعظة ما عليها مزيد فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ أي الأشراف المليئون بأمور الدنيا الذين حجبوا بما هم فيه عن الحق ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا لكونهم واقفين عند حد العقل المشوب بالوهم فلا يرون لأحد طورا وراء ما بلغوا إليه ولم يشعروا بمقام النبوة ومعناها وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وصفوهم بذلك لفقرهم حيث كانوا لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا ولم يعلموا أن الشرف بالكمال لا بالمال.
وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ وتقدم يؤهلكم لما تدعونه بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ فلا نبوة لك ولا علم لهم.
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي يجب عليكم الإذعان بها وَآتانِي رَحْمَةً هداية خاصة كشفية متعالية عن درجة البرهان مِنْ عِنْدِهِ فوق طور عقولكم من العلوم اللدنية ومقام النبوة فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ لاحتجابكم بالظاهر عن الباطن وبالخليقة عن الحقيقة أَنُلْزِمُكُمُوها ونجبركم عليها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ لا تلتفتون إليها كأنه عليه السلام أراد أنه لا يكون إلزام ذلك مع الكراهة لكن إن شئتم تلقيه فزكوا أنفسكم واتركوا إنكاركم حتى يظهر عليكم أثر نور الإرادة فتقبلوا ذلك ، وفيه إشارة إلى أن المنكر لا يمكن له الاستفاضة من أهل اللّه تعالى ولا يكاد ينتفع بهم ما دام منكرا ومن لم يعتقد لم ينتفع وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا أي ليس لي مطمح في شيء من أموالكم التي ظننتم أن الشرف بها إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ فهو يثيبني بما هو خير وأبقى وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ أي إنهم أهل الزلفى عنده تعالى وهم حمائم أبراج الملكوت وبزاة معارج الجبروت وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ تسفهون عليهم وتؤذونهم وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ كما تريدون وهم بتلك المثابة أَفَلا تَذَكَّرُونَ لتعرفوا التماس طردهم ضلال ، وفيه إشارة إلى أن الإعراض عن فقراء المؤمنين مؤد إلى سخط رب العالمين.
قال أبو عثمان : في الآية ما أَنَا بمعرض عمن أقبل على اللّه تعالى ، فإن من أقبل على اللّه تعالى بالحقيقة أقبل اللّه تعالى عليه ، ومن أعرض عمن أقبل اللّه تعالى عليه فقد أعرض عن اللّه سبحانه وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ إلخ أي أنا لا أدعي الفضل بكثرة المال ولا بالاطلاع على الغيب ولا بالملكية حتى تنكروا فضلي بفقدان ذلك وبمنافاة البشرية لما أنا عليه وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تنظرون إليهم بعين الحقارة لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً كما تقولون أنتم إذ الخير عندي ما عند اللّه تعالى لا المال اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ من الخير مني ومنكم وهو أعلم بقدرهم وخطرهم إِنِّي إِذاً أي إذ نفيت لَمِنَ الظَّالِمِينَ مثلكم وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا قيل : فيه إشارة إلى عين الجمع المشار إليه
بخبر «لا زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل» الحديث.
وقيل : أي كن في أعين رعايتنا وحفظنا ولا تكن في رؤية عملك والاعتماد عليه ، فإن من نظر إلى غيري احتجب به عني ، وقال بعضهم : أي أسقط عن نفسك تدبيرك واصنع ما أنت صانع من أفعالك على مشاهدتنا دون مشاهدة نفسك أو أحد من خلقي ، وقيل : أي اصنع الفلك ولا تعتمد عليه فإنك بأعيننا رعاية وكلاءة فإن اعتمدت على الفلك وكلت إليه وسقطت من أعيننا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ فيه إشارة إلى رقة قلبه عليه السلام بعد احتمال جفوتهم وأذيتهم ، وهكذا شأن الصديقين ، والكلام في باقي الآية ظاهر ، ولا يخفى أنه يجب الإيمان بظاهرها والتصديق بوقوع الطوفان حسبما قص اللّه سبحانه وإنكار ذلك كفر صريح ، لكن ذكر بعض السادة أنه بعد

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 275
الإيمان بذلك يمكن احتمال التأويل على أنه حظ الصوفي من الآية وذلك بأن يؤول الفلك بشريعة نوح التي نجا بها هو ومن آمن معه ، والطوفان باستيلاء بحر الهيولى وإهلاك من لم يتجرد عنها بمتابعة نبي وتزكية نفس كما جاء في مخاطبات إدريس عليه السلام لنفسه ما معناه أن هذه الدنيا بحر مملوء ماء فإن اتخذت سفينة تركبها عند خراب البدن نجوت منها إلى عالمك وإلا غرقت فيها وهلكت ، وعلى هذا يقال : معنى وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ يتخذ شريعة من ألواح الأعمال الصالحة ودسر العلوم تنتظم بها الأعمال وتحكم وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ كما هو المشاهد في أرباب الخلاعة الممطتين غارب الهوى يسخرون من المتشرعين المتقيدين بقيود الطاعة قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا بجهلكم فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ عند ظهور وخامة عاقبتكم كَما تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عند ذلك مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ في الدنيا من حلول ما لا يلائم غرضه وشهوته وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ في الآخرة من استيلاء نيران الحرمان وظهور هيئات الرذائل المظلمة حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا بإهلاك أمته وَفارَ التَّنُّورُ باستيلاء الأخلاط الفاسدة والرطوبات الفضلية على الحرارة الغريزية وقوة طبيعة ماء الهيولى على نار الروح الحيوانية ، أو أَمْرُنا بإهلاكهم المعنوي وَفارَ التَّنُّورُ باستيلاء ماء هوى الطبيعة على القلب وإغراقه في بحر الهيولى الجسماني قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ أي من كل صنفين من نوع اثنين هما صورتاهما النوعية والصنفية الباقيتان عند فناء الأشخاص.
ومعنى حملهما فيها علمه ببقائهما مع بقاء الأرواح الإنسية فإن علمه جزء من السفينة المتركبة من العلم والعمل فمعلوميتهما محموليتهما وعالميته بهما حامليته إياهما فيها وَأَهْلَكَ ومن يتصل بك في سيرتك من أقاربك إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ أي الحكم بإهلاكه في الأزل لكفره وَمَنْ آمَنَ من أمتك وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها أي بسم اللّه تعالى الأعظم الذي هو وجود كل عارف كامل من أفراد نوع الإنسان إجراء أحكامها وترويجها في بحر العالم الجسماني وإثباتها وأحكامها كما ترى من إجراء كل شريعة وأحكامها بوجود الكامل ممن ينسب إليها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ لهيئات نفوسكم البدنية المظلمة وذنوب ملابس الطبيعة المهلكة إياكم المغرقة في بحرها وذلك بمتابعة الشريعة رَحِيمٌ بإفاضة المواهب العلمية والكشفية والهيئات النورانية التي ينجيكم بها وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ من بحر الطبيعة الجسمانية كَالْجِبالِ الحاجبة للنظر المانعة من السير وهم لا يبالون بذلك محفوظون من أن يصيبهم شيء من ذلك الموج ، وهذا الجريان يعرض للسالك في ابتداء أمره ولولا أنه محفوظ في لزوم سفينة الشرع لهلك.
ولعل في الآية على هذا تغليبا وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ المحجوب بالعقل المشوب بالوهم وَكانَ فِي مَعْزِلٍ لذلك الحجاب عن الدين والشريعة يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا أي ادخل في ديننا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ المحجوبين الهالكين بأمواج هوى النفس المغرقين في بحر الطبع قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ أي سألتجىء إلى الدماغ وأستعصم بالعقل المشرق هناك ليحفظني من استيلاء بحر الهيولى فلا أغرق فيه قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وهو اللّه الذي رحم أهل التوحيد وأفاض عليهم من شآبيب لطفه ما عرفوا به دينه الحق وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ أي موج هوى النفس واستيلاء ماء بحر الطبيعة وحجب عن الحق فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ في بحر الهيولى الجسمانية ، وقيل : من جهة الحق على لسان الشرع لأرض الطبيعة يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وقفي على حد الاعتدال ، ولسماء العقل المحجوبة بالعادة والحس المشوبة بالوهم المغيمة بغيم الهوى يا سَماءُ أَقْلِعِي عن إمداد الأرض وَغِيضَ الْماءُ أي ماء قوة الطبيعة الجسمانية ومدد الرطوبة الحاجبة لنور الحق

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 276
المانعة للحياة الحقيقية وَقُضِيَ الْأَمْرُ بإنجاء من نجا وإهلاك من هلك وَاسْتَوَتْ أي سفينة شريعته عَلَى الْجُودِيِّ وهو جبل وجود نوح وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الذين عبدوا الهوى دون الحق ووضعوا الطبيعة مكان الشريعة وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ إلخ الكلام على هذا الطرز فيه ظاهر قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ من محل الجمع وذروة مقام الولاية والاستغراق في التوحيد إلى مقام التفصيل وتشريع النبوة بالرجوع إلى الخلق ومشاهدة الكثرة في عين الوحدة غير معطل للمراتب بِسَلامٍ مِنَّا أي سلامة عن الاحتجاب بالكثرة وَبَرَكاتٍ من تقنين قوانين الشرع عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ ناشئة مِمَّنْ مَعَكَ على دينك إلى آخر الزمان وَأُمَمٌ أي وينشأ ممن معك أمم سَنُمَتِّعُهُمْ في الدنيا ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا في العقبى عَذابٌ أَلِيمٌ بإحراقهم بنار الآثار وتعذيبهم بالهيئات المظلمة.
هذا ثم ذكر أنه إذا شئت التطبيق على ما في الأنفس أولت نوحا بروحك والفلك بكمالك العلمي والعملي الذي به نجاتك عند طوفان بحر الهيولى والتنور بتنور البدن وفورانه استيلاء الرطوبة الغريبة والأخلاط الفاسدة ، وما أشار إليه مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ بجيوش القوى الحيوانية والطبيعية وطيور القوى الروحانية ، وأولت ما جاء في القصة من البنين الثلاثة والزوجة بحام القلب وسام العقل النظري ويافث العقل العملي وزوجة النفس المطمئنة والابن الآخر الوهم والزوجة الأخرى الطبيعة الجسمانية التي يتولد منها الوهم. والجبل بالدماغ. واستواءها على الجودي وهبوطه بمثل نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان انتهى ، ومن نظر بعين الإنصاف لم يعول إلا على ظاهر القصة وكان له به غنى عن هذا التأويل ، واكتفى بما أشار إليه من أن النسب إذا لم يحط بالصلاح كان غريقا في بحر العدم.
فما ينفع الأصل من هاشم إذا كانت النفس من باهله
ومن أنه ينبغي للإنسان التحري بالدعاء وأن لا تشغله الشفقة عن ذلك إلى غير ما ذكر ، والآية نص في كفر قوم نوح عليه السلام الذين أغرقهم اللّه تعالى ، وفي فصوص الحكم للشيخ الأكبر قدس سره ما هو نص في إيمانهم ونجاتهم من العذاب يوم القيامة وذلك أمر لا نفهمه من كتاب ولا سنة وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ واللّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
[سورة هود (11) : الآيات 50 إلى 95]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54)
مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59)
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64)
فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68) وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)
فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74)
إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (79)
قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)
وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94)
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 277

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 278
وَإِلى عادٍ
متعلق بمحذوف معطوف على قوله سبحانه : أَرْسَلْنا في قصة نوح وهو الناصب لقوله تعالى : أَخاهُمْ أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم أي واحدا منهم في النسب كقولهم : يا أخا العرب ، وقدم المجرور ليعود الضمير عليه ، وقيل : إن إِلى عادٍ أَخاهُمْ عطف على قوله تعالى : نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [هود : 25] المنصوب على المنصوب والجار والمجرور على الجار والمجرور ، وهو من العطف على معمولي عامل واحد وليس من المسألة المختلف فيها ، نعم الأول أقرب - كما في البحر - لطول الفصل بالجمل الكثيرة بين المفردات المتعاطفة ، وقوله سبحانه : هُوداً عطف بيان - لأخاهم - وجوز أن يكون بدلا منه وكان عليه السلام ابن عم أبي عاد وأرسل إليهم من هو منهم ليكون ذلك أدعى إليه اتباعه قالَ استئناف بياني حيث كان إرساله عليه السلام مظنة للسؤال عما قال لهم ودعاهم كأنه قيل : فما قال لهم حين أرسل إليهم؟ فقيل : قال : يا قَوْمِ ناداهم بذلك استعطافا لهم ، وقرأ ابن محيصن «يا قوم» بالضم وهي لغة في المنادى المضاف إلى الياء حكاها سيبويه وغيره اعْبُدُوا اللَّهَ أي وحده وكانوا مشركين يعبدون الأصنام ويدل على أن المراد ذلك قوله تعالى : ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ فإنه استئناف يجري مجرى البيان للعبادة المأمور بها ، والتعليل للأمر بها كأنه قيل : أفردوه بالعبادة ولا تشركوا به شيئا إذ ليس لكم إله غيره سبحانه على أنه لا اعتداد بالعبادة مع الإشراك ، فالأمر بها يستلزم الأمر بإفراده سبحانه بها وغَيْرُهُ بالرفع صفة - لإله - باعتبار محله لأنه فاعل للظرف لاعتماده على النفي ، وقرأ الكسائي بالجر على أنه صفة له جار على لفظه إِنْ أَنْتُمْ ما أنتم بجعلكم الألوهية لغيره تعالى كما قال الحسن - أو بقولكم : إن اللّه تعالى أمرنا بعبادة
الأصنام إِلَّا

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 279
مُفْتَرُونَ
عليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي خاطب به كل رسول قومه إزاحة لما عسى أن يتوهموه وتمحيضا للنصيحة فإنها ما دامت مشوبة بالمطامع بمعزل عن التأثير ، وإيراد الموصول للتفخيم ، وجعل الصلة فعل الفطر الذي هو الإيجاد والإبداع لكونه أبعد من أن يتوهم نسبته إلى شركائهم وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان : 25 ، الزمر : 38] مع كونه أقدم النعم الفائضة من جناب اللّه تعالى المستوجبة للشكر الذي لا يتأتى إلا بالجريان على موجب أمره سبحانه الغالب معرضا عن المطالب الدنيوية التي من جملتها الأجر ، ولعل فيه إشارة إلى أنه عليه السلام غني عن أجرهم الذي إنما يرغب فيه للاستعانة به على تدبير الحال وقوام العيش باللّه تعالى الذي أوجده بعد أن لم يكن وتكفل له بالرزق كما تكفل لسائر من أوجده من الحيوانات أَفَلا تَعْقِلُونَ أي أتغفلون عن ذلك فلا تعقلون نصيحة من لا يطلب عليها أجرا إلا من اللّه تعالى ولا شيء أنفى للتهمة من ذلك فتناقدون لما يدعوكم إليه أو تجهلون كل شيء فلا تعقلون شيئا أصلا فإن الأمر مما لا ينبغي أن يخفى على أحد من العقلاء.
وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ من الشرك ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ أي ارجعوا إليه تعالى بالطاعة أو توبوا إليه سبحانه وأخلصوا التوبة واستقيموا عليها ، وقيل : الاستغفار كناية عن الإيمان لأنه من روادفه ، وحيث إن الإيمان باللّه سبحانه لا يستدعي الكفر بغيره لغة قيل : ثُمَّ تُوبُوا فكأنه قيل : آمنوا به ثم توبوا إليه تعالى من عبادة غيره ، وتعقب بأن قوله سبحانه : اعْبُدُوا اللَّهَ دل على اختصاصه تعالى بالعبادة فلو حمل اسْتَغْفِرُوا على ما ذكر لم يفد فائدة زائدة سوى ما علق عليه ، وقد كان يمكن تعليقه بالأول ، والحمل على غير الظاهر مع قلة الفائدة مما يجب الاحتراز عنه في كلام اللّه تعالى المعجز ، وقيل : المراد بالاستغفار التوبة عن الشرك وبالتوبة التوبة عما صدر منهم غير الشرك ، وأورد عليه أيضا أن الإيمان يجب ما قبله ، وقيل : المراد بالأول طلب المغفرة بالإيمان ، وبالثاني التوسل إليه سبحانه بالتوبة عن الشرك ، وأورد عليه أن التوسل المذكور لا ينفك عن طلب المغفرة بالإيمان لأنه من لوازمه فلا يكون بعده كما تؤذن به ثُمَّ - وقيل : وقيل - وقد تقدم بعض الكلام في ذلك أول السورة. يُرْسِلِ السَّماءَ أي المطر كما في قوله :
إذا «نزل السماء» بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا
عَلَيْكُمْ مِدْراراً كثير الدر متتابعه من غير إضرار فمفعال للمبالغة كمعطار ومقدام.
وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ أي عزا مضموما إلى عزكم أو مع عزكم ويرجع هذا إلى قوله تعالى : وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ [نوح : 12] لأن العز الدنيوي بذلك ، وعن الضحاك تفسير - القوة - بالخصب ، وعن عكرمة تفسيرها بولد الولد ، وقيل : المراد بها قوة الجسم ، ورغبهم عليه السلام بكثرة المطر وزيادة القوة لأنهم كانوا أصحاب زروع وبساتين وعمارات ، وقيل : حبس اللّه تعالى عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم ثلاث سنين فوعدهم هود عليه السلام على الاستغفار والتوبة كثرة الأمطار وتضاعف القوة بالتناسل ، وقيل : القوة الأولى في الإيمان ، والثانية في الأبدان أي يزدكم قوة في إيمانكم إلى قوة في أبدانكم وَلا تَتَوَلَّوْا أي لا تعرضوا عما دعوتكم إليه مُجْرِمِينَ مصرين على ما أنتم عليه من الإجرام ، وقيل : مجرمين بالتولي وهو تكلف. قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ أي بحجة واضحة تدل على صحة دعواك ، وإنما قالوه لفرط عنادهم أو لشدة عماهم عن الحق وعدم نظرهم في الآيات فاعتقدوا أن ما هو آية ليس بآية وإلا فهو وغيره من الأنبياء عليهم السلام جاؤوا بالبينات الظاهرة والمعجزات الباهرة وإن لم يعين لنا بعضها ،
ففي الخبر «ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر»
وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا أي بتاركي عبادتها عَنْ قَوْلِكَ أي بسبب قولك المجرد عن البينة - فعن - للتعليل كما قيل في قوله تعالى : إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 280
إِيَّاهُ [التوبة : 114] وإلى هذا يشير كلام ابن عطية وغيره ، فالجار والمجرور متعلق بِتارِكِي.
وذهب بعض المحققين إلى أنه متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير المستتر فيه أي صادرين وهو من الصدر مقابل الورد بمعنى الرجوع عن الماء ، وقد شاع في كلامهم استعمال الصدر والورد كناية عن العمل والتصرف ، ومنه قوله :
ما أمسى الزمان حاجا إلى من يتولى الإيراد والإصدارا
أي يتصرف في الأمور بصائب رأيه ، وقد يكتفي بالصدر في ذلك لاستلزامه للورد فيقولون : لا يصدر إلا عن رأيه ، والمعنى هنا حينئذ ما نحن بِتارِكِي آلِهَتِنا عاملين بقولك ، والنفي فيه راجع إلى القيد والمقيد جميعا لأنهم لا يتركون آلهتهم ولا يعملون بقوله عليه السلام ، وقيل : إن صادرين بمعنى معرضين وهو قيد للنفي ، والمعنى انتفى تركنا عبادة آلهتنا معرضين عَنْ قَوْلِكَ ويكون هذا جوابا لقوله : لا تَتَوَلَّوْا وجعل بعضهم إرادة ذلك من باب التضمين لا من باب تقدير المتعلق بقرينة عَنْ وجعله كناية كما علمت ، وكلام الزمخشري ظاهر في هذا كما يكشف عنه كلام الكشف وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ أي بمصدقين فيما جئت به أو في كل ما تأتي وتذر ، ويندرج فيه ذلك ، وقد بالغوا في الإباء عن الإجابة فأنكروا الدليل على نبوته عليه السلام ، ثم قالوا مؤكدين لذلك وَما نَحْنُ بِتارِكِي إلخ ، ثم كرروا ما دل عليه الكلام السابق من عدم إيمانهم بالجملة الاسمية مع زيادة الباء ، وتقديم المسند إليه المفيد للتقوى دلالة على أنهم لا يرجى منهم ذلك بوجه من الوجوه ، وفي ذلك من الدلالة على الإقناط ما فيه إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ أي أصابك من عراه يعروه ، وأصله من اعتراه بمعنى قصد عران ما جاء به حجة في نفسه وإن لم تكن واضحة الدلالة على المراد وثانيا عن ترك الامتثال لقوله عليه السلام : بقولهم : وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ مع إمكان تحقق ذلك بتصديقهم له في كلامه. ثم نفوا عنه تصديقهم له عليه السلام بقولهم : وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ مع كون كلامه عليه السلام مما يقبل التصديق ، ثم نفوا عنه تلك المرتبة أيضا حيث قالوا ما قالوا قاتلهم اللّه أنى يؤفكون انتهى.
وللبحث فيه مجال ، ولعل الإتيان بهذه الجملة غير مقترنة بالعاطف كالجملتين الأوليين يؤيد كونها ليست

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 281
مسوقة للتأكيد مثلهما ، نعم تضمنها لتقرير ما تقدم مما لا يكاد ينكر فتدبر.
قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ أي مما أنتم تجعلونه شريكا وهو سبحانه لم يجعله شريكا ولم ينزل به سلطانا - فما موصولة ، ومِنْ دُونِهِ متعلق - بتشركون - لا حال من فاعله أي تشركون مجاوزين اللّه تعالى في هذا الحكم إذ لا فائدة في التقييد به ، وجوز أن تكون مصدرية أيضا أي من إشراككم ، وقد جوز كلا الاحتمالين الزمخشري فقال : أي من إشراككم آلهة من دونه أو مما تشركونه آلهة من دونه وأمر تعلق الجار فيهما واحد ، وتقدير آلهة لإيضاح المعنى والإشارة إلى أن المفعول مراد لسوق الكلام ولا يصلح أن يكون الظرف صفة له على الوجهين لأن بيانه حاصلهما بنحو ما ذكرناه في بيان حاصل الأول إنما يستقيم إذا تعلق بالفعل المذكور وليس المعنى على آلهة غير اللّه على ذلك التفسير ، وللطيبي ما يخالف ذلك وليس بذاك ، وأَنِّي بَرِيءٌ متنازع فيه للفعلين قبله وقد يتنازع المختلفان في التعدي الاسم الذي يكون صالحا لأن يعملا فيه تقول : أعطيت ووهبت لعمرو درهما كما يتنازع اللازم والمتعدي نحو قام وضربت زيدا.
وقد أجاب عليه السلام بهذا عن مقالتهم الشنعاء المبنية على اعتقاد كون آلهتهم تضر وتنفع ، ولما كان ما وقع أولا منه عليه السلام في حقها من كونها بمعزل عن الألوهية إنما وقع في ضمن الأمر بعبادة اللّه تعالى واختصاصه بها وقد شق ذلك عليهم وعدوه مما يورث شينا حتى زعموا ما زعموا صرح عليه السلام بالحق وصدع به حيث أخبر ببراءته القديمة عنها بالجملة الاسمية المصدرة - بأن - وأكد ذلك - بأشهد اللّه - فإنه كالقسم في إفادة التأكيد وأمرهم بأن يسمعوا ذلك ويشهدوا به ، والمقصود منه الاستهانة والاستهزاء كما يقول الرجل لخصمه إذا لم يبال به : أشهد على أني قائل لك كذا ، وكأنه غاير بين الشهادتين لذلك ، وعطف الإنشاء على الاخبار جائز عند بعض ، ومن لم يجوزه قدر قولا أي وأقول اشْهَدُوا ويحتمل أن يكون إشهاد اللّه تعالى إنشاء أيضا وإن كان في صورة الخبر ، وحينئذ لا قيل ولا قال ، وجوز أن يكون إشهاده عليه السلام لهم حقيقة إقامة للحجة عليهم.
وعدل عن الخبر فيه تمييزا بين الخطابين فهو خبر في المعنى كما هو المشهور في الأول لكن الأولى الحمل على المجاز ، ثم أمرهم بالاجتماع والاحتشاد مع آلهتهم جميعا دون بعض منها حسبما يشعر به قولهم بَعْضُ آلِهَتِنا والتعاون في إيصال الكيد إليه عليه السلام ، ونهاهم عن الإنظار والإمهال في ذلك فقال : فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ أي إن صح ما لوحتم به من كون آلهتكم مما يقدرون على إضرار من ينال منها ويصد عن عبادتها ولو بطريق ضمني فإني بريء منها فكونوا أنتم معها جميعا وباشروا كيدي ثم لا تمهلوني ولا تسامحوني في ذلك. فالفاء لتفريع الأمر على زعمهم من قدرة آلهتهم على ما قالوا وعلى البراءة كليهما ، والخطاب للقوم وآلهتهم ، ويفهم من كلام بعض أنه للقوم فقط ، وفيه نفي قدرة آلهتهم على ضره بطريق برهاني فإن الأقوياء والأشداء إذا لم يقدروا مع اجتماعهم واحتشادهم على الضر كان عدم قدرة الجمادات عليه معلوما من باب أولى ، وأيا ما كان فذاك من أعظم المعجزات بناء على ما قيل : إنه كان عليه السلام مفردا بين جمع عتاة جبابرة عطاش إلى إراقة دمه يرمونه عن قوس واحدة ، وقد خاطبهم بما خاطبهم وحقرهم وآلهتهم وهيجهم على ما هيجهم فلم يقدروا على مباشرة شيء مما كلفوه ، وظهر عجزهم عن ذلك ظهورا بينا. وفي ذلك دلالة على مزيد ثقته باللّه سبحانه وكمال عنايته به وعصمته له ، وقد قرر ذلك بإظهار التوكل على من كفاه ضرهم في قوله : إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ وفيه تعليل لنفي ضرهم بطريق برهاني يعني أنكم وإن لم تبقوا في القوس منزعا وبذلتم في مضادتي مجهودكم لا تقدرون على شيء مما تريدون بي فإني متوكل على اللّه تعالى واثق بكلاءته وهو مالكي ومالككم لا يصدر عنكم شيء ولا يصيبني أمر إلا بإرادته ، وجي ء

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 282
بلفظ الماضي لأنه أدل على الإنشاء المناسب للمقام ، ثم إنه عليه السلام برهن على عدم قدرتهم على ضره مع توكله عليه سبحانه بقوله : ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها أي إلا هو مالك لها قادر عليها يصرفها كيف يشاء غير مستعصية عليه سبحانه ، والناصية مقدم الرأس وتطلق على الشعر النابت عليها ، واستعمال الأخذ بالناصية في القدرة والتسلط مجاز أو كناية ، وفي البحر أنه صار عرفا في القدرة على الحيوان ، وكانت العرب تجز الأسير الممنون عليه علامة على أنه قد قدر عليه وقبض على ناصيته ، وقوله : إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ مندرج في البرهان وهو تمثيل واستعارة لأنه تعالى مطلع على أمور العباد مجاز لهم بالثواب والعقاب كاف لمن اعتصم به كمن وقف على الجادة فحفظها ودفع ضرر السابلة بها ، وهو كقوله سبحانه : إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الفجر : 14] ، وقيل : معناه أن مصيركم إليه تعالى للجزاء وفصل القضاء ، ولعل الأول أولى ، وفي الكشف أن في قوله : إِنِّي تَوَكَّلْتُ الآية من اللطائف ما يبهرك تأمله من حسن التعليل ، وما يعطيه أن من توكل عليه لم يبال بهول ما ناله ثم التدرج إلى تعكيس التخويف بقوله : رَبِّي وَرَبِّكُمْ فكيف يصاب من لزم سدّة العبودية وينجو من تولى مع ما يعطيه من وجوب التوكل عليه سبحانه إذا كان كذلك وترشيحه بقوله : ما مِنْ دَابَّةٍ إلى تمام التمثيل فإنه في الاقتدار على المعرض أظهر منه في الرأفة على المقبل خلاف الصفة الأولى ، وما فيه من تصوير ربوبيته واقتداره تعالى وتصوير ذل المعبودين بين يدي قهره أيا ما كان ، والختم بما يفيد الغرضين على القطع كفاية من إياه تولى وخزاية من أعرض عن ذكره وتولى بناء على أن معناه أنه سبحانه على الحق والعدل لا يضيع عنده معتصم ولا يفوته ظالم ، وفي قوله : رَبِّي من غير إعادة وَرَبِّكُمْ كما في الأول نكتة سرية بعد اختصار المعنى عن الحشو فيه ما
يدل على زيادة اختصاصه به وأنه رب الكل استحقاقا وربه دونهم تشريفا وإرفاقا فَإِنْ تَوَلَّوْا أي تتولوا فهو مضارع حذف منه إحدى التاءين وحمل على ذلك لاقتضاء أبلغتكم له ، وجوز ابن عطية كونه ماضيا ، وفي الكلام التفات ولا يظهر حسنه ولذا قدر غيره ممن جعله كذلك فقل أبلغتكم لكنه لا حاجة إليه ، ويؤيد ذلك قراءة الأعرج وعيسى الثقفي تَوَلَّوْا بضم التاء واللام مضارع ولى ، والمراد فإن تستمروا على
ما كنتم عليه من التولي والإعراض لوقوع ذلك منهم فلا يصلح للشرط ، وجوز أن يبقى على ظاهره بحمله على التولي الواقع بعد ما حجهم ، والظاهر أن الضمير لقوم هود والخطاب معهم ، وهو من تمام الجمل المقولة قبل ، وقال التبريزي : إن الضمير لكفار قريش وهو من تلوين الخطاب ، وقد انتقل من الكلام الأول إلى الاخبار عمن بحضرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، وكأنه قيل : أخبرهم عن قصة قوم هود وادعهم إلى الإيمان باللّه تعالى لئلا يصيبهم كما أصاب قوم هود عليه السلام فَإِنْ تَوَلَّوْا فقل لهم - قد أبلغتكم - إلخ وهو من البعد بمكان كما لا يخفى ، وقوله سبحانه : فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ دليل جواب الشرط أي إن تتولوا لم أعاتب على تفريط في الإبلاغ فإن ما أرسلت به إليكم قد بلغكم فأبيتم إلا تكذيب الرسالة وعداوة الرسول ، وقيل : التقدير إن تتولوا فما علي كبير همّ منكم فإنه قد برئت ساحتي بالتبليغ وأنتم أصحاب الذنب في الإعراض عن الإيمان ، وقيل : إنه الجزاء باعتبار لازم معناه المستقبل باعتبار ظهوره أي فلا تفريط مني ولا عذر لكم ، وقيل : إنه جزاء باعتبار الإخبار لأنه كما يقصد ترتب المعنى يقصد ترتب الإخبار كما في وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل : 53] على ما مر وكل ذلك لما أن الإبلاغ واقع قبل توليهم ، والجزاء يكون مستقبلا بالنظر إلى زمان الشرط.
وزعم أبو حيان أن صحة وقوعه جوابا لأن في إبلاغه إليهم رسالته تضمن ما يحل بهم من العذاب المستأصل فكأنه قيل : فإن تتولوا استؤصلتم بالعذاب ، ويدل على ذلك الجملة الخبرية ، وهي قوله سبحانه : وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وفيه منع ظاهر ، وهذا كما قال غير واحد : استئناف بالوعيد لهم بأن اللّه تعالى يهلكهم ويستخلف قوما

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 283
آخرين في ديارهم وأموالهم وهو استئناف نحوي عند بعض بناء على جواز تصديره بالواو.
وقال الطيبي : المراد به أن الجملة ليست بداخلة في الجملة الشرطية جزاء بل تكون جملة برأسها معطوفة على الجملة الشرطية وهو خلاف الظاهر من العبارة ، وعليه تكون مرتبة على قوله سبحانه : إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ والمعنى أنه على العدل ينتقم منكم ويهلككم ، وقال الجلبي : لا مانع عندي من حمله على الاستئناف البياني جوابا عما يترتب على التولي وهو الظاهر كأنه قيل : ما يفعل بهم إذا تولوا؟ فقيل : يَسْتَخْلِفُ إلخ.
وتعقبه بعضهم بأن الاستئناف البياني لا يقترن بالواو ، وجوز أن يكون عطفا على الجواب لكن على ما بعد الفاء لأنه الجواب في الحقيقة ، والفاء رابطة له ودخول الفاء على المضارع هنا لأنه تابع يتسامح فيه.
وقيل : تقديره فقل : يَسْتَخْلِفُ إلخ ، وقرأ حفص برواية هبيرة و«يستخلف» بالجزم وهو عطف على موضع الجملة الجزائية مع الفاء كأنه قيل : فَإِنْ تَوَلَّوْا يعذرني ويهلككم وَيَسْتَخْلِفُ مكانكم آخرين.
وجوز أبو البقاء كون ذلك تسكينا لتوالي الحركات ، وقرأ عبد اللّه كذلك ، وبجزم قوله سبحانه : وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً ، وقيل : إن من جزم الأول جزم هذا لعطفه عليه وهو الظاهر ، والمعنى لا تضرونه بهلاككم شيئا أي لا ينتقص ملكه ولا يختل أمره ، ويؤيد هذا ما روي عن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه أنه قرأ ولا تنقصونه شيئا ، ونصب شَيْئاً على أنه مفعول مطلق لتضرون أي شيئا من الضرر لأنه لا يتعدى لاثنين ، وجعله بعضهم مفعولا ثانيا مفسرا له بما يتعدى لهما لمكان الرواية ، وجوز ابن عطية أن يكون المعنى أنكم لا تقدرون إذا أهلككم على إضراره بشيء ولا على الانتصار منه ولا تقابلون فعله بشيء يضره تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، والأول أظهر ، وقدر بعضهم التولي بدل الإهلاك أي ولا تضرونه بتوليكم شيئا من الضرر لاستحالة ذلك عليه سبحانه إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ أي رقيب محيط بالأشياء علما فلا يخفى عليه أعمالكم ولا يغفل عن مؤاخذتكم. فالحفظ كناية عن المجازاة ، ويجوز أن يكون الحفيظ بمعنى الحافظ بمعنى الحاكم المستولي أي إنه سبحانه حافظ مستول على كل شيء ، ومن شأنه ذلك كيف يضره شيء وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا أي نزل عذابنا على أن الأمر واحد الأمور ، قيل : أو المأمور به ، وفي التعبير عنه بذلك مضافا إلى ضميره جل جلاله ، وعن نزوله بالمجيء ما لا يخفى من التفخيم والتهويل.
وجوز أن يكون واحد الأوامر أي وورد أمرنا بالعذاب ، والكلام على الحقيقة إن أريد أمر الملائكة عليهم السلام ، ويجوز أن يكون ذلك مجازا عن الوقوع على سبيل التمثيل نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قيل : كانوا أربعة آلاف ، وقيل : ثلاثة آلاف ، ولعل الانتصار للأنبياء عليهم السلام لم يكن مأذونا به للمؤمنين إذ ذاك فلا ينافي ما تقدم نقله من أنه عليه السلام كان وحده ، ولذا عد مواجهته للجم الغفير معجزة له صلّى اللّه عليه وسلّم لكن لا بد لهذا من دليل كدعوى انفراده عنهم حين المقاولة وفي الحواشي الشهابية أنه لا مانع من ذلك باعتبار حالين وزمانين فتأمل ، والظاهر أن ما كان من المقاولة إنما هو في ابتداء الدعوة ومجيء الأمر كان بعد بكثير وإيمان من آمن كان في البين فترتفع المنافاة بِرَحْمَةٍ عظيمة كائنة مِنَّا وهي الإيمان الذي أنعمنا به عليهم.
وروي هذا عن ابن عباس والحسن ، وذكره الزمخشري - ولشم بعضهم منه رائحة الاعتزال - لم يلتفت إليه ولا بأس بأن تحمل الرحمة عن الفضل فيفيد أن ذلك بمحض فضل اللّه تعالى إذا له سبحانه تعذيب المطيع كما أن له جل وعلا إثابة العاصي ، والجار والمجرور الأول متعلق - بنجينا - وهو الظاهر الذي عليه كثير من المفسرين.
وجوز أبو حيان كونه متعلقا - بآمنوا - أي إن إيمانهم باللّه تعالى ورسوله عليه السلام برحمة من اللّه تعالى إذ وفقهم إليه ، ولعل ترتيب الإنجاء على النزول باعتبار ما تضمنه من تعذيب الكفار فيكون قد صرح بالإنجاء اهتماما ،

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 284
ورتب باعتبار الآخر إشارة إلى أنه مقصود منه ، ويجوز أن تكون - لما لمجرد الحين - وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ تكرير لأجل بيان ما نجاهم عنه وهي الريح التي كانت تحمل الظعينة وتهدم المساكن وتدخل في أنوف أعداء اللّه تعالى وتخرج من أدبارهم فتقطعهم إربا إربا ، أو المراد بهذا الإنجاء من عذاب الآخرة وبالأول الإنجاء من عذاب الدنيا ، ورجح الأول بأنه أوفق لمقتضى المقام ، وحاصله أن الأول إخبار بأن الإيمان الذي وفقوا له صار سبب إنجائهم.
والثاني بأن ذلك الإنجاء كان من عذاب أي عذاب دلالة على كمال الامتنان وتحريضا على الإيمان وليس من أسلوب - أعجبني زيد وكرمه - في شيء كما ظنه العلامة الطيبي.
وقد أورد على الثاني أن إنجاءهم من عذاب الآخرة ليس في وقت نزول العذاب في الدنيا ولا مسببا عنه إلا أن يجاب بأنه عطف على القيد والمقيد كما قيل في قوله سبحانه : لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف : 34] قيل : ولا يخفى ما فيه من التكلف من غير داع لأن الموافق للتعبير بالماضي المفيد لتحققه حتى كأنه وقع أن يجعل باعتبار ذلك واقعا في وقت النزول تجوزا أو المعنى حكمنا بذلك وتبين ما يكون لهم لأن الدنيا أنموذج الآخرة وأيا ما كان فالمراد بغلظ العذاب تضاعفه ، وقد يقال على الاحتمال الأول في وصف العذاب الذي كان بالريح : بالغلظ الذي هو ضد الرقة التي هي صفة الريح ما لا يخفى من اللطف ، وفيه أيضا مناسبة لحالهم فإنهم كانوا غلاظا شدادا وَتِلْكَ عادٌ أنث اسم الإشارة باعتبار القبيلة على ما قيل ، فالإشارة إلى ما في الذهن وصيغة البعيد لتحقيرهم أو لتنزيلهم منزلة البعيد لعدمهم ، أو الإشارة إلى قبورهم ومصارعهم ، وحينئذ الإشارة للبعيد المحسوس والإسناد مجازي أو هو من مجاز الحذف أي تلك قبور عاد ، وجوز أن يكون بتقدير أصحاب تلك عاد ، والجملة مبتدأ وخبر ، وكان المقصود الحث على الاعتبار بهم والاتعاظ بأحوالهم ، وقوله سبحانه : جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ إلخ استئناف لحكاية بعض قبائحهم أي كفروا بآيات ربهم التي أيد بها رسوله الداعي إليه ودل بها على صدقه وأنكروها فقالوا : يا هود ما جئتنا ببينة ، أو أنكروا آياته سبحانه في الآفاق والأنفس الدالة عليه تعالى حسبما قال لهم هود عليه السلام.
وجوز أن يراد بها الآيات التي أتى بها هود وغيره من الرسل عليهم الصلاة والسلام ، ويلائمه جمع الرسل الآتي على قول ، وعدي - جحد - بالباء حملا له على كفر لأنه المراد ، أو بتضمينه معناه كما أن كفر يجري مجرى جحد فيعدى بنفسه نحو قوله سبحانه : أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ ، وقيل : كفر كشكر يتعدى بنفسه وبالباء ، وظاهر كلام القاموس أن جحد كذلك وَعَصَوْا رُسُلَهُ قيل : المراد بالرسل هود عليه السلام والرسل الذين كانوا معه من قبله وهو خلاف الظاهر ، وقيل : المراد بهم هود عليه السلام وسائر الرسل من قبله تعالى للأمم من قبله ومن بعده عليه السلام بناء على أن عصيانه عليه السلام وكذا عصيان كل رسول بمنزلة عصيان الرسل جميعهم لأن الجميع متفقون على التوحيد فعصيان واحد عصيان للجميع فيه ، أو على أن القوم أمرهم كل رسول من قبل بطاعة الرسل والإيمان بهم إن أدركوهم فلم يمتثلوا ذلك الأمر وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ متعال عن قبول الحق ، وقال الكلبي : هو الذي يقتل على الغضب ويعاقب على المعصية.
وقال الزجاج : هو الذي يجبر الناس على ما يريد ، وذكر ابن الأنباري أنه العظيم في نفسه المتكبر على العباد عَنِيدٍ أي طاغ من - عند - بتثليث النون - عندا - بالإسكان - وعندا - بالتحريك - وعنودا - بضم العين إذا طغا وجاوز الحد في العصيان. وفسره الراغب بالمعجب بما عنده ، والجوهري بمن خالف الحق ورده وهو يعرفه ، وكذا عاند ، ويطلق الأخير على البعير الذي يجور عن الطريق ويعدل عن القصد ، وجمعه - عند - كراكع وركع ، وجمع العنود - عند - كرغيف ورغف ، والعنود قيل : بمعنى العنيد.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 285
وزعم بعضهم أنه يقال : بعير عنود ، ولا يقال : عنيد ، ويجمع الأول على عندة والثاني على عند ، وآخر أن العنود العادل عن الطريق المحسوس. والعنيد العادل عن الطريق في الحكم وكلاهما من - عند - وأصل معناه على ما قيل :
اعتزل في جانب لأن - العند - بالتحريك الجانب يقال : يمشي وسطا لا عندا ، ومنه - عند الظرفية ، ويقال للناحية أيضا :
العند مثلثة ، وهذا الحكم ليس كالحكمين السابقين من جحود الآيات وعصيان الرسل في الشمول لكل فرد فرد منهم فإن اتباع الأمر من أحكام الأسافل دون الرؤساء.
وقيل : هو مثل ذلك في الشمول ، والمراد - بالأمر - الشأن - وبكل جبار عنيد - من هذه صفته من الناس لا أناس مخصوصون من عاد متصفون بذلك ، والمراد باتباع الأمر ملازمته أو الرضا به على أتم وجه ، ويؤول ذلك إلى الاتصاف أي إن كلّا منهم اتصف بصفة كل جبار عنيد ، ولا يخفى ما فيه من التكلف الظاهر ، وقد يدعى العموم من غير حاجة إلى ارتكاب مثله ، والمراد على ما تقدم أنهم عصوا من دعاهم إلى سبيل الهدى وأطاعوا من حداهم إلى مهاوي الردى وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً أي إبعادا عن الرحمة وعن كل خير أي جعلت اللعنة لازمة لهم ، وعبر عن ذلك بالتبعية للمبالغة فكأنها لا تفارقهم وإن ذهبوا كل مذهب بل تدور معهم حسبما داروا ، أو لوقوعه في صحبة اتباعهم ، وقيل : الكلام على التمثيل بجعل اللعنة كشخص تبع آخر ليدفعه في هوة قدامه ، وضمير الجمع لعاد مطلقا كما هو الظاهر.
وجوز أن يكون للمتبعين للجبارين منهم ، وما حال قوم قدامهم الجبارون أهل النار وخلفهم اللعنة ، والبوار ، ويعلم من لعنة هؤلاء لعنة غيرهم المتبوعين على ما قيل بالطريق الأولى وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أي واتبعوا يوم القيامة أيضا لعنة وهي عذاب النار المخلد حذف ذلك لدلالة الأول عليه وللإيذان بأن كلا من العنين نوع برأسه لم يجتمعا في قرن واحد بأن يقال : وأتبعوا في هذه الدنيا ويوم القيامة لعنة ، ونظير هذا قوله تعالى : وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ [الأعراف : 156] وعبر - بيوم القيامة - بدل الآخرة هنا للتهويل الذي يقتضيه المقام.
أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أي بربهم أو كفروا نعمته ولم يشكروها بالإيمان أو جحدوه أَلا بُعْداً لِعادٍ دعاء عليهم بالهلاك مع أنهم هالكون أيّ هلاك تسجيلا عليهم باستحقاق ذلك والاستئهال له ، ويقال في الدعاء بالبقاء واستحقاقه : لا يبعد فلان ، وهو في كلام العرب كثير ، ومنه قوله :
لا يبعدن قومي الذين هم سم العداة وآفة الجزر
وجوز أن يكون دعاء باللعن كما في القاموس : البعد والبعاد اللعن ، واللام للبيان كما في قولهم : سقيا لك ، وقيل : للاستحقاق وليس بذاك ، وتكرير حرف التنبيه وإعادة عاد للمبالغة في تفظيع حالهم والحث على الاعتبار بقصتهم ، وقوله سبحانه : قَوْمِ هُودٍ عطف بيان على «عاد» وفائدته الإشارة إلى أن عادا كانوا فريقين : عادا الأولى وعادا الثانية ، وهي عاد إرم في قول ، وذكر الزمخشري في الفجر أن عقب عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح قيل لهم : عاد كما يقال لبني هاشم : هاشم ، ثم قيل للأولين منهم عاد الأولى وإرم تسمية لهم باسم جدهم ، ولمن بعدهم عاد الأخيرة ، وأنشد لابن الرقيات :
مجدا تليدا بناه أوله أدرك عادا وقبلها إرما
ولعله الأوفق للنقل مع الإيماء إلى أن استحقاقهم للبعد بسبب ما جرى بينهم وبين هود عليه السلام وهم قومه ، وليس ذلك لدفع اللبس إذ لا لبس في أن عادا هذه ليست إلا قوم هود عليه السلام للتصريح باسمه وتكريره في القصة ، وقيل : ذكر ليفيد مزيد تأكيد بالتنصيص عليهم مع ما في ذلك من تناسب فواصل الآي.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 286
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ الكلام فيه كالكلام في نظيره السابق آنفا ، وجمهور القراء على منع صرف ثَمُودَ ذهابا إلى القبيلة ، وقرأ ابن وثاب والأعمش بالصرف على إرادة الحي هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ أي ابتدأ خلقكم منها فإنها المادة الأولى وآدم الذي هو أصل البشر خلق منها ، وقيل : الكلام على حذف مضاف أي أنشأ أباكم ، وقيل : مِنْ بمعنى في ، وليس بشيء ، والمراد الحصر كما يفهمه كلام بعض الأجلة كأن القوم لعدم أدائهم حقه سبحانه قد اعتقدوا أن الفاعل لذلك غيره تعالى ، أو هو مع غيره فخوطبوا على وجه قصر القلب أو قصر الأفراد بذلك ، واحتمال أنهم كانوا يعتقدون أحد الأمرين حقيقة لا تنزيلا يستدعي القول بأنهم كانوا طبيعية أو ثنوية وإلا فالوثنية - وإن عبدوا معه سبحانه غيره - لا يعتقدون خالقية غيره لهم بوجه من الوجوه ، وأخذ الحصر على ما قيل : من تقديم الفاعل المعنوي ، وقيل : إنه مستفاد من السياق لأنه لما حصر الإلهية فيه تعالى اقتضى حصر الخالقية أيضا فبيان ما خلقوا منه بعد بيان أنه الخالق لا غيره يقتضي هذا فتدبر ، والظاهر أن من يقول بالحصر هنا يقول به في قوله سبحانه : وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها لمكان العطف وكونه معطوفا بعد اعتبار التقديم فلا ينسحب على ما بعده مما لا فائدة في التزامه أي وهو الذي جعلكم عمارها وسكانها فالاستفعال بمعنى الافعال يقال :
أعمرته الأرض واستعمرته إذا جعلته عامرها وفوضت إليه عمارتها ، وإلى هذا ذهب الراغب وكثير من المفسرين ، وقال زيد بن أسلم : المعنى أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه من بناء مساكن وحفر أنهار وغرس أشجار وغير ذلك ، فالسين للطلب ، وإلى هذا ذهب الكيا ، واستدل بالآية على أن عمارة الأرض واجبة لهذا الطلب. وقسمها في الكشاف إلى واجب كعمارة القناطر اللازمة والمسجد الجامع. ومندوب كعمارة المساجد. ومباح كعمارة المنازل وحرام كعمارة الخانات ، وما يبنى للمباهاة أو من مال حرام كأبنية كثير من الظلمة ، واعترض على الكيا بأنه لم يكن هناك طلب حقيقة ولكن نزل جعلهم محتاجين لذلك - وإقدارهم عليه وإلهامهم كيف يعمرون - منزلة الطلب ، وقال الضحاك :
المعنى عمركم فيها واستبقاكم وكان أحدهم يعمر طويلا حتى أن منهم من يعمر ألف سنة ، والمشهور أن الفعل من العمر وهو مدة الحياة بالتشديد ومن العمارة نقيض الخراب بالتخفيف ففي أخذ ذلك من العمر تجوز.
وعن مجاهد أن استعمر من العمرى بضم فسكون مقصور ، وهي - كما قال الراغب - في العطية أن تجعل له شيئا مدة عمرك أو عمره ، والمعنى أعمركم فيها ورباكم أي أعطاكم ذلك ما دمتم أحياء ثم هو سبحانه وارثها منكم ، أو المعنى جعلكم معمرين دياركم فيها لأن الرجل إذا ورث داره من بعده فكأنما أعمره إياها لأنه يسكنها عمره ثم يتركها لغيره فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ تفريع على ما تقدم فإن ما ذكر من صنوف إحسانه سبحانه داع إلى الاستغفار والتوبة ، وقوله : إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ أي قريب الرحمة لقوله سبحانه : إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف : 56] والقرآن يفسر بعضه بعضا مُجِيبٌ لمن دعاه وسأله زيادة في بيان ما يوجب ذلك والأول علة باعثة ، وهذا علة غائية وما ألطف التقديم والتأخير ، وصرح بعضهم أن قَرِيبٌ ناظر - لتوبوا - ومُجِيبٌ - لاستغفروا - كأنه ، قيل : ارجعوا إلى اللّه تعالى فإنه سبحانه قَرِيبٌ منكم أقرب من حبل الوريد واسألوه المغفرة فإنه جلا وعلا مُجِيبٌ السائلين ولا يخلو عن حسن قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا أي فيما بيننا مَرْجُوًّا فاضلا خيرا نقدمك على جميعنا على ما روي عن ابن عباس.
وقال ابن عطية مشورا نأمل منك أن تكون سيدا سادا مسد الأكابر ، وقال كعب : كانوا يرجونه للملك بعد ملكهم لأنه كان ذا حسب وثروة.
وقال مقاتل : كانوا يرجون رجوعه إلى دينهم إذ كان يبغض أصنامهم ويعدل عن دينهم قَبْلَ هذا أي الذي

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 287
باشرته من الدعوة إلى التوحيد وترك عبادة الآلهة فلما سمعنا منك ما سمعناه انقطع عنك رجاؤنا ، وقيل : كانوا يرجون دخوله في دينهم بعد دعواه إلى الحق ثم انقطع رجاؤهم - فقبل هذا - قبل هذا الوقت لا قبل الذي باشره من الدعوة ، وحكى النقاش عن بعضهم أن مَرْجُوًّا بمعنى حقيرا وكأنه فسره أولا بمؤخرا غير معتنى به ولا مهتم بشأنه ، ثم أراد منه ذلك وإلا - فمرجوا - بمعنى حقير لم يأت في كلام العرب ، وجاء قولهم : أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا على جهة التوعد والاستبشاع لتلك المقالة منه والتعبير - بيعبد - لحكاية الحال الماضية ، وقرأ طلحة «مرجؤا» بالمد والهمز وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ من التوحيد وترك عبادة الآلهة وغير ذلك من الاستغفار والتوبة مُرِيبٍ اسم فاعل من أرابه المتعدي بنفسه إذا أوقعه في الريبة وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة باليقين ، أو من أراب الرجل اللازم إذا كان ذا ريبة ، والإسناد على الوجهين مجازي إلا أن بينهما - كما قال بعض المحققين - فرقا ، وهو أن الأول منقول من الأعيان إلى المعنى. والثاني منقول من صاحب الشك إلى الشك كما تقول : شعر شاعر ، فعلى الأول هو من باب الإسناد إلى السبب لأن وجود الشك سبب لتشكيك المشكك ولولاه لما قدر على التشكيك ، والتنوين في مُرِيبٍ وفي شَكٍّ للتفخيم ، وَإِنَّنا بثلاث نونات ، ويقال : إنا بنونين وهما لغتان لقريش.
قال الفراء : من قال : إننا أخرج الحرف على أصله لأن كناية المتكلمين - نا - فاجتمعت ثلاث نونات ، ومن قال :
إنا استثقل اجتماعها فأسقط الثالثة وأبقى الأوليين.
واختار أبو حيان أن المحذوف النون الثانية لا الثالثة لأن في حذفها إجحافا بالكلمة إذ لا يبقى منها إلا حرف واحد ساكن دون حذف الثانية لظهور بقاء حرفين بعده على أنه قد عهد حذف النون الثانية من إن مع غير ضمير المتكلمين ولم يعهد حذف نون - نا - ولا ريب في أن ارتكاب المعهود أولى من ارتكاب غير المعهود قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ حجة ظاهرة وبرهان وبصيرة مِنْ رَبِّي مالكي ومتولي أموري وَآتانِي مِنْهُ من قبله سبحانه رَحْمَةً نبوة ، وهذا من الكلام المنصف ، والاستدراج إذ لا يتصور منه عليه السلام شك فيما في حيز إن ، وأصل وضعها أنها لشك المتكلم فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ أي فمن يمنعني من عذابه ، ففي الكلام مضاف مقدر والنصرة مستعملة في لازم معناها أو أنّ الفعل مضمن معنى المنع ، ولذا تعدى - بمن - والعدول إلى الإظهار لزيادة التهويل والفاء لترتيب إنكار النصر على ما سبق من كونه على بينة وإيتاء الرحمة على تقدير العصيان حسبما يعرب عنه قوله : إِنْ عَصَيْتُهُ أي في المساهلة في تبليغ الرسالة والمنع عن الشرك به تعالى والمجاراة معكم فيما تشتهون فإن العصيان ممن ذلك شأنه أبعد والمؤاخذة عليه ألزم وإنكار نصرته أدخل فَما تَزِيدُونَنِي إذن باستتباعكم إياي أي لا تفيدونني إذ لم يكن فيه أصل الخسران حتى يزيدوه غَيْرَ تَخْسِيرٍ أي غير أن تجعلوني خاسرا بإبطال أعمالي وتعريضي لسخط اللّه تعالى ، أو فَما تَزِيدُونَنِي بما تقولون غير أن أنسبكم إلى الخسران ، وأقول لكم : إنكم لخاسرون لا أن أتبعكم.
وروي هذا عن الحسن بن الفضل ، فالفاعل على الأول هم والمفعول صالح ، وعلى الثاني بالعكس والتفعيل كثيرا ما يكون للنسبة كفسقته وفجرته ، والزيادة على معناها والفاء لترتيب عدم الزيادة على انتفاء الناصر المفهوم من إنكاره على تقدير العصيان مع تحقق ما ينفيه من كونه عليه السلام على بينة من ربه وإيتائه النبوة.
وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن المعنى فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ مضارة في خسرانكم ، فالكلام على حذف مضاف ، وعن مجاهد ما تزدادون أنتم باحتجاجكم بعبادة آبائكم إلا خسارا ، وأضاف الزيادة إلى نفسه لأنهم أعطوه ذلك وكان قد سألهم الإيمان ، قال ابن عطية : المعنى فما تعطوني فيما أقتضيه منكم من الإيمان غَيْرَ تَخْسِيرٍ

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 288
لأنفسكم ، وأضاف الزيادة إلى نفسه من حيث إنه مقتض لأقوالهم موكل بإيمانهم كما تقول لمن توصيه : أنا أريد بك خيرا وأنت تريد بي سوءا وكان الوجه البين أن تقول : وأنت تريد شرا لكن من حيث كنت مريد خير ومقتضى ذلك حسن أن تضيف الزيادة إلى نفسك ، وقيل : المعنى فما تزيدونني غير تخسيري إياكم حيث إنكم كلما ازددتم تكذيبا إياي ازدادت خسارتكم ، وهي أقوال كما ترى وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ الإضافة للتشريف والتنبيه على أنها مفارقة لسائر ما يجانسها خلقا ، وخلقا لَكُمْ آيَةً معجزة دالة على صدقي في دعوى النبوة ، وهي حال من ناقَةُ اللَّهِ ، والعامل ما في اسم الإشارة من معنى الفعل.
وقيل : معنى التنبيه ، والظاهر أنها حال مؤسسة ، وجوز فيها أن تكون مؤكدة كهذا أبوك عطوفا لدلالة الإضافة على أنها آية ، ولَكُمْ كما في البحر وغيره حال منها فقدمت عليها لتنكيرها ولو تأخرت لكانت صفة لها ، واعترض بأن مجيء الحال من الحال لم يقل به أحد من النحاة لأن الحال تبين هيئة الفاعل أو المفعول وليست الحال شيئا منهما ، وأجيب بأنها في معنى المفعول للإشارة لأنها متحدة مع المشار إليه الذي هو مفعول في المعنى ولا يخفى ما فيه من التكلف ، وقيل : الأولى أن يقال : إن هذه الحال صفة في المعنى لكن لم يعربوها صفة لأمر تواضع النحويون عليه من منع تقدم ما يسمونه تابعا على المتبوع فحديث - إن الحال تبين الهيئة - مخصوص بغير هذه الحال ، واعترض بأن هذا ونحوه لا يحسم مادة الاعتراض لأن المعترض نفى قول أحد من النحاة بمجيء الحال من الحال ، وبما ذكر لا يثبت القول وهو ظاهر ، نعم قد يقال : إن اقتصار أبي حيان والزمخشري - وهما من تعلم في العربية - على هذا النحو من الاعراب كاف في الغرض على أتم وجه ، وأراد الزمخشري بالتعلق في كلامه التعلق المعنوي لا النحوي فلا تناقض فيه على أنه بحث لا يضر.
وقيل : لَكُمْ حال من ناقَةُ وآيَةً حال من الضمير فيه فهي متداخلة ، ومعنى كون الناقة للمخاطبين أنها نافعة لهم ومختصة بهم هي ومنافعها فلا يرد أنه لا اختصاص لذات الناقة بهم ، وإنما المختص كونها آية لهم ، وقيل :
لَكُمْ حال من الضمير في آيَةً لأنها بمعنى المشتق ، والأظهر كون لَكُمْ بيان من هي آيَةً له ، وجوز كون ناقَةُ بدلا أو عطف بيان من اسم الإشارة ، ولَكُمْ خبره ، وآيَةً حال من الضمير المستتر فيه فَذَرُوها دعوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ فليس عليكم مؤنتها والفعل مجزوم لوقوعه في جواب الطلب ، وقرىء بالرفع على الاستئناف أو على الحال - كما في البحر - والمتبادر من الأكل معناه الحقيقي لكن قيل في الآية اكتفاء أي تأكل وتشرب ، وجوز أن يكون مجازا عن التغذي مطلقا والمقام قرينة لذلك.
وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ أي بشيء منه فضلا عن العقر والقتل ، والنهي هنا على حدّ النهي في قوله تعالى : وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ
[الأنعام : 152] إلخ فَيَأْخُذَكُمْ لذلك عَذابٌ قَرِيبٌ عاجل لا يستأخر عن مسكم إياها بسوء إلا يسيرا وذلك ثلاثة أيام ثم يقع عليكم ، وقيل : أراد من وصفه بالقرب كونه في الدنيا ، وإلى الأول ذهب غير واحد من المفسرين وكان الإخبار عن وحي من اللّه تعالى فَعَقَرُوها أي فخالفوا ما أمروا به فعقروها ، والعقر قيل :
قطع عضو يؤثر في النفس.
وقال الراغب : يقال : عقرت البعير إذا نحرته ويجيء بمعنى الجرح أيضا - كما في القاموس - وأسند العقر إليهم مع أن الفاعل واحد منهم وهو قدار - كهمام - في قول ، ويقال له : أحمر ثمود ، وبه يضرب المثل في الشؤم لرضاهم بفعله ، وقد جاء أنهم اقتسموا لحمها جميعا فَقالَ لهم صالح عليه السلام تَمَتَّعُوا عيشوا فِي دارِكُمْ أي بلدكم ، وتسمى البلاد الديار لأنها يدار فيها أي يتصرف يقال : ديار بكر لبلادهم ، وتقول العرب الذين حوالي مكة :

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 289
نحن من عرب الدار يريدون من عرب البلد ، وإلى هذا ذهب الزمخشري ، وقال ابن عطية : هو جمع دارة كساحة وساح وسوح ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت يمدح عبد اللّه بن جدعان :
له داع بمكة مشمعل وآخر فوق «دارته» ينادي
ويمكن أن يسمى جميع مسكن الحي دارا وتطلق الدار على الدنيا أيضا ، وبذلك فسرها بعضهم هنا ، وفسر الطبرسي التمتع بالتلذذ أي تلذذوا بما تريدون ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ثم يأخذكم العذاب ،
قيل : إنهم لما عقروا الناقة صعد فصيلها الجبل ورغا ثلاث رغوات فقال صالح عليه السلام : لكل رغوة أجل يوم ،
وابتداء الأيام على ما في بعض الروايات الأربعاء ، وروي أنه عليه السلام قال لهم : تصبح وجوهكم غدا مصفرة. وبعد غد محمرة واليوم الثالث مسودة ثم يصبحكم العذاب فكان كما قال :
ذلِكَ إشارة إلى ما يدل عليه الأمر بالتمتع ثلاثة أيام من نزول العذاب عقيبها وما فيه من معنى البعد للتفخيم وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ أي غير مكذوب فيه فحذف الجار وصار المجرور مفعولا على التوسع لأن الضمير لا يجوز نصبه على الظرفية والجار لا يعمل بعد حذفه ، ويسمون هذا الحذف والإيصال ، وهو كثير في كلامهم ويكون في الاسم - كمشترك - وفي الفعل كقوله :
ويوم شهدناه سليما وعامرا قليل سوى طعن النهال نوافله
أو غَيْرُ مَكْذُوبٍ على المجاز كأن الواعد قال له : أفي بك فإن وفى به صدقه وإلا كذبه فهناك استعارة مكنية تخييلية ، وقيل : مجاز مرسل بجعل مَكْذُوبٍ بمعنى باطل ومتخلف ، أو وعد غير كذب على أن مكذوب مصدر على وزن مفعول كمجلود ومعقول بمعنى عقل وجلد فإنه سمع منهم ذلك لكنه نادر ، ولا يخفى ما في تسمية ذلك وعدا من المبالغة في التهكم فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا أي عذابنا أو أمرنا بنزوله ، وفيه ما لا يخفى من التهويل نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ متعلق بنجينا أو بآمنوا بِرَحْمَةٍ مِنَّا أي بسببها أو ملتبسين بها ، وفي التنوين والوصف نوعان من التعظيم وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ أي نجيناهم من خزي يومئذ وهو الهلاك بالصيحة وهذا كقوله تعالى :
وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ على معنى إنا نجيناهم ، وكانت تلك التنجية من خزي يومئذ ، وجوز أن يراد ونجيناهم من ذل وفضيحة يوم القيامة أي من عذابه ، فهذه الآية كآية هود سواء بسواء.
وتعقب أبو حيان هذا بأنه ليس بجيد إذ لم تتقدم جملة ذكر فيها يوم القيامة ليكون التنوين عوضا عن ذلك ، والمذكور إنما هو جاء أمرنا فليقدر يوم إذ جاء أمرنا وهو جيد ، والدفع بأن القرينة قد تكون غير لفظية كما هنا فيه نظر ، وقيل : القرينة قوله سبحانه فيما مر : «عذاب يوم غليظ» وفيه ما فيه ، وقيل : الواو زائدة فيتعلق مِنْ - بنجينا - المذكور ، وهذا لا يجوز عند البصريين لأن الواو لا تزاد عندهم فيوجبون هنا التعلق بمحذوف وهو معطوف على ما تقدم ، وقرأ طلحة وأبان «ومن خزي» بالتنوين ونصب «يومئذ» على الظرفية معمولا لخزي ، وعن نافع والكسائي أنهما قرآ بالإضافة وفتح - يوم - لأنه مضاف إلى إذ وهو غير متمكن ، وهذا كما فتح حين في قول النابغة :
على «حين» عاتبت المشيب على الصبا فقلت : ألما أصح والشيب وازع
إِنَّ رَبَّكَ خطاب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ أي القادر على كل شيء والغالب عليه في كل وقت ويندرج في ذلك الإنجاء والإهلاك في ذلك اليوم وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قوم صالح ، وعدل عن الضمير إلى الظاهر تسجيلا عليهم بالظلم وإشعارا بعليته لنزول العذاب بهم الصَّيْحَةُ أي صيحة جبريل أو صيحة من السماء فيها كل صاعقة وصوت مفزغ ، وهي على ما في البحر فعلة للمرة الواحدة من الصياح ، يقال : صاح يصيح إذا صوت بقوة ، وأصل ذلك - كما قال الراغب - تشقيق الصوت من قولهم : إنصاح الخشب. أو الثوب إذا انشق فسمع منه

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 290
صوت ، وصيح الثوب كذلك ، وقد يعبر بالصيحة عن الفزع ، وفي فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ [الأعراف : 78 ، 91] قيل :
ولعلها وقعت عقيب الصيحة المستتبعة لتموج الهواء ، وقد تقدم الكلام منا في ذلك فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ أي منازلهم ومساكنهم ، وقيل : بلادهم جاثِمِينَ هامدين موتى لا يتحركون ، وقد مر تمام الكلام في ذلك معنى وإعرابا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا أي كأنهم لم يقيموا فِيها أي في ديارهم ، والجملة قيل : في موضع الحال أي أصبحوا جاثِمِينَ مماثلين لمن لم يوجد ولم يقم في مقام قط أَلا إِنَّ ثَمُودَ وضع موضع المضمر لزيادة البيان ، ومنعه من الصرف حفص وحمزة نظرا إلى القبيلة ، وصرفه أكثر السبعة نظرا إلى الحي كما قدمنا آنفا ، وقيل : نظرا إلى الأب الأكبر يعني يكون المراد به الأب الأول وهو مصروف وحينئذ يقدر مضاف كنسل وأولاد ونحوه ، وقيل : المراد أنه صرف نظرا لأول وضعه وإن كان المراد به هنا القبيلة كَفَرُوا رَبَّهُمْ صرح بكفرهم مع كونه معلوما مما سبق من أحوالهم تقبيحا لحالهم وتعليلا لاستحقاقهم الدعاء عليهم بالبعد والهلاك في قوله سبحانه : أَلا بُعْداً لِثَمُودَ ، وقرأ الكسائي لا غير بالتنوين ، وقد تقدم الكلام في شرح قصتهم على أتم وجه وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ وهم الملائكة روي عن ابن عباس أنهم كانوا اثني عشر ملكا.
وقال السدي : أحد عشر على صورة الغلمان في غاية الحسن والبهجة ، وحكى صاحب الفينان أنهم عشرة منهم جبريل ، وقال الضحاك : تسعة ، وقال محمد بن كعب : ثمانية ، وحكى الماوردي أنهم أربعة ولم يسمهم.
وجاء في رواية عن عثمان بن محيصن أنهم جبريل وإسرافيل وميكائيل ورفائيل عليهم السلام ، وفي رواية عن ابن عباس وابن جبير أنهم ثلاثة الأولون فقط ، وقال مقاتل : جبرائيل وميكائيل وملك الموت عليهم السلام ، واختار بعضهم الاقتصار على القول بأنهم ثلاثة لأن ذلك أقل ما يدل عليه الجمع وليس هناك ما يعول عليه في الزائد وإنما أسند إليهم المجيء دون الإرسال لأنهم لم يكونوا مرسلين إليه عليه السلام بل إلى قوم لوط لقوله تعالى : إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ [هود : 70] وإنما جاؤوه لداعية البشرى ، قيل : ولما كان المقصود في السورة الكريمة ذكر صنيع الأمم السالفة مع الرسل المرسلة إليهم ولحوق العذاب بهم ولم يكن جميع قوم إبراهيم عليه السلام من لحق بهم العذاب بل إنما لحق بقوم لوط منهم خاصة غير الأسلوب المطرد فيما سبق من قوله تعالى : وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً [هود : 50] وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً [هود : 61] ثم رجع إليه حيث قيل : وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً [هود : 84] والباء في قوله تعالى : بِالْبُشْرى للملابسة أي ملتبسين بالبشرى ، والمراد بها قيل : مطلق البشارة المنتظمة بالبشارة بالولد من سارة لقوله تعالى : فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ [هود : 71] الآية ، وقوله سبحانه : فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ [الصافات : 101] إلى غير ذلك ، وللبشارة بعدم لحوق الضرر به لقوله تعالى : فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى [هود : 74] لظهور تفرع المجادلة على مجيئها ، وكانت البشارة الأولى على ما قيل : من ميكائيل والثانية من إسرافيل عليهما السلام ، وقيل : المراد بها البشارة بهلاك قوم لوط عليه السلام فإن هلاك الظلمة من أجل ما يبشر به المؤمن.
واعترض بأنه يأباه مجادلته عليه السلام في شأنهم ، واستظهر الزمخشري أنها البشارة بالولد وهي المرادة بالبشرى فيما سيأتي ، وسر تفرع المجادلة عليها سيذكر إن شاء اللّه تعالى ، وعلل في الكشف استظهار ذلك بقوله : لأنه الأنسب بالإطلاق ، ولقوله سبحانه في الذاريات : وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الذاريات : 28] ثم قال بعده : فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ [الذاريات : 31] ثم قال : وقوله تعالى : فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ إلخ ، وإن كان يحتمل أن ثمة بشارتين فيحمل في كل موضع على واحدة لكنه خلاف الظاهر انتهى ، ولما كان الاخبار بمجيء الرسل عليهم

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 291
السلام مظنة لسؤال السامع بأنهم ما قالوا : أجيب بأنهم قالُوا سَلاماً أي سلمنا أو نسلم عليك سلاما فهو منصوب بفعل محذوف ، والجملة مقول القول قال ابن عطية : ويصح أن يكون مفعول قالُوا على أنه حكاية لمعنى ما قالوا لا حكاية للفظهم.
وروي ذلك عن مجاهد والسدي ، ولذلك عمل فيه القول ، وهذا كما تقول لرجل قال : لا إله إلا اللّه قلت حقا وإخلاصا.
وقيل : إن النصب - بقالوا - لما فيه من معنى الذكر كأنه قيل : ذكروا سلاما قالَ سَلامٌ أي عليكم سلام أو سلام عليكم ، والابتداء بنكرة مثله سائغ كما قرر في النحو ، وقد حياهم عليه السلام بأحسن من تحيتهم لأنها بجملة اسمية دالة على الدوام والثبات فهي أبلغ ، وأصل معنى السلام السلامة مما يضر.
وقرأ حمزة والكسائي «سلم» في الثاني بدون ألف مع كسر السين وسكون اللام وهو على ما قيل : لغة في سَلامٌ كحرم ، وحرام ، ومنه قوله :
مررنا فقلنا : إيه «سلم» فسلمت كما اكتل بالبرق الغمام اللوائح
وقال ابن عطية : ويحتمل أن يراد بالسلم ضد الحرب ، ووجه بأنهم لما امتنعوا من تناول طعامه وخاف منهم قاله أي أنا مسالم لا محارب لأنهم كانوا لا يأكلون طعام من بينهم وبينه حرب ، واعترض بأنه يدل على أن قوله هذا بعد تقديم الطعام. وقوله سبحانه : فَما لَبِثَ إلخ صريح في خلافه ، وذكر في الكشاف أن حمزة والكسائي قرآ بكسر السين وسكون اللام في الموضعين وهو مخالف للمنقول في كتب القراءات ، وقرأ ابن أبي عبلة - قال سلاما - بالنصب كالأول ، وعنه أنه قرأ بالرفع فيهما فَما لَبِثَ أي فما أبطأ إبراهيم عليه السلام أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ أي في مجيئه به أو عن مجيئه به فَما نافية ، وضمير لَبِثَ لإبراهيم. وأَنْ جاءَ بتقدير حرف جر متعلق بالفعل وحذف الجار قبل أن وأن مطرد ، وحكى ابن العربي أن أَنْ بمعنى حتى ، وقيل : أَنْ وما بعدها فاعل لَبِثَ أي فما تأخر مجيئه ، وروي ذلك عن الفراء ، واختاره أبو حيان.
وقيل : ما مصدرية والمصدر مبتدأ أو هي اسم موصول بمعنى الذي كذلك ، وأَنْ جاءَ على حذف مضاف أي قدر وهو الخبر أي فلبثه أو الذي لبثه قدر مجيئه وليس بشيء والعجل ولد البقرة ، ويسمى الحسيل والخبش «1» بلغة أهل السراة والباء فيه للتعدية أو الملابسة ، والحنيذ السمين الذي يقطر ودكه من حنذت الفرس إذا عرقته بالجلال كأن ودكه كالجلال عليه ، أو كأن ما يسيل منه عرق الدابة المجللة للعرق ، واقتصر السدي على السمين في تفسيره لقوله تعالى : بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات : 26] ، وقيل : هو المشوي بالرضف في أخدود ، وجاء ذلك في رواية عن ابن عباس ومجاهد وقتادة ، وفي رواية عن مجاهد تفسيره بالمطبوخ. وإنما جاء عليه السلام بالعجل لأن ما له كان البقر وهو أطيب ما فيها ، وكان من دأبه عليه السلام إكرام الضيف ، ولذا عجل القرى ، وذلك من أدب الضيافة لما فيه من الاعتناء بشأن الضيف ، وفي مجيئه بالعجل كله مع أنهم بحسب الظاهر يكفيهم بعضه دليل على أنه من الأدب أن يحضر للضيف أكثر مما يأكل ، واختلف في هذا العجل هل كان مهيأة قبل مجيئهم أو أنه هيىء بعد أن جاؤوا؟ قولان اختار أبو حيان أولهما لدلالة السرعة بالإتيان به على ذلك ، ويختار الفقير ثانيهما لأنه أزيد في العناية وأبلغ في الإكرام ، وليست السرعة نصا في الأول كما لا يخفى.
___________
(1) قوله : والخبش كذا في خطه على احتمال أنه الحبش ، ولم نظفر بأيهما اسم ولد البقرة حرره.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 292
فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ كناية عن أنهم لا يمدون إليه أيديهم ويلزمه أنهم لا يأكلون ، وقيل : لا كناية بناء على ما روي أنهم كانوا ينكتون اللحم بقداح في أيديهم وليس بشيء ، وفي القلب من صحة هذه الرواية شيء إذ هذا النكت أشبه شيء بالبعث ، والملائكة عليهم السلام يجلون عن مثله ورَأى قيل : علمية فجملة لا تَصِلُ مفعول ثان ، والظاهر أنها بصرية ، والجملة في موضع الحال ففيه دليل على أن من أدب الضيافة النظر إلى الضيف هل يأكل أولا لكن ذكروا أنه ينبغي أن يكون بتلفت ومسارقة لا بتحديد النظر لأن ذلك مما يجعل الضيف مقصرا في الأكل أي لما شاهد منهم ذلك نَكِرَهُمْ أي نفرهم وَأَوْجَسَ أي استشعر وأدرك ، وقيل : أضمر مِنْهُمْ أي من جهتهم خِيفَةً أي خوفا ، وأصلها الحالة التي عليها الإنسان من الخوف ، ولعل اختيارها بالذكر للمبالغة حيث تفرس لذلك مع جهالته لهم من قبل وعدم معرفته من أي الناس يكونون كما ينبىء عنه ما في الذاريات من قوله سبحانه حكاية عنه : قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [الذاريات : 25] أنهم ملائكة ، وظن أنهم أرسلوا لعذاب قومه أو لأمر أنكره اللّه تعالى عليه قالُوا حين رأوا أثر ذلك عليه عليه السلام ، أو أعلمهم اللّه تعالى به ، أو بعد أن قال لهم ما في [الحجر : 52] إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ فإن الظاهر منه أن هناك قولا بالفعل لا بالقوة كما هو احتمال فيه على ما ستراه إن شاء اللّه تعالى ، وجوز أن يكون ذلك لعلمهم أن علمه عليه السلام أنهم ملائكة يوجب الخوف لأنهم لا ينزلون إلا بعذاب ، وقيل : إن اللّه تعالى جعل للملائكة مطلقا ما لم يجعل لغيرهم من الاطلاع كما قال تعالى : يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ [الانفطار : 12] وفي الصحيح «قالت الملائكة رب عبدك هذا يريد أن يعمل سيئة» الحديث ،
وهو قول بأن الملائكة يعلمون الأمور القلبية.
وفي الأخبار الصحيحة ما هو صريح بخلافه ، والآية والخبر المذكوران لا يصلحان دليلا لهذا المطلب ، وإسناد القول إليهم ظاهر في أن الجميع قالوا : لا تَخَفْ ويحتمل أن القائل بعضهم ، وكثيرا ما يسند فعل البعض إلى الكل في أمثال ذلك ، وظاهر قوله سبحانه : إِنَّا أُرْسِلْنا أنه استئناف في معنى التعليل للنهي المذكور كما أن قوله سبحانه :
إِنَّا نُبَشِّرُكَ [الحجر : 53 ، مريم : 7] استئناف كذلك فإن إرسالهم إلى قوم آخرين يوجب أمنه من الخوف أي أُرْسِلْنا بالعذاب إِلى قَوْمِ لُوطٍ خاصة ، ويعلم مما ذكرنا أنه عليه السلام أحس بأنهم ملائكة ، وإليه ذهب ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وقد يستدل له بقولهم : لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا فإنه كما لا يخفى على من له أدنى ذوق إنما يقال لمن عرفهم ولم يعرف فيهم أرسلوا فخاف ، وأن الإنكار المدلول عليه بنكرهم غير المدلول عليه بما في الذاريات فلا إشكال في كون الإنكار هناك قبل إحضار الطعام وهنا بعده ، وأصل الإنكار ضد العرفان ، ونكرت وأنكرت واستنكرت بمعنى ، وقيل : إن أنكر فيما لا يرى من المعاني ونكر فيما يرى بالبصر ، ومن ذلك قول الشاعر :
وأنكرتني وما كان الذي نكرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا
فإنه أراد في الأول على ما قيل : أنكرت مودتي ، وقال الراغب : إن أصل ذلك أن يرد على القلب ما لا يتصوره وذلك ضرب من الجهل وبه فسر ما في الآية ، وفرق بعضهم بين ما هنا وبين ما وقع في الذاريات بأن الأول راجع إلى حالهم حين قدم إليهم العجل. والثاني متعلق بأنفسهم ولا تعلق له برؤية عدم أكلهم بل وقع عند رؤيته عليه السلام لهم لعدم كونهم من جنس ما يعده من الناس ، ويحتاج هذا إلى اعتبار حذف المضاف أو ملاحظة الحيثية ، واعترض ما قدمناه بأن فيه ارتكاب مجاز ، ولعل الأمر فيه سهل.
وذهب بعضهم إلى أنه عليه السلام لم يعرف أنهم ملائكة حتى قالوا له : لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا وكأن سبب خوفه منهم أنهم لم يتحرموا بطعامه فظن أنهم يريدون به سوءا إذ كانت العادة إذ ذاك كذلك ، وكان عليه السلام نازلا

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 293
في طرف من الأرض منفردا عن قومه ، وهي رواية عن ابن عباس أخرجها إسحاق بن بشر وابن عساكر من طريق جويبر عن الضحاك عنه ، وقيل : كان سبب خوفه أنهم دخلوا بغير إذن وبغير وقت.
وقال العلامة الطيبي : الحق أن الخوف إنما صدر عن مجموع كونهم منكرين وكونهم ممتنعين من الطعام كما يعلم من الآيات الواردة في هذه القصة ولأنه لو عرفهم بأنهم ملائكة لم يحضر بين أيديهم الطعام ولم يحرضهم على الأول وإنما عدلوا إلى قولهم : إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ ليكون جامعا للمعاني بحيث يفهم منه المقصود أيضا انتهى.
وفيه إشارة إلى الردّ على الزمخشري ، وقد اختلف كلامه في تعليل الخوف فعلله تارة بعرفانه أنهم ملائكة وأخرى بأنهم لم يتحرموا طعامه ، ولعله أراد بذلك العرفان العرفان بعد إحضار الطعام ، وما ذكره الطيبي من أنه لو عرفهم بأنهم ملائكة لم يحضر إلخ غير قادح إذ يجوز أن يخافهم بعد الإحضار أولا لعدم التحرم ثم بعد تفرس أنهم ملائكة خافهم لأنهم ملائكة أرسلوا للعذاب ، والزمخشري حكى أحد الخوفين في موضع والآخر في آخر.
قال بعض المحققين والتعليل بأنهم ملائكة هو الوجه لينتظم قوله سبحانه : لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الحجر : 53] مع ما قبله إذ لو كان الوجل لكونهم على غير زي من عرف ونحوه لم يحسن التعليل بقوله تعالى : إِنَّا نُبَشِّرُكَ فإنه إنما هو تعليل للنهي عن الوجل من أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب كأنهم قالوا : لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ وإِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ فجاء على اختصارات القرآن بذكر أحد التعليلين في أحد الموضعين والآخر في الآخر ، ولا شك أن في الحجر اختصارا لطي حديث الرواع ، والتعجيل بالعجل الحنيذ وعدم تحرمهم بطعامه لما أن المقصود من سوق القصة هنالك الترغيب والترهيب للاعتبار بحال إبراهيم عليه السلام وما لقي من البشرى والكرامة ، وحال قوم لوط عليه السلام وما منوا به من السوأى والملامة ، ألا ترى إلى قوله سبحانه : نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الحجر : 49] إلى قوله جل وعلا : عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ [الحجر : 51] فاقتصر على ما يفيد ذلك الغرض ، وأما في هذه السورة فجيء بها للإرشاد الذي بنى عليه السورة الكريمة مع إدماج التسلية ورد ما رموه به عليه الصلاة والسلام من الافتراء ، وفي كل من أجزاء القصة ما يسد من هذه الأغراض فسرد على وجهها ، وفي سورة الذاريات للأخيرين فقط فجيء بما يفيد ذلك فلا عليك إن رأيت اختصارا أن تنقل إليه من المبسوط ما يتم به الكلام بعد أن تعرف نكتة الاختصار ، وهذا من خواص كتاب اللّه تعالى الكريم انتهى ولا يخلو عن حسن ، وفيه ذهاب إلى كون جملة إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ استئنافا في موضع التعليل كما هو الظاهر.
وقال شيخ الإسلام عليه الرحمة : الظاهر ما ذكر إلا أنه ليس كذلك فإن قوله تعالى : قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ [الحجر : 58] صريح في أنهم قالوه جوابا عن سؤاله عليه السلام وقد أوجز الكلام اكتفاء بذلك انتهى.
وتعقب بأنه قد يقال : إن ذلك لا يقدح في الحمل على الظاهر لجواز أن يكونوا قالوا ذلك على معنى التعليل للنهي عن الخوف ، ولكنه وإن أريد منه الإرسال بالعذاب لقوم لوط عليه السلام مجمل لم يؤت به على وجه يظهر منه ما نوع هذا العذاب هل هو استئصال أم لا؟ فسأل عليه السلام لتحقيق ذلك فكأنه قال : أيها المرسلون إلى قوم لوط ما هذا الأمر العظيم الذي أرسلتم به؟ فأجابوه بما يتضمن بيان ذلك مع الإشارة إلى علة نزول ذلك الأمر بهم وهو قولهم :
إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر : 58 ، 59] الآية فإن انفهام عذاب الاستئصال لقوم لوط عليه السلام من ذلك ظاهر ، وكذا الإشارة إلى العلة.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 294
والحاصل أن السؤال في تلك الآية عن الخطب وهو في الأصل الأمر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب ويراد من السؤال عنه تحقيق أمر لم يعلمه عليه السلام من كلامهم قيل إما لأنه لم يعلم ذلك منه أو لأنه كان مشغولا عن كمال التوجه ليعلم عليه السلام منه ذلك ، وفي خطابه عليه السلام لهم عليهم السلام بعنوان الرسالة ما يؤيد تقدم قولهم : إِنَّا أُرْسِلْنا على هذا السؤال لكنه أسقط هناك تعويلا على ما هنا ولا بدع في الإسقاط من المتأخر تعويلا على المتقدم ، وتأخر الحجر والذاريات عن هود تلاوة مما لا كلام فيه ، وتأخرهما نزولا مما رواه ابن ضريس في فضائل القرآن عن محمد بن عبد اللّه بن أبي جعفر الرازي عن عمر بن هارون عن عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه عن ابن عباس ، وذكر أنها كلها نزلت بمكة وأن بين هود والحجر سورة واحدة ، وبين الحجر والذاريات ثلاثة عشرة سورة فليتأمل في هذا المقام ، ويفهم من كلام بعضهم أنه عليه السلام لم يتحقق كونهم ملائكة إلا بعد أن مسح جبريل عليه السلام العجل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمه فحينئذ عرفهم وأمن منهم ، ولم يتحقق صحة الخبر عندي ، والذي أميل إليه أنه عليه السلام عرفهم قبل ذلك وأن خوفه منهم لكونهم ملائكة لم يدر لأي شيء نزلوا ، ويبعد عند من عرف حال إبراهيم عليه السلام والقول بأنه خاف بشرا وبلغ منه الخوف حتى قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ [الحجر : 52] لا سيما إذا قلنا : إن من خافهم كانوا ثلاثة وأنه عليه السلام لم يكن في طرف من الأرض بل كان بين أصحابه ، أو كان هناك لكن بين خدمه وغلمانه وَامْرَأَتُهُ سارة بنت هاران بن ناحور وهي بنت عمه قائِمَةٌ في الخدمة كما أخرجه ابن أبي حاتم عن مجاهد وكانت نساؤهم لا تحتجب لا سيما العجائز منهم ، وكانت رضي اللّه تعالى عنها عجوزا ، وقال وهب : كانت قائمة وراء الستر تسمع محاورتهم ، وأخذ منه بعضهم أن تستر النساء كان لازما ، والظاهر أنه لم يكن
كذلك لتأخر آية الحجاب ، ويجوز أن يقال : إن القيام وراء الستر كان اتفاقيا ، وعن ابن إسحاق أنها كانت قائمة تصلي ، وقال المبرد : كانت قائمة عن الولد وهو خلاف المشهور في الاستعمال ، وأخرج ابن المنذر عن المغيرة قال في مصحف ابن مسعود : وامرأته قائمة وهو جالس ، وفي الكشاف بدل وهو جالس وهو قاعد ، وعن ابن عطية بدل وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ وهي قائمة ففيه الإضمار من غير تقدم ذكر ، وكأن ذلك إن صح للتعويل على انفهام المرجع من سياق الكلام ، والجملة إما في موضع الحال من ضمير قالُوا وإما مستأنفة للأخبار فَضَحِكَتْ من الضحك المعروف ، والمراد به حقيقته عند الكثير ، وكان ذلك عند بعضهم سرورا بزوال الخوف عن إبراهيم عليه السلام ، والنساء لا يملكن أنفسهن كالرجال إذا غلب عليهن الفرح ، وقيل : كان سرورا بهلاك أهل الفساد ، وقيل : بمجموع الأمرين ، وقال ابن الأنباري : إن ضحكها كان سرورا بصدق ظنها لأنها كانت تقول لإبراهيم : اضمم إليك لوطا فإني أرى العذاب سينزل بقومه وكان لوط ابن أخيه وقيل : ابن خالته وقيل : كان أخا سارة وقد مر آنفا أنها بنت عم إبراهيم عليه السلام ، وعن ابن عباس أنها ضحكت من شدة خوف إبراهيم وهو في أهله وغلمانه ، والذين جاؤوه ثلاثة وهي تعهده يغلب الأربعين ، وقيل : المائة ، وقال قتادة : كان ذلك من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم ، وقال السدي :
ضحكت من إمساك الأضياف عن الأكل وقالت : عجبا لأضيافنا نخدمهم بأنفسنا وهم لا يأكلون طعامنا ، وقال وهب بن منبه : وروي أيضا عن ابن عباس أنها ضحكت من البشارة بإسحاق ، وفي الكلام على ذلك تقديم وتأخير ، فَضَحِكَتْ من المعجز الذي تقدم نقله عن جبريل عليه السلام ، ولعل الأظهر ما ذكرناه أولا عن البعض ، وذهب بعضهم إلى أن المراد بالضحك التبسم ويستعمل في السرور المجرد نحو مسفرة ضاحكة ، ومنه قوله : روضة تضحك ، وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ وغيرهما عن ابن عباس أن فَضَحِكَتْ بمعنى حاضت ، وروي ذلك عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما ومجاهد وعكرمة ، وقولهم : ضحكت الأرنب بهذا المعنى أيضا ، وأنكر أبو عبيدة وأبو عبيد والفراء مجيء ضحك بمعنى حاض ، وأثبت ذلك جمهور اللغويين ، وأنشدوا له قوله :

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 295
«وضحك» الأرانب فوق الصفا كمثل دم الجوف يوم اللقا
وقوله :
وعهدي بسلمى «ضاحكا» في لبابة ولم يعد حقا ثديها أن تحلما
وقوله :
إني لآتي العرس عند ظهورها وأهجرها يوما إذا تك «ضاحكا»
والمثبت مقدم على النافي ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ، نعم قال ابن المنير : إنه يبعد الحمل على ذلك هنا قولها : أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ إلخ فإنه لو كان الحيض قبل البشارة لما تعجبت إذ لا عجب في حمل من تحيض ، والحيض في العادة معيار على إمكان الحمل ، ودفع بأن الحيض في غير أوانه مؤكد للتعجب أيضا ، ولأنه يجوز أن تظن أن دمها ليس بحيض بل استحاضة فلذا تعجبت ، وقرأ محمد بن زياد الأعرابي من قراء مكة «فضحكت» بفتح الحاء ، وزعم المهدوي أنه غير معروف وأن «ضحك» بالكسر هو المعروف ، ومصدره ضحكا وضحكا بسكون الحاء وفتح الضاد وكسرها ، وضحكا وضحكا بكسر الحاء مع فتح الضاد وكسرها ، والظاهر أن هذه مصادر ضحك بأي معنى كان ويفهم من مجمع البيان أن مصدر - ضحك - بمعنى حاضت إنما هو ضحكا بفتح الضاد وسكون الحاء ، ولم نر هذا التخصيص في غيره ، وعن بعضهم أن فتح الحاء في الماضي مخصوص بضحك بمعنى حاض ، وعليه فالقراءة المذكورة تؤيد تفسير ضحكت على قراءة الجمهور بحاضت.
فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ قيل : أي عقبنا سرورها بسرور أتم منه على ألسنة رسلنا وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ بالنصب ، وهي قراءة ابن عامر وحمزة وحفص وزيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما على أنه منصوب بتقدير فعل يفسره ما يدل عليه الكلام أي ووهبنا لها من وراء إسحاق يعقوب ، ورجع ذلك أبو علي ، واعترض البعض بأنه حينئذ لا يكون ما ذكر داخلا تحت البشارة ، ودفع بأن ذكر هذه الهبة قبل وجود الموهوب بشارة معنى ، وقيل : هو معطوف على محل بِإِسْحاقَ لأنه في محل نصب ، واعترض أنه إنما يتأتى العطف على المحل إذا جاز ظهور المحل في فصيح الكلام كقوله :
ولسنا بالجبال ولا الحديدا وبشر لا تسقط باؤه من المبشر به في الفصيح ، وزعم بعضهم أن العطف على بِإِسْحاقَ على توهم نصبه لأنه في معنى وهبنا لها إسحاق فيكون كقوله :
«مشائيم» ليسوا مصلحين عشيرة ولا ناعب إلا يبين غرابها
إلا أنه توهم في هذا وجود الباء في المعطوف عليه على عكس ما في الآية الكريمة ، ويقال لمثل هذا : عطف التوهم ، ولا يخفى ما في هذه التسمية هنا من البشاعة على أن هذا العطف شاذ لا ينبغي التخريج عليه مع وجود غيره ، وبهذا اعترض على الزمخشري من حمل كلامه حيث قال : وقرىء بالنصب كأنه قيل : وهبنا لها إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب على طريقة قوله : مشائيم. البيت عليه لما أنه الظاهر منه ، وقال في الكشف أراد أنه عطف معنوي ومثله شائع مستفيض في العطف والإضمار على شريطة التفسير وغيرهما ، وإنما شبهه بقوله : ولا ناعب تنبيها على أن ذلك مع بعده لما كان واقعا فهذا أجدر ، والغرض من التشبيه أن غير الموجود في اللفظ جعل بمنزلته وأعمل ، ولا يخفى أنه خلاف المتبادر من عبارته ، وقيل : إنه معطوف على لفظ إِسْحاقَ وفتحته للجر لأنه غير مصروف للعلمية

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 296
والعجمة ، وعلى هذا دخوله في البشارة ظاهر إلا أنه قيل عليه : إنه يلزمه الفصل بين نائب الجار ومجروره وهو أبعد منه بين الجار ومجروره ، وفي البحر أن من ذهب إلى أنه معطوف على ما ذكر فقوله ضعيف لأنه لا يجوز الفصل بالظرف أو المجرور بين حرف العطف ومعطوفه المجرور ، فلا يجوز مررت بزيد اليوم وأمس عمرو فإن جاء ففي شعر ، فإن كان المعطوف منصوبا أو مرفوعا ففي جواز ذلك خلاف نحو قام زيد واليوم عمرو وضربت زيدا واليوم عمرا ، وقرأ الحرميان والنحويان وأبو بكر ويَعْقُوبَ بالرفع على الابتداء ، وَمِنْ وَراءِ الخبر كأنه قيل : ومن وراء إسحاق يعقوب كائن أو موجود أو مولود - قال النحاس : والجملة حال داخلة في البشارة أي فبشرناها بإسحاق متصلا به يعقوب.
وأجاز أبو علي أن يرتفع بالجار والمجرور كما أجازه الأخفش ، وقيل : إنه جائز على مذهب الجمهور أيضا لاعتماده على ذي الحال ، وتعقب بأنه وهم لأن الجار والمجرور إذا كان حالا لا يجوز اقترانه بالواو فليتدبر.
وجوز النحاس أيضا أن يكون فاعلا بإضمار فعل تقديره ويحدث من وراء إسحاق يعقوب.
قال ابن عطية : وعلى هذا لا يدخل في البشارة ، وقد مر ما يعلم منه الجواب ، ووَراءِ هنا بمعنى خلف وبذلك فسرها الراغب ، وغيره هنا ، وهو رواية عن ابن عباس ، وفي رواية أخرى عنه تفسيرها بولد الولد وهو أحد معانيها كما في الصحاح والقاموس ، وبذلك قال الشعبي ، واختاره أبو عبيدة ، واستشكل بأن يَعْقُوبَ ولد إسحاق عليه السلام لصلبه لا ولد ولده ، ولدفع ذلك قال الزمخشري فيما نقل عنه : إن وجه هذا التفسير أن يراد بيعقوب أولاده كما يقال : هاشم ويراد أولاده فكأنه قيل : من ولد ولد إسحاق أولاد يعقوب ، ويتضمن ذلك البشارة بيعقوب من طريق الأولى ، وقيل : وجه ذلك أنه سمي ولد إسحاق وَراءِ بالنسبة إليها أي وراؤها من إسحاق كأنهم بشروها بأن تعيش حتى ترى ولد ولدها ، أو بأن يولد لولدها ولد ، قيل : وهذا أقرب ، والمنقول عن الزمخشري أظهر ، والمعول عليه تفسيره بمعنى خلف إذ في كلا الوجهين تكلف لا يخفى ، والاسمان يحتمل وقوعهما في البشارة كما في قوله تعالى : نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى [مريم : 7] وهو الأظهر.
وروي عن السدي : ويحتمل أنها بشرت بولد وولد ولد من غير تسمية ثم سميا بعد الولادة ، وتوجيه البشارة إليها مع أن الأصل في ذلك إبراهيم عليه السلام ، وقد وجهت إليه في آيتي الحجر والذاريات للإيذان بأن ما بشر به يكون منهما ولكونها عقيمة حريصة على الولد وكانت قد تمنته حينما ولد لهاجر إسماعيل عليه السلام قالَتْ استئناف بياني كأن سائلا سأل ما فعلت حين بشرت؟ فقيل قالت : يا وَيْلَتى من الويل وأصله الخزي ، ويستعمل في كل أمر فظيع ، والمراد هنا التعجب وقد كثرت هذه الكلمة على أفواه النساء إذا طرأ عليهن ما يتعجبن منه ، والظاهر أن الألف بدل من ياء المتكلم ، ولذا أمالها أبو عمرو وعاصم في رواية ، وبهذا يلغز فيقال : ما ألف هي ضمير مفرد متكلم.
وقرأ الحسن «يا ويلتي» بالياء على الأصل ، وقيل : إنها ألف الندبة ولذا يلحقونها الهاء فيقولون : يا ويلتاه أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ ابنة تسعين سنة على ما روي عن ابن إسحاق ، أو تسع وتسعين على ما روي عن مجاهد. وَهذا الذي تشاهدونه بَعْلِي أي زوجي ، وأصل البعل القائم بالأمر فأطلق على الزوج لأنه يقوم بأمر الزوجة ، وقال الراغب :
هو الذكر من الزوجين وجمعه بعولة نحو فحل وفحولة ، ولما تصوروا من الرجل استعلاء على المرأة فجعل سائسها والقائم عليها وسمى به شبه كل مستعل على غيره به فسمي باسمه ، ومن هنا سمى العرب معبودهم الذي يتقربون به إلى اللّه تعالى بعلا لاعتقادهم ذلك فيه شَيْخاً ابن مائة سنة. أو مائة وعشرين ، وهو من شاخ يشيخ ، وقد يقال :

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 297
للأنثى شيخة كما قال :
وتضحك مني «شيخة» عبشمية ويجمع على أشياخ وشيوخ وشيخان ونصبه على الحال عند البصريين ، والعامل فيه ما في هذا من معنى الإشارة أو التنبيه.
قال الزجاج : «ومثل هذه الحال من لطيف النحو وغامضه إذ لا تجوز إلا حيث يعرف الخبر ففي قولك : هذا زيد قائما لا يقال إلا لمن يعرفه فيفيده قيامه ولو لم يكن كذلك لزم أن لا يكون زيدا عند عدم القيام وليس بصحيح فهنا بعليته معروفة ، والمقصود بيان شيوخته وإلا لزم أن لا يكون بعلها قبل الشيخوخة قاله الطيبي ، ونظر فيه بأنه إنما يتوجه إذا لم تكن الحال لازمة غير منفكة أما في نحو هذا أبوك عطوفا فلا يلزم المحذور ، والحال هاهنا مبينة هيئة الفاعل أو المفعول لأن العامل فيها ما أشير إليه وبذلك التأويل يتحد عامل الحال وذوها ، وذهب الكوفيون إلى أن هذا يعمل عمل كان وشَيْخاً خبره وسموه تقريبا».
وقرأ ابن مسعود - وهو في مصحفه - والأعمش - شيخ - بالرفع على أنه خبر محذوف أي هو شيخ ، أو خبر بعد خبر ، وفي البحر إن الكلام على هذا كقولهم : هذا حلو حامض ، أو هو الخبر ، وبَعْلِي بدل من اسم الإشارة. أو بيان له ، وجوز أن يكون بَعْلِي الخبر ، و- شيخ - تابعا له ، وكلتا الجملتين وقعت حالا من الضمير في أَأَلِدُ لتقرير ما فيه من الاستبعاد وتعليله أي ألد وكلانا على حالة منافية لذلك ، وإنما قدمت بيان حالها على بيان حاله عليه السلام لأن مباينة حالها لما ذكر من الولادة أكثر إذ ربما يولد للشيوخ من الشواب أما العجائز داؤهن عقام ، ولأن البشارة متوجهة إليها صريحا ولأن العكس في البيان ربما يوهم من أول الأمر نسبة المانع عن الولادة إلى جانب إبراهيم عليه السلام وفيه ما لا يخفى من المحذور ، واقتصارها في الاستبعاد على ولادتها من غير تعرض لحال النافلة لأنها المستبعدة وأما ولادة ولدها فلا يتعلق بها استبعاد قاله شيخ الإسلام إِنَّ هذا أي ما ذكر من حصول الولد من هرمين مثلنا ، وقيل : هو إشارة إلى الولادة أو البشارة بها ، والتذكير لأن المصدر في تأويل إِنَّ مع الفعل ولعل المآل أن هذا الفعل لَشَيْءٌ عَجِيبٌ أي من سنة اللّه تعالى المسلوكة في عباده ، والجملة تعليل بطريق الاستئناف التحقيقي ومقصدها كما قيل : استعظام نعمة اللّه تعالى عليها في ضمن الاستعجاب العادي لا استبعاد ذلك من حيث القدرة قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي قدرته وحكمته.
أو تكوينه وشأنه سبحانه أنكروا عليها تعجبها لأنها كانت ناشئة في بيت النبوة ومهبط الوحي ومحل الخوارق فكان حقها أن تتوقر ولا يزدهيا ما يزدهي سائر النساء من أمثال هذه الخوارق من ألطاف اللّه سبحانه الخفية ولطائف صنعه الفائضة على كل أحد ممن يتعلق بإفاضته عليه مشيئته تعالى الأزلية لا سيما أهل بيت النبوّة الذين هم هم وأن تسبح اللّه تعالى وتمجده وتحمده ، وإلى ذلك أشاروا بقوله تعالى :
رَحْمَةِ اللَّهِ المستتبعة كل خير ووضع المظهر موضع المضمر لزيادة تشريفها والإيماء إلى عظمتها وَبَرَكاتُهُ أي خيراته التامة المتكاثرة التي من جملتها هبة الأولاد ، وقيل : الرحمة النبوة. والبركات الأسباط من بني إسرائيل لأن الأنبياء عليهم السلام منهم وكلهم من ولد إبراهيم عليه السلام وقيل : رحمته تحيته. وبركاته فواضل خيره بالخلة والإمامة.
عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ نصب على المدح. أو الاختصاص كما ذهب إليه كثير من المعربين ، قال أبو حيان :
وبينهما فرق ولذلك جعلهما سيبويه في بابين وهو أن المنصوب على المدح لفظ يتضمن بوضعه المدح كما أن المنصوب على الذم يتضمن بوضعه الذم والمنصوب على الاختصاص يقصد به المدح. أو الذم لكن لفظه لا يتضمن

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 298
بوضعه ذلك كقول رؤبة : بنا تميما يكشف الضباب. انتهى ، وفي الهمع أن النصب في الاختصاص بفعل واجب الإضمار وقدره سيبويه - بأعني - ويختص بأي الواقعة بعد ضمير المتكلم كأنا أفعل كذا أيها الرجل. وكاللهم اغفر لنا أيتها العصابة ، وحكمها في هذا الباب - إلا عند السيرافي والأخفش - حكمها في باب النداء ويقوم مقامها في الأكثر كما - قال سيبويه - بنو نحو قوله : نحن بني ضبة أصحاب الجمل. ومنه قوله :
نحن بنات طارق نمشي على النمارق
ومعشر كقوله :
لنا معشر الأنصار مجد مؤثل بإرضائنا خير البرية أحمدا
وفي الحديث «نحن معاشر الأنبياء لا نورث»
وآل وأهل ، وأبو عمرو لا ينصب غيرهما وليس بشيء ، وقلّ كون ذلك علما كما في بيت رؤبة السابق في كلام أبي حيان ، ولا يكون اسم إشارة ولا غيره ولا نكرة البتة ، ولا يجوز تقديم اسم الاختصاص على الضمير ، وقلّ وقوع الاختصاص بعد ضمير المخاطب كسبحانك اللّه العظيم ، وبعد لفظ غائب في تأويل المتكلم أو المخاطب نحو على المضارب الوضيعة أيها البائع ، فالمضارب لفظ غيبة لأنه ظاهر لكنه في معنى على أو عليك ومنع ذلك الصفار البتة لأن الاختصاص شبه النداء فكما لا ينادى الغائب فكذلك لا يكون فيه الاختصاص انتهى مع أدنى زيادة وتغيير ، ومنه يعلم بعض ما في كلام أبي حيان وأن حمل ما في الآية الكريمة على الاختصاص من ارتكاب ما قل في كلامهم ، وجوز في الكشاف نصبه على النداء ، وقدمه على احتمال النصب على الاختصاص ، ولعله أشار بذلك إلى ترجيحه على الاحتمال الثاني لكن ذكر بعض الأفاضل ان في ذلك فوات معنى المدح المناسب للمقام ، والمراد من البيت - كما في البحر - بيت السكنى ، وأصله مأوى الإنسان بالليل ، ثم قد يقال من غير اعتبار الليل فيه ، ويقع على المتخذ من حجر ومن مدر ومن صوف ووبر وعبر عن مكان الشيء بأنه بيته ويجمع على بيوت وأبيات ، وجمع الجمع أبابيت وبيوتات وأبياوات ، ويصغر على بييت وبييت بالكسر ، ويقال : بويت كما تقوله العامة ، وصرف الخطاب من صيغة الواحدة إلى الجمع ليكون جوابهم عليهم السلام لها جوابا لمن يخطر بباله مثل ما خطر ببالها من سائر أهل البيت.
والجملة كلام مستأنف علل به إنكار تعجبها فيه جملة خبرية ، واختاره جمع من المحققين ، وقيل : هي دعائية وليس بذاك ، واستدل بالآية على دخول الزوجة في أهل البيت ، وهو الذي ذهب إليه السنيون ، ويؤيده ما في سورة الأحزاب ، وخالف في ذلك الشيعة فقالوا : لا تدخل إلا إذا كانت قريب الزوج ، ومن نسبه فإن المراد من البيت بيت النسب لا بيت الطين والخشب ، ودخول سارة رضي اللّه تعالى عنها هنا لأنها بنت عمه ، وكأنهم حملوا البيت على الشرف كما هو أحد معانيه ، وبه فسر في قول العباس رضي اللّه تعالى عنه يمدح النبي صلّى اللّه عليه وسلّم :
حتى احتوى «بيتك» المهيمن من خندف علياء تحتها النطف
ثم خصوا الشرف بالشرف النسبي وإلا فالبيت بمعنى النسب مما لم يشع عند اللغويين ، ولعل الذي دعاهم لذلك بغضهم لعائشة رضي اللّه تعالى عنها فراموا إخراجها من حكم يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب : 33] ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى تفصيل الكلام في هذا المقام ، واستدل بالآية على كراهة الزيادة في التحية على السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته ، وروي ذلك عن غير واحد من الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم.
أخرج البيهقي في الشعب عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما أن رجلا قال له : سلام عليك ورحمة اللّه وبركاته

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 299
ومغفرته فانتهره ابن عمر وقال : حسبك ما قال اللّه تعالى ، وأخرج عن ابن عباس أن سائلا قام على الباب وهو عند ميمونة فقال : السلام عليكم أهل البيت ورحمة اللّه وبركاته وصلواته ومغفرته ، فقال : انتهوا بالتحية إلى ما قال اللّه سبحانه ، وفي رواية عن عطاء قال : كنت جالسا عند ابن عباس فجاء سائل فقال : السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته ومغفرته ورضوانه فقال : ما هذا السلام؟! وغضب حتى احمرت وجنتاه إن اللّه تعالى حد للسلام حدا ثم انتهى ونهى عما وراء ذلك ثم قرأ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ قال أبو الهيثم : أي تحمد أفعاله ، وفي الكشاف أي فاعل ما يستوجب به الحمد من عباده ففعيل بمعنى مفعول ، وجوز الراغب أن يكون حَمِيدٌ هنا بمعنى حامد ولعل الأول أولى مَجِيدٌ أي كثير الخير والإحسان ، وقال ابن الأعرابي : هو الرفيع يقال : مجد كنصر وكرم مجدا ومجادة أي كرم وشرف وأصله من مجدت الإبل إذا وقعت في مرعى كثير واسع ، وقد أمجدها الراعي إذا أوقعها في ذلك ، وقال الأصمعي : يقال : أمجدت الدابة إذا أكثرت علفها ، وقال الليث : أمجد فلان عطاءه ومجده إذا كثره ، ومن ذلك قول أبي حية النميري :
تزيد على صواحبها وليست «بماجدة» الطعام ولا الشراب
أي ليست بكثيرة الطعام ولا الشراب ، ومن أمثالهم في كل شجر نار ، واستمجد المرخ والعفار أي استكثر من ذلك ، وقال الراغب : أي تحرى السعة في بذل الفضل المختص به ، وقال ابن عطية : مجد الشيء إذا حسنت أوصافه ، والجملة على ما في الكشف تذييل حسن لبيان أن مقتضى حالها أن تحمد مستوجب الحمد المحسن إليها بما أحسن وتمجده إذ شرفها بما شرف ، وقيل : هي تعليل لما سبق من قوله سبحانه : رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ أي الخوف والفزع ، قال الشاعر :
إذا أخذتها هزة «الروع» أمسكت بمنكب مقدام على الهول أروعا
والفعل راع ، ويتعدى بنفسه كما في قوله :
«ما راعني» إلا حمولة أهلها وسط الديار تسف حب الخمخم
والروع بضم الراء النفس وهي محل الروع ، والفاء لربط بعض أحوال إبراهيم عليه السلام ببعض غب انفصالها بما ليس بأجنبي من كل وجه بل له مدخل في السياق والسباق ، وتأخر الفاعل عن الظرف لكونه مصب الفائدة ، والمعنى لما زال عنه ما كان أوجسه منهم من الخيفة واطمأنت نفسه بالوقوف على جلية أمرهم وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ أي يجادل رسلنا في حالهم وشأنهم ، ففيه مجاز في الإسناد ، وكانت مجادلته عليه السلام لهم ما قصه اللّه سبحانه في قوله سبحانه في سورة العنكبوت : وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ قالَ : إِنَّ فِيها لُوطاً [العنكبوت : 31 ، 32] فقوله عليه السلام : إِنَّ فِيها لُوطاً مجادلة وعدّ ذلك مجادلة لأن مآله على ما قيل : كيف تهلك قرية فيها من هو مؤمن غير مستحق للعذاب؟ ولذا أجابوه بقولهم نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ [العنكبوت : 33] وهذا القدر من القول هو المتيقن.
وعن حذيفة أنهم لما قالوا له عليه السلام ما قالوا ، قال : أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين أتهلكونها؟
قالوا : لا ، قال : فثلاثون؟ قالوا : لا ، قال : فعشرون ، قالوا : لا ، قال : فإن كان فيهم عشرة أو خمسة - شك الراوي.؟ قالوا :
لا ، قال : أرأيتم إن كان فيها رجل واحد من المسلمين أتهلكونها؟ قالوا : لا ، فعند ذلك قال : إِنَّ فِيها لُوطاً فأجابوه بما أجابوه ،
وروي نحو ذلك عدة روايات اللّه تعالى أعلم بصحتها ، وفسر بعضهم المجادلة بطلب الشفاعة ، وقيل :
هي سؤاله عن العذاب هل هو واقع بهم لا محالة أم على سبيل الإخافة ليرجعوا إلى الطاعة؟ وأيا ما كان - فيجادلنا -

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 300
جواب - لما - وكان الظاهر جادلنا إلا أنه عبر بالمضارع لحكاية الحال الماضية واستحضار صورتها ، وقيل : إن - لما - كلو تقلب المضارع ماضيا كما أن - إن - تقلب الماضي مستقبلا ، وقيل : الجواب محذوف ، وهذه الجملة في موضع الحال من فاعله أي أخذ أو أقبل مجادلا لنا ، وآثر هذا الوجه الزجاج ولكنه جعله مع حكاية الحال وجها واحدا لأنه قال : ولم يذكر في الكلام أخذ لأن الكلام إذا أريد به حكاية حال ماضية قدر فيه أخذ وأقبل لأنك إذا قلت : قام زيد دل على فعل ماض ، وإذا قلت : أخذ زيد يقوم دل على حال ممتدة من أجلها ذكر أخذ وأقبل ، وصنيع الزمخشري يدل على أنهما وجهان ، وتحقيقه على ما في الكشف أنه إذا أريد استمرار الماضي فهو كما ذكره الزجاج ، وإن أريد التصوير المجرد فلا ، وقيل : الجواب محذوف.
والجملة مستأنفة استئنافا نحويا أو بيانيا وهي دليل عليه ، والتقدير اجترأ على خطابنا أو فطن بمجادلتنا وقال :
كيت وكيت ، واختاره في الكشاف ، وقيل : إن هذه الجملة - وكذا الجملة التي قبلها - في موضع الحال من إِبْراهِيمَ على الترادف أو التداخل وجواب لما قلنا يقدر قبل يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا ، وأقرب الأقوال أولها ، والبشرى إن فسرت بقولهم : لا تَخَفْ فسببية ذهاب الخوف ومجيء السرور للمجادلة ظاهرة ، وأما إن فسرت ببشارة الولد - كما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن قتادة واختاره جمع أو بما يعمها - فلعل سببيتها لها من حيث إنها تفيد زيادة اطمئنان قلبه عليه السلام بسلامته وسلامة أهله كافة كذا قاله مولانا شيخ الإسلام ، ثم قال : إن قيل : إن المتبادر من هذا الكلام أن يكون إبراهيم عليه السلام قد علم أنهم مرسلون لإهلاك قوم لوط قبل ذهاب الروع عن نفسه ولكن لم يقدر على مجادلتهم في شأنهم لاشتغاله بشأن نفسه ، فلما ذهب عنه الروع فرغ لها مع أن ذهاب الروع إنما هو قبل العلم بذلك لقوله سبحانه : قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ قلنا : كان لوط عليه السلام على شريعة إبراهيم عليه السلام وقومه مكلفين بها فلما رأى من الملائكة عليهم السلام ما رأى خاف على نفسه وعلى كافة أمته التي من جملتهم قوم لوط ، ولا ريب في تقدم هذا الخوف على قولهم : لا تَخَفْ وأما الذي علمه عليه السلام بعد النهي فهو اختصاص قوم لوط بالهلاك لا دخول لهم تحت العموم فتأمل انتهى.
وفيه أن كون الكل أمته في حيز المنع ، وما أشار إليه من اتحاد الشريعتين إن أراد به الاتحاد في الأصول كاتحاد شريعة نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم مع شريعة إبراهيم عليه السلام فمسلم لكن لا يلزم منه ذلك ، وإن أراد به الاتحاد في الأصول والفروع فغير مسلم ولو سلم. ففي لزوم كون الكل أمته له تردد على أنه لو سلمنا كل ذلك فلقائل أن يقول : سلمنا أنه عليه السلام لما رأى من الملائكة عليهم السلام ما رأى حصل له خوف على نفسه وعلى كافة أمته التي من جملتهم قوم لوط عليه السلام لكن لا نسلم أن هذا الخوف كان عن علم بأن أولئك الملائكة كانوا مرسلين لإهلاك الكل المندرج فيه قوم لوط بل عن تردد وتحير في أمرهم ، وحينئذ لا ينحل السؤال بهذا الجواب كما لا يخفى على المتبصر ، وكأنه لذلك أمر بالتأمل وقد يقال : المفهوم من الكلام تحقق المجادلة بعد تحقق مجموع الأمرين ذهاب الروع ومجيء البشارة ، وهو لا يستدعي إلا سبق العلم بأنهم مرسلون لإهلاك قوم لوط على تحقق المجموع ، ويكفي في ذلك سبقه على تحقق البشارة ، وهذا العلم مستفاد من قولهم له : لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ وكأنه عليه السلام إنما لم يجادل بعد هذا العلم ، وأخر المجادلة إلى مجيء البشارة ليرى ما ينتهي إليه كلام الملائكة عليهم السلام ، أو لأنه لم يقع فاصل سكوت في البين ليجادل فيه إلا أن هذا لا يتم إلا أن يكون الإخبار بالإرسال إلى قوم لوط سابقا على البشارة بالولد ، وفيه تردد.
وفي بعض الآيات ما هو ظاهر في سبق البشارة على الإخبار بذلك ، نعم يمكن أن يلتزم سبق الاخبار على البشارة ، ويقال : إنهم أخبروه أولا ثم بشروه ثانيا ، ثم بعد أن تحقق مجموع الأمرين قال : فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 301
الْمُرْسَلُونَ [الحجر : 57 ، الذاريات : 31] ويقال : المراد منه السؤال عن حال العذاب هل هو واقع بهم لا محالة أم هو على سبيل الإخافة ليرجعوا إلى الإيمان؟ وتفسير المجادلة به كما مر عن بعض فتدبر ذاك واللّه سبحانه يتولى هداك إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ غير عجول على الانتقام إلى المسيء إليه أَوَّاهٌ كثير التأوه من الذنوب والتأسف على الناس مُنِيبٌ راجع إلى اللّه تعالى ، والمقصود من وصفه عليه السلام بهذه الصفات المنبئة عن الشفقة ورقة القلب بيان ما حمله على ما صدر عنه من المجادلة ، وحمل الحلم على عدم العجلة والتأني في الشيء مطلقا ، وجعل المقصود من الوصف بتلك الصفات بيان ما حمله على المجادلة وإيقاعها بعد أن تحقق ذهاب الروع ومجيء البشرى لا يخفى حاله.
يا إِبْراهِيمُ على تقدير القول ليرتبط بما قبل أي قالت الملائكة ، أو قلنا يا إِبْراهِيمُ.
أَعْرِضْ عَنْ هذا الجدال إِنَّهُ أي الشأن قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ أي قدره تعالى المقضي بعذابهم ، وقد يفسر بالعذاب ، ويراد بالمجيء المشارفة فلا يتكرر مع قوله سبحانه : وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ أي لا بجدال ولا بدعاء ولا بغيرهما إذ حاصل ذلك حينئذ شارفهم ثم وقع بهم ، وقيل : لا حاجة إلى اعتبار المشارفة ، والتكرار مدفوع بأن ذاك توطئة لذكر كونه غير مردود.
وقرأ عمرو بن هرم - وإنهم أتاهم - بلفظ الماضي وعَذابٌ فاعل به ، وعبر بالماضي لتحقيق الوقوع وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : انطلقوا من عند إبراهيم عليه السلام وبين القريتين أربعة فراسخ ودخلوا عليه في صورة غلمان مرد حسان الوجوه فلذلك سِيءَ بِهِمْ أي أحدث له عليه السلام مجيئهم المساءة لظنه أنهم أناس فخاف أن يقصدهم قومه ويعجز عن مدافعتهم ، وقيل : كان بين القريتين ثمانية أميال فأتوها عشاء ، وقيل نصف النهار ووجدوا لوطا في حرث له.
وقيل : وجدوا بنتا له تستقي ماء من نهر سدوم وهي أكبر محل للقوم فسألوها الدلالة على من يضيفهم ورأت هيئاتهم فخافت عليهم من قوم أبيها فقالت لهم : مكانكم وذهبت إلى أبيها فأخبرته فخرج إليهم فقالوا : إنا نريد أن تضيفنا الليلة ، فقال : أو ما سمعتم بعمل هؤلاء القوم؟ فقالوا : وما عملهم؟ فقال : أشهد باللّه تعالى أنهم شر قوم في الأرض ، وقد كان اللّه تعالى قال للملائكة لا تعذبوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات ، فلما قال هذه قال جبريل عليه السلام : هذه واحدة وتكرر القول منهم حتى كرر لوط الشهادة فتمت الأربع ثم دخل المدينة فدخلوا معه منزله وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً أي طاقة وجهدا ، وهو في الأصل مصدر ذرع البعير بيديه يذرع في مسيره إذا سار مادا خطوه مأخوذ من الذراع وهي العضو المعروف ، ثم توسع فيه فوضع موضع الطاقة والجهد ، وذلك أن اليد كما تجعل مجازا عن القوة فالذراع المعروفة كذلك ، وفي الصحاح يقال : ضقت بالأمر ذرعا إذا لم تطقه ولم تقو عليه ، وأصل الذرع بسط اليد فكأنك تريد مددت يدي إليه فلم تنله ، وربما قالوا : ضقت به ذراعا ، قال حميد بن ثور يصف ذئبا :
وإن بات وحشا ليلة لم يضق بها «ذراعا» ولم يصبح لها وهو خاشع
وفي الكشاف جعلت العرب ضيق الذراع والذرع عبارة عن فقد الطاقة كما قالوا : رحب الذراع بكذا إذا كان مطيقا له ، والأصل فيه أن الرجل إذا طالت ذراعه نال ما لا يناله القصير الذراع فضرب ذلك مثلا في العجز والقدرة ، ونصبه على أنه تمييز محول عن الفاعل أي ضاق بأمرهم وحالهم ذرعه ، وجوز أن يكون الذرع كناية عن الصدر والقلب ، وضيقه كناية عن شدة الانقباض للعجز عن مدافعة المكروه والاحتيال فيه ، وهو على ما قيل : كناية متفرعة على كناية أخرى مشهورة وقيل : إنه مجاز لأن الحقيقة غير مرادة هنا ، وأبعد بعضهم في تخريج هذا الكلام فخرجه

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 302
على أن المراد أن بدنه ضاق قدر عن احتمال ما وقع وَقالَ هذا اليوم يَوْمٌ عَصِيبٌ أي شديد ، وأصله من العصب بمعنى الشد كأنه لشدة شره عصب بعضه ببعض ، وقال أبو عبيدة : سمي بذلك لأنه يعصب الناس بالشر ، قال الراجز :
يوم عصيب يعصب الأبطالا عصب القوى السلم الطوالا
وفي معناه العصبصب والعصوصب وَجاءَهُ أي لوطا وهو في بيته مع أضيافه قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ قال أبو عبيدة : أي يستحثون إليه كأنه يحث بعضهم بعضا ، أو يحثهم كبيرهم ويسوقهم ، أو الطمع في الفاحشة ، والعامة على قراءته مبنيا للمفعول ، وقرأ جماعة «يهرعون» بفتح الياء مبنيا للفاعل من هرع ، وأصله من الهرع وهو الدم الشديد السيلان كأن بعضه يدفع بعضا ، وجاء أهرع القوم إذا أسرعوا ، وفسر بعضهم الإسراع بالمشي بين الهرولة والجمز. وعن ابن عباس أنه سئل عما في الآية ، فقال : المعنى يقبلون إليه بالغضب ، ثم أنشد قول مهلهل :
فجاؤوا يهرعون وهم أسارى نقودهم على رغم الأنوف
وفي رواية أخرى عنه أنه فسر ذلك بيسرعون وهو بيان للمراد ويستقيم على القراءتين ، وجملة يُهْرَعُونَ في موضع الحال من قومه أي جاؤوا مهرعين إليه ، روي أنه لما جاء لوط بضيفه لم يعلم ذلك أحد إلا أهل بيته فخرجت امرأته حتى أتت مجالس قومها فقالت : إن لوطا قد أضاف الليلة فئة ما رئي مثلهم جمالا فحينئذ جاؤوا يهرعون إليه وَمِنْ قَبْلُ أي من قبل وقت مجيئهم ، وقيل : «من قبل» بعث لوط رسولا إليهم كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قيل :
المراد سيئة إتيان الذكور إلا أنها جمعت باعتبار تكررها أو باعتبار فاعليها.
وقيل : المراد ما يعم ذلك ، وإتيان النساء في محاشهن. والمكاء والصفير واللعب بالحمام والقمار والاستهزاء بالناس وغير ذلك ، والمراد من ذكر عملهم السيئات من قبل بيان أنهم اعتادوا المنكر فلم يستحيوا فلذلك أسرعوا لطلب الفاحشة من ضيوفه مظهرين غير مكترثين ، فالجملة معترضة لتأكيد ما قبلها.
وقيل : إنها بيان لوجه ضيق صدره لما عرف من عادتهم ، وجعلها شيخ الإسلام في موضع الحال كالتي قبلها أي جاؤوا مسرعين ، والحال أنهم كانوا منهمكين في عمل السيئات.
قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فتزوجوهن وكانوا يطلبونهن من قبل ولا يجيبهم لخبثهم وعدم كفاءتهم لا لعدم مشروعية تزويج المؤمنات من الكفار فإنه كان جائزا ، وقد زوج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ابنته زينب لأبي العاص بن الربيع وابنته رقية لعتبة بن أبي لهب قبل الوحي - وكانا كافرين - إلا أن عتبة لم يدخل بها وفارقها بطلب أبيه حين نزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [المسد : 1] فتزوّجها عثمان رضي اللّه تعالى عنه ، وأبا العاص كان قد دخل بها لكن لما أسر يوم بدر وفادى نفسه أخذ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم العهد عليه أن يردها إذا عاد فأرسل عليه الصلاة والسلام زيد بن حارثة ورجلا من الأنصار في طلبها فجاءا بها ثم إنه أسلم وأتى المدينة فردها عليه الصلاة والسلام إليه بنكاح جديد أو بدونه على الخلاف.
وقال الحسن بن الفضل : إنه عليه السلام عرض بناته عليهم بشرط الإسلام ، وإلى ذلك ذهب الزجاج ، وهو مبني على أن تزويج المسلمات من الكفار لم يكن جائزا إذ ذاك ، فقيل : كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجهما ابنتيه ولم يكن له عليه السلام سواهما ، واسم إحداهما - على ما في بعض الآثار - زعوراء والأخرى زيتاء ، وقيل : كان له عليه السلام ثلاث بنات ، وأخرجه الحاكم وصححه عن ابن عباس ، ويؤيده ظاهر الجمع وإن جاء إطلاقه على اثنين ، وأيا ما كان فقد أراد عليه السلام بذلك وقاية ضيفه وهو غاية الكرم فلا يقال : كيف يليق به عليه السلام أن يعرض بناته على

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 303
أعدائه ليزوجهن إياهم؟! نعم استشكل عرض بناته - بناء على أنهن اثنتان كما هو المشهور ، أو ثلاث كما قيل - على أولئك المهرعين ليتزوجوهن مع القول بأنهم أكثر منهن إذ لا يسوغ القول بحل تزوج الجماعة بأقل منهم في زمان واحد ، ومن هنا قال بعض أجلة المفسرين : إن ذلك القول لم يكن منه عليه السلام مجريا على الحقيقة من إرادة النكاح بل كان ذلك مبالغة في التواضع لهم وإظهارا لشدة امتعاضه مما أوردوا عليه طمعا في أن يستحيوا منه ويرقوا له إذا سمعوا ذلك فيتركوا ضيوفه مع ظهور الأمر واستقرار العلم عنده وعندهم أن لا مناكحة بينه وبينهم وهو الأنسب بجوابهم الآتي ، وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس وابن أبي حاتم عن ابن جبير ومجاهد وابن أبي الدنيا وابن عساكر عن السدي أن المراد ببناته عليه السلام نساء أمته ، والإشارة بهؤلاء لتنزيلهن منزلة الحاضر عنده وإضافتهن إليه لأن كل نبي أب لأمته ، وفي قراءة ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه - النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم.
وقرأ أبي رضي اللّه تعالى عنه مثل ذلك لكنه قدم وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الأحزاب : 6] على - وهو أب لهم - وأراد عليه السلام بقوله : هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ أنظف فعلا ، أو أقل فحشا كقولك : الميتة أطيب من المغصوب وأحل منه ، ويراد من الطهارة على الأول الطهارة الحسية وهي الطهارة عما في اللواطة من الأذى والخبث ، وعلى الثاني الطهارة المعنوية وهو التنزه عن الفحش والإثم ، وصيغة أفعل في ذلك مجاز ، والظاهر - أن هؤلاء بناتي - مبتدأ وخبر ، وكذلك هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ وجوز أبو البقاء كون بَناتِي بدلا أو عطف بيان وهُنَّ ضمير فصل ، وأَطْهَرُ هو الخبر ، وكون هُنَّ مبتدأ ثانيا ، وأَطْهَرُ خبره ، والجملة خبر هؤُلاءِ.
وقرأ الحسن وزيد بن علي وعيسى الثقفي وسعيد بن جبير والسدي «أطهر» بالنصب ، وقد خفي وجهه حتى قال عمرو بن العلاء : إن من قرأ «أطهر» بالنصب فقد تربع في لحنه وذلك لأن انتصابه على أن يجعل حالا عمل فيها ما في هؤُلاءِ من الإشارة أو التنبيه أو ينصب هؤُلاءِ بفعل مضمر كأنه قيل : خذوا هؤلاء وبَناتِي بدل ، ويعمل هذا المضمر في الحال وهُنَّ في الصورتين فصل وهذا لا يجوز لأن الفصل إنما يكون بين المسند والمسند إليه ، ولا يكون بين الحال وذيها كذا قيل ، وهذا المنع هو المروي عن سيبويه وخالف في ذلك الأخفش فأجاز توسط الفصل بين الحال وصاحبها فيقول : جاء زيد هو ضاحكا ، وجعل من ذلك هذه الآية على هذه القراءة ، وقيل : بوقوعه شذوذا كما في قولهم : أكثر أكلي التفاحة هي نضيجة ، ومن منع ذلك خرج هذا على إضمار كان ، والآية الكريمة على أن هُنَّ مبتدأ ولَكُمْ الخبر ، وأَطْهَرُ حال من الضمير في الخبر ، واعترض بأن فيه تقديم الحال على عاملها الظرفي ، والأكثرون على منعه أو على أن يكون هؤُلاءِ مبتدأ وبَناتِي هُنَّ جملة في موضع خبر المبتدأ كقولك : هذا أخي هو ، ويكون أَطْهَرُ حالا وروي هذا عن المبرد وابن جني ، أو على أن يكون هؤُلاءِ مبتدأ وبَناتِي بدلا منه أو عطف بيان وهُنَّ خبر وأَطْهَرُ على حاله.
وتعقب بأنه ليس فيه معنى طائل ، ودفع بأن المقصود بالإفادة الحال كما في قولك : هذا أبوك عطوفا وادعى في الكشف أن الأوجه أن يقدروا خذوا هؤلاء أطهر لكم ، وقوله : بَناتِي هُنَّ جملة معترضة تعليلا للأمر وكونهن أولى قدمت للاهتمام كأنه قيل : خذوا هؤلاء العفائف أطهر لكم إن بناتي هن وأنتم تعلمون طهارتي وطهارة بناتي ويجوز أن يقال هُنَّ تأكيد للمستكن في بَناتِي لأنه وصف مشتق لا سيما على المذهب الكوفي فافهم ولا تغفل فَاتَّقُوا اللَّهَ بترك الفواحش أو بإيثارهن عليهم وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أي لا تفضحوني في شأنهم فإن إخزاء ضيف الرجل إخزاء له ، أو لا تخجلوني فيهم ، والمصدر على الأول الخزي وعلى الثاني الخزاية ، وأصل معنى خزي لحقه انكسار إما من نفسه وهو الحياء المفرط ، وإما من غيره وهو الاستخفاف والتفضيح ، والضيف في الأصل مصدر ،

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 304
ولذا إذا وصف به المثنى أو المجموع لم يطابق على المشهور ، وسمع فيه ضيوف ، وأضياف ، وضيفان ، وَلا ناهية ، والفعل مجزوم بحذف النون ، والموجودة نون الوقاية ، والياء محذوفة اكتفاء بالكسرة ، وقرىء بإثباتها على الأصل أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يهتدي إلى الحق الصريح ويرعوي عن الباطل القبيح ، وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس أنه قال : يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر ، وهو إما بمعنى ذو رشد أو بمعنى مرشد كالحكيم بمعنى المحكم ، والاستفهام للتعجب ، وحمله على الحقيقة لا يناسب المقام.
قالُوا معرضين عما نصحهم به من الأمر بالتقوى والنهي عن الإخزاء عن أول كلامه لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ أي حق وهو واحد الحقوق ، وعنوا به قضاء الشهوة أي ما لنا حاجة في بناتك ، وقد يفسر بما يخالف الباطل أي ما لنا في بناتك نكاح حق لأنك لا ترى جواز نكاحنا للمسلمات ، وما هو إلا عرض سابري كذا قيل ، وهو ظاهر في أنه كان من شريعته عليه السلام عدم حل نكاح الكافر المسلمة.
وقيل : إنما نفوا أن يكون لهم حق في بناته لأنهم كانوا قد خطبوهن فردهم وكان من سنتهم أن من رد في خطبة امرأة لم تحل له أبدا ، وقيل : إنهم لما اتخذوا إتيان الذكور مذهبا كان عندهم هو الحق وأن نكاح الإناث من الباطل فقالوا ما قالوا ، وقيل : قالوا ذلك لأن عادتهم كانت أن لا يتزوج الرجل منهم إلا واحدة وكانوا كلهم متزوجين وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ أي من إتيان الذكور ، والظاهر أن ما مفعول لتعلم ، وهو بمعنى تعرف ، وهي موصولة والعائد محذوف أي الذي نريده ، وقيل : إنها مصدرية فلا حذف أي إرادتنا.
وجوز أن تكون استفهامية وقعت مفعولا - لنريد - وهي حينئذ معلقة - لتعلم - ولما يئس عليه السلام من ارعوائهم عما هم عليه من الغي قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أي لو ثبت أن لي قوة ملتبسة بكم بالمقاومة على دفعكم بنفسي لفعلت - فلو - شرطية وجوابها محذوف كما حذف في قوله سبحانه : وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [الرعد : 31] وجوز أن تكون للتمني ، وبِكُمْ حال من قُوَّةً كما هو المعروف في صفة النكرة إذا قدمت عليها ، وضعف تعلقه بها لأن معمول المصدر لا يتقدم عليه في المشهور ، وقوله : أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ عطف على ما قبله بناء على ما علمت من معناه الذي يقتضيه مذهب المبرد ، والمضارع واقع موقع الماضي ، واستظهر ذلك أبو حيان ، وقال الحوفي : إنه عطف على ما تقدم باعتبار أن المراد أو أني آوي ، وجوز ذلك أبو البقاء ، وكذا جوز أن تكون الجملة مستأنفة ، و- الركن - في الأصل الناحية من البيت أو الجبل ، ويقال : ركن بضم الكاف ، وقد قرىء به ويجمع على أركان ، وأراد عليه السلام به القوي شبهه بركن الجبل في شدته ومنعته أي أو أنضم إلى قوي أتمنع به عنكم وأنتصر به عليكم ، وقد عد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم هذا القول منه عليه السلام بادرة واستغربه ،
فقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه أنه صلّى اللّه عليه وسلم قال : «رحم اللّه تعالى أخي لوطا كان يأوي إلى ركن شديد»
يعني عليه الصلاة والسلام به اللّه تعالى فإنه لا ركن أشد منه عز وجل.
إذا كان غير اللّه للمرء عدة أتته الرزايا من وجوه الفوائد
وجاء أنه سبحانه - لهذه الكلمة - لم يبعث بعد لوط نبيا إلا في منعة من عشيرته ، وفي البحر أنه يجوز - على رأي الكوفيين - أن تكون أَوْ بمعنى بل ويكون عليه السلام قد أضرب عن الجملة السابقة ، وقال : بل آوي في حالي معكم إلى ركن شديد وكني به عن جناب اللّه تعالى ولا يخفى أنه يأبى الحمل على هذه الكناية تصريح الأخبار الصحيحة بما يخالفها ، وقرأ شيبة وأبو جعفر «آوي» بالنصب على إضمار أن بعد أَوْ فيقدر بالمصدر عطفا على قُوَّةً ونظير ذلك قوله :

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 305
ولو لا رجال من رزام أعزة وآل سبيع أو أسوأك علقما
أي لو أن لي بكم قوة أو أويا ،
روي أنه عليه السلام أغلق بابه دون أضيافه وأخذ يجادل قومه عنهم من وراء الباب فتسوروا الجدار فلما رأت الملائكة عليهم السلام ما على لوط من الكرب.
قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بضرر ولا مكروه فافتح الباب ودعنا وإياهم ، ففتح الباب فدخلوا فاستأذن جبريل عليه السلام رب العزة في عقوبتهم فأذن له فلما دنوا طمس أعينهم فانطلقوا عميا يركب بعضهم بعضا وهم يقولون : النجاء النجاء فإن في بيت لوط قوما سحرة ، وفي رواية أنه عليه السلام أغلق الباب على ضيفه فجاؤوا فكسروا الباب فطمس جبريل أعينهم فقالوا : يا لوط جئتنا بسحرة وتوعدوه فأوجس في نفسه خيفة قال :
يذهب هؤلاء ويذروني فعندها قال جبريل عليه السلام : «لا تخف إنا رسل ربك»
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بالقطع من الإسراء ، وقرأ ابن كثير ونافع بالوصل حيث جاء في القرآن من السرى ، وقد جاء سرى وهما بمعنى واحد عند أبي عبيدة والأزهري ، وعن الليث أسرى سار أول الليل وسرى سار آخره ولا يقال في النهار : إلا سار وليس هو مقلوب سرى ، والفاء لترتيب الأمر بالإسراء على الإخبار برسالتهم المؤذنة بورود الأمر والنهي من جنابه عز وجل إليه عليه السلام ، والباء للتعدية أو للملابسة أي سر ملابسا بأهلك بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ قال ابن عباس : بطائفة منه ، وقال قتادة : بعد مضي صدر منه ، وقيل : نصفه ، وفي رواية أخرى عن الحبر آخره وأنشد قول مالك بن كنانة :
ونائحة تقوم بقطع ليل على رحل أهانته شعوب
وليس من باب الاستدلال ، وإلى هذا ذهب محمد بن زياد لقوله سبحانه : نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ [القمر : 34] وتعقبه ابن عطية بأنه يحتمل أنه أسرى بأهله من أول الليل حتى جاوزوا البلد المقتلع ، ووقعت نجاتهم بسحر ، وأصل القطع القطعة من الشيء لكن قال ابن الأنباري : إن ذلك يختص بالليل فلا يقال : عندي قطع من الثوب.
وفسر بعضهم القطع من الليل بطائفة من ظلمته ، وعن الحبر أيضا تفسيره بنفس السواد ، ولعله من باب المساهلة وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أي لا يتخلف كما روي عن ابن عباس ، أو لا ينظر إلى ورائه كما روي عن قتادة ، قيل :
وهذا هو المعنى المشهور الحقيق للالتفات ، وأما الأول فلأنه يقال : لفته عن الأمر إذا صرفته عنه فالتفت أي انصرف ، والتخلف انصراف عن المسير ، قال تعالى : أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا [يونس : 78] أي تصرفنا كذا قال الراغب.
وفي الأساس أنه معنى مجازي ، والنهي في اللفظ لأحد ، وفي المعنى للوط عليه السلام على ما نقل عن المبرد ، وهذا كما تقول لخادمك : لا يقم أحد في أن النهي في الظاهر لأحد ، وهو في الحقيقة للخادم أن لا يدع أحدا يقوم ، فالمعنى هنا فأسر بأهلك ولا تدع أحدا منهم يلتفت ولا يخفى أنه على هذا تتم المناسبة بين المعطوف عليه والمعطوف لأن الأول لأمره عليه السلام والثاني لنهيه ، ويعلم من هذا أن ضمير «منكم» للأهل.
وقد صرح بذلك شهاب فلك الفضل الخفاجي ، فقال : وهاهنا لطيفة وهو أن المتأخرين من أهل البديع اخترعوا نوعا من البديع سموه تسمية النوع ، وهو أن يؤتى بشيء من البديع ويذكر اسمه على سبيل التورية كقوله في البديعية في الاستخدام :
واستخدموا العين مني فهي جارية وكم سمحت بها في يوم بينهم
وتبجحوا باختراعه ، وأنا بمنّ اللّه تعالى أقول : إنه وقع في القرآن في هذه الآية لأن قوله سبحانه : فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ إلخ وقع فيه ضمير مِنْكُمْ للأهل فقوله جل وعلا : لا يَلْتَفِتْ من تسمية النوع وهذا من بديع النكات انتهى ،

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 306
وسر النهي عن الالتفات بمعنى التخلف ظاهر ، وأما سره إذا كان بمعنى النظر إلى وراء فهو أن يجدوا في السير فإن من يلتفت إلى ورائه لا يخلو عن أدنى وقفة أو أن لا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب فيرقوا لهم.
وذكر بعضهم أن النهي وكذا الضمير للوط عليه السلام ولأهله أي لا يلتفت أحد منك ومن أهلك. إِلَّا امْرَأَتَكَ بالنصب وهو قراءة أكثر السبعة.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالرفع وقد كثر الكلام في ذلك فقال الزمخشري : إنه سبحانه استثناها من قوله :
فَأَسْرِبِأَهْلِكَ
ويدل عليه قراءة عبد اللّه - فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بقطع من الليل إلا امرأتك - ويجوز أن ينتصب من - لا يلتفت - على أصل الاستثناء ، وإن كان الفصيح هو البدل أعني قراءة من قرأ بالرفع فأبدلها من أحد ، وفي إخراجها مع أهله روايتان :
روي أنه أخرجها معهم وأمر أن لا يلتفت منهم أحد إلا هي فلما سمعت هدّة العذاب التفتت وقالت : يا قوماه فأدركها حجر فقتلها.
وروي أنه لما أمر أن يخلفها مع قومها فإن هواها إليهم فلم يسر بها ،
واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين انتهى ، وأورد عليه ابن الحاجب ما خلاصته أنه إما أن يسري بها فالاستثناء من أحد متعين أولا فيتعين من فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ والقصة واحدة فأحد التأويلين باطل قطعا ، والقراءتان الثابتتان قطعا لا يجوز حملهما على ما يوجب بطلان أحدهما ، فالأولى أن يكون إِلَّا امْرَأَتَكَ رفعا ونصبا مثل ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ [النساء : 66] ولا يبعد أن يكون بعض القراء على الوجه الأقوى ، وأكثرهم على ما دونه بل جوز بعضهم أن تتفق القراء على القراءة بغير الأقوى.
وأجاب عنه بعض المغاربة بما أشار إليه في الكشف من منع التنافي لأن الاستثناء من الأهل يقتضي أن لا يكون لوط عليه السلام مأمورا بالإسراء بها ، ولا يمنع أنها سرت بنفسها ، ويكفي لصحة الاستثناءين هذا المقدر كيف ولم ينه عن إخراجها ولكنه أمر بإخراج غيرها ، نعم يرد على قوله : واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين أنه يلزم الشك في كلام لا ريب فيه من رب العالمين ، ويجاب بأن معناه اختلاف القراءتين جالب وسبب لاختلاف الروايتين كما تقول :
السلاح للغزو أي أداة وصالح مثلا له ، ولم يرد أن اختلاف القراءتين لأجل اختلاف الروايتين قد حصل ، ولا شك أن كل رواية تناسب قراءة وإن أمكن الجمع ، وأما قوله : وأمر أن لا يلتفت منهم أحد إلا هي فنقل للرواية لا تفسير للفظ القرآن ، وإنما الكائن فيه استثناؤها عن الحكم الذي للاستصلاح إذ لم يعن بها ، وإلى معنى ما أشار إليه صاحب الكشف في منع التنافي أشار أبو شامة فقال : وقع في تصحيح ما أعربه النحاة معنى حسن ، وذلك أن يكون في الكلام اختصار نبه عليه اختلاف القراءتين فكأنه قيل : فأسر بأهلك إلا امرأتك كما قرأ به عبد اللّه ورواه أبو عبيدة عن مصحفه ، فهذا دليل على أن استثناءها من السري بهم ، ثم كأنه قال سبحانه : فإن خرجت معكم وتبعتكم من غير أن تكون أنت سريت بها فانه أهلك عن الالتفات غيرها فإنها ستهلك ويصيبها ما يصيب قومها ، فكانت قراءة النصب دالة على المعنى المتقدم ، وقراءة الرفع دالة على هذا المعنى المتأخر ومجموعهما دال على جملة المعنى المشروح ، ولا يخفى ما في ذلك من التكلف كما قال ابن مالك ، ولذا اختار أن الرفع على أن الاستثناء منقطع ، وامْرَأَتَكَ مبتدأ ، والجملة بعدها خبره وإلا بمعنى لكن.
وقال ابن هشام في المغني في الجهة الثامنة من الباب الخامس : إن ما ذكره الزمخشري وقد سبقه إليه غيره في الآية خلاف الظاهر ، والذي حمل القائلين عليه أن النصب قراءة الأكثرين فإذا قدر الاستثناء من أحد كانت قراءتهم على الوجه المرجوح ، وقد التزم بعضهم جواز مجيء الأمرين مستدلا بقوله تعالى : إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر :

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 307
49] فإن النصب في ذلك عند سيبويه على حد قولهم : زيدا ضربته ، ولم ير خوف إلباس المفسر بالصفة مرجحا كما رآه بعض المتأخرين ، ثم قال : والذي أجزم به أن قراءة الأكثرين لا تكون مرجحة ، وأن الاستثناء على القراءتين من جملة الأمر بدليل سقوط وَلا يَلْتَفِتْ إلخ في قراءة ابن مسعود ، والاستثناء منقطع بدليل سقوطه في آية الحجر ، ولأن المراد بالأهل المؤمنون وإن لم يكونوا من أهل بيته لا أهل بيته وإن لم يكونوا مؤمنين كما في قوله تعالى لنوح عليه السلام : إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود : 46] ووجه الرفع أنه على الابتداء ، وما بعد ، الخبر والمستثنى الجملة ، ونظيره لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ [الغاشية : 22 - 24].
واختار أبو شامة ما اخترته من أن الاستثناء منقطع لكنه قال : وجاء النصب على اللغة الحجازية والرفع على التميمية ، وهذا يدل على أنه جعل الاستثناء من جملة النهي ، وما قدمته أولى لضعف اللغة التميمية ، ولما قدمت من سقوط جملة النهي في قراءة عبد اللّه انتهى.
واستظهر ذلك الحمصي في حواشيه على التصريح واستحسنه غير واحد ، وقد نقل أبو حيان القول بالانقطاع على القراءتين وتخريج النصب على اللغة الحجازية والرفع عن الأخرى ، ثم قال : إنه كلام لا تحقيق فيه فإنه إذا لم يقصد إخراجها من المأمور بالإسراء بهم ولا من المنهيين عن الالتفات وكان المعنى لكن امرأتك يجري عليها كذا وكذا كان من الاستثناء الذي لا يتوجه إليه العامل ، وهذا النوع من الاستثناء المنقطع يجب فيه النصب بإجماع العرب ، وإنما الخلاف في المنقطع الذي يمكن توجه العامل إليه وفيه نظر ، ففي التوضيح لابن مالك حق المستثنى بإلا من كلام تام موجب مفردا كان أو مكملا معنى بما بعده كقوله تعالى : إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ [الحجر : 59 ، 60] النصب ، ولا يعرف أكثر المتأخرين من البصريين إلا النصب ، وقد غفلوا عن وروده مرفوعا بالابتداء ثابت الخبر كقول أبي قتادة : أحرموا كلهم إلا أبو قتادة لم يحرم ، ومحذوفة نحو ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان : 34] إلا اللّه ، وإِلَّا في ذلك بمعنى لكن أي لكن أبو قتادة لم يحرم ولكن اللّه يعلم انتهى ، وما نحن فيه من قبيل هذا ، وفي حاشيتي البدر الدماميني وتقي الدين الشمني أن الرضي قد أجاب بما يقتضي أن الاستثناء متصل ولا تناقض ، وذلك أنه قال : ولما تقرر أن الاتباع هو الوجه مع الشرائط المذكورة وكان أكثر القراء على النصب في وَلا يَلْتَفِتْ إلخ تكلف الزمخشري لئلا تكون قراءة الأكثر محمولة على وجه غير مختار بما تكلف ، واعترضه ابن الحاجب بلزوم التناقض لأن الاستثناء من - أسر بأهلك - يقتضي كونها غير مسري بها ، ومن - لا يلتفت منكم أحد - يقتضي كونها مسري بها لأن الالتفات بالإسراء ، والجواب أن الإسراء وإن كان مطلقا في الظاهر إلا أنه في المعنى مقيد بعدم الالتفات.
فمآله أسر بأهلك إسراء لا التفات فيه إلا امرأتك فإنك تسري بها إسراء مع الالتفات فاستثن على هذا إن شئت - من - أسر - أو - لا يلتفت - ولا تناقض وهذا كما تقول : امش ولا تتبختر أي امش مشيا لا تتبختر فيه فكأنه قيل : ولا يلتفت منكم أحد في الإسراء ، وكذا امش ولا تتبختر في المشي فحذف الجار والمجرور للعلم به انتهى.
وأورد عليه السيد السند في حواشيه أن الاستثناء إذا رجع إلى القيد كان المعنى فأسر بجميع أهلك إسراء لا التفات فيه إلا من امرأتك فيكون الإسراء بها داخلا في المأمور به وإذا رجع إلى المقيد لم يكن الإسراء بها داخلا في المأمور به فيكون المحذور باقيا بحاله ولا مخلص عنه إلا بأن يقال : إن تناول العام إياها ليس قطعيا لجواز أن يكون مخصوصا فلا يلزم من رجوع الاستثناء إلى قوله تعالى : وَلا يَلْتَفِتْ كونه عليه السلام مأمورا بالإسراء بها ، وحينئذ يوجه الاستثناء بما ذكر من أنها تبعتهم أو أسري بها مع كونه غير مأمور بذلك إذ لا يلزم من عدم الأمر به النهي عنه فتأمل انتهى.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 308
وبحث فيه الشهاب ولم يرتض احتمال التخصيص لما أنه لا دليل عليه ويفهم صنيعه ارتضاء كلام الرضي ، ثم قال : ومراده بالتقييد أنه ذكر شيئان متعاطفان ، فالظاهر أن المراد الجمع بينهما لا أن الجملة حالية فلا يرد عليه أن الحمل على التقييد مع كون الواو للنسق ممنوع ، وكذا جعلها للحال مع لا الناهية ، وأيضا القراءة بإسقاطها تدل على عدم اعتبار ذلك التقييد ولا يخلو عن شيء ، هذا وقد ألفت في تحقيق هذا الاستثناء عدة رسائل : منها رسالة للحمصي وأخرى للعلامة الكافيجي ألفها لبعض سلاطين آل عثمان غمرهم اللّه سبحانه بصنوف الفضل والإحسان حين طلب منه لبحث وقع في مجلسه ذلك ، وبالجملة القول بالانقطاع أقل تكلفا فيما يظهر ، والقول بأنه حينئذ لا يبقى ارتباط لقوله سبحانه : إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ ناشىء من عدم الالتفات فلا ينبغي أن يلتفت إليه كما لا يخفى على من أحاط خبرا بما تقدم نقله فتأمل ، وضمير إِنَّهُ للشأن ، وما أَصابَهُمْ مبتدأ ، ومُصِيبُها خبره ، والجملة خبر - إن - الذي اسمه ضمير الشأن ، وفي البحر إن مُصِيبُها مبتدأ ، وما أَصابَهُمْ خبره ، والجملة خبر إن ، ويجوز على مذهب الكوفيين أن يكون مُصِيبُها خبر - إن - وما فاعل به لأنهم يجوزون أنه قائم أخواك ، ومذهب البصريين أن ضمير الشأن لا يكون خبره إلا جملة مصرحا بجزأيها فلا يجوز هذا الأعراب عندهم ، والأولى ما ذكر أولا ، والجملة إما تعليل على طريقة الاستئناف أو خبر - لامرأتك - على قراءة الرفع ، والمراد من ما العذاب ، ومن أَصابَهُمْ يصيبهم والتعبيرية دونه للإيذان بتحقق الوقوع ، وفي الإبهام. واسمية الجملة. والتأكيد ما لا يخفى.
إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أي موعد عذابهم وهلاكهم ذلك ، وكأن هذا على ما قيل : تعليل للأمر بالإسراء والنهي عن الالتفات المشعر بالحث على الإسراع ، وقوله سبحانه : أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ تأكيد للتعليل ، فإن قرب الصبح داع إلى الإسراع للتباعد عن مواقع العذاب ، وروي أنه عليه السلام سأل الملائكة عليهم السلام عن وقت هلاكهم فقالوا : موعدهم الصبح ، فقال : أريد أسرع من ذلك ، فقالوا له : أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ.
ولعله إنما جعل ميقات هلاكهم الصبح لأنه وقت الدعة والراحة فيكون حلول العذاب حينئذ أفظع ولأنه أنسب بكون ذلك عبرة للناظرين.
وقرأ عيسى بن عمر الصُّبْحُ بضم الباء قيل : وهي لغة فلا يكون ذلك اتباعا فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا أي عذابنا أو الأمر به ، فالأمر على الأول واحد الأمور ، وعلى الثاني واحد الأوامر ، قيل : ونسبة المجيء إليه بالمعنيين مجازية ، والمراد لما حان وقوعه ولا حاجة إلى تقدير الوقت مع دلالة لما عليه.
وقيل : إنه يقدر على الثاني أي جاء وقت أمرنا لأن الأمر نفسه ورد قبله ، ونحن في غنى عن ادعاء تكراره ، ورجح تفسير الأمر بما هو واحد الأوامر - أعني ضد النهي - بأنه الأصل فيه لأنه مصدر أمره ، وأما كونه بمعنى العذاب فيخرجه عن المصدرية الأصلية وعن معناه المشهور الشائع ، ويجعل التعذيب مسببا عنه بقوله سبحانه : جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها فإنه جواب لما والتعذيب نفس إيقاع العذاب فلا يحسن جعله مسببا عن ذلك بل العكس أولى إلا أن يؤول المجيء بإرادته ، وضمير عالِيَها وسافِلَها لمدائن قوم لوط المعلومة من السياق وهي المؤتفكات ، وهي خمس مدائن : ميعة وصغره وعصره ودوما وسدوم.
وقيل : سبع أعظمها سدوم ، وهي القرية التي كان فيها لوط عليه السلام ، وكان فيها على ما
روي عن قتادة أربعة آلاف ألف إنسان أو ما شاء اللّه تعالى من ذلك ،
وقيل : إن هذا العدد إنما كان في المدائن كلها ، وقيل : إن ما كان في المدائن أكثر من ذلك بكثير ، واللّه تعالى أعلم.
ونصب عالِيَها - و- سافِلَها على أنهما مفعولان للجعل ، والمراد قلبناها على تلك الهيئة وهو جعل

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 309
العالي سافلا ، وإنما قلبت كذلك ولم يعكس تهويلا للأمر وتفظيعا للخطب لأن جعل عالِيَها الذي هو مقرهم ومسكنهم سافِلَها أشق من جعل - سافلها عاليها - وإن كان مستلزما له ،
روي أن لوطا عليه السلام سرى بمن معه قبل الفجر وطوى اللّه تعالى له الأرض حتى وصل إلى إبراهيم عليه السلام ، ثم إن جبريل عليه السلام اقتلع المدائن بيده ، وفي رواية أدخل جناحه تحت المدائن فرفعها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ونباح الكلاب ثم قلبها ،
وما أعظم حكمة اللّه تعالى في هذا القلب الذي هو أشبه شيء بما كانوا عليه من إتيان الإعجاز والإعراض عما تقتضيه الطباع السليمة ولا ينبغي أن يجعل الكلام كناية عن إنزال أمر عظيم فيها كما يقول القائل : اليوم قلبت الدنيا على فلان لما فيه من العدول عن الظاهر والانحراف عما نطقت به الآثار من غير داع سوى استبعاد مثل ذلك وما ذلك ببعيد ، وإسناد الجعل إلى ضميره تعالى باعتبار أنه المسبب فهو إسناد مجازي باعتبار اللغة وإن كان سبحانه هو الفاعل الحقيقي. والنكتة في ذلك تعظيم الأمر وتهويله فإن ما يتولاه العظيم من الأمور فهو عظيم ، ويقوي ذلك ضمير العظمة أيضا وعلى هذا الطرز قوله سبحانه : وَأَمْطَرْنا عَلَيْها أي على المدائن أو شذاذ أهلها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ وكان ذلك زيادة في تفظيع حالهم أو قطعا لشأفتهم واستئصالا لهم.
روي أن رجلا منهم كان بالحرم فبقي حجر معلق بالهواء حتى خرج منه فوقع عليه وأهلكه ،
والسجيل الطين المتحجر لقوله تعالى في الآية الأخرى : حِجارَةً مِنْ طِينٍ [الذاريات : 33] والقرآن يفسر بعضه بعضا ، ويتعين إرجاع بعضه لبعض في قصة واحدة ، وهو كما أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس ومجاهد معرب - سنك كل - .
وقال أبو عبيدة : السجيل - كالسجين - الشديد من الحجارة ، وقيل : هو من أسجله إذا أرسله أو أدر عطيته ، والمعنى حجارة كائنة من مثل الشيء المرسل أو مثل العطية في الإدرار وهو على هذا خارج مخرج التهكم ، وقيل : من - السجل - بتشديد اللام وهو الصك ، ومعنى كونه من ذلك أنه مما كتب اللّه تعالى عليهم أن يعذبهم به ، وقيل : أصله من سجين وهو اسم لجهنم أو لواد فيها ، فأبدلت نونه لاما.
وقال أبو العالية وابن زيد : السجيل اسم لسماء الدنيا. قال أبو حيان : وهو ضعيف لوصفه بقوله سبحانه :
مَنْضُودٍ أي نضد وضع بعضه على بعض معدا لعذابهم ، أو نضد في الإرسال يرسل بعضه إثر بعض كقطار الأمطار ، ولا يخفى أن هذه المعاني كما تأبى ما قال أبو العالية وابن زيد تأبى بحسب الظاهر ما قيل : إن المراد به جهنم ، وتكلف بعضهم فقال : يمكن وصف جهنم بذلك باعتبار المعنى الأول بناء على أنها دركات بعضها فوق بعض أو أن الأصل منضود فيه فاتسع ، وقد يتكلف بنحو هذا لما قاله أبو العالية وابن زيد وجوز أن يكون مَنْضُودٍ صفة حجارة على تأويل الحجر وجره للجوار ، وعليه فالأمر ظاهر إلا أنه من التكلف بمكان مُسَوَّمَةً أي عليها سيما يعلم بها أنها ليست من حجارة الأرض قاله ابن جريج ، وقيل : معلمة ببياض وحمرة ، وروي ذلك عن ابن عباس والحسن ، وجاء في رواية أخرى عن ابن عباس أنه كان بعضها أسود فيه نقطة بيضاء وبعضها أبيض فيه نقطة سوداء.
وعن الربيع أنها كانت معلمة باسم من يرمي بها ، وكان بعضها كما قيل : مثل رؤوس الإبل ، وبعضها مثل مباركها ، وبعضها مثل قبضة الرجل عِنْدَ رَبِّكَ أي في خزائنه التي لا يمكلها غيره سبحانه ولا يتصرف بها سواه عز وجل ، والظرف قيل : منصوب - بمسومة - أو متعلق بمحذوف وقع صفة له ، والمروي عن مقاتل أن المعنى أنها جاءت من عند ربك ، وعن أبي بكر الهذلي أنها معدة عنده سبحانه.
وقال ابن الأنباري : المراد ألزم هذا التسويم للحجارة عنده تعالى إيذانا بقدرته وشدة عذابه فليفهم وَما هِيَ

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 310
أي الحجارة الموصوفة بما ذكر مِنَ الظَّالِمِينَ من كل ظالم بِبَعِيدٍ فإنهم بسبب ظلمهم مستحقون لها ، وفيه وعيد لأهل الظلم كافة ، وروي هذا عن الربيع.
وأخرج ابن جرير وغيره عن قتادة أن المراد من الظالمين ظالمو هذه الأمة. وجاء في خبر ذكره الثعلبي ، وقال فيه العراقي : لم أقف له على إسناد
أنه صلّى اللّه عليه وسلم سأل جبريل عليه السلام عن ذلك فقال : يعني ظالمي أمتك ما من ظالم منهم إلا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة ،
وقيل : المراد بالظالمين قوم لوط عليه السلام ، والمعنى لم تكن الحجارة لتخطئهم.
وعن ابن عباس أن المعنى وما عقوبتهم ممن يعمل عملهم ببعيد ، وظاهره أن الضمير للعقوبة المفهومة من الكلام ، والظَّالِمِينَ من يشبههم من الناس ، ويمكن أن يقال : إن مراده بيان حاصل المعنى لا مرجع الضمير.
وذهب أبو حيان إلى أن الظاهر أن يكون ضمير هِيَ للقرى التي جعل عالِيَها سافِلَها والمراد من الظَّالِمِينَ ظالمو مكة ، وقد كانت قريبة إليهم يمرون عليها في أسفارهم إلى الشام. وتذكير - البعيد - يحتمل أن يكون على تأويل الحجارة بالحجر المراد به الجنس ، أو إجرائه على موصوف مذكر أي بشيء بعيد ، أو بمكان بعيد فإنها وإن كانت في السماء وهي في غاية البعد من الأرض إلا أنها إذا هوت منها فهي أسرع شيء لحوقا بهم فكأنها بمكان قريب منهم ، أو لأنه على زنة المصدر - كالزفير والصهيل - والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث وَإِلى مَدْيَنَ أي أولاد مدين بن إبراهيم عليه السلام فحذف المضاف أو جعل اسما بالغلبة للقبيلة وكثيرا ما تسمى القبيلة باسم أبيهم - كمضر وتميم - ولعل هذا أولى ، وجوز أن يراد بمدين المدينة التي بناها مدين فسميت به فيقدر حينئذ مضاف أي وإلى أهل مدين أَخاهُمْ نسيبهم شُعَيْباً قد مر ما قيل في نسبه عليه السلام ، والجملة معطوفة على قوله سبحانه : وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً [هود : 61] أي وأرسلنا إلى مدين شعيبا.
قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أمر بالتوحيد على وجه أكيد ولما كان ملاك الأمر قدمه على النهي عما اعتادوه من البخس المنافي للعدل المخل بحكمة التعاوض ، وإيصال الحقوق لأصحابها بقوله : وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ قيل : أي لا تنقصوا الناس من المكيال والميزان يعني مما يكال ويوزن على ذكر المحل وإرادة الحال ، واستظهر أن المراد لا تنقصوا حجم المكيال عن المعهود وكذا الصنجات ، وقد تقدم في [الأعراف : 85] الْكَيْلَ
بدل الْمِكْيالَ فتذكر وتأمل إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ أي ملتبسين بثروة واسعة تغنيكم عن ذلك أو بنعمة من اللّه تعالى حقها أن تقابل بغير ما أنتم عليه بأن تتفضلوا على الناس شكرا عليها ، فإن أجل شكر النعم الإحسان والتفضل على عباد اللّه تعالى ، أو أراكم بخير وغنى فلا تزيلوه بما تأتونه من الشر ، وعلى كل حال الجملة في موضع التعليل للنهي وعقب بعلة أخرى أعني قوله تعالى :
وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إن لم تنتهوا عن ذلك عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ وجوز أن يكون تعليلا للأمر والنهي جميعا. وفسر المحيط بما لا يشذ منه أحد منهم ، وفسره الزمخشري بالمهلك أخذا من قوله تعالى : وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ [الكهف : 42] وأصله من إحاطة العدو ، وادعى أن وصف اليوم بالإحاطة أبلغ من وصف العذاب لأن اليوم زمان يشتمل على الحوادث فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذب ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه يعني أن اليوم لما كان زمانا مشتملا على الحوادث الكائنة فيه عذابا أو غيره فإذا أحاط بالمعذب ملتبسا بعذابه لأنه حادثة فقد اجتمع للمعذب الأمر الذي يشتمل عليه اليوم وهو العذاب كما إذا أحاط ملتبسا بنعيمه.
والحاصل أن إحاطة اليوم تدل على إحاطة كل ما فيه من العذاب ، وأما إحاطة العذاب على قوم فقد يكون بأن

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 311
يصيبكل فرد منهم فردا من أفراد العذاب ، وأما فيما نحن فيه فيدل على إحاطة أنواع العذاب المشتمل عليها اليوم بكل فرد ، ولا شك في أبلغية هذا - كذا في الكشف - وتمام الكلام فيه ، وقال بعض المحققين في بيان الأبلغية : إن اليوم زمان لجميع الحوادث فيوم العذاب زمان جميع أنواع العذاب الواقعة فيه فإذا كان محيطا بالمعذب فقد اجتمع أنواع العذاب له ، وهذا كقوله :
إن المروءة والسماحة والندى في قبة ضربت على ابن الحشرج
فإن وقوع العذاب في اليوم كوجود الأوصاف في القبة ، وجعل اليوم محيطا بالمعذب كضرب القبة على الممدوح فكما أن هذا كناية عن ثبوت تلك الأوصاف له كذلك ذاك كناية عن ثبوت أنواع العذاب للمعذب ، وأما وصف العذاب بالإحاطة ففيه استعارة إحاطته لاشتماله على المعذب فكما أن المحيط لا يفوته شيء من أجزاء المحاط لا يفوت العذاب شيء من أجزاء المعذب ، وهذه الاستعارة تفيد أن العذاب لكل المعذب وتلك الكناية تفيد أن كل العذاب له ، ولا يخفى ما بينهما من التفاوت في الأبلغية ، وجوز أن يكون مُحِيطٍ نعتا - لعذاب - وجر للجوار ، وقيل : هو نعت - ليوم - جار على غير من هو له ، والتقدير - عذاب يوم محيط عذابه - وليس بشيء كما لا يخفى ، وأيا ما كان فالمراد عذاب يوم القيامة أو عذاب الاستئصال في الدنيا ، وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه فسر الخير برخص السعر. والعذاب بغلائه.
وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ أي أتموهما ، وفائدة التصريح بذلك مع أن الانتهاء المطلوب من النهي السابق لا يتحقق بدون الإتمام فيكون مطلوبا تبعا ، وهذا مسلم على المذاهب جعل النهي عن الشيء عين الأمر بالضد أو مستلزما له تضمنا أو التزاما لأن الخلاف في مقتضى اللفظ لا أن التحريم أو الوجوب ينفك عن مقابلة الضد غير واحدة النعي بما كانوا عليه من القبيح وهو النقص مبالغة في الكف ، ثم الأمر بالضد مبالغة في الترغيب وإشعارا بأنه مطلوب أصالة وتبعا مع الإشعار بتبعية الكف عكسا ، وتقييده بقوله سبحانه : بِالْقِسْطِ أي بالعدل من غير زيادة ولا نقصان ، ثم إدماج أن المطلوب من الإتمام العدل ، ولهذا قد يكون الفضل محرما كما في الربويات ، وإلى هذا يشير كلام الزمخشري ، وظاهره حمل المكيال والميزان على ما يكال ويوزن ، وحملهما بعضهم في الموضعين على الآلتين المعروفتين ، وفسر القسط بما ذكرنا ثم قال : إن الزيادة في الكيل والوزن وإن كانت تفضلا مندوبا إليه لكنها في الآلة محظورة كالنقص ، فلعل الزائد للاستعمال عند الاكتيال والناقص للاستعمال عند الكيل.
وفائدة الأمر بتسوية الآلتين وتعديلهما بعد النهي عن نقصهما المبالغة في الحمل على الإيفاء والمنع والبخس ، والتنبيه على أنه لا يكفيهم مجرد الكف عن النقص والبخس بل يجب عليهم إصلاح ما أفسدوه وجعلوه معيارا لظلمهم وقانونا لعدوانهم ، وفيه حمل اللفظ على المتبادر منه ، فإن الحمل على المعنى الآخر مجاز كما أشرنا إليه ، وادعى الفاضل الحلبي أن هذا الأمر بعد النهي السابق ليس من باب التكرار في شيء ، فقال : إن النهي قد كان عن نقص حجم المكيال وصنجات الميزان ، والأمر بإيفاء المكيال والميزان حقهما بأن لا ينقص في الكيل والوزن ، وهذا الأمر بعد مساواة المكيال والميزان للمعهود فلا تكرار كيف ولو كان تكريرا للتأكيد والمبالغة لم يكن موضع الواو لكمال الاتصال بين الجملتين انتهى.
وتعقب بأن حمل هذين اللفظين - وقد تكررا - في أحد الموضعين على أحد معنيين متغايرين خلاف الظاهر ، وأن في التكرار من الفوائد ما جعله أقوى من التأسيس فلا ينبغي الهرب منه ، وأما العطف فلأن اختلاف المقاصد في ذينك المتعاطفين جعلهما كالمتغايرين فحسن ذلك ، وقد صرح به أهل المعاني في قوله سبحانه : يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ [البقرة : 49 ، إبراهيم : 6] انتهى.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 312
وفي ورود ما تعقب به أو لا تأمل فتأمل ، وقوله تعالى : وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ يحتمل أن يكون تعميما بعد تخصيص فإنه يشمل الجودة والرداءة وغير المكيل والموزون أيضا فهو تذييل وتتميم لما تقدم ، وكذا قوله سبحانه :
وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فإن العثي يعم تنقيص الحقوق وغيره لأنه عبارة عن مطلق الفساد ، وفعله من باب رمى وسعى ورضي ، وجاء واويا ويائيا ، ويحتمل أن يكون نهيا عن بخس المكيل والموزون بعد النهي عن نقص المعيار والأمر بإيفائه أي لا تنقصوا الناس بسبب نقص المكيال والميزان وعدم اعتدالهما أشياءهم التي يشترونها بهما ، والتصريح بهذا النهي بعد ما علم في ضمن النهي ، والأمرين السابقين للاهتمام بشأنه والترغيب في إيفاء الحقوق بعد الترهيب والزجر عن نقصها ، وإلى كل من الاحتمالين ذهب بعض ، وهو مبني على ما علمت من الاختلاف السابق في تفسير ما سبق ، وقيل : المراد بالبخس المكس كأخذ العشور على نحو ما يفعل اليوم ، و- العثي - السرفة وقطع لطريق والغارة ، ومُفْسِدِينَ حال من ضمير تَعْثَوْا ، وفائدة ذلك إخراج ما يقصد به الإصلاح كما فعل الخضر عليه السلام من قتل الغلام. وخرق السفينة فهو حال مؤسسة ، وقيل : ليس الفائدة الإخراج المذكور فإن المعنى - لا تعثوا في الأرض بتنقيص الحقوق مثلا مفسدين مصالح دينكم وأمر آخرتكم - ومآل ذلك على ما قيل : إلى تعليل النهي كأنه قيل : لا تفسدوا في الأرض فإنه مفسد لدينكم وآخرتكم بَقِيَّتُ اللَّهِ قال ابن عباس : أي ما أبقاه سبحانه من الحلال بعد الإيفاء خَيْرٌ لَكُمْ مما تجمعون بالبخس ، فإن ذلك هباء منثور بل هو شر محض وإن زعمتم أنه خير إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي بشرط أن تؤمنوا إذ مع الكفر لا خير في شيء أصلا ، أو إن كنتم مصدقين بي في مقالتي لكم ، وفي رواية أخرى عن الحبر أنه فسر البقية بالرزق.
وقال الربيع هي وصيته تعالى ، وقال مقاتل : ثوابه في الآخرة ، وقال الفراء : مراقبته عز وجل ، وقال قتادة : ذخيرته ، وقال الحسن : فرائضه سبحانه.
وزعم ابن عطية أن كل هذا لا يعطيه لفظ الآية وإنما معناه الإبقاء وهو مأخوذ مما روي عن ابن جريج أنه قال :
المعنى إبقاء اللّه تعالى النعيم عليكم خير لكم مما يحصل من النقص بالتطفيف ، وأيا ما كان فجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله على ما ذهب إليه جمهور البصريين وهو الصحيح ، وقرأ إسماعيل بن جعفر عن أهل المدينة «بقية» بتخفيف الياء قال ابن عطية : وهي لغة ، قال أبو حيان : إن حق وصف فعل اللازم أن يكون على وزن فاعل نحو شجيت المرأة فهي شجية فإذا شددت الياء كان على وزن فعيل للمبالغة ، وقرأ الحسن - تقية اللّه - بالتاء والمراد تقواه سبحانه ومراقبته الصارفة عن المعاصي وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أحفظكم من القبائح أو أحفظ عليكم أعمالكم وأجازيكم بها وإنما أنا ناصح مبلغ وقد أعذرت إذ أنذرت ولم آل جهدا ، أو ما أنا بحافظ عليكم نعم اللّه تعالى لو لم تتركوا سوء صنيعكم.
قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا من الأصنام أجابوا بذلك أمره عليه السلام إياهم بعباده اللّه تعالى وحده المتضمن لنهيهم عن عبادة الأصنام وغرضهم منه إنكار الوحي الآمر لكنهم بالغوا في ذلك إلى حيث أنكروا أن يكون هناك آمر من العقل وزعموا أن ذلك من أحكام الوسوسة والجنون قاتلهم اللّه أنى يؤفكون ، وعلى هذا بنوا استفهامهم وأخرجوا كلامهم وقالوا بطريق الاستهزاء : أَصَلاتُكَ التي هي من نتائج الوسوسة وأفاعيل المجانين تأمرك بأن نترك ما استمر على عبادته آباؤنا جيلا بعد جيل من الأوثان والتماثيل ، وإنما جعلوه عليه السلام مأمورا مع أن الصادر عنه إنما هو الأمر بعبادة اللّه تعالى وغير ذلك من الشرائع لأنه عليه السلام لم يكن يأمرهم من تلقاء نفسه بل من جهة الوحي وأنه كان يعلمهم بأنه مأمور بتبليغه إليهم ، وتخصيصهم إسناد الأمر إلى الصلاة من بين سائر

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 313
أحكام النبوة لأنه عليه السلام كان كثير الصلاة معروفا بذلك ، بل أخرج ابن عساكر عن الأحنف أنه عليه السلام كان أكثر الأنبياء صلاة ، وكانوا إذا رأوه يصلي يتغامزون ويتضاحكون فكانت هي من بين شعائر الدين ضحكة لهم ، وقيل :
إن ذلك لأنه عليه السلام كان يصلي ويقول لهم : إن الصلاة تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر ، وروي هذا عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وإلى الأول ذهب غير واحد ، وهذا الإسناد حقيقي لا مجازي غاية ما في الباب أنهم قصدوا الحقيقة تهكما ، واختيار المضارع ليدل على العموم بحسب الزمان ، وقوله سبحانه : أَنْ نَتْرُكَ على تقدير بتكليف أن نترك - فحذف المضاف وهو تكليف ، فدخل الجار على أَنْ ثم حذف وحذفه قبلها مطرد ، وعرف التخاطب في مثله يقتضي ذلك ، وقيل : إن الداعي إليه أن الشخص لا يكلف بفعل غيره لأنه غير مقدور له أصلا ، وقيل : لا تقدير ، والمعنى - أصلاتك تأمرك بما ليس في وسعك وعهدتك من أفاعيل غيرك - وغرضهم من ذلك التعريض بركاكة رأيه وحاشاه عليه السلام ، والاستهزاء به من تلك الجهة ، وتعقب بأنه يأباه دخول الهمزة على الصلاة دون الأمر ، ويستدعي أن يصدر عنه عليه السلام في أثناء الدعوة ما يدل على ذلك أو يوهمه ، وأنى ذلك؟ فتأمل ، وقرأ أكثر السبعة - أصلواتك - بالجمع ، وأمر الجمع بين القراءتين سهل ، وقوله تعالى : أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا أجابوا به أمره عليه السلام بإيفاء الحقوق ونهيه عن البخس والنقص وهو عطف على ما وأو بمعنى الواو أي وأن نترك فعلنا ما نشاء في أموالنا من التطفيف وغيره ، ولا يصح عطفه على أَنْ نَتْرُكَ لاستحالة المعنى إذ يصير حينئذ - تأمرك بفعلنا في أموالنا ما نشاء من التطفيف وغيره - وهم منهيون عن ذلك لا مأمورون به ، وحمل ما على ما أشرنا إليه هو الظاهر ، وقيل : كانوا يقرضون الدراهم والدنانير ويجرونها مع الصحيحة على جهة التدليس فنهوا عن ذلك
فقالوا ما قالوا ، وروي هذا عن محمد بن كعب ، وأدخل بعضهم ذلك الفعل في العثي في الأرض فيكون النهي عنه نهيا عنه. ولا مانع من اندراجه في عموم ما ، وقرأ الضحاك بن قيس وابن أبي عبلة وزيد بن علي - بالتاء - في الفعلين على الخطاب فالعطف على مفعول تَأْمُرُكَ أي - أصلاتك تأمرك أن تفعل في أموالنا ما تشاء أي من إيفاء المكيال والميزان - كما هو الظاهر ، وقيل : من الزكاة ، فقد كان عليه السلام يأمرهم بها كما روي عن سفيان الثوري ، قيل : وفي الآية على هذا مع حمل الصلاة على ما يتبادر منها دليل على أنه كان في شريعته عليه السلام صلاة وزكاة ، وأيد بما روي عن الحسن أنه قال : لم يبعث اللّه تعالى نبيا إلا فرض عليه الصلاة والزكاة ، وأنت تعلم أن حمل ما نَشؤُا على الزكاة غير متعين بل هو خلاف ظاهر السوق ، وحمل الصلاة على ذلك وإن كان ظاهرا إلا أنه روى ابن المنذر وغيره عن الأعمش تفسيرها بالقراءة ، ونقل عن غيره تفسيرها بالدعاء الذي هو المعنى اللغوي لها.
وعن أبي مسلم تفسيرها بالدين لأنها من أجل أموره ، وعلى تقدير أن يراد منها الصلاة بالمعنى الآخر لا تدل الآية على أكثر من أن يكون له عليه السلام صلاة ، ولا تدل على أنها من الأمور المكلف بها أحد من أمته فيمكن أن يكون ذلك من خصوصياته عليه السلام ، وما روي عن الحسن ليس نصا في الغرض كما لا يخفى ، هذا وجوز أن يكون العطف على هذه القراءة على ما وتعقب بأنه يستدعي أن يحمل الترك على معنيين مختلفين ولا يترك على ما يتبادر منه.
وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة بالنون في الأول والتاء في الثاني ، والعطف على مفعول تَأْمُرُكَ والمعنى ظاهر مما تقدم إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ وصفوه عليه السلام بهذين الوصفين الجليلين على طريقة الاستعارة التهكمية ، فالمراد بهما ضد معناهما ، وهذا هو المروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وإليه ذهب قتادة والمبرد.
وجوز أن يكونوا وصفوه بذلك بناء على الزعم ، والجملة تعليل لما سبق من استبعاد ما ذكروه كأنهم قالوا : كيف

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 314
تكلفنا بما تكلفنا مع أنك أنت الحليم الرشيد بزعمك وقيل : يجوز أن يكون تعليلا باقيا على ظاهره بناء على أنه عليه السلام كان موصوفا عندهم بالحلم والرشد ، وكان ذلك بزعمهم مانعا من صدور ما صدر منه عليه السلام ، ورجح الأول بأنه الأنسب بما قبله لأنه تهكم أيضا ، ورجح الأخير بأنه يكون الكلام عليه نظير ما مر في قصة صالح عليه السلام من قولهم له : قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا [هود : 62] وتعقيبه بمثل ما عقب به ذلك حسبما تضمنه قوله سبحانه :
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ حجة ظاهرة مِنْ رَبِّي ومالك أموري وَرَزَقَنِي مِنْهُ من لدنه سبحانه رِزْقاً حَسَناً هو النبوة والحكمة يدل على ذلك ، والجواب عليه من باب إرخاء العنان. والكلام المنصف كأنه عليه السلام قال : صدقتم فيما قلتم إني لم أزل مرشدا لكم حليما فيما بينكم لكن ما جئت به ليس غير الإرشاد والنصيحة لكم ، انظروا بعين الإنصاف وأنتم ألباء إن كنت على حجة واضحة ويقين من ربي وكنت نبيا على الحقيقة أيصح لي وأنا مرشدكم والناصح لكم أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان والكف عن المعاصي والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك؟ ثم إنه عليه السلام أكد معنى الإرشاد ، وأدرج معنى الحلم فيما سيأتي من كلامه صلّى اللّه عليه وسلم كذا قرره العلامة الطيبي.
واختار شيخ الإسلام عدم كونه باقيا على الظاهر لما أن مقام الاستهزاء آب عنه ، وذكر قدس سره أن المراد بالبينة والرزق الحسن النبوة والحكمة ، وأن التعبير عنهما بذلك للتنبيه على أنهما مع كونهما بينة رزق حسن كيف لا وذلك مناط الحياة الأبدية له عليه السلام ولأمته؟ وأن هذا الكلام منه عليه السلام رد على مقالتهم الشنعاء المتضمنة زعم عدم استناد أمره ونهيه إلى سند ، ثم قال : وجواب الشرط محذوف يدل عليه فحوى الكلام أي أتقولون والمعنى أنكم عددتم ما صدر عني من الأوامر والنواهي من قبيل ما لا يصح أن يتفوه به عاقل وجعلتموه من أحكام الوسوسة والجنون واستهزأتم بي وبأفعالي وقلتم ما قلتم ، فأخبروني إن كنت من جهة ربي ومالك أموري ثابتا على النبوة والحكمة التي ليس وراءها غاية للكمال ولا مطمح لطامح ورزقني لذلك رزقا حسنا أتقولون في شأني وشأن أفعالي ما تقولون مما لا خير فيه ولا شر وراءه؟! وادّعى أن هذا هو الجواب الذي يستدعيه السياق ويساعده النظم الكريم.
وفسر القاضي - الرزق الحسن - بما آتاه اللّه تعالى من المال الحلال ، ومعنى كون ذلك منه تعالى أنه من عنده سبحانه وبإعانته بلا كد في تحصيله ، وقدر جواب الشرط فهل يسع لي مع هذا الإنعام الجامع للسعادة الروحانية والجسمانية أن أخون في وحيه وأخالفه في أمره ونهيه ، وذكر أن هذا الكلام منه عليه السلام اعتذار عما أنكروا عليه من تغيير المألوف والنهي عن دين الآباء ، وقدر بعضهم ما قدره العلامة الطيبي.
وزعم شيخ الإسلام أن ذينك التقديرين بمعزل عما يستدعيه السياق ، وأنهما إنما يناسبان إن حمل كلامهم على الحقيقة وأريد بالصلاة الدين حسبما نقل عن أبي مسلم وعطاء ، ويكون المراد بالرزق الحسن على ذلك ما آتاه اللّه تعالى من الحلال فقط كما روي عن الضحاك ويكون المعنى حينئذ أخبروني إن كنت نبيا من عند اللّه تعالى ورزقني مالا حلالا أستغني به عن العالمين أيصح أن أخالف أمره أو أوافقكم فيما تأتون وما تذرون انتهى.
وأقول : لا يخفى أن المناسب للمقام حمل الرزق الحسن على ما آتاه اللّه تعالى من الحلال الخالي عن التطفيف والبخس ، وتقدير جواب الشرط نحو ما قدره القاضي ليس في الكلام ما يأبى عنه ، ولا يتوقف على حمل الكلام على الحقيقة والصلاة على الدين بل يتأتى تقدير ذلك ، ولو كان الكلام على سبيل التهكم والصلاة بالمعنى المتبادر بأن يقال : إنهم قاتلهم اللّه تعالى لما قالوا في ظلال الضلال وقالوا ما قالوا في حق نبيهم وما صدر منه من الأفعال لم يكن لهم مقصود إلا ترك الدعوة وتركهم وما يفعلون ، ولم يتعرض عليه السلام صريحا لرد قولهم المتضمن لرميه - وحاشاه بالوسوسة والجنون والسفه والغواية - إيذانا بأن ذلك مما لا يستحق جوابا لظهور بطلانه وتعرض

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 315
لجوابهم عما قصدوه بكلامهم ذلك بما يكون فيه قطع أطماعهم من أول الأمر مع الإشارة إلى رد ما تضمنته مقالتهم الشنعاء فكأنه عليه السلام قال لهم : يا قوم إنكم اجترأتم على هذه المقالة الشنيعة وضمنتموها ما هو ظاهر البطلان لقصد أن أترككم وشأنكم من عبادة الأوثان ونقص المكيال والميزان فأخبروني إن كنت نبيا من عند اللّه تعالى ومستتنيا بما رزقني من المال الحلال عنكم وعن غيركم أيصح أن أخالف وحيه وأوافق هواكم لا يكون ذلك مني أصلا فإذن لا فائدة لكم في هذا الكلام الشنيع ، وربما يقال : إن في هذا الجواب إشارة إلى وصفهم بنحو ما وصفوه به عليه السلام كأنه قال : إن طلبكم مني ترك الدعوة وموافقة الهوى مع أني مأمور بدعوتكم وغني عنكم مما لا يصدر عن عاقل ولا يرتكبه إلا سفيه غاو ، وكأن التعرض لذكر الرزق مع الكون على بينة للإشارة إلى وجود المقتضي وارتفاع ما يظن مانعا ، ولا يخفى ما في إخراج الجواب على هذا الوجه من الحسن فتأمل.
بقي أن الذي ذكره النحاة على ما قال أبو حيان في مثل هذا الكلام أعني أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ إلخ أن تقدر الجملة الاستفهامية على أنها في موضع المفعول الثاني - لأرأيتم - المتضمنة معنى أخبروني المتعدية إلى مفعولين والغالب في الثاني أن يكون جملة استفهامية ، وجواب الشرط ما يدل عليه الجملة السابقة مع متعلقها ، والتقدير - إن كنت على بينة من ربي فأخبروني هل يسع لي - إلخ فافهم ولا تغفل وَما أُرِيدُ بنهيي إياكم عما أنهاكم عنه عن البخس والتطفيف أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ أي أقصده بعد ما وليتم عنه فأستبد به دونكم كما هو شأن بعض الناس في المنع عن بعض الأمور يقال : خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مول عنه ، وخالفني عنه إذا ولى عنه وأنت قاصده.
قال في البحر : والظاهر على ما ذكروه أن أَنْ أُخالِفَكُمْ في موضع المفعول به - لأريد - أي وما أريد مخالفتكم ، ويكون خالف بمعنى خلف نحو جاوز وجاز ، ويكون المعنى وما أريد أن أكون خلفا منكم ، وإِلى متعلقة بأخالف أو بمحذوف أي مائلا إلى ما أنهاكم عنه ، وقيل : في الكلام فعل محذوف معطوف على المذكور أي وأميل إلى إلخ ، ويجوز أن يبقى أخالف على ظاهره من المخالفة ، ويكون إِنْ وما بعدها في موضع المفعول به - لأريد - ويقدر مائلا إلى كما تقدم ، أو يكون إِنْ وما بعدها في موضع المفعول له ، وإِلى ما متعلقا - بأريد - أي وما أقصد لأجل مخالفتكم إلى ما أنهاكم عنه ، وقال الزجاج في معنى ذلك : أي ما أقصد بخلافكم إلى ارتكاب ما أنهاكم عنه إِنْ أُرِيدُ أي ما أريد بما أقول لكم إِلَّا الْإِصْلاحَ أي إلا أن أصلحكم بالنصيحة والموعظة مَا اسْتَطَعْتُ أي مدة استطاعتي ذلك وتمكني منه لا آلو فيه جهدا - فما - مصدرية ظرفية.
وجوز فيها أن تكون موصولة بدلا من الإصلاح أي المقدار الذي استطعته أو إِلَّا الْإِصْلاحَ إصلاح ما استطعت ، وهي إما بدل بعض أو كل لأن المتبادر من الإصلاح ما يقدر عليه ، وقيل : بدل اشتمال ، وعليه وعلى الأول يقدر ضمير أي منه لأنه في مثل ذلك لا بد منه وجوز أيضا أن تكون مفعولا به للمصدر المذكور كقوله :
ضعيف النكاية أعداءه يخال الفرار يراخي الأجل
أي ما أريد إلا أن أصلح ما استطعت إصلاحه من فاسدكم ، والأبلغ الأظهر ما قدمناه لأن في احتمال البدلية إضمارا وفوات المبالغة وفي الاحتمال الأخير إعمال المصدر المعرف في المفعول به ، وفيه - مع أنه لا يجوز عند الكوفيين ويقل عند البصريين - فواتها ، وزيادة إضمار مفعول «استطعت» وَما تَوْفِيقِي أي ما كوني موفقا لتحقيق ما أتوخاه من إصلاحكم إِلَّا بِاللَّهِ أي بتأييده سبحانه ومعونته.
واختار بعضهم أن يكون المراد - وما توفيقي لإصابة الحق والصواب في كل ما آتي وأذر إلا بهدايته تعالى

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 316
ومعونته - والظاهر أن المراد وما كل فرد من أفراد توفيقي لما صرحوا به من أن المصدر المضاف من صيغ العموم ، ويؤول إلى هذا ما قيل : إن المعنى ما جنس توفيقي لأن انحصار الجنس يقتضي انحصار أفراده لكن على الأول بطريق المفهوم. وعلى الثاني بطريق المنطوق ، وتقدير المضاف بعد الباء مما التزمه كثير ، وفيه على ما قيل : دفع الاستكشال بأن فاعل التوفيق هو اللّه تعالى ، وأهل العربية يستقبحون نسبة الفعل إلى الفاعل بالباء لأنها تدخل على الآلة فلا يحسن ضربي بزيد ، وإنما يقال : من زيد ، فالاستعمال الفصيح بناء على هذا - وما توفيقي إلا من عند اللّه ووجه الدفع بذلك التقدير ظاهر لأن الدخول ليس على الفاعل حينئذ.
وجوز أن يكون ذلك التقدير لما أن التوفيق وهو كون فعل العبد موافقا لما يحبه اللّه تعالى ويرضاه لا يكون إلا بدلالة اللّه تعالى عليه ، ومجرد الدلالة لا يجدي بدون المعونة منه عز شأنه عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في ذلك ، أو في جميع أموري لا على غيره فإنه سبحانه القادر المتمكن من كل شيء ، وغيره سبحانه عاجز في حد ذاته بل معدوم ساقط عن درجة الاعتبار كما أشار إليه الكتاب وعاينه أولو البصائر والألباب وَإِلَيْهِ أُنِيبُ أي أرجع فيما أنا بصدده ، أو أقبل بشراشري في مجامع أموري لا إلى غيره ، والجملة معطوفة على ما قبلها ، وكأن إيثار صيغة الاستقبال فيها على الماضي الأنسب للتقرر والتحقق كما في التوكل لاستحضار الصورة والدلالة على الاستمرار ، ولا يخفى ما في جوابه عليه السلام مما لا يكاد يوجد في كلام خطيب إلا أن يكون نبيا.
وفي أنوار التنزيل أن لأجوبته عليه السلام الثلاثة يعني يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إلخ وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إلخ وإِنْ أُرِيدُ إلخ على هذا النسق شأنا ، وهو التنبيه على أن العاقل يجب أن يراعي في كل ما يأتيه ويذره ثلاثة حقوق أهمها وأعلاها حق اللّه تعالى ، فإن الجواب الأول متضمن بيان حق اللّه تعالى من شكر نعمته والاجتهاد في خدمته.
وثانيها حق النفس ، فإن الجواب الثاني متضمن بيان حق نفسه من كفها عما ينبغي أن ينتهي عنه غيره. وثالثها حق الناس فإن الجواب الثالث متضمن للإشارة إلى أن حق الغير عليه إصلاحه وإرشاده وإنما لم يعطف قوله : إِنْ أُرِيدُ إلخ على ما قبله لكونه مؤكدا ومقررا له لأنه لو أراد الاستئثار بما نهى عنه لم يكن مريدا للإصلاح ، ولا ينافي هذا كونه متضمنا لجواب آخر ، وكأن قوله : وَما تَوْفِيقِي إلخ إزاحة لما عسى أن يوهمه إسناد الاستطاعة إليه بإرادته من استبداده بذلك ، ونظير ذلك إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة : 5] وفيه مع ما بعده إشارة إلى محض التوحيد ، وقال غير واحد : إنه قد اشتمل كلامه عليه السلام على مراعاة لطف المراجعة ورفق الاستنزال والمحافظة على حسن المجاراة والمحاورة ، وتمهيد معاقد الحق بطلب التوفيق من جانبه تعالى والاستعانة به عز شأنه في أموره وحسم أطماع الكفار وإظهار الفراغ عنهم وعدم المبالاة بمعاداتهم ، وقيل : وفيه أيضا تهديدهم بالرجوع إلى اللّه تعالى للجزاء ، وذلك من قوله : وَإِلَيْهِ أُنِيبُ لأن الرجوع إليه سبحانه يكنى به عن الجزاء وهو وإن كان هنا مخصوصا به لاقتضاء المقام له لكنه لا فرق فيه بينه وبين غيره ، وفيه مع خفاء وجه الإشارة أن الإنابة إنما هي الرجوع الاختياري بالفعل إليه سبحانه لا الرجوع الاضطراري للجزاء وما يعمه ، وقد يقال : إن في قوله : عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ إشارة أيضا إلى تهديدهم لأنه عز وجل الكافي المعين لمن توكل عليه لكن لا يتعين أن يكون ذلك تهديدا بالجزاء يوم القيامة وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ أي لا يكسبنكم شِقاقِي أي معاداتي ، وأصلها أن أحد المتعاديين يكون في عدوة وشق والآخر في آخر ، وروي هذا عن السدي وعن الحسن ضراري ، وعن بعض فراقي ، والكل متقارب ، وهو فاعل - يجرمنكم - والكاف مفعوله الأول ، وقوله سبحانه : أَنْ يُصِيبَكُمْ مفعوله
الثاني ، وقد جاء تعدي - جرم - إلى مفعولين كما جاء تعديها لواحد وهي مثل كسب في ذلك ، ومن الأول قوله :

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 317
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة «جرمت» فزارة بعدها أن يغضبوا
وإضافة - شقاق - إلى ياء المتكلم من إضافة المصدر إلى مفعوله أي لا يكسبنكم شقاقكم إياي أن يصيبكم مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ من الغرق أَوْ قَوْمَ هُودٍ من الريح أَوْ قَوْمَ صالِحٍ من الرجفة والصيحة ونهي الشقاق مجاز أو كناية عن نهيهم وهو أبلغ من توجيه النهي إليهم لأنه إذا نهى وهو لا يعقل علم نهي المشاقين بالطريق الأولى ، وقرأ ابن وثاب والأعمش «يجرمنكم» بضم الياء ، وحكي أيضا عن ابن كثير وهو حينئذ من أجرمته ذنبا إذا جعلته جارما له أي كاسبا ، والهمزة للنقل من جرم المتعدي إلى مفعول واحد ، ونظيره في النقل كذلك كسب المال فإنه يقال فيه أكسبه المال والقراءتان سواء في المعنى إلا أن المشهورة جارية على ما هو الأكثر استعمالا في كلام الفصحاء من العرب الموثوق بعربيتهم ، وقرأ مجاهد والجحدري ، وابن أبي إسحاق «مثل» بالفتح ، وروي ذلك عن نافع ، وخرجه جمع على أن «مثل» فاعل أيضا إلا أنه بني على الفتح لإضافته إلى غير متمكن ، وقد جوز فيه وكذا في غير مع - ما وأن - المخففة والمشددة ذلك كالظروف المضافة للمبني ، وعلى هذا جاء قوله :
لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت حمامة في غصون ذات أو قال
وبعض على أنه نعت لمصدر محذوف والفتحة إعراب أي إصابة مثل إصابة قوم نوح ، وفاعل يُصِيبَكُمْ ضمير مستتر يعود على العذاب المفهوم من السياق وفيه تكلف وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ زمانا كما روي عن قتادة أو مكانا كما روي عن غيره ومراده عليه السلام أنكم إن لم تعتبروا بمن قبل لقدم عهد أو بعد مكان فاعتبروا بهؤلاء فإنهم بمرأى ومسمع منكم وكأنه إنما غير أسلوب التحذير بهم واكتفى بذكر قربهم إيذانا بأن ذلك مغن عن ذكر ما أصابهم لشهرة كونه منظوما في سمط ما ذكر من دواهي الأمم المرقومة ، وجوز أن يراد بالبعد البعد المعنوي أي ليسوا ببعيد منكم في الكفر والمساوي ، فاحذروا أن يحل بكم ما حل بهم من العذاب ، وقد أخذ هذا المعنى بعض المتأخرين فقال :
فإن لم تكونوا قوم لوط بعينهم فما قوم لوط منكم ببعيد
وإفراد «بعيد» وتذكيره مع كون المخبر عنه وهو قوم اسم جمع ، ومؤنثا لفظا على ما نص عليه الزمخشري ، واستدل له بتصغيره على قويمة وذلك يقتضي أن يقال : ببعيدة موافقة للفظ وببعداء موافقة للمعنى لأن المراد ، وما إهلاكهم أو وما هم بشيء بعيد ، أو وما هم في زمان بعيد أو مكان بعيد ، وجوز أن يكون ذلك لأنه يستوي في بعيد المذكر والمؤنث لكونه على زنة المصادر كالنهيق والصهيل. وفي الكشف عن الجوهري أن القوم يذكر ويؤنث لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كانت للآدميين تذكر وتؤنث مثل رهط ونفر وقوم وإذا صغرت لم تدخل فيه الهاء ، وقلت : قويم ورهيط ونفير ، ويدخل الهاء فيما يكون لغير الآدميين مثل الإبل والغنم لأن التأنيث لازم وبينه وبين ما نقل عن الزمخشري بون بعيد ، وعليه فلا حاجة إلى التأويل ، هذا ثم إنه عليه السلام لما أنذرهم سوء عاقبة صنيعهم عقبه طمعا في اروعائهم عما هم فيه من الضلال بالحمل على الاستغفار والتوبة فقال : وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ مر تفسير مثله إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ عظيم الرحمة فيرحم من يطلب منه المغفرة وَدُودٌ أي كثير الود والمحبة فيحب من يتوب ويرجع إليه ، والمشهور جعل الودود مجازا باعتبار الغاية أي مبالغ في فعل ما يفعل البليغ المودة بمن يوده من اللطف والإحسان.
وجوز أن يكون كناية عند من لم يشترط إمكان المعنى الأصلي ، والداعي لارتكاب المجاز أو الكناية على ما قيل : إن المودة بمعنى الميل القلبي وهو مما لا يصح وصفه تعالى به ، والسلفي يقول : المودة فينا الميل المذكور ، وفيه

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 318
سبحانه وراء ذلك مما يليق بجلال ذاته جل جلاله ، وقيل : معنى وَدُودٌ متحبب إلى عباده بالإحسان إليهم ، وقيل :
محبوب المؤمنين ، وتفسيره هنا بما تقدم أولى ، والجملة في موضع التعليل للأمر السابق ولم يعتبر الأكثر ما أشرنا إليه من نحو التوزيع ، فقال : عظيم الرحمة للتائبين مبالغ في اللطف والإحسان بهم ، وهو مما لا بأس به قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ أي ما نفهم ذلك كأنهم جعلوا كلامه المشتمل على فنون الحكم والمواعظ وأنواع العلوم والمعارف إذ ضاقت عليهم الحيل وعيت بهم العلل ولم يجدوا إلى محاورته عليه السلام سبيلا من قبيل التخليط والهذيان الذي لا يفهم معناه ولا يدرك فحواه ، وقيل : قالوا ذلك استهانة به عليه السلام كما يقول الرجل لمن لا يعبأ به :
لا أدري ما تقول ، وليس فيه كثير مغايرة للأول ، ويحتمل أن يكون ذلك لعدم توجههم إلى سماع كلامه عليه السلام لمزيد نفرتهم عنه أو لغباوتهم وقصور عقولهم ، قيل : وقولهم كَثِيراً للفرار عن المكابرة ولا يصح أن يراد به الكل وإن ورد في اللغة لأن مما تقول يأبى ذلك كما أن كَثِيراً نفسه يأبى حمل كلامهم هذا على أنه كناية عن عدم القبول ، وزعم بعضهم أنهم إنما لم يفقهوا كثيرا مما يقول لأنه عليه السلام كان ألثغ ، وأظن أنه لم يفصح بذلك خبر صحيح على أن ظاهر ما جاء من وصفه عليه السلام بأنه خطيب الأنبياء يأبى ذلك. ولعل صيغة المضارع للإيذان بالاستمرار وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا أي فيما بيننا ضَعِيفاً لا قوة لك ولا قدرة على شيء من الضر والنفع والإيقاع والدفع.
وروي عن ابن عباس وابن جبير وسفيان الثوري وأبي صالح تفسير الضعيف بالأعمى وهي لغة أهل اليمن ، وذلك كما يطلقون عليه ضريرا وهو من باب الكناية على ما نص عليه البعض ، وإطلاق البصير عليه كما هو شائع من باب الاستعارة تمليحا ، وضعف هذا التفسير بأن التقييد بقولهم : فينا بصير لغوا لأن من كان أعمى يكون أعمى فيهم وفي غيرهم وإرادة لازمه وهي الضعف بين من ينصره ويعاديه لا يخفى تكلفه ، ومن هنا قال الإمام : جوز بعض أصحابنا العمى على الأنبياء عليهم السلام لكن لا يحسن الحمل عليه هنا ، وأنت تعلم أن المصحح عند أهل السنة أن الأنبياء عليهم السلام ليس فيهم أعمى ، وما حكاه اللّه تعالى عن يعقوب عليه السلام كان أمرا عارضا وذهب.
والأخبار المروية عمن ذكرنا في شعيب عليه السلام لم نقف على تصحيح لها سوى ما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما فإن الحاكم صحح بعض طرقه لكن تصحيح الحاكم كتضعيف ابن الجوزي غير معول عليه ، وربما يقال فيه نحو ما قيل في يعقوب عليه السلام ،
فقد أخرج الواحدي وابن عساكر عن شداد بن أوس قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : «بكى شعيب عليه السلام من حب اللّه تعالى حتى عمي فرد اللّه تعالى عليه بصره وأوحى إليه يا شعيب ما هذا البكاء أشوقا إلى الجنة أم خوفا من النار ، فقال : لا ولكن اعتقدت حبك بقلبي فإذا نظرت إليك فلا أبالي ما الذي تصنع بي ، فأوحى اللّه تعالى إليه يا شعيب إن يكن ذلك حقا فهنيئا لك لقائي يا شعيب لذلك أخدمتك موسى ابن عمران كليمي» ،
وذهب بعض المعتزلة إلى أنه لا يجوز استنباء الأعمى لكونه صفة منفرة لعدم الاحتراز معه عن النجاسات ولأنه يخل بالقضاء والشهادة فإخلاله بمقام النبوة أولى ، وأجيب بأنا لا نسلم عدم الاحتراز معه عن النجاسات فإن كثيرا ممن نشاهده من العميان أكثر احترازا عنها من غيره ، وبأن القاضي والشاهد يحتاجان إلى التمييز بين المدعي والمدعى عليه ، والنبي لا يحتاج لتمييز من يدعوه مع أنه معصوم فلا يخطىء كغيره كذا قيل ، فلينظر وَلَوْلا رَهْطُكَ أي جماعتك قال الراغب : هم ما دون العشرة.
وقال الزمخشري : من الثلاثة إلى العشرة ، وقيل : إلى السبعة ، وقيل : بل يقال : إلى الأربعين ، ولا يقع فيما قيل - كالعصبة. والنفر - إلا على الرجال ، ومثله الراهط وجمعه أرهط وجمع الجمع أراهط ، وأصله على ما نقل عن الرماني الشد ، ومنه الرهيط لشدة الأكل ، والراهطاء لحجر اليربوع لأنه يتوثق به ويخبىء فيه ولده ، والظاهر أن مرادهم لو لا

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 319
مراعاة جانب رهطك لَرَجَمْناكَ أي لقتلناك برمي الأحجار ، وهو المروي عن ابن زيد ، وقيل : ذلك كناية عن نكاية القتل كأنهم قالوا : لقتلناك بأصعب وجه ، وقال الطبري : أرادوا لسببناك كما في قوله تعالى : لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مريم : 46] ، وقيل : لأبعدناك وأخرجناك من أرضنا ، ولم يجوزوا أن يكون المراد لولا ممانعة رهطك ومدافعتهم لأن ممانعة الرهط وهم عدد نزر لألوف مؤلفة مما لا يكاد يتوهم ومعنى وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ ما أنت بمكرم محترم حتى نمتنع من رجمك وإنما نكف عنك للمحافظة على حرمة رهطك الذين ثبتوا على ديننا ولم يختاروك علينا ، والجار الأول متعلق بِعَزِيزٍ وجاز لكون المعمول ظرفا والباء مزيدة ، ولك أن تجعله متعلقا بمحذوف يفسره الظاهر وهو خبر أنت ، وقد صرح السكاكي في المفتاح أنه قصد بتقديم هذا الضمير الذي هو فاعل معنوي وإن لم يكن الخبر فعلا بل صفة مشبهة وإيلائه النفي الحصر والاختصاص أي اختصاص النفي بمعنى أن عدم العزة مقصور عليك لا يتجاوزك إلى رهطك لا بمعنى نفي الاختصاص بمعنى لست منفردا بالعزة وهو ظاهر ، قاله العلامة الثاني ، وقال السيد السند : إنه قصد فيه نفي العزة عن شعيب عليه السلام وإثباتها لرهطه فيكون تخصيصا للعزة بهم ويلزمه تخصيص عدمها به إلا أن المتبادر كما يشهد به الذوق السليم هو القصد إلى الأول ، واستدل السكاكي على كون ذلك للاختصاص بقوله عليه السلام في جواب هذا الكلام ما حكي بقوله عز شأنه : قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ أي من نبي اللّه على ما قال عليه الرحمة ، ووجه الاستدلال كما قال العلامة وغيره : إنه لو لم يكن قصدهم اختصاصه بنفي العزة بل مجرد الإخبار بعدم عزته عليهم لم يستقم هذا الجواب ولم يكن مطابقا لمقالهم إذ لا دلالة لنفي العزة عنه على ثبوتها للغير ، وإنما يدل على ذلك اختصاصه بنفي العزة.
واعترض صاحب الإيضاح بأن هذا من باب أنا عارف وهو لا يفيد الاختصاص وفاقا وإنما يفيده التقديم على الفعل مثل أنا عرفت ، وكون المشتقات قريبة من الأفعال في التقوى لا يقتضي كونها كالأفعال في الاختصاص والتمسك بالجواب ضعيف لجواز أن يكون جوابا لقولهم : لَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ فإنه يدل على أن رهطه هم الأعزة حيث كان الامتناع عن رجمه بسببهم لا بسببه ومعلوم بحسب الحال والمقام أن ذلك لعزتهم لا لخوفهم ، وتعقبه السيد السند بأن صاحب الكشاف صرح بالتخصيص في قوله تعالى : كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [المؤمنون :
100] فكيف يقال : باب أنا عارف لا يفيد الاختصاص اتفاقا وإن جعله جوابا لما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ هو الظاهر بأن يجعل التنوين للتعظيم فيدل على ثبوت أصل العزة له عليه السلام ولا دلالة لقولهم : وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ على اشتراك العزة فلا يلائمه أرهطي أعز عليكم ، ثم قال : فإن قيل : شرط التخصيص عند السكاكي أن يكون المقدم بحيث إذا أخر كان فاعلا معنويا ولا يتصور ذلك فيما نحن فيه قلنا : إن الصفة بعد النفي تستقل مع فاعلها كلاما فجاز أن يقال : ما عزيز أنت على أن يكون أنت تأكيدا للمستتر ثم يقدم ويدخل الباء على عزيز بعد تقديم أَنْتَ وجعله مبتدأ. وكذلك قوله سبحانه : وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا [هود : 29] وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الزمر : 41 ، الشورى : 6] مما يلي حرف النفي وكان الخبر صفة ، وقد صرح صاحب الكشاف وغيره بإفادة التقديم الحصر في ذلك كله ، وأما صورة الإثبات نحو أنا عارف فلا يجري فيها ذلك فلا يفيد عنده تخصيصا ، وإن كان مفيدا إياه عند من لا يشترط ذلك.
وأجاب صاحب الكشف عما قاله صاحب الإيضاح بعد نقل خلاصته : بأن ما فيه الخبر وصفا كما يقارب ما فيه الخبر فعلا في إفادة التقوى على ما سلمه المعترض يقاربه في إفادة الحصر لذلك الدليل بعينه ، وأن قولهم : وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ كفى به دليلا أن حق الكلام أن يفاد التخصيص لا أصل العز ففهمه من ذلك لا ينافي كونه جوابا

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 320
لهذا الكلام بل يؤكده ، وقد صرح الزمخشري بإفادة نحو هذا التركيب الاحتمالين في أنها كلمة هو قائلها ، وقال العلامة الطيبي : إن قوله تعالى : لَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وقوله سبحانه : وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ من باب الطرد والعكس عنادا منهم فلا بد من دلالتي المنطوق ، والمفهوم في كل من اللفظين انتهى.
ويعلم من جميع ما ذكر ضعف اعتراض صاحب الإيضاح والعجب من العلامة حيث قال : إنه اعتراض قوي وأشار السكاكي بتقدير المضاف إلى دفع الإشكال بأن كلامهم إنما وقع في شعيب عليه السلام وفي رهطه وأنهم هم الأعزة دونه من غير دلالة على أنهم أعز من اللّه تعالى.
وأجيب أيضا بأن تهاونهم بنبي اللّه تعالى تهاون به سبحانه فحين عز عليهم رهطه دونه كان رهطه أعز عليهم من اللّه تعالى أو بأن المعنى أرهطي أعز عليكم من اللّه تعالى حتى كان امتناعكم عن رجمي بسبب انتسابي إليهم وأنهم رهطي لا بسبب انتسابي إلى اللّه تعالى وأني رسوله. ثم ما ذكره السيد قدس سره من جعل التنوين في - عزيز - للتعظيم وحينئذ يدل الكلام على ثبوت أصل العزة له عليه السلام فيلائمه أرهطي أعز؟ إلخ صحيح في نفسه إلا أن ذلك بعيد جدا من حال القوم ، فإن الظاهر أنهم إنما قصدوا نفي العزة عنه عليه السلام مطلقا وإثباتها لرهطه لا نفي العزة العظيمة عنه وإثباتها لهم ليدل الكلام على اشتراكهما في أصل العزة وزيادتها فيهم ، وذلك لأن العزة وإن لم تكن عظيمة تمنع من القتل بالحجارة الذي هو من أشر أنواع القتل ، ولا أظن إنكار ذلك إلا مكابرة ، وكأنه لهذا لم يعتبر مولانا أبو السعود عليه الرحمة جعل التنوين للتعظيم لتتأتى المشاركة فيظهر وجه إنكار الأعزية فاحتاج للكشف عن ذلك مع عدم المشاركة ، فقال : وإنما أنكر عليه السلام عليهم أعزية رهطه منه تعالى مع أن ما أثبتوه إنما هو مطلق عزة رهطه لا أعزيتهم منه عز وجل مع الاشتراك في أصل العزة لتثنية التقريع وتكرير التوبيخ حيث أنكر عليهم أولا ترجيح جنبة الرهط على جنبة اللّه تعالى. وثانيا نفي العزة بالمرة ، والمعنى أرهطي أعز عليكم من اللّه فإنه مما لا يكاد يصح ، والحال أنكم لم تجعلوا له تعالى حظا من العزة أصلا وَاتَّخَذْتُمُوهُ بسبب عدم اعتدادكم بمن لا يرد ولا يصدر إلا بأمره وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا شيئا منبوذا وراء الظهر منسيا انتهى.
وأنا أقول : قد ذكر الرضي أن المجرور بمن التفضيلية لا يخلو من مشاركة المفضل في المعنى إما تحقيقا كما في - زيد أحسن من عمرو - أو تقديرا
كقول علي كرم اللّه تعالى وجهه : لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان
وذلك لأن إفطار يوم الشك الذي يمكن أن يكون من رمضان محبوب عند المخالف فقدره علي كرم اللّه تعالى وجهه محبوبا إلى نفسه أيضا ، ثم فضل صوم شعبان عليه فكأنه قال : هب أنه محبوب عندي أيضا أليس صوم يوم من شعبان أحب منه انتهى ، وما في الآية يمكن تخريجه على طرز الأخير فيكون إنكاره عليه السلام عليهم أعزية رهطه منه تعالى على تقدير أن يكون عز وجل عزيزا عندهم أيضا ، ويعلم من ذلك إنكار ما هم عليه بطريق الأولى ، وكأن هذا هو الداعي لاختيار هذا الأسلوب من الإنكار ، ووقوعه في الجواب لا يأبى ذلك ، وإن قيل بجواز خلو المجرور - بمن - من مشاركة المفضل وإرادة مجرد المبالغة من أفعل المقرون بها بناء على مجيء ذلك بقلة - كما قال الجلال السيوطي في همع الهوامع - نحو العسل أحلى من الخل والصيف أحر من الشتاء ، واعتمد هنا على قرينة السباق والسياق فالأمر واضح ، واستحسن كون قوله تعالى : وَاتَّخَذْتُمُوهُ إلخ اعتراضا وفائدته تأكيد تهاونهم باللّه تعالى ببيان أنهم قوم عادتهم أن لا يعبؤوا باللّه تعالى ويجعلوه كالشيء المنبوذ ، وجوز بعض كونه عطفا على ما قبله على معنى أفضلتم رهطي على اللّه سبحانه وتهاونتم به تعالى ونسيتموه ولم تخشوا جزاءه عز وجل ، وقال غير واحد :
إنه يحتمل أن يكون الغرض من قوله عليه السلام أَرَهْطِي إلخ الرد والتكذيب لقومه فإنهم لما ادعوا أنهم لا يكفون

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 321
عن رجمه عليه السلام لعزته بل لمراعاة جانب رهطه ردّ عليهم ذلك بأنكم ما قدرتم اللّه تعالى حق قدره ولم تراعوا جنابه القوي فكيف تراعون رهطي الأذلة ، وأيا ما كان فضمير اتَّخَذْتُمُوهُ عائد إلى اللّه تعالى وهو الذي ذهب إليه جمهور المفسرين ، وروي عن ابن عباس والحسن وغيرهما ، و- الظهري - منسوب إلى الظهر ، أصله المرمي وراء الظهر ، والكسر من تغييرات النسب كما قالوا في النسبة إلى أمس : أمسي بالكسر وإلى الدهر دهري بالضم ، ثم توسعوا فيه فاستعلموه للمنسي المتروك ، وذكروا أنه يحتمل أن يكون في الكلام استعارة تصريحية وأن يكون استعارة تمثيلية.
وزعم بعضهم أن الضمير له تعالى ، و- الظهري - العون وما يتقوى به ، والجملة في موضع الحال ، والمعنى أفضلتم الرهط على اللّه تعالى ولم تراعوا حقه سبحانه والحال أنكم تتخذونه سند ظهوركم وعماد آمالكم.
ونقل ابن عطية هذا المعنى عن جماعة ، وقيل : الظهري المنسي ، والضمير عائد على الشرع الذي جاء به شعيب عليه السلام وإن لم يذكر صريحا ، وروي عن مجاهد أو على أمر اللّه ، ونقل عن الزجاج ، وقيل : الظهري بمعنى المعين ، والضمير للّه تعالى ، وفي الكلام مضاف محذوف أي عصيانه والمعنى على ما قرره أبو حيان واتخذتم عصيانه تعالى عونا وعدة لدفعي ، وقيل : لا حذف والضمير للعصيان وهو الذي يقتضيه كلام المبرد ، ولا يخفى ما في هذه الأقوال من الخروج عن الظاهر من غير فائدة ، ومما ينظم في سلكها تفسير العزيز بالملك زعما أنهم كانوا يسمون الملك عزيزا على أن من له أدنى ذوق لا يكاد يسلم صحة ذلك فتفطن ، ونصب ظِهْرِيًّا على أنه مفعول ثان - لاتخذتموه - والهاء مفعوله الأول ، ووَراءَكُمْ ظرف له أو حال من ظِهْرِيًّا.
إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ تهديد عظيم لأولئك الكفرة الفجرة أي أنه سبحانه قد أحاط علما بأعمالكم السيئة التي من جملتها رعايتكم جانب الرهط دون رعاية جنابه جل جلاله في فيجازيكم على ذلك ، وكذا قوله : وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي غاية تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم ، وهو مصدر مكن يقال : مكن مكانة إذا تمكن أبلغ تمكن ، والميم على هذا أصلية ، وفي البحر يقال : المكان والمكانة مفعل ومفعلة من الكون والميم حينئذ زائدة ، وفسر ابن زيد - المكانة - بالحال يقال : على مكانتك يا فلان إذا أمرته أن يثبت على حاله كأنك قلت :
اثبت على حالك التي أنت عليها لا تنحرف ، وهو من استعارة العين للمعنى كما نص عليه غير واحد ، وحاصل المعنى هاهنا اثبتوا على ما أنتم عليه من الكفر والمشاقة لي وسائر ما لا خير فيه.
وقرأ أبو بكر - مكاناتكم - على الجمع وهو باعتبار جمع المخاطبين كما أن الافراد باعتبار الجنس ، والجار والمجرور كما قال بعضهم : يحتمل أن يكون متعلقا بما عنده على تضمين الفعل على معنى البناء ونحوه كما تقول :
عمل على الجد وعلى القوة ونحوهما ، وأن يكون في موضع الحال أي اعملوا قارين وثابتين على مكانتكم.
إِنِّي عامِلٌ على مكانتي حسبما يؤيدني اللّه تعالى ويوفقني بأنواع التأييد والتوفيق ، وكأنه حذف على مكانتي للاختصار ولما فيه من زيادة الوعيد ، وقوله سبحانه : سَوْفَ تَعْلَمُونَ استئناف وقع جواب سؤال مقدر ناشىء من تهديده عليه السلام إياهم بقوله : اعْمَلُوا إلخ كأن سائلا منهم سأل فماذا يكون بعد ذلك؟ فقيل :
سَوْفَ تَعْلَمُونَ ولذا سقطت الفاء وذكرت في آية الأنعام للتصريح بأن الوعيد ناشىء ومتفرع على إصرارهم على ما هم عليه والتمكن فيه ، وما هنا أبلغ في التهويل للإشعار بأن ذلك مما يسأل عنه ويعتنى به ، والسؤال المقدر يدل على ما دلت عليه الفاء مع ما في ذلك من تكثير المعنى بتقليل اللفظ ، وكأن الداعي إلى الإتيان بالأبلغ هنا دون ما تقدم أن القوم قاتلهم اللّه تعالى بالغوا في الاستهانة به عليه السلام وبلغوا الغاية في ذلك فناسب أن يبالغ لهم في التهديد ويبلغ فيه الغاية وإن كانوا في عدم الانتفاع كالأنعام ، وما فيها نحو ذلك.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 322
وقال بعض أجلة الفضلاء : إن اختيار إحدى الطريقين ثمة والأخرى هنا وإن كان مثله لا يسأل عنه لأنه دوري لأن أول الذكرين يقتضي التصريح فيناسب في الثاني خلافه انتهى ، وهو دون ما قلناه ، ومَنْ في قوله سبحانه :
مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ قيل : موصولة مفعول العلم وهو بمعنى العرفان ، وجملة يَأْتِيهِ عَذابٌ صلة الموصول ، وجملة يُخْزِيهِ صفة عَذابٌ ووصفه بالإخزاء تعريضا بما أوعدوه عليه السلام من الرجم فإنه مع كونه عذابا فيه خزي ظاهر ، وقوله تعالى : وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ عطف على مَنْ يَأْتِيهِ ومَنْ أيضا موصولة ، وجوز أن تكون مَنْ في الموضعين استفهامية ، والعلم على بابه وهي معلقة له عن العمل.
واستظهر أبو حيان الموصولية ، وليس هذا العطف من عطف القسيم على قسيمه كما في - سيعلم الصادق والكاذب - إذ ليس القصد إلى ذكر الفريقين ، وإنما القصد إلى الرد على القوم في العزم على تعذيبه بقولهم :
لَرَجَمْناكَ والتصميم على تكذيبه بقولهم : أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ [هود : 87] إلخ فكأنه قيل : سيظهر لكم من المعذب أنتم أم نحن ومن الكاذب في دعواه أنا أم أنتم وفيه إدراج حال الفريقين أيضا.
وفي الإرشاد أن فيه تعريضا بكذبهم في ادعائهم القوة والقدرة على رجمه عليه السلام ، وفي نسبته إلى الضعف والهوان وفي ادعائهم الإبقاء عليه لرعاية جانب الرهط ، وقال الزمخشري : إنه كان القياس ، ومن هو صادق بدل هذا المعطوف لأنه قد ذكر عملهم على مكانتهم ، وعمله على مكانته ، ثم أتبعه ذكر عاقبة العاملين منه ومنهم فحينئذ ينصرف مَنْ يَأْتِيهِ إلخ إلى الجاحدين ومن هو صادق إلى النبي المبعوث ولكنهم لما كانوا يدعونه عليه السلام كاذبا قال : ومن هو كاذب بمعنى في زعمكم ودعواكم تجهيلا لهم يعني أنه عليه السلام جرى في الذكر على ما اعتادوه في تسميته كاذبا تجهيلا لهم ، والمعنى ستعلمون حالكم وحال الصادق الذي سميتموه كاذبا لجهلكم ، وليس المراد ستعلمون أنه كاذب في زعمكم فلا يرد ما توهم من أن كذبه في زعمهم واقع معلوم لهم الآن فلا معنى لتعليق علمه على المستقبل ، وقال ابن المنير : الظاهر أن الكلامين جميعا لهم - فمن يأتيه - إلخ متضمن ذكر جزائهم ، وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ متضمن ذكر جرمهم الذي يجازون به وهو الكذب ، وهو من عطف الصفة على الصفة والموصوف واحد كما تقول لمن تهدده : ستعلم من يهان ومن يعاقب ، وأنت تعني المخاطب في الكلامين فيكون في ذكر كذبهم تعريض لصدقه وهو أبلغ وأوقع من التصريح ، ولذلك لم يذكر عاقبة شعيب عليه السلام استغناء بذكر عاقبتهم ، وقد مر مثل ذلك أول السورة في قوله سبحانه : فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ [الزمر : 40] حيث اكتفى بذلك عن أن يقول : ومن هو على خلاف ذلك ، ونظيره فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ [الأنعام : 135] حيث ذكر فيه إحدى العاقبتين لأن المراد بهذه العاقبة عاقبة الخير لأنها متى أطلقت لا يعني إلا ذلك نحو والعاقبة للمتقين ، ولأن اللام في له يدل على أنها ليست عليه ، واستغنى عن ذكر مقابلتها انتهى ، وتعقبه الطيبي بما رده عليه الفاضل الجلبي وَارْتَقِبُوا أي انتظروا ما أقول لكم من حلول ما أعدكم به وظهور صدقه إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ أي منتظر ذلك ، وقيل : المعنى انتظروا العذاب إني منتظر النصرة والرحمة ، وروي ذلك عن ابن عباس ، ورَقِيبٌ إما بمعنى مرتقب كالرفيع بمعنى المرتفع أو راقب كالصريم بمعنى الصارم ، أو مراقب كعشير بمعنى معاشر ، والأنسب على ما قيل بقوله : ارْتَقِبُوا : الأول وإن كان مجيء فعيل بمعنى اسم الفاعل المزيد غير كثير وفي زيادة مَعَكُمْ إظهار منه عليه السلام لكمال الوثوق بأمره وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا أي عذابنا كما ينبىء عنه قوله سبحانه : سَوْفَ تَعْلَمُونَ إلخ أو وقته فإن الارتقاب يؤذن بذلك نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وهو الإيمان الذي وفقناهم له أو بمرحمة كائنة منا لهم وإنما جيء بالفاء في قصتي ثمود ولوط حيث قيل :

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 323
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا وبالواو هاهنا وفي قصة عاد حيث قيل : وَلَمَّا جاءَ إلخ لأنه قد سبق هناك سابقة الوعد بقوله سبحانه :
ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود : 65] وقوله تعالى : إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ [هود : 81] وهو يجري مجرى السبب المقتضي لدخول الفاء في معلوله ، وأما هاهنا. وفي قصة عاد فلم يسبق مثل ذلك بل ذكر مجيء العذاب على أنه قصة بنفسه وما قبله قصة أخرى لكنهما متعلقان بقوم واحد فهما متشاركان من وجه مفترقان من آخر ، وذلك مقام الواو كذا قيل.
وتعقب بأن في الكلام هاهنا ذكر الوعد أيضا ، وهو قوله سبحانه : يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إلى قوله عز وجل : رَقِيبٌ غاية الأمر أنه لم يذكر بلفظ الوعد ومثله لا يكفي في الفرق ، وقيل : إن ذكر الفاء في الموضعين لقرب عذاب قوم صالح ولوط للوعد المذكور فإن بين الأولين والعذاب ثلاثة أيام وبين الآخرين وبينه ما بين قول الملائكة إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ والصبح : وهي سويعات يسيرة. ولا كذلك عذاب قومي شعيب وهود عليهما السلام بل في قصة قوم شعيب عليه السلام ما يشعر بعدم تضييق زمان مجيء العذاب بناء على الشائع في استعمال سَوْفَ على أن من أنصف من نفسه لم يشك في الفرق بين الوعد في قصتي صالح ولوط عليهما السلام. والوعد في غيرهما ، فإن الإشعار بالمجيء فيهما ظاهر فحسن تفريعه بالفاء ولا كذلك في غيرهما كذا قيل ، وفيه ما لا يخفى ، ولعل الاقتصار على التفرقة بالقرب وعدمه أقل غائلة مما قيل ، وكذا مما يقال : من أن الإتيان بالفاء - لتقدم الوعد وتركها وإن كان هناك وعد للإشارة إلى سوء حال أولئك القومين ومزيد فظاعته حتى أن العذاب حل بهم لا لسبب سبق الوعد بل لمجرد ظلمهم وكأن وجه اعتبار ذلك فيهم دون قومي لوط وصالح عليهما السلام أنهم امتازوا عنهم برمي ذينك النبيين بالجنون ومشافهتهما بما لم يشافه به كل من قومي صالح ولوط نبيه فيما قص عنهما في هذه السورة الكريمة فإن في ذلك ما لا يكاد يخفى عليك فتدبر وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا عدل عن الضمير تسجيلا عليهم بالظلم وإشعارا بالعلية أي وأخذت أولئك الظالمين بسبب ظلمهم الذي فصل الصَّيْحَةُ قيل : صاح بهم جبريل عليه السلام فهلكوا وكانت صيحة على الحقيقة ، وجوز البلخي أن يكون المراد بها نوعا من العذاب ، والعرب تقول : صاح بهم الزمان إذا هلكوا ، وقال امرؤ القيس :
فدع عنك نهبا «صيح» في حجراته ولكن حديث ما حديث الرواحل
والمعول عليه الأول ، وقد سبق في [الأعراف : 78 ، 91 ، 155] الرَّجْفَةُ أي الزلزلة بدلها ، ولعلها كانت من مباديها فلا منافاة ، وقيل : غير ذلك فتذكر فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ أي ميتين من جثم الطائر إذا ألصق بطنه بالأرض ، ولذا خص الجثمان بشخص الإنسان قاعدا ، ثم توسعوا فاستعملوا الجثوم بمعنى الإقامة ، ثم استعير من هذا الجاثم للميت لأنه لا يبرح مكانه ، ولما لم يجعل متعلق العلم في قوله سبحانه : سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ إلخ نفس مجيء العذاب بل من يجيئه ذلك جعل مجيئه بعد أمرا مسلم الوقوع غنيا عن الإخبار به حيث جعل شرطا ، وجعل تنجية شعيب عليه السلام والمؤمنين وإهلاك الكفرة الظالمين جوابا له ومقصود الإفادة ، وإنما قدم التنجية اهتماما بشأنها وإيذانا بسبق الرحمة على الغضب قاله شيخ الإسلام ، و- أصبح - إما ناقصة أو تامة أي صاروا جاثمين ، أو دخلوا في الصباح حال كونهم جاثمين كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا أي لم يقيموا فِيها متصرفين في أطرافها متقلبين في أكنافها ، والجملة إما خبر بعد خبر أو حال بعد حال.
أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ العدول عن الإضمار إلى الإظهار للمبالغة في تفظيع حالهم وليكون أنسب بمن شبه هلاكهم بهلاكهم ، وإنما شبه هلاكهم بهلاكهم لأن عذاب كل كان بالصيحة غير أنه روى الكلبي عن

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 324
ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن صيحة ثمود كانت من تحتهم وصيحة مدين كانت من فوقهم.
وقرأ السلمي وأبو حيوة «بعدت» بضم العين ، والجمهور بكسرها على أنه من بعد يبعد بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع بمعنى هلك ، ومنه قوله :
يقولون : «لا تبعد» وهم يدفونني وأين مكان البعد إلا مكانيا
وأما بعد يبعد بالضم فهو البعد ضد القرب قاله ابن قتيبة ، قيل : أرادت العرب بهذا التغيير الفرق بين المعنيين ، وقال ابن الأنباري : من العرب من يسوي بين الهلاك والبعد الذي هو ضد القرب ، وفي القاموس البعد المعروف والموت ، وفعلهما - ككرم وفرح - بعدا وبعدا بفتحتين ، وقال المهدوي : إن بعد بالضم يستعمل في الخير والشر وبعد بالكسر في الشر خاصة ، وكيفما كان الأمر فالمراد ببعدت على تلك القراءة أيضا هلكت غاية الأمر أنه في ذلك إما حقيقة أو مجاز ، ومن هلك فقد بعد ونأى كما قال الشاعر :
من كان بينك في التراب وبينه شهران فهو في غاية «البعد»
وفي الآية ما يسمى الاستطراد ، قيل : ولم يرد في القرآن من هذا النوع إلا ما في هذا الموضع وقد استعملته العرب في أشعارها ، ومن ذلك قول حسان رضي اللّه تعالى عنه :
إن كنت كاذبة الذي حدثتني فنجوت منجى الحارث بن هشام
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ونجا برأس طمرة ولجام
هذا ومن باب الإشارة في الآيات : قوله سبحانه في قصة هود عليه السلام : ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فيه إشارة إلى أن كل ذي نفس تحت قهره سبحانه وسلطانه أسير في يد تصرفه وملكته عاجز عن الفعل إلا بإذنه وأنه عز وجل لا يسلط أحدا على أحد إلا عن استحقاق ذنب أو رفع درجة وإعلاء منزلة لأنه تبارك وتعالى على طريق العدل الذي لا اعوجاج فيه ، وذكر الشيخ الأكبر قدس سره في فصوصه : إن كل ما سوى الحق فهو دابة فإنه ذو روح وما ثم من يدب بنفسه وإنما يدب بغيره بحكم التبعية للذي هو على صراط مستقيم فكل ماش فهو على الصراط المستقيم وحينئذ فلا مغضوب عليه ولا ضال من هذا الوجه ، نعم إن الناس على قسمين :
أهل الكشف وأهل الحجاب ، فالأولون يمشون على طريق يعرفونها ويعرفون غايتها فهي في حقهم صراط مستقيم كما أنها في نفس الأمر كذلك ، والآخرون يمشون على طريق يجهلونها ولا يعرفون غايتها وأنها تنتهي إلى الحق فهي في حقهم ليست صراطا مستقيما وإن كانت عند العارف ونفس الأمر صراطا مستقيما ، واستنبط قدس سره من الآية أن مآل الخلق كلهم إلى الرحمة التي وسعت كل شيء ، وهي الرحمة السابقة على الغضب ، وادعى أن فيها بشارة للخلق أيّ بشارة.
وقال القيصري في تفسيرها : أي ما من شيء موجود إلا هو سبحانه آخذ بناصيته وإنما جعل دابة لأن الكل عند صاحب الشهود وأهل الوجود حي ، فالمعنى ما من حي إلا والحق آخذ بناصيته ومتصرف فيه بحسب أسمائه يسلك به أي طريق شاء من طرقه وهو على صراط مستقيم وأشار بقوله سبحانه : آخِذٌ إلى هوية الحق الذي مع كل من الأسماء ومظاهرها ، وإنما قال : إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ بإضافة الرب إلى نفسه ، وتنكير الصراط تنبيها على أن كل رب على صراطه المستقيم الذي عين له من الحضرة الإلهية ، والصراط المستقيم الجامع للطرق هو المخصوص بالاسم الإلهي ومظهره لذلك قال في الفاتحة المختصة بنبينا صلّى اللّه عليه وسلم : اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة : 6] بلام العهد أو الماهية التي منها تتفرع جزئياتها ، فلا يقال : إذا كان كل أحد على الصراط المستقيم فما

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 325
فائدة الدعوة؟ لأنا نقول : الدعوة إلى الهادي من المضل. وإلى العدل من الجائر كما قال سبحانه : يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً [مريم : 85] انتهى بحروفه ، وأعظم من هذا إشكالا التكليف مع القول بالوحدة وكذا التنعيم والتعذيب فإن الظاهر من التقرير لكلام المحققين من الصوفية أن المكلف عبارة عن موجود هو حصة من الوجود المطلق المفاض على حقائق الممكنات المتعين بتعينات مختلفة اقتضتها الاستعدادات الذاتية للحقائق التي هي المعدومات المتميزة في نفس الأمر المستعدة باستعدادات ذاتية غير مجعولة ، فالمكلف مقيد من مقيدات الوجود المطلق المفاض ، والمقيد لا يوجد بدون المطلق لأنه قيومه ، والمطلق من حيث الإطلاق عين الحق ، ولا شك أن قاعدة التكليف تقتضي أن يكون بينهما مغايرة ومباينة حقيقية ذاتية حتى يصح التكليف وما يترتب عليه من التعذيب والتنعيم.
وأجيب بأن حقيقة الممكن أمر معدوم متميز في نفسه بتميز ذاتي غير مجعول ووجوده خاص مقيد بخصوصية ما اقتضاها استعداده الذاتي لماهيته العدمية فهو مركب من الوجود والعدم وحقيقته مغايرة لوجوده تعقلا لتمايزهما ذهنا ، ولا ينافي ذلك قول الأشعري : وجود كل شيء عين حقيقته لما بين في محله وحقيقة الحق تعالى لا تغاير وجوده ووجوده سبحانه هو الوجود المطلق بالإطلاق الحقيقي حسبما حققه محققو الصوفية ، فالمغايرة الذاتية بين المكلف والمكلف في غاية الظهور لأن المكلف هو المعدوم اللابس لحصة من الوجود المتعين بمقتضى حقيقته ، والمكلف سبحانه هو الحق عز وجل الذي هو عين الوجود المطلق الغير المقترن بماهية عدمية ، وبعبارة أخرى : إن حقيقة الممكن أمر معدوم وحقيقة الواجب سبحانه الوجود المطلق حتى عن قيد الإطلاق وقد وقع في البين تجلي الهوية في العبد وذلك التجلي هو الجامع للقدرة وغيرها من الكمالات التي يتوقف عليها التكليف بمقتضى الحكمة ومحقق للمغايرة.
وحاصل ذلك أن حقيقة المزج بين تجلي الهوية والصورة الخلقية المتعينة بمقتضى الحقيقة العدمية هي التي أحدثت ما به يصح التكليف وما يترتب عليه ، وكون الحق سبحانه قيوما للوجود المقيد غير قادح في ذلك بل القيومية هي المصححة له لما تبين من النصوص أنه لا تكليف إلا بالوسع ولا وسع للممكن إلا بقيوميته تعالى بنص ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ [الكهف : 39] وما هو باللّه فهو للّه تعالى ، والبحث في ذلك طويل ، وبعض كلماتهم يتراءى منهم عدم المغايرة بين المكلف والمكلف من ذلك ما قيل :
لقد كنت دهرا قبل أن يكشف الغطا إخالك أني ذاكر لك شاكر
فلما أضاء الليل أصبحت شاهدا بأنك مذكور وذكر وذاكر
لكن ينبغي أن لا يبادر سامعها بالإنكار ، ويرجع في المراد منها إلى العارفين بدقائق الأسرار ، هذا وقد تقدم الكلام في ناقة صالح عليه السلام ، وفيما قص اللّه تعالى هاهنا عن إبراهيم عليه السلام إشارة إلى بعض آداب الفتوة ، فقد قالوا : إن من آدابها إذا نزل الضيف أن يبدأ بالكرامة في الإنزال ثم يثني بالكرامة بالطعام ، وإنما أوجس عليه السلام في نفسه خيفة لأنه ظن الغضب ، والخليل يخشى غضب خليله ومناه رضاه ، وللّه در من قال :
لعلك غضبان ولست بعالم سلام على الدارين إن كنت راضيا
وفي هذه القصة دليل على أنه قد ينسد باب الفراسة على الكاملين لحكم يريدها اللّه تعالى ، ومن ذلك لم يعرف إبراهيم وكذا لوط عليهما السلام الملائكة عليهم السلام في أول الأمر ، وكانت مجادلته عليه السلام من آثار مقام الإدلال على ما قيل ، وقوله تعالى عن لوط عليه السلام : لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ قيل :
يشير بالقوة إلى الهمة وهي عندهم القوة المؤثرة في النفوس لأن القوة منها جسمانية ومنها روحانية ، وهذه المسماة بالهمة وهي أقوى تأثيرا لأنها قد تؤثر في أكثر العالم. أو كله بخلاف الجسمانية ، وقصد عليه السلام بالركن الشديد

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 326
القبيلة لأنه يعلم أن أفعال اللّه تعالى لا تظهر في الخارج إلا على أيدي المظاهر فتوجه إلى اللّه سبحانه وطلب منه أن يجعل له أنصارا ينصرونه على أعداء اللّه تعالى ، وردد الأمر بين ذلك وأن يجعل له همة مؤثرة من نفسه ليقاوم بها الأعداء ، وقد علمت ما
روي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم من قوله : «يرحم اللّه تعالى أخي لوطا» الخبر.
وذكر الشيخ الأكبر قدس سره أنه عليه الصلاة والسلام نبه بذلك الخبر أن لوطا كان مع اللّه تعالى من أنه سبحانه رُكْنٍ شَدِيدٍ والإشارة في قصة شعيب عليه السلام إلى أنه ينبغي لمن كان في حيز أن لا يعصي اللّه تعالى ، وللواعظ أن لا يخالف فعله قوله :
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
وأنه لا ينبغي أن يكون شيء عند العبد أعز عليه من اللّه تعالى إلى غير ذلك ، واللّه تعالى الهادي إلى سبيل الرشاد.
[سورة هود (11) : الآيات 96 إلى 123]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (96) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)
وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)
وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)
وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 327
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وهي الآيات التسع العصا واليد البيضاء والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والنقص من الثمرات والأنفس ، والباء متعلقة بمحذوف وقع حالا من مفعول أَرْسَلْنا أو نعتا لمصدره المؤكد أي أرسلناه حال كونه ملتبسا بآياتنا أو أرسلناه إرسالا ملتبسا بها.
وَسُلْطانٍ مُبِينٍ هو المعجزات الباهرة منها - وهو العصا - والإفراد بالذكر لإظهار شرفها لكونها أبهرها ، والمراد بالآيات ما عداها ، ويجوز أن يراد بهما واحد ، والعطف باعتبار التغاير الوصفي أي أرسلناه بالجامع بين كونه آياتنا وكونه سلطانا له على نبوته واضحا في نفسه أو موضحا إياها من أبان لازما بمعنى تبين ومتعديا بمعنى بين ، وجعل بعضهم الآيات والسلطان شيئا واحدا في نفس الأمر إلا أن في ذلك تجريدا نحو مررت بالرجل الكريم والنسمة المباركة كأنه جرد من الآيات الحجة وجعلها غيرها وعطفت عليها لذلك ، وجوز أن يكون المراد بالآيات ما سمعت وبالسلطان ما بينه عليه السلام في تضاعيف دعوته حين قال له فرعون : فَمَنْ رَبُّكُما [طه : 49] فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى [طه : 51] من الحقائق الرائقة والدقائق اللائقة أو هو الغلبة والاستيلاء كما في قوله سبحانه : وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً وجعله عبارة عن التوراة ، أو إدراجها في جملة الآيات يرده كما قال أبو حيان قوله عز وجل : إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فإن نزولها إنما كان بعد مهلك فرعون وقومه قاطبة ليعمل بها بنو إسرائيل فيما يأتون ويذرون ، وأما فرعون وقومه فإنما كانوا مأمورين بعبادة رب العالمين وترك العظيمة الشنعاء التي كان يدعيها الطاغية وتقبلها منه فئته الباغية وبإرسال بني إسرائيل من الأسر والقسر ، ومن هذا يعلم ما في عد النقص من الثمرات والنقص من الأنفس آية واحدة من الآيات التسع ، وعد إظلال الجبل منها لأن ذلك إنما كان لقبول التوراة حين أباه بنو إسرائيل فهو متأخر أيضا ضرورة. ومثل ذلك عد فلق البحر وإظلال الغمام بدلهما لأن هذا الإظلال أيضا متأخر عن مهلك فرعون وقومه.
وأجاب بعض الأفاضل عن الاعتراض على جعل التوراة من الآيات بأن التصحيح ممكن ، أما أولا فبما صرحوا به من جواز إرجاع الضمير وتعلق الجار ونحوه بالمطلق الذي في ضمن المقيد فقوله سبحانه : إِلى فِرْعَوْنَ يجوز أن يتعلق بالإرسال المطلق لا المقيد بكونه بالتوراة ، وأما ثانيا فبأن يقال : إن موسى عليه السلام كما أرسل إلى الفراعنة أرسل إلى بني إسرائيل أيضا فيجب أن يحمل ملأ فرعون على ما يشملهم فيجيء الكلام على التوزيع على معنى أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين وإلى ملئه بالتوراة فيكون لفا ونشرا غير مرتب ، ويقال نحو هذا على تقدير عدّ إظلال الجبل أو الغمام من الآيات ، وفي مجموعة سري الدين المصري أن هذا السؤال مما أورد الحافظ الطاشكندي على

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 328
مخدوم الملك فأجاب بأن قوله سبحانه : بِآياتِنا حال مقدرة أي مقدرين تلبسه أو نصرته بالآيات والسلطان إلى فرعون وملئه فلا يقدح فيه ظهور بعضها بعد هلاك فرعون كالتوراة وانفجار الماء وغير ذلك ، وبأنه قيل : إن إعطاء التوراة مجموعا مرتبا مكتوبا في الألواح بعد غرق فرعون ، وأوحى بها إلى موسى عليه السلام في حياة فرعون وكان يأمر بها قومه ويبلغها إلى فرعون وملئه ، ويؤيده ما قيل : إن بعض الألواح كان منزلا قبل نزول التوراة بتمامها وكانت تلك الألواح من خشب والألواح التي كانت فيها التوراة بتمامها كانت من زمرد أو من ياقوت أحمر أو من صخرة صماء انتهى ، ولا يخفى أن الذهاب إلى كون الحال مقدرة مما لا يكاد يقبله الذوق السليم ، وما حكي من أن إعطاء التوراة مجموعا كان بعد والإيحاء بها كان قبل إلخ مما لا مستند له من الأخبار الصحيحة ، وما ذكر أولا من حديث التعلق بالمطلق.
وثانيا من حمل «الملأ» على ما يشمل بني إسرائيل إلخ مما ينبغي أن ينزه ساحة التنزيل عنه ، وكيف يحمل - الملأ - على ما يشمل بني إسرائيل مع الإضافة إليه وجعلهم من أهل النار ، ولا أظنك في مرية من القول بعدم صحة ذلك وقيل : لو جعل إِلى فِرْعَوْنَ متعلقا بسلطان مبين لفظا أو معنى على تقدير وسلطان مرسل به إلى فرعون لم يبعد مع المناسبة بينه وبين السلطان ، وفيه ما لا يخفى فتأمل.
وتخصيص - الملأ - بالذكر مع عموم رسالة موسى عليه السلام للقوم كافة لأصالتهم في الرأي وتدبير الأمور واتباع الغير لهم في الورود والصدور ، ولم يصرح بكفر فرعون بالآيات وانهماكه فيما كان عليه من الضلال والإضلال بل اقتصر على ذكر شأن ملئه فقيل : فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ أي أمره بالكفر بما جاء به موسى عليه السلام من الحق للإيذان بوضوح حاله فكأن كفره وأمر ملئه بذلك أمر متحقق الوجود غير محتاج إلى الذكر صريحا ، وإنما المحتاج إلى ذلك شأن ملئه المترددين بين هاد إلى الحق - وهو موسى عليه السلام - وداع إلى الضلال - وهو فرعون - فنعى عليهم سوء اختيارهم ، وإيراد الفاء للإشعار بمفاجأتهم في الاتباع ومسارعة فرعون إلى الكفر والأمر به ، فكأن ذلك لم يتراخ عن الإرسال والتبليغ.
وجوز أن يراد من الأمر الطريقة والشأن ، قيل : ومعنى فَاتَّبَعُوا فاستمروا على الاتباع ، والفاء مثل ما في قولك :
وعظته فلم يتعظ وزجرته فلم ينزجر ، فإن الإتيان بالشيء بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه وإن كان استمرارا عليه لكنه بحسب العنوان فعل جديد وصنع حادث ، ويجوز أن يكون المراد فاتصفوا بما اتصف به فرعون من الكفر بما جاء به موسى عليه السلام والتكذيب له ووافقوه في ذلك ، وإيراد الفاء للإشعار بمفاجأتهم في الموافقة لفرعون في الكفر ومسارعته إليه فكأنه حين حصل الإرسال والتبليغ حصل كفر فرعون بما جاء به موسى عليه السلام ووقع على أثره الموافقة منهم ، ولا تتوهمن أن هذه الموافقة كانت حاصلة لهم قبل لأنها تتوقف على اتصاف فرعون بالكفر بما جاء به موسى عليه السلام ، وذلك إنما تجدد له بعد الإرسال والتبليغ فلا ضرورة إلى الحمل على الاستمرار ، وجعل الفاء كما في قولك : زجرته فانزجر فتأمل.
وعدل عن أمره إلى أمر فرعون لدفع توهم رجوع الضمير إلى موسى عليه السلام من أول الأمر ولزيادة تقبيح حال المتبعين فإن فرعون علم في الفساد والإفساد والإضلال ، فاتباعه لفرط الجهالة وعدم الاستبصار ، وكذا الحال في قوله تعالى : وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ أي براشد أو بذي رشد ، والرشد ضد الغي وإسناده إلى الأمر مجازي وكأن في العدول عن أمر فرعون غي وضلال إلى ما في النظم الكريم زيادة في تقبيح فعلهم وتحسيرا لهم على فوات ما فيه صلاح الدارين أعني الرشد.
ويجوز أن يجعل الرشد كناية عن المحمودية والإسناد حقيقي أي - وما أمر فرعون بصالح حميد العاقبة - وقوله

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 329
سبحانه : يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ على الأول استئناف وقع جوابا لمن سأل عن حال المتبوع والتابع مآلا ، وعلى الثاني تفسير وإيضاح لعدم صلاح عاقبته أي كيف يرشد أمر من هذه عاقبته ، وجملة وَما أَمْرُ إلخ جوز أن تكون حالا من فاعل - اتبعوا - وأن تكون حالا من مفعوله قيل : وهو مختار الزمخشري ، والمراد بالقوم ما يشمل الملأ وغيرهم ، ويَقْدُمُ كينصر من قدم - كنصر - بمعنى تقدم ، ومنه قادمة الرحل ، وهذا كما يقال : قدمه بمعنى تقدمه ، ومنه مقدمة الجيش وأقدم بمعنى تقدم ، ومنه مقدم العين فإنه بالكسر لا غير كما قاله المرزوقي ، ومثله مؤخر العين كما في المزهر ، والمراد من أوردهم يوردهم ، والتعبير به دونه للإيذان بتحقق وقوعه لا محالة ، والقول : بأنه باق على حقيقته - والمراد فأوردهم في الدنيا النار أي موجبها وهو الكفر - ليس بشيء ، ونصب النار على أنه مفعول ثان - لأوردهم - وهي استعارة مكنية تهكمية للضد وهو الماء ، وفي قرينتها احتمالات كما شاع في يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ [البقرة : 27 ، الرعد : 25] وعلى احتمال المجاز يكون الإيراد مستعارا استعارة تبعية لسوقهم إلى النار.
وجوز أن يقال : إنه شبه فرعون بالفارط وهو الذي يتقدم القوم للماء ففيه استعارة مكنية ، وجعل اتباعه واردة وإثبات الورود لهم تخييل ، وجوز أيضا جعل المجموع تمثيلا.
وجوز بعضهم كون يَقْدُمُ وأورد متنازعين في النار إلا أنه أعمل الثاني وحذف مفعول الأول وليس بذلك.
وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ أي بئس الورد الذي يردونه النار لأن الورد إنما يورد لتسكين العطش وتبريد الأكباد وفي النار تقطع الأكباد واشتعالها كذا قيل ، فالورد على هذا بمعنى النصيب من الماء والْمَوْرُودُ صفته ، والمخصوص بالذم محذوف وهو النار ، وتعقب بأنه لا بد من تصادق فاعل بِئْسَ ومخصوصها ولا تصادق على هذا ، وأيضا في جواز وصف فاعل - نعم. وبئس - خلاف ، وابن السراج والفارسي على عدم الجواز.
وجوز ابن عطية كون الْمَوْرُودُ صفة والمخصوص النار إلا أنه جعل الكلام على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، فالتصادق حاصل في الحقيقة أي - بئس مكان الورود المورود النار - ومنهم من يجعل الْمَوْرُودُ هو المخصوص بالذم ، والمراد به النار ، ويقدر المضاف ليحصل التصادق أيضا أي - بئس مكان الورد النار - ومن يجعل الورد فاعل بِئْسَ ويفسره بالجمع الوارد. والْمَوْرُودُ صفة لهم والمخصوص بالذم ضميرهم المحذوف أي - بئس القوم المورود بهم هم - فيكون ذما للواردين لا لموضع الورود وَأُتْبِعُوا أي الملأ الذين اتبعوا أمر فرعون ، وقيل : القوم مطلقا فِي هذِهِ أي في الدنيا لَعْنَةً عظيمة حيث يلعنهم من بعدهم من الأمم وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أيضا حيث يلعنهم أهل الموقف قاطبة فهي تابعة لهم حيثما ساروا ودائرة أينما داروا فكما اتبعوا أمر فرعون اتبعتهم اللعنة في الدارين جزاء وفاقا.
وقال الكلبي : اللعنة في الدنيا من المؤمنين أو بالغرق ، ويوم القيامة من الملائكة أو بالنار. بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ أي بئس العون المعان كما نقل عن أبي عبيدة ، والمخصوص بالذم محذوف أي رفدهم ، ويكون الرِّفْدُ بمعنى العطية كما يكون بمعنى العون.
قال أبو حيان : يقال : رفد الرجل يرفده رفدا ورفدا إذا أعطاه وأعانه من رفد الحائط دعمه ، وعن الأصمعي الرفد بالفتح القدح والرفد بالكسر ما فيه من الشراب ، وقال الليث : أصل الرفد العطاء والمعونة ، ومنه رفادة قريش وهي معاونتهم للحاج بشيء يخرجونه للفقراء ، ويقال رفده رفدا ورفدا بكسر الراء وفتحها ، ويقال : بالكسر الاسم وبالفتح المصدر ، وفسره هنا بالعطاء غير واحد.
وزعم أن المقام لا يلائمه ليس بشيء نعم تفسيره بالعون جاء في صحيح البخاري ، والمراد به على التفسيرين

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 330
اللعنة وتسميتها عونا على التفسير الأول من باب الاستعارة التهكمية ، وأما كونها معانا فلأنها أرفدت في الآخرة بلعنة أخرى لتكونا هاديتين إلى صراط الجحيم ، وكان القياس أن يسند المرفود إليهم لأن اللعنة في الدنيا تتبعهم وكذا في الآخرة لقوله سبحانه : وَأُتْبِعُوا إلخ ، ولكن أسند إلى الرفد الذي هو اللعنة على الإسناد المجازي نحو جدّ جدّه وجنونك مجنون ، وكذا يعتبر الاستعارة والمجاز المذكوران على التفسير الثاني كذا قيل.
وقال بعض المدققين : إن في قول الزمخشري في بيان الآية على المعنى الأول المنقول عن أبي عبيدة وذلك أن اللعنة في الدنيا رفد للعذاب ومدد له ، وقد رفدت باللعنة في الآخرة ما يشعر بأنه ليس من الاستعارة التهكمية في شيء إذ لو كان رفدا للمعذبين لكان من ذلك القبيل ، ثم قال : وجعله من باب جد جده أبعد وأبعد لأنه ذكر أنه رفد أعين برفد أما لو فسر بالتفسير الثاني ففيه الأول لا الثاني لأنه ليس مصدرا وإنما العطاء بمعنى ما يعطي فكثيرا ما يطلق عليه انتهى وفيه نظر لا يخفى ، ثم إن القول بأن هناك لعنتين رفدت إحداهما بالأخرى هو المروي عن مجاهد وغيره فيوم معطوف على محل في الدنيا.
وذهب قوم إلى أن التقسيم هو أن لهم في الدنيا لعنة ويوم القيامة بئس ما يرفدون به فهي لعنة واحدة أولا وقبح إرفاد آخرا انتهى ، وتعقبه في البحر بأن هذا لا يصح لأنه يدل على أن يَوْمَ معمول بِئْسَ وهي لا تتصرف فلا يتقدم معمولها عليها ، ولو كان يَوْمَ متأخرا صح ذلك كما قال الشاعر :
ولنعم حشو الدرع أنت إذا دعيت نزال ولج في الذعر
وهو كلام وجيه ، والآية ظاهرة في سوء حال فرعون يوم القيامة لأنه إذا كان حال الاتباع ما قص اللّه سبحانه فما ظنك بحال من أغواهم وألقاهم في هذا الضلال البعيد؟ وهذا يعكر على من ذهب إلى أنه قبض طاهرا مطهرا بل قال بعضهم : إنها نص في رد ذلك لأنه تعالى سلب عنه فيها الرشاد بعد موته والمؤمن الطاهر المطهر لا يسلب عنه الرشاد بعد الموت ، ولعل من ذهب إلى ذلك يقول : باب التأويل واسع وباب الرحمة أوسع منه.
ذلِكَ إشارة إلى ما قص من أنباء الأمم وبعده باعتبار تقضيه أو باعتبار ما قيل في غير موضع ، والخطاب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وهو مبتدأ خبره مِنْ أَنْباءِ الْقُرى المهلكة بما جنته أيدي أهلها فأل فيها للعهد السابق تقديرا بذكر أربابها نَقُصُّهُ عَلَيْكَ خبر بعد خبر أي ذلك النبأ بعض أنباء القرى مقصوص عليك وجوز أن يكون مِنْ أَنْباءِ في موضع الحال وهذا هو الخبر ، وجوز أيضا عكس ذلك مِنْها أي من تلك القرى قائِمٌ وَحَصِيدٌ أي ومنها حصيد ، فالعطف من عطف الجملة على الجملة وهو الذي يقتضيه المعنى كما لا يخفى ، وقد شبه ما بقي منها بالزرع القائم على ساقه وما عفا وبطل بالحصيد ، فالمعنى منها باق ومنها عاف ، وهو المروي عن قتادة ، ونحوه ما روي عن الضحاك قائِمٌ لم يخسف وَحَصِيدٌ قد خسف ، وقيل : وَحَصِيدٌ الزرع جاء في كلامهم بمعنى الفناء كما في قوله :
والناس في قسم المنية بينهم كالزرع منه قائم وحصيد
وصيغة فعيل بمعنى مفعول أي محصود كما قال الأخفش ، وجمعه حصدى وحصاد مثل مرضى ومراض ، وجملة مِنْها قائِمٌ إلخ مستأنفة استئنافا نحويا للتحريض على النظر في ذلك والاعتبار به ، أو بيانيا كأنه سئل لما ذكرت ما حالها؟ فأجيب بذلك ، وقال أبو البقاء : هي في موضع الحال من الهاء في نقصه ، وجوز الطيبي كونها حالا من القرى ، وادعى صاحب الكشف أن جعلها حالا من ضمير نقصه فاسد لفظا ومعنى ، ومن القرى كذلك ، وفي الحواشي الشهابية أراد بالفساد اللفظي في الأول خلو الجملة من الواو والضمير. وفي الثاني مجيء الحال من المضاف إليه في غير

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 331
الصور المعهودة ، وبالفساد المعنوي أنه يقتضي أنه ليس من المقصوص بل هو حال خارجة عنها وليس بمراد ، ولا يسوغ جعل ما بعده ابتداء المقصوص ، وفيه فساد لفظي أيضا.
وزعم بعض أنه أراد بالفساد الأول في الأول ما ذكر. وفي الثاني وقوع الجملة الاسمية حالا بالضمير وحده وبالضمير تخصيص كونها مقصوصة بتلك الحالة فإن المقصوصية ثابتة لها وللنبأ وقت قيام بعضها أيضا ، وقد أصاب بعضا وأخطأ بعضا ، ووجه الجلبي الخلو عن الواو والضمير بأن المقصود من الضمير الربط وهو حاصل لارتباط ذلك بمتعلق ذي الحال وهي القرى ، فالمعنى نقص عليك بعض أنباء القرى وهي على هذه الحالة تشاهدون فعل اللّه تعالى بها ، وتعقب بأن الاكتفاء في الربط بما ذكر مع خفائه مذهب تفرد به الأخفش ولم يذكره في الحال وإنما ذكره في خبر المبتدأ ، وقول أبي حيان : إن الحال أبلغ في التخويف وضرب المثل للحاضرين مع ما سمعت نفعا والحق أنه لا وجه لما ذكره أبو البقاء يعول عليه إلا الذهول وَما ظَلَمْناهُمْ قيل : الضمير للقرى مرادا بها أهلها وقد أريد منها أولا حقيقتها ، ففي الكلام استخدام ، وقيل : الضمير لأهل القرى لأن هناك مضافا مقدرا أي ذلك من أنباء أهل القرى والضمائر منها ما يعود إلى المضاف ، ومنها ما يعود إلى المضاف إليه ، ومتى وضح الأمر جاز مثل ذلك.
وقيل : القرى على ظاهرها وإسناد الأنباء إليها مجاز ، وضمير مِنْها لها وضمير ظَلَمْناهُمْ للأهل المفهوم منها ، وقيل : الْقُرى مجاز عن أهلها ، والضميران راجعان إليها بذلك الاعتبار ، أو يقدر المضاف والضميران له أيضا ، وعلى هذا خرج ما حكي عن بعضهم من أن معنى مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ منها باق نسله ، ومنها منقطع نسله ، وأيا ما كان ففي الكلام إيذان بإهلاك الأهل فيكون المعنى هنا وما ظلمناهم بإهلاكنا إياهم وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ حيث اقترفوا بسوء استعدادهم ما يترتب عليه ذلك بمقتضى الحكمة فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ أي ما نفعتهم ولا دفعت بأس اللّه تعالى عنهم آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ أي يعبدونها مِنْ دُونِ اللَّهِ أوثر صيغة المضارع لحكاية الحال الماضية أو للدلالة على استمرار عبادتهم لها مِنْ شَيْءٍ أي شيئا من الإغناء أو شيئا من الأشياء - فما - نافية لا استفهامية - وإن جوّزه السمين - وتعلق عن بما عنده لما فيه من معنى الدفع ، ومِنْ الأخيرة صلة ومجرورها مفعول مطلق أو مفعول به للدفع ، وقوله سبحانه : لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ أي حين مجيء عذابه منصوب - بأغنت - وهذا - على ما في البحر - بناء على خلاف مذهب سيبويه لأن مذهبه أن لَمَّا حرف وجوب لوجوب.
وقرى ء - آلهتهم اللاتي - و«يدعون» بالبناء للمفعول وهو وصف للآلهة كالتي في المشهورة ، وفيه مطابقة للموصوف ليست في الَّتِي لكن قيل - كما في جمع الجوامع للجلال السيوطي - إن التي في جمع غير عالم أكثر من اللاتي ، نعم إن الآلهة قد عوملت في الآية معاملة العقلاء لأن عبدتها نزلوها منزلة العقلاء في اعتقادهم فيها أنها تنفع وتضر ، فقيل : وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ومن هنا قيل : إن اللاتي في تلك القراءة واقع موقع الألي أو الذين ، و- التتبيب - على ما في البحر التخسير ، يقال : تب خسر وتببه خسره.
وذكر الجوهري أن التب الخسران والهلاك والتتبيب الإهلاك وفي القاموس التب والتبب والتباب والتتبيب النقص والخسار.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عمر ومجاهد تفسير ذلك بالتخسير وكذا أخرج الطستي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما إلا أنه استشهد عليه بقول بشر بن أبي خازم :
هم جدعوا الأنوف فأذهبوها وهم تركوا بني سعد تبابا

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 332
وحينئذ فالمعنى فما زادوهم غير تخسير أو خسارة لنفوسهم حيث استحقوا العذاب الأليم الدائم على عبادتهم لها نسأل اللّه تعالى العفو والعافية.
وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الأخذ والإهلاك الذي مر بيانه ، وهو على ما قال السمين : خبر مقدم ، وقوله سبحانه :
أَخْذُ رَبِّكَ مبتدأ مؤخر ، وقيل : بالعكس ، والكاف يحتمل أن تكون اسمية وأن تكون حرفية وقد يجعل المشار إليه الأخذ المذكور بعد كما تحقق قبل ، وفي قراءة عبد اللّه كذلك بغير واو.
إِذا أَخَذَ الْقُرى أي أهلها وإنما أسند إليها للإشعار بسريان أثره ، وقرأ الجحدري وأبو رجاء وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ على أن أَخْذُ رَبِّكَ فعل وفاعل ، والظرف لما مضى ، وهو إخبار عما جرت به عادة اللّه تعالى في إهلاك من تقدم من الأمم وكذلك على هذا ساد مسد المصدر النوعي ولا مانع من تقدمه على الفعل والقرى متنازع للمصدر والفعل ، وقوله سبحانه : وَهِيَ ظالِمَةٌ في موضع الحال من الْقُرى ولذا أنث الضمير وظالِمَةٌ إلا أن وصف القرى بالظلم مجاز وهو في الحقيقة صفة أهلها وجعله حالا من المضاف المقدر أولا وتأنيثه مكتسب من المضاف إليه تكلف ، وفائدة هذه الحال الإشعار بأن أخذهم بسبب ظلمهم ، وفي ذلك من إنذار الظالم ما لا يخفى ، والمراد بالظلم إما الكفر أو ما هو أعم ، وظاهر صنيع بعضهم أخذا من إطلاقه أنه شامل لظلم المرء نفسه. وغيره إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ وجيع شَدِيدٌ لا يرجى منه الخلاص وهذا مبالغة في التهديد والتحذير.
أخرج الشيخان في صحيحيهما والترمذي والنسائي وابن ماجة وآخرون عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : «إن اللّه تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، ثم قرأ وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إلى قوله تعالى : إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ»
إِنَّ فِي ذلِكَ أي أخذه سبحانه للأمم المهلكة أو فيما قص من أخبارهم لَآيَةً أي لعلامة ، وفسرها بعضهم بالعبرة لما أنها تلزمها وهو حسن والتنوين للتعظيم أي لعبرة عظيمة لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ فإنه إذا رأى ما وقع في الدنيا بالمجرمين من العذاب الأليم اعتبر به حال العذاب الموعود فإنه عصا من عصية وقليل من كثير ، وانزجر بذلك عن المعاصي التي يترتب عليها العذاب وأكب على التقوى والخشية من اللّه تعالى ، وقد أقيم من خاف إلخ مقام من صدق بذلك لما بينهما من اللزوم ولأن الاعتبار إنما ينشأ من الخوف ، وذكر هذا القيد لأن من أنكر الآخرة وأحال فناء هذا العالم أسند الحوادث إلى أسباب فلكية وأوضاع مخصوصة فلم يعتبر بذلك أصلا ولم ينزجر عن الضلالة قطعا ، وقال : إن ما وقع إنما وقع لهاتيك الأسباب والأوضاع لا للمعاصي التي اقترفتها الأمم المهلكة.
وقيل : المراد أن فيما ذكر دليلا على عذاب المجرمين في الآخرة لأنهم إذا عذبوا في الدنيا لإجرامهم - وهي دار العمل - فلأن يعذبوا في الآخرة عليه - وهي دار الجزاء - أولى ، وقيل : المراد أن فيه دليلا على البعث والجزاء ، وذلك أن الأنبياء عليهم السلام قد أخبروا باستئصال من كذبهم وأشرك باللّه ووقع ما أخبروا به وفق إخبارهم ، وذلك أحد الشواهد على صدقهم فيكونون صادقين فيما يخبرون به من البعث والجزاء فلا بد أن يقع لا محالة ، والتقييد بما ذكر هنا كالتقييد في قوله سبحانه : هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة : 2] وهو كما ترى ذلِكَ إشارة إلى يوم القيامة المدلول عليه بذكر الآخرة يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ أي يجمع له الناس للمحاسبة والجزاء ، فالناس نائب فاعل مجموع.
وأجاز ابن عطية أن يكون مبتدأ ومَجْمُوعٌ خبره ، وفيه بعد إذ الظاهر حينئذ أن يكون مجموعا وعدل عن الفعل - وكان الظاهر - ليدل الكلام على ثبوت معنى الجمع وتحقق وقوعه لا محالة وأن الناس لا ينفكون عنه فهو أبلغ من قوله تعالى : يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ [التغابن : 9] وإيضاحه أن في هذا دلالة على لزوم الوصف ولزوم

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 333
الإسناد ، وفي ذلك على حدوث تعلق الجمع بالمخاطبين واختصاصه باليوم ولهذا استدركه بقوله : الجمع فأضاف اليوم إليه ليدل على لزومه له وإنما الحادث جمع الأولين والآخرين دفعة وَذلِكَ أي يوم القيامة مع ملاحظة عنوان جمع الناس له يَوْمٌ مَشْهُودٌ أي مشهود فيه فاتسع في الجار والمجرور ووصل الفعل إلى الضمير إجراء له مجرى المفعول به كما في قوله :
ويوما شهدناه سليما وعامرا قليل سوى طعن الدراك نوافله
أي يشهد فيه الخلائق الموقف لا يغيب عنه أحد وإنما لم يجعل نفس اليوم مشهودا بل جعله مشهودا فيه ولم يذكر المشهود تهويلا وتعظيما أن يجري على اللسان وذهابا إلى أن لا مجال لالتفات الذهن إلى غيره ، وقد يقال :
المشهود هو الذي كثر شاهدوه ، ومنه قولهم : لفلان مجلس مشهود وطعام محضور ، ولأم قيس الضبية :
ومشهد قد كفيت الناطقين به في محفل من نواصي الناس مشهود
واعتبروا كثرة شاهديه نظرا إلى أنه الذي يستحق أن يطلق اسم المشهود على الإطلاق عليه ، ولو جعل اليوم نفسه مشهودا من غير هذا الاعتبار لم يحصل الغرض من تعظيم اليوم وتمييزه فإن سائر الأيام كذلك لكن جاء الامتياز من ذلك لما أضيف إليه من الكثرة المهولة المميزة ، وبما ذكر يعلم سقوط ما قيل : الشهود الحضور واجتماع الناس حضورهم فمشهود بعد مجموع مكرر وَما نُؤَخِّرُهُ أي ذلك اليوم الملحوظ بعنوان الجمع والشهود ، ونقل الحوفي رجوع الضمير للجزاء ، وقرأ الأعمش ويعقوب - يؤخره - بالياء.
إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ أي لانتهاء مدة قليلة ، فالعد كناية عن القلة ، وقد يجعل كناية عن التناهي ، والأجل عبارة عن جميع المدة المعينة للشيء ، وقد يطلق على نهايتها ، ومنع إرادة ذلك هنا لأنه لا يوصف بالعد في كلامهم بوجه ، وجوزها بعضهم بناء على أن الكناية لا يشترط فيها إمكان المعنى الأصلي ، وتعقب بأنه عدول عن الظاهر ، وتقدير المضاف أسهل منه واللام للتوقيت ، وفي المجمع أنها تدل على الغرض وأن الحكمة اقتضت التأخير ولذا عدل عن إلى إليها وفي الآية رد على الدهرية ، والفلاسفة الزاعمين أنه لا انقضاء لمدة الدنيا ، وهو بحث مفروغ منه يَوْمَ يَأْتِ أي ذلك اليوم المؤخر بانقضاء أجله المضروب حسبما تقتضيه الحكمة وهو المروي عن ابن جريج ، وقيل :
الضمير للجزاء أيضا ، وقيل : للّه تعالى ، وفيه من تفخيم شأن اليوم ما لا يخفى ، ويعضده قراءة - وما يؤخره - بالياء ، ونسبة الإتيان ونحوه إليه سبحانه أتت في غير ما آية ، واعترض الأول بأن التقدير عليه يوم إتيان ذلك اليوم ولا يصح لأن تعرف اليوم بالإتيان يأبى تعرف الإتيان به ، ولأن إتيان اليوم لا ينفك عن يوم الإتيان فيكفي الإسناد وتلغو الإضافة ، ونقل العلامة الطيبي نصا على عدم جوازه كما لا تقول : جئتك يوم بسرك ، وأجيب أن كل زمان له شأن يعتبر تجدده كالعيد والنيروز والساعة مثلا ، يجري مجرى الزماني وإن كان في نفسه زمانا فباعتبار تغاير الجهتين صحت الإضافة والإسناد كما يصح أن يقال : يوم تقوم الساعة ويوم يأتي العيد والعيد في يوم كذا ، فالأول زمان وضميره أعني فاعل الفعل زماني ، وإذا حسن مثل قوله :
فسقي الغضى والساكنيه وإن هم شبوه بين جوانحي وضلوعي
فهذا أحسن ، وقرأ النحويان ونافع «يأتي» بإثبات الياء وصلا وحذفها وقفا ، وابن كثير بإثباتها وصلا ووقفا وهي ثابتة في مصحف أبي ، وقرأ باقي السبعة بحذفها وصلا ووقفا ، وسقطت في مصحف عثمان رضي اللّه تعالى عنه ، وإثباتها وصلا ووقفا هو الوجه ، ووجه حذفها في الوقت التشبيه بالفواصل ، ووصلا ووقفا التخفيف كما قالوا : لا أدر ولا أبال ، وذكر الزمخشري أن الاجتزاء بالكسرة عن الياء كثير في لغة هذيل ، ومن ذلك قوله :

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 334
كفاك كف ما تليق درهما جودا وأخرى تعط بالسيف الدما
وقرأ الأعمش - «يوم يأتون» - بواو الجمع ، وكذا في مصحف عبد اللّه أي يوم يأتي الناس أو أهل الموقف لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ أي لا تتكلم بما ينفع وينجي من جواب أو شفاعة ، وهذا الفعل على الأظهر هو الناصب للظرف السابق.
وجوز أن يكون منصوبا بالانتهاء المضاف إلى الأجل وأن يكون مفعولا به - لا ذكر - محذوفا ، وهذه الجملة في موضع الحال من ضمير اليوم ، وأجاز الحوفي وابن عطية كونها نعتا ليوم ، وتعقب بأنه يقتضي أن إضافته لا تفيده تعريفا وهو ممنوع ولعل من يدعي ذلك يقول : إن الجمل بمنزلة النكرات حتى أطلقوا عليها ذلك فالإضافة إليها كالإضافة إليها إِلَّا بِإِذْنِهِ أي إلا بإذن اللّه تعالى شأنه وعز سلطانه في التكلم كقوله سبحانه : لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ [النبأ : 38] وهذا في موقف من مواقف ذلك اليوم ، وقوله تبارك وتعالى : هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات : 35 ، 36] في موقف آخر من مواقفه كما أن قوله تعالى : يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها [النحل : 111] في آخر منها ، وروي هذا عن الحسن.
وقد ذكر غير واحد أن المأذون فيه الأجوبة الحقة والممنوع منه الأعذار بالباطلة ، نعم قد يؤذن فيها أيضا لإظهار بطلانها كما في قول الكفرة : وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام : 23] ونظائره ، والقول بأن هذا ليس من قبيل الأعذار وإنما هو إسناد الذنب إلى كبرائهم وأنهم أضلوهم ليس بشيء كما لا يخفى ، وفي الدرر والغرر للسيد المرتضى أن بين قوله سبحانه : يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ وقوله سبحانه : هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ وكذا قوله جل وعلا : وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات : 17] اختلافا بحسب الظاهر ، وأجاب قوم من المفسرين عن ذلك بأن يوم القيامة يوم طويل ممتد فيجوز أن يمنعوا النطق في بعضه ويؤذن لهم في بعض آخر منه ، ويضعف هذا الجواب أن الإشارة إلى يوم القيامة بطوله فكيف يجوز أن تكون الآيات فيه مختلفة ، وعلى ما ذكروه يكون معنى هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ هذا يوم لا ينطقون في بعضه وهو خلاف الظاهر ، والجواب السديد عن ذلك أن يقال : إنما أريد نفي النطق المسموع المقبول الذي ينتفعون به ويكون لهم في مثله إقامة حجة وخلاص لا نفي النطق مطلقا بحيث يعم ما ليس له هذه الحالة ، ويجري هذا المجرى قولهم : خرس فلان عن حجته وحضرنا فلانا يناظر فلانا فلم نره قال شيئا وإن كان الذي وصف بالخرس والذي نفي عنه القول قد تكلم بكلام كثير إلا أنه من حيث لم يكن فيه حجة ولم يتضمن منفعة جاز إطلاق ما حكيناه عليه ، ومثله قول الشاعر :
أعمى إذا ما جارتي خرجت حتى يواري جارتي الخدر
ويصم عما كان بينهما سمعي وما بي غيره وقر
وعلى هذا فلا اختلاف لأن التساؤل والتلاؤم مثلا لا حجة فيه ، وأما قوله سبحانه : وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ فقد قيل فيه : إنهم غير مأمورين بالاعتذار فكيف يعتذرون ، ويحمل الإذن على الأمر وإنما لم يؤمروا به لأن تلك الحالة لا تكليف فيها والعباد ملجؤون عند مشاهدة الأهوال إلى الاعتراف والإقرار ، وأحسن من هذا أن يحمل يُؤْذَنُ لَهُمْ أنه لا يسمع لهم ولا يقبل عذرهم انتهى.
وأنت تعلم أن تضعيفه لما أجاب به القوم من امتداد يوم القيامة وجواز كون المنع من النطق في بعض منه والإذن في بعض آخر ليس بمرتضى عند ذي الفكر الرضي لظهور صحة وقوع الزمان الممتد ظرفا للنقيضين فيما إذا لم يقتض كل منهما أو أحدهما جميع ذلك الزمان ، وقد شاع دفع التناقض بين الكلامين بمثل ما فعلوا ومرجعه إلى القول باختلاف الزمان كما أن مرجع ما روي عن الحسن إلى القول باختلاف المكان ، واتحاد الزمان والمكان من شروط

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 335
تناقض القضيتين وليس هذا الذي فعلوه بأبعد مما فعله المرتضى على أن في كلامه بعد ما لا يخفى.
وقال بعض الفضلاء : لا منافاة بين هذه الآية والآيات التي تدل على التكلم يوم القيامة لأن المراد من يوم يأتي حين يأتي ، والقضية المشتملة على ذلك وقتية حكم فيها بسلب المحمول عن جميع أفراد الموضوع في وقت معين وهذا لا ينافي ثبوت المحمول للموضوع في غير ذلك الوقت ، وقال ابن عطية : لا بد من أحد أمرين : إما أن يقال : إن ما جاء في الآيات من التلاوم والتساؤل والتجادل ونحو ذلك مما هو صريح في التكلم كان عن إذن ، وإما أن يحمل التكلم هنا على تكلم شفاعة أو إقامة حجة وكلا القولين كما ترى ، والاستثناء قيل : من أعم الأسباب أي لا تكلم نفس بسبب من الأسباب إلا بسبب إذنه تعالى وهو متصل ، وجوز أن يكون منقطعا ويقدر ما لا يتناول المستثنى أي لا تكلم نفس باقتدار من عندها إلا بإذنه تعالى ، ولا يخفى أن هذا استثناء مفرغ ، وقد طرق سمعك ما هو الأصح فيه ، وقرىء كما في المصاحف لابن الأنباري - يوم يأتون لا تكلم دابة إلا بإذنه - فَمِنْهُمْ أي أهل الموقف المدلول عليه بقوله سبحانه : لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ أو الجميع الذي تضمنه نَفْسٌ إذ هو اسم جنس أريد به الجميع على ما نقله أبو حيان عن ابن عطية ، أو الناس المذكور في قوله سبحانه : مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ ونقل ابن الأنباري أن الضمير لأمة محمد صلّى اللّه عليه وسلم وهو من الغرابة بمكان وكأنه قصد هذا القائل بذلك تمهيدا لتوجيه الاستثناء الآتي وهو وللّه الحمد غني عن ذلك ، والظاهر أن من للتبعيض والجار والمجرور خبر مقدم ، وقوله سبحانه : شَقِيٌّ مبتدأ ، وقوله تعالى : وَسَعِيدٌ بتقدير ومنهم سعيد ، وحذف منهم لدلالة الأول عليه ، والسعادة على ما قال الراغب : معاونة الأمور الإلهية للإنسان على نيل الخير ويضادها الشقاوة ، وفسر في البحر الشقاوة بنكد العيش وسوئه ، ثم قال : والسعادة ضدها ، وفي القاموس ما يقرب من ذلك ، فالشقي والسعيد هما المتصفان بما ذكر ، وفسر غير واحد الأول
بمن استحق النار بمقتضى الوعيد والثاني بمن استحق الجنة بموجب الوعد ، وهذا هو المتعارف بين الشرعيين ، وتقديم الشقي على السعيد لأن المقام مقام الإنذار والتحذير فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا أي سبقت لهم الشقاوة فَفِي النَّارِ أي مستقرون فيها لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ قال أهل اللغة من الكوفية والبصرية : الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمار والشهيق بمنزلة آخر نهيقه ، قال رؤبة :
حشرج في الصدر صهيلا أو شهق حتى يقال ناهق وما نهق
وقال ابن فارس : الزفير إخراج النفس والشهيق رده ، قال الشماخ في حمار وحش :
بعيد مدى التطريب أول صوته زفير ويتلوه شهيق محشرج
وقال الراغب : الزفير ترديد النفس حتى تنتفخ الضلوع منه من زفر فلان إذا حمل حملا بمشقة فتردد فيه نفسه ، ومنه قيل : للإماء الحاملات الماء : زوافر والشهيق طول الزفير وهو رد النفس ، والزفير مدة ، وأصله من جبل شاهق أي متناه في الطول.
وعن السائب أن الزفير للحمير والشهيق للبغال وهو غريب ، ويراد بهما الدلالة على كربهم وغمهم وتشبيه حالهم بحال من استولت على قلبه الحرارة وانحصر فيه روحه ، أو تشبيه أصواتهم بأصوات الحمير ففي الكلام استعارة تمثيلية أو استعارة مصرحة ، والمأثور عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : يريد ندامة ونفسا عاليا وبكاء لا ينقطع ، وقرأ الحسن «شقوا» بضم الشين فاستعمل متعديا لأنه يقال : شقاه اللّه تعالى كما يقال أشقاه ، وجملة لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ إلخ مستأنفة كأن سائلا قال : ما شأنهم فيها؟ فقيل لهم فيها كذا وكذا ، وجوّز أن تكون منصوبة المحل على الحالية من النار أو من الضمير في الجار والمجرور كقوله عز وجل : خالِدِينَ فِيها خلا أنه إن أريد حدوث كونهم في النار فالحال مقدرة ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أي مدة دوامهما ، وهذا عبارة عن التأبيد ونفي الانقطاع

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 336
على منهاج قول العرب : لا أفعل كذا ما لاح كوكب وما أضاء الفجر وما اختلف الليل والنهار وما بل بحر صوفة وما تغنت حمامة إلى غير ذلك من كلمات التأييد عندهم لا تعليق قرارهم فيها بدوام هذه السماوات والأرض ، فأن النصوص القاطعة دالة على تأبيد قرارهم فيها وانقطاع دوامهما ، وروي هذا عن ابن جرير ، وجوز أن يحمل ذلك على التعليق والمراد بالسماوات والأرض سماوات الآخرة وأرضها ، وهي دائمة للأبد ، قال الزمخشري : والدليل على أن لها سماوات وأرضا قوله سبحانه : يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ [إبراهيم : 48] وقوله سبحانه : وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ [الزمر : 74] ولأنه لا بد لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم إما سماء يخلقها اللّه تعالى أو يظلهم العرش ، وكل ما أظلك فهو سماء انتهى.
قال القاضي : وفيه نظر لأنه تشبيه بما لا يعرف أكثر الخلق وجوده ودوامه ومن عرفه فإنما عرفه بما يدل على دوام الثواب والعقاب فلا يجدي له التشبيه وأجاب عنه صاحب الكشف بأنه إذا أريد ما يظلهم وما يقلهم فهو ظاهر السقوط لأن هذا القدر معلوم الوجود لكل عاقل وأما الدوام فليس مستفادا من دليل دوام الثواب والعقاب بل مما يدل على دوام الجنة والنار سواء عرف أنهما دار الثواب والعقاب وأن أهلهما السعداء والأشقياء من الناس أولا على أنه ليس من تشبيه ما يعرف بما لا يعرف بل العكس انتهى ، وتعقبه الجلبي بأن قوله : لكل عاقل غير صحيح فإنه لا يعترف بذلك إلا المؤمنون بالآخرة ، وقوله : الدوام مستفاد مما يدل على دوام الجنة والنار لا يدفع ما ذكره القاضي لأنه يريد أن المشبه به ليس أعرف من المشبه لا عند المتدين لأنه يعرف كليهما من قبل الأنبياء عليهم السلام وليس فيه ما يوجب أعرفية دوام سماوات الآخرة وأرضها وليس مراده أن دوامهما مستفاد من خصوص الدليل الدال على الثواب والعقاب بعينه فإنه لا يهمه ليمنع ولا عند غير المتدين فإنه لا يعترف به ولا بها ولا يعرفه ، وقوله : على أنه ليس من تشبيه إلخ مبني على أنه تشبيه تلك الدار بهذه الدار وليس بذلك ، وإنما المراد التشبيه الضمني لدوامهم بدوامهما انتهى ، وفيه بحث.
والحق أن صحة إرادة ذلك مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان ، وفي الأخبار عن ابن عباس والحسن والسدي وغيرهم ما يقتضيه ، ومن تأمل منصفا بعد تسليم أن هناك تشبيها يظهر له أن المشبه به أعرف من المشبه وأقرب إلى الذهن ، واتحاد طريق العلم بهما لا يضر في ذلك شيئا بداهة أن ثبوت الحيز أعرف وأقرب إلى الذهن من ثبوت ما تحيز فيه وإن وردا من طرق السمع كما لا يخفى على أن اشتراط كون المشبه به أعرف وأقرب إلى الذهن من ثبوت ما تحيز فيه وإن وردا من طرق السمع كما لا يخفى على أن اشتراط كون المشبه به أعرف في كل تشبيه غير مسلم عند الناظر في المعاني ، نعم المتبادر من السموات والأرض هذه الأجرام المعهودة عندنا ، فالأولى أن تبقى على ظاهرها ويجعل الكلام خارجا مخرج ما اعتادته العرب في محاوراتهم عند إرادة التبعيد والتأبيد ، وهو أكثر من أن يحصى ، ولعل هذا أولى أيضا مما في تفسير ابن كثير من حمل السموات والأرض على الجنس الشامل لما في الدنيا والآخرة أي المظل والمقل في كل دار ، وفي الدرر أنه يمكن أن يكون المراد أنهم خالدون بمقدار مدة بقاء السموات والأرض التي يعلم انقطاعها ثم يزيدهم سبحانه على ذلك ويخلدهم ويؤبد مقامهم ، ولعله أراد مدة بقائهما منذ خلقهما اللّه تعالى إلى أن يبدلهما لا مدة بقائهما بعد دخولهم النار يوم القيامة لأنهما يبدلان قبل دخولهم ، والآية على هذا من قبيل قوله سبحانه : لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً [النبأ : 23] إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ قيل : هو استثناء من الضمير المستكن في خالِدِينَ وتكون ما واقعة على نوع من يعقل كما في قوله سبحانه : فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء : 3] أو واقعة على من يعقل على مذهب من يرى وقوعها عليه مطلقا.
والمراد بمن شاء فساق الموحدين فإنهم يخرجون منها كما نطقت به الأخبار ، وذلك كاف في صحة الاستثناء لأن زوال الحكم عن الكل يكفيه زواله عن البعض وهم المراد بالاستثناء الثاني فإنهم مفارقون عن الجنة أيام عذابهم ،

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 337
والتأبيد من مبدأ معين ينتقض باعتبار الابتداء كما ينتقض باعتبار الانتهاء ، ألا ترى أنك إذا قلت مكثت يوم الخميس في البستان إلا ثلاث ساعات جاز أن يكون ذلك الزمان الواقع فيه عدم المكث من أوله ومن آخره ، وهؤلاء وإن شقوا بعصيانهم فقد سعدوا بإيمانهم ، ولا يقال : فعلى هذا لا يكون قوله سبحانه : فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ تقسيما صحيحا لأن من شرطه أن تكون صفة كل قسم منفية عن قسيمه لأن ذلك الشرط حيث الانفصال حقيقي أو مانع من الجمع ، وهاهنا المراد أن أهل الموقف لا يخرجون من القسمين وأن حالهم لا تخلو عن السعادة والشقاوة ، وذلك لا يمنع اجتماع الأمرين في شخص واحد باعتبارين انتهى ، وهو ما ذكره الإمام وآثره القاضي ، واعترض بأنه لا دلالة في اللفظ على المبدأ المعين ولو سلم فالاستثناء يقتضي إخراجا عن حكم الخلود وهو لا محالة بعد الدخول ، فكيف ينتقض بما سبق عليه؟ كيف وقد سبق قوله تعالى : في الجنة؟ ثم قيل : فإن قلت : زمان تفرقهم عن الموقف هو الابتداء وهو آخر يوم يأتي قلت : إن ادعى أن الابتداء من ابتداء ذلك الزمان جاز أن يسلم دلالة اللفظ عليه ولا ينفع لأن الكل في الدارين غير خالدين على هذا التقدير ، وأما جعل ابتداء المدة من انتهائه فلا ، وبأن تقابل الحكمين يدل على تقابل القسمين بمعنى منع الجمع مطلقا وأجيب - بعد غمض العين عما في ذلك من الخروج عن آداب المناظرة - بأن مبدأ زمان خلود أهل الجنة من زمان دخول أهل النار في النار ، ويدل على ذلك اتحاد معيار الخلودين ، وهو ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ فإنه يدل على زمان خلودهما ولا اتحاد مع
الاختلاف في المبدأ ، والاستثناء عن حكم الخلود من مبدأ معين يكون بالإخراج عن حكم الدخول الذي يتضمنه الخلود فيها لا محالة.
وخلاصة المعنى على هذا أن السعداء كلهم خالدون في الجنة من زمان دخول أهل النار في النار إلا العصاة منهم الذين أراد اللّه سبحانه دخولهم في النار مدة معينة علمها عنده جل وعلا ، وما ذكر من حديث تقابل الحكمين إن أريد تقابلهما بمعنى منع الجمع فلا تقابل فيهما بهذا المعنى لاجتماعهما في العصاة ، وإن أريد مطلقا فلا دلالة على تقابل القسمين بذلك المعنى انتهى.
ولا يخفى على المنصف ما في ذلك القول من التكلف ومخالفة الظاهر والانتصار له بما ذكر لا يجديه نفعا ، وقيل : هو استثناء من الضمير المتقدم إلا أن الحكم الخلود في عذاب النار ، وكذا يقال فيما بعد : إن الحكم فيه الخلود في نعيم الجنة وأهل النار ينقلون منها إلى الزمهرير وغيره من العذاب أحيانا وكذلك أهل الجنة ينعمون بما هو أعلى منها كالاتصال بجناب القدس والفوز برضوان اللّه تعالى الذي هو أكبر وما يتفضل به عليهم سوى ثواب الجنة مما لا يعرف كنهه إلا هو سبحانه وتعالى ، وإلى هذا ذهب الزمخشري سالا سيف البغي والاعتزال ، وقد رده العلامة الطيبي وأطال الكلام في ذلك.
وقال صاحب الكشف : إن ذلك في أهل النار ظاهر لأنهم ينقلون من حر النار إلى برد الزمهرير ، والرد بأن النار عبارة عن دار العقاب غير وارد لأنا لا ننكر استعمال النار فيها تغليبا أما دعوى الغلبة حتى يهجر الأصل فكلا ، ألا ترى إلى قوله تعالى : ناراً تَلَظَّى [الليل : 14] ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [التحريم : 6]؟ وكم وكم ، وأما رضوان اللّه تعالى عن أهل الجنة وهم فيها فيأبى الاستثناء كيف وقوله سبحانه : خالِدِينَ فِيها لا يدل بظاهره على أنهم منعمون بها فضلا عن انفرادها بتنعمهم إلا أن يخصص بجنة الثواب لا محض التفضل ، وكفاه بطلانا التخصيص من غير دليل ، واعترض بأن لك أن تقول : هجر الأصل في الآيتين اللتين ذكرتا علم من الوصف ، وفي هذه الآية ذكرها في مقابلة الجنة يعضد أن المراد بها دار العقاب مطلقا.
وقيل : إن الاستثناء مفرغ من أعم الأوقات وما على أصلها لما لا يعقل وهو الزمان والحكم الكون في

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 338
النار ، والمعنى أما الذين شقوا ففي النار في كل زمان بعد إتيان ذلك اليوم إلا زمانا شاء اللّه تعالى فيه عدم كونهم فيها وهو زمان موقف الحساب ، واعترض بأن عصاة المؤمنين الداخلين النار إما سعداء فيلزم أن يخلدوا في الجنة فيما سوى الزمان المستثنى وليس كذلك. أو أشقياء فيلزم أن يخلدوا في النار وهو خلاف مذهب أهل السنة ، وأيضا تأخره عن الحال - ولا مدخل لها في الاستثناء - لا يفصح ، والإبهام بقوله سبحانه : إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ والتفخيم الذي يعطيه لا يبقى له رونق ، وأجيب بأنه قد يقال : إن القائل بذلك يخص الأشقياء بالكفار والسعداء بالأتقياء ويكون العصاة مسكوتا عنهم هنا فلا يرد عليه شيء إن كان سنيا وإن كان معتزليا فقد وافق سنن طبعه ، ويجاب عما بعد بالمنع ، وقيل :
أمر الاستثناء ما علمت إلا أن المستثنى مدة لبثهم في الدنيا أو البرزخ ويقطع النظر عن يَوْمَ يَأْتِ والمعنى أنهم في النار جميع أزمان وجودهم إلا زمانا شاء اللّه تعالى لبثهم في الدنيا أو البرزخ ، والمراد مع زمان الموقف إذ ليسوا في زمانه أيضا في النار إلا أن يراد بالنار العذاب فلا يحتاج للمعية لكن يرد أنهم معذبون في البرزخ أيضا إلا أن يقال : لا يعتد بذلك لأنه عذاب غير تام لعدم تمام حياتهم فيه ، وأورد عليه ما أورد على ما قبله ، وأجيب بأنه إنما يرد لو كان المستثنى في الاستثناء الثاني هو ذلك الزمان المستثنى في الاستثناء الأول وهو غير مسلم فليكن المستثنى منه زمان لبثهم في النار مع ذلك الزمان المستثنى في الآية الأولى فإن المستثنى ليس فيه ما يدل على تعيين زمان حتى لا يمكن الزيادة عليه وهو كما ترى.
وقيل : هو استثناء من قوله سبحانه : لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ورد بأن المقابل لا يجري فيه هذا ويبقى الإشكال ، وأجيب بأن المراد ذكر ما تحتمله الآية والاطراد ليس بلازم ، وتعقب بأنه ليس المراد إلا بيان ضعف هذا الوجه وكفى بعدم الاطراد ضعفا ، وقيل : إِلَّا بمعنى سوى كقولك : لك عليّ ألفان إلا الألف التي كانت يعني سواها ، ونقل ذلك عن الزجاج والفراء والسجاوندي ، والمعنى سوى ما شاء ربك من الزيادة التي لا آخر لها على مدة بقاء السموات والأرض ، والاستثناء في ذلك منقطع ، ويحتمل أن يريدوا أن إِلَّا بمعنى غير صفة لما قبلها والمعنى يخلدون فيها مقدار مدة السموات والأرض سوى ما شاء اللّه تعالى مما لا يتناهى ، وضعف هذا القيل بأنه يلزم حمل السموات والأرض على هذين الجسمين المعروفين من غير نظر إلى معنى التأبيد وهو فاسد ، وقيل : إِلَّا بمعنى الواو أي وما شاء ربك زائدا على ذلك ، واستشهد على مجيئها بمعنى الواو بقوله :
وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك «إلا» الفرقدان
وفيه أن هذا قول مردود عند النحاة ، وقال العلامة الطيبي : الحق الذي لا محيد عنه أن يحمل ما على من لإرادة الوصفية وهي المرحومية ، وخالِدِينَ حال مقدرة من ضمير الاستقرار أي في النار ، والمعنى وأما الذين شقوا ففي النار مقدرين الخلود إلا المرحوم الذي شاء اللّه تعالى أن لا يستقر مخلدا فيفيد أن لا يستقر فيها مطلقا أو يستقر غير مخلد ، وأحوال العصاة على هذا النهج كما علم من النصوص ، وفي ذلك إيذان بأن إخراجهم بمحض رحمة اللّه تعالى فينطبق عليه قوله سبحانه : إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ وتعقب بأنه لا يجري في المقابل إلا بتأويل الإمام وقد مر ما فيه ، أو بجعله من أصل الحكم ويقتضي أن لا يدخلوا أصلا ، وإذا أول بمقدرين فلو جعل استثناء من مقدرين لم يتجه ، ومن قوله تعالى : فَفِي النَّارِ فلا يكون لهم دخول أصلا ، ودلالة «ما» لإبهامها إما على التفخيم أو التحقير ولا يطابق المقام ، وقيل : وقيل ، والأوجه أن يقال : إن الاستثناء في الموضعين مبني على الفرض والتقدير فمعنى إلا ما شاء أي لو فرض أن اللّه تعالى شاء إخراجهم من النار أو الجنة في زمان لكان مستثنى من مدة خلودهم لكن ذلك لا يقع لدلالة القواطع على عدم وقوعه ، وهذا كما قال الطيبي من أسلوب حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الأعراف :

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 339
40] ولا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان : 56] وذكر أنه وقف على نص من قبل الزجاج يوافق ذلك.
وفي المعالم عن الفراء أيضا ما يوافقه حيث نقل عنه أنه قال : هذا استثناء استثناء سبحانه ولا يفعله كقولك : واللّه لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك وعزيمتك أن تضربه ، وحذو القذة بالقذة ما نقله قبل عن بعضهم أن المعنى لو شاء لأخرجهم لكنه لا يشاء لأنه سبحانه حكم لهم بالخلود.
وفي البحر عن ابن عطية نقلا عن بعض ما هو بمعناه أيضا حيث قال : وأما قوله تعالى : إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ فقيل فيه : إنه على طريق الاستثناء الذي ندب الشرع إلى استعماله في كل كلام فهو على نحو قوله جل وعلا :
لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح : 27] استثناء في واجب ، وهذا الاستثناء في حكم الشرط كأنه قيل : إن شاء ربك فليس يحتاج أن يوصف بمتصل ولا منقطع ، وممن ذهب إلى ذلك أيضا الفاضل ميرزا جان الشيرازي في تعليقاته على تفسير القاضي ونص على أنه من قبيل التعليق بالمحال حتى يثبت محالية المعلق ويكون كدعوى الشيء مع بينة ، وهو أحد الأوجه التي ذكرها السيد المرتضى في درره ، وتفسير الاستثناء الأول بالشرط أخرجه ابن مردويه عن جابر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كما ذكر ذلك الجلال السيوطي في الدر المنثور ، ولعل النكتة في هذا الاستثناء على ما قيل : إرشاد العباد إلى تفويض الأمور إليه جل شأنه وإعلامهم بأنها منوطة بمشيئته جل وعلا يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا حق لأحد عليه ولا يجب عليه شيء كما قال تبارك وتعالى : إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ.
وذكر بعض الأفاضل أن فائدته دفع توهم كون الخلود أمرا واجبا عليه تعالى لا يمكن له سبحانه نقضه كما ذهب إليه المعتزلة حيث أخبر به جل وعلا مؤكدا ، والمراد - بالذين شقوا - على هذا الوجه الكفار فقط فإنهم الأحقاء بهذا الاسم على الحقيقة - وبالذين سعدوا - المؤمنون كافة مطيعهم وعاصيهم فيكون التقسيم في قوله سبحانه :
فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ للانفصال الحقيقي ولا ينافيه قوله تعالى : فَفِي الْجَنَّةِ لأنه يصدق بالدخول في الجملة.
وفي الكشف بعد نقل أن الاستثناء من باب حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فإن قلت : فقد حصل مغزى الزمخشري من خلود الفساق ، قلت : لا كذلك لأنهم داخلون في السعداء ، والآية تقتضي خلود السعيد وذلك بعد دخوله فيها لا محالة ، ولا تنفي كينونته في النار قبل دخوله في الجنة فإن اللفظ لا يقتضي أن يدخلوا - أعني السعداء - كلهم في الجنة معا كيف والقاطع يدل على دخولهم أولا فأولا على حسب مراتبهم انتهى فتأمل ، فإن الآية من المعضلات.
وإنما لم يضمر في إِنَّ رَبَّكَ إلخ كما هو الظاهر لتربية المهابة وزيادة التقرير ، واللام في لِما قيل :
للتقوية أي فعال ما يريده سبحانه لا يتعاصى عليه شيء بوجه من الوجوه.
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ الكلام فيه ما علمت خلا أنه لم يذكر هاهنا أن لهم بهجة وسرورا كما ذكر في أهل النار لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ لأن المقام مقام التحذير والإنذار ، وسُعِدُوا بالبناء للمفعول قراءة حمزة والكسائي وحفص ونسبت إلى ابن مسعود وطلحة بن مصرف وابن وثاب والأعمش ، وقرأ جمهور السبعة «سعدوا» بالبناء للفاعل ، واختار ذلك على ابن سليمان ، وكان يقول :
عجبا من الكسائي كيف قرأ «سعدوا» مع علمه بالعربية ، وهذا عجيب منه فإنه ما قرأ إلا ما صح عنده ولم يقرأ بالرأي ولم يتفرد بذلك ، وروي عنه أنه احتج لذلك بقولهم : مسعود ، وتعقب بأنه لا حجة فيه لاحتمال أنه كان مسعود فيه ، وذكر أن الفراء حكى أن هذيلا تقول : سعده اللّه تعالى بمعنى أسعده ، وقال الجوهري : سعد بالكسر فهو سعيد مثل

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 340
قولهم : سلم فهو سليم ، وسعد فهو مسعود ، وقال أبو نصر عبد الرحيم القشيري : ورد سعده اللّه تعالى فهو مسعود.
وأسعده اللّه تعالى فهو مسعد ، وما ألطف الإشارة في - شقوا وسعدوا - على قراءة البناء للفاعل في الأول والبناء للمفعول في الثاني ، فمن وجد ذلك فليحمد اللّه تعالى. ومن لم يجد فلا يلومنّ إلا نفسه عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ أي غير مقطوع عنهم ولا مخترم ، ومصدره الجذ ، وقد جاء جذذت. وجددت بالذال المعجمة والدال كما قال ابن قتيبة ، وبالمعجمة أكثر ، ونصب عَطاءً على المصدرية من معنى الجملة لأن قوله سبحانه : فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها يقتضي إعطاء وإنعاما فكأنهم قيل : يعطيهم إعطاء وهو إما اسم مصدر هو الإعطاء. أو مصدر بحذف الزوائد كقوله تعالى : أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح : 17] ، وقيل : هو نصب على الحالية من المفعول المقدر للمشيئة.
أو تمييز ، فإن نسبة مشيئة الخروج إلى اللّه تعالى تحتمل أن تكون على جهة عطاء مجذوذ ، وعلى جهة عطاء غير مجذوذ فهو رافع للإبهام عن النسبة ، ولعل النصب على المصدرية أولى وكأنه جيء بذلك اعتناء ومبالغة في التأبيد ودفعا لما يتوهم من ظاهر الاستثناء من الانقطاع ، وقيل : إن ذلك لبيان أن ثواب أهل الجنة - وهو إما نفس الدخول أو ما هو كاللازم البين له - لا ينقطع فيعلم منه أن الاستثناء ليس للدلالة على الانقطاع كما في العقاب بل للدلالة على ترادف نعم ورضوان من اللّه تعالى أو لبيان النقص من جانب المبدأ ولهذا فرق في النظم بين التأبيد من حيث تمم الأول بقوله سبحانه : إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ للدلالة على أنه ينعم بعض من يعذبه ويبقى غيره كما يشاء ويختار والثاني بقوله تعالى : عَطاءً إلخ بيانا لأن إحسانه لا ينقطع ، ومن الناس من تمسك بصدر الآية أنه لا يبقى في النار أحد ولم يقل بذلك في الجنة ، وتقوى مطلبه ذاك بما أخرجه ابن المنذر عن الحسن قال : قال عمر : لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه ، وبما أخرج إسحاق بن راهويه عن أبي هريرة قال : سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد ، وقرأ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا الآية ، وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن إبراهيم قال : ما في القرآن آية أرجى لأهل النار من هذه الآية خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ قال : وقال ابن مسعود : ليأتين عليها زمان تصفق فيه أبوابها ، وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال : جهنم أسرع الدارين عمرانا وأسرعهما خرابا إلى غير ذلك من الآثار.
وقد نص ابن الجوزي على وضع بعضها كخبر عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص يأتي على جهنم يوم ما فيها من ابن آدم أحد تصفق أبوابها كأنها أبواب الموحدين ، وأول البعض بعضها ومر شيء من الكلام في ذلك ، وأنت تعلم أن خلود الكفار مما أجمع عليه المسلمون ولا عبرة بالمخالف ، والقواطع أكثر من أن تحصى ، ولا يقاوم واحدا منها كثير من هذه الأخبار ، ولا دليل في الآية على ما يقوله المخالف لما علمته من الوجوه فيها ولا حاجة إلى دعوى النسخ فيها كما روي عن السدي بل لا يكاد يصح القول بالنسخ في مثل ذلك ، هذا وقد ذكر أن في الآية صيغة الجمع مع التفريق والتقسيم أما الجمع ففي قوله تعالى : يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فإن النفس كما تقرر عامة لكونها نكرة في سياق النفي ، وأما التفريق ففي قوله تعالى : فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ وأما التقسيم ففي قوله سبحانه : فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا إلخ ونظيرها في ذلك قول الشريف القيرواني :
لمختلفي الحاجات جمع ببابه فهذا له فن وهذا له فن
فللخامل العليا وللمعدم الغنى وللمذنب العتبى وللخائف الأمن
ومن هنا يعلم حال الفاءين فاء فَمِنْهُمْ وفاء فَأَمَّا إلخ ، قيل : وفي العدول عن فأما الشقي ففي النار خالدا فيها إلخ. وأما السعيد - أو المسعود - ففي الجنة خالدا فيها إلخ إلى ما في النظم الجليل إشارة إلى سبق هذه الشقاوة

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 341
والسعادة وأن ذلك أمر قد فرغ منه كما يدل عليه ما
أخرجه أحمد والترمذي والنسائي عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما قال : خرج علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وفي يده كتابان فقال : «أتدرون ما هذان الكتابان؟ قلنا : لا يا رسول اللّه أما تخبرنا؟ فقال للذي في يده اليمنى : هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وآبائهم وقبائلهم ثم أجملهم على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا ، ثم قال للذي في شماله : هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وآبائهم وقبائلهم ثم أجملهم على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا ، فقال أصحابه : ففيم العمل يا رسول اللّه إن كان أمر قد فرغ منه؟ فقال : سدّدوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل ، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل ، ثم قال صلّى اللّه عليه وسلم بيده فنبذهما وقال : فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير»
وجاء في حديث «الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه»
وحمل ذلك بعضهم على ظهور الأمر للملك الموكل بالنطفة وإلا فالأمر قبل ذلك ، وبعضهم فسر الأم بالثبوت العلمي الذي يظهر المعلوم منه إلى هذا الوجود الخارجي وهو ضرب من التأويل كما لا يخفى ، ولا يأبى هذه الإشارة عند التأمل ما
أخرجه الترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن مردويه وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه قال : «لما نزلت فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ قلت : يا رسول اللّه فعلام نعمل على شيء قد فرغ منه ، أو على شيء لم يفرغ منه؟ قال : بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر ولكن كل ميسر لما خلق له» ،
وقيل : كان الظاهر هنا التعبير بالمضارع إلا أنه عبر بالماضي إشارة إلى تحقق الوقوع وأتى بالموصول جمعا إيذانا بأن المراد - بشقي وسعيد - فريق شقي ، وفريق سعيد ، ولم يقل أشقياء وسعداء لأن الإفراد أوفق بما قبل ، وقيل : الإفراد أولا للإشارة إلى أن كل فريق من حيث اتصافه بالشقاوة أو السعادة كشيء واحد ، وجمع ثانيا لما أن دخول كل فريق في الجنة والنار ليس جملة واحدة بل جمعا جمعا وزمرة زمرة وله شواهد من الكتاب والسنة فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ أي في شك ، والفاء لترتيب النهي على ما قص من القصص وبين في تضاعيفها من العواقب الدنيوية والأخروية أي فلا تك في شك بعد أن بين لك ما بين مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ أي من عبادة هؤلاء المشركين في أنها ضلال مؤد إلى مثل ما حل بمن قبلهم ممن قصصت عليك سوء عاقبة عبادتهم - فمن - ابتدائية ، وجوز أن تكون بمعنى في ، و«ما» مصدرية ، وجوز أن تكون موصولة وفي الكلام مضاف محذوف أي من حال ما يعبدونه من أنه لا يضر ولا ينفع إذ لا معنى للمرية في أنفسهم ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ استئناف بياني وقع تعليلا في المعنى للنهي عن المرية ، والاستثناء إما من مصدر مقدر أو مفعول محذوف أي هم وآباؤهم سواء في الشرك ما يعبدون عبادة إلا كعبادة آبائهم. أو ما يعبدون شيئا إلا مثل الذي عبدوه من الأوثان وقد بلغك ما لحق آباؤهم بسبب ذلك فيلحقهم مثله لأن التماثل في الأسباب يقتضي التماثل في المسببات ، ومعنى كَما يَعْبُدُ كما كان عبد فحذف لدلالة قَبْلُ عليه ، وكأن اختيار هذا للإشارة إلى أن ذلك كان عادة مستمرة لهم وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ يعني هؤلاء الكفرة نَصِيبَهُمْ حظهم من العذاب كما وفينا آباءهم حظوظهم.
أو من الرزق فيكون عذرا لتأخر العذاب عنهم مع قيام ما يوجبه ، وفي هذا من الإشارة إلى مزيد فضل اللّه تعالى وكرمه ما لا يخفى حيث لم يقطع رزقهم مع ما هم عليه من عبادة غيره ، وفي التعبير - بالنصيب - على الأول تهكم لأنه ما يطلب ويراد والعذاب بمعزل عن ذلك ، وتفسيره بما ذكر مروي عن ابن زيد ، و- بالرزق - عن أبي العالية ، وعن ابن عباس أن المراد به ما قدر من خير أو شر ، وقرأ ابن محيصن «لموفوهم» مخففا من أوفى غَيْرَ مَنْقُوصٍ حال مؤكدة من النصيب كقوله تعالى : ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التوبة : 25] وفائدته دفع توهم التجوز ، وإلى هذا ذهب العلامة الطيبي ، وقال : إنه الحق.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 342
وفي الكشاف أنه جيء بهذه الحال عن النصيب الموفى لأنه يجوز أن يوفى وهو ناقص ويوفى وهو كامل ألا تراك تقول : وفيته شطر حقه وثلث حقه وحقه كاملا وناقصا انتهى ، وتعقبه أبو حيان بأن هذه مغلطة لأنه إذا قيل : وفيته شطر حقه فالتوفية إنما وقعت في الشطر وكذا ثلث حقه ، والمعنى أعطيته الشطر أو الثلث كاملا لم أنقصه منه شيئا ، وأما قولك : وفيته حقه كاملا فالحال فيه مؤكدة لأن التوفية تقتضي الإكمال ، وأما قولك : وفيته حقه ناقصا فغير صحيح للمنافاة انتهى.
وقال ابن المنير : إنه وهم لأن التوفية تقتضي عدم نقصان الموفى كاملا كان أو بعضا فقولك : وفيته نصف حقه يستلزم عدم نقصان النصف الموفى ، فالسؤال عن وجه انتصاب هذه الحال قائم بعد ، والأوجه أن يقال : استعملت التوفية بمعنى الإعطاء كما استعمل التوفي بمعنى الأخذ ، ومن قال : أعطيت فلانا حقه كان جديرا أن يؤكده بقوله : غَيْرَ مَنْقُوصٍ انتهى. وفي الكشف أقول في تعليق التوفية بالنصف مع أن الكل حقه ما يدل على مطلوبه إذ لا فرق بين قولك : نصف حقه وحقه منصفا ، فجاز وفيته نصيبه منصفا ونصيبه ناقصا ، ويحسن فائدة التأكيد ويظهر أن الواهم من هو فتأمل وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة فَاخْتُلِفَ فِيهِ أي في شأن الكتاب وكونه من عند اللّه تعالى فآمن به قوم وكفر به آخرون فلا تبال باختلاف قومك فيما آتيناك من القرآن ، وقولهم : لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ [هود : 12] وزعمهم «إنك افتريته».
وجوز رجوع الضمير إلى موسى وهو خلاف الظاهر ، وإن كان الاختلاف فيه عليه السلام هل هو نبي أم لا؟
مستلزما للاختلاف في كتابه هل هو من اللّه تعالى أم لا ، وقيل : إن - في - على هذا الاحتمال بمعنى على أي فاختلف قومه عليه وتعنتوا كما فعل قومك معك وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ وهي كلمة القضاء بتأخير العذاب إلى الأجل المعلوم على حسب الحكمة الداعية إلى ذلك لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي لأوقع القضاء بين المختلفين من قومك بإنزال العذاب الذي يستحقه المبطلون ليتميزوا به عن المحقين ، وفي البحر إن الظاهر عود الضمير على قوم موسى ، قيل : وليس بذاك.
وقال ابن عطية : عوده على القومين أحسن عندي ، وتعقب بأن قوله سبحانه : وَإِنَّ كُلًّا إلخ ظاهر في التعميم بعد التخصيص وفيه نظر ، والأولى عندي الأول وَإِنَّهُمْ أي وإن كفار قومك أريد بالضمير بعض من رجع إليهم ضمير بينهم للأمن من الإلباس لَفِي شَكٍّ عظيم مِنْهُ أي من القرآن وإن لم يجر له ذكر فإن ذكر إيتاء كتاب موسى ووقوع الاختلاف فيه لا سيما بصدد التسلية يناديه نداء غير خفي.
وقيل : الضمير للوعيد المفهوم من الكلام مُرِيبٍ أي موقع في الريبة ، وجوز أن يكون من أراب إذا صار ذا ريبة وَإِنَّ كُلًّا التنوين عوض عن المضاف إليه كما هو المعروف في تنوين كل عند قوم من النحاة ، وقيل : إنه تنوين تمكين لكنه لا يمنع تقدير المضاف إليه أيضا أي وإن كل المختلفين المؤمنين والكافرين.
وقال مقاتل : يعني به كفار هذه الأمة لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ أي أجزية أعمالهم ، ولام لَيُوَفِّيَنَّهُمْ واقعة في جواب القسم أي واللّه ليوفينهم ، ولَمَّا بالتشديد وهو مع تشديد أن قراءة ابن عامر وحمزة وحفص وأبي جعفر ، وتخريج الآية على هذه القراءة مشكل حتى قال المبرد : إنها لحن وهو من الجسارة بمكان لتواتر القراءة وليته قال كما قال الكسائي : ما أدري ما وجه هذه القراءة ، واختلفوا في تخريجها فقال أبو عبيدة : إن أصل لَمَّا هذه لما منونا ، وقد قرىء كذلك ثم بني على فعلى وهو مأخوذ من لمته إذا جمعته ، ولا يقال : إنها «لما» المنونة وقف عليها بالألف ، وأجرى الوصل مجرى الموقف لأن ذلك على ما قال أبو حيان : إنما يكون في الشعر واستبعد هذا التخريج بأنه

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 343
لا يعرف بناء فعلي من لمّ ، وبأنه يلزم لمن أمال فعلى أن يميلها ولم يملها أحد بالإجماع وبأنه كان القياس أن تكتب بالياء ولم تكتب بها ، وسيعلم إعراب الآية على هذا مما سيأتي إن شاء اللّه تعالى.
وقيل : لَمَّا المخففة وشددت في الوقف ثم أجرى الوصل مجرى الوقف وحينئذ فالإعراب ما ستعرفه أيضا إن شاء اللّه تعالى وهو بعيد جدا ، وقيل : إنها بمعنى إلا ، وإلا تقع زائدة كما في قوله :
حلفت يمينا غير ذي مثنوية يمين امرئ إلا بها غير آثم
فلا يبعد أن لَمَّا التي بمعناها زائدة وهو وجه ضعيف مبني على وجه ضعيف في إلا ، وعن المازني أن أن المشددة هنا نافية ، ولَمَّا بمعنى إلا غير زائدة وهو باطل لأنه لم يعهد تثقيل أن النافية ، ولنصب - كل - والنافية لا تنصب ، وقال الحوفي : إِنَّ على ظاهرها ، ولَمَّا بمعنى إلا كما في قولك : نشدتك باللّه إلا فعلت ، وضعفه أبو علي بأن لَمَّا هذه لا تفارق القسم قبلها وليس كما ذكر فقد تفارق وإنما يضعف ذلك بل يبطله كما قال أبو حيان : إن الموضع ليس موضع دخول إلا ألا ترى أنك لو قلت : إن زيدا إلا ضربت لم يكن تركيبا عربيا وقيل : إن لَمَّا هذه أصلها لمن ما فهي مركبة من اللام ومن الموصولة أو الموصوفة وما الزائدة فقلبت النون ميما للإدغام فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت الوسطى منها ثم أدغم المثلان ، وإلى هذا ذهب المهدوي ، وقال الفراء وتبعه جماعة منهم نصر الشيرازي : إن أصلها لمن ما بمن الجارة وما الموصولة أو الموصوفة وهي على الاحتمالين واقعة على من يعقل فعمل بذلك نحو ما عمل على الوجه الذي قبله ، وقد جاء هذا الأصل في قوله :
وأنا لمن ما تضرب الكبش ضربة على رأسه تلقي اللسان من الفم
واللام على هذين الوجهين قيل : موطئة للقسم ، ونقل عن الفارسي - وهو مخالف لما اشتهر عن النحاة - من أن الموطئة هي الداخلة على شرط مقدم على جواب قسم تقدم لفظا أو تقديرا لتؤذن بأن الجواب له نحو واللّه لئن أكرمتني لأكرمتك وليس ما دخلت عليه جواب القسم بل ما يأتي بعدها وكان مذهبه كمذهب الأخفش أنه لا يجب دخولها على الشرط ، وإنما هي ما دلت على أن ما بعدها صالح لأن يكون جوابا للقسم مطلقا ، وقيل : إنها اللام الداخلة في خبر إن ، ومن موصولا أو موصوفا على الوجه الأول من الوجهين هو الخبر والقسم وجوابه صلة أو صفة ، والمعنى وإن كلا للذين أو الخلق واللّه ليوفينهم ربّك ، ومن ومجرورها على الوجه الثاني في موضع الخبر لأن ، والجملة القسمية وجوابها صلة أو صفة أيضا لكن لما ، والمعنى وإن كلا لمن الذين أو لمن خلق واللّه ليوفينهم ربك ، قال في البحر : وهذان الوجهان ضعيفان جدا ولم يعهد حذف نون من وكذا حذف نون من الجارة إلا في الشعر إذا لقيت لام التعريف أو شبهها غير المدغمة نحو قولهم : ملمال يريدون من المال ، وفي تفسير القاضي وغيره أن الأصل لمن ما بمن الجارة قلبت النون ميما فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت أولاهن ، وفيه أيضا ما فيه ، ففي المغني أن حذف هذه الميم استثقالا لم يثبت انتهى ، وقال الدماميني : كيف يستقيم تعليل الحذف بالاستثقال وقد اجتمعت في قوله تعالى :
عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ [هود : 48] ثماني ميمات انتهى ، وأنشد الفراء على ما ذهب إليه قول الشاعر :
وإني لما أصدر الأمر وجهه إذا هو أعيا بالسبيل مصادره
وزعم بعضهم أن لما بمعنى حين وفي الكلام حذف أي لما عملوا ما عملوا أو نحو ذلك والحذف في الكلام كثير نحو قوله :
إذا قلت : سيروا إن ليلى لعلها جرى دون ليلى مائل القرن أعضب
أراد لعلها تلقاني أو تصلني أو نحو ذلك وهو كما ترى ، وقال أبو حيان بعد أن ذكر أن هذه التخريجات مما

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 344
تنزه ساحة التنزيل عن مثلها : كنت قد ظهر لي وجه جار على قواعد العربية عار من التكلف وهو أن لَمَّا هذه هي الجازمة حذف فعلها المجزوم لدلالة المعنى عليه كما حذفوه في قولهم : قاربت المدينة ولما يريدون ولما أدخلها ، والتقدير هنا وإن كلّا لما ينقص من جزاء عمله ويدل عليه ليوفينهم ربك أعمالهم ، وكنت أعتقد أني ما سبقت إلى ذلك حتى تحققت أن ابن الحاجب وفق لذلك فرأيت في كتاب التحرير نقلا عنه أنه قال : لَمَّا هذه هي الجازمة حذف فعلها للدلالة عليه ، وقد ثبت الحذف في قولهم : خرجت ولما ، وسافرت ولما ونحوه ، وهو سائغ فصيح فيكون التقدير لما يتركوا أو لما يهملوا ويدل عليه تفصيل المجموعين ومجازاتهم ، ثم قال : وما أعرف وجها أشبه من هذا وإن كانت النفوس تستبعده من جهة أن مثله لم يقع في القرآن انتهى ، ولا يخفى عليك أن الأولى أن يقدر لما يوفوا أعمالهم أي إلى الآن لم يوفوها وسيوفونها ، وإلى ذلك ذهب ابن هشام لما يلزم على التقديرات السابقة على ما هو المشهور في معنى لما أنهم سينقصون من جزاء أعمالهم وأنهم سيتركون ويهملون ، وذلك بمعزل عن أن يراد وهو ظاهر ، وهذا وجه النظر الذي عناه ابن هشام في قوله معترضا على ابن الحاجب : وفي هذا التقدير نظر.
وقال الجلبي : وجهه أن الدال على المحذوف سابق عليه بكثير مع أن ذلك المحذوف ليس من لفظ هذا الذي قيل : إنه دال عليه وليس بذاك ، ثم المرجح عند كثير من المفسرين ما ذهب إليه الفراء ، وقرأ نافع وابن كثير أن ولما بالتخفيف وخرجت هذه القراءة على أن أن عاملة وإن خففت اعتبارا للأصل في العمل وهو شبه الفعل ولا يضر زوال الشبه اللفظي ، وإلى ذلك ذهب البصريون ، وذكر أبو حيان أن مذهبهم جواز إعمالها إذا خففت لكن على قلة إلا مع المضمر فلا يجوز إلا إن ورد في شعر ، ونقل عن سيبويه منهم أنه قال : أخبرني الثقة أنه سمع بعض العرب يقول : إن عمرا لمنطلق.
وزعم بعض من النحويين أن المكسورة إذا خففت لا تعمل ، وتأول الآية بجعل كُلًّا منصوبا بفعل مقدر أي إن أرى كلّا مثلا وليس بشيء ، وجعل هذا في البحر مذهب الكوفيين ، وفي الارتشاف أن الكوفيين لا يجوزون تخفيف المكسورة لا مهملة ولا معملة ، وذكر بعضهم مثله وأن ما يعدّها البصريون مخففة يعدها الكوفيون نافية ، واستثنى منهم الكسائي فإنه وافق البصريين ومذهبهم في ذلك هو الحق ، وكُلًّا اسمها واللام هي الداخلة على خبر إن وما موصولة خبر إن ، والجملة القسمية وجوابها صلة ، وإلى هذا ذهب الفراء ، واختار الطبري في اللام مذهبه ، وفي ما كونها نكرة موصوفة ، والجملة صفتها أي وإن كلا لخلق أو لفريق موفى عمله ، واختار أبو علي في اللام ما اختاراه وجعل الجملة القسمية خبرا وما مزيدة بين اللامين وقد عهدت زيادتها في غير ما موضع ، وقرأ أبو بكر عن عاصم بتخفيف إن وتشديد لما ، وقرأ الكسائي ، وأبو عمرو بعكس ذلك وتخريج القراءتين لا يخفى على من أحاط خبرا في تخريج القراءتين قبل ، وقرأ أبي ، والحسن بخلاف عنه ، وأبان بن تغلب ، وأن بالتخفيف كل بالرفع لما بالتشديد ، وخرجت على أن إن نافية وكل مبتدأ والجملة القسمية وجوابها خبره ، ولَمَّا بمعنى إلّا أي ما كل إلّا أقسم واللّه ليوفينهم ، وأنكر أبو عبيدة مجيء لَمَّا بمعنى إلّا في كلام العرب ، وقال الفراء : إن جعلها هنا بمعنى إلّا وجه لا نعرفه ، وقد قالت العرب مع اليمين باللّه : لما قمت عنا وإلّا قمت عنا ، وأما في غير ذلك فلم نسمع مجيئها بمعنى إلّا لا في نثر ولا في شعر ويلزم القائل أن يجوز قام الناس لما زيدا على معنى إلّا زيدا ولا التفات إلى إنكارهما ، والقراءة المتواترة في وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ [يس : 32] وإِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ [الطارق : 4] تثبت ما أنكراه.
وقد نص الخليل ، وسيبويه ، والكسائي على مجيء ذلك ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ، وكون العرب

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 345
خصصت مجيئها كذلك ببعض التراكيب لا يضر شيئا فكم من شيء خص بتركيب دون ما أشبهه.
وقرأ الزهري ، وسليمان بن أرقم وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا بتشديد الميم والتنوين ولم يتعرضوا في النقل عنهما لتشديد أن ولا لتخفيفها ، وهي في هذه القراءة مصدر من قولهم : لممت الشيء إذا جمعته كما مرّ ونصبها على الحالية من ضمير المفعول في لَيُوَفِّيَنَّهُمْ عند أبي البقاء وضعفه.
وقال أبو علي : إنها صفة لكل ويقدر مضافا إلى نكرة ليصح وصفه بالنكرة ، وكان المصدر حينئذ بمعنى اسم المفعول ، وذكر الزمخشري في معنى الآية على هذه القراءة أنه وإن كلّا ملمومين بمعنى مجموعين كأنه قيل : وإن كلّا جميعا كقوله تعالى : فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [الحجر : 30 ، ص : 73] وجعل ذلك الطيبي منه ميلا إلى القول بالتأكيد.
وقال ابن جني : إنها منصوبة - بليوفينهم - على حد قولهم : قياما لا أقومن ، والتقدير توفية جامعة لأعمالهم لَيُوَفِّيَنَّهُمْ وخبر إِنَّ في ذلك جملة القسم وجوابه ، وروى أبو حاتم أن في مصحف أبي وإن من كل إلّا ليوفينهم وخرج على أن إن نافية ومن زائدة.
وقرأ الأعمش نحو ذلك إلّا أنه أسقط من وهو حرف ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه والوجه ظاهر ، قيل : وقد تضمنت هذه الجملة عدة مؤكدات من أن واللام وما إذا كانت زائدة والقسم ونون التأكيد وذلك للمبالغة في وعد الطائعين ووعيد العاصين إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي أنه سبحانه بما يعمله كل فرد من المختلفين من الخير والشر عليم على أتم وجه بحيث لا يخفى عليه شيء من جلائله ودقائقه ، والجملة قيل : توكيد للوعد والوعيد فإنه سبحانه لما كان عالما بجميع المعلومات كان عالما بمقادير الطاعات والمعاصي وما يقتضيه كل فرد منها من الجزاء بمقتضى الحكمة وحينئذ تأتي توفية كل ذي حق حقه إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
وقرأ ابن هرمز «تعملون» على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ لما بين أمر المختلفين في التوحيد والنبوة ، وأطنب سبحانه في شرح الوعد والوعيد أمر رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم بالاستقامة مثل الاستقامة التي أمر بها وهذا يقتضي أمره صلّى اللّه عليه وسلّم بوحي آخر ولو غير متلو كما قاله غير واحد ، والظاهر أن هذا أمر بالدوام على الاستقامة وهي لزوم المنهج المستقيم وهو المتوسط بين الإفراط والتفريط وهي كلمة جامعة لكل ما يتعلق بالعلم والعمل وسائر الأخلاق فتشمل العقائد والأعمال المشتركة بينه صلّى اللّه عليه وسلّم وبين سائر المؤمنين والأمور الخاصة به عليه الصلاة والسلام من تبليغ الأحكام والقيام بوظائف النبوة وتحمل أعباء الرسالة وغير ذلك ، وقد قالوا : إن التوسط بين الإفراط والتفريط بحيث لا يكون ميل إلى أحد الجانبين قيد عرض شعرة مما لا يحصل إلّا بالافتقار إلى اللّه تعالى ونفي الحول والقوة بالكلية ، ومثلوا الأمر المتوسط بين ذينك الطرفين بخط يكون بين الشمس والظل ليس بشمس ولا ظل بل هو أمر فاصل بينهما ولعمري إن ذلك لدقيق ، ولهذا قالوا : لا يطيق الاستقامة إلّا من أيد بالمشاهدات القوية والأنوار السنية ثم عصم بالتشبث بالحق وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا [الإسراء : 74] وجعل بعض العارفين الصراط الذي هو أدق من الشعرة وأحد من السيف إشارة إلى هذا المنهج المتوسط ، ومما يدل على شدة هذا الأمر ما
أخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن الحسن أنه قال : لما نزلت هذه الآية قال صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «شمروا شمروا» وما رئي بعدها ضاحكا.
وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : ما نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلم آية أشد من هذه الآية ولا أشق ، واستدل بعض المفسرين على عسر الاستقامة بما شاع من
قوله صلّى اللّه تعالى عليه وسلم : «شيبتني

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 346
هود» ،
وأنت تعلم أن الأخبار متضافرة بضم سور أخرى إليها وإن اختلفت في تعيين المضموم كما مرّ أول السورة ، وحينئذ لا يخفى ما في الاستدلال من الخفاء ، ومن هنا قال صاحب الكشف : التخصيص بهود لهذه الآية غير لائح إذ ليس في الأخوات ذكر الاستقامة.
وذكر في قوت القلوب أنه لما كان القريب الحبيب صلى اللّه تعالى عليه وسلم شيبه ذكر البعد وأهله ثم قال :
ولعل الأظهر أنه عليه الصلاة والسلام شيبه ذكر أهوال القيامة ، وكأنه - بأبي هو وأمي - شاهد منه يوما يجعل الوالدان شيبا انتهى.
وبعضهم استدل للتخصيص برؤيا أبي علي الشتري السابقة وفيه بعد تسليم صحة الرواية إن رؤيا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وإن كانت حقا حيث إن الشيطان لا يتمثل به عليه الصلاة والسلام إلّا أنه من أين يجزم بضبط الرائي وتحقيقه ما رأى على أن مما يوهن أمر هذه الرؤيا ويقوي ظن عدم ثبوتها ما
أخرجه ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «شيبتني هود وأخواتها وما فعل بالأمم قبلي»
وذكر الشهاب ما يقوي اعتراض صاحب الكشف من أنه ليس في الطرق المروية في هذا الباب الاقتصار على هود بل ذكر معها أخواتها وليس فيها الأمر المذكور مع أنه وقع في غيرها من آل حميم ، ثم ذكر أنه لاح له ما يدفع الاشكال وذلك أن مبنى هذه السورة الكريمة على إرشاده تعالى شأنه نبيه صلى اللّه تعالى عليه وسلم إلى كيفية الدعوة من مفتتحها إلى مختتمها وإلى ما يعتري من تصدى لهذه المرتبة السنية من الشدائد واحتماله لما يترتب عليه من الفوائد لا على التسلية إذ لا يطابق المقام حسبما تقدم لك عن صاحب الكشف ، ولما كانت هذه السورة جامعة لإرشاده من أول أمره إلى آخره وهذه الآية فذلكة لها فحينما نزلت هذه السورة هاله ما فيها من الشدائد وخاف من عدم القيام بأعبائها حتى إذا لقي اللّه تعالى في يوم الجزاء ربما مسه نصب من السؤال عنها فذكر القيامة في تلك السور يخوفه هولها لاحتمال تفريطه فيما أرشده اللّه تعالى له في هذه ، وهذا لا ينافي عصمته عليه الصلاة والسلام وقربه لكونه الأعلم باللّه تعالى والأخوف منه ، فالخوف منها يذكره بماتضمنته هذه السورة فكأنها هي المشيبة له صلّى اللّه عليه وسلّم من بينها ولذا بدأ بها في جميع الروايات ، ولما كانت تلك الآية فذلكة لها كانت هي المشيبة في الحقيقة فلا منافاة بين نسبة التشييب لتلك السور ولا لهذه السورة وحدها كما فعله من فعله ولا لتلك الآية كما وقع في تلك الرؤيا انتهى ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى وجه آخر لنسبة التشييب لهذه السورة فليتأمل ، وذهب بعض المحققين إلى كون الكاف في كَما بمعنى على كما في قولهم : كن كما أنت عليه أي على ما أنت عليه ، ومن هنا قال ابن عطية وجماعة : المعنى استقم على القرآن ، وقال مقاتل : امض على التوحيد ، وقال جعفر الصادق رضي اللّه تعالى عنه : استقم على الأخبار عن اللّه تعالى بصحة العزم ،
والأظهر إبقاء ما على العموم أي استقم على جميع ما أمرت به ، والكلام في حذف مثل هذا الضمير أمر شائع ، وقد مرّ التنبيه عليه ، ومال بعضهم إلى كون الكاف للتشبيه حسبما هو الظاهر منها إلّا أنه قال : إنها في حكم مثل في قولهم : مثلك لا يبخل فكأنه قيل : استقم الاستقامة التي أمرت بها فرارا من تشبيه الشيء بنفسه ولا يخفى أنه ليس بلازم ، ومن الغريب ما نقل عن أبي حيان أنه قال في تذكرته : فإن قلت : كيف جاء هذا التشبيه للاستقامة بالأمر؟ قلت : هو على حذف مضاف تقديره مثل مطلوب الأمر أي مدلوله ، فإن قلت : الاستقامة المأمور بها هي مطلوب الأمر فكيف يكون مثلا لها؟ قلت : مطلوب الأمر كلي والمأمور جزئي فحصلت المغايرة وصح التشبيه كقولك : صل ركعتين كما أمرت ، وأبعد بعضهم فجعل الكاف بمعنى على واستفعل للطلب كاستغفر اللّه تعالى أي اطلب الغفران منه ، وقال : المعنى اطلب الإقامة على الدين.
وَمَنْ تابَ مَعَكَ أي تاب من الشرك وآمن معك فالمعية باعتبار اللازم من غير نظر إلى ما تقدمه وغيره ، وقد

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 347
يقال : يكفي الاشتراك في التوبة والمعية فيها مع قطع النظر عن المثوب عنه ، وقد كان صلى اللّه تعالى عليه وسلم يستغفر اللّه تعالى في اليوم أكثر من سبعين مرة ،
واستظهر ذلك الجلبي ، ومَنْ على ما اختاره أبو حيان ، وجماعة عطف على الضمير المستكن في فَاسْتَقِمْ وأغنى الفصل بالجار والمجرور عن تأكيده بضمير منفصل لحصول الغرض به ، وفي الكلام تغليب لحكم الخطاب على الغيبة في لفظ الأمر ، واختار كثير أنه فاعل لفعل محذوف أي وليستقم من إلخ لأن الأمر لا يرفع الظاهر ، وحينئذ فالجملة معطوفة على الجملة الأولى ، ومن ذهب إلى الأول رجحه بعدم احتياجه إلى التقدير ودفع المحذور بأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع.
وجوز أبو البقاء كونه منصوبا على أنه مفعول معه ، والمعنى استقم مصاحبا لمن تاب ، قيل : وهو في المعنى أتم وإن كان في اللفظ نوع نبوة عنه.
وقيل : إنه مبتدأ والخبر محذوف أي فليستقم ، وجوز كون الخبر مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا أي لا تنحرفوا عما حدّ لكم بإفراط أو تفريط فإن كلا طرفي قصد الأمور ذميم ، وسمي ذلك طغيانا وهو مجاوزة الحدّ تغليظا أو تغليبا لحال سائر المؤمنين على حاله صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، وعن ابن عباس أن المعنى لا تطغوا في القرآن فتحلوا وتحرموا ما لم تؤمروا به.
وقال ابن زيد : لا تعصوا ربكم ، وقال مقاتل : لا تخلطوا التوحيد بالشرك ، ولعل الأول أولى.
إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيكم على ذلك وهو تعليل للأمر والنهي السابقين كأنه قيل : استقيموا ولا تطغوا لأن اللّه تعالى ناظر لأعمالكم فيجازيكم عليها ، وقيل : إنه تتميم للأمر بالاستقامة ، والأول أحسن وأتم فائدة ، وقرأ الحسن ، والأعمش - يعملون - بياء الغيبة ، وروي ذلك عن عيسى الثقفي أيضا ، وفي الآية - على ما قال غير واحد - دليل على وجوب اتباع المنصوص عليه من غير انحراف بمجرد التشهي وإعمال العقل الصرف فإن ذلك طغيان وضلال ، وأما العمل بمقتضى الاجتهاد التابع لعلل النصوص فذلك من باب الاستقامة كما أمر على موجب النصوص الآمرة بالاجتهاد ، وقال الإمام : وعندي لا يجوز تخصيص النص بالقياس لأنه لما دلّ عموم النص على حكم وجب الحكم بمقتضاه لقوله تعالى : فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ والعمل بالقياس انحراف عنه ، ولذا لما ورد القرآن بالأمر بالوضوء وجيء بالأعضاء مرتبة في اللفظ وجب الترتيب فيها ، ولما ورد الأمر في الزكاة بأداء الإبل من الإبل ، والبقر من البقر وجب اعتبارها ، وكذا القول في كل ما ورد أمر اللّه تعالى به كل ذلك للأمر بالاستقامة كما أمر انتهى.
وأنت تعلم أن إيجاب الترتيب في الوضوء لذلك ليس بشيء ويلزمه أن يوجب الترتيب في الأوامر المتعاطفة بالواو مثل أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ [البقرة : 43 وغيرها] وكذا في نحو وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة :
45] بعين ما ذكر في الوضوء وهو كما ترى ، وكأنه عفا اللّه تعالى عنه يجزم بأن الحنفية الذين لا يوجبون الترتيب في أعمال الوضوء طاغون خارجون عما حدّ اللّه تعالى لا احتمال للقول بأنهم مستقيمون وهو من الظلم بمكان وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أي لا تميلوا إليهم أدنى ميل ، والمراد بهم المشركون كما روى ذلك ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وفسر الميل بميل القلب إليهم بالمحبة ، وقد يفسر بما هو أعم من ذلك كما يفسر الَّذِينَ ظَلَمُوا بمن وجد منه ما يسمى ظلما مطلقا ، قيل : ولإرادة ذلك لم يقل إلى الظالمين ويشمل النهي حينئذ مداهنتهم وترك التغيير عليهم مع القدرة والتزيي بزيهم وتعظيم ذكرهم ومجالستهم من غير داع شرعي ، وكذا القيام لهم ونحو ذلك ، ومدار النهي على الظلم والجمع باعتبار جمعية المخاطبين ، وقيل : إن ذلك للمبالغة في النهي

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 348
من حيث إن كونهم جماعة مظنة الرخصة في مداهنتهم مثلا ، وتعقب بأنه إنما يتم أن لو كان المراد النهي عن الركون إليهم من حيث إنهم جماعة وليس فليس فَتَمَسَّكُمُ أي فتصيبكم بسبب ذلك كما تؤذن به الفاء الواقعة في جواب النهي النَّارُ وهي نار جهنم ، وإلى التفسير الثاني - وما أصعبه على الناس اليوم بل في غالب الأعاصير من تفسير - ذهب أكثر المفسرين ، قالوا : وإذا كان حال الميل في الجملة إلى من وجد منه ظلم ما في الإفضاء إلى مساس الناس النار فما ظنك بمن يميل إلى الراسخين في الظلم كل الميل. ويتهالك على مصاحبتهم ومنادمتهم ، ويتعب قلبه وقالبه في إدخال السرور عليهم ، ويستنهض الرجل والخيل في جلب المنافع إليهم ، ويبتهج بالتزيي بزيهم والمشاركة لهم في غيهم.
ويمد عينيه إلى ما متعوا به من زهرة الدنيا الفانية ، ويغبطهم بما أوتوا من القطوف الدانية غافلا عن حقيقة ذلك ذاهلا عن منتهى ما هنالك! وينبغي أن يعد مثل ذلك من الذين ظلموا لا من الراكنين إليهم بناء على ما روي أن رجلا قال لسفيان : إني أخيط للظلمة فهل أعدّ من أعوانهم ، فقال له : لا أنت منهم والذي يبيعك الإبرة من أعوانهم ، وما أحسن ما كتبه بعض الناصحين للزهري حين خالط السلاطين ، وهو - عافانا اللّه تعالى وإياك - أبا بكر من الفتن فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو لك اللّه تعالى ويرحمك أصبحت شيخا كبيرا وقد أثقلتك نعم اللّه تعالى بما فهمك من كتابه وعلمك من سنة نبيك صلى اللّه تعالى عليه وسلم وليس كذلك أخذ اللّه تعالى الميثاق على العلماء ، قال سبحانه : لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران : 187] واعلم أن أيسر ما ارتكبت وأخف ما احتملت أنك آنست وحشة الظالم وسهلت سبيل الغي بدنوك ممن لم يؤد حقا ولم يترك باطلا حين أدناك اتخذوك قطبا تدور عليك رحى باطلهم وجسرا يعبرون عليك إلى بلائهم وسلما يصعدون فيك إلى ضلالهم يدخلون الشك بك على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهلاء فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك وما أكثر ما أخذوا منك فيما أفسدوا عليك من دينك فما يؤمنك أن تكون ممن قال اللّه تعالى فيهم : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم : 59] فإنك تعامل من لا يجهل ويحفظ عليك من لا يغفل فداو دينك فقد دخله سقم وهيىء زادك فقد حضر السفر البعيد ، وما يخفى على اللّه من شيء في الأرض ولا في السماء والسلام.
وعن الأوزاعي ما من شيء أبغض إلى اللّه تعالى من عالم يزور عاملا ، وعن محمد بن سلمة : الذباب على العذرة أحسن من قارئ على باب هؤلاء ، وفي الخبر من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصي اللّه تعالى في أرضه ، ولعمري إن الآية أبلغ شيء في التحذير عن الظلمة والظلم ، ولذا قال الحسن : جمع الدين في لاءين يعني - لا تطغوا ، ولا تركنوا - ويحكى أن الموفق أبا أحمد طلحة العباسي صلّى خلف الإمام فقرأ هذه الآية فغشي عليه فلما أفاق قيل له ، فقال :
هذا فيمن ركن إلى من ظلم فكيف الظالم.
هذا وخطاب النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم ومن معه من المؤمنين بهذين النهيين بعد الأمر بالاستقامة للتثبيت عليها ، وقد تجعل تأكيدا لذلك إذا كان المراد به الدوام والثبات ، وعن أبي عمرو أنه قرأ «تركنوا» بكسر التاء على لغة تميم.
وقرأ قتادة ، وطلحة ، والأشهب ، ورويت عن أبي عمرو «تركنوا» بضم الكاف مضارع ركن بفتحها وهي على ما في البحر لغة قيس ، وتميم.
وقال الكسائي : إنها لغة أهل نجد وشذ - تركن - بالفتح مضارع ركن كذلك ، وقرأ ابن أبي عبلة «ولا تركنوا» مبنيا للمفعول من أركنه إذا أماله ، وقراءة الجمهور «تركنوا» بفتح الكاف ، والماضي - ركن - بكسرها وهي لغة قريش ، وهي الفصحى - على ما قال الأزهري - وقرأ ابن وثاب ، وعلقمة ، والأعمش ، وابن مصرف ، وحمزة فيما يروى عنه

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 349
«فتمسكم» بكسر التاء على لغة تميم أيضا وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ من أنصار يمنعون العذاب عنكم ، والمراد نفي أن يكون لكل نصير ، والمقام قرينة على ذلك ، والجملة في موضع الحال من ضمير فَتَمَسَّكُمُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ من جهته تعالى إذ قد سبق في حكمه تعالى أن يعذبكم بركونكم إليهم ولا يبقى عليكم ، وثُمَّ قيل : لاستبعاد نصره سبحانه إياهم وقد أوعدهم العذاب على ذلك ، وأوجبه لهم وتعقب بأن أثر الحرف إنما هو في مدخوله ومدخول ثُمَّ عدم النصرة وليس بمستبعد ، وإنما المستبعد نصر اللّه تعالى لهم ، فالظاهر أنها للتراخي في الرتبة لأن عدم نصر اللّه أشد وأفظع من عدم نصرة غيره ، وأجيب بما لا يخلو عن تكلف ، وأيا ما كان فالمقام مقام الواو إلّا أنه عدل عنها لما ذكر.
وجوز القاضي أن تكون منزلة منزلة الفاء بمعنى الاستبعاد فإنه سبحانه لما بين أنه معذبهم وأن أحدا لا يقدر على نصرهم أنتج ذلك أنهم لا ينصرون أصلا ، ووجه ذلك بأنه كان الظاهر أن يؤتى بالفاء التفريعية المقارنة للنتائج إذ المعنى أن اللّه تعالى أوجب عليكم عقابه ولا مانع لكم منه فإذن أنتم لا تنصرون فعدل عنه إلى العطف - بثم - الاستبعادية إلى الوجه الذي ذكره ، واستبعاد الوقوع يقتضي النفي ، والعدم الحاصل الآن فهو مناسب لمعنى تسبب النفي ، ودفع بذلك ما قيل عليه : إن الداخل على النتائج هي الفاء السببية لا الاستبعادية ولا يخفى قوة الاعتراض ، وفرق بين وجهي الاستبعاد السابق والتنزيل المذكور بأن المنفي على الأول نصرة اللّه تعالى لهم ، وعلى الثاني مطلق النصرة وَأَقِمِ الصَّلاةَ أي المكتوبة ، ومعنى إقامتها أداؤها على تمامها.
وقيل : المداومة عليها ، وقيل : فعلها في أول وقتها طَرَفَيِ النَّهارِ أي أوله وآخره وانتصابه على الظرفية - لأقم - ويضعف كونه ظرفا للصلاة ووجه انتصابه على ذلك إضافته إلى الظرف وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ أي ساعات منه قريبة من النهار فإنه من أزلفه إذا قربه.
وقال الليث : هي طائفة من أول الليل ، وكذا قال ثعلب ، وقال أبو عبيدة ، والأخفش ، وابن قتيبة : هي مطلق ساعاته وآناؤه وكل ساعة زلفة ، وأنشدوا للعجاج :
ناج طواه الأين مما وجفا طي الليالي زلفا فزلفا
سماوة الهلال حتى احقوقفا وهو عطف على طَرَفَيِ النَّهارِ ، ومِنَ اللَّيْلِ في موضع الصفة له ، والمراد بصلاة الطرفين قيل : صلاة الصبح والعصر ، وروي ذلك عن الحسن ، وقتادة ، والضحاك ، واستظهر ذلك أبو حيان بناء على أن طرف الشيء يقتضي أن يكون من الشيء ، والتزم أن أول النهار من الفجر ، وقد يطلق طرف الشيء على الملاصق لأوله وآخره مجازا فيمكن اعتبار النهار من طلوع الشمس مع صحة ما ذكروه في صلاة الطرف الأول بجعل التثنية هنا مثلها في قولهم : القلم أحد اللسانين إلّا أنه قيل بشذوذ ذلك.
وروي عن ابن عباس - واختاره الطبري - أن المراد صلاة الصبح والمغرب فإن كان النهار من أول الفجر إلى غروب الشمس فالمغرب طرف مجازا وهو حقيقة طرف الليل ، وإن كان من طلوع الشمس إلى غروبها فالصبح كالمغرب طرف مجازي ، وقال مجاهد ، ومحمد بن كعب القرظي : الطرف الأول الصبح ، والثاني الظهر ، والعصر ، واختار ذلك ابن عطية ، وأنت تعلم أن في جعل الظهر من الطرف الثاني خفاء وإنما الظهر نصف النهار والنصف لا يسمى ظرفا إلّا بمجاز بعيد ، والمراد بصلاة الزلف عند الأكثر صلاة المغرب والعشاء.
وروى الحسن في ذلك خبرا مرفوعا ، وعن ابن عباس أنه فسر صلاة الزلف بصلاة العتمة وهي ثلث الليل الأول

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 350
بعد غيبوبة الشفق وقد تطلق على وقت صلاة العشاء الآخرة ، وأغرب من قال : صلاة الطرفين صلاة الظهر والعصر ، وصلاة الزلف صلاة المغرب ، والعشاء ، والصبح ، وقيل : معنى زُلَفاً قربا ، وحقه على هذا - كما في الكشاف - أن يعطف على الصلاة أي أقم الصلاة طرفي النهار وأقم زلفا من الليل أي صلوات تتقرب بها إلى اللّه عزّ وجلّ انتهى ، قيل :
والمراد بها على هذا صلاة العشاء والتهجد وقد كان واجبا عليه عليه الصلاة والسلام ، أو العشاء ، والوتر على ما ذهب إليه أبو حنيفة رضي اللّه تعالى عنه ، أو المجموع كما يقتضيه ظاهر الجمع ، وقد تفسر بصلاة المغرب والعشاء - واختاره البعض - وقد جاء إطلاق الجمع على الاثنين فلا حاجة إلى التزام أن ذلك باعتبار أن كل ركعة قربة فتحقق قرب فوق الثلاث فيما ذكر.
وقرأ طلحة ، وابن أبي إسحاق ، وأبو جعفر «زلفا» بضم اللام إما على أنه جمع زلفة أيضا ولكن ضمت عينه اتباعا لفائه. أو على أنه اسم مفرد كعنق ، أو جمع زليف بمعنى زلفة كرغيف ورغف ، وقرأ مجاهد ، وابن محيصن بإسكان اللام كبسر بالضم والسكون في بسرة ، وهو على هذا - على ما في البحر - اسم جنس ، وفي رواية عنهما أنهما قرآ - زلفى - كحبلى وهو بمعنى زلفة فإن تاء التأنيث وألفه قد يتعاقبان نحو قربى وقربة ، وجوز أن تكون هذه الألف بدلا من التنوين إجراء للوصل مجرى الوقف إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ أي يكفرنها ويذهبن المؤاخذة عليها وإلّا فنفس السيئات أعراض وجدت فانعدمت ، وقيل : يمحينها من صحائف الأعمال ، ويشهد له بعض الآثار ، وقيل : يمنعن من اقترافها كقوله تعالى : إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت : 45] وهو مع بعده في نفسه مخالف للمأثور عن الصحابة ، والتابعين رضي اللّه تعالى عنهم فلا ينبغي أن يعول عليه.
والظاهر أن المراد من الحسنات ما يعم الصلوات المفروضة وغيرها من الطاعات المفروضة وغيرها ، وقيل :
المراد الفرائض فقط
لرواية «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن»
وفيه أنه
قد صح من حديث أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم يقول : «إذا أمّن الإمام فأمّنوا فإن الملائكة تؤمن فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه» وفي رواية تفرد بها يحيى بن نصير - وهو من الثقات - بزيادة «وما تأخر»
وصح أن صيام يوم عرفة تكفر السنة الماضية والمستقبلة ،
وأخرج أبو داود في السنن بإسناد حسن عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «من أكل طعاما ثم قال الحمد للّه الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه ، ومن لبس ثوبا وقال : الحمد للّه الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر»
إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في تكفير أفعال ليست بمفروضة ذنوبا كثيرة ، وقيل : المراد بها الصلوات المفروضة لما
في بعض طرق خبر سبب النزول من أن أبا اليسر من الأنصار قبل امرأة ثم ندم فأتى رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فأخبره بما فعل فقال عليه الصلاة والسلام : «أنتظر أمر ربي فلما صلى صلاة قال صلى اللّه تعالى عليه وسلم : نعم اذهب بها فإنها كفارة لما عملت»
وروي هذا القول عن ابن عباس ، وابن مسعود ، وابن المسيب ، والظاهر أن ذلك منهم اقتصار على بعض مهم من أفراد ذلك العام ، وسبب النزول لا يأبى العموم كما لا يخفى ، وفي رواية عن مجاهد أنها قول : سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلّا اللّه واللّه أكبر ولا حول ولا قوة إلّا باللّه العلي العظيم ، وفيه ما فيه ، والمراد بالسيئات عند الأكثرين الصغائر لأن الكبائر لا يكفرها على ما قالوا : إلّا التوبة ، واستدلوا لذلك بما
رواه مسلم من رواية العلاء «الصلوات الخمس كفارة لما بينها ما اجتنبت الكبائر»
واستشكل بأن الصغائر مكفرة باجتناب الكبائر بنص إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [النساء : 31] فما الذي تكفره الصلوات الخمس؟ وأجاب البلقيني بأن ذلك غير وارد لأن المراد بالآية أن تجتنبوا في جميع العمر ومعناه الموافاة على هذه الحالة من وقت الإيمان أو التكليف إلى الموت ، والذي
في

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 351
الحديث «إن الصلوات تكفر ما بينها»
أي في يومها إذا اجتنبت الكبائر في ذلك اليوم فلا تعارض ، وتعقبه السمهودي بقوله : ولك أن تقول : لا يتحقق اجتناب الكبائر في جميع العمر إلّا مع الإتيان بالصلوات الخمس فيه كل يوم فالتكفير حاصل بما تضمنه الحديث فما فائدة الاجتناب المذكور في الآية ثم قال : ولك أن تجيب بأن ذلك من باب فعل شيئين كل منهما مكفر ، وقد قال بعض العلماء : إنه إذا اجتمعت مكفرات فحكمها أنها إذا ترتبت فالمكفر السابق وإن وقعت معا فالمكفر واحد منها يشاؤه اللّه تعالى ، وأما البقية فثوابها باق له وذلك الثواب على كل منها يكون بحيث يعدل تكفير الصغائر لو وجدت ، وكذا إذا فعل واحدا من الأمور المكفرة ولم يكن قد ارتكب ذنبا.
وفي شرح مسلم للنووي نحو ذلك غير أنه ذكر أنه لو صادف فعل المكفر كبيرة أو كبائر ولم يصادف صغيرة رجونا أن يخفف من الكبائر ، ويرد على قوله : إن المراد إِنْ تَجْتَنِبُوا في جميع العمر منع ظاهر ، والظاهر أن المراد من ذلك أن ثواب اجتناب الكبائر في كل وقت يكفر الصغائر الواقعة فيه ، وفي تفسير القاضي ما يؤيده ، وكذا ما ذكره الإمام حجة الإسلام في الكلام على التوبة من أن حكم الكبيرة أن الصلوات الخمس لا تكفرها وأن اجتناب الكبائر يكفر الصغائر بموجب قوله سبحانه : إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما إلخ ، ولكن اجتناب الكبيرة إنما يكفر الصغيرة إذا اجتنبها مع القدرة والإرادة كمن يتمكن من امرأة ومن مواقعتها فكيف نفسه عن الوقوع ويقتصر على النظر واللمس فإن مجاهدته نفسه في الكف عن الوقاع أشد تأثيرا في تنوير قلبه من إقدامه على النظر في إظلامه فهذا معنى تكفيره فإن كان عنينا ولم يكن امتناعه إلّا بالضرورة للعجز أو كان قادرا ولكن امتنع لخوف من آخر فهذا لا يصلح للتكفير أصلا فكل من لا يشتهي الخمر بطبعه ولو أبيح له ما شربه فاجتنابه لا يكفر عنه الصغائر التي هي من مقدماته كسماع الملاهي والأوتار وهذا ظاهر يدل عليه أن الحسنات يذهبن السيئات ، ولا شك أن اجتناب الكبائر إذا قارن القصد حسنة وإنما قيدنا بذلك وإن كان الخروج عن عهدة النهي لا يتوقف عليه لأنه لا يثاب على الاجتناب بدون ذلك ، فالأولى في الجواب عن الإشكال أن يقال :
«ما اجتنبت الكبائر»
في الخبر ليس قيدا لأصل التكفير بل لشمول التكفير سائر الذنوب التي بين الصلوات الخمس فهو بمثابة استثناء الكبائر من الذنوب ، وكأنه قيل : الصلوات الخمس كفارة لجميع الذنوب التي بينها وتكفيرها للجميع في المدة التي اجتنبت فيها الكبائر أو مقيد باجتناب الكبائر وإلّا فليست الصلوات كفارة لجميع الذنوب بل للصغائر فقط ، وهذا وإن كان خلاف الظاهر من عود القيد لأصل التكفير لكن قرينة الآية دعت للعدول عنه إلى ذلك جمعا بين الأدلة ، ولا بدّ في هذا من اعتبار ما قالوا في اجتماع الأمور المكفرة للصغائر ، وذكر الحافظ ابن حجر بعد نقله لكلام البلقيني ما لفظه : وعلى تقدير ورود السؤال فالتخلص عنه سهل وذلك لأنه لا يتم اجتناب الكبائر إلّا بفعل الصلوات الخمس فمن لم يفعلها لم يعد مجتنبا للكبائر لأن تركها من الكبائر فيتوقف التكفير على فعلها انتهى ولا يخلو عن بحث ، وممن صرح بأن ما اجتنبت إلخ بمعنى الاستثناء نقلا عن بعضهم المحب الطبري ، فقد قال في أحكامه : اختلف العلماء في أمر تكفير الصغائر بالعبادات هل هو مشروط باجتناب الكبائر؟ على قولين : أحدهما نعم وهو ظاهر
قوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «ما اجتنبت الكبائر»
فإن ظاهره الشرطية كما يقتضيه
«إذا اجتنبت»
الآتي في بعض الروايات ، فإذا اجتنبت الكبائر كانت مكفرة لها وإلّا فلا ، وإليه ذهب الجمهور على ما ذكره ابن عطية ، وقال بعضهم : لا يشترط ، والشرط في الحديث بمعنى الاستثناء والتقدير مكفرات لما بينها إلّا الكبائر وهو الأظهر.
هذا وقد ذكر الزركشي أنهم اختلفوا في أن التكفير هل يشترط فيه التوبة أم لا؟ فذهب إلى الاشتراط طائفة وإلى عدمه أخرى ، وفي البحر أن الاشتراط نص حذاق الأصوليين ، ولعل الخلاف مبني على الخلاف في اشتراط الاجتناب وعدمه فمن جعل اجتناب الكبائر شرطا في تكفير الصغائر لم يشترط التوبة وجعل هذه خصوصية لمجتنب الكبائر ولم

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 352
يشترطه إلّا من اشترطها ، ويدل عليه خبر أبي اليسر فإن الروايات متضافرة على أنه جاء نادما والندم توبة ، وأن إخباره صلى اللّه تعالى عليه وسلم له بأن صلاة العصر كفرت عنه ما فعل إنما وقع بعد ندمه لكن ظاهر إطلاق الحديث يقتضي أن التكفير كان بنفس الصلاة فإن التوبة بمجردها تجب ما قبلها فلو اشترطناها مع العبادات لم تكن العبادات مكفرة ، وقد ثبت أنها مكفرات فيسقط اعتبار التوبة معها انتهى ملخصا مع زيادة ، ولا يخفى أن هذا يحتاج إلى التزام القول بأن ندم أبي اليسر لم يكن توبة صحيحة وإلّا لكان التكفير به لأنه السابق ، وبعض التزم القول بكونه توبة صحيحة إلّا أنه توبة لم تقبل ولم تكفر الذنب ، وأنت تعلم أن في عدم تكفير التوبة الذنب مقالا ، والمنقول عن السبكي أنه قال : إن قبول التوبة عن الكفر مقطوع به تفضلا ، وفي القطع بقبول توبة العاصي قولان لأهل السنة ، والمختار عند إمام الحرمين أن تكفير التوبة للذنب مظنون ، وادعى النووي أنه الأصح ، وفي شرح البرهان : الصحيح عندنا القطع بالتكفير ، وقال الحليمي : لا يجب على اللّه تعالى قبول التوبة لكنه لما أخبر عن نفسه أنه يقبل التوبة عن عباده ولم يجز أن يخلف وعده علمنا أنه سبحانه وتعالى لا يرد التوبة الصحيحة فضلا منه تعالى ، ومثل هذا الخلاف في التكفير باجتناب الكبائر ونحوه هل هو قطعي أو ظني ، وفي كلام العلامة نجم الدين النسفي ، وصدر الشريعة ، وغيرهما أن العقاب على الصغائر جائز الوقوع سواء اجتنبت مرتكبها الكبائر أم لا لدخولها تحت قوله تعالى : فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ [آل عمران : 129 ، المائدة : 18] ولقوله تعالى : لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الكهف : 49] والإحصاء إنما يكون للسؤال والمجازاة إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث ، وخالفت المعتزلة في ذلك فلم يجيزوا وقوع التعذيب إذا اجتنبت الكبائر واستدلوا بآية إِنْ
تَجْتَنِبُوا إلخ ، ويجاب بأن المراد بالكبائر الكفر والجمع لتعدد أنواعه أو تعدد من اتصف به ، ومعنى الآية إن تجتنبوا الكفر نجعلكم صالحين لتكفير سيئاتكم ، ولا يخفى ما في استدلالهم من الوهن ، وجوابهم عن استدلال المعتزلة لعمري أوهن منه.
وذهب صاحب الذخائر إلى أن من الحسنات ما يكفر الصغائر والكبائر إذ قد صح في عدة أخبار من فعل كذا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وفي بعضها خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، ومتى حملت الحسنات في الآية على الاستغراق فالمناسب حمل السيئات عليه أيضا ، والتخصيص خلاف الظاهر وفضل اللّه تعالى واسع ، وإلى هذا مال ابن المنذر ، وحكاه ابن عبد البر عن بعض المعاصرين له وعني به فيما قيل : أبا محمد المحدث لكن ردّ عليه ، فقال بعضهم. يقول : إن الكبائر والصغائر تكفرها الطهارة والصلاة لظاهر الأحاديث وهو جهل بين وموافقة للمرجئة في قولهم ، ولو كان كما زعم لم يكن للأمر بالتوبة معنى ، وقد أجمع المسلمون على أنها فرض ، وقد صح أيضا من حديث أبي هريرة «الصلوات كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر»
انتهى.
وفيه أن دعوى أن ذلك جهل لا يخلو عن الإفراط إذ الفرق بين القول بعموم التكفير ومذهب المرجئة في غاية الوضوح ، ولو صح أن ذلك ذهاب إلى قولهم للزمه مثله بالنسبة إلى التوبة فإنه يسلم أنها تكفر الصغائر والكبائر وهي من جملة أعمال العبد فكما جاز أن يجعل اللّه سبحانه هذا العمل سببا لتكفير الجميع يجوز أن يجعل غيره من الأعمال كذلك ، وقوله : ولو كان كما زعم إلخ مردود لأنه لا يلزم من تكفير الذنوب الحاصلة عدم الأمر بالتوبة وكونها فرضا إذ تركها من الذنوب المتجددة التي لا يشملها التكفير السابق بفعل الوضوء مثلا ألا ترى أن التوبة من الصغائر واجبة على ما نقل عن الأشعري ، وحكى إمام الحرمين وتلميذه الأنصاري الإجماع عليه ومع ذلك فجميع الصغائر مكفرة بنص الشارع وإن لم يتب على ما سمعت من الخلاف ، وتحقيق ذلك أن التوبة واجبة في نفسها على الفور ومن أخرها تكرر عصيانه بتكرر الأزمنة كما صرح به الشيخ عز الدين بن عبد السلام ، ولا يلزم من تكفير اللّه تعالى ذنوب عبده سقوط

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 353
التكليف بالتوبة التي كلف بها تكليفا مستمرا ، وقريب من هذا ارتفاع الإثم عن النائم إذا أخرج الصلاة عن وقتها مع الأمر بقضائها ، وما روي من حديث أبي هريرة إنما ورد في أمر خاص فلا يتعداه إذ الأصل بقاء ما عداه على عمومه وهذا مما لا مجال للقياس فيه حتى يخص بالقياس على ذلك فلا يليق نسبة ذلك القائل إلى الجهل ، والرجاء باللّه تعالى شأنه قوي كذا قيل ، وفي المقام بعد أبحاث تركنا ذكرها خوف الإملال فإن أردتها فعليك بالنظر في الكتب المفصلة في علم الحديث.
ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ أي عظة للمتعظين ، وخصهم بالذكر لأنهم المنتفعون بها ، والإشارة إلى ما تقدم من الوصية بالاستقامة والنهي عن الطغيان والركون إلى الذين ظلموا وإقامة الصلوات في تلك الأوقات بتأويل المذكور.
وإلى هذا ذهب الزمخشري واستظهر أبو حيان كون ذلك إشارة إلى إقامة الصلاة وأمر التذكير سهل ، وقيل : هي إشارة إلى الإخبار بأن الحسنات يذهبن السيئات ، وقال الطبري : إشارة إلى الأوامر والنواهي في هذه السورة ، وقيل : إلى القرآن ، وبعض من جعل الإشارة إلى الإقامة فسر الذكرى بالتوبة وَاصْبِرْ أي على مشاق امتثال ما كلفت به ، في الكشاف أن هذا كرور منه تعالى إلى التذكير بالصبر بعد ما جاء بما هو خاتمة للتذكير لفضل خصوصية ومزية وتنبيه على مكان الصبر ومحله كأنه قال : وعليك بما هو أهم مما ذكرت به وأحق بالتوصية وهو الصبر على امتثال ما أمرت به والانتهاء عما نهيت عنه فلا يتم شيء منه إلّا به انتهى.
ووجه كونه كريرا إلى ما ذكر بأن الأمر بالاستقامة أمر بالثبات قولا وفعلا وعقدا وهو الصبر على طاعة اللّه تعالى ويتضمن الصبر عن معصيته ضرورة على أن ما ذكره سبحانه كله لا يتم إلّا بالصبر ففي ضمن الأمر به أمر بالصبر ، واعترض اعتبار الانتهاء عما نهى عنه من متعلقات الصبر إذ لا مشقة في ذلك ، واعتذر عن ذلك بأنه يمكن أن يراد بما نهى عنه من الطغيان والركون ما لا يمكن عادة خلو البشر عنه من أدنى ميل بحكم الطبيعة من الاستقامة المأمور بها ومن يسير ميل بحكم البشرية إلى من وجد منه ظلم فإن في الاحتراز عن أمثاله من المشقة ما لا يخفى ، وتعقب بأن ما هو من توابع الطبيعة لا يكون من متعلقات النهي ، ولهذا ذكروا أن حب المسلم لولده الكافر مثلا لا إثم فيه ، فالأولى أن يقال : إن وجود المشقة في امتثال مجموع ما كلف به يكفي في الغرض ، وقيل : المراد من الصبر المأمور به المداومة على الصلاة كأنه قيل : أقم الصلاة أي أدّها تامة ودوام عليها نظير قوله تعالى : وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها [طه : 132] فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ أي يوفيهم ثواب أعمالهم من غير بخس أصلا ، وعبر عن ذلك بنفي الإضاعة بيانا لكمال نزاهته تعالى عن حرمانهم شيئا من ثوابهم ، وعدل عن الضمير ليكون كالبرهان على المقصود مع إفادة فائدة عامة لكل من يتصف بذلك وهو تعليل للأمر بالصبر ، وفيه إيماء إلى أن الصبر على ما ذكر من باب الإحسان ، وعن مقاتل أنه فسر الإحسان هنا بالإخلاص.
وعن ابن عباس أنه قال : المحسنون المصلون وكأنه نظر إلى سياق الكلام ، هذا ومن البلاغة القرآنية أن الأوامر بأفعال الخير أفردت للنبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم وإن كانت عامة في المعنى ، والمناهي جمعت للأمة ، وما أعظم شأن الرسول عليه الصلاة والسلام عند ربه جلّ وعلا فَلَوْ لا كانَ تحضيض فيه معنى التفجع مجازا أي فهلا كان مِنَ الْقُرُونِ أي الأقوام المقترنة في زمان واحد مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ أي ذوو خصلة باقية من الرأي والعقل أو ذوو فضل على أن يكون - البقية - اسما للفضل والهاء للنقل ، وأطلق عليه ذلك على سبيل الاستعارة من البقية التي يصطفيها المرء لنفسه ويدخرها مما ينفعه ، ومن هنا يقال : فلان من بقية القوم أي من خيارهم ، وبذلك فسر بيت الحماسة :

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 354
إن تذنبوا ثم يأتيني بقيتكم فما علي بذنب عندكم فوت
ومنه قولهم : في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا ، وجوز أن تكون البقية بمعنى البقوى كالتقية بمعنى التقوى أي فهلا كان منهم ذوو إبقاء لأنفسهم وصيانة لها عما يوجب سخط اللّه تعالى وعقابه ، والظاهر أنها على هذا مصدر ، وقيل : اسم مصدر ، ويؤيد المصدرية أنه قرىء «بقية» بزنة المرة وهو مصدر بقاه يبقيه كرماه يرميه بمعنى انتظره وراقبه.
وفي الحديث عن معاذ بن جبل قال : «بقينا رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم وقد تأخر عن صلاة العشاء حتى ظن الظان أنه ليس بخارج» الخبر
أراد معاذ انتظرناه ، وأما الذي من البقاء ضد الفناء ففعله بقي يبقى كرضي يرضى ، والمعنى على هذه القراءة فهلا كان منهم ذوو مراقبة لخشية اللّه تعالى وانتقامه ، وقرىء «بقية» بتخفيف الياء اسم فاعل من بقي نحو شجيت فهي شجية».
وقرأ أبو جعفر وشيبة «بقية» بضم الباء وسكون القاف يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ الواقع فيما بينهم حسبما ذكر في قصصهم ، وفسر الفساد في البحر بالكفر وما اقترن به من المعاصي إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ استثناء منقطع أي ولكن قليلا منهم أنجيناهم لكونهم كانوا ينهون ، وقيل أي : ولكن قليلا ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد وسائرهم تاركون للنهي ، ومِنَ الأولى بيانية لا تبعيضية لأن النجاة إنما هي للناهين وحدهم بدليل قوله سبحانه : أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا [الأعراف : 165] وإلى ذلك ذهب الزمخشري ، ومنع اتصال الاستثناء على ما عليه ظاهر الكلام لاستلزامه فساد المعنى لأنه يكون تحضيضا - لأولي البقية - على النهي عن الفساد إلّا للقليل من الناجين منهم ، ثم قال : وإن قلت : في تحضيضهم على النهي عن الفساد معنى نفيه عنهم فكأنه قيل : ما كان من القرون أولو بقية إلّا قليلا كان استثناء متصلا ومعنى صحيحا وكان انتصابه على أصل الاستثناء وإن كان الأفصح أن يرفع على البدل ، والحاصل أن في الكلام اعتبارين : التحضيض والنفي ، فإن اعتبر التحضيض لا يكون الاستثناء متصلا لأن المتصل يسلب ما للمستثنى منه عن المستثنى أو يثبت له ما ليس له ، والتحضيض معناه لم ما نهوا ، ولا يجوز أن يقال : إلّا قليلا فإنهم لا يقال لهم : لم ما نهوا لفساد المعنى لأن القليل ناهون وإن اعتبر النفي كان متصلا لأنه يفيد أن القليل الناجين ناهون ، وأورد على ذلك القطب أن صحة السلب أو الإثبات بحسب اللفظ لازم في الخبر وأما في الطلب فيكون بحسب المعنى فإنك إذا قلت : اضرب القوم إلّا زيدا فليس المعنى على أنه ليس اضرب بل على أن القوم مأمور بضربهم إلّا زيدا فإنه غير مأمور به فكذا هنا يجوز أن يقال : أُولُوا بَقِيَّةٍ محضوضون على النهي إِلَّا قَلِيلًا فإنهم ليسوا محضوضين عليه
لأنهم نهوا فالاستثناء متصل قطعا كما ذهب إليه بعض السلف ، وقد يدفع ما أورده بأن مقتضى الاستثناء أنهم غير محضوضين ، وذلك إما لكونهم نهوا أو لكونهم لا يحضون عليه لعدم توقعه منهم ، فإما أن يكون قد جعل احتمال الفساد إفسادا أو ادّعى أنه هو المفهوم من السياق ، ثم إن المدقق صاحب الكشف قال : إن ظاهر تقرير كلام الزمخشري يشعر بأن يَنْهَوْنَ خبر كانَ جعل مِنَ الْقُرُونِ خبرا آخر أو حالا قدمت لأن تحضيض - أولي البقية - على النهي على ذلك التقدير حتى لو جعل صفة ، ومِنَ الْقُرُونِ خبرا كان المعنى تنديم أهل القرون على أن لم يكن فيهم أولو بقية ناهون وإذا جعل خبرا لا يكون معنى الاستثناء ما كان من القرون أولو بقية إلّا قليلا بل كان ما كان منهم أولو بقية ناهين إلّا قليلا فإنهم نهوا وهو فاسد ، والانقطاع على ما آثره الزمخشري أيضا يفسد لما يلزم منه أن يكون أولو بقية غير ناهين لأن في التحضيض والتنديم دلالة على نفيه عنهم ، فالوجه أن يؤوّل بأن المقصود من ذكر الاسم الخبر وهو كالتمهيد له كأنه قيل : فلولا كان من القرون من قبلكم ناهون إلّا قليلا ، وفي كلامه إشارة إلى أنه لا يختلف نفي الناهي ، وأولو البقية ، وإنما عدل إلى المنزل مبالغة لأن أصحاب

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 355
فضلهم وبقاياهم إذا حضضوا على النهي وندموا على الترك فهم أولى بالتحضيض والتنديم ، وفيه مع ذلك الدلالة على خلوهم عن الاسم لخلوهم عن الخبر لأن ذا البقية لا يكون إلّا ناهيا فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم وهو من باب ولا ترى الضب بها ينجحر وقولك : ما كان شجعانهم يحمون عن الحقائق في معرض الذم تريد أن لا شجاع ولا حماية لكن بالغت في الذم حتى خيلت أنه لو كان لهم شجاع كان كالعدم فهذا هو الوجه الكريم والمطابق لبلاغة القرآن العظيم انتهى ، وهو تحقيق دقيق أنيق.
وادعى بعضهم أن الظاهر أن كانَ تامة ، وأُولُوا بَقِيَّةٍ فاعلها ، وجملة يَنْهَوْنَ صفته ، ومِنَ الْقُرُونِ حال متقدمة عليه ، ومِنَ تبعيضية ، ومِنْ قَبْلِكُمْ حال من الْقُرُونِ ، ويجوز أن يكون صفة لها أي الكائنة بناء على رأي من جوز حذف الموصول مع بعض صلته ، واعترض بأنه يلزم منه كون التحضيض على وجود أولئك فيهم وكذا يلزم كون المنفي ذلك وليس بذاك بل المدار على النهي تحضيضا ونفيا ، والتزام توجه الأمرين إليه لكون الصفة قيدا في الكلام والاستعمال الشائع توجه نحو ما ذكر إلى القيد كما قيل زيادة نغمة في الطنبور من غير طرب ، ومثله يعد من النصب وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وهم تاركو النهي عن الفساد.
ما أُتْرِفُوا فِيهِ ما أنعموا فيه من الثروة والعيش الهنيء والشهوات الدنيوية ، وأصل الترف التوسع في النعمة.
وعن الفراء معنى أترف عود الترفة وهي النعمة ، وقيل : أُتْرِفُوا أي طغوا من أترفته النعم إذا أطغته - ففي - إما سببية أو ظرفية مجازية ، وتعقب بأن هذا المعنى خلاف المشهور وإن صح هنا ومعنى اتباع ذلك الاهتمام به وترك غيره أي اهتموا بذلك وَكانُوا مُجْرِمِينَ أي مرتكبي جرائم غير ذلك ، أو كافرين متصفين بما هو أعظم الإجرام ، ولكل من التفسيرين ذهب بعض ، وحمل بعضهم الَّذِينَ ظَلَمُوا على ما يعم تاركي النهي عن الفساد والمباشرين له ، ثم قال : وأنت خبير بأنه يلزم من التحضيض بالأولين عدم دخول مباشري الفساد في الظلم والإجرام عبارة ، ولعل الأمر في ذلك هين فلا تغفل ، والجملة عند أبي حيان مستأنفة للإخبار عن حال هؤلاء الَّذِينَ ظَلَمُوا وبيان أنهم مع كونهم تاركي النهي عن الفساد كانوا ذوي جرائم غير ذلك.
وجوز بعض المحققين أن تكون عطفا على مقدر دلّ عليه الكلام أي لم ينهوا وَاتَّبَعَ إلخ.
وقيل : التقدير إلّا قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد وَاتَّبَعَ الَّذِينَ إلخ ، وأن تكون استئنافا يترتب على قوله سبحانه : إِلَّا قَلِيلًا أي إلّا قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا من مباشري الفساد وتاركي النهي عنه ، وجعل الإظهار على هذا مقتضى الظاهر ، وعلى الأول لإدراج المباشرين مع التاركين في الحكم والتسجيل عليهم بالظلم وللإشعار بعلية ذلك لما حاق بهم من العذاب.
وفي الكشاف ما يقضي ظاهره بأن العطف على نهوا الواقع خبر لكن فيلزم أن يكون المعطوف خبرا أيضا مع خلوه عن الرابط ، وأجيب تارة بأنه في تأويل سائرهم أو مقابلوهم وأخرى بأن نهوا جملة مستأنفة استؤنفت بعد اعتبار الخبر فعطف عليها ، وفي ذلك ما فيه ، وقوله تعالى : وَكانُوا مُجْرِمِينَ عطف على اتَّبَعَ الَّذِينَ إلخ مع المغايرة بينهما ، وجوز أن يكون العطف تفسيريا على معنى وَكانُوا مُجْرِمِينَ بذلك الاتباع ، وفيه بعد ، وأن يكون على أُتْرِفُوا على معنى اتبعوا الأتراف وكونهم مجرمين لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام ، أو أريد بالإجرام إغفالهم للشكر ، وتعقبه صاحب التقريب بقوله : وفيه نظر لأن ما في ما أُتْرِفُوا موصولة لا مصدرية لعود الضمير من فِيهِ إليه ، فكيف يقدر كانُوا مصدرا إلّا أن يقال : يرجع الضمير إلى الظلم بدلالة ظَلَمُوا فتكون ما مصدرية وأن تكون الجملة اعتراضا بناء على أنه قد يكون في آخر الكلام عند أهل المعاني.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 356 وقرأ أبو جعفر والعلاء بن سيابة وأبو عمرو وفي رواية الجعفي «وأتبع» بضم الهمزة المقطوعة وسكون التاء وكسر الباء على البناء للمفعول من الاتباع ، وقيل : ولا بد حينئذ من تقدير مضاف أي اتبعوا جزاء ما أترفوا وما إما مصدرية أو موصولة والواو للحال ، وجعلها بعضهم للعطف على لم ينهو المقدر ، والمعنى على الأول إِلَّا قَلِيلًا نجيناهم وقد هلك سائرهم ، وأما قوله سبحانه : وَكانُوا مُجْرِمِينَ فقد قالوا : إنه لا يحسن جعله قيدا للإنجاء إلا من حيث إنه يجري مجرى العلة لإهلاك السائرين فيكون اعتراضا ، أو حالا من الَّذِينَ ظَلَمُوا والحال الأول من مفعول أَنْجَيْنا المقدر ، وجوز أن يفسر بذلك القراءة المشهورة ، وتقدم الإنجاء للناهين يناسب أن يبين هلاك الذين لم ينهوا ، والواو للحال أيضا في القول الشائع كأنه قيل : أَنْجَيْنا القليل وقد اتبع الذين ظلموا جزاءهم فهلكوا ، وإذا فسرت المشهورة بذلك فقيل : فاعل - اتبع ما أترفوا - أو الكلام على القلب فتدبر وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى أي ما صح وما استقام بل استحال في الحكمة أن يهلك القرى التي أهلكها وبلغتك أنباؤها أو ما يعمها وغيرها من القرى الظالم أهلها ، واللام في مثل ذلك زائدة لتأكيد النفي عند الكوفية ، وعند البصرية متعلقة بمحذوف توجه إليه النفي ، وقوله سبحانه : بِظُلْمٍ أي ملتبسا به قيل : هو حال من الفاعل أي ظالما لها والتنكير للتفخيم والإيذان بأن إهلاك المصلحين ظلم عظيم ، والمراد تنزيه اللّه تعالى عن ذلك على أبلغ وجه وإلّا فلا ظلم منه تعالى فيما يفعله بعباده كائنا ما كان لما علم من قاعدة أهل السنة ، وقوله جلّ وعلا : وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ حال من المفعول والعامل فيه عامله ، ولكن لا باعتبار تقييده بالحال السابقة لدلالته على تقييد نفي الإهلاك ظلما بحال كون أهلها مصلحين ، وفيه من الفساد على
ما قيل ما فيه بل مطلقا عن ذلك ، وهذا ما اختاره ابن عطية ، ونقل الطبري أن المراد بالظلم الشرك والباء للسببية أي لا يهلك القرى بسبب إشراك أهلها وهم مصلحون في أعمالهم يتعاطون الحق فيما بينهم بل لا بد في إهلاكهم من أن يضموا إلى شركهم فسادا وتباغيا وذلك لفرط رحمته ومسامحته في حقوقه سبحانه ، ومن ذلك قدم الفقهاء - عند تزاحم الحقوق - حقوق العباد في الجملة ما لم يمنع منه مانع.
قال ابن عطية : وهذا ضعيف ، وكأنه ذهب قائله إلى ما قيل : الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم والجور ، ولعل وجه ضعفه ما ذكره بعض المحققين من أن مقام النهي عن المنكرات التي أقبحها الإشراك باللّه تعالى لا يلائمه فإن الشرك داخل في الفساد في الأرض دخولا أوليا ولذلك كان ينهى كل من الرسل عليهم السلام أمته عنه ثم عن سائر المعاصي ، فالوجه كما قال : حمل الظلم على مطلق الفساد الشامل لسائر القبائح والآثام وحمل الإصلاح على إصلاحه ، والإقلاع عنه بكون البعض متصديا للنهي ، والبعض الآخر متوجها إلى الاتعاظ غير مصر على ما هو عليه من الشرك وغيره من أنواع الفساد انتهى ، لكن
أخرج الطبراني ، وابن مردويه وأبو الشيخ والديلمي عن جرير قال : «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يسأل عن تفسير هذه الآية وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ فقال عليه الصلاة والسلام : وأهلها ينصف بعضهم بعضا» وأخرجه ابن أبي حاتم. والخرائطي في مساوئ الأخلاق عن جرير موقوفا ،
وهو ظاهر في المعنى الذي نقله الطبري ، ولعله لم يثبت عن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم وإلّا فالأمر مشكل ، وجعل التصدي للنهي من بعض والاتعاظ من بعض آخر من إنصاف البعض البعض كما ترى فافهم وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً مجتمعين على الدين الحق بحيث لا يقع من أحد منهم كفر لكنه لم يشأ سبحانه ذلك فلم يكونوا مجتمعين على الدين الحق ، ونظير ذلك قوله سبحانه : وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها [السجدة :
13] وروي هذا عن ابن عباس وقتادة وروي عن الضحاك أن المراد لو شاء لجمعهم على هدى أو ضلالة وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ بعضهم على الحق وبعضهم على الباطل.
أخرج ذلك ابن أبي حاتم عن ابن عباس ، ولعل المراد الاختلاف في الحق والباطل من العقائد التي هي أصول

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 357
الدين بقرينة المقام ، وقيل : المراد ما يشمل الاختلاف في العقائد والفروع وغيرهما من أمور الدين لعدم ما يدل على الخصوص في النظم فالاستثناء في قوله سبحانه : إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ متصل على الأول وهو الذي اختاره أبو حيان وجماعة وعلى الثاني منقطع حيث لم يخرج من رحمة اللّه تعالى من المختلفين كأئمة أهل الحق فإنهم أيضا مختلفون فيما سوى أصول الدين من الفروع ، وإلى هذا ذهب الحوفي ومن تبعه.
وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ أي الناس ، والإشارة - كما روي عن الحسن ، وعطاء - إلى المصدر المفهوم من مُخْتَلِفِينَ ونظيره إذا نهي السفيه جرى إليه كأنه قيل : وللاختلاف خلق الناس على معنى لثمرة الاختلاف من كون فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى : 7] خلقهم ، واللام لام العاقبة والصيرورة لأن حكمة خلقهم ليس هذا لقوله سبحانه : وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات : 56] ولأنه لو خلقهم له لم يعذبهم على ارتكاب الباطل كذا قال غير واحد ، وروي عن الإمام مالك ما يقتضيه ، وعندي أنه لا ضير في الحمل على الظاهر ولا منافاة بين هذه الآية والآية التي ذكروها لما ستعلمه إن شاء تعالى من تفسيرها في الذاريات ، وما يروى فيها من الآثار وأن الخلق من توابع الإرادة التابعة للعلم التابع للمعلوم في نفسه والتعذيب أو الإثابة ليس إلّا لأمر أفيض على المعذب والمثاب بحسب الاستعداد الأصلي ، وربما يرجع هذا بالآخرة إلى أن التعذيب والإثابة من توابع ذلك الاستعداد الذي عليه المعذب أو المثاب في نفسه ، ومن هنا قالوا : إن المعصية والطاعة أمارتان على الشقاوة والسعادة لا مقتضيتان لهما ، وبذلك يندفع قولهم : ولأنه لو خلقهم له لم يعذبهم ، ولما قرّرناه شواهد كثيرة من الكتاب والسنة لا تخفى على المستعدين لإدراك الحقائق ، وقيل ضمير : خَلَقَهُمْ لمن باعتبار معناه ، والإشارة للرحمة المفهومة من رَحِمَ ، والتذكير لتأويلها بأن والفعل أو لكونها بمعنى الخير ، وروي ذلك عن مجاهد وقتادة وروي عن ابن عباس أن الضمير للناس والإشارة للرحمة والاختلاف أي لاختلاف الجميع ورحمة بعضهم خَلَقَهُمْ ، وجاءت الإشارة لاثنين كما في قوله تعالى : عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ [البقرة : 68] واللام على هذا قيل : بمعنى مجازي عام للمعنى الظاهر والصيرورة وعلى ما قبله معناها ، وأظهر الأقوال في الإشارة والضمير ما
قدمناه ، والقولان الآخران دونه ، وأما القول بأن الإشارة لما بعد ، وفي الكلام تقديم وتأخير أي - وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم إلخ أي لملء جهنم خلقهم - فبعيد جدا من تراكيب كلام العرب ومن هذا الطرز ما قيل : إن ذلك إشارة إلى شهود ذلك اليوم المشهود وكذا ما قيل : إنه إشارة إلى قوله تعالى : فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود : 105] أو إلى الشقاوة والسعادة المفهومتين من ذلك ، أو إلى أن يكون فريق في الجنة وفريق في السعير ، أو إلى النهي المفهوم من قوله سبحانه : يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ ، أو إلى الجنة والنار أو إلى العبادة إلى غير ذلك من الأقوال التي يتعجب منها.
وذهب بعض المحققين في معنى الآية إلى أن المراد من الوحدة الوحدة في الدين الحق ، ومن الاختلاف الاختلاف فيه على معنى المخالفة له كما في قوله تعالى : وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [البقرة : 213] والمراد - بمن رحم - الذين هداهم اللّه تعالى ولم يخالفوا الحق ، والإشارة للاختلاف بمعنى المخالفة ، وضمير خَلَقَهُمْ للذين بقوا بعد الثنيا وهم المختلفون المخالفون ، واللام للعاقبة كأنه قيل : ولو شاء ربك لجعل الناس على الحق ودين الإسلام لكنه لم يشأ فلم يجعل ، ولا يزالون مخالفين للحق إلّا قوما هداهم سبحانه بفضله فلم يخالفوا الحق ، ولما ذكر من الاختلاف خلق المختلفين المخالفين ولا يخفى ما فيه من ارتكاب خلاف الظاهر وإن أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد ما يقتضي بعضه.
ومن الغريب ما روي عن الحسن أن المراد من الاختلاف الاختلاف في الأرزاق والأحوال وتسخير بعضهم بعضا ، وقال ابن بحر : المراد أن بعضهم يخلف بعضا فيكون الآتي خلفا للماضي ، ومنه ما اختلف الجديدان أي ما

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 358
خلف أحدهما صاحبه ، وإلى هذا ذهب أبو مسلم إلّا أنه قال : يخلف بعضهم بعضا في الكفر تقليدا ، وفي ذلك ما فيه ، وأيا ما كان فالظاهر من الناس العموم وليتأمل هذه الآية مع قوله تعالى : وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً [هود : 19] وليراجع تفسير ذلك.
وقال الفاضل الجلبي : ليس في هذه الآية ما يدل على عموم الناس حتى تخالف وَما كانَ النَّاسُ إلخ ، وفيه نظر ، والجار والمجرور أعني لذلك متعلق - بخلق - بعده ، والظاهر أن الحصر المستفاد من التقديم إذا قلنا : إن التقديم له إضافي والمضاف هو إليه مختلف حسب اختلاف الأقوال في تعيين المشار إليه ، وهو على الأول الاتفاق وعلى ما عداه يظهر أيضا بأدنى التفات ، هذا واستدل بالآية على أن الأمر غير الإرادة وأنه تعالى لم يرد الإيمان من كل وإن ما أراده سبحانه يجب وقوعه.
وذكر بعض العارفين أن منشأ تشييب سورة هود له اللّه صلى تعالى عليه وسلم اشتمالها على أمره عليه الصلاة والسلام بالاستقامة على الدعوة مع إخباره أنه سبحانه إنما خلق الناس للاختلاف وأنه لا يشاء اجتماعهم على الدين الحق وهو كما ترى وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي نفذ قضاؤه وحق أمره ، وقد تفسر الكلمة بالوعيد مجازا ، وقد يراد منها الكلام الملقى على الملائكة عليهم السلام والأول أولى ، والجملة متضمنة معنى القسم ، ولذا جيء باللام في قوله سبحانه : لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ والجنة والجن بمعنى واحد ، وفي تفسير ابن عطية أن الهاء في الجنة للمبالغة وإن كان الجن يقع على الواحد ، فالجنة جمعه انتهى ، فيكون من الجموع التي يفرق بينها وبين مفردها بالهاء ككمء وكمأة على ما ذكرناه في تعليقاتنا على الألفية ، وفي الآية سؤال مشهور وهو أنها تقتضي بظاهرها دخول جميع الفريقين في جهنم والمعلوم من الآيات والأخبار خلافه ، وأجاب عن ذلك القاضي بما حاصله أن المراد - بالجنة والناس - إما عصاتهما على أن التعريف للعهد والقرينة عقلية لما علم من الشرع أن العذاب مخصوص بهم وأن الوعيد ليس إلّا لهم ، وفي معنى ذلك ما قيل : المراد - بالجنة والناس - أتباع إبليس لقوله سبحانه في [الأعراف : 18] و[ص :
85] لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ فاللازم دخول جميع تابعيه في جهنم ولا محذور فيه ، والقرآن يفسر بعضه بعضا ، ولا حاجة إلى تقدير عصاة مضافا إلى الفريقين كما قيل فأجمعين لاستغراق الأفراد المرادة حسبما علمت وأما ما يتبادر منهما ويراد من التأكيد بيان أن ملء جهنم من الصنفين لا من أحدهما فقط وهذا لا يقتضي شمول أفراد كلا الفريقين ويكون الداخلوها منهما مسكوتا عنه موكولا إلى شيء آخر ، واعترض الأخير بأنه مبني على وقوع أَجْمَعِينَ تأكيدا للمثنى وهو خلاف ما صرحوا به ، وفيه أن ذلك إذا كان لمثنى حقيقي لا إذا كان كل فرد منه جمعا فإنه حينئذ تأكيد للجمع في الحقيقة فلا ورود لما ذكر.
نعم يرد على الشق الأول أن التأكيد يقتضي دخول جميع العصاة في النار والمعلوم من النصوص خلافه اللهم إلّا أن يقال : المراد العصاة الذين قدر اللّه تعالى أن يدخلوها ، وأجاب بعضهم بأن ذلك لا يقتضي دخول الكل بل قدر ما يملأ جهنم كما إذا قيل : ملأت الكيس من الدراهم لا يقتضي دخول جميع الدراهم في الكيس ، ورده الجلال الدواني بأنه نظير أن يقال : ملأت الكيس من جميع الدراهم وهو بظاهره يقتضي دخول جميع الدراهم فيه ، والسؤال عليه كما في الآية باق بحاله ، ثم قال : والحق في الجواب أن يقال : المراد بلفظ أَجْمَعِينَ تعميم الأصناف ، وذلك لا يقتضي دخول جميع الأفراد كما إذا قلت : ملأت الجراب من جميع أصناف الطعام لا يقتضي ذلك إلّا أن يكون فيه شيء من كل صنف من الأصناف لا أن يكون فيه جميع أفراد الطعام ، وكقولك : امتلأ المجلس من جميع أصناف الناس فإنه لا يقتضي أن يكون في المجلس جميع أفراد الناس بل أن يكون فيه من كل صنف فرد وهو ظاهر ، وعلى هذا يظهر فائدة لفظ أَجْمَعِينَ إذ فيه رد على اليهود وغيرهم ممن زعم أنهم لا يدخلون النار انتهى ، وتعقبه ابن الصدر بقوله : فيه

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 359
بحث لأنهم صرحوا بأن فائدة التأكيد بكل وأجمعين - دفع توهم عدم الشمول والإحاطة بجميع الأفراد ، وما ذكره من المثالين فإنما نشأ شمول الأصناف فيه من إضافة لفظ الجميع إلى الأصناف كيف ولو قيل : ملأت الجراب من جميع الطعام بإسقاط لفظ الأصناف كان الكلام فيه كالكلام فيما نحن فيه ، وأيضا ما ذكره من أن في ذلك ردا على اليهود إلخ غير صحيح لأن اليهود قالوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [البقرة : 80] فكيف يزعمون أنهم لا يدخلونها أصلا فتدبر ذاك واللّه سبحانه يتولى هداك.
وأجاب بعضهم بمنزع صوفي وهو أن المراد من الجنة والنار الذين بقوا في مرتبة الجنية والإنسية حيث انغمسوا في ظلمات الطبيعة وانتكبوا في مقر الأجرام العنصرية ولم يرفعوا إلى العالم الأعلى واطمأنوا بالحياة الدنيا ورضوا بها وانسلخوا عن عالم المجردات وهم المشركون الذين قيل في حقهم : إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ [التوبة : 28] إلخ فإنهم لا يستأهلون دار اللّه تعالى وقربه ، ثم قال : ولهذا ترى اللّه تعالى شأنه يذم الإنسان ويدعو عليه في غير ما موضع وَكُلًّا أي وكل نبأ فالتنوين للتعويض عن المضاف إليه المحذوف ، ونصب - كل - على أنه مفعول به لقوله سبحانه : نَقُصُّ عَلَيْكَ أي نخبرك به ، وقوله تعالى : مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ صفة لذلك المحذوف لا - لكلا - لأنها لا توصف في الفصيح كما في إيضاح المفصل ، ومِنْ تبعيضية ، وقيل : بيانية ، وقوله عزّ وجلّ : ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ قيل : عطف بيان - لكلا - بناء على عدم اشتراط توافق البيان والمبين تعريفا وتنكيرا ، المعنى هو ما نثبت إلخ.
وجوز أن يكون بدلا منه بدل كل أو بعض ، وفائدة ذلك التنبيه على أن المقصود من الاقتصاص زيادة يقينه صلى اللّه تعالى عليه وسلم وطمأنينة قلبه وثبات نفسه على أداء الرسالة واحتمال أذى الكفار ، وجوز أيضا أن يكون مفعول نَقُصُّ وَكُلًّا حينئذ منصوب إما على المصدرية أي كل نوع من أنواع الاقتصاص نَقُصُّ عَلَيْكَ الذي نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ من أنباء الرسل ، وإما على الحالية من ما أو من الضمير المجرور في بِهِ على مذهب من يرى جواز تقديم حال المجرور بالحرف عليه ، وهو حينئذ نكرة بمعنى جميعا أي نقص عليك من أنباء الرسل الأشياء التي نثبت بها فؤادك جميعا.
واستظهر أبو حيان كون كُلًّا مفعولا به لنقص ، ومِنْ أَنْباءِ في موضع الصفة له وهو مضاف في التقدير إلى نكرة ، وما صلة كما هي في قوله تعالى : قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ [الأعراف : 3] ولا يخفي ما فيه.
وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ أي الأمر الثابت المطابق للواقع ، والإشارة بهذه إلى السورة كما جاء ذلك من عدة طرق عن ابن عباس وأبي موسى الأشعري وقتادة وابن جبير.
وقيل : الإشارة إليها مع نظائرها وليس بذاك ككونها إشارة إلى دار الدنيا ، وإن جاء في رواية عن الحسن ، وقيل :
إلى الأنباء المقتصة وهو مما لا بأس به وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ عطف على الْحَقُّ أي جاءك الجامع المتصف حقا في نفسه وكونه موعظة وذكرى للمؤمنين ، ولعل تحلية الوصف الأول باللام دون الأخيرين لما قيل : من أن الأول حال للشيء في نفسه والأخيران وصفان له بالقياس إلى غيره.
وقال الشهاب : الظاهر أن يقال إنما عرف الأول لأن المراد منه ما يختص بالنبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم من إرشاده إلى الدعوة وتسليته بما هو معروف معهود عنده ، وأما الموعظة والتذكير فأمر عام لم ينظر فيه لخصوصية ، ففرق بين الوصفين للفرق بين الموصوفين ، وفي التخصيص بهذه السورة ما يشهد له لأن مبناها على إرشاده صلى اللّه تعالى عليه وسلم على ما سمعت عن صاحب الكشف ، وتقديم الظرف على الفاعل ليتمكن المؤخر عنه وروده أفضل تمكن ولأن في المؤخر نوع طول يخل تقديمه بتجاوب النظم الكريم.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 360
وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي جهتكم وحالكم التي أنتم عليها إِنَّا عامِلُونَ على جهتنا وحالنا التي نحن عليها وَانْتَظِرُوا بنا الدوائر إِنَّا مُنْتَظِرُونَ أن ينزل بكم نحو ما نزل بأمثالكم من الكفرة ، وصيغة الأمر في الموضعين للتهديد والوعيد ، والآيتان محكمتان.
وقيل : المراد الموادعة فهما منسوختان وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي أنه سبحانه يعلم كل ما غاب في السماوات والأرض ولا يعلم ذلك أحد سواه جلّ وعلا وَإِلَيْهِ لا إلى غيره عزّ شأنه يُرْجَعُ الْأَمْرُ أي الشأن كُلُّهُ فيرجع لا محالة أمرك وأمرهم إليه ، وقرأ أكثر السبعة «يرجع» بالبناء للفاعل من رجع رجوعا فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ فإنه سبحانه كافيك ، والفاء لترتيب الأمر بالعبادة والتوكل على كون مرجع الأمور كلها إليه ، وقيل : على ذلك ، وكونه تعالى عالما بكل غيب أيضا ، وفي تأخير الأمر بالتوكل عن الأمر بالعبادة تنبيه على أن التوكل لا ينفع دونها وذلك لأن تقدمه في الذكر يشعر بتقدمه في الرتبة أو الوقوع.
وقيل : التقديم والتأخير لأن المراد من العبادة امتثال سائر الأوامر من الإرشاد والتبليغ وغير ذلك ومن التوكل التوكل فيه كأنه قيل : امتثل ما أمرت به وداوم على الدعوة والتبليغ وتوكل عليه في ذلك ولا تبال بالذين لا يؤمنون ولا يضق صدرك منهم وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ بتاء الخطاب على تغليب المخاطب ، وبذلك قرأ نافع ، وأبو عامر وحفص وقتادة والأعرج وشيبة وأبو جعفر والجحدري أي وما ربك بغافل عما تعمل أنت وما يعملون هم فيجازي كلا منك ومنهم بموجب الاستحقاق ، وقرأ الباقون من السبعة بالياء على الغيبة وذلك ظاهر ، هذا وفي زوائد الزهد لعبد اللّه ابن أحمد بن حنبل وفضائل القرآن لابن الضريس عن كعب أن فاتحة التوراة فاتحة الأنعام وخاتمتها حاتمة هود وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلى آخر السورة ، واللّه تعالى أعلم.
ومن باب الإشارة في الآيات يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ كامل الشقاوة ومنهم سعيد كامل السعادة فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ أي نار الحرمان عن المراد وآلام ما اكتسبوه من الآثام وهو عذاب النفس خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ فيخرجون من ذلك إلى ما هو أشد منه من نيران القلب وذلك بالسخط والإذلال ونيران الروح وذلك بالحجب واللعن والقهر إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ لا حجر عليه سبحانه وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ أي جنة حصول المرادات واللذات وهي جنة النفس خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ فيخرجون من ذلك إلى ما هو أعلى وأعلى من جنات القلب في مقام تجليات الصفات وجنات الروح في مقام الشهود وهناك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وقد يحمل التنوين على النوعية ويؤول الاستثناء بخروج الشقي من النار بالترقي من مقامه إلى الجنة بزكاء نفسه عما حال بينه وبينها فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ أي في القيام بحقوق الحق والخلق وذلك بالمحافظة على حقوقه تعالى والتعظيم لأمره والتسديد لخلقه مع شهود الكثرة في الوحدة والوحدة في الكثرة من غير إخلال ما بشرط من شرائط التعظيم وَمَنْ تابَ عن إنيته وذنب وجوده معك من المؤمنين الموحدين إلى مقام البقاء بعد الفناء ، وقيل : إن الاستقامة المأمور بها صلى اللّه تعالى عليه وسلم فوق الاستقامة المأمور بها من معه عليه الصلاة والسلام والعطف لا يقتضي أكثر من المشاركة في مطلق الفعل كما يرشد إليه قوله تعالى : شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ على قول ، ومن هنا قال الجنيد قدس سره : الاستقامة مع الخوف والرجاء حال العابدين والاستقامة مع الهيبة
والرجاء حال المقربين ، والاستقامة مع الغيبة عن رؤية الاستقامة حال العارفين وَلا تَطْغَوْا ولا تخرجوا عما حدّ لكم من الشريعة فإن الخروج عنها زندقة وَلا تَرْكَنُوا أي لا تميلوا أدنى ميل إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا وهي النفوس المظلمة المائلة إلى الشرور في أصل الخلقة كما قيل :

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 361
الظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لم يظلم
وروي ذلك عن علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر رضي اللّه تعالى عنهم ،
وقيل : المعنى لا تقتدوا بالمرائين والجاهلين وقرناء السوء ، وقيل : لا تصحبوا الأشرار ولا تجالسوا أهل البدع وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ أمر بإقامة الصلاة المفروضة على ما علمت ، وقد ذكروا أن الصلاة معراج المؤمن ،
وفي الأخبار ما يدل على علو شأنها والأمر غني عن البيان إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ قال الواسطي : أنوار الطاعات تذهب بظلم المعاصي.
وقال يحيى بن معاذ : إن اللّه سبحانه لم يرض للمؤمن بالذنب حتى ستر ولم يرض بالستر حتى غفر ولم يرض بالغفران حتى بدل فقال سبحانه : إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ وقال تعالى : فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ذلك الذي ذكر من إقامة الصلاة في الأوقات المشار إليها وإذهاب الحسنات السيئات ذكرى للذاكرين تذكير لمن يذكر حاله عند الحضور مع اللّه تعالى في الصفاء والجمعية والأنس والذوق وَاصْبِرْ باللّه سبحانه في الاستقامة ومع اللّه تعالى بالحضور في الصلاة وعدم الركون إلى الغير فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ الذين يشاهدونه في حال القيام بالحقوق فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ فيه حض على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ قيل : القرى فيه إشارة إلى القلوب وَأَهْلُها إشارة إلى القوى وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً متساوية في الاستعداد متفقة على دين التوحيد وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ في الوجهة والاستعداد إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ بهدايته إلى التوحيد وتوفيقه للكمال فإنهم متفقون في المذهب والمقصد متوافقون في السيرة والطريقة قبلتهم الحق ودينهم التوحيد والمحبة وإن اختلفت عباراتهم كما قيل :
عباراتنا شتى وحسنك واحد وكل إلى ذاك الجمال يشير
وَلِذلِكَ الاختلاف خَلَقَهُمْ وذلك ليكونوا مظاهر جماله وجلاله ولطفه وقهره ، وقيل : ليتم نظام العالم ويحصل قوام الحياة الدنيا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي أحكمت وأبرمت لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لأن جهنم رتبة من مراتب الوجود لا يجوز في الحكمة تعطيلها وإبقاؤها في كتم العدم مع إمكانها وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ لما اشتملت عليه من مقاساتهم الشدائد من أممهم مع ثباتهم وصبرهم وإهلاك أعدائهم وَجاءَكَ فِي هذِهِ السورة الْحَقُّ الذي لا ينبغي المحيد عنه وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ وتخصيص هذه السورة بالذكر لما أشرنا إليه ، وقيل : للتشريف ، وإلّا فالقرآن كله كذلك ، والكل يغرف من بحره على ما يوافق مشربه ، ومن هنا قيل : العموم متعلقون بظاهره ، والخصوص هائمون بباطنه ، وخصوص الخصوص مستغرقون في تجلي الحق سبحانه فيه وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ على اختلاف معانيها وَالْأَرْضِ كذلك وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ أي كل شأن من الشؤون فإن الكل منه فَاعْبُدْهُ أسقط عنك حظوظ نفسك وقف مع الأمر بشرط الأدب وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ لا تهتم بما قد كفيته واهتم بما ندبت إليه وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فيجازي كلا حسبما تقتضيه الحكمة واللّه تعالى ولي التوفيق وبيده أزمة التحقيق لا رب غيره ولا يرجى إلّا خيره.
انتهى ما وفقنا له من تفسير سورة هود بمنّ من بيده الكرم والجود ، ونسأله سبحانه أن ييسر لنا إتمام ما قصدناه ، ويوفقنا لفهم معاني كلامه على ما يحبه ويرضاه ، والحمد للّه حق حمده ، والصلاة والسلام على من لا نبي من بعده ، وعلى آله وصحبه وجنده وحزبه ، ما غردت الأقلام في رياض التحرير ، ووردت الأفهام من حياض التفسير.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 362
سورة يوسف
مكية كلها على المعتمد ، وروي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا : إلا ثلاث آيات من أولها ، واستثنى بعضهم رابعة ، وروي قوله سبحانه : لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ [يوسف : 7] وكل ذلك واه جدا لا يلتفت إليه ، وما اعتمدناه كغيرنا هو الثابت عن الحبر ، وقد أخرجه النحاس وأبو الشيخ وابن مردويه عنه ، وأخرجه الأخير عن ابن الزبير وهو الذي يقتضيه ما أخرجه الحاكم وصححه عن رفاعة بن رافع من حديث طويل يحكي فيه قدوم رافع مكة وإسلامه وتعليم رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم إياه هذه السورة ، واقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق : 1] وآيها مائة وإحدى عشرة آية بالإجماع على ما نقل عن الداني وغيره ، وسبب نزولها على ما
روي عن سعد بن أبي وقاص أنه أنزل القرآن على رسول اللّه عليه الصلاة والسلام فتلاه على أصحابه زمانا فقالوا : يا رسول اللّه لو قصصت علينا فنزلت ،
وقيل : هو تسلية الرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم عما يفعله به قومه بما فعلت إخوة يوسف عليه السلام به ، وقيل : إن اليهود سألوه صلى اللّه تعالى عليه وسلم أن يحدثهم بأمر يعقوب وولده وشأن يوسف وما انتهى إليه فنزلت ،
وقيل : إن كفار مكة أمرتهم اليهود أن يسألوا رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم عن السبب الذي أحل بني إسرائيل بمصر فسألوه فنزلت
ويبعد القولين الأخيرين فيما زعموا ما
أخرجه البيهقي في الدلائل من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن حبرا من اليهود دخل على رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فوافقه وهو يقرأ سورة يوسف فقال : يا محمد من علمكها؟ قال : اللّه علمنيها فعجب الحبر لما سمع منه فرجع إلى اليهود فقال لهم : واللّه إن محمدا ليقرأ القرآن كما أنزل في التوراة فانطلق بنفر منهم حتى دخلوا عليه فعرفوه بالصفة ونظروا إلى خاتم النبوة بين كتفيه فجعلوا يستمعون إلى قراءة سورة يوسف فتعجبوا وأسلموا عند ذلك ،
وفي القلب من صحة الخبر ما فيه ، ووجه مناسبتها للتي قبلها اشتمالها على شرح ما قاساه بعض الأنبياء عليهم السلام من الأقارب ، وفي الأولى ذكر ما لقوا من الأجانب ، وأيضا قد وقع فيما قبل فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ [هود : 71] وقوله سبحانه : رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ [هود : 73] ووقع هنا حال يعقوب مع أولاده وما صارت إليه عاقبة أمرهم مما هو أقوى شاهد على الرحمة ، وقد جاء عن ابن عباس وجابر بن زيد أن يونس نزلت ثم هود ثم يوسف وعد هذا وجها آخر من وجوه المناسبة.
[سورة يوسف (12) : الآيات 1 إلى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3) إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4)
قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 363
الر الكلام فيه وفي نظائره شهير وقد تقدم لك منه ما فيه إقناع ، والإشارة في قوله سبحانه : تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ إليه في قول : وإلى آياتُ هذه السورة في آخر ، وأشير إليها مع أنها لم تذكر بعد لتنزيلها لكونها مترقبة منزلة المتقدم أو لجعل حضورها في الذهن بمنزلة الوجود الخارجي والإشارة بما يشار به للبعيد ، أما على الثاني فلأن ما أشير إليه لما لم يكن محسوسا نزل منزلة البعيد لبعده عن حيز الإشارة أو العظمة وبعد مرتبته وعلى غيره لذلك ، أو لأنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه صار كالمتباعد.
وزعم بعضهم أن الإشارة إلى ما في اللوح وهو بعيد ، وأبعد من ذلك كون الإشارة إلى التوراة والإنجيل أو الآيات التي ذكرت في سورة هود والمراد بالكتاب إما هذه السورة أو القرآن ، وقد تقدم لك في يونس ما يؤنسك تذكره هنا فتذكر الْمُبِينِ من أبان بمعنى بان أي ظهر فهو لازم أي الظاهر أمره في كونه من عند اللّه تعالى وفي إعجازه أو الواضح معانيه للعرب بحيث لا تشتبه عليهم حقائقه ولا تلتبس عليهم دقائقه وكأنه على المعنيين حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فارتفع واستتر ولا يعد هذا من حذف الفاعل المحظور فلا حاجة إلى القول بأن الإسناد مجازي فرارا منه ، أو بمعنى بين بمعنى أظهر فهو متعد والمفعول مقدر أي المظهر ما فيه هدى ورشد ، أو ما سألت عنه اليهود «1» أو ما أمرت أن تسأل عنه من السبب الذي أحلّ بني إسرائيل بمصر ، أو الأحكام والشرائع وخفايا الملك والملكوت وأسرار النشأتين وغير ذلك من الحكم والمعارف والقصص.
وعن ابن عباس ومجاهد الاقتصار على الحلال والحرام وما يحتاج إليه في أمر الدين ، وأخرج ابن جرير عن خالد بن معدان عن معاذ رضي اللّه تعالى عنه أنه قال في ذلك : بين اللّه تعالى فيه الحروف التي سقطت عن ألسن الأعاجم ، وهي ستة أحرف : الطاء والظاء والصاد والضاد والعين والحاء المهملتان والمذكور في - الفرهنك وغيره - من الكتب المؤلفة في اللغة الفارسية أن الأحرف الساقطة ثمانية ، ونظم ذلك بعضهم فقال :
هشت حرفست آن كه أندر فارسي نايد همي تا نياموزى نباشى أندرين معنى معاف
بشنو اكنون تا كدام است أن حروف وياد كير ثا وحا وصاد وطا وظا وعين وقاف
ومع هذا فالأمر مبني على الشائع الغالب وإلّا فبعض هذه الأحرف موجود في بعض كلماتهم كما لا يخفى على المتتبع ، ولعل الوصف على الأقوال الأول أمدح منه على قول الأخير ، والظاهر أن ذلك وصف له باعتبار الشرف الذاتي ، قوله سبحانه : إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وصف له باعتبار الشرف الإضافي وضمير الغائب للكتاب السابق
___________
(1) وفي الكلام على هذا براعة استهلال فافهم ا ه منه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 364
ذكره فإن كان المراد به القرآن كله كما هو الظاهر المناسب للحال فذاك وإن كان المراد به هذه السورة فتسميته قرآنا لأنه اسم جنس يقع على الكثير والقليل فكما يطلق على الكل يطلق على البعض ، نعم إنه غلب على الكل عند الإطلاق معرفا لتبادره ، وهل وصل بالغلبة إلى حد العلمية أو لا؟ فيه خلاف ، وإلى الأول ذهب البيضاوي قدس سره فتلزمه الألف واللام ومع ذلك لم يهجر المعنى الأول ، ووقع في كتب الأصول أنه وضع تارة للكل خاصة ، وأخرى لما يعمه ، والبعض أعني الكلام المنقول في المصحف تواترا ، ونظر فيه بأن الغلبة ليس لها وضع ثان وإنما هي تخصيص لبعض أفراد الموضوع له ، ولذا لزمت العلم بها اللام أو الإضافة إلّا أن يدعى أن فيها وضعا تقديريا كذا قيل وممن صرح - بأن التعيين بالغلبة قسيم للتعيين بالوضع - العلامة الزرقاني وغيره لكن تعقبه الحمصي فقال : إن دلالة الإعلام بالغلبة على تعيين مسماها بالوضع وإن كان غير الوضع الأول فليتأمل.
وعن الزجاج وابن الأنباري أن الضمير لنبأ يوسف وإن لم يذكر في النظم الكريم ، وقيل : هو للإنزال المفهوم من الفعل ، ونصبه على أنه مفعول مطلق ، وَقُرْآناً هو المفعول به ، والقولان ضعيفان كما لا يخفى ، ونصب قُرْآناً على أنه حال وهو بقطع النظر عما بعده وعن تأويله بالمشتق حال موطئة للحال التي هي عَرَبِيًّا وإن أول بالمشتق أي مقروءا فحال غير موطئة وعَرَبِيًّا إما صفته على رأي من يجوز وصف الصفة ، وإما حال من الضمير المستتر فيه على رأي من يقول بتحمل المصدر الضمير إذا كان مؤولا باسم المفعول مثلا ، وقيل : قُرْآناً بدل من الضمير ، وعَرَبِيًّا صفته ، وظاهر صنيع أبي حيان يقتضي اختياره ، ومعنى كونه عَرَبِيًّا أنه منسوب إلى العرب باعتبار أنه نزل بلغتهم وهي لغة قديمة.
أخرج ابن عساكر في التاريخ عن ابن عباس أن آدم عليه السلام كان لغته في الجنة العربية فلما أكل من الشجرة سلبها فتكلم بالسريانية فلما تاب ردّها اللّه تعالى عليه ، وقال عبد الملك بن حبيب : كان اللسان الأول الذي هبط به آدم عليه السلام من الجنة عربيا إلى أن بعد وطال العهد حرف وصار سريانيا وهو منسوب إلى أرض سورية وهي أرض الجزيرة. وبها كان نوح عليه السلام وقومه قبل الغرق ، وكان يشاكل اللسان العربي إلا أنه محرف وكان أيضا لسان جميع من في السفينة إلا رجلا واحدا يقال له : جرهم فإنه كان لسانه العربي الأول فلما خرجوا من السفينة تزوج إرم بن سام بعض بناته وصار اللسان العربي في ولده عوص أبي عاد وعبيل وجاثر أبي ثمود وجديس وسميت عاد باسم جرهم لأنه كان جدّهم من الأم وبقي اللسان السرياني في ولد أرفخشد بن سام إلى أن وصل إلى قحطان من ذريته وكان باليمن فنزل هناك بنو إسماعيل عليه السلام فتعلم منهم بنو قحطان اللسان العربي ، وقال ابن دحية : العرب أقسام : الأول عاربة وعرباء - وهم الخلص - وهم تسع قبائل من ولد إرم بن نوح ، وهي عاد وثمود وأميم وعبيل وطسم وجديس وعمليق وجرهم ووبار ومنهم تعلم إسماعيل عليه السلام العربية ، والثاني المتعربة قال في الصحاح : وهم الذين ليسوا بخلص وهم بنو قحطان ، والثالث المستعربة وهم الذين ليسوا بخلص أيضا - وهم بنو إسماعيل - وهم ولد معد بن عدنان بن أدد ا ه.
وقال ابن دريد في الجمهرة العرب العاربة سبع قبائل : عاد وثمود وعمليق وطسم وجديس وأميم وجاسم وقد انقرض أكثرهم إلا بقايا متفرقين في القبائل ، وأول من انعدل لسانه عن السريانية إلى العربية يعرب بن قحطان وهو مراد الجوهري بقوله : إنه أول من تكلم بالعربية ، واستدل بعضهم على أنه أول من تكلم بها بما أخرجه ابن عساكر في التاريخ بسند رواه عن أنس بن مالك موقوفا ولا أراه يصح ذكر فيه تبلبل الألسنة ببابل وأنه أول من تكلم بالعربية.
وأخرج الحاكم في المستدرك وصححه ، والبيهقي في شعب الإيمان من طريق سفيان الثوري عن جعفر بن

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 365
محمد عن أبيه عن جابر رضي اللّه تعالى عنهم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم تلا هذه الآية إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا إلخ ثم قال :
«ألهم إسماعيل عليه السلام هذا اللسان العربي إلهاما»
وقال الشيرازي في كتاب الألقاب : أخبرنا أحمد بن إسماعيل المداني أخبرنا محمد بن أحمد بن إسحاق الماشي حدثنا محمد بن جابر حدثنا أبو يوسف بن السكيت قال : حدثني الأثرم عن أبي عبيدة حدثنا مسمع بن عبد الملك عن محمد بن علي بن الحسين عن آبائه رضي اللّه تعالى عنهم أجمعين عن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : «أول من فتق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل عليه السلام وهو ابن أربع عشرة سنة»
وروي أيضا عن ابن عباس أن إسماعيل عليه السلام أول من تكلم بالعربية المحضة ، وأريد بذلك - على ما قاله بعض الحفاظ - عربية قريش «1» التي نزل بها القرآن وإلا فاللغة العربية مطلقا كانت قبل إسماعيل عليه السلام وكانت لغة حمير وقحطان وقال محمد بن سلام : أخبرني يونس عن أبي عمرو بن العلاء قال : العرب كلها ولد إسماعيل إلا حميرا وبقايا جرهم وقد جاورهم وأصهر إليهم ، وذكر ابن كثير أن من العرب من ليس من ذريته كعاد وثمود وطسم وجديس وأميم وجرهم والعماليق وأمم غيرهم لا يعلمهم إلا اللّه سبحانه كانوا قبل الخليل عليه السلام وفي زمانه وكان عرب الحجاز من ذريته «2» وأما عرب اليمن - وهم حمير - فالمشهور كما قال ابن ماكولا : إنهم من قحطان واسمه مهزم وهو ابن هود ، وقيل : أخوه ، وقيل : من ذريته ، وقيل : قحطان هو هود ، وحكى ابن إسحاق ، وغيره أنه من ذرية إسماعيل ، والجمهور على أن العرب القحطانية من عرب اليمن وغيرهم ليسوا من ذريته عليه السلام وأن اللغة العربية مطلقا كانت قبله وهي إحدى اللغات التي علمها آدم عليه السلام وكان يتكلم بها وبغيرها أيضا وكثر تكلمه فيما قيل : بالسريانية ، وادعى بعضهم أنها أول اللغات وأن كل لغة سواها حدثت بعدها إما توقيفا أو اصطلاحا ، واستدلوا على أسبقيتها وجودا بأن القرآن كلام اللّه تعالى وهو عربي وفيه ما فيه ، وهي أفضل اللغات حتى حكى شيخ الإسلام ابن تيمية عن الإمام أبي يوسف عليه الرحمة كراهة التكلم بغيرها لمن يحسنها من غير حاجة ، وبعدها في الفضل على ما قيل : الفارسية الدرية «3» حتى روي عن الإمام أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنه جواز قراءة القرآن بها سواء في ذلك ما كان ثناء كالإخلاص وغيره.
وسواء كانت عن عجز عن العربية أم لا ، وروي عن صاحبيه جواز القراءة في الصلاة بغير العربية لمن لا يحسنها وفي النهاية والدراية أن أهل فارس كتبوا إلى سلمان الفارسي أن يكتب لهم الفاتحة بالفارسية فكتب فكانوا يقرؤون ما كتب في الصلاة حتى لانت ألسنتهم.
وقد عرض ذلك على النبي عليه الصلاة والسلام ولم ينكر عليه ، نعم الصحيح ان الإمام رجع عن ذلك ، وفي النفحة القدسية في أحكام قراءة القرآن وكتابته بالفارسية للشرنبلالي ما ملخصه : حرمة كتابة القرآن بالفارسية إلا أن يكتبه بالعربية ويكتب تفسير كل حرف وترجمته وحرمة مسه لغير الطاهر اتفاقا كقراءته وعدم صحة الصلاة بافتتاحها بالفارسية وعدم صحتها بالقراءة بها إذا كانت ثناء واقتصاره عليها مع القدرة على العربية وعدم الفساد بما هو ذكر وفسادها بما ليس ذكرا بمجرد قراءته ولا يخرج عن كونه أميا وهو يعلم الفارسية فقط وتصح الصلاة بدون قراءة للعجز عن العربية على الصحيح عند الإمام وصاحبيه ، وأطال الكلام في ذلك ، وفي معراج الدراية من تعمد قراءة القرآن او كتابته بالفارسية فهو مجنون أو زنديق والمجنون يداوى والزنديق يقتل ، وروي ذلك عن أبي بكر محمد بن الفضل البخاري
___________
(1) وصححوا أن العربية المحضة كانت بتوقيف منه تعالى لاسماعيل عليه السلام فليحفظ ا ه منه.
(2) ذكر بعضهم أنهم كانوا أربعة إخوة قحطان وقاحط ومقحط وفالغ وفي قحطان الخلاف ا ه منه
(3) وفي رواية عنه أنه لا فرق في ذلك بين الفارسية وغيرها من اللغات كالهندية ا ه منه

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 366
ومع هذا لا ينكر فضل الفارسية ،
ففي الحديث «لسان أهل الجنة العربي والفارسي الدري»
وقد اشتهر ذلك لكن ذكر الذهبي في تاريخه عن سفيان أنه قال : بلغنا أن الناس يتكلمون يوم القيامة بالسريانية فإذا دخلوا الجنة تكلموا بالعربية.
وأخرج الطبراني والحاكم والبيهقي وآخرون عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «أحبوا العرب لثلاث لأني عربي والقرآن عربي وكلام أهل الجنة عربي».
وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة ما يعضده ، ولا يخفى على الخبير بمزايا الكلام أن في الكلام العربي من لطائف المعاني ودقائق الأسرار ما لا يستقل بأدائه لسان «1» ويليه في ذلك الكلام الفارسي فإن كان هذا مدار الفضل فلا ينبغي أن يتنازع اثنان في أفضلية العربي ثم الفارسي مما وصل إلينا من اللغات وإن كان شيئا آخر فالظاهر وجوده في العربي الذي اختار سبحانه إنزال القرآن به لا غير ، وقد قسم لنبينا صلى اللّه تعالى عليه وسلم من هذا اللسان ما لم يقسم لأحد من فصحاء العرب ،
فقد أخرج ابن عساكر في تاريخه عن عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : «يا رسول اللّه ما لك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ قال : كانت لغة إسماعيل قد درست فجاء بها جبريل عليه السلام فحفظنيها فحفظتها».
وأخرج البيهقي من طريق يونس عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبيه من حديث فيه طول قال رجل «يا رسول اللّه ما أفصحك ما رأينا الذي هو أعرب منك؟ قال : حق لي فإنما أنزل القرآن علي بلسان عربي مبين» ،
هذا وجوز أن يكون العربي منسوبا إلى عربة وهي ناحية دار إسماعيل عليه السلام قال الشاعر :
وعربة أرض ما يحل حرامها من الناس إلا اللوذعي الحلاحل
والمراد لغة أهل هذه الناحية ، واستدل جماعة منهم الشافعي رضي اللّه تعالى عنه وابن جرير وأبو عبيدة والقاضي أبو بكر بوصف القرآن بكونه عربيا على أنه لا معرب فيه ، وشدد الشافعي التكبير على من زعم وقوع ذلك فيه ، وكذا أبو عبيدة فإنه قال : من زعم أن فيه غير العربية فقد أعظم القول.
ووجه ابن جرير ما ورد عن ابن عباس وغيره في تفسير ألفاظ منه أنها بالفارسية أو الحبشية أو النبطية كذا بأن ذلك مما اتفق فيه توارد اللغات ، وقال غيره : بل كان للعرب التي نزل القرآن بلغتهم بعض مخالطة لأهل سائر الألسنة في أسفار لهم فعلقت من لغاتهم ألفاظ غيرت بعضها بالنقص من حروفها واستعملتها في أشعارها ومحاورتها حتى جرت مجرى العربي الفصيح ووقع بها البيان ، وعلى هذا الحد نزل بها القرآن.
وقال آخرون : كل تلك الألفاظ عربية صرفة ولكن لغة العرب متسعة جدا ولا يبعد أن تخفى على الأكابر الأجلة ، وقد خفي على ابن عباس معنى فاطر وفاتح ، ومن هنا قال الشافعي في الرسالة : لا يحيط باللغة إلا نبي.
وذهب جمع إلى وقوع غير العربي فيه ، وأجابوا عن الآية بأن الكلمات اليسيرة بغير العربية لا تخرجه عن العربية ، فالقصيدة الفارسية لا تخرج عن كونها فارسية بلفظة عربية.
وقال غير واحد : المراد أنه عربي الأسلوب ، واستدلوا باتفاق النحاة على أن منع صرف نحو إبراهيم للعلمية والعجمة ، ورد بأن الأعلام ليست محل خلاف وإنما الخلاف في غيرها ، وأجيب بأنه إذا اتفق على وقوع الأعلام فلا مانع من وقوع الأجناس ونظر فيه ، واختار الجلال السيوطي القول بالوقوع ، واستدل عليه بما صح عن أبي ميسرة
___________
(1) وكذا في العربي ثم الفارسي من الاتساع ما لا يخفى ا ه منه

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 367
التابعي الجليل أنه قال : في القرآن من كل لسان ، وروي مثله عن سعيد بن جبير ووهب بن منبه.
وذكر أن حكمة وقوع تلك الألفاظ فيه أنه حوى علوم الأولين والآخرين ونبأ كل شيء فلا بد أن تقع فيه الإشارة إلى أنواع اللغات لتتم إحاطته بكل شيء فاختير له من كل لغة أعذبها وأخفها وأكثرها استعمالا للعرب وأيضا لما كان النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم مرسلا إلى كل أمة ناسب أن يكون في كتابه المبعوث به من لسان كل قوم شيء ، وقد أشار إلى الوجه الأول ابن النقيب.
وقال أبو عبد اللّه القاسم بن سلام بعد أن حكى القول بالوقوع عن الفقهاء : والمنع عن أهل العربية الصواب تصديق القولين جميعا وذلك أن هذه الأحرف أصولها عجمية كما قال الفقهاء لكنها وقعت للعرب فعربتها بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها فصارت عربية ثم نزل القرآن ، وقد اختلطت هذه الأحرف بكلام العرب فمن قال :
إنها عربية فهو صادق ، ومن قال : إنها عجمية فهو صادق ، ومال إلى هذا القول الجواليقي وابن الجزري وآخرون ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى في سورة إبراهيم عليه السلام ما يتعلق بهذا المبحث أيضا فليتفطن وليتأمل.
واحتج الجبائي بالآية على كون القرآن مخلوقا من أربعة أوجه : الأول وصفه بالإنزال ، والقديم لا يجوز عليه ذلك ، الثاني وصفه بكونه عربيا ، والقديم لا يكون عربيا ولا فارسيا ، الثالث أن قوله تعالى : إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا يدل على أنه سبحانه قادر على إنزاله غير عربي وهو ظاهر الدلالة على حدوثه.
الرابع أن قوله عزّ شأنه تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ يدل على تركبه من الآيات والكلمات وكل ما كان مركبا كان محدثا ضرورة أن الجزء الثاني غير موجود حال وجود الجزء الأول.
وأجاب الأشاعرة عن ذلك كله بأن قصارى ما يلزم منه أن المركب من الحروف والكلمات محدث وذلك مما لا نزاع لنا فيه ، والذي ندعي قدمه شيء آخر نسميه الكلام النفسي وهو مما لا يتصف بالإنزال ولا بكونه عربيا ولا غيره ولا بكونه مركبا من الحروف ولا غيرها ، وقد تقدم لك في المقدمات ما ينفعك هنا فلا تغفل.
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي لكي تفهموا معانيه وتحيطوا بما فيه من البدائع أو تستعملوا فيه عقولكم فتعلموا أنه خارج عن طوق البشر مشتمل على ما يشهد له أنه منزل من عند خلاق القوى والقدر ، وهذا بيان لحكمة إنزاله بتلك الصفة ، وصرح غير واحد أن - لعل - مستعملة بمعنى لام التعليل على طريق الاستعارة التبعية ، ومراده من ذلك ظاهر ، وجعلها للرجاء من جانب المخاطبين وإن كان جائزا لا يناسب المقام.
وزعم الجبائي أن المعنى أنزله لتعقلوا معانيه في أمر الدين فتعرفوا الأدلة الدالة على توحيده وما كلفكم به ، وفيه دليل على أنه تعالى أراد من الكل الإيمان والعمل الصالح من حصل منه ذلك ومن لم يحصل ، وفيه أنه بمعزل عن الاستدلال به على ما ذكر كما لا يخفى نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أي نخبرك ونحدثك من قص أثره إذا اتبعه كأن المحدث يتبع ما حدث به وذكره شيئا فشيئا ومثل ذلك تلي أَحْسَنَ الْقَصَصِ أي أحسن الاقتصاص فنصبه على المصدرية إما لإضافته إلى المصدر أو لكونه في الأصل صفة مصدر أي قصصا أحسن القصص ، وفيه مع بيان الواقع إيهام لما في اقتصاص أهل الكتاب من القبح والخلل ، والمفعول به محذوف أي مضمون هذا القرآن ، والمراد به هذه السورة ، وكذا في قوله عزّ وجلّ : بِما أَوْحَيْنا أي بسبب إيحائنا.
إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ والتعرض لعنوان قرآنيتها لتحقيق أن الاقتصاص ليس بطريق الإلهام أو الوحي غير المتلو ، ولعل كلمة هذَا للإيماء إلى تعظيم المشار اليه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 368
وقيل : فيها إيماء إلى مغايرة هذا القرآن لما في قوله تعالى : قُرْآناً عَرَبِيًّا بأن يكون المراد بذلك المجموع وفيه تأمل ، وأحسنيته لأنه قد قص على أبدع الطرائق الرائعة الرائقة ، وأعجب الأساليب الفائقة اللائقة كما لا يكاد يخفى على من طالع القصة من كتب الأولين وإن كان لا يميز الغث من السمين ولا يفرق بين الشمال واليمين ، وجوز أن يكون هذا المذكور مفعول نَقُصُّ.
وصرح غير واحد أن الآية من باب تنازع الفعلين ، والمذهب البصري أولى هنا إما لفظا فظاهر وإما معنى فلأن القرآن كما سمعت السورة وإيقاع الإيحاء عليها أظهر من إيقاع نَقُصُّ باعتبار اشتمالها على القصة وما هو أظهر أولى بإعمال صريح الفعل فيه ، وفيه من تفخيم القرآن وإحضار ما فيه من الإعجاز وحسن البيان ما ليس في إعمال نَقُصُّ صريحا ، وجوز تنزيل أحد الفعلين منزلة اللازم ، ويجوز أن يكون أَحْسَنَ مفعولا به لنقص ، والقصص : إما فعل بمعنى مفعول كالنبأ والخبر أو مصدر سمي به المفعول كالخلق والصيد أي نقص عليك أحسن ما يقصه من الأنباء وهو قصة آل يعقوب عليه السلام ، ووجه أحسنيتها اشتمالها على حاسد ومحسود ومالك ومملوك وشاهد ومشهود وعاشق ومعشوق وحبس وإطلاق وخصب وجدب وذنب وعفو وفراق ووصال وسقم وصحة وحل وارتحال وذل وعز وقد أفادت أنه لا دافع لقضاء اللّه تعالى ولا مانع من قدره وأنه سبحانه إذا قضى لإنسان بخير ومكرمة فلو أن أهل العالم اجتمعوا على دفع ذلك لم يقدروا وأن الحسد سبب الخذلان والنقصان ، وأن الصبر مفتاح الفرج ، وأن التدبير من العقل وبه يصلح أمر المعاش إلى غير ذلك مما يعجز عن بيانه بنان التحرير.
وقيل : إنما كانت وأَحْسَنَ لأن غالب من ذكر فيها كان مآله إلى السعادة ، وقيل : المقصوص أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية لا قصة آل يعقوب فقط ، والمراد بهذا القرآن ما اشتمل على ذلك ، أَحْسَنَ ليس أفعل تفضيل بل هو بمعنى حسن كأنه قيل : حسن القصص من باب إضافة الصفة إلى الموصوف أي القصص الحسن ، والقول عليه عند الجمهور ما ذكرنا ، قيل : ولكونها بتلك المثابة من الحسن تتوفر الدواعي إلى نقلها ولذا لم تتكرر كغيرها من القصص ، وقيل : سبب ذلك من افتتان امرأة ونسوة بأبدع الناس جمالا ، ويناسب ذلك عدم التكرار لما فيه من الإغضاء والستر ، وقد صحح الحاكم في مستدركه حديث النهي عن تعليم النساء سورة يوسف ، وقال الأستاذ أبو إسحاق : إنما كرر اللّه تعالى قصص الأنبياء وساق هذه القصة مساقا واحدا إشارة إلى عجز العرب كأن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال لهم : إن كان من تلقاء نفسي فافعلوا في قصة يوسف ما فعلت في سائر القصص وهو وجه حسن إلا أنه يبقى عليه أن تخصيص سورة يوسف لذلك يحتاج إلى بيان فإن سوق قصة آدم عليه السلام مثلا مساقا واحدا يتضمن الإشارة إلى ذلك أيضا بعين ما ذكر ، وقال الجلال السيوطي : ظهر لي وجه في سوقها كذلك وهو أنها نزلت بسبب طلب الصحابة أن يقص عليهم فنزلت مبسوطة تامة ليحصل لهم مقصود القصص من الاستيعاب وترويح النفس بالإحاطة ولا يخفى ما فيه ، وكأنه لذلك قال : وأقوى ما يجاب به أن قصص الأنبياء إنما كررت لأن المقصود بها إفادة إهلاك من كذبوا رسلهم والحاجة داعية إلى ذلك كتكرير تكذيب الكفار للرسول صلى اللّه تعالى عليه وسلم فكلما كذبوا أنزلت قصة منذرة بحلول العذاب كما حل بالمكذبين ، ولهذا قال سبحانه في آيات : فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ [الأنفال : 38] أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ [الأنعام : 6] وقصة يوسف لم يقصد منها ذلك ، وبهذا أيضا يحصل الجواب عن عدم
تكرير قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين وقصة موسى مع الخضر وقصة الذبيح ، ثم قال : فإن قلت : قد تكررت قصة ولادة يحيى وولادة عيسى عليهما السلام مرتين وليست من قبيل ما ذكرت قلت الأولى في سورة - كهيعص - وهي مكية أنزلت خطابا لأهل مكة ، والثانية في سورة آل عمران وهي مدنية

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 369
أنزلت خطابا لليهود ولنصارى نجران حين قدموا ولهذا اتصل بهذا ذكر المحاجة والمباهلة ا ه.
واعترض بأن قصة آدم عليه السلام كررت مع أنه ليس المقصود بها إفادة إهلاك من كذبوا رسلهم ، وأجيب بأنها وإن لم يكن المقصود بها إفادة ما ذكر إلّا أن فيها من الزجر عن المعصية ما فيها فهي أشبه قصة بتلك القصص التي كررت لذلك فافهم وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ أي قبل إيحائنا إليك ذلك لَمِنَ الْغافِلِينَ عنه لم يخطر ببالك ولم يقرع سمعك ، وهذا تعليل لكونه موحى كما ذكره بعض المحققين والأكثر في مثله ترك الواو ، والتعبير عن عدم العلم بالغفلة لإجلال شأن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم وكذا العدول عن - لغافلا - إلى ما في النظم الجليل عند بعض ، ويمكن أن يقال : إن الشيء إذا كان بديعا وفيه نوع غرابة إذا وقف عليه قيل للمخاطب : كنت عن هذا غافلا فيجوز أن يقصد الإشارة إلى غرابة تلك القصة فيكون كالتأكيد لما تقدم إلّا أن فيه ما لا يخفى وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن واللام فارقة ، وجملة كُنْتَ إلخ خبر - إن - إِذْ قالَ يُوسُفُ نصب بإضمار - اذكر - بناء على تصرفها ، وذكر الوقت كناية عن ذكر ما حدث فيه والكلام شروع في إنجاز ما وعد سبحانه ، وحكى مكي أن العامل في إِذْ الغافلين.
وقال ابن عطية : يجوز أن يكون العامل فيها نَقُصُّ وروي ذلك عن الزجاج على معنى نقص عليك الحال إِذْ إلخ. وهي للوقت المطلق المجرد عن اعتبار المضي ، وفي كلا الوجهين ما فيه.
واستظهر أبو حيان بقاءها على معناها الأصلي وأن العامل فيها قالَ يا بُنَيَّ كما تقول : إذ قام زيد قام عمرو ، ولا يخلو عن بعد ، وجوز الزمخشري كونها بدلا من أَحْسَنَ الْقَصَصِ على تقدير جعله مفعولا به وهو بدل اشتمال ، وأورد أنه إذا كان بدلا من المفعول يكون الوقت مقصوصا ولا معنى له ، وأجيب بأن المراد لازمه وهو اقتصاص قول يوسف عليه السلام فإن اقتصاص وقت القول ملزوم لاقتصاص القول.
واعترض بأنه يكون بدل بعض أو كل لا اشتمال ، وأجيب بأنه إنما يلزم ما ذكر لو كان الوقت بمعنى القول وهو إما عين المقصوص أو بعضه ، أما لو بقي على معناه وجعل مقصوصا باعتبار ما فيه فلا يرد الاعتراض.
هذا ولم يجوزوا البدلية على تقدير نصب أَحْسَنَ الْقَصَصِ على المصدرية ، وعلل ذلك بعدم صحة المعنى حينئذ وبقيام المانع عربية ، أما الأول فلأن المقصوص في ذلك الوقت لا الاقتصاص. وأما الثاني فلأن أحسن الاقتصاص مصدر فلو كان الظرف بدلا وهو المقصود بالنسبة لكان مصدرا أيضا وهو غير جائز لعدم صحة تأويله بالفعل ، وأورد على هذا أن المصدر كما يكون ظرفا نحو أتيتك طلوع الشمس يكون الظرف أيضا مصدرا ومفعولا مطلقا لسدّه مسدّ المصدر كما في قوله :
ولم تغتمض عيناك ليلة أرمد فإنهم صرحوا - كما في التسهيل وشروحه - أن ليلة مفعول مطلق أي اغتماض ليلة ، وما ذكر من حديث التأويل بالفعل فهو من الأوهام الفارغة ، نعم إذا ناب عن المصدر ففي كونه بدل اشتمال شبهة وهو شيء آخر غير ما ذكر ، وعلى الأول أنه وإن لم يشتمل الوقت على الاقتصاص فهو مشتمل على المقصوص فلم لم تجز البدلية بهذه الملابسة؟ ورد بأن مثل هذه الملابسة لا تصحح البدلية ، ونقل عن الرضي أن الاشتمال ليس كاشتمال الظرف على المظروف بل كونه دالّا عليه إجمالا ومتقاضيا له بوجه ما بحيث تبقى النفس عند ذكر الأول متشوقة إلى الثاني منتظرة له فيجيء الثاني مبينا لما أجمل فيه فإن لم يكن كذلك يكن بدل غلط وعلى هذا يقال في عدم صحة البدلية : إن النفس إنما تتشوق لذكر وقت الشيء لا لذكر وقت لازمه ووقت القول ليس وقتا للاقتصاص ، ويُوسُفُ علم

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 370
أعجمي لا عربي مشتق من الأسف وسمي به لأسف أبيه عليه أو أسفه على أبيه أو أسف من يراه على مفارقته لمزيد حسنه كما قيل ، وإلّا لانصرف لأنه ليس فيه غير العلمية ولا يتوهمن أن فيه وزن الفعل أيضا إذ ليس لنا فعل مضارع مضموم الأول والثالث ، وكذا يقال في يونس ، وقرىء بفتح السين وكسرها على ما هو الشائع في الأسماء الأعجمية من التغيير لا على أنه مضارع بني للمفعول أو للفاعل من آسف لأن القراءة المشهورة شهدت بعجميته ولا يجوز أن يكون أعجميا وغير أعجمي قاله غير واحد لكن في الصحاح أن يعفر ولد الأسود الشاعر إذا قلته بفتح الياء لم تصرفه لأنه مثل يقتل.
وقال يونس : سمعت رؤبة يقول : أسود بن يعفر بضم الياء وهذا ينصرف لأنه قد زال عنه شبه الفعل ا ه.
وصرحوا بأن هذا مذهب سيبويه ، وأن الأخفش خالفه فمنع صرفه لعروض الضم للاتباع ، وعلى هذا يحتمل أن يقال : إنه عربي ومنه من الصرف على قراءة الفتح والكسر للعلمية ووزن الفعل. وكذا على قراءة الضم بناء على ما يقوله الأخفش ويلتزم كون ضم ثالثه اتباعا لضم أوله ، وأجيب بأنه لو كان عربيا لوقع فيه الخلاف كما وقع في يعفر ، والظاهر أن أعجميته متحققة عندهم ولذا التزموا منعه من الصرف لها وللعلمية ولا الالتفات لذلك الاحتمال.
وقرأ طلحة بن مصرف - يؤسف - بالهمز وفتح السين ، وقد جاء فيه الضم والكسر مع الهمز أيضا فيكون فيه ست لغات لِأَبِيهِ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، وفي الصحيح عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم».
نسب كأن عليه من شمس الضحى نورا ومن ضوء الصباح عمودا
يا أَبَتِ أصله يا أبي فعوض عن الياء تاء التأنيث لتناسبهما في كون كل منهما من حروف الزيادة ويضم إلى الاسم في آخره ولهذا قلبها هاء في الوقف ابن كثير وابن عامر ، وخالف الباقون فأبقوها تاء في الوقف وكسرت لأنها عوض عن الياء التي هي أخت الكسرة فحركت بحركة تناسب أصلها لا لتدل على الياء ليكون ذلك كالجمع بين عوضين أو بين العوض والمعوض ، وجعل الزمخشري هذه الكسرة كسرة الياء زحلقت إلى التاء لما فتح ما قبلها للزوم فتح ما قبل تاء التأنيث ، وقرأ ابن عامر وأبو جعفر «1» ، والأعرج بفتحها لأن أصلها وهو الياء إذا حرك حرك بالفتح ، وقيل :
لأن أصل يا أَبَتِ يا أبتا بأن قلبت الياء ألفا ثم حذفت وأبقيت فتحتها دليلا عليها ، وتعقب بأن يا أبتا ضعيف «2» كيا أبتي حتى قيل : إنه يختص بالضرورة كقوله يا أبتا علك أو عساكا وقال الفراء وأبو عبيدة وأبو حاتم : إن الألف المحذوفة من يا أبتا للندبة ، ورد بأن الموضع ليس موضع ندبة ، وعن قطرب أن الأصل - يا أبة - بالتنوين فحذف والنداء باب حذف ، ورد بأن التنوين لا يحذف من المنادى المنصوب نحو يا ضاربا رجلا ، وقرىء بضم التاء إجراء لها مجرى الأسماء المؤنثة بالتاء من غير اعتبار التعويض ، وأنت تعلم أن ضم المنادى المضاف شاذ وإنما لم تسكن مع أن الباء التي وقعت هي عوضا عنها تسكن لأنها حرف صحيح منزل منزلة الاسم فيجب تحريكها ككاف الخطاب.
وزعم بعضهم أن الياء أبدلت تاء لأنها تدل على المبالغة والتعظيم في نحو علامة ونسابة والأب والأم مظنة التعظيم فعلى هذا لا حذف ولا تعويض ، والتاء حينئذ اسم ، فقد صرحوا أن الاسم إذا كان على حرف واحد وأبدل لا
___________
(1) المروي عن ابن عامر أنه قرأ به في القرآن ا ه منه
(2) لما فيه من الجمع بين عوضين ، وفي الثاني الجمع بين العوض والمعوض ا ه منه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 371
يخرج عن الاسمية ، وقال الكوفيون : إن التاء لمجرد التأنيث وياء بالإضافة مقدرة ، ويأباه عدم سماع يا أبتي في السعة ، وكذا سماع فتحها على ما قيل ، وتعقب بأن تاء لات للتأنيث عند الجمهور وكذا تاء ربت ، وثمت وهي مفتوحة إِنِّي رَأَيْتُ أي في المنام كما يقتضيه كلام ابن عباس وغيره ، وكذا قوله سبحانه : لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ وهذا تأويل رؤياي ، فإن مصدر رأي الحلمية الرؤيا ومصدر البصرية الرؤية في المشهور ، ولذا خطىء المتنبي في قوله :
ورؤياك أحلى في العيون من الغمض وذهب السهيلي وبعض اللغويين إلى أن الرؤيا سمعت من العرب بمعنى الرؤية ليلا ومطلقا ، واستدل بعضهم لكون رأي حلمية بأن ذلك لو وقع يقظة وهو أمر خارق للعادة لشاع وعد معجزة ليعقوب عليه السلام أو إرهاصا ليوسف عليه السلام ، وأجيب بأنه يجوز أن يكون في زمان يسير من الليل والناس غافلون ، والحق أنها حلمية ، ومثل هذا الاحتمال مما لا يلتفت إليه.
وقرأ أبو جعفر «أني» «1» بفتح الياء أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وهي جربان والطارق والذيال وقابس وعمودان والفيلق والمصبح والفزع ووثاب وذو الكتفين والضروج
فقد روي عن جابر أن سنانا اليهودي جاء إلى رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فقال : أخبرني يا محمد عن النجوم التي رآهن يوسف فسكت فنزل جبريل عليه السلام فأخبره بذلك فقال عليه الصلاة والسلام : هل أنت مؤمن إن أخبرتك؟ قال : نعم فعد صلّى اللّه عليه وسلّم ما ذكر فقال اليهودي : أي واللّه إنها لأسماؤها.
وأخرج السهيلي عن الحارث بن أبي أسامة نحو ذلك إلا أنه ذكر النطح بدل المصبح ، وأخرج الخبر الأول جماعة من المفسرين وأهل الأخبار وصححه الحاكم ، وقال : إنه على شرط مسلم ، وقال أبو زرعة وابن الجوزي : إنه منكر موضوع.
وقرأ الحسن وطلحة بن سليمان وغيرهما أَحَدَ عَشَرَ بسكون العين لتوالي الحركات وليظهر جعل الاسمين اسما واحدا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ عطف على ما قبل.
وزعم بعضهم أن الواو للمعية وليس بذاك وتخصيصهما بالذكر وعدم الاندراج في عموم الكواكب لاختصاصهما بالشرف وتأخيرهما لأن سجودهما أبلغ وأعلى كعبا فهو من باب لا يعرفه فلان ولا أهل بلده ، وتقديم الشمس على القمر لما جرت عليه عادة القرآن إذا جمع الشمس والقمر ، وكان ذلك إما لكونها أعظم جرما وأسطع نورا وأكثر نفعا من القمر وإما لكونها أعلى مكانا منه وكون فلكها أبسط من فلكه على ما زعمه أهل الهيئة وكثيرين من غيرهم ، وإما لأنها مفيضة النور عليه كما ادعاه غير واحد ، واستأنس له بقوله سبحانه : هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً [يونس : 5] وإنما أورد الكلام على هذا الأسلوب ولم يطو ذكر العدد لأن المقصود الأصلي أن يتطابق المنام ومن هو في شأنهم وبترك العدد يفوت ذلك رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ استظهر في البحر أن رَأَيْتُهُمْ تأكيد لما تقدم تطرية للعهد كما في قوله تعالى : أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ واختار الزمخشري التأسيس وأن الكلام جواب سؤال مقدر كأن يعقوب عليه السلام قال له عند قوله : رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كيف رأيتها؟ سائلا عن حال رؤيتها فقال : رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ وكأنه لا يرى أن رأي
___________
(1) قوله : وقرأ أبو جعفر إلخ هكذا بخطه ولعلها من غير المتواتر عنه. [.....]

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 372
الحلمية مما تتعدى إلى مفعولين كالعلمية ليلتزم كون المفعول الثاني للفعل الأول محذوفا ، ويرى أنها تتعدى لواحد كالبصرية فلا حذف ، وساجِدِينَ حال عنده كما يشير إليه كلامه ، والمشهور عند الجمهور أنها تتعدى إلى مفعولين ولا يحذف ثانيهما اقتصارا.
وجوز أن يكون مذهبه القول بالتعدي إلى ما ذكر إلا أنه يقول بجواز ما منعوه من الحذف ، وأنت تعلم أن ما استظهره في البحر سالم عن المخالفة والنظرية أمر معهود في الكتاب الجليل «1» وإنما أجريت هذه المتعاطفات مجرى العقلاء في الضمير جمع الصفة لوصفها بوصف العقلاء أعني السجود سواء كان المراد منه التواضع أو السجود الحقيقي وإعطاء الشيء الملابس لآخر من بعض الوجوه حكما من أحكامه إظهارا لأثر الملابسة والمقاربة شائع في الكلام القديم والحديث ، وفي الكلام على ما قيل : استعارة مكنية بتشبيه المذكورات بقوم عقلاء ساجدين والضمير والسجود قرينة أو أحدهما قرينة تخييلية والآخر ترشيح.
وذهب جماعة من الفلاسفة إلى أن الكواكب أحياء ناطقة ، واستدل لهم بهذه الآية ونظائرها وكثير من ظواهر الكتاب والسنة يشهد لهم ، وليس في القول بذلك إنكار ما هو من ضروريات الدين ، وتقديم الجار والمجرور لإظهار العناية والاهتمام مع ما في ضمنه عل ما قيل : من رعاية الفواصل ، وكانت هذه الرؤية فيما قيل : ليلة الجمعة ، وأخرج أبو الشيخ عن ابن منبه أنها كانت ليلة القدر ، ولعله لا منافاة لظهور إمكان كون ليلة واحدة ليلة القدر وليلة الجمعة ، واستشكل كونها في ليلة القدر بأنها من خواص هذه الأمة ، وأجيب بأن ما هو من الخواص تضعيف ثواب العمل فيها إلى ما قص اللّه سبحانه وكان عمره عليه السلام حين رأى ذلك اثنتي عشرة سنة فيما يروى عن وهب.
وقيل : سبع عشرة سنة ، وكان قد رأى قبل وهو ابن سبع سنين أن إحدى عشرة عصا طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدائرة وإذا عصا صغيرة تثب عليها حتى اقتلعتها وغلبتها فوصف ذلك لأبيه فقال : إياك أن تذكر هذا لأخوتك ، وتعبير هذه العصي لإحدى عشرة هو بعينه تعبيرا لأحد عشر كوكبا فإن كلا منهما إشارة إلى إخوته ، وليس في الرؤيا الأولى ما يشير إلى ما يشير إليه الشمس والقمر في الرؤية الثانية ، ولا ضرورة إلى التزام القول باتحاد المنامين بأن يقال : إنه عليه السلام رأى في كل أحد عشر شيئا إلا أن ذلك في الأول عصي وفي الثاني كواكب ، ويكون عطف الشمس والقمر على ما قبله من قبيل عطف ميكائيل وجبريل عليهما السلام على الملائكة كما يوهمه كلام بعضهم ، وعبرت الشمس بأبيه والقمر بأمه اعتبارا للمكان والمكانة.
وروى ذلك عن قتادة وعن السدي أن القمر خالته لأن أمه راحيل قد ماتت ، والقول : بأن اللّه تعالى أحياها بعد لتصديق رؤياه لا يخفى حاله ، وعن ابن جريج أن الشمس أمّه والقمر أبوه وهو اعتبار للتأنيث والتذكير ، وقد تعبر الشمس بالملك وبالذهب وبالزوجة الجميلة والقمر بالأمير والكواكب بالرؤساء وكذا بالعلماء أيضا.
وعن جعفر الصادق رضي اللّه تعالى عنه أن رؤية القمر تؤوّل على أحد سبعة عشر وجها ، ملك أو وزير أو نديم الملك أو رئيس أو شريف أو جارية أو غلام أو أمر باطل أو وال أو عالم مفسد أو رجل معظم أو والد أو والدة أو زوجة أو بعل لها أو ولد أو عظمة
ولعل ذلك مبني على اختلاف الرائي وكيفية الرؤية ، وزعم بعضهم أنه عليه السلام لم يكن رأي الكواكب ولا الشمس والقمر وإنما رأى إخوته وأبويه إلا أنه عبر عنهم بذلك على طريقة الاستعارة التصريحة وهو
___________
(1) وزعم بعضهم أن أحد الفعلين من الرؤية والآخر من الرؤيا وهو كما ترى ا ه منه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 373
خلاف الظاهر جدا ويكاد يعدّ من كلام النائم ، ويؤيد ظاهر ما نقله كثير من المفسرين أنه عليه السلام رأى الكواكب والشمس والقمر قد نزلت فسجدت له فقص ذلك على أبيه قالَ يا بُنَيَّ صغره للشفقة ويسمي النحاة مثل هذا تصغير التحبيب ، وما ألطف قول بعض المتأخرين :
قد صغر الجوهر في ثغره لكنه تصغير تحبيب
ويحتمل أن يكون لذلك لصغر السن ، وفتح الياء قراءة حفص ، وقرأ الباقون بكسرها ، والجملة استئناف مبني على سؤال كأنه قيل : فماذا قال الأب بعد سماع هذه الرؤية العجيبة من ابنه؟ فقيل : قال : يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً أي فيحتالوا لإهلاكك حيلة عظيمة لا تقدر على التقضي عنها أو خفية لا تتصدى لمدافعتها ، وإنما قال له ذلك لما أنه عليه السلام عرف من رؤياه أن سيبلغه اللّه تعالى مبلغا جليلا من الحكمة ويصطفيه للنبوة وينعم عليه بشرف الدارين فخاف عليه حسد الإخوة وبغيهم فقال له ذلك صيانة لهم من الوقوع فيما لا ينبغي في حقه وله من معاناة المشاق ومقاساة الأحزان وإن كان واثقا بأنهم لا يقدرون على تحويل ما دلت عليه الرؤيا وأنه سبحانه سيحقق ذلك لا محالة وطمعا في حصوله بلا مشقة وليس ذلك من الغيبة المحظورة في شيء ، والرؤيا - مصدر رأي - الحلمية الدالة على ما يقع في النوم سواء كان مرئيا أم لا على ما هو المشهور ، والرؤية - مصدر رأي - البصرية الدالة على إدراك مخصوص ، وفرق بين مصدر المعنيين بالتأنيثين ، ونظير ذلك القربة للتقرب المعنوي بعبادة ونحوها ، والقربى للتقرب النسبي وحقيقتها عند أهل السنة كما قال محيي الدين النووي نقلا عن المازني : إن اللّه سبحانه يخلق في قلب النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان وهو سبحانه يخلق ما يشاء لا يمنعه نوم ولا يقظة ، وقد جعل سبحانه تلك الاعتقادات علما على أمور أخر يخلقها في ثاني الحال ، ثم إن ما يكون علما على ما يسر يخلقه بغير حضرة الشيطان. وما يكون علما على ما يضر يخلقه بحضرته ، ويسمى الأول رؤيا وتضاف إليه تعالى إضافة تشريف ، والثاني حلما وتضاف إلى الشيطان كما هو الشائع من إضافة الشيء المكروه إليه ، وإن كان الكل منه تعالى ، وعلى ذلك جاء
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «الرؤيا من اللّه تعالى والحلم من الشيطان»
وفي الصحيح عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها فإنها من اللّه تعالى فليحمد اللّه تعالى وليحدث بها وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذ باللّه تعالى من الشيطان الرحيم ومن شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لن تضره».
وصح عن جابر أن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال : «إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثا وليستعذ باللّه تعالى من الشيطان الرجيم وليتحول عن جنبه الذي كان عليه»
ولا يبعد جعل اللّه تعالى ما ذكر سببا للسلامة عن المكروه كما جعل اللّه الصدقة سببا لدفع البلاء وإن لم نعرف وجه مدخلية البصق عن اليسار والتحول عن الجنب الذي كان عليه مثلا في السببية ، وقيل هي أحاديث الملك الموكل بالأرواح إن كانت صادقة ووسوسة الشيطان والنفس إن كانت كاذبة ، ونسب هذا إلى المحدثين ، وقد يجمع بين القولين بأن مقصود القائل بأنها اعتقادات يخلقها اللّه تعالى في قلب إلخ أنها اعتقادات تخلق كذلك بواسطة حديث الملك أو بواسطة وسوسة الشيطان مثلا والمسببات في المشهور عن الأشاعرة مخلوقة له تعالى عند الأسباب لا بها فتدبر.
وقال غير واحد من المتفلسفة هي انطباع الصورة المنحدرة من أفق المتخيلة إلى الحس المشترك ، والصادقة منها إنما تكون باتصال النفس بالملكوت لما بينهما من التناسب عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ فتتصور بما فيها مما يليق بها من المعاني الحاصلة هناك ، ثم إن المتخيلة تحاكيه بصورة تناسبها فترسلها إلى الحس المشترك فتصير مشاهدة ، ثم إن كانت شديدة المناسبة لذلك المعنى بحيث لا يكون التفاوت إلا بالكلية والجزئية استغنت عن التعبير وإلا احتاجت اليه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 374
وذكر بعض أكابر الصوفية ما يقرب من هذا ، وهو : أن الرؤيا من أحكام حضرة المثال المقيد المسمى بالخيال وهو قد يتأثر من العقول السماوية والنفوس الناطقة المدركة للمعاني الكلية والجزئية فيظهر فيه صور مناسبة لتلك المعاني وقد يتأثر من القوى الوهمية المدركة للمعاني الجزئية فقط فيظهر فيه صورة تناسبها ، وهذا قد يكون بسبب سوء مزاج الدماغ وقد يكون بسبب توجه النفس بالقوة الوهمية إلى إيجاد صورة من الصور كمن يتخيل صورة محبوبه الغائب عنه تخيلا قويا فتظهر صورته في خياله فيشاهده ، وهي أول مبادئ الوحي الإلهي في أهل العناية لأن الوحي لا يكون إلا بنزول الملك وأول نزوله في الحضرة الخيالية ثم الحسية ، وقد صح عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها أنها قالت : «أول ما بدىء به رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح»
والمرئي على ما قال بعضهم : سواء كان على صورته الأصلية أو لا قد يكون بإرادة المرئي. وقد يكون بإرادة الرائي وقد يكون بإرادتهما معا. وقد يكون لا بإرادة من شيء منهما ، فالأول كظهور الملك على نبي من الأنبياء عليهم السلام في صورة من الصور وظهور الكمل من الأناسي على بعض الصالحين في صور غير صورهم ، والثاني كظهور روح من الأرواح الملكية أو الإنسانية باستنزال الكامل إياه إلى عالمه ليكشف معنى ما مختصا علمه به ، والثالث كظهور جبريل عليه السلام للنبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم باستنزاله إياه وبعث الحق سبحانه إياه إليه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، والرابع كرؤية زيد مثلا صورة عمرو في النوم من غير قصد وإرادة منهما ، وكانت رؤيا يوسف عليه السلام من هذا القسم لظهور أنها لو كانت بإرادة الأخوة لعلموا فلم يكن للنهي عن الاقتصاص معنى ، ويشير إلى انها لم تكن بقصده قوله بعد : قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا [يوسف : 100].
هذا والمنقول عن المتكلمين أنها خيالات باطلة وهو من الغرابة بمكان بعد شهادة الكتاب والسنة بصحتها ، ووجه ذلك بعض المحققين بأن مرادهم أن كون ما يتخيله النائم إدراكا بالبصر رؤية ، وكون ما يتخيله إدراكا بالسمع سمعا باطل فلا ينافي حقيقة ذلك بمعنى كونه أمارة لبعض الأشياء كذلك الشيء نفسه أو ما يضاهيه ويحاكيه ، وقد مر الكلام في ذلك فتيقظ.
والمشهور الذي تعاضدت فيه الروايات أن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ، ووجه ذلك عند جمع أنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم بقي حسبما أشارت عائشة رضي اللّه تعالى عنها ستة أشهر يرى الوحي مناما ثم جاءه الملك يقظة وستة أشهر بالنسبة إلى ثلاث وعشرين سنة جزء من ست وأربعين جزءا.
وذكر الحليمي أن الوحي كان يأتيه عليه الصلاة والسلام على ستة وأربعين نوعا : مثل النفث في الروع ، وتمثل الملك له بصورة دحية رضي اللّه تعالى عنه مثلا وسماعه مثل صلصلة الجرس إلى غير ذلك ، ولذا قال صلى اللّه تعالى عليه وسلم ما قال ، وذكر الحافظ العسقلاني أن كون الرؤيا الصادقة جزء من كذا من النبوة إنما هو باعتبار صدقها لا غير وإلا لساغ لصاحبها أن يسمى نبيا وليس كذلك ، وقد تقدم لك أن في بعض الروايات ما فيه مخالفة لما في هذه الرواية من عدة الأجزاء ، ولعل المقصود من كل ذلك على ما قيل : مدح الرؤيا الصادقة والتنويه برفعة شأنها لا خصوصية العدد ولا حقيقة الجزئية.
وقال ابن الأثير في جامع الأصول : روى قليل أنها جزء من خمسة وأربعين جزءا وله وجه مناسبة بأن عمره صلى اللّه تعالى عليه وسلم لم يستكمل ثلاثا وستين بأن يكون توفي عليه الصلاة والسلام بأثناء السنة الثالثة والستين ورواية أنها جزء من أربعين جزءا
تكون محمولة على كون عمره عليه الصلاة والسلام ستين وهو رواية لبعضهم ، وروي أنها جزء من سبعين جزءا
ولا أعلم لذلك وجها ا ه.
وأنت تعلم أن سبعين كثيرا ما يستعمل في التكثير فلعله هو الوجه ، والغرض الإشارة إلى كثرة أجزاء النبوة فتدبر ،

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 375
والمراد - بإخوته - هاهنا على ما قيل : الإخوة الذين يخشى غوائلهم ومكائدهم من بني علاته الأحد عشر ، وهم يهوذا وروبيل وشمعون ولاوي وريالون ويشجر ودينه بنو يعقوب «1» من ليا بنت ليان بن ناهر وهي بنت خالته ، ودان ويفتالى وجاد وآشر بنوه عليه السلام من سريتين له زلفة وبلهة «2» وهم المشار إليهم بالكواكب ، وأما بنيامين الذي هو شقيق يوسف عليه السلام وأمهما راحيل التي تزوجها يعقوب عليه السلام بعد وفات أختها ليا أو في حياتها «3» إذ لم يكن جمع الأختين إذ ذاك محرما فليس بداخل تحت هذا النهي إذ لا تتوهم مضرته ولا تخشى معرته ولم يكن معهم في الرؤيا إذ لم يكن معهم في السجود.
وتعقب بأن المشهور أن بني علاته عليه السلام عشرة وليس فيهم من اسمه دينه ، ومن الناس من ذكر ذلك في عداد أولاد يعقوب إلا أنه قال : هي أخت يوسف ، وبناء الكلام عليه ظاهر الفساد بل لا تكاد تدخل في الإخوة إلا باعتبار التغليب لأنه جمع أخ فهو مخصوص بالذكور ، فلعل المختار أن المراد من الإخوة ما يشمل الأعيان والعلات ، ويعد بنيامين بدل دينه إتماما لأحد عشر عدة الكواكب المرئية ، والنهي عن الاقتصاص عليه - وإن لم يكن ممن تخشى غوائله - من باب الاحتياط وسد باب الاحتمال ، ومما ذاع كل سر جاوز الاثنين شاع ، ويلتزم القول بوقوع السجود منه كسائر أهله وإسناد الكيد إلى الإخوة باعتبار الغالب فلا إشكال كذا قيل ، وهو على علاته أولى مما قيل : إن المراد بإخوته ما لا يدخل تحته بنيامين ودينه لأنهما لا تخشى معرتهما ولا يتوهم مضرتهما فهم حينئذ تسعة وتكمل العدة بأبيه وأمه أو خالته ويكون عطف الشمس والقمر من قبيل عطف جبريل وميكائيل على الملائكة ، وفيه من تعظيم أمرهما ما فيه لما أن في ذلك ما فيه ، ونصب فَيَكِيدُوا بأن مضمرة في جواب النهي وعدي باللام مع أنه مما يتعدى بنفسه كما في قوله تعالى : فيكيدوني لتضمينه ما يتعدى بها وهو الاحتيال كما أشرنا اليه ، وذلك لتأكيد المعنى بإفادة معنى الفعلين المتضمن والمضمن جميعا ولكون القصد إلى التأكيد والمقام مقامه أكد الفعل بالمصدر وقرر بالتعليل بعد ، وجعل اللام زائدة كجعله مما يتعدى بنفسه وبالحرف خلاف الظاهر ، وقيل : إن الجار والمجرور من متعلقات التأكيد على معنى فيكيدوا كيدا لك وليس بشيء وجعل بعضهم اللام للتعليل على معنى فيفعلوا لأجلك وإهلاكك كيدا راسخا أو خفيا وزعم أن هذا الأسلوب آكد من أن يقال فيكيدوك كيدا إذ ليس فيه دلالة على كون نفس الفعل مقصود الإيقاع وفيه نوع مخالفة للظاهر أيضا فافهم.
وقرأ الجمهور رُؤْياكَ بالهمز من غير إمالة ، والكسائي «رؤياك» بالإمالة وبغير همز وهي لغة أهل الحجاز إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ أي لهذا النوع عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة فلا يألو جهدا في تسويل إخوتك وإثارة الحسد فيهم حتى يحملهم على ما لا خير فيه وإن كانوا ناشئين في بيت النبوة ، والظاهر أن القوم كانوا بحيث يمكن أن يكون للشيطان عليهم سبيل ، ويؤيد هذا أنهم لم يكونوا أنبياء ، والمسألة خلافية فالذي عليه الأكثرون سلفا وخلفا أنهم لم يكونوا أنبياء أصلا ، أما السلف فلم ينقل عن الصحابة منهم أنه قال بنبوتهم ولا يحفظ عن أحد من التابعين أيضا ، وأما أتباع التابعين فنقل عن ابن زيد أنه قال بنبوتهم وتابعه شرذمة قليلة ، وأما الخلف فالمفسرون فرق : فمنهم من قال بقول ابن زيد كالبغوي ، ومنهم من بالغ في رده كالقرطبي وابن كثير ، ومنهم من حكى القولين بلا ترجيح كابن الجوزي ،
___________
(1) سألت بعض اليهود عن ضبطها فقال : لياء بهمزة بعد الياء واللّه تعالى أعلم ا ه منه.
(2) وادعى بعضهم أن السريتين كانتا أختين أيضا ، وقد جمع بينهما ولم يحل ذلك لأحد بعده ا ه منه.
(3) وإلى هذا ذهب اليهود ا ه منه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 376
ومنهم من لم يتعرض للمسألة لكن ذكر ما يشعر بعدم كونهم أنبياء كتفسيره الأسباط بمن نبىء من بني إسرائيل والمنزل إليهم بالمنزل إلى أنبيائهم كأبي الليث السمرقندي والواحدي ، ومنهم من لم يذكر شيئا من ذلك ولكن فسر الأسباط بأولاد يعقوب فحسبه ناس قولا بنبوتهم وليس نصا فيه لاحتمال أن يريد بالأولاد ذريته لابنيه لصلبه ، وذكر الشيخ ابن تيمية في مؤلف له خاص في هذه المسألة ما ملخصه : الذي يدل عليه القرآن واللغة والاعتبار أن إخوة يوسف عليه السلام ليسوا بأنبياء وليس في القرآن ولا عن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم بل ولا عن أحد من أصحابه رضي اللّه تعالى عنهم خبر بأن اللّه تعالى نبأهم وإنما احتج من قال : بأنهم نبئوا بقوله تعالى في آيتي [البقرة : 136 ، 140] [و النساء : 163] والْأَسْباطِ وفسر ذلك بأولاد يعقوب والصواب أنه ليس المراد بهم أولاده لصلبه بل ذريته كما يقال لهم : بنو إسرائيل ، وكما يقال لسائر الناس : بنو آدم ، وقوله تعالى : وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف : 159] وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً [الأعراف : 160] صريح في أن الأسباط هم الأمم من بني إسرائيل وكل سبط أمة ، وقد صرحوا بأن الأسباط من بنيإسرائيل كالقبائل من بني إسماعيل ، وأصل السبط كما قال أبو سعيد الضرير : شجرة واحدة ملتفة كثيرة الأغصان فلا معنى لتسمية الأبناء الاثني عشر أسباطا قبل أن ينتشر عنهم الأولاد ، فتخصيص الأسباط في الآية ببنيه عليه السلام لصلبه غلط لا يدل عليه اللفظ ولا المعنى ومن ادعاه فقد أخطأ خطأ بينا والصواب أيضا أنهم إنما سموا أسباطا من عهد موسى عليه السلام ، ومن حينئذ كانت فيهم النبوة فإنه لم يعرف فيهم نبي قبله إلا يوسف ، ومما يؤيد ذلك أنه سبحانه لما ذكر الأنبياء من ذرية إبراهيم قال : وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ [الأنعام : 84]
الآيات فذكر يوسف ومن معه ولم يذكر الأسباط ولو كان إخوة يوسف قد نبئوا كما نبىء لذكروا كما ذكر ، وأيضا إن اللّه تعالى ذكر للأنبياء عليهم السلام من المحامد والثناء ما يناسب النبوة وإن كان قبلها وجاء
في الحديث «أكرم الناس يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم نبي ابن نبي»
فلو كانت إخوته أنبياء كانوا قد شاركوه في هذا الكرم ، وهو سبحانه لما قص قصتهم وما فعلوا بأخيهم ذكر اعترافهم بالخطيئة وطلبهم الاستغفار من أبيهم ولم يذكر من فضلهم ما يناسب النبوة وإن كان قبلها ، بل ولا ذكر عنهم توبة باهرة كما ذكر عمن ذنبه دون ذنبهم ، ولم يذكر سبحانه عن أحد من الأنبياء قبل النبوة ولا بعدها أنه فعل مثل هذه الأمور العظيمة من عقوق الوالد وقطيعة الرحم وإرقاق المسلم وبيعه إلى بلاد الكفر. والكذب البين إلى غير ذلك مما حكاه عنهم ، بل لو لم يكن دليل على عدم نبوتهم سوى صدور هذه العظائم منهم لكفى لأن الأنبياء معصومون عن صدور مثل ذلك قبل النبوة وبعدها عند الأكثرين ، وهي أيضا أمور لا يطيقها من هو دون البلوغ فلا يصح الاعتذار بأنها صدرت منهم قبله وهو لا يمنع الاستنباء بعد ، وأيضا ذكر أهل السير أن إخوة يوسف كلهم ماتوا بمصر وهو أيضا مات بها لكن أوصى بنقله إلى الشام فنقله موسى عليه السلام ولم يذكر في القرآن أن أهل مصر قد جاءهم نبي قيل موسى غير يوسف ولو كان منهم نبي لذكر ، وهذا دون ما قبله في الدلالة كما لا يخفى.
والحاصل أن الغلط في دعوى نبوتهم «1» إنما جاء من ظن أنهم هم الأسباط وليس كذلك إنما الأسباط أمة عظيمة ، ولو كان المراد بالأسباط أبناء يعقوب لقال سبحانه ويعقوب وبنيه فإنه أبين وأوجز لكنه عبر سبحانه بذلك إشارة إلى أن النبوة حصلت فيهم من حين تقطيعهم أسباطا من عهد موسى عليه السلام فليحفظ.
هذا ولما نبهه عليه السلام على أن لرؤياه شأنا عظيما وحذره مما حذره شرع في تعبيرها وتأويلها على وجه
___________
(1) سيأتي قريبا إن شاء اللّه تعالى أن منهم من استدل على نبوتهم بغير ذلك ، وأن فيه ما فيه ا ه منه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 377
إجمالي فقال : وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ أي يصطفيك ويختارك للنبوة كما روي عن الحسن ، أو للسجود لك كما روي عن مقاتل ، أو لأمور عظام كما قال الزمخشري ، فيشمل ما تقدم وكذا يشمل إغناء أهله ودفع القحط عنهم ببركته وغير ذلك ، ولعل خير الأقوال وسطها وأصل الاجتباء من جبيت الشيء إذا حصلته لنفسك وفسروه بالاختيار لأنه إنما يجتبي ما يختار.
وذكر بعضهم أن اجتباء اللّه تعالى العبد تخصيصه إياه بفيض إلهي يتحصل منه أنواع من المكرمات بلا سعي من العبد وذلك مختص بالأنبياء عليهم السلام ومن يقاربهم من الصديقين والشهداء والصالحين ، والمشار إليه بذلك إما الاجتباء لمثل تلك الرؤيا فالمشبه والمشبه به متغايران ، وإما لمصدر الفعل المذكور وهو المشبه والمشبه به ، وَكَذلِكَ في محل نصب صفة لمصدر مقدر وقدم تحقيق ذلك ، وقيل هنا : إن الجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك وليس الأمر كذلك ، ولا يخفى ما في ذكر الرب مضافا إلى ضمير المخاطب من اللطف ، وإنما لم يصرح عليه السلام بتفاصيل ما تدل عليه الرؤيا حذرا من إذاعته على ما قيل وَيُعَلِّمُكَ ذهب جمع إلى أنه كلام مبتدأ غير داخل تحت التشبيه أراد به عليه السلام تأكيد مقالته وتحقيقها وتوطين نفس يوسف عليه السلام بما أخبر به على طريق التعبير والتأويل أي وهو يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أي ذلك الجنس من العلوم ، أو طرفا صالحا فتطلع على حقيقة ما أقول ولا يخفى ما فيه من تأكيد ما سبق والبعث على تلقي ما سيأتي بالقبول ، وعلل عدم دخوله تحت التشبيه بأن الظاهر أن يشبه الاجتباء بالاجتباء والتعليم غير الاجتباء فلا يشبه به ، ونظر فيه بأن التعليم نوع من الاجتباء والنوع يشبه بالنوع ، وقيل : العلة في ذلك أنه يصير المعنى ويعلمك تعليما مثل الاجتباء بمثل هذه الرؤيا ولا يخفى سماجته فإن الاجتباء وجه الشبه بين المشبه والمشبه به ولم يلاحظ في التعليم ذلك.
وقال بعض المحققين : لا مانع من جعله داخلا تحت التشبيه على أن المعنى بذلك الإكرام بتلك الرؤيا أي كما أكرمك بهذه المبشرات يكرمك بالاجتباء والتعليم ولا يحتاج في ذلك إلى جعله تشبيهين وتقدير كذلك ، وأنت تعلم أن المنساق إلى الفهم هو العطف ولا بأس فيما قرّره هذا المحقق لتوجيهه ، نعم للاستئناف وجه وجيه وإن لم يكن المنساق إلى الفهم والظاهر أن المراد من تأويل الأحاديث تعبير الرؤيا إذ هي إخبارات غيبية يخلق اللّه تعالى بواسطتها اعتقادات في قلب النائم حسبما يشاؤه ولا حجر عليه تعالى ، أو أحاديث الملك إن كانت صادقة أو النفس أو الشيطان إن لم تكن كذلك ، وذكر الراغب أن التأويل من الأول وهو الرجوع ، وذلك ردّ الشيء إلى الغاية المرادة منه علما كان أو فعلا ، فالأول كقوله سبحانه : وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران : 7] والثاني كقوله وللنوى قبل يوم البين تأويل وجاء الأول بمعنى السياسة التي يراعى مآلها يقال : ألنا وائل علينا ا ه.
وشاع التأويل في إخراج الشيء عن ظاهره ، والْأَحادِيثِ جمع تكسير لحديث على غير قياس كما قالوا :
باطل وأباطيل ، وليس باسم جمع له لأن النحاة قد شرطوا في اسم الجمع أن لا يكون على وزن يختص بالجمع كمفاعيل ، وممن صرح بأنه جمع الزمخشري في المفصل ، وهو مراده من اسم الجمع في الكشاف فإنه كغيره كثيرا ما يطلق اسم الجمع على الجمع المخالف للقياس فلا مخالفة بين كلاميه ، وقيل : هو جمع أحدوثة ، وردّ بأن الأحدوثة الحديث المضحك كالخرافة فلا يناسب هنا ، ولا في أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام أن يكون جمع أحدوثة ، وقال ابن هشام : الأحدوثة من الحديث ما يتحدث به ولا تستعمل إلّا في الشر ، ولعل الأمر ليس كما ذكروا ، وقد نص المبرد على أنها ترد في الخير ، وأنشد قول جميل وهو مما سار وغار :
وكنت إذا ما جئت سعدى أزورها أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 378
من الخفرات البيض ود جليسها إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها
وقيل : إنهم جمعوا حديثا على أحدوثة ثم جمعوا الجمع على أحاديث كقطيع أو أقطعة وأقاطيع ، وكون المراد من تأويل الأحاديث تعبير الرؤيا هو المروي عن مجاهد والسدي وعن الحسن أن المراد عواقب الأمور ، وعن الزجاج أن المراد بيان معاني أحاديث الأنبياء والأمم السالفة والكتب المنزلة.
وقيل : المراد بالأحاديث الأمور المحدثة من الروحانيات والجسمانيات ، وبتأويلها كيفية الاستدلال بها على قدرة اللّه تعالى وحكمته وجلالته والكل خلاف الظاهر فيما أرى وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بأن يصل نعمة الدنيا بنعمة الآخرة ، أو بأن يضم إلى النبوة المستفادة من الاجتباء الملك ويجعله تتمة لها ، أو بأن يضم إلى التعليم الخلاص من المحن والشدائد وتوسيط ذكر التعليم لكونه من لوازم النبوة والاجتباء ولرعاية ترتيب الوجود الخارجي ولأن التعليم وسيلة إلى إتمام النعمة فإن تعبيره لرؤيا صاحبي السجن ورؤيا الملك صار ذريعة إلى الخلاص من السجن والاتصال بالرئاسة العظمى.
وفسر بعضهم الاجتباء بإعطاء الدرجات العالية كالملك والجلالة في قلوب الخلق وإتمام النعمة بالنبوة ، وأيد بأن إتمام عبارة عما تصير به النعمة كاملة خالية عن جهات النقصان وما ذاك في حق البشر إلّا النبوة فإن جميع مناصب الخلق ناقصة بالنسبة إليها.
وجوز أن تعد نفس الرؤيا من نعم اللّه تعالى عليه فيكون جميع النعم الواصلة إليه بحسبها مصداقا لها تماما لتلك النعمة ولا يخلو عن بعد ، وقيل : المراد من الاجتباء إفاضة ما يستعد به لكل خير ومكرمة ، ومن تعليم تأويل الأحاديث تعليم تعبير الرؤيا ، ومن إتمام النعمة عليه تخليصه من المحن على أتم وجه بحيث يكون مع خلاصة منها ممن يخضع له ، ويكون في تعليم التأويل إشارة إلى استنبائه لأن ذلك لا يكون إلّا بالوحي وفيه أن تفسير الاجتباء بما ذكر غير ظاهر ، وكون التعليم فيه إشارة إلى الاستنباء في حيز المنع وما ذكر من الدليل لا يثبته ، فإن الظاهر أن إخوته كانوا يعلمون التأويل وإلّا لم ينهه أبوه عليه السلام عن اقتصاص رؤياه عليهم خوف الكيد ، وكونهم أنبياء إذ ذاك مما لم يذهب إليه ذاهب ولا يكاد يذهب إليه أصلا ، نعم ذكروا أنه لا يعرف التعبير كما ينبغي إلّا من عرف المناسبات التي بين الصور ومعانيها وعرف مراتب النفوس التي تظهر في حضرة خيالاتهم بحسبها فإن أحكام الصورة والواحدة تختلف بالنسبة إلى الأشخاص المختلفة المراتب وهذا عزيز الوجود ، وقد ثبت الخطأ في التعبير من علماء أكابر ،
فقد روى أبو هريرة أن رجلا أتى رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فقال : «إني رأيت ظلة ينطف منها السمن والعسل وأرى الناس يتكففون في أيديهم فالمستكثر والمستقل وأرى سببا واصلا من السماء إلى الأرض فأراك يا رسول اللّه أخذت به فعلوت ثم أخذ به رجل آخر فعلا ثم أخذ به رجل آخر فعلا ثم أخذ به رجل آخر فعلا ثم أخذ به رجل آخر فانقطع به ثم وصل له فعلا فقال أبو بكر رضي اللّه تعالى : أي رسول اللّه بأبي أنت وأمي واللّه لتدعني فلأعبرها فقال عليه الصلاة والسلام : عبرها ، فقال عليه الصلاة والسلام عبرها ، فقال : أما الظلة فظلة الإسلام ، وأما ما ينطف من السمن والعسل فهو القرآن لينه وحلاوته ، وأما المستكثر والمستقل فالمستكثر من القرآن والمستقل منه : وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فهو الحق الذي أنت عليه تأخذ به فيعليك اللّه تعالى ثم يأخذ به رجل بعدك فيعلو به ثم آخر بعده فيعلو به ثم آخر بعده فيعلو به ثم آخر فينقطع به ثم يوصل له فيعلو به أي رسول اللّه لتحدثني أصبت أم أخطأت؟ فقال النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم : أصبت بعضا وأخطأت بعضا ، فقال : أقسمت بأبي أنت وأمي لتحدثني يا رسول اللّه ما الذي أخطأت؟ فقال عليه الصلاة والسلام : «لا تقسم» ا ه
اللهم إلّا أن يدعي أن المراد التعليم على الوجه الأكمل

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 379
بحيث لا يخطىء من يخطىء به ، وهو يستدعي كون الرجل بحيث يعرف المناسبات ومراتب النفوس ويلتزم القول بأن ذلك لا يكون إلّا نبيا ، واختير أن المراد بالاجتباء الاصطفاء للنبوة ، وبتعليم التأويل ما هو الظاهر.
وبإتمام النعمة تخليصه من المكاره ، ويكون قوله عليه السلام : يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ إشارة إجمالية منه إلى تعبير الرؤيا كما لا يخفى على من له ذوق وهو أيضا متضمن للبشارة ، وهذا إرداف لها بما هو أجل في نظر يوسف عليه السلام ووجه توسيط التعليم عليه لا يخفى.
وحاصل المعنى كما أكرمك بهذه المبشرة الدالة على سجود إخوتك لك ورفعة شأنك عليهم يكرمك بالنبوة والعلم الذي تعرف به تأويل أمثال ما رأيت وإتمام نعمته عليك وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ بالخلاص من المكاره وهي في حق يوسف عليه السلام مما لا يخفى «1» وفي حق آل يعقوب ، والمراد بهم أهله من بنيه وغيرهم وأصله أهل ، وقيل :
أول ، وقد حققناه في غير ما كتاب ولا يستعمل إلّا فيمن له خطر مطلقا ولا يضاف لما لا يعقل ولو كان ذا خطر بخلاف أهل فلا يقال : آل الحجام ولا آل الحرم ، ولكن أهل الحجام وأهل الحرم ، نعم قد يضاف لما نزل منزلة العاقل كما في قول عبد المطلب وانصر على آل الصليب «2» وعابديه اليوم آلك وفيه رد على أبي جعفر الزبيدي حيث زعم عدم جواز إضافته إلى الضمير لعدم سماعه مضافا إليه ، ويعقوب كابنه اسم أعجمي لا اشتقاق له فما قيل : من أنه إنما سمي بذلك لأنه خرج من بطن أمه عقب أخيه العيص غير مرضي عند الجلة الفاقة والقحط وتفرق الشمل ، وغير ذلك مما يعم أو يخص ، ومنهم من فسر الآل بالبنين وإتمام النعمة بالاستنباء ، وجعل حاصل المعنى يمنّ عليك وعلى سائر أبناء يعقوب بالنبوة ، واستدل بذلك على أنهم صاروا بعد أنبياء.
وفي إرشاد العقل السليم أن رؤية يوسف عليه السلام إخوته كواكب يهتدى بأنوارها من نعم اللّه تعالى عليهم لدلالتها على مصير أمرهم إلى النبوة فيقع كل ما يخرج من القوة إلى الفعل من كمالاتهم بحسب ذلك تماما لتلك النعمة لا محالة ، وأنت تعلم أن ما ذكر لا يصلح دليلا على أنهم صاروا أنبياء لما علمت من الاحتمالات ، والدليل إذا طرقه الاحتمال بطل به الاستدلال ورؤيتهم كواكب يهتدى بأنوارها بمعزل عن أن تكون دليلا على أن مصيرهم إلى النبوة ، وإنما تكون دليلا على أن مصيرهم إلى كونهم هادين للناس وهو مما لا يلزمه النبوة
فقد قال صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم»
ونحن لا ننكر أن القوم صاروا هادين بعد أن منّ اللّه تعالى عليهم بالتوبة بل هم لعمري حينئذ من أجلة أصحاب نبيهم ، وقد يقال أيضا : إنه لو دلّ رؤيتهم كواكب على أن مصيرهم إلى النبوة لكانت رؤية أمه قمرا أدل على ذلك ولا قائل به.
وقال بعضهم : لا مانع من أن يراد - بآل يعقوب - سائر بنيه ، و- بإتمام النعمة - إتمامها بالنبوة لكن لا يثبت بذلك نبوتهم بعد لجواز أن يراد يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بالنبوة وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ بشيء آخر كالخلاص من المكروه مثلا ، وهذا كقولك : أنعمت على زيد وعلى عمرو وهو لا يقتضي أن يكون الإنعام عليهما من نوع واحد لصدق الكلام بأن يكون قد أنعمت على زيد بمنصب وعلى عمرو بإعطائه ألف دينار ، أو بتخليصه من ظالم مثلا وهو ظاهر.
___________
(1) قوله : في حق آل يعقوب إلخ هو خبر مقدم ، وقوله ، الآتي الفاقة والقحط إلخ ، مبتدأ مؤخر ا ه منه.
(2) بناء على أن الصليب اسم لما يعلقه النصارى في أعناقهم ويعبدونه فليفهم ا ه منه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 380
ورجح بعضهم حمل الآل على ما يعم الأبناء بأنه لو كان المراد الأبناء لكان الأظهر الأخصر وعلى إخوتك بدل ما في النظم الجليل ، وقيل إنما اختار ذلك عليه لأنه يتبادر من الإخوة الذي نهى عن الاقتصاص عليهم فلا يدخل بنيامين ، والمراد إدخاله ، وقيل : المراد - بآل يعقوب - أتباعه الذين على دينه.
وقيل : يعقوب خاصة على أن الآل بمعنى الشخص ولا يخفى ما في القولين من البعد ، وأبعدهما الأخير ومن جعل إتمام النعمة إشارة إلى الملك جعل العطف باعتبار أنهم يغتنمون آثاره من العز والجاه والمال هذا.
[سورة يوسف (12) : الآيات 7 إلى 23]
لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (9) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10) قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11)
أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16)
قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (18) وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ أي إتماما كائنا كإتمام نعمته على أبويك من قبل هذا الوقت أو من قبلك ، والاسمان الكريمان عطف بيان - لأبويك - والتعبير عنهما بالأب مع كونهما أبا جده وأبا أبيه للإشعار بكمال ارتباطه بالأنبياء عليهم السلام وتذكير معنى الولد سر أبيه ليطمئن قلبه بما أخبر به ، وإتمام النعمة على إبراهيم إما بالنبوة ، وإما باتخاذه خليلا وإما بإنجائه من نار عدوه وإما من ذبح ولده وإما بأكثر من واحد من هذه وعلى إسحاق إما بالنبوة أو بإخراج يعقوب من صلبه أو بإنجائه من الذبح وفدائه بذبح عظيم على رواية أنه الذبيح ، وذهب إليه غير واحد ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى تحقيقه ، وأمر التشبيه على سائر الاحتمالات سهل إذ لا يجب أن يكون من كل وجه والاقتصار في المشبه به على ذكر إتمام النعمة من غير

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 381
تعرض للاجتباء من باب الاكتفاء كما قيل فإن إتمام النعمة يقتضي سابقة النعمة المستدعية للاجتباء لا محالة ومعرفته عليه السلام لما أخبر به مما لم تدل عليه الرؤيا إما بفراسة ، وكثيرا ما تصدق فراسة الوالد بولده كيفما كان الوالد ، فما ظنك بفراسته إذا كان نبيا أو بوحي؟ وقد يدعي أنه استدل بالرؤيا على كل ذلك إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ بكل شيء فيعلم من يستحق المذكورات حَكِيمٌ فاعل لكل شيء حسبما تقتضيه الحكمة فيفعل ما يفعل جريا على سنن علمه وحكمته ، والجملة استئناف لتحقيق الجمل المذكورة.
لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ [يوسف : 22] أي في قصصهم ، والظاهر أن المراد بالإخوة هنا ما أريد بالإخوة فيما مرّ ، وذهب جمع إلى أنهم هناك بنو علاته ، وجوز أن يراد بهم هاهنا ما يشمل من كان من الأعيان لأن لبنيامين أيضا حصة من القصة ، ويبعده على ما قيل : قالُوا الآتي آياتٌ علامات عظيمة الشأن دالة على عظيم قدرة اللّه تعالى القاهرة وحكمته الباهرة لِلسَّائِلِينَ لكل من سأل عن قصتهم وعرفها ، أو للطالبين للآيات المعتبرين بها فإنهم الواقفون عليها المنتفعون بها دون من عداهم ممن اندرج تحت قوله تعالى : وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ [يوسف : 105] فالمراد بالقصة نفس المقصوص ، أو على نبوته عليه الصلاة والسلام الذين سألوه عن قصتهم حسبما علمت في بيان سبب النزول فأخبرهم صلى اللّه تعالى عليه وسلم بذلك على ما هو عليه من غير سماع من أحد ولا قراءة كتاب ، فالمراد بالقصة اقتصاصها ، وجمع - الآيات - حينئذ قيل : للإشعار بأن اقتصاص كل طائفة من القصة آية بينة كافية في الدلالة على نبوته صلى اللّه تعالى عليه وسلّم ، وقيل :
لتعدد جهة الإعجاز لفظا ومعنى ، وزعم بعض الجلة أن الآية من باب الاكتفاء ، والمراد آياتٌ للذين يسألون والذين لا يسألون ، ونظير ذلك قوله سبحانه : سَواءً لِلسَّائِلِينَ [فصلت : 10] وحسن ذلك لقوة دلالة الكلام على المحذوف ، وقال ابن عطية : إن المراد من السائلين الناس إلّا أنه عدل عنه تحضيضا على تعلم مثل هذه القصة لما فيها من مزيد العبر ، وكلا القولين لا يخلو عن بعد.
وقرأ أهل مكة وابن كثير ومجاهد - آية - على الإفراد ، وفي مصحف أبي - عبرة للسائلين - إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ بنيامين وتخصيصه بالإضافة لاختصاصه بالأخوة من جانبي الأم والأب وهي أقوى من الأخوة من أحدهما ، ولم يذكروه باسمه إشعارا بأن محبة يعقوب عليه السلام له لأجل شقيقه يوسف عليه السلام ، ولذا لم يتعرضوه بشيء مما أوقع بيوسف عليه السلام واللام للابتداء ، و- يوسف - مبتدأ وَأَخُوهُ عطف عليه ، وقوله سبحانه : أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا خبر ومتعلق به وهو أفعل تفضيل من المبني للمفعول شذوذا ولذا عدي بإلى حسبما ذكروا من أن أفعل من الحب والبغض يعدى إلى الفاعل معنى بإلى وإلى المفعول باللام ، وفي تقول : زيد أحب إلي من بكر إذا كنت تكثر محبته ولي وفيّ إذا كان يحبك أكثر من غيره ، ولم يثن مع أن المخبر عنه به اثنان لأن أفعل من كذا لا يفرق فيه بين الواحد وما فوقه ولا بين المذكر وما يقابله بخلاف أخويه فإن الفرق واجب في المحلى جائز في المضاف إذا أريد تفضيله على المضاف إليه وإذا أريد تفضيله مطلقا فالفرق لازم ، وجيء بلام الابتداء لتحقيق مضمون الجملة وتأكيده أي كثرة حبه لهما أمر ثابت لا شبهة فيه وَنَحْنُ عُصْبَةٌ أي والحال إنا جماعة قادرون على خدمته والجد في منفعته دونهما ، والعصبة والعصابة على ما نقل عن الفراء : العشرة فما زاد سموا بذلك لأن الأمور تعصب بهم أي تشد فتقوى.
وعن ابن عباس أن العصبة ما زاد على العشرة وفي رواية عنه أنها ما بين العشرة والأربعين ، وعن مجاهد أنها من عشرة إلى خمسة عشرة.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 382
وعن مقاتل هي عشرة ، وعن ابن جبير ستة أو سبعة ، وقيل : ما بين الواحد إلى العشرة ، وقيل : إلى خمسة عشر ، وعن ابن زيد والزجاج وابن قتيبة هي الجماعة مطلقا ولا واحد لها من لفظها كالنفر والرهط ، وقيل : الثلاثة نفر وإذا زادوا فهم رهط إلى التسعة فإذا زادوا فهم عصبة ، ولا يقال لأقل من عشرة : عصبة ، وروى النزال بن سبرة عن علي كرم اللّه تعالى وجه أنه قرأ بنصب «عصبة»
فيكون الخبر محذوفا ، وعصبة حال من الضمير فيه أي نجتمع عصبة ، وقدر ذلك ليكون في الحال دلالة على الخبر المحذوف لما فيها من معنى الاجتماع.
وزعم ابن المنير أن الكلام على طريقة : أنا أبو النجم وشعري شعري ، والتقدير ونحن نحن عصبة ، وحذف الخبر لمساواته المبتدأ وعدم زيادته عليه لفظا ففي حذفه خلاص من تكرار اللفظ بعينه مع دلالة السياق على المحذوف ، ولا غرو في وقوع الحال بعد نحن لأنه بالتقدير المذكور كلام تام فيه من الفخامة ما فيه وقدر في هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ [هود : 78] على قراءة النصب مثل ذلك ، وفيه أن الفخامة إنما تجيء من التكرار فلا يجوز الحذف على أن الدلالة على المحذوف غير بينة.
وعن ابن الأنباري أن ذلك كما تقول العرب : إنما العامري عمته أي يتعهد ذلك ، والدال على المحذوف فيه عمته فإن الفعلة للحالة التي يستمر عليها الشخص فيلزم لا محالة تعهده لها ، والأولى أن يعتبر نظير قول الفرزدق : يا
لهذم حكمك مسمطا فإنه أراد كما قال المبرد حكمك لك مسمطا
أي مثبت نافذ غير مردود ، وقد شاع هذا فيما
بينهم لكن ذكروا أن فيه شذوذا من وجهين ، والآية على قراءة الأمير كرم اللّه تعالى وجهه أكثر شذوذا منه لا يخفى على المتدرب في علم العربية إِنَّ أَبانا أي في ترجيحهما علينا في المحبة مع فضلنا عليهما وكونهما بمعزل عن كفاية الأمور لَفِي ضَلالٍ أي خطأ في الرأي وذهاب عن طريق التعديل اللائق من تنزيل كل منا منزلته مُبِينٍ ظاهر الحال ، وجعل الضلال ظرفا لتمكنه فيه ، ووصفه بالمبين إشارة إلى أن ذلك غير مناسب له بزعمهم والتأكيد المزيد الاعتناء ، يروى أنه عليه السلام كان أحب إليه لما يرى فيه من أن المخايل وكانت إخوته يحسدونه فلما رأى الرؤيا تضاعفت له المحبة فكان لا يصبر عنه ويضمه كل ساعة إلى صدره ولعله أحس قلبه بالفراق فتضاعف لذلك حسدهم حتى حملهم على ما قص اللّه تعالى عنهم ، وقال بعضهم : إن سبب زيادة حبه عليه السلام ليوسف وأخيه صغرهما وموت أمهما ، وحب الصغير أمر مركوز في فطرة البشر فقد قيل لابنة الحسن : أي بنيك أحب إليك؟ قالت :
الصغير حتى يكبر والغائب حتى يقدم والمريض حتى يشفى ، وقد نظم بعض الشعراء في محبة الولد الصغير قديما وحديثا ، ومن ذلك ما قاله الوزير أبو مروان عبد الملك بن إدريس الجزيري من قصيدة بعث بها إلى أولاده وهو في السجن :
وصغيرهم عبد العزيز فإنني أطوي لفرقته جوى لم يصغر
ذاك المقدم في الفؤاد وإن غدا كفأ لكم في المنتمى والعنصر
إن البنان الخمس أكفاء معا والحلي دون جميعها للخنصر
وإذا الفتى فقد الشباب سماله حب البنين ولا كحب الأصغر
وفيه أن منشأ زيادة الحب لو كانت ما ذكر لكان بنيامين أوفر حظا في ذلك لأنه أصغر من يوسف عليه السلام كما يدل عليه قولهم : إن أمهما ماتت في نفاسه ، والآية كما أشرنا إليه مشيرة إلى أن محبته لأجل شقيقه يوسف فالذي ينبغي أن يعول عليه أنه عليه السلام إنما أحبه أكثر منهم لما رأى فيه من مخايل الخير ما لم ير فيهم وزاد ذلك الحب بعد الرؤيا لتأكيدها تلك الإمارات عنده ولا لوم على الوالد في تفضيله بعض ولده على بعض في المحبة لمثل ذلك ،

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 383
وقد صرح غير واحد أن المحبة ليست مما تدخل تحت وسع البشر والمرء معذور فيما لم يدخل تحته ، نعم ظن أبناؤه أن ما كان منه عليه السلام إنما كان عن اجتهاد وأنه قد أخطأ في ذلك والمجتهد يخطىء ويصيب وإن كان نبيا ، وبهذا ينحل ما قيل : إنهم إن كانوا قد آمنوا بكون أبيهم رسولا حقا من عند اللّه تعالى فكيف اعترضوا وكيف زيفوا طريقته وطعنوا فيما هو عليه ، وإن كانوا مكذبين بذلك فهو يوجب كفرهم والعياذ باللّه تعالى وهو مما لم يقل به أحد ووجه الانحلال ظاهر اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً الظاهر أن هذا من جملة ما حكي بعد قوله سبحانه : إِذْ قالُوا وقد قاله بعض منهم مخاطبا للباقين وكانوا راضين بذلك إلّا من قال : لا تَقْتُلُوا إلخ ، ويحتمل أنه قاله كل منهم مخاطبا للبقية ، والاستثناء هو الاستثناء ، وزعم بعضهم أن القائل رجل غيرهم شاوروه في ذلك وهو خلاف الظاهر ولا ثبت له ، والظاهر أن القائل خيرهم بين الأمرين القتل والطرح.
وجوز أن يكون المراد قال بعض : اقْتُلُوا يُوسُفَ وبعض اطْرَحُوهُ والطرح رمي الشيء وإلقاؤه ، ويقال :
طرحت الشيء أبعدته ، ومنه قول عروة بن الورد :
ومن يك مثلي ذا عيال ومقترا من المال يطرح نفسه كل مطرح
ونصب أَرْضاً على إسقاط حرف الجر كما ذهب إليه الحوفي ابن عطية أي ألقوه في أرض بعيدة عن الأرض التي هو فيها ، وقيل : نصب على أنه مفعول ثان - لاطرحوه - لتضمينه معنى أنزلوه فهو كقوله تعالى : أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً [المؤمنون : 29] ، وقيل : منصوب على الظرفية ، ورده ابن عطية وغيره بأن ما ينتصب على الظرفية المكانية لا يكون إلّا مبهما وحيث كان المراد أرضا بعيدة عن أرضه لم يكن هناك إبهام ، ودفع بما لا يخلو عن نظر ، وحاصل المعنى اقتلوه أو غربوه فإن التغريب كالقتل في حصول المقصود مع السلام من إثمه ، ولعمري لقد ذكروا أمرين مرين فإن الغربة كربة أية كربة وللّه تعالى در من قال :
حسنوا القول وقالوا غربة إنما الغربة للأحرار ذبح
يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ بالجزم جواب الأمر ، والوجه الجارحة المعروفة ، وفي الكلام كناية تلويحية عن خلوص المحبة ، ومن هنا قيل : أي يقبل عليكم إقبالة واحدة لا يلفت عنكم إلى غيركم ، والمراد سلامة محبته لهم ممن يشاركهم فيها وينازعهم إياها ، وقد فسر الوجه بالذات والكناية بحالها خلا أن الانتقال إلى المقصود بمرتبتين :
على الأول وبمرتبة على هذا ، وقيل : الوجه بمعنى الذات ، وفي الكلام كناية عن التوجه والتقيد بنظم أحوالهم وتدبير أمورهم لأن خلوه لهم يدل على فراغه عن شغل يوسف عليه السلام فيشتغل بهم وينظم أمورهم ، ولعل الوجه الأوجه هو الأول وَتَكُونُوا بالجزم عطفا على جواب الأمر ، وبالنصب بعد الواو بإضمار أن «1» أي يجتمع لكم خلو وجهه والكون مِنْ بَعْدِهِ أي بعد يوسف على معنى بعد الفراغ من أمره ، أو من بعد قتله أو طرحه ، فالضمير إما ليوسف أو لأحد المصدرين المفهومين من الفعلين.
قَوْماً صالِحِينَ بالتوبة والتنصل إلى اللّه تعالى عما جئتم به من الذنب - كما روي عن الكلبي - وإليه ذهب الجمهور ، فالمراد بالصلاح الصلاح الديني بينهم وبين اللّه تعالى ، ويحتمل أن المراد ذلك لكن بينهم وبين أبيهم بالعذر
___________
(1) لا يخفى على المتأمل في هذا التفسير حل ما استشكله بعض الناس على تقدير العطف على جواب الأمر من عدم استقامة أن تقتلوا أو تطرحوا تكونوا من بعده صالحين من حيث المعنى ، وعندي أن ما أشير إليه من الجواب كالجواب عن نظير هذا الاستشكال في قوله تعالى : إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الفتح : 1] لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح : 2] الآية فتأمل ترشد ا ه منه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 384
وهو وإن كان مخالفا للدين لكونه كذبا لكنه موافق له من جهة أنهم يرجون عفو أبيهم وصفحه به ليخلصوا من العقوق على ما قيل ، ويحتمل أن يراد الصلاح الدنيوي أي صالحين في أمر دنياكم فإنه ينتظم لكم بعده بخلو وجه أبيكم ، وإيثار الخطاب في لَكُمْ وما بعده للمبالغة في حملهم على القبول فإن اعتناء المرء بشأن نفسه واهتمامه بتحصيل منافعه أتم وأكمل قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ هو يهوذا وكان رأيه فيه أهون شرا من رأي غيره وهو القائل : فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ [يوسف : 80] إلخ قاله السدي.
وقال قتادة وابن إسحاق : هو روبيل ، وعن مجاهد أنه شمعون ، وقيل : دان ، وقال بعضهم : إن أحد هذين هو القائل : اقْتُلُوا يُوسُفَ إلخ ، وأما القائل ، لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ فغيره ، ولعل الأصح أنه يهوذا.
قيل : وإنما لم يذكر أحد منهم باسمه سترا على المسيء وكل منهم لم يخل عن الإساءة وإن تفاوتت مراتبها ، والقول بأنه على هذا لا ينبغي لأحد أن يعين أحدا منهم باسمه تأسيا بالكتاب ليس بشيء لأن ذلك مقام تفسير وهو فيه أمر مطلوب ، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا كأن سائلا سأل اتفقوا على ما عرض عليهم من خصلتي الصنيع أم خالفهم في ذلك أحد؟ فقيل : قال قائل منهم : لا تَقْتُلُوا إلخ ، والإتيان - بيوسف - دون ضميره لاستجلاب شفقتهم عليه واستعظام قتله وهو هو فإنه يروى أنه قال لهم : القتل عظيم ولم يصرح بنهيهم عن الخصلة الأخرى ، وأحاله على أولوية ما عرضه عليهم بقوله : وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ أي في قعره وغوره سمي به لغيبته عن عين الناظر ، ومنه قيل للقبر : غيابة ، قال المنخل السعدي :
إذا أنا يوما غيبتني غيابتي فسيروا بسيري في العشيرة والأهل
وقال الهروي : الغيابة في الجب شبه كهف أو طاق في البئر فوق الماء يغيب ما فيه عن العيون ، والجب الركية التي لم تطو فإذا طويت فهي بئر قال الأعشى :
لئن كنت في جب ثمانين قامة ورقيت أسباب السماء بسلم
ويجمع على جبب وجباب وأجباب وسمي جبا لأنه جب من الأرض أي قطع ، وسيأتي قريبا إن شاء اللّه تعالى الكلام في تأنيثه وتذكيره.
وقرأ نافع في - غيابات - في الموضعين كأن لتلك الجب غيابات ، ففيه إشارة إلى سعتها ، أو أراد بالجب الجنس أي في بعض غيابات الجب ، وقرأ ابن هرمز - غيابات - بتشديد الياء التحتية وهو صيغة مبالغة ، ووزنه على ما نقل صاحب اللوامح يجوز أن يكون فعالات كحمامات ، ويجوز أن يكون فيعالات كشيطانات في جمع شيطانة ، وقرأ الحسن غيبة بفتحات على أنه في الأصل مصدر كالغلبة ، ويحتمل أن يكون جمع غائب كصانع وصنعة ، وفي حرف أبي رضي اللّه تعالى عنه غيبة بسكون الياء التحتية على أنه مصدر أريد به الغائب.
يَلْتَقِطْهُ أي يأخذه على وجه الصيانة عن الضياع والتلف فإن الالتقاط أخذ شيء مشرف على الضياع كذا قيل ، وفي مجمع البيان هو أن يجد الشيء ويأخذه من غير أن يحسبه ، ومنه قوله ومنهل وردته التقاطا.
بَعْضُ السَّيَّارَةِ أي بعض جماعة تسير في الأرض وأل في السيارة كما في الجب وما فيهما ، وفي - البعض - من الإبهام لتحقيق ما يتوخاه من ترويج كلامه بموافقته لغرضهم الذي هو تنائي يوسف عليه السلام عنهم بحيث لا يدرى أثره ولا يروى خبره ، وقرأ الحسن - تلتقطه - على التأنيث باعتبار المعنى كما في قوله :
إذا بعض السنين تعرفتنا كفى الأيتام فقد أبى اليتيم
وجاء قطعت بعض أصابعه وجعلوا هذا من باب اكتساب المضاف من المضاف إليه التأنيث كقوله : كما

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 385
شرقت صدر القناة من الدم إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أي إن كنتم عازمين مصرين على أن تفعلوا به ما يفرق بينه وبين أبيه أو إن كنتم فاعلين بمشورتي ورأيي فألقوه إلخ ، ولم بيت القول لهم بل عرض عليهم ذلك تأليفا لقلوبهم وتوجيها إلى رأيه وحذرا من سوء ظنهم به ولما كان هذا مظنة لسؤال سائل يقول : فما فعلوا بعد ذلك هل قبلوا رأيه أم لا؟ فأجيب على سبيل الاستئناف على وجه أدرج في تضاعيفه قبولهم له بما سيجيء إن شاء اللّه تعالى من قوله سبحانه : وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ فقيل : قالُوا يا أَبانا خاطبوه عليه السلام بذلك تحريكا لسلسلة النسب وتذكيرا لرابطة الأخوة ليتسببوا بذلك استنزاله عن رأيه في حفظه منهم لما أحس بحسدهم فكأنهم قالوا : ما لَكَ أي أيّ شيء لك لا تَأْمَنَّا لا تجعلنا أمناء عَلى يُوسُفَ مع أنك أبونا ونحن بنوك وهو أخونا وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ مريدون له الخير ومشفقون عليه ليس فينا ما يخل بذلك ، وجملة لا تَأْمَنَّا في موضع الحال ، وكذا جملة وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ والاستفهام - بما لك - فيه معنى التعجب ، والكلام ظاهر في أنه تقدم منهم سؤال أن يخرج عليه السلام معهم فلم يرض أبوهم بذلك.
وقرأ الجمهور لا تَأْمَنَّا بالإدغام والإشمام ، وفسر بضم الشفتين مع انفراج بينهما «1» إشارة إلى الحركة مع الإدغام الصريح كما يكون في الوقف وهو المعروف عندهم وفيه عسر هنا ، ويطلق على إشراب الكسرة شيئا من الضمة كما قالوا في قيل ، وعلى إشمام أحد حرفين شيئا من حرف آخر كما قالوا في الصراط ، وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما وأبو جعفر والزهري وعمرو بن عبيد بالإدغام من غير إشمام ، وإرادة النفي ظاهرة ، وقرأ ابن هرمز بضم الميم مع الإدغام ، وهذه الضمة منقولة إلى الميم من النون الأولى بعد سلب حركتها.
وقرأ أبي والحسن وطلحة بن مصرف والأعمش - لا تأمننا - بالإظهار وضم النون على الأصل ، وهو خلاف خط المصحف لأنه بنون واحدة ، وقرأ ابن وثاب وأبو رزين - لا تيمنا - بكسر حرف المضارعة على لغة تميم ، وسهل الهمزة بعد الكسرة ابن وثاب ، ولم يسهل أبو رزين.
وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن عاصم أنه قرأ بذلك بمحضر عبيد بن فضلة فقال له : لحنت ، فقال أبو رزين :
ما لحن من قرأ بلغة قومه أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً نصب على الظرفية الزمانية وهو يطلق على اليوم الذي يلي يومك ، وعلى الزمن المستقبل مطلقا ، وأصله غدو فحذفت لامه وقد جاء تاما أي ابعثه معنا غدا إلى الصحراء يَرْتَعْ أي يتسع في أكل الفواكه ونحوها ، وأصل معنى الرتع أن تأكل وتشرب ما تشاء في خصب وسعة ، ويقال : رتع أقام في خصب وتنعّم ، ويسمى الخصب رتعة بسكون التاء وفتحها ، وذكر الراغب ان الرتع حقيقة في أكل البهائم ويستعار للإنسان إذا أريد به الأكل الكثير ، وعلى ذلك قوله :
وإذ يخلوا له الحمى رتع وَيَلْعَبْ بالاستباق والانتضال ونحوهما مما يتدرب به لقتال العدو ، وليس المراد لعب لهو وإلا لم يقرّهم عليه يعقوب عليه السلام وإنما عبر عن ذلك به لكونه على هيئته تحقيقا لما رموه من استصحاب يوسف عليه السلام بتصويرهم له بصورة ما يلائم حاله عليه السلام من صغر السن ، وقرأ الجمهور يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ بالياء والجزم ، والابنان وأبو عمرو بالنون والجزم ، وكسر العين الحرميان ، واختلف «2» عن قنبل في إثبات الياء وحذفها ، ويروى عن ابن كثير
___________
(1) قالوا : وهذه الإشارة بعد الإدغام أو قبله ، وفي الثاني تأمل ا ه منه.
(2) روي عنه الإثبات وصلا ووقفا ، وفي رواية إثباتها في الوقف دون الوصل ، وهو المروي عن البزي ا ه منه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 386
«نرتع» بالنون وَيَلْعَبْ بالياء ، وهي قراءة جعفر بن محمد ، وقرأ العلاء بن سيابة «يرتع» بالياء وكسر العين مجزوما محذوف اللام «ويلعب» بالياء أيضا وضم الباء على أنه مستأنف أو خبر مبتدأ محذوف أي وهو يلعب.
وقرأ مجاهد وقتادة وابن محيصن - نرتع - بنون مضمونة وعين ساكنة من أرتعنا - ونلعب - بالنون أيضا ، وكذلك أبو رجاء إلا أنه بالياء التحتية فيهما ، والقراءتان على حذف المفعول أي نرتع المواشي أو غيرها ، والفعلان في هذه القراءات كلها مبنيان للفاعل.
وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما «يرتع ويلعب» بالياء والبناء للمفعول فيهما ، وخرج ذلك على أن نائب الفاعل ضمير غد ، والأصل يرتع فيه ويلعب فيه ، ثم حذف الجار واتسع فعدي الفعل للضمير فصار يرتعه ويلعبه ، ثم بني للمفعول فاستتر الضمير الذي كان منصوبا لكونه نائبا عن الفاعل ، ومن كسر العين من الفعل الأول فهو عنده من المراعاة على ما روي عن مجاهد أي يراعي بعضنا ويحرسه.
وقال ابن زيد : من رعي الإبل أي نتدرب في الرعي وحفظ المال ، أو من رعي النبات والكلأ ، والمراد نرعى مواشينا إلا أنه أسند ذلك إليهم مجازا ، أو تجوز عن أكلهم بالرعي ، وضعف ابن عطية القراءة بإثبات الياء ، وقال : إن إثباتها في مثل هذا الموضوع لا يجوز إلا في الشعر كقوله : .
ألم يأتيك والأنباء تنمى بما لاقت لبون بني زياد
وقيل : إن تقدير حذف الحركة في الياء ونحوها للجازم لغة وليس من الضرورة في شيء ، وأخرج أبو الشيخ عن مقاتل بن حيان أنه كان يقرأ نلهو ونعلب وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ أي من أن يناله مكروه ، والجملة في موضع الحال والعامل فيها فعل الأمر أو الجواب وليس ذلك من باب الأعمال كما قال أبو حيان لأن الحال لا تضمر ، وذلك الباب لا بد فيه من الإضمار إذا أعمل الأول ، وقد أكدوا مقالتهم بأصناف التأكيد من إيراد الجملة اسمية وتحليتها بأن واللام ، وإسناد الحفظ إلى كلهم وتقديم لَهُ على الخبر احتيالا في تحصيل مقصدهم قالَ استئناف بياني كأن سائلا يقول : فماذا قال أبوهم لهم؟ فقيل : قال إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ لشدة مفارقته عليّ وقلة صبري عنه ، واللام الداخلة على خبر إن إذا كان مضارعا قيل : تقصره على الحال وهو ظاهر كلام سيبويه ، وقيل : تكون له ولغيره ، واستدلوا بقوله تعالى : إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [النحل : 124] ، وقيل : إنها للحال إن خلت عن قرينة ومعها تكون لغيره ، وجعلوا من ذلك ما في الآية ، وبعضهم جعلها هنا للحال ، واستشكل بأن الذهاب مستقبل فيلزم تقدم الفعل على فاعله وهو غير جائز لأنه أثره ولا يعقل تقدم الأثر على المؤثر.
وأجيب بأن التقدير قصد أو توقع أن تذهبوا به ، فالكلام على تقدير المضاف وهو الفاعل وليس ذاك أمرا مستقبلا بل حال ، ولا يمتنع في مثل ذلك حذف الفاعل لما صرحوا به أنه إنما يمتنع إذا لم يسدّ مسدّه شيء وهنا قد سدّ ، ولا يجب أن يكون السادّ هو المضاف إليه كما ظن بل لو سدّ غيره كان الحذف جائزا أيضا ، ومن هنا كان تقدير قصدكم أن تذهبوا صحيحا ، ويحتمل أن يكون ذلك تقدير معنى لا تقدير إعراب ، وقال بعضهم : إنه يمكن دفع الإشكال من غير حاجة إلى تقدير المضاف بأن يقال : إن الذهاب يحزنه باعتبار تصوره كما قيل نظيره في العلة الغائية ، وقال شهاب :
ذلك التحقيق أظن أن ما قالوه في توجيه الإشكال مغلطة لا أصل لها فإن لزوم كون الفاعل موجودا عند وجود الفعل إنما هو الفاعل الحقيقي لا النحوي واللغوي فإن الفعل قد يكون قبله سواء كان حالا كما فيما نحن فيه أو ماضيا كما أنه يصح أن يكون الفاعل في مثله أمرا معدوما كما في قوله :
ومن سره أن لا يرى ما يسوءه فلا يتخذ شيئا يخاف له فقدا

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 387
ولم يقل أحد في مثله إنه محتاج إلى التأويل فإن الحزن والغم كالسرور والفرح يكون بالشيء قبل وقوعه كما صرح به ابن هلال في فروقه ، ولا حاجة إلى تأويل أو تقدير أو تنزيل للوجود الذهني منزلة الخارجي على القول به ، أو الاكتفاء به فإن مثله لا يعرفه أهل العربية ، أو اللسان فإن أبيت إلا اللجاج فيه فليكن من التجوز في النسبة إلى ما يستقبل لكونه سببا للحزن الآن ا ه.
وأنت تعلم أنهمصرحوا بأن فعل الفاعل الاصطلاحي إما قائم به أو واقع منه ، وقيام الشيء بما لم يوجد بعد ووقوعه منه غير معقول ، وحينئذ فالتأويل بما يصح القيام أو الوقوع في فاقد ذلك بحسب الظاهر واجب كذا قيل فتدبر ، وقرأ ابن هرمز وابن محيصن - ليحزني - بالإدغام ، وبذلك قرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما ، وقرأ أيضا تذهبوا به من أذهب رباعيا ، ويخرج كما قال أبو حيان على زيادة الباء في بِهِ كما خرج بعضهم تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون : 20] في قراءة من ضم التاء وكسر الباء الموحدة على ذلك أي - ليحزني أن تذهبوه ..
وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ هو حيوان معروف وخصه بالذكر لأن الأرض على ما قيل : كانت مذئبة ، وقيل :
لأنه سبع ضعيف حقير فنبه عليه السلام بخوفه عليه السلام عليه منه على خوفه عليه مما هو أعظم منه افتراسا من باب أولى ، ولحقارة الذئب خصه الربيع بن ضبع الفزاري في كونه يخشاه لما بلغ من السن ما بلغ في قوله :
والذئب أخشاه إن مررت به وحدي وأخشى الرياح والمطرا
وقيل : لأنه عليه السلام رأى في المنام أن ذئبا قد شد عليه فكان يحذره ، ولعل هذا الحذر لأن الأنبياء عليهم السلام لمناسبتهم التامة بعالم الملكوت تكون واقعاتهم بعينها واقعة ، وإلّا فالذئب في النوم يؤول بالعدو.
وادعى بعضهم أنه عليه السلام ورّى بالذئب عن واحد منهم فإنه عليه السلام أجلّ قدرا من أن لا يعلم أن رؤياه تلك من أي أقسام الرؤيا هي ، فإن منها ما يحتاج للتعبير ومنها ما لا يحتاج إليه ، والكامل يعرف ذلك.
وتعقب بأنه يحتمل أن يكون الأمر قد خفي عليه كما قد خفي مثل ذلك على جده إبراهيم عليه السلام وهو بناء على ما ذكره شيخنا ابن العربي قدس سره من أن رؤياه عليه السلام ذبح ولده من الرؤيا المعبرة بذبح كبش لكنه خفي عليه ذلك ولا يخفى ما فيه ، والمذكور في بعض الروايات أنه عليه السلام رأى في منامه كأنه على ذروة جبل وكأن يوسف في بطن الوادي فإذا عشرة من الذئاب قد احتوشته تريد أكله فدرأ عند واحد ثم انشقت الأرض فتوارى يوسف فيها ثلاثة أيام ، وأنا لم أجد لرواية الرؤيا مطلقا سندا يعول عليه ولا حاجة بنا إلى اعتبارها لتكلف الكلام فيها ، وبالجملة ما وقع منه عليه السلام من هذا القول كان تلقينا للجواب من غير قصد وهو على أسلوب قوله سبحانه : ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار : 6] والبلاء موكل بالمنطق.
وأخرج أبو الشيخ وغيره عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما قال : قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «ولا تلقنوا الناس فيكذبوا فإن بني يعقوب لم يعلموا أن الذئب يأكل الناس فلما لقنهم أبوهم كذبوا فقالوا : أكله الذئب»
والحزن ألم القلب لفوت المحبوب والخوف انزعاج النفس لنزول المكروه ، ولذلك أسند الأول إلى الذهاب به المفوت لاستمرار مصاحبته ومواصلته ليوسف عليه السلام ، والثاني إلى ما يتوقع نزوله من أكل الذئب والذئب أصله الهمزة وهي لغة الحجاز ، وبها قرأ غير واحد.
وقرأ الكسائي وخلف وأبو جعفر وورش ، والأعشى وغيرهم بإبدالها ياء لسكونها وانكسار ما قبلها وهو القياس في مثل ذلك ، وذكر بعضهم أنه قد همزه على الأصل ابن كثير ونافع في رواية قالون وأبو عمرو وقفا وابن عامر وحمزة

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 388
درجا وأبدلا وقفا ، ولعل ذلك لأن التقاء الساكنين في الوقف وإن كان جائزا إلا أنه إذا كان الأول حرف مد يكون أحسن.
وقال نصر : سمعت أبا عمرو ولا يهمزه ، والظاهر أنه أراد مطلقا فيكون ما تقدم رواية وهذه أخرى ، ويجمع على أذؤب وذئاب وذؤبان واشتقاقه عند الزمخشري من تذاءبت الريح إذا هبت من كل جهة.
وقال الأصمعي : إن اشتقاق تذاءبت من الذئب يفعله في عدوه ، قيل : وهو أنسب ولذا عد تذاءبت الريح من المجاز في الأساس لكن قيل عليه إن أخذ الفعل من الأسماء الجامدة - كابل - قليل مخالف للقياس وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ لاشتغالكم بالرتع واللعب أو لقلة اهتمامكم بحفظه.
قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ أي والحال أنا جماعة جديرة بأن تعصب بنا الأمور وتكفى بآرائنا وتدبيراتنا الخطوب ، واللام الداخلة على الشرط موطئة للقسم ، وقوله سبحانه : إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ جواب مجزىء عن الجزاء ، والخسار إما بمعنى الهلاك تجوزا عن الضعف ، أو استحقاقه ، أو عن استحقاق الدعاء به أي لضعفاء عاجزون أو مستحقون للهلاك لا غناء عندنا ولا نفع في حياتنا ، أو مستحقون لأن يدعى علينا بالخسار والدمار فيقال :
خسرهم اللّه تعالى ودمرهم إذ أكل الذئب أخاهم وهم معه ، وجوز أن يكون بمعناه الحقيقي أي إن لم نقدر على حفظه وهو أعز شيء عندنا فقد هلكت مواشينا وخسرناها وإنما اقتصروا على جواب خوف أبيهم عليه السلام من أكل الذئب مع أنه ذكر في وجه عدم مفارقته أمرين : حزنه لمفارقته وخوفه عليه من الذئب لأنه السبب القوي في المنع دون الحزن لقصر زمانه بناء على سرعة عودهم به ، أو لأن حزنه بالذهاب به إنما هو للخوف عليه ، فنفي الثاني يدل على نفي الأول ، أو لكراهتهم لذلك لأنه سبب حسدهم له فلذلك أعاروه أذنا صماء فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أي عزموا عزما مصمما على أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ قيل : هو بئر على ثلاث فراسخ من مقام يعقوب عليه السلام بكنعان التي هي من نواحي الأردن ، وقيل : هو بين مصر ومديرين ، بنفس أرض الأردن ، وزعم بعضهم أنها بئر بيت المقدس ، وتعقب بأنه يرده التعليل بالتقاط بعض السيارة ومجيئهم عشاء ذلك اليوم فإن بين منزل يعقوب عليه السلام وبيت المقدس مراحل وجواب - لما - محذوف إيذانا بهوره وإشعارا بأن تفصيله مما لا يحويه فلك العبارة ومجمله فعلوا ما فعلوا ، وقدره بعضهم عظمت فتنتهم وهو أولى من تقدير وضعوه فيها ، وقيل : لا حذف والجواب أو حينا ، والواو زائدة وليس بشيء.
قال وهب وغيره من أهل السير والأخبار : إن إخوة يوسف عليه السلام قالوا : أما تشتاق أن تخرج معنا إلى مواشينا فنتصيد ونستبق؟ فقال عليه السلام : بلى قالوا : فسل أباك أن يرسلك معنا ، فقال عليه السلام : أفعل فدخلوا بجماعتهم على يعقوب فقالوا : يا أبانا إن يوسف قد أحب أن يخرج معنا إلى مواشينا ، فقال يعقوب : ما تقول يا بني؟
قال : نعم يا أبت إني أرى من إخوتي من اللين واللطف فأحب أن تأذن لي وكان يعقوب يكره مفارقته ويحب مرضاته فأذن له وأرسله معهم فلما خرجوا به جعلوا يحملونه على رقابهم ويعقوب ينظر إليهم فلما بعدوا عنه وصاروا به إلى الصحراء ألقوه إلى الأرض وأظهروا له ما في أنفسهم من العداوة وبسطوا له القول وجعلوا يضربونه فجعل كلما جاء إلى واحد منهم واستغاث به ضربه فلما فطن لما عزموا عليه جعل ينادي يا أبتا لو رأيت يوسف وما نزل به من إخوته لأحزنك ذلك وأبكاك يا أبتاه ما أسرع ما نسوا عهدك وضيعوا وصيتك وجعل يبكي بكاء شديدا فأخذه روبيل فجلد به الأرض ثم جثم على صدره وأراد قتله ، فقال له يوسف : مهلا يا أخي لا تقتلني ، فقال له : يا ابن راحيل أنت صاحب الأحلام قل لرؤياك تخلصك من أيدينا ولوى عنقه فاستغاث بيهوذا وقال له : اتق اللّه تعالى فيّ وحل بيني وبين من يريد قتلي فأدركته رحمة الأخوة ورق له فقال : يا إخوتاه ما على هذا عاهدتموني ألا أدلكم على ما هو أهون لكم وأرفق به؟

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 389
قالوا : وما هو؟ قال : تلقونه في هذا الجب فإما أن يموت أو يلتقطه بعض السيارة فانطلقوا به إلى بئر هناك واسع الأسفل ضيق الرأس فجعلوا يدلونه فيها فتعلق بشفيرها فربطوا يديه ونزعوا قميصه فقال : يا إخوتاه ردوا على قميصي لأستتر به في الجب فلم يفعلوا ثم ألقوه فيها ، فقال لهم : يا إخوتاه ردوا علي قميصي لأستتر به في الجب فلم يفعلوا ثم ألقوه فيها ، فقال لهم : يا إخوتاه أتدعوني وحيدا؟ قالوا : ادع الشمس والقمر والكواكب تؤنسك.
وقيل : جعلوه في دلو ثم أدلوه فلما بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يموت وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم قام على صخرة فيها.
وروي أنهم لما ألقوه في الجب جعل يبكي فنادوه أنها رحمة أدركتهم فأجابهم فأرادوا رضخه بصخرة ليقتلوه فمنعهم يهوذا وكان عند يعقوب قميص إبراهيم عليه السلام الذي كساه اللّه تعالى إياه من الجنة حين ألقي في النار وكان قد جعله في قصبة من فضة وعلقه في عنق يوسف لما خرج مع إخوته فلما صار في البئر أخرجه ملك وألبسه فأضاء له الجب ، وعن الجنس أنه لما ألقى فيها عذب ماؤها «1» وكان يغنيه عن الطعام والشراب ونزل عليه جبريل عليه السلام يؤنسه فلما أمسى نهض ليذهب فقال له : إني أستوحش إذا ذهبت ، فقال : إذا رمت شيئا فقل : يا صريخ المستصرخين ، ويا غوث المستغيثين ، ويا مفرج كرب المكروبين قد ترى مكاني وتعلم حالي ولا يخفى عليك شيء من أمري فلما قالها يوسف عليه السلام حفته الملائكة عليهم السلام واستأنس بهم.
وقال محمد بن مسلم الطائفي : إنه عليه السلام لما ألقي في الجب قال : يا شاهدا غير غائب ويا قريبا غير بعيد ويا غالبا غير مغلوب اجعل لي فرجا مما أنا فيه ، وقيل : كان يقول : يا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ارحم ضعفي وقلة حيلتي وصغر سني ، وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال : قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «لما ألقي يوسف في الجب أتاه جبريل عليه السلام فقال : يا غلام من ألقاك في هذا الجب؟ قال : إخوتي قال : ولم؟ قال : لمودة أبي إياي حسدوني ، قال : تريد الخروج من هاهنا؟ قال : ذاك إلى إله يعقوب ، قال : قل : اللهم إني أسألك باسمك المكنون المخزون يا بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام أن تغفر لي وترحمني وأن تجعل من أمري فرجا ومخرجا وأن ترزقني من حيث أحتسب ومن حيث لا أحتسب فقالها فجعل اللّه تعالى له من أمره فرجا ومخرجا ورزقه ملك مصر من حيث لا يحتسب ثم قال عليه الصلاة والسلام : ألظوا بهؤلاء الكلمات فإنهن دعاء المصطفين الأخيار»
وروي غير ذلك ، والروايات في كيفية إلقائه وما قال وما قيل له كثيرة ، وقد تضمنت ما يلين له الصخر لكن ليس فيها ما له سند يعول عليه ، واللّه تعالى أعلم وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ الضمير ليوسف أي أعلمناه عند ذلك تبشيرا له بما يؤول إليه أمره وإزالة لوحشته وتسلية له ، وكان ذلك على ما روي عن مجاهد بالإلهام ، وقيل : بالإلقاء في مبشرات المنام ، وقال الضحاك وقتادة : بإرسال جبريل عليه السلام إليه والموحى إليه ما تضمنه قوله سبحانه : لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وهو بشارة له بالخلاص أيضا أي لتخلصن مما أنت فيه من سوء الحال وضيق المجال ولتخبرن إخوتك بما فعلوا بك وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بأنك يوسف لتباين حاليك : حالك هذا وحالك يومئذ بعلو شأنك وكبرياء سلطانك وبعد حالك من أوهامهم ، وقيل : لبعد العهد المبدل للهيئات المغير للأشكال والأول أدخل في التسلية ، أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : لما دخل إخوة يوسف على يوسف فعرفهم وهم له منكرون وجيء بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فطن ، فقال : إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف يدنيه دونكم وأنكم انطلقتم به
___________
(1) وسيأتي رواية أن يهوذا كان يأتيه بالطعام قريبا إن شاء اللّه تعالى ا ه منه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 390
فألقيتموه في غيابة الجب فأتيتم أباكم فقلتم : إن الذئب أكله وجئتم على قميصه بدم كذب ، فقال بعضهم لبعض : إن هذا الجام ليخبره بخبركم ، ثم قال ابن عباس : فلا نرى هذه الآية لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ إلخ نزلت إلّا في ذلك ، وجوز أن يتعلق وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بالإيحاء على معنى أنا آنسناه بالوحي وأنزلنا عن قلبه الوحشة التي أورثوه إياها وهم لا يشعرون بذلك ويحسبون أنه مستوحش لا أنيس له.
وروي ذلك عن قتادة ، وكان هذا الإيحاء وهو عليه السلام ابن ست عند الضحاك واثنتي عشرة سنة أو ثماني عشرة سنة عند الحسن وسبع عشرة سنة عند ابن السائب - وهو الذي يزعمه اليهود - وقيل غير ذلك ، ومن نظر في الآيات ظهر له أن الراجح كونه عليه السّلام لم يبلغ الحلم إذ ذاك ، وعلى جميع الأقوال أنه عليه السّلام لم يكن بالغا الأربعين عند الإيحاء إليه ، نعم أكثر الأنبياء عليهم السّلام نبئوا في سن الأربعين وقد أوحي إلى بعضهم - كيحيى ، وعيسى عليهما السلام - قبل ذلك بكثير.
وزعم بعضهم أن ضمير إِلَيْهِ يعود على يعقوب عليه السّلام وليس بشيء كما لا يخفى ، وقرأ ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما لينبئنهم بياء الغيبة وكذا في مصاحف البصرة.
وقرأ سلام بالنون على أنه وعيد لهم ، فقوله سبحانه : وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ متعلق - بأوحينا - لا غير على ما قاله الزمخشري ومن تبعه ، ونظر فيه بأنه يجوز أن يتعلق أيضا بقوله تعالى : لَتُنَبِّئَنَّهُمْ وأن يراد بإنباء اللّه تعالى إيصال فعلهم به عليه السّلام وهم لا يشعرون بذلك ، ودفع بأنه بناء على الظاهر وأنه لا يجتمع إنباء اللّه تعالى مع عدم شعورهم بما أنبأهم به إلّا بتأويل كتقدير لنعلمنهم بعظيم ما ارتكبوه قبل وهم لا يشعرون بما فيه وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً أي في ذلك الوقت وهو - كما قال الراغب - من صلاة المغرب إلى العتمة والعشاءان : المغرب ، والعتمة.
وعن الحسن أنه قرأ - عشيا - بضم العين وفتح الشين وتشديد الياء منونا وهو تصغير عشي وهو من زوال الشمس إلى الصباح ، وعنه أنه قرأ - عشي - بالضم والقصر كدجى فنصبه على الحال وهو جمع أعشى عند بعض وعاش عند آخرين ، وأصله عشاة كماش ومشاة فحذفت الهاء تخفيفا ، وأورد عليهما بأنه لا جواز لمثل هذا الحذف وأنه لا يجمع أفعل فعلاء على فعل بضم الفاء وفتح العين بل فعل بسكون العين ، ولذا قيل : كان أصله عشوا فنقلت حركة الواو إلى ما قبلها لكونه حرفا صحيحا ساكنا ثم حذفت بعد قلبها ألفا لالتقاء الساكنين وإن قدر ما بكوا به في ذلك اليوم لا يعشو منه الإنسان وأجيب عن هذا بأن المقصود المبالغة في شدة البكاء والنحيب لا حقيقته أي كاد يضعف بصرهم لكثرة البكاء ، وقيل : هو جمع عشوة مثلث العين وهي ركوب أمر على غير بصيرة يقال : أوطأه عشوة أي أمرا ملتبسا يوقعه في حيرة وبلية فيكون تأكيدا لكذبهم وهو تمييز أو مفعول له ، وجوز أن يكون جمع عشوة بالضم بمعنى شعلة النار عبارة عن سرعتهم لابتهاجهم بما فعلوا من العظيمة وافتعلوا من «1» العضيهة ، وجوز أن يكون عِشاءً في قراءة الجمهور جمع عاش مثل راع ورعاء ويكون نصبه على الحال ، والظاهر الأول ، وإنما - جاؤوا عشاء - إما لأنهم لم يصلوا من مكانهم إلا في ذلك الوقت ، وإما ليكونوا أقدر على الاعتذار لمكان الظلمة التي يرتفع فيها الحياء ، ولذا قيل : لا تطلب الحاجة بالليل فإن الحياء في العينين ولا تعتذر في النهار من ذنب فتلجلج في الاعتذار وهل جاؤوا في عشاء اليوم الذي ذهبوا فيه أو في عشاء يوم آخر؟ ظاهر كلام بعضهم الأول ، وذهب بعضهم إلى الثاني بناء على ما روي أنه عليه السّلام مكث في الجب ثلاثة أيام وكان إخوته يرعون حواليه وكان يهوذا يأتيه بالطعام.
___________
(1) البهتان ا ه منه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 391
وفي الكلام - على ما في البحر - حذف والتقدير وَجاؤُ أَباهُمْ دون يوسف عِشاءً يَبْكُونَ أي متباكين أي مظهرين البكاء بتكلف لأنه لم يكن عن حزن لكنه يشبهه ، وكثيرا ما يفعل بعض الكذابين كذلك ، أخرج ابن المنذر عن الشعبي قال : جاءت امرأة إلى شريح تخاصم في شيء فجعلت تبكي فقولوا : يا أبا أمية أما تراها تبكي؟! فقال : قد جاء إخوة يوسف أباهم عشاء يبكون ، وقال الأعمش : لا يصدق باك بعد إخوة يوسف ، وفي بعض الآثار أن يعقوب عليه السّلام لما سمع بكاءهم قال : ما بالكم أجرى في الغنم شي ء؟ قالوا : لا قال : فما أصابكم وأين يوسف؟
قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ
أي متسابقين في العدو على الأقدام على ما روى عن السدي ، أو في الرمي بالسهام كما قال الزجاج ، أو في أعمال نتوزعها من سقي ورعي واحتطاب أو في الصيد وأخذه كما قيل ، ورجح ما قاله الزجاج بقراءة عبد اللّه - إنا ذهبنا ننتضل - وأورد على الأول أنه كيف ساغ لهم الاستباق في العدو وهو من أفعال الصبيان التي لا ثمرة فيها ، وأجيب بالمنع وثمرته التدرب في العدو لمحاربة العدو ومدافعة الذئب مثلا وبالجملة نَسْتَبِقُ بمعنى نتسابق وقد يشترك الافتعال والتفاعل فيكونان بمعنى كالانتضال والتناضل ونظائرهما وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا أي ما يتمتع به من الثياب والأزواد وغيرهما فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ عقيب ذلك من غير مضي زمان يعتاد فيه التفقد والتعهد وحيث لا يكاد يطرح المتاع عادة إلّا في مقام يؤمن فيه الغوائل لم يعد تركه عليه السّلام عنده من باب الغفلة وترك الحفظ الملتزم لا سيما إذا لم يغيبوا عنه فكأنهم قالوا : إنا لم نقصر في محافظته ولم نفغل عن مراقبته بل تركناه في مأمننا ومجمعنا بمرأى منا وما فارقناه إلّا ساعة يسيرة بيننا وبينه مسافة قصيرة فكان ما كان قاله شيخ الإسلام ، والظاهر أنهم لم يريدوا إلّا أن الذئب أكل يوسف ولم يقصدوا بذلك تعريضا فما قيل : إنهم عرضوا وأرادوا أكل الذئب لا يلتفت إليه لما فيه من الخروج عن الجادة من غير موجب وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا أي ما أنت مصدق لنا في هذه المقالة وَلَوْ كُنَّا عندك وفي اعتقادك صادِقِينَ أي موصوفين بالصدق والثقة لفرط محبتك فكيف وأنت سيء الظن بنا غير واثق بقولنا ، قيل : ولا بد من التأويل إذ لو كان المعنى وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ في نفس الأمر لكان تقديره فكيف إذا كنا كاذبين فيه فيلزم اعترافهم بكذبهم فيه ، وقد تقدم أن المراد في مثل ذلك تحقيق الحكم السابق على كل حال فكأنه قيل هنا : وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا في حال من الأحوال فتذكر وتأمل.
وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ أي ذي كذب أو وصف بالمصدر مبالغة كأنه نفس الكذب وعينه كما يقال للكذاب : هو الكذب بعينه والزور بذاته ، ومن ذلك ما في قوله :
أفيضوا على عزابكم من بناتكم فما في كتاب اللّه أن يحرم الفضل
وفيهن فضل قد عرفنا مكانه فهن به جود وأنتم به بخل
وبعضهم يؤوّل كذب بمكذوب فيه فإن المصدر قد يؤول بمثل ذلك ، وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما كذبا بالنصب وخرج على أنه في موضع الحال من فاعل جاؤُ بتأويل كاذبين ، وقيل : من دم علي تأويل مكذوبا فيه ، وفيه أن الحال من النكرة على خلاف القياس ، وجوز أن يكون مفعولا من أجله أي جاؤوا بذلك لأجل الكذب ، وقرأت عائشة رضي اللّه تعالى عنها والحسن - كدب - بالدال المهملة وليس من قلب الذال دالا بل هو لغة أخرى بمعنى كدر أو طري أو يابس فهو من الأضداد ، وقال صاحب اللوامح : المعنى ذي كدب أي أثر لأن الكدب بياض يخرج في أظافر الشبان ويؤثر فيها فهو كالنقش ويسمى ذلك الفوف ولم يعتبر بعض المحققين تقدير المضاف وجعل ذلك من التشبيه البليغ أو الاستعارة فإن الدم في القميص يشبه الكذب من جهة مخالفة لونه لون ما هو فيه ، وقوله سبحانه عَلى قَمِيصِهِ - على ما ذهب إليه أبو البقاء - حال من دم ، وفي جواز تقديم الحال على صاحبها المجرور بالحرف

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 392
غير الزائد خلاف ، والحق كما قال السفاقسي : الجواز لكثرة ذلك في كلامهم ، وفي اللباب ولا تتقدم على صاحبها المجرور على الأصح نحو مررت جالسة بهند إلّا أن يكون الحال ظرفا على أن الحق ما اختاره ابن مالك من جواز التقديم مطلقا ، وقال الزمخشري ومن تبعه : إنه في موضع النصب على الظرفية أي جاؤوا فوق قميصه كما تقول : جاء على جماله بأحمال ، وأراد على ما في الكشف أن عَلى على حقيقة الاستعلاء وهو ظرف لغو ، ومنع في البحر كون العامل فيه المجيء لأنه يقتضي أن الفوقية ظرف للجائين ، وأجيب بأن الظرفية ليست باعتبار الفاعل بل باعتبار المفعول.
وفي بعض الحواشي أن الأولى أن يقال : جاؤوا مستولين على قميصه ، وقوله سبحانه : بِدَمٍ حال من القميص ، وجعل المعنى استولوا على القميص ملتبسا بدم جائين ، وهو على ما قيل : أولى من جاؤوا مستولين لما تقرّر في التضمين ، والأمر في ذلك سهل فإن جعل المضمن أصلا والمذكور حالا وبالعكس كل منهما جائز وإذا اقتضى المقام أحدهما رجح ، واستظهر كونه ظرفا للمجيء المتعدي ، والمعنى أتوا بدم كذب فوق قميصه ولا يخفى استقامته ، هذا ثم إن ذلك الدم كان دم سخلة ذبحوها ولطخوا بدمها القميص - كما روي عن ابن عباس ومجاهد ..
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة أنهم أخذوا ظبيا فذبحوه فلطخوا بدمه القميص ، ولما جاؤوا به جعل يقلبه فيقول : ما أرى به أثر ناب ولا ظفر إن هذا السبع رحيم ، وفي رواية أنه أخذ القميص وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص ، وقال : تاللّه ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا أكل ابني ولم يمرق عليه قميصه ، وجاء أنه بكى وصاح ، وخر مغشيا عليه فأفاضوا عليه الماء فلم يتحرك ونادوه فلم يجب ووضع يهوذا يده على مخارج نفسه فلم يحس بنفس ولا تحرك له عرق ، فقال : ويل لنا من ديان يوم الدين ضيعنا أخانا وقتلنا أبانا فلم يفق إلا ببرد السحر قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أي زينت وسهلت أَمْراً من الأمور منكرا لا يوصف ولا يعرف ، وأصل التسويل تقدير شيء في النفس مع الطمع في إتمامه.
وقال الراغب : هو تزيين النفس لما تحرص عليه وتصوير القبيح بصورة الحسن.
وقال الأزهري : كأن التسويل تفعيل من سوال الإنسان وهو أمنيته التي يطلبها فتزين لطالبها الباطل وغيره وأصله مهموز ، وقيل : من السول بفتحتين وهو استرخاء في العصب ونحوه كأن المسول لمزيد حرصه استرخى عصبه ، وفي الكلام حذف على ما في البحر أي لم يأكله الذئب بَلْ سَوَّلَتْ إلخ ، وعلمه عليه السّلام بكذبهم قيل : حصل من سلامة القميص على التمزيق وهي إحدى ثلاث آيات في القميص : ثانيتها عود يعقوب بصيرا بإلقائه على وجهه ، وثالثتها قده من دبر فإنه كان دليلا على براءة يوسف ، وينضم إلى ذلك وقوفه بالرؤيا الدالة على بلوغه مرتبة علياء تنحط عنها الكواكب ، وقيل : من تناقضهم فإنه يروى أنه عليه السّلام لما قال : ما تقدم عن قتادة قال بعضهم : بل قتله اللصوص فقال : كيف قتلوه وتركوا قميصه وهم إلى قميصه أحوج منهم إلى قتله؟! ولعله مع هذا العلم إنما حزن عليه السّلام لما خشي عليه من المكروه والشدائد غير الموت ، وقيل : إنما حزن لفراقه وفراق الأحبة مما لا يطاق ، ولذلك قيل :
لو لا مفارقة الأحباب ما وجدت لها المنايا إلى أرواحنا سبلا
ولا بأس بأن يقال : إنه أحزنه فراقه وخوف أن يناله مكروه فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أي فأمري صبر جميل ، أو فصبري صبر جميل كما قال قطرب ، أو فالذي أفعله ذلك كما قال الخليل. أو فهو صبر إلخ كما قال الفراء ، وصبر في كل ذلك خبر مبتدأ محذوف أو فصبر جميل أمثل وأجمل على أنه مبتدأ خبره محذوف ، وهل الحذف في مثل ذلك

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 393
واجب أو جائز؟ فيه خلاف ، وكذا اختلفوا فيما إذا صح في كلام واحد اعتبار حذف المبتدأ وإبقاء الخبر واعتبار العكس هل الاعتبار الأول أولى أم الثاني؟.
وقرأ أبي والأشهب وعيسى بن عمر - فصبرا جميلا - بنصبهما وكذا في مصحف أنس بن مالك ، وروي ذلك عن الكسائي ، وخرج على أن التقدير فاصبر صبرا على أن اصبر مضارع مسند لضمير المتكلم ، وتعقب بأنه لا يحسن النصب في مثل ذلك إلّا مع الأمر ، والتزم بعضهم تقديره هنا بأن يكون عليه السّلام قد رجع إلى مخاطبة نفسه فقال :
صبرا جميلا على معنى فاصبري يا نفس صبرا جميلا ، والصبر الجميل على ما روى الحسن عنه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم - ما لا شكوى فيه
أي إلى الخلق وإلّا فقد قال يعقوب عليه السّلام : نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
[يوسف :
86] ، وقيل : إنه عليه السّلام سقط حاجباه على عينيه فكان يرفعهما بعصابة فسئل عن سبب ذلك فقال : طول الزمان وكثرة الأحزان فأوحى اللّه تعالى إليه أتشكو إلى غيري ، فقال يا رب خطيئة فاغفرها.
وقيل : المراد من قوله : فَصَبْرٌ جَمِيلٌ إني أتجمل لكم في صبري فلا أعاشركم على كآبة الوجه وعبوس الجبين بل أبقى على ما كنت عليه معكم وهو خلاف الظاهر جدا وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ أي المطلوب منه العون وهو إنشاء منه عليه السّلام للاستعانة المستمرة عَلى ما تَصِفُونَ متعلق بالمستعان والوصف ذكر الشيء بنعته وهو قد يكون صدقا وقد يكون كذبا ، والمراد به هنا الثاني كما في قوله سبحانه : سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصافات : 18] بل قيل : إن الصيغة قد غلبت في ذلك ومعنى استعانته عليه السّلام باللّه تعالى على كذبهم طلبه منه سبحانه إظهار كونه كذبا بسلامة يوسف عليه السّلام والاجتماع معه فيكون ذكر الاستعانة هنا نظير عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً [يوسف : 83] بعد قوله فيما بعد : فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ، وفي بعض الآثار أن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت يوم الإفك : واللّه لئن حلفت لا تصدقوني ولئن اعتذرت لا تعذروني فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وولده واللّه المستعان على ما تصفون فأنزل اللّه تعالى في عذرها ما أنزل ، وقيل : المراد أنه تعالى المستعان على احتمال ما تصفونه من هلاك يوسف كأنه عليه السّلام بعد أن قال : صبر جميل طلب الإعانة منه تعالى على الصبر وذلك لأن الدواعي النفسانية تدعو إلى إظهار الجزع وهي قوية والدواعي الروحانية الصبر الجميل فكأنه وقعت المحاربة بين الصفتين فما لم تحصل المعونة منه جلّ وعلا لا تحصل الغلبة ، فقوله : فَصَبْرٌ جَمِيلٌ يجري مجرى إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة : 5] وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ يجري مجرى وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة : 5] ولعل الأول أسلم من القال والقيل ، وللإمام الرازي عليه الرحمة في هذا المقام بحث ، وهو : أن الصبر على قضاء اللّه تعالى واجب وأما الصبر على ظلم الظالمين ومكر الماكرين فغير واجب بل الواجب
إزالته لا سيما في الضرر العائد إلى الغير فكان اللائق بيعقوب عليه السّلام التفتيش والسعي في تخليص يوسف عليه السّلام من البلية والشدة إن كان حيا ، وفي إقامة القصاص إن صح أنهم قتلوه قد يقال : إن الواجب المتعين عليه السعي في طلبه وتخليصه لأن الظاهر أنه كان عالما بأنه حي سليم لقوله : وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ [يوسف : 6] فإن الظاهر أنه إنما قاله عن وحي ، وأيضا إنه عليه السّلام كان عظيم القدر جليل الشأن معظما في النفوس مشهورا في الآفاق فلو بالغ في الطلب والتفحص لظهر ذلك واشتهر ولزال وجه التلبيس فما السبب في تركه عليه السّلام الفحص مع نهاية رغبته في حضور يوسف وغاية محبته له ، وهل الصبر في هذا المقام إلّا مذموم عقلا وشرعا؟ ثم قال : والجواب أن نقول : لا جواب عن ذلك إلّا أن يقال : إنه سبحانه وتعالى منعه عن الطلب تشديدا للمحنة وتغليظا للأمر ، وأيضا لعله عرف بقرائن الأحوال أن أولاده أقوياء وأنهم لا يمكنونه من الطلب والتفحص وأنه لو بالغ في البحث ربما أقدموا على إيذائه وقتله ، وأيضا لعله

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 394
عليه السّلام علم أن اللّه تعالى يصون يوسف عن البلاء والمحنة وأن أمره سيعظم بالآخرة ثم لم يرد هتك ستر أولاده وما رضي بإلقائهم في ألسنة الناس ، وذلك لأن أحد الولدين إذا ظلم الآخر وقع الأب في العذاب الشديد لأنه إن لم ينتقم يحترق قلبه على الولد المظلوم وإن انتقم يحترق على الولد الذي ينتقم منه ، ونظير ذلك ما أشار إليه الشاعر بقوله :
قومي هم قتلوا أميم أخي فإذا رميت يصيبني سهمي
ولئن عفوت لأعفون جللا ولئن سطوت لموهن عظمي
فلما وقع يعقوب عليه السّلام في هذه البلية رأى أن الأصوب الصبر والسكوت وتفويض الأمر بالكلية إلى اللّه تعالى لا سيما إن قلنا : إنه عليه السّلام كان عالما بأن ما وقع لا يمكن تلافيه حتى يبلغ الكتاب أجله. وَجاءَتْ شروع فيما جرى على يوسف عليه السّلام في الجب بعد الفراغ عن ذكر ما وقع بين إخوته وبين أبيه أي وجاءت إلى الجب سَيَّارَةٌ رفقة تسير من جهة مدين إلى مصر وكان ذلك بعد ثلاثة أيام مضت من زمن إلقائه في قول ، وقيل :
في اليوم الثاني ، والظاهر أن الجب كا في طريق سيرهم المعتاد.
وقيل : إنه كان في قفرة بعيدة من العمران فأخطؤوا الطريق فأصابوه فَأَرْسَلُوا إليه وارِدَهُمْ الذي يرد الماء ويستقي لهم وكان ذلك مالك بن ذعر الخزاعي.
وقال ابن عطية : الوارد هنا يمكن أن يقع على الواحد وعلى الجماعة ا ه والظاهر الأول ، والتأنيث في جاءَتْ والتذكير في فَأَرْسَلُوا ووارِدَهُمْ باعتبار اللفظ والمعنى ، وفي التعبير بالمجيء إيماء إلى كرامة يوسف عليه السّلام عند ربه سبحانه ، وحذف متعلقه وكذا متعلق الإرسال لظهوره ولذا حذف المتعلق في قوله سبحانه : فَأَدْلى دَلْوَهُ أي أرسلها إلى الجب ليخرج الماء ، ويقال : دلا الدلو إذا أخرجها ملأى ، والدلو من المؤنثات للسماعية فتصغر على دلية وتجمع على أدل ودلاء ودلى.
وقال ابن الشحنة : إن الدلو التي يستقى بها مؤنثة وقد تذكر ، وأما الدلو مصدر دلوت وضرب من السير فمذكر ومثلها في التذكير والتأنيث الجب عند الفراء على ما نقله عن محمد بن الجهم ، وعن بعضهم أنه مذكر لا غير وأما البئر مؤنثة فقط في المشهور ، ويقال في تصغيرها : بويرة وفي جمعها آبار وأبار وأبؤر وبئار وفي الكلام حذف أي فأدلى دلوه فتدلى بها يوسف فخرج قالَ استئناف مبني على سؤال يقتضيه الحال يا بُشْرى هذا غُلامٌ نادى البشرى بشارة لنفسه أو لقومه ورفقته كأنه نزلها منزلة شخص فناداه فهو استعارة مكنية وتخييلية أي يا بشرى تعالى فهذا أو إن حضورك ، وقيل : المنادى محذوف كما في يا ليت أي يا قومي انظروا واسمعوا بشراي ، وقيل : إن هذه الكلمة تستعمل للتبشير من غير قصد إلى النداء.
وزعم بعضهم أن بشرى اسم صاحب له ناداه ليعينه على إخراجه ، وروي هذا عن السدي - وليس بذاك - وقرأ غير الكوفيين - يا بشراي - بالإضافة ، وأمال فتحة الراء حمزة والكسائي ، وقرأ ورش بين اللفظين.
وروي عن نافع أنه قرأ - يا بشراي - بسكون ياء الإضافة ويلزمه التقاء الساكنين على غير حده ، واعتذر بأنه أجرى الوصل مجرى الوقف ونظائر ذلك كثيرة في القرآن وغيره ، وقيل : جاز ذلك لأن الألف لمدها تقوم مقام الحركة ، وقرأ أبو الطفيل والحسن وابن أبي إسحاق والجحدري «يا بشري» بقلب الألف ياء وإدغامها في ياء الإضافة - وهي لغة لهذيل ولناس غيرهم - ومن ذلك قول أبي ذؤيب :
سبقوا هوى وأعنقوا لهواهم فتخرموا ولكل جنب مصرع

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 395
ويقولون : يا سيدي ، ومولى ، و- الغلام - كثيرا ما يطلق على ما بين الحولين إلى البلوغ ، وقد يطلق على الرجل الكامل كما في قول ليلى الأخيلية في الحجاج بن يوسف الثقفي :
غلام إذا هز القناة سقاها والظاهر أن التنوين فيه للتفخيم ، وحق له ذلك فقد كان عليه من أحسن الغلمان ، وذكر البغوي عنه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم أنه قال : أعطي يوسف شطر الحسن.
وقال محمد بن إسحاق : ذهب يوسف وأمه بثلثي الحسن ، وحكى الثعلبي عن كعب الأخبار أنه قال : كان يوسف حسن الوجه جعد الشعر ضخم العينين مستوي الخلق أبيض اللون غليظ الساعدين والساقين خميص البطن صغير السرة وكان إذا تبسم رأيت النور في ضواحكه وإن تكلم رأيت شعاع النور من ثناياه ولا يستطيع أحد وصفه وكان حسنه كضوء النهار عند الليل وكان يشبه آدم عليه السّلام يوم خلقه قبل أن يصيب الخطيئة ، ويحكى أن جوانب الجب بكت عليه حين خرج منها ، ولعله من باب بكت الدار لفقد فلان ، والظاهر أن قول الوارد يا بُشْرى هذا غُلامٌ كان عند رؤيته ، وقيل إنه حين وروده على أصحابه صاح بذاك وَأَسَرُّوهُ أي أخفاه الوارد وأصحابه عن بقية الرفقة حتى لا تراه فتطمع فيه ، وقيل : أخفوا أمره وكونه وجد في البئر ، وقالوا لسائر القافلة : دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر ، وقيل : الضمير لإخوة يوسف ، وذلك أن بعضهم رجع ليتحقق أمره فرآه عند السيارة فأخبر إخوته فجاؤوا إليهم فقالوا : هذا غلام أبق لنا فاشتروه منا فاشتروه وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه ، وفي رواية أنهم قالوا بالعبرانية : لا تنكر العبودية نقتلك فأقر بها واشتروه منهم ، وقيل : كان يهوذا يأتيه بالطعام فأتاه يوم أخرج فلم يجده في الجب ووجده عند الرفقة فأخبر إخوته فأتوهم فقالوا ما قالوا ، وروي كون الضمير للإخوة عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، قيل :
وهو المناسب لإفراد قالَ وجمع ضمير - أسروا - وللوعيد الآتي قريبا إن شاء اللّه تعالى ، وليس فيه اختلال في النظم ، ولا يخفى أن الظاهر ما أشير إليه أولا ، ونصب قوله سبحانه : بِضاعَةً على الحال أي أخفوه حال كونه متاعا للتجارة ، وفي الفرائد أنه ضمن أسروه معنى جعلوه أي جعلوه بضاعة مسرين إياه فهو مفعول به.
وقال ابن الحاجب : يحتمل أن يكون مفعولا له أي لأجل التجارة وليس شرطه مفقودا لاتحاد فاعله وفاعل الفعل المعلل به إذ المعنى كتموه لأجل تحصيل المال به ، ولا يجوز أن يكون تمييزا وهو من - البضع - بمعنى القطع وكأن البضاعة إنما سميت بذلك لأنها تقطع من المال وتجعل للتجارة ، ومن ذلك البضع بالكسر لما بين الثلاث إلى العشرة أو لما فوق الخمس ودون العشرة ، والبضيعة للجزيرة المنقطعة عن البر ، واعتبر الراغب في البضاعة كونها قطعة وافرة من المال تقتنى للتجارة ولم يعتبر الكثير كونها وافرة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ لم يخف عليه سبحانه أسرارهم ، وصرح غير واحد أن هذا وعيد لإخوة يوسف عليه السّلام على ما صنعوا بأبيهم وأخيهم وجعلهم إياه ، وهو عرضة للابتذال بالبيع والشراء وَشَرَوْهُ الضمير المرفوع إما للإخوة فشرى بمعنى باع ، وإما للسيارة فهو بمعنى اشترى كما في قوله :
وشريت بردا ليتني من بعد برد كنت هامه
وقوله :
ولو أن هذا الموت يقبل فدية شريت أبا زيد بما ملكت يدي
وجوز أن يكون على هذا الوجه بمعنى باع بناء على أنهم باعوه لما التقطوه من بعضهم بِثَمَنٍ بَخْسٍ أي نقص وهو مصدر أريد به اسم المفعول أي منقوص ، وجوز الراغب أن يكون بمعنى باخس أي ناقص عن القيمة نقصانا ظاهرا ،

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 396
وقال مقاتل : زيف ناقص العيار ، وقال قتادة : بخس ظلم لأنه ظلموه في بيعه ، وقال ابن عباس ، والضحاك في آخرين :
البخس الحرام وكان ذلك حراما لأنه ثمن الحر وسمي الحرام بخسا لأنه مبخوس البركة أي منقوصها ، وقوله سبحانه :
دَراهِمَ بدل من ثمن أي لا دنانير مَعْدُودَةٍ أي قليلة وكنى بالعدّ عن القلة لأن الكثير يوزن عندهم وكانت عدة هذه الدراهم في كثير من الروايات عشرين درهما ، وفي رواية عن ابن عباس اثنين وعشرين ، وفي أخرى عنه عشرين وحلة ونعلين ، وقيل : ثلاثين وحلة ونعلين ، وقيل : ثمانية عشر اشتروا بها أخفافا ونعالا ، وقيل : عشرة وعن عكرمة أنها كانت أربعين درهما ، ولا يأبى هذا ما ذكره غير واحد من أن عادتهم أنهم لا يزنون ، إلّا ما بلغ أوقية وهي أربعون درهما إذ ليس فيه نفي أن الأربعين قد تعدّ وَكانُوا فِيهِ أي في يوسف كما هو الظاهر مِنَ الزَّاهِدِينَ أي الراغبين عنه ، والضمير في وَكانُوا إن كان للإخوة فظاهر وإن كان للرفقة وكانوا بائعين فزهدهم فيه لأنهم التقطوه والملتقط للشيء متهاون به لا يبالي بما بدعه ولأنه يخاف أن يعرض له مستحق ينتزعه من يده فيبيعه من أول مساوم بأوكس الثمن وإن كان لهم وكانوا مبتاعين بأن اشتروه من بعضهم أو من الإخوة فزهدهم لأنهم اعتقدوا فيه أنه آبق فخافوا أن يخاطروا بما لهم فيه ، وقيل : ضمير فِيهِ للثمن وزهدهم لرداءته أو لأن مقصودهم ليس إلّا إبعاد يوسف عليه السّلام وهذا ظاهر على تقدير أن يكون ضمير كانُوا للإخوة ، والجار - على ما نقل عن ابن مالك - متعلق بمحذوف يدل عليه - الزاهدين - أي كانوا زاهدين فيه من الزاهدين ، وذلك أن اللام في الزاهدين اسم موصول ولا يتقدم ما في صلة الموصول عليه ، ولأن ما بعد الجار لا يعمل فيما قبله ، وهل مِنَ الزَّاهِدِينَ حينئذ صفة لزاهدين المحذوف مؤكدة كما تقول : عالم من العلماء أو صفة مبينة أي زاهدين بلغ بهم الزهد إلى أن يعدّوا في الزاهدين لأن الزاهد قد لا يكون عريقا في الزاهدين حتى يعدّ فيهم إذا عدّوا أو يكون خبرا ثانيا؟ كل ذلك محتمل ، وليس بدلا من المحذوف لوجود مِنَ معه ، وقدر بعضهم المحذوف أعني وأنا فيه من الزاهدين ، وقال ابن الحاجب في
أماليه : إنه متعلق بالصلة والمعنى عليه بلا شبهة وإنما فروا منه لما فهموا من صلة الموصول لا تعمل فيما قبل الموصول مطلقا ، وبين صلة - أل - وغيرها فرق فإن هذه على صورة الحرف المنزل منزلة الجزء من الكلمة فلا يمتنع تقديم معمولها عليها فلا حاجة إلى القول بأن تعلقه بالمذكور إنما هو على مذهب المازني الذي جعل - أل - في مثل ذلك حرف تعريف وكأنه لا يرى تقدم معمول المجرور ممتنعا وإلا لم يتم ذكره ارتفاع المحذور.
وزعم بعضهم أنه يلزم بعد عمل اسم الفاعل من غير اعتماد من الغفلة بمكان لأن محل الخلاف عمله في الفاعل والمفعول به الصريح لا في الجار والمجرور الذي يكفيه رائحة الفعل وقال بعض المتأخرين : إن الصفة هنا معتمدة على اسم - كانوا - وهو مبتدأ في الأصل ، والاعتماد على ذلك معتبر عندهم ، ففي الرضى عند قول ابن الحاجب :
والاعتماد على صاحبه ويعني بصاحبه المبتدأ إما في الحال نحو زيد ضارب أخوه أو في الأصل نحو كان زيد ضاربا أخواه. وظننتك ضاربا أخواك وإن زيدا ضارب غلاماه ، وعلى هذا لا يحتاج في الجواب إلى إخراج الجار والمجرور عن حكم الفاعل والمفعول به الصريح وإن كان له وجه وجيه خلافا لمن أنكره ، ومن الناس من يتمسك بعموم يتوسع في الظرف والجار والمجرور ما لا يتوسع في غيرهما في دفع ما يورد على تعلق الجار هنا بالصفة المجرور الواقعة صلة لآل كائنا ما كان فليفهم.
هذا والشائع أن الباعة إخوته ، والزاهدين هم ، وفي بعض الآثار أنهم حين باعوه قالوا للتاجر : إنه لص آبق فقيده ووكل به عبدا أسود فلما جاء وقت ارتحالهم بكى عليه السّلام فقال له التاجر : ما لك تبكي؟ فقال : أريد أن أصل إلى الذين باعوني لأودعهم وأسلم عليهم سلام من لا يرجع إليهم ، فقال التاجر للعبد : خذه واذهب به إلى مواليه ليوعدهم

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 397
ثم ألحقه بالقافلة فما رأيت غلاما أبر من هذا بمواليه ولا قوما أجفى منهم فتقدم العبد به إلى إخوته وكان واحد منهم مستيقظا يحرس الأغنام فلما وصل إليه يوسف وهو يعثر في قيده انكب عليه وبكى ، فقال له : لما ذا جئت؟ فقال :
جئت لأودعكم وأسلم عليكم فصاح عليهم أخوهم قوموا إلى من أتاكم يسلم عليكم سلام من لا يرجو أن يراكم أبدا فويل لكم من هذا الوداع فقاموا فجعل يوسف ينكب على كل واحد منهم ويقبله ويعانقه ، ويقول : حفظكم اللّه تعالى وإن ضيعتموني آواكم اللّه تعالى وإن طردتموني رحمكم اللّه تعالى وإن لم ترحموني. قيل : إن الأغنام ألقت ما في بطونها من هول هذا التوديع ، ثم أخذه العبد وطلب القافلة فبينما هو على الراحلة إذ مر بقبر أمه راحيل في مقابر كنعان فلما أبصر القبر لم يتمالك أن رمى بنفسه عليه فاعتنقه وجعل يبكي ويقول : يا أماه ارفعي رأسك من التراب حتى تري ولدك مقيدا يا أماه إخوتي في الجب طرحوني ومن أبي فرقوني وبأبخس الأثمان باعوني ولم يرقوا لصغر سني ولم يرحموني فأنا أسأل اللّه تعالى أن يجمع بيني وبين والذي في مستقر رحمته إنه أرحم الراحمين.
فالتفت العبد فلم يره فرجع فرآه على القبر فقال : واللّه لقد صدق مواليك إنك عبد آبق ثم لطمه لطمة شديدة فغشي عليه ثم أفاق فقال له : لا تؤاخذني هذا قبر أمي نزلت أسلم عليها ولا أعود بعد لما تكرهه أبدا ثم رفع عينيه إلى السماء وقد تمرغ بالتراب والدموع في وجهه فقال : اللهم إن كانت لي خطيئة أخلقت وجهي عندك فبحرمة آبائي الكرام إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن تعفو عني وترحمني يا أرحم الراحمين فضجت الملائكة إلى اللّه تعالى عند ذلك فقال تبارك وتعالى : يا ملائكتي هذا نبي وابن انبيائي وقد استغاث بي وأنا مغيثه ومغيث المستغيثين يا جبريل أدركه فنزل جبريل عليه السّلام فقال : يا صديق اللّه ربك يقرئك السلام ويقول لك : مهلا عليك فقد أبكيت ملائكة السماوات السبع أتريد أن أطبق السماء على الأرض؟ فقال : لا يا جبريل ارفق بخلق ربي فإنه حليم لا يعجل فضرب الأرض بجناحه فهبت ريح حمراء وكسفت الشمس وأظلمت الغبراء فلم ير أهل القافلة بعضهم بعضا ، فقال التاجر : انزلوا قبل أن تهلكوا إن لي سنين عديدة أمر بهذا الطريق فما رأيت كاليوم فمن أصاب منكم ذنبا فليتب منه فما أصابنا هذا إلا بذنب اقترفناه فأخبره العبد بما فعل مع يوسف ، وقال يا سيدي : إني لما ضربته رفع عينيه إلى السماء وحرك شفتيه فقال له التاجر : ويحك أهلكتنا وأهلكت نفسك فتقدم اليه التاجر وقال : يا غلام إنا ظلمناك حين ضربناك فإن شئت أن تقتص منا فها نحن بين يديك؟
فقال يوسف : ما أنا من قوم إذا ظلموا يقتصون ولكني من أهل بيت إذا ظلموا عفوا وغفروا ولقد عفوت عنكم رجاء أن يعفو اللّه تعالى عني فانجلت الظلمة وسكنت الريح وأسفرت الشمس وأضاءت مشارق الأرض ومغاربها فساروا حتى دخلوا مصر آمنين
وكان هذا التاجر فيما قيل : مالك بن ذعر الذي أخرجه من الجب ، وقيل : غيره.
وروي أنه حين ورد به مصر باعه بعشرين دينارا وزوجي نعل وثوبين أبيضين ،
وقيل : أدخل السوق للبيع فترافعوا في ثمنه حتى بلغ وزنه مسكا ووزنه ورقا ووزنه حريرا فاشتراه «1» بذلك العزيز الذي كان على خزائن مصر عند ملكها ، وقيل : كان خباز الملك وصاحب شرابه ودوابه وصاحب السجن المشهور ، والمعول عليه هو الأول ، واسمه قطفير أو أطفير أو قنطورا والأول مروي عن ابن عباس ، وهو المراد في قوله سبحانه : وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ فهذا الشراء غير الشراء السابق الذي كان بثمن بخس ، وزعم اتحادهما ضعيف جدا وإلا لا يبقى لقوله : مِنْ مِصْرَ كثير
___________
(1) أخرج ابن إسحاق وابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس أن مالك بن ذعر لما باع يوسف من العزيز سأله من أنت فذكر له من هو وابن من هو وكان من مدين فعرفه فقال : لو أخبرتني لم أبعك ثم طلب منه الدعاء فدعا له ، وقال : بارك اللّه تعالى لك في أهلك فحملت امرأته اثني عشر بطنا في كل بطن غلامان ، وهذا إذ صح يبعد صحة القصة فتأمل ا ه منه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 398
جدوى ، وكان الملك يومئذ الريان بن الوليد العمليقي ومات في حياة يوسف عليه السّلام بعد أن آمن به فملك بعده قابوس بن مصعب فدعاه إلى الإيمان فأبى.
وقيل : كان الملك في أيامه فرعون موسى عليه السّلام عاش أربعمائة سنة بدليل قوله تعالى : وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ [غافر : 34] ، وقيل : فرعون موسى عليه السّلام من أولاد فرعون يوسف عليه السّلام ، والآية من قبيل خطاب الأولاد بأحوال الآباء وهو الصحيح ، وظاهر أمر العزيز أنه كان كافرا.
واستدل في البحر على ذلك بكون الصنم في بيته حسبما يذكر في بعض الروايات.
وقال مجاهد : كان مؤمنا ، ولعل مراده أنه آمن بعد ذاك وإلا فكونه مؤمنا يوم الاشتراء مما لا يكاد يسلم ، نعم إنه اعتنى بأمر يوسف عليه السّلام ولذا قال : لِامْرَأَتِهِ راعيل «1» بنت رعابيل ، وهو المروي عن مجاهد.
وقال السدي : زليخا «2» بنت تمليخا ، وقيل : اسمها راعيل ولقبها زليخا ، وقيل : بالعكس ، والجار الأول كما قال أبو البقاء : متعلق - باشتراه - كقولك اشتريته من بغداد أي فيها أو بها ، أو متعلق بمحذوف وقع حالا من الذي أو من الضمير في - اشترى - أي كائنا من أهل مصر ، والجار الثاني متعلق - بقال - كما أشرنا اليه لا - باشتراه - ومقول القول :
أَكْرِمِي مَثْواهُ أي اجعلي محل ثوائه وإقامته كريما أي حسنا مرضيا ، وهذا كناية عن إكرامه عليه السّلام نفسه على أبلغ وجه وأتمه لأن من أكرم المحل بتنظيفه وفرشه ونحو ذلك فقد أكرم ضيفه بسائر ما يكرم به ، وقيل : المثوى مقحم يقال : المجلس العالي والمقام السامي والمعنى أحسني تعهده والنظر فيما يقتضيه إكرام الضيف عَسى أَنْ يَنْفَعَنا في قضاء مصالحنا إذا تدرب في الأمور وعرف مجاريها أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً أي نتبناه ونقيمه مقام الولد ، وكان فيما يروى عقيما ، ولعل الانفصال لمنع الخلو.
وزعم بعضهم أنه لمنع الجمع على معنى عسى أن نبيعه فننتفع بثمنه وليس بشيء ، وكان هذا القول من العزيز لما تفرس فيه من مخايل الرشد والنجابة ، ومن ذلك قال ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه فيما أخرجه سعيد بن منصور والحاكم وصححه وجماعة : أفرس الناس ثلاثة : العزيز حين تفرس في يوسف فقال لامرأته : أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا إلخ. والمرأة التي أتت موسى فقالت لأبيها : يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ [القصص : 26]. وأبو بكر حين استخلف عمر وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ أي جعلنا له فيها مكانا يقال : مكنه فيه أي أثبته فيه ، ومكن له فيه أي جعل له مكانا فيه ، ولتقاربهما وتلازمهما يستعمل كل منهما في مقام الآخر قال سبحانه : وكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ [الأنعام : 6] والمراد بالمكان هنا المكانة والمنزلة لا البعد المجرد أو السطح الباطن من الحاوي المماس للسطح الظاهر من المحوي أو غير ذلك مما ذهب إليه من ذهب من الفلاسفة إن حقا وإن باطلا ، والإشارة إلى ما يفهم مما تقدم من الكلام وما فيه من معنى البعد لتفخيمه ، والكاف نصب على المصدرية أي كما جعلنا له مثوى كريما في منزل العزيز أو مكانا عليا في قلبه حتى أمر امرأته دون سائر حواشيه بإكرام مثواه جعلنا له مكانة رفيعة في أرض مصر ، وفسر الجعل المذكور بجعله وجيها فيما بين أهل مصر ومحببا في قلوبهم بناء على أنه الذي يؤدي إلى الغاية المذكورة في قوله تعالى : وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أي بعض تعبير الرؤيا التي عمدتها رؤيا الملك وصاحبي السجن ، وروي هذا المعنى عن مجاهد ، وهو الظاهر كما يرشد اليه قوله عليه
___________
(1) راعيل بوزن هابيل ا ه منه. [.....]
(2) هو بفتح الزاي وكسر اللام والخاء المعجمة وفي آخره ألف وهو المشهور ، وقيل : إنه بضم أوله على هيئة المصغر ا ه منه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 399
السّلام : ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي [يوسف : 37] سواء جعل معطوفا على غاية مقدرة ينساق إليها الكلام ويستدعيها النظام كأنه قيل : ومثل ذلك التمكين البديع مكنا ليوسف في الأرض وجلنا قلوب أهلها كافة محال محبته ليترتب.
على ذلك ما يترتب مما جرى بينه وبين امرأة العزيز. ولنعلمه بعض تأويل الأحاديث فيؤدي ذلك إلى الرتبة العليا والرئاسة العظمى ، ولعل ترك المعطوف عليه للإشعار بعدم كونه مرادا أو جعل علة لمحذوف كأنه قيل : ولهذه الحكمة البالغة فعلنا ذلك التمكين لا لشيء غيرها مما ليس له عاقبة حميدة.
واختار بعض المحققين كون ذلك إشارة إلى مصدر الفعل المذكور بعده ، والكاف مقحمة للدلالة على تأكيد فخامة شأن المشار اليه على ما ذكروا في وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة : 143] والمراد به التمكين في قلب العزيز أو في منزله وكون ذلك تمكينا في الأرض بملابسة أنه عزيز فيها لما أن الذي عليه يدور تلك الأمور إنما هو التمكين في جانب العزيز وأما التمكين في جانب الناس كافة فتأديته إليها إنما هي باعتبار اشتماله على ذلك التمكين ، ولا يخفى أن حمل التمكين في الأرض على التمكين في قلب العزيز.
أو في منزله خلاف الظاهر ، وكذا حمله على ما تقدم ، ولعل الظاهر حمله على جعله ملكا يتصرف في أرض مصر بالأمر والنهي إلا أن في جعل التعليم المذكور غاية له خفاء لأن ذلك الجعل من آثاره ونتائجه المتفرعة عليه دون العكس ولم يعهد منه عليه السّلام في تضاعيف قضاياه العمل بموجب الرؤيا المنبهة على الحوادث قبل وقوعها عهدا مصححا لجعله غاية لذلك وما وقع من التدارك في أمر السنين فإنما هو عمل بموجب الرؤيا السابقة المعهودة وإرادة ليظهر تعليمنا له كما ترى ، وكأن من ذهب إلى ذلك - لأنه الظاهر - أراد بتعليم تأويل الأحاديث تفهيم غوامض أسرار الكتب الإلهية ودقائق سنن الأنبياء عليهم السّلام فيكون المعنى حينئذ مكنا له في أرض مصر ليتصرف فيها بالعدل ولنعلمه معاني كتب اللّه تعالى وأحكامها ودقائق سنن الأنبياء عليهم السّلام فيقضي بها بين أهلها ، والتعليم الإجمالي لتلك الأحاديث وإن كان غير متأخر عن تمكينه بذلك المعنى إلا أن تعليم كل معنى شخصي يتفق في ضمن الحوادث والإرشاد إلى الحق في كل نازلة من النوازل متأخر عن ذلك صالح لأن يكون غاية له ، وأدرج بعضهم الإنجاء تحت الإشارة بذلك ، وفيه بحث فتدبر وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ لا يمنع عما يشاء ولا ينازع فيما يريد بل إنما أمره لشيء إذا أراد أن يقول له كن فيكون ، ويدخل في عموم المصدر المضاف شؤونه سبحانه المتعلقة بيوسف عليه السّلام دخولا أوليا أو متول على أمر يوسف عليه السّلام فيدبره ولا يكله إلى غيره ، والى رجوع ضمير أمره إلى اللّه تعالى ذهب ابن جبير ، والى رجوعه إلى يوسف عليه السّلام ذهب القرطبي ، وأيا ما كان فالكلام على ما في الكشف تذييل أما على الأول فلجريه مجرى قوله تعالى : إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [الإسراء : 81] من سابقه لأنه لما كان غالبا على جميع أموره لا يزاحمه أحد ولا يمتنع عليه مراد كانت إرادته تمكين يوسف وكيت وكيت ، والوقوع رضيعي لبان ،
وأما على الثاني فلأن معناه أنه الغالب على أمره يتولاه بلطيف صنعه وجزيل إحسانه وإذا جاء نهر اللّه تعالى بطل نهر معقل فأين يقع كيد الإخوة وغيرهم كامرأة العزيز موقعه فهو كقوله :
وعلام أركبه إذا لم أنزل من سابقه أعني
فدعوا نزال فكنت أول نازل والآية على الأول صريحة في مذهب أهل السنة وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أن الأمر كذلك فيما يأتون ويذرون زعما منهم أن لهم من الأمر شيئا ، وأنى لهم ذلك؟! وأن الأمر كله للّه عزّ وجلّ ، أو لا يعلمون لطائف صنعه وخفايا فضله ، والمراد - بأكثر الناس - قيل : الكفار ، ونقل ذلك عن ابن عطية.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 400
وقيل : أهل مصر ، وقيل : أهل مكة ، وقيل : الأكثر بمعنى الجميع ، والمراد أن جميع الناس لا يطلعون على غيبه تعالى ، والأولى أن يبقى على ما يتبادر منه ولا يقتصر في تفسيره على ما تضمنته الأقوال قبل ، بل يراد به من نفى عنه العلم بما تقدم كائنا ما كان ، ولا يبعد أن يندرج في عمومه أهل الاعتزال وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ أي بلغ زمان انتهاء اشتداد جسمه وقوته وهو سن الوقوف عن النمو المعتد به أعني ما بين الثلاثين والأربعين ، وسئل القاضي النحوي مهذب الدين محمد بن علي بن علي بن أبي طالب الخيمي عنه ، فقال : هو خمس وثلاثون سنة وتمامه أربعون.
وقال الزجاج : هو سبعة عشر عاما إلى نحو الأربعين ، وعن مجاهد وقتادة - ورواه ابن جبير - عن ابن عباس أنه ثلاثة وثلاثون أو ثلاثون أو أحد وعشرون وقال الضحاك عشرون وحكى ابن قتيبة أنه ثمان وثلاثون.
وقال الحسن : أربعون ، والمشهور أن الإنسان يقف جسمه عن النمو إذا بلغ ذلك ، وإذا وقف الجسم وقفت القوى والشمائل والأخلاق ولذا قيل :
إذا المرء وفى الأربعين ولم يكن له دون ما يهوى حياء ولا ستر
فدعه ولا تنفس عليه الذي مضى وإن جر أسباب الحياة له العمر
وقيل : أقصى الأشد اثنان وستون ، والى كون الأشد منتهى الشباب والقول قبل أن يؤخذ في النقصان ذهب أبو عبيدة وغيره من ثقات اللغويين واستظهره بعض المحققين ، وهو عند سيبويه جمع واحدة شدة - كنعمة وأنعم - وقال الكسائي والفراء : إنه جمع شدّ نحو - صك. وأصك وفلس وأفلس - وهذا على ما ذكر أبو حاتم يوجب أن يكون مؤنثا لأن كل جمع على أفعل مؤنث.
وزعم عن أبي عبيدة أنه لا واحد له من لفظه عن العرب ، وقال الفراء : أهل البصرة يزعمون أنه اسم واحد لكنه على بناء ندر في المفردات وقلما رأينا اسما على أفعل إلا وهو جمع آتَيْناهُ حُكْماً أي حكمة وهي في لسان الشرع العلم النافع المؤيد بالعمل لأنه بدونه لا يعتدّ به ، والعمل بخلاف العلم سفه ، أو حكما بين الناس وَعِلْماً يعني علم تأويل الرؤيا ، وخص بالذكر لأنه غير داخل فيما قبله ، أو أفرد بالذكر لأنه مما له شأن وليوسف عليه السّلام به اختصاص تام كذا قيل ، وفسر بعضهم الحكمة بالنبوة والعلم بالتفقه في الدين ، وقيل : الحكمة حبس النفس عن هواها وصونها عما لا ينبغي ، والعلم هو العلم النظري ، وقيل : أراد بالحكمة الحكم بين الناس ، وبالعلم العلم بوجوه المصالح فإن الناس كانوا إذا تحاكموا إلى العزيز أمره بأن يحكم بينهم لما رأى من عقله وإصابته في الرأي.
وعن ابن عباس أن الحكم النبوة والعلم الشريعة وتنكيرهما للتفخيم أي حكما وعلما لا يكتنه كنههما ولا يقادر قدرهما ، وتعقب كون المراد بالعلم العلم بتأويل الأحاديث - بأن قوله سبحانه : وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء العجيب نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي كل من يحسن في علمه - يأباه لأن ذلك لا يصلح أن يكون جزاء لأعماله الحسنة التي من جملتها معاناة الأحزان والشدائد إلا أن يخص بعلم تأويل رؤيا الملك فإن ذلك حيث كان عند تناهي أيام البلاء صح أن يعد إيتاءه من جملة الجزاء وأما رؤيا صاحبي السجن فقد لبث عليه السّلام بعد تعبيرها في السجن بضع سنين ، وفي تعليق الجزاء المذكور بالمحسنين إشعار بعلية الإحسان له وتنبيه على أنه تعالى إنما أتاه ما آتاه لكونه محسنا في أعماله متقنا في عنفوان أمره ، ومن هنا قال الحسن : من أحسن عبادة اللّه سبحانه في شبيبته آتاه اللّه تعالى الحكمة في اكتهاله ، واستشكل ما أفاده تعليق الحكم بالمشتق من العلية على تقدير أن يراد من الحكمة العلم المؤيد بالعمل مثلا بأن إحسان العمل لا يكون إلا بعد العلم به فلو كان العلم المؤيد به مثلا علة للإحسان بذلك لزم الدور.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 401
وأجيب بأن إحسان العمل يمكن أن يكون بطريق آخر كالتقليد والتوفيق الإلهي فيكون سببا للعلم به عن دليل عقلي أو سمعي ، أو المراد الأعمال الغير المتوقفة على السمع فيكون ذلك السبب للعلم بما شرع له من الأعمال ، وقال بعض المحققين : الظاهر تغاير العلمين كما
في الأثر «من عمل بما علم يسر اللّه تعالى له علم ما لم يعلم» ،
وعن الضحاك تفسير الْمُحْسِنِينَ بالصابرين على النوائب وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها رجوع إلى شرح ما جرى عليه عليه السّلام في منزل العزيز بعد ما أمر امرأته بإكرام مثواه ، وقوله سبحانه : وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ إلى هنا اعتراض جيء به أنموذجا للقصة ليعلم السامع من أول الأمر أن ما لقيه عليه السّلام من الفتن التي ستحكى بتفاصيلها له غاية جميلة وعاقبة حميدة وأنه عليه السلام محسن في أعماله لم يصدر عنه ما يخل بنزاهته ، والمراودة «1» المطالبة برفق من راد يرود إذا ذهب وجاء لطلب شيء ، ومنه الرائد لطالب الكلأ والماء ، وباعتبار الرفق قيل : رادت الإبل في مشيتها ترود رودانا ، ومنه بني المرود ويقال : أرود يرود إذا رفق ، ومنه بني رويد ، والإرادة منقولة من راد يرود إذا سعى في طلب شيء وهي مفاعلة من واحد نحو مطالبة الدائن ومماطلة المديون ومداواة الطبيب وغير ذلك مما يكون من أحد الجانبين الفعل ومن الآخر سببه فإن هذه الأفعال وإن كانت صادرة عن أحد الجانبين لكن لما كانت أسبابها صادرة عن الجانب الآخر جعلت كأنها صادرة عنهما ، قال شيخ الإسلام : وهذا باب لطيف المسلك مبني على اعتبار دقيق تحقيقه أن سبب الشيء يقوم مقامه ويطلق عليه اسمه كما في قولهم : كما تدين تدان ، أي كما تجزي تجزى ، فإن فعل البادئ وإن لم يكن جزاء لكنه لكونه سببا للجزاء أطلق عليه اسمه ، وكذلك إرادة القيام إلى الصلاة وإرادة قراءة القرآن حيث كانتا سببا للقيام ، والقراءة عبر عنهما بهما فقيل : إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة : 6] فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ [النحل : 98] وهذه قاعدة مطردة مستمرة ، ولما كانت أسباب الأفعال المذكورة فيما نحن فيه صادرة عن الجانب المقابل لجانب فاعلها فإن مطالبة الدائن للمماطلة التي هي من جانب الغريم وهي منه للمطالبة التي من جانب الدائن ، وكذا مداواة الطبيب للمرض الذي هو من جانب
المريض ، وكذلك مراودتها فيما نحن فيه لجمال يوسف عليه السلام نزل صدورها عن محالها بمنزلة صدور مسبباتها التي هي تلك الأفعال فبنى الصيغة على ذلك وروعي جانب الحقيقة بأن أسند الفعل إلى الفاعل وأوقع على صاحب السبب فتأمل ا ه.
وكأنه أشار بالأمر بالتأمل إلى ما فيه مما لا يخفى على ذويه ، وفي الكشف المراودة منازعة في الرود بأن يكون له مقصد مجيئا وذهابا وللمفاعل مقصد آخر يقابله فيهما ، ومعنى المفاعلة هاهنا إما المبالغة في رودها أو الدلالة على اختلافهما فيه فإنها طلبت منه الفعل وهو طلب منها الترك وهذا أبلغ ولما كان منازعة جي ء - بعن - في قوله إذا كانت بمعنى تهيأت لا تكون اسم فعل بل تكون فعلا مسندا إلى ضمير المتكلم بل لأنه لما بينت التهيؤ بأنه له لزم كونها هي المتهيأة كما إذا قيل لك : قربني منك فقلت هيهات فإنه يدل على معنى بعدت بالقرينة.
وقرأ ابن كثير وأهل مكة هَيْتَ بفتح الهاء وسكون الياء وضم التاء تشبيها له بحيث.
وقرأ أبو الأسود وابن أبي إسحاق وابن محيصن وعيسى البصرة وروي ذلك عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما «هيت» بفتح الهاء وسكون الياء وكسر التاء تشبيها له بجير ، والكلام فيها على هاتين القراءتين كالكلام فيها على القراءة السابقة.
وقرأ نافع وابن عامر وابن ذكوان والأعرج وشيبة وأبو جعفر «هيت» بكسر الهاء بعدها ياء ساكنة وتاء مفتوحة ،
___________
(1) وزعم بعضهم أن «ما» هنا من الرويد وهو الرفق والتحمل فافهم ا ه منه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 402
وحكى الحلواني عن هشام أنه قرأ كذلك إلا أنه همز ، وتعقب ذلك الداني تبعا لأبي على الفارسي في الحجة ، وقد تبعه أيضا جماعة بأن فتح التاء فيما ذكر وهم من الراوي لأن الفعل حينئذ من التهيؤ ، ويوسف عليه السلام لم يتهيأ لها بدليل وَراوَدَتْهُ إلخ فلا بد من ضم التاء ، ورد ذلك صاحب النشر بأن المعنى على ذلك تهيأ لي أمرك لأنها لم يتيسر لها الخلوة به قبل أو حسنت هيئتك ، ولَكَ على المعنيين للبيان ، والرواية عن هشام صحيحة جاءت من عدة طرق ، وروي عنه أيضا «1» أنه قرأ بكسر الهاء والهمزة وضم التاء ، وهي رواية أيضا عن ابن عباس وابن عامر وأبي عمرو أيضا وقرأ كذلك أبو رجاء وأبو وائل وعكرمة ومجاهد وقتادة وطلحة وآخرون «2».
وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما وابن أبي إسحاق كذلك إلا أنهما سهلا الهمزة ، وذكر النحاس أنه قرىء بكسر الهاء بعدها ياء ساكنة وكسر التاء ، وقرىء أيضا هيا بكسر الهاء وفتحها وتشديد الياء ، وهي على ما قال ابن هشام : لغة في هَيْتَ ، وقال بعضهم : إن القراءات كلها لغات وهي فيها اسم فعل بمعنى هلم ، وليست التاء ضميرا ، وقال آخر : إنها لغات والكلمة عليها اسم فعل إلا على قراءة ضم التاء مع الهمز وتركه فإن الكلمة عليها تحتمل أن تكون فعلا رافعا لضمير المتكلم من هاء الرجل يهيء كجاء يجيء إذا حسنت هيئته.
أو بمعنى تهيأت ، يقال : هئت وتهيأت بمعنى ، وإذا كانت فعلا تعلقت اللام بها ، ونقل عن ابن عباس أيضا أنه قرأ هييت مثل حببت وهي في ذلك فعل مبني للمفعول مسهل الهمزة من هيأت الشيء كأن أحدا هيأها له عليه السلام قالَ مَعاذَ اللَّهِ نصب على المصدر يقال : عذت عوذا وعياذا وعياذة ومعاذا أي أعوذ باللّه عزّ وجلّ معاذا مما تريدين مني ، وهذا اجتناب منه عليه السّلام على أتم الوجوه وإشارة إلى التعليل بأنه منكر هائل يجب أن يعاذ باللّه جلّ وعلا للخلاص منه ، وما ذلك إلا لأنه قد علم بما أراه اللّه تعالى ما هو عليه في حد ذاته من غاية القبح ونهاية السوء ، وقوله تعالى : إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ تعليل ببعض الأسباب الخارجية مما عسى يكون مؤثرا عندها وداعيا لها إلى اعتباره بعد التنبيه على سببه الذاتي التي لا تكاد تقبله لما سولته لها نفسها ، والضمير للشأن ، وفي تصدير الجملة به من الإيذان بفخامة مضمونها ما فيه مع زيادة تقريره في الذهن أي إن الشأن الخطير هذا أي هو ربي أي سيدي العزيز أحسن تعهدي حيث أمرك بإكرامي على أكمل وجه فكيف يمكن أن أسيء إليه بالخيانة في حرمه؟! وفيه إرشاد لها إلى رعاية حق العزيز بألطف وجه ، وإلى هذا المعنى ذهب مجاهد والسدي ، تعالى : عَنْ نَفْسِهِ كما تقول : جاذبته عن كذا دلالة على الإبعاد وتحصيل الجذب البالغ ، ولهذا قال في الأساس : ومن المجاز راوده عن نفسه خادعه عنها.
وقال الزمخشري هنا : أي فعلت ما يفعل المخادع بصاحبه عن الشيء الذي لا يريد أن يخرجه من يده ، ولا شك أن هذا إنما يحصل من المنازعة في الرود ، ولهذه النكتة جعل كناية عن التمحل لموافقته إياها ، والعدول عن التصريح باسمها للمحافظة على الستر ما أمكن أو للاستجهان بذكره ، وإيراد الموصول دون امرأة العزيز مع أنه أخصر وأظهر لتقرير المراودة فإن كونه في بيتها مما يدعو إلى ذلك «3» ولإظهار كمال نزاهته عليه السلام فإن عدم ميله إليها مع دوام مشاهدته لمحاسنها واستعصائه عليها مع كونه تحت يدها ينادي بكونه عليه السلام في أعلى معارج العفة ، وإضافة البيت إلى ضميرها لما أن العرب تضيف البيوت إلى النساء باعتبار أنهن القائمات بمصالحه أو الملازمات له ، وخرج
___________
(1) وانفرد الهذلي عنه برواية ترك الهمز ا ه منه.
(2) منهم يحيى بن وثاب ، والمقري ا ه منه.
(3) قيل لواحدة : ما حملك على ما أنت عليه مما لا خير فيه؟ قالت : قرب الوساد ا ه منه (2).

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 403
على ذلك قوله تعالى : وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب : 33] وكثر في كلامهم صاحبة البيت وربة البيت للمرأة ومن ذلك.
يا ربة البيت قومي غير صاغرة
[سورة يوسف (12) : الآيات 24 إلى 33]
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29) وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33)
وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ أي أبواب البيت ، وتشديد الفعل للتكثير في المفعول إن قلنا : إن الأبواب كانت سبعة كما قيل ، فإن لم نقل به فهو لتكثير الفعل فكأنه غلق مرة بعد مرة أو بمغلاق بعد مغلاق ، وجمع الْأَبْوابَ حينئذ إما لجعل كل جزء منه كأنه باب أو لجعل تعدد إغلاقه بمنزلة تعدده ، وزعم بعضهم أنه لم يغلق إلا بابان : باب الدار وباب الحجرة التي هما فيها.
وادعى بعض المتأخرين أن التشديد للتعدية وأن كونه للتكثير وهم معللا ذلك بأن غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ غلقا لغة رديئة متروكة حسبما ذكره الجوهري ، ورد بأن إفادة التعدية لا تنافي إفادة التكثير معها فإن مجرد التعدية يحصل بباب الأفعال فاختيار التفعيل عليه لأحد الأمرين ، ولذا قال الجوهري أيضا : وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ شدد للتكثير ا ه.
وفي الحواشي الشهابية أنه لم يتنبه الراد لأن ما نقله عليه لا له لأن الرديء الذي ذكره اللغويون إنما هو استعمال

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 404
الثلاثي منه لا أن له ثلاثيا لازما حتى يتعين كون التفعيل للتعدية فتعديه لازم في الثلاثي وغيره سواء كان رديئا أو فصيحا فتعين أنه للتكثير ، وقد قال بذلك غير واحد ، فالواهم ابن أخت خالة الموهم فافهم.
وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ أي أسرع فهي اسم فعل أمر مبني على الفتح كأين ، وفسرها الكسائي والفراء بتعال ، وزعما أنها كلمة حورانية وقعت إلى أهل الحجاز فتكلموا بها وقال أبو زيد : هي عبرانية ، وعن ابن عباس والحسن هي سريانية ، وقال السدي : هي قبطية.
وقال مجاهد وغيره هي عربية تدعوه بها إلى نفسها «1» وهي كلمة حث وإقبال ، واللام للتبيين كالتي في سقيا لك فهي متعلقة بمحذوف أي إرادتي كائنة لك أو أقول لك ، وجوز كونها اسم فعل خبري كهيهات ، واللام متعلقة بها والمعنى تهيأت لك ، وجعلها بعضهم على هذا للتبيين متعلقة بمحذوف أيضا لأن اسم الفعل لا يتعلق به الجار ، والتاء مطلقا من بنية الكلمة ، وليس تفسيرها بتهيأت لكون الدال على التكلم التاء ليرد أنها وابن أبي إسحاق ، وتعقب بأن فيه إطلاق الرب على غيره تعالى فإن أريد به الرب بمعنى الخالق فهو باطل لأنه يمكن أن يطلق نبي كريم على مخلوق ذلك ، وإذا أريد به السيد فهو عليه السلام في الحقيقة مملوك له ، ومن هنا - وإن كان فيما ذكر نظر ظاهر - اختار في البحر أن الضمير للّه تعالى ، ورَبِّي خبر إن ، وأَحْسَنَ مَثْوايَ خبر ثان ، أو هو الخبر ، والأول بدل من الضمير أي إنه تعالى خالقي أحسن مثواي بعطف قلب من أمرك بإكرامي عليّ فكيف أعصيه بارتكاب تلك الفاحشة الكبيرة؟ وفيه تحذير لها عن عقاب اللّه تعالى ، وجوز على تقدير أن يكون الرب بمعنى الخالق كون الضمير للشأن أيضا ، وأيا ما كان ففي الاقتصار على ذكر هذه الحالة من غير تعرض لاقتضائها الامتناع عما دعته إليه إيذان بأن هذه المرتبة من البيان كافية في الدلالة على استحالته وكونه مما لا يدخل تحت الوقوع أصلا ، وقوله تعالى : إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ تعليل غب تعليل للامتناع المذكور ، والفلاح الظفر وإدراك البغية ، وذلك ضربان : دنيوي ، وأخروي ، فالأول الظفر بالسعادات التي تطيب بها حياة الدنيا وهو البقاء والغنى والعز والثاني أربعة أشياء : بقاء بلا فناء ، وغنى بلا فقر ، وعز بلا ذل وعلم بلا جهل ولذلك قيل : لا عيش إلّا عيش الآخرة ، ومعنى أفلح دخل في الفلاح كأصبح وأخواتها ، ولعل المراد به هنا الفلاح الأخروي ، وبالظالمين كل من ظلم كائنا من كان فيدخل في ذلك
المجازون للإحسان بالإساءة والعصاة لأمر اللّه تعالى دخولا أوليا ، وقيل : الزناة لأنهم ظالمون لأنفسهم ، وللمزني بأهله ، وقيل : الخائنون لأنهم ظالمون لأنفسهم أيضا ولمن خانوه وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ أي بمخالطته إذ الهمّ - سواء استعمل بمعنى القصد والإرادة مطلقا أو بمعنى القصد الجازم والعقد الثابت كما هو المراد هاهنا ، لا يتعلق بالأعيان.
والمعنى أنها قصدت المخالطة وعزمت عليها عزما جازما لا يلويها عنه صارف بعد ما باشرت مباديها وفعلت ما فعلت مما قص اللّه تعالى ، ولعلها تصدت هنالك لأفعال أخر من بسط يدها إليه وقصد المعانقة وغير ذلك مما اضطره عليه السلام إلى الهرب نحو الباب ، والتأكيد لدفع ما عسى يتوهم من احتمال إقلاعها عما كانت عليه بما في مقالته عليه السلام من الزواجر وَهَمَّ بِها أي مال إلى مخالطتها بمقتضى الطبيعة البشرية كميل الصائم في اليوم الحار إلى الماء البارد ، ومثل ذلك لا يكاد يدخل تحت التكليف لا أنه عليه السلام قصدها قصدا اختياريا لأن ذلك أمر مذموم تنادي الآيات على عدم اتصافه عليه السلام به ، وإنما عبر عنه بالهم لمجرد وقوعه في صحبة همها في الذكر بطريق
___________
(1) قال أبو حيان : ولا يبعد اتفاق اللغات في لفظة واحدة ، وقد وجد ذلك في كلام العرب مع لغات غيرهم ، وقال الجوهري : هوت وهيت به صاح به ، ودعاء ، ولا يبعد أن يكون مشتقا من اسم الفعل كما اشتقوا من الجمل نحو سبح وحمدل ا ه منه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 405
المشاكلة لا لشبهه به كما قيل ، وقد أشير إلى تغايرهما كما قال غير واحد : حيث لم يلزا في قرن واحد من التعبير بأن قيل : ولقد هما بالمخالطة أو هم كل منهما بالآخر وأكد الأول دون الثاني.
لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ أي حجته الباهرة الدالة على كمال قبح الزنا وسوء سبيله ، والمراد برؤيته لها كمال إيقانه بها ومشاهدته لها مشاهدة واصلة إلى مرتبة عين اليقين ، وقيل : المراد برؤية البرهان حصول الأخلاق وتذكر الأحوال الرادعة من الإقدام على المنكر ، وقيل : رؤية وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا [الإسراء : 32] مكتوبا في السقف ، وجواب لَوْلا محذوف يدل عليه الكلام أي لولا مشاهدته البرهان لجرى على موجب ميله الجبلي لكنه حيث كان مشاهدا له استمر على ما هو عليه من قضية البرهان ، هذا ما ذهب إليه بعض المحققين في معنى الآية وهو قول بإثبات هم له عليه السلام إلّا أنه هم غير مذموم.
وفي البحر أنه لم يقع منه عليه السلام هم بها البتة بل هو منفي لوجود رؤية البرهان كما تقول : قارفت الذنب لولا أن عصمك اللّه تعالى ولا نقول : إن جواب لَوْلا متقدم عليها وإن كان لا يقوم دليل على امتناع ذلك بل صريح أدوات الشرط العاملة مختلف في جواز تقديم أجوبتها عليها ، وقد ذهب إلى الجواز الكوفيون.
ومن أعلام البصريين أبو زيد الأنصاري وأبو العباس المبرد بل نقول : إن جواب لَوْلا محذوف لدلالة ما قبله عليه كما يقول جمهور البصريين في قول العرب : أنت ظالم إن فعلت كذا فيقدرونه إن فعلت فأنت ظالم ، ولا يدل قولهم : أنت ظالم على ثبوت الظلم بل هو مثبت على تقدير وجود الفعل ، وكذلك هاهنا التقدير لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ لهم بها فكان يوجد الهمّ على تقدير انتفاء رؤية البرهان لكنه وجد رؤية البرهان فانتفى الهم ، والمراد بالبرهان ما عنده عليه السلام من العلم الدال على تحريم ما همت به وأنه لا يمكن الهم فضلا عن الوقوع فيه ، ولا التفات إلى قول الزجاج : ولولا كان الكلام ولهم بها كان بعيدا فكيف مع سقوط اللام لأنه توهم أن قوله تعالى : هَمَّ بِها هو جواب لَوْلا ونحن لم نقل بذلك ، وإنما قلنا إنه دليل الجواب على أنه على تقدير أن يكون نفس الجواب قد يقال : إن اللام ليست بلازمة بل يجوز أن يأتي جواب لَوْلا إذا كانت بصيغة الماضي باللام وبدونها فيقال : لولا زيد لأكرمتك ولو زيد أكرمتك ، فمن ذهب إلى أن المذكور هو نفس الجواب لم يبعد ، وكذا لا التفات أيضا لقول ابن عطية : إن قول من قال إن الكلام قد تم في قوله تعالى : وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وأن جواب لَوْلا في قوله سبحانه :
وهَمَّ بِها وأن المعنى ، لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ لهم بها فلم يهم يوسف عليه السلام يرده لسان العرب ، وأقوال السلف لما في قوله : يرده لسان العرب من البحث.
وقد استدل من ذهب إلى الجواز بوجوده في لسان العرب فقد قال سبحانه : إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها [القصص : 10] فقوله سبحانه : إِنْ كادَتْ إلخ إما أن يكون هو الجواب على ما ذهب إليه ذلك القائل ، وإما أن يكون دليل الجواب على ما قرّرناه ، وأما أقوال السلف فالذي نعتقده أنه لم يصح منها شيء عنهم لأنها أقوال متكاذبة يناقض بعضها بعضا مع كونها قادحة في بعض فساق المسلمين فضلا عن المقطوع لهم بالعصمة على أن ما روي لا يساعد عليه كلام العرب لأنه يقتضي كون الجواب محذوفا لغير دليل لأنهم لم يقدروا بناء على ذلك لهمّ بها وكلام العرب لا يدل إلّا على أن يكون المحذوف من معنى ما قبل الشرط لأنه الدليل عليه ، هذا وممن ذهب إلى تحقق الهمّ القبيح منه عليه السلام الواحدي فإنه قال في كتاب البسيط : قال المفسرون الموثوق بعلمهم المرجوع إلى روايتهم الآخذون للتأويل عمن شاهد التنزيل : هم يوسف عليه السلام أيضا بهذه المرأة هما صحيحا وجلس منها مجلس الرجل من المرأة فلما رأى البرهان من ربه زال كل شهوة عنه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 406
قال أبو جعفر الباقر : رضي اللّه تعالى عنه بإسناده عن علي كرم اللّه تعالى وجهه أنه قال : «طمعت فيه وطمع فيها»
وكان طمعه فيها أن هم أن يحل التكة.
وعن ابن عباس أنه حل الهيمان وجلس منها مجلس الخائن ، وعنه أيضا أنها استلقت له وقعد بين رجليها ينزع ثيابه ، ورووا في البرهان روايات شتى : منها ما
أخرجه أبو نعيم في الحلية عن علي كرم اللّه تعالى وجهه أنها قامت إلى صنم مكلل بالدر والياقوت في ناحية البيت فسترته بثوب أبيض بينها وبينه ، فقال عليه السلام : أي شيء تصنعين؟
فقالت : أستحي من إلهي أن يراني على هذه السوأة فقال : تستحين من صنم لا يأكل ولا يشرب ولا أستحي أنا من إلهي الذي هو قائم على كل نفس بما كسبت؟ ثم قال : لا تناليها مني أبدا وهو البرهان الذي رأى ،
ومنها ما أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنه عليه السلام مثل له يعقوب عليه السلام فضرب بيده على صدره ، ومنها ما أخرجه عن قتادة أنه قال : ذكر لنا أنه مثل له يعقوب عاضا على إصبعيه وهو يقول : يا يوسف أتهمّ بعمل السفهاء وأنت مكتوب من الأنبياء ، ومنها ما أخرجه عن القاسم بن أبي بزة قال : نودي يا ابن يعقوب لا تكونن كالطير له ريش فإذا زنى قعد ليس له ريش فلم يعرض للنداء وقعد فرفع رأسه فرأى وجه يعقوب عاضا على إصبعه فقام مرعوبا استحياء من أبيه إلى غير ذلك ، وتعقب الإمام الرازي ما ذكر بأن هذه المعصية التي نسبوها إلى يوسف - وحاشاه - من أقبح المعاصي وأنكرها ، ومثلها لو نسب إلى أفسق خلق اللّه تعالى وأبعدهم عن كل خير لاستنكف منه ، فكيف يجوز إسناده إلى هذا الصديق الكريم؟
وأيضا إن اللّه سبحانه شهد بكون ماهية السوء وماهية الفحشاء مصروفتين عنه ، ومع هذه الشهادة كيف يقبل القول بنسبة أعظم السوء والفحشاء إليه عليه السلام ، وأيضا إن هذا الهم القبيح لو كان واقعا منه عليه السلام كما زعموا وكانت الآية متضمنة له لكان تعقيب ذلك بقوله تعالى : كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ خارجا عن الحكمة لأنا لو سلمنا أنه لا يدل على نفي المعصية فلا أقل من أن يدل على المدح العظيم ، ومن المعلوم أنه لا يليق بحكمة اللّه تعالى أن يحكي إقدامه على معصية عظيمة ثم إنه يمدحه ويثني عليه بأعظم المدائح والأثنية ، وأيضا إن الأكابر كالأنبياء متى صدرت عنهم زلة أو هفوة استعظموا ذلك وأتبعوه بإظهار الندامة والتوبة والتخضع والتنصل فلو كان يوسف عليه السلام أقدم على هذه الفاحشة المنكرة لكان من المحال أن لا يتبعها بذلك ، ولو كان قد أتبعها لحكى وحيث لم يكن علمنا أنه ما صدر عنه هذه في هذه الواقعة ذنب أصلا ، وأيضا جميع من له تعلق بهذه الواقعة قد أفصح ببراءة يوسف عليه السلام عن المعصية كما لا يخفى على من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، ومن نظر في قوله سبحانه : إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ رآه أفصح شاهد على براءته عليه السلام ، ومن ضم إليه قول إبليس :
فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص : 82 ، 83] وجد إبليس مقرا بأنه لم يغوه ولم يضله عن سبيل الهدى كيف وهو عليه السلام من عباد اللّه تعالى المخلصين بشهادة اللّه تعالى ، وقد استثناهم من عموم لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ.
وعند هذا يقال للجهلة الذين نسبوا إلى يوسف عليه السلام تلك الفعلة الشنيعة : إن كانوا من أتباع اللّه سبحانه فليقبلوا شهادة اللّه تعالى على طهارته عليه السلام ، وإن كانوا من أتباع إبليس فليقبلوا شهادته ، ولعلهم يقولون كنا في أول الأمر من تلامذته إلى أن تخرجنا فزدنا عليه في السفاهة كما قال الحريري :
وكنت امرأ من جند إبليس فانتهى بي الحال حتى صار إبليس من جندي
فلو مات قبلي كنت أحسن بعده طرائق فسق ليس يحسنها بعدي
ومن أمعن النظر في الحجج وأنصف جزم أنه لم يبق في يد الواحدي ومن وافقه إلا مجرد التصلف وتعديد

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 407
أسماء المفسرين ولم يجد معهم شبهة في دعواهم المخالفة لما شهد له الآيات البينات سوى روايات واهيات.
وقد ذكر الطيبي طيب اللّه تعالى ثراه بعد أن نقل ما حكاه محيي السنة عن بعض أهل الحقائق من أن الهم همان : هم ثابت وهو ما كان معه عزم وعقد ورضا مثل هم امرأة العزيز. وهم عارض وهو الخطرة وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم مثل هم يوسف عليه السلام أن هذا التفسير هو الذي يجب ان نذهب اليه ونتخذه مذهبا ، وإن نقل المفسرون ما نقلوا لأن متابعة النص القاطع وبراءة المعصوم عن تلك الرذيلة وإحالة التقصير على الرواة أولى بالمصير اليه على أن أساطين النقل المتقنين لم يرووا في ذلك شيئا مرفوعا في كتبهم ، وجل تلك الروايات بل كلها مأخوذ من مسألة أهل الكتاب ا ه ، نعم قد صحح الحاكم بعضا من الروايات التي استند إليها من نسب تلك الشنيعة إليه عليه السلام لكن تصحيح الحاكم محكوم عليه بعدم الاعتبار عند ذوي الاعتبار.
وفي إرشاد العقل السليم بعد نقل نبذة منها إن كل ذلك إلا خرافات وأباطيل تمجها الآذان وتردها العقول والأذهان ويل لمن لاكها ولفقها أو سمعها وصدقها ، ثم إن الإمام عليه الرحمة ذكر في تفسير الآية الكريمة بعد أن منع دلالتها على الهم ما حاصله : إنا سلمنا أن الهم قد حصل إلا أنا نقول : لا بد من إضمار فعل مخصوص يجعل متعلق الهم إذ الذوات لا تصلح ولا يتعين ما زعموه من إيقاع الفاحشة بها بل نضمره شيئا آخر يغاير ما أضمروه ، فنقول : المراد هم بدفعها عن نفسه ومنعها عن ذلك القبيح لأنه الذي يستدعيه حاله عليه السلام ، وقد جاء هممت بفلان أي قصدته ودفعته ويضمر في الأول المخالطة والتمتع ونحو ذلك لأنه اللائق بحالها ، فإن قالوا : لا يبقى حينئذ لقوله سبحانه :
لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ فائدة؟ قلنا : بل فيه أعظم الفوائد وبيانه من وجهين.
الأول أنه تعالى أعلم يوسف أنه لو هم بدفعها لفعلت معه ما يوجب هلاكه فكان في الامتناع عن ذلك صون النفس عن الهلاك ، الثاني أنه لو اشتغل بدفعها فلربما تعلقت به فكان يتمزق ثوبه من قدام وكان في علم اللّه تعالى أن الشاهد يشهد بأن ثوبه لو كان متمزقا من قدام لكان هو الجاني. ولو كان متمزقا من خلف لكانت هي الجانية فأعلمه هذا المعنى فلا جرم لم يشتغل بدفعها وفر عنها حتى صارت الشهادة حجة له على براءته عن المعصية ، والى تقدير الدفع «1» ذهب بعض السادة الصوفية قدس اللّه تعالى أسرارهم ففي الجواهر والدرر للشعراني : سألت شيخنا عن قوله تعالى وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها ما هذا الهم الذي أبهم فقد تكلم الناس فيه بما لا يليق برتب الأنبياء عليهم السلام؟
فقال : لا أعلم ، قلت : قد ذكر الشيخ الأكبر قدس سره أن مطلق اللسان يدل على أحدية المعنى ، ولكن ذلك أكثري لا كلي فالحق أنها همت به عليه السلام لتقهره على ما أرادته منه ، وهم هو بها ليقهرها في الدفع عما أرادته منه فالاشتراك في طلب القهر منه ومنها والحكم مختلف ، ولهذا قالت : أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ [يوسف : 51] وما جاء في السورة أصلا أنه راودها عن نفسها ا ه ، وجوز الإمام أيضا تفسير الهم بالشهوة ، وذكر أنه مستعمل في اللغة الشائعة فإنه يقول القائل فيما لا يشتهيه : لا يهمني هذا ، وفيما يشتهيه : هذا أهم الأشياء الي ، وهو ما أشرنا اليه أولا إلا أنه عليه الرحمة حمل الهم في الموضعين على ذلك فقال بعد : فمعنى الآية ولقد اشتهته واشتهاها ولولا أن رأى برهان ربه لفعل وهو مما لا داعي اليه إذ لا محذور في نسبة الهم المذموم إليها ، والظاهر أن الهم بهذا المعنى مجاز كما نص عليه السيد المرتضى في درره لا حقيقة كما يوهمه ظاهر كلام الإمام ، وقد ذهب إلى هذا التأويل أبو علي الجبائي وغيره ، وروي ذلك عن الحسن ، وبالجملة لا ينبغي التعويل على ما شاع في الأخبار والعدول عما ذهب اليه المحققون الأخيار ،
___________
(1) وجوزه من الإمامية السيد المرتضى في الدرر ا ه منه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 408
وإياك والهم بنسبة تلك الشنيعة إلى ذلك الجناب بعد أن كشف اللّه سبحانه عن بصر بصيرتك فرأيت برهان ربك بلا حجاب كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ قيل : خيانة السيد وَالْفَحْشاءَ الزنا لأنه مفرط القبح ، وقيل : السُّوءَ مقدمات الفحشاء من القبلة والنظر بشهوة. وقيل : هو الأمر السيّء مطلقا فيدخل فيه الخيانة المذكورة وغيرها ، والكاف على ما قيل : في محل نصب ، والإشارة إلى التثبيت اللازم للإراءة المدلول عليها بقوله سبحانه : لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه لِنَصْرِفَ إلخ ، وقال ابن عطية : إن الكاف متعلقة بمضمر تقديره جرت أفعالنا وأقدارنا كَذلِكَ لِنَصْرِفَ ، وقدر أبو البقاء نراعيه كذلك ، والحوفي أريناه البراهين كذلك ، وجوز الجميع كونه في موضع رفع فقيل : أي الأمر أو عصمته مثل ذلك لكن قال الحوفي : إن النصب أجود لمطالبة حروف الجر للأفعال أو معانيها ، واختار في البحر كون الإشارة إلى الرؤية المفهومة من رأي أو الرأي المفهوم ، وقد جاء مصدر الرأي كالرؤية كما في قوله :
ورأى عيني الفتى أباكا يعطى الجزيل فعليك ذاكا
والكاف في موضع نصب بما دل عليه قوله سبحانه : لَوْلا أَنْ رَأى إلخ ، وهو أيضا متعلق لِنَصْرِفَ أي مثل الرؤية أو الرأي يرى براهيننا لِنَصْرِفَ إلخ ، وقيل «1» غير ذلك ، ومما لا ينبغي أن يلتفت إليه ما قيل : إن الجار والمجرور متعلق بهم ، وفي الكلام تقديم وتأخير وتقديره ولقد همت به وهم بها كذلك لولا أن رأى برهان ربه لنصرف عنه إلخ ، ولا يخفى ما في التعبير بما في النظم الجليل دون لنصرفه عن السوء والفحشاء من الدلالة على رد من نسب إليه ما نسب والعياذ باللّه تعالى.
وقرأ الأعمش - ليصرف - بياء الغيبة وإسناد الصرف إلى ضمير الرب سبحانه إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ تعليل لما سبق من مضمون الجملة بطريق التحقيق ، والمخلصون هم الذين أخلصهم اللّه تعالى واختارهم لطاعته بأن عصمهم عما هو قادح فيها ، والظاهر أن المراد الحكم عليه بأنه مختار لطاعته سبحانه ، ويحتمل على ما قيل : أن يكون المراد أنه من ذرية إبراهيم عليه السلام الذين قال فيهم جلّ وعلا : إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ [ص : 46].
وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر المخلصين إذا كان فيه أل حيث وقع بكسر اللام وهم الذين أخلصوا دينهم للّه تعالى ، ولا يخفى ما في التعبير بالجملة الاسمية من الدلالة على انتظامه عليه السلام في سلك أولئك العباد الذين هم من أول الأمر لا أنه حدث له ذلك بعد أن لم يكن ، وفي هذا عند ذوي الألباب ما ينقطع معه عذر أولئك المتشبثين بأذيال هاتيك الأخبار التي ما أنزل اللّه تعالى بها من كتاب وَاسْتَبَقَا الْبابَ متصل بقوله سبحانه : وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها إلخ ، وقوله تعالى : كَذلِكَ إلخ اعتراض جيء به بين المعطوفين تقريرا لنزاهته عليه السلام ، والمعنى لقد همت به وأبى هو واستبقا أي تسابقا إلى الباب على معنى قصد كل من يوسف عليه السلام وامرأة العزيز سبق الآخر إليه فهو ليخرج وهي لتمنعه من الخروج وقيل : المراد من السبق في جانبها الإسراع إثره إلّا أنه عبر بذلك للمبالغة ، ووحد الباب هنا مع جمعه أولا لأن المراد الباب البراني الذي هو المخلص واستشكل بأنه كيف يستبقان إليه ودونه أبواب جوانية بناء على ما ذكروا من أن الأبواب كانت سبعة.
وأجيب بأنه روي عن كعب أن أقفال هاتيك الأبواب كانت تتناثر إذا قرب إليها يوسف عليه السلام وتتفتح له
___________
(1) ومما قيل : إن الكاف في موضع نصب ، والإشارة إلى الإراءة المدلول عليها بما تقدم أي مثل ذلك التبصير والتعريف عرفناه برهاننا فيما قبل ا ه منه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 409
ويحتمل أنّه لم تكن تلك الأبواب المغلقة على الترتيب بابا فبابا بل كانت في جهات مختلفة كلها منافذ للمكان الذي كانا فيه فاستبقا إلى باب يخرج منه ، ونصب الباب على الاتساع لأن أصل استبق أن يتعدى بإلى لكن جاء كذلك على حد وَإِذا كالُوهُمْ [المطففين : 3] وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا [الأعراف : 155] ، وقيل : إنه ضمن الاستباق معنى الابتدار فعدى تعديته وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ يحتمل أن يكون معطوفا على اسْتَبَقَا ، ويحتمل أن يكون في موضع الحال كما قال أبو حيان أي وقد قدت ، والقدّ القطع والشق وأكثر استعماله فيما كان طولا وهو المراد هنا بناء على ما قيل : إنها جذبته من وراء فانخرق القميص إلى أسفله ، ويستعمل القط فيما كان عرضا ، وعلى هذا جاء ما قيل في وصف علي كرم اللّه تعالى وجهه : إنه كان إذا اعتلى قدّ وإذا اعترض قط ، وقيل ، القدّ هنا مطلق الشق ، ويؤيده ما نقل عن ابن عطية أنه قرأت فرقة - وقط - وقد وجد ذلك في مصحف المفضل بن حرب.
وعن يعقوب تخصيص القدّ بما كان في الجلد والثوب الصحيحين ، والقميص معروف ، وجمعه أقمصة ، وقمص ، وقمصان ، وإسناد القدّ بأي معنى كان إليها خاصة مع أن لقوة يوسف عليه السلام أيضا دخلا فيه إما لأنها الجزء الأخير للعلة التامة ، وإما للإيذان بمبالغتها في منعه عن الخروج وبذل مجهودها في ذلك لفوت المحبوب أو لخوف الافتضاح وَأَلْفَيا أي وجدا ، وبذلك قرأ عبد اللّه سَيِّدَها أي زوجها وهو فيعل «1» من ساد يسود ، وشاع إطلاقه على المالك وعلى الرئيس ، وكانت المرأة إذ ذاك على ما قيل : تقول لزوجها سيدي ، ولذا لم يقل سيدهما ، وفي البحر إنما لم يضف إليهما لأنه لم يكن مالكا ليوسف حقيقة لحريته لَدَى الْبابِ أي عند الباب البراني ، قيل : وجداه يريد أن يدخل مع ابن عم لها قالَتْ استئناف مبني على سؤال سائل يقول : فماذا كان حين ألفيا السيد عند الباب ، فقيل ، فقالت : ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً من الزنا ونحوه.
إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ الظاهر أن ما نافية ، وجَزاءُ مبتدأ ، ومِنْ موصولة أو موصوفة مضاف إليه ، والمصدر المؤول خبر ، وأَوْ للتنويع خبر المبتدأ وما بعد معطوف على ذلك المصدر أي ليس جزاؤه إلّا السجن أو العذاب الأليم ، والمراد به على ما قيل : الضرب بالسوط ، وعن ابن عباس أنه القيد ، وجوز أن تكون ما استفهامية - فجزاء - مبتدأ أو خبر أي أي شيء جزاؤه غير ذلك أو ذلك ، ولقد أتت في تلك الحالة التي يدهش فيها الفطن اللوذعي حيث شاهدها زوجها على تلك الهيئة بحيلة جمعت فيها غرضيها وهما تبرئة ساحتها مما يلوح من ظاهر الحال ، واستنزال يوسف عليه السلام عن رأيه في استعصائه عليها وعدم مواتاته لها على مرادها بإلقاء الرعب في قلبه من مكرها طمعا في مواقعته لها مكرها عند يأسها عن ذلك مختارا كما قالت : لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف : 32] ثم إنها جعلت صدور الإرادة المذكورة عن يوسف عليه السلام أمرا محققا مفروغا عنه غنيا عن الإخبار بوقوعه ، وإن ما هي عليه من الأفاعيل لأجل تحقيق جزائها ، ولم تصرح بالاسم بل أتت بلفظ عام تهويلا للأمر ومبالغة في التخويف كأن ذلك قانون مطرد في حق كل أحد كائنا من كان ، وذكرت نفسها بعنوان أهلية العزيز إعظاما للخطب وإغراء له على تحقيق ما يتوخاه بحكم الغضب والحمية كذا قرّره غير واحد.
وذكر الإمام في تفسيره ما فيه نوع مخالفة لذلك حيث قال : إن في الآية لطائف : أحدها أن حبها الشديد ليوسف عليه السلام حملها على رعاية دقيقتين في هذا الموضع وذلك لأنها بدأت بذكر السجن وأخرت ذكر العذاب لأن المحب لا يسعى في إيلام المحبوب ، وأيضا إنها لم تذكر أن يوسف عليه السلام يحب أن يقابل بأحد هذين
___________
(1) وهذا البناء مختص بالمعتل وشذ في غيره ا ه منه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 410
الأمرين بل ذكرت ذلك ذكرا كليا صونا للمحبوب عن الذكر بالشر والألم ، وأيضا قالت : إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ والمراد منه أن يسجن يوما ، أو أقل على سبيل التخفيف ، فأما الحبس الدائم فإنه لا يعبر عنه بهذه العبارة بل يقال : يجب أن يجعل من المسجونين ، ألا ترى أن فرعون كيف قال حين هدد موسى عليه السلام : لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء : 29]. وثانيها أنها لما شاهدت من يوسف عليه السلام أنه استعصم منها مع أنه كان في عنفوان الشباب وكمال القوة ونهاية الشهوة عظم اعتقادها في طهارته ونزاهته فاستحيت أن تقول : إن يوسف قصدني بسوء وما وجدت ممن نفسها أن ترميه بهذا الكذب على سبيل التصريح بل اكتفت بهذا التعريض ، وليت الحشوية كانوا يكتفون بمثل ما اكتفت به ، ولكنهم لم يفعلوه ووصفوه بعد قريب من أربعة آلاف سنة بما وصفوه من القبيح وحاشاه. وثالثها أن يوسف عليه السلام أراد أن يضربها ويدفعها عن نفسه وكان ذلك بالنسبة إليها جاريا مجرى السوء فقولها ما جَزاءُ إلخ جار مجرى التعريض فلعلها بقلبها كانت تريد إقدامه على دفعها ومنعها ، وفي ظاهر الأمر كانت توهم أنه قصدني بما لا ينبغي انتهى المراد منه ، وفيه من الأنظار ما فيه.
وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما أو عذابا أليما بالنصب على المصدرية كما قال الكسائي : أي أو يعذب عذابا أليما إلّا أنه حذف ذلك لظهوره ، وهذه القراءة أوفق بقوله تعالى : أَنْ يُسْجَنَ ولم يظهر لي في سر اختلاف التعبير على القراءة المشهورة ما يعول عليه ، واللّه تعالى أعلم بأسرار كتابه فتدبر قالَ استئناف وجواب عما يقال :
فماذا قال يوسف عليه السلام حينئذ؟ فقيل : قال : هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي أي طالبتني للمواتاة لا أني أردت بها سوءا كما زعمت وإنما قاله عليه السلام لتنزيه نفسه عن التهمة ودفع الضرر عنها لا لتفضيحها.
وفي التعبير عنها بضمير الغيبة دون الخطاب أو اسم الإشارة مراعاة لحسن الأدب مع الإيماء إلى الإعراض عنها كذا قالوا ، وفي هذا الضمير ونحوه كلام فقد ذكر ابن هشام في بعض حواشيه على قول ابن مالك في ألفيته :
فما لذي غيبة أو حضور
إلخ لينظر إلى نحو هِيَ راوَدَتْنِي فإن هِيَ ضمير باتفاق ، وليس هو للغائب بل لمن بالحضرة ، وكذا يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ [القصص : 26] وهذا في المتصل وذاك في المنفصل ، وقول من يخاطب شخصا في شأن آخر حاضر معه قلت له : اتق اللّه تعالى وأمرته بفعل الخير ، وقد يقال : إنه نزل الضمير فيهن منزلة الغائب وكذا في عكس ذلك يبلغك عن شخص غائب شيء فنقول : ويحك يا فلان أتفعل كذا؟ تنزيلا له منزلة من بالحضرة ، وحينئذ يقال : الحد المستفاد مما ذكر إنما هو للضمير باعتبار وضعه ا ه.
وقال السراج البلقيني في رسالته المسماة نشر العبير لطي الضمير المفسر لضمير الغائب إما مصرح به أو مستغنى بحصول مدلوله حسا أو علما فالحس نحو قوله تعالى : هِيَ راوَدَتْنِي ويا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ كما ذكره ابن مالك ، وتعقبه شيخنا أبو حيان بأنه ليس كما مثل به لأن هذين الضميرين عائدان على ما قبلهما فضمير هِيَ راوَدَتْنِي عائد على الأهل في قولها : ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً ولما كنت عن نفسها بذلك ولم تقل بي بدل بِأَهْلِكَ كنى هو عليه السلام عنها بضمير الغيبة فقال : هِيَ راوَدَتْنِي ولم يخاطبها بأنت راودتني ، ولا أشار إليها بهذه راودتني وكل هذا على سبيل الأدب في الألفاظ والاستحياء في الخطاب الذي لا يليق بالأنبياء عليهم السلام ، فأبرز الاسم في صورة ضمير الغائب تأدبا مع العزيز وحياء منه ، وضمير اسْتَأْجِرْهُ عائد على موسى فمفسره مصرح بلفظه ، وكأن ابن مالك تخيل أن هذا موضع إشارة لكون صاحب الضمير حاضرا عند المخاطب فاعتقد أن المفسر يستغني عنه بحضور مدلوله حسا فجرى الضمير مجرى اسم الإشارة ، والتحقيق ما ذكرناه هذا كلامه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 411
وعندي أن الذي قاله ابن مالك أرجح ، مما قاله الشيخ ، وذلك أن الاثنين إذا وقعت بينهما خصومة عند حاكم فيقول المدعي للحاكم : لي على هذا كذا : فيقول المدعي عليه : هو يعلم أنه لا حق له علي ، فالضمير في هو إنما هو لحضور مدلوله حسا لا لقوله : لي كما هو المتبادر إلى الأفهام ، وأيضا يرد على ما ذكره في ضمير اسْتَأْجِرْهُ أن موسى عليه السلام لم يسبق له ذكر عند حضوره مع بنت شعيب عليه السلام ، وقد قالت : يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ وقصدها بالضمير الرجل الحاضر الذي بان لها من قوته وأمانته الأمر العظيم ، ثم إن من خاصم زوجته فقال للحاضرين من أهلها. أو من غيرهم : هي طالق تطلق زوجته لوجود ما قرره ابن مالك ، ولا يتمشى على ما قرره الشيخ كما لا يخفى ، وبالجملة إن التأويل الذي ذكره في الآيتين وإن سلم فيهما لكن لا يكاد يتمشى معه في غيرهما هذا فليفهم وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها ذهب جمع إلى أنه كان ابن خالها «1» ، وكان طفلا في المهد «2» أنطقه اللّه تعالى ببراءته عليه السلام ،
فقد ورد عنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم «تكلم أربعة في المهد وهم صغار : ابن ماشطة ابنة فرعون ، وشاهد يوسف عليه السلام ، وصاحب جريج ، وعيسى ابن مريم عليهما السلام»
وتعقب ذلك الطيبي بقوله : يرده دلالة الحصر
في حديث الصحيحين عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه «أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة :
عيسى ابن مريم ، وصاحب جريج ، وصبي كان يرضع من أمه فمر راكب حسن الهيئة فقالت : أمه اللهم اجعل ابني مثل هذا فترك الصبي الثدي ، وقال اللهم لا تجعلني مثله» ا ه ،
ورده الجلال السيوطي فقال : هذا منه على جاري عادته من عدم الاطلاع على طرق الأحاديث ، والحديث المتقدم صحيح أخرجه أحمد في مسنده ، وابن حبان في صحيحه ، والحاكم في مستدركه وصححه من حديث ابن عباس ، ورواه الحاكم أيضا من حديث أبي هريرة ، وقال صحيح على شرط الشيخين ، وفي حديث الصحيحين المشار اليه آنفا زيادة على الأربعة «الصبي الذي كان يرضع من أمه فمر راكب» إلخ
فصاروا خمسة وهم أكثر من ذلك ، ففي صحيح مسلم تكلم الطفل في قصة أصحاب الأخدود ، وقد جمعت من تكلم في المهد فبلغوا أحد عشر ، ونظمتها فقلت :
تكلم في المهد النبي محمد ويحيى وعيسى والخليل ومريم
ومبري جريج ثم شاهد يوسف وطفل لذي الأخدود يرويه مسلم
وطفل عليه مر بالأمة التي يقال لها تزني ولا تتكلم
وما شطة في عهد فرعون طفلها وفي زمن الهادي المبارك يختم
ا ه ، وفيه أنه لم يرد الطيبي الطعن على الحديث الذي ذكر كما توهم ، وإنما أراد أن بين الحديث الدال على الخصر وغيره تعارضا يحتاج إلى التوفيق وفي الكشف بعد ذكره حديث الأربعة ، وما تعقب به مما تقدم عن الطيبي أنه نقل الزمخشري في سورة البروج خامسا فإن ثبتت هذه أيضا فالوجه أن يجعل في المهد قيدا وتأكيدا لكونه في مبادئ الصبا ، وفي هذه الرواية يحمل على الإطلاق أي سواء كان في المبادئ أو بعيدها بحيث يكون تكلمه من الخوارق ، ولا يخفى أنه توفيق بعيد.
وقيل : كان ابن عمها الذي كان مع زوجها لدى الباب وكان رجلا ذا لحية ولا ينافي هذا قول قتادة : إنه كان رجلا حكيما من أهلها ذا رأي يأخذ الملك برأيه ويستشيره ، وجوز أن يكون بعض أهلها وكان معهما في الدار بحيث
___________
(1) وفي بعض الآثار أنه ابن أخت لها وكان عمره إذ ذاك ثلاثة أشهر ا ه منه.
(2) ولم ترتض ذلك الجبائي لوجوه ذكرها الإمام ، ولا يخفى ما فيها ا ه منه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 412
لم يشعرا به فبصر بما جرى بينهما فأغضبه اللّه تعالى ليوسف فقال الحق ، وعن مجاهد أن الشاهد هو القميص المقدود وليس بشيء كما لا يخفى ، وجعل اللّه تعالى الشاهد من أهلها قيل : ليكون أدل على نزاهته عليه السلام وأنفى للتهمة وألزم لها ، وخص هذا بما إذا لم يكن الشاهد الطفل الذي أنطقه اللّه تعالى الذي أنطق كل شيء ، وأما إذا كان ذلك فذكر كونه من أهلها لبيان الواقع فإن شهادة الصبي حجة قاطعة ولا فرق فيها بين الأقارب وغيرهم ، وتعقب بأن كون شهادة القريب مطلقا أقوى مما لا ينبغي أن يشك فيه ، وسمي شاهدا لأنه أدى تأديته في أن ثبت بكلامه قول يوسف وبطل قولها ، وقيل : سمي بذلك من حيث دل على الشاهد وهو تخريق القميص ، وفسر مجاهد فيما أخرجه عنه ابن جرير الشهادة بالحكم أي وحكم حاكم من أهلها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ أي من قدام يوسف عليه السلام ، أو من قدام القميص وإِنْ شرطية ، وكانَ فعل الشرط وقوله سبحانه : فَصَدَقَتْ جواب الشرط وهو بتقدير قد ، وإلا فالفاء لا تدخل في مثله ، وعن ابن خروف أن مثل هذا على إضمار المبتدأ ، والجملة جواب الشرط لا الماضي وحده ، وفي الكشاف إن الشرطية هنا نظير قولك : إن أحسنت إلي فقد أحسنت إليك من قبل لمن يمتن عليك بإحسانه فإنه على معنى إن تمتن علي أمتن عليك ، وكذا هنا المراد أن يعلم أنه كان قميصه قدّ ونحوه وإلا فبين أن الذي للاستقبال وكانَ تناف قيل : وهو مبني على ما ذهب اليه البعض من أن كانَ قوية في الدلالة على الزمان فحرف الشرط لا يقلب ماضيها مستقبلا وإلا فكل ماض دخل عليه الشرط قلبه مستقبلا من غير حاجة إلى التأويل ، وتعقب بأنه لا بد من التأويل هاهنا وجعل حدوث العلم ونحوه جزئي الشرطية كأن يقال : إن يعلم أو يظهر كونه كذلك فقد ظهر الصدق ، ويقال نظيره في الشرطية الأخرى الآتية : وإن كانت كانَ مما يقلب حرف الشرط ماضيها مستقبلا كسائر الأفعال الماضية لأن
المعنى ليس على تعليق الصدق أو الكذب في المستقبل على كون القميص كذا أو كذا كذلك بل على تعليق ظهور أحد الأمرين الصدق والكذب على حدوث العلم بكونه كذلك وهو ظاهر ، وهل هذا التأويل من باب التقدير ، أو من غيره؟ فيه خلاف ، والذي يشير إليه كلام بعض المدققين أنه ينزل في مثل ذلك العلم بالشيء منزلة استقباله لما بينهما من التلازم كما قيل : أي شيء يخفى؟ فقيل : ما لا يكون فليفهم ، ثم إن متعلق الصدق ما دل كلامها عليه من أن يوسف أراد بها سوءا وهو متعلق الكذب المسند إليها فيما بعد ، وهما كما يتعلقان بالنسبة التي يتضمنها الكلام باعتبار منطوقه يتعلقان بالنسبة التي يتضمنها باعتبار ما يستلزمه فكأنه قيل : إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ في دعواها أن يوسف أراد بها سوءا وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ في دعواه أنها راودته عن نفسه وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ أي من خلف يوسف عليه السلام أو خلف القميص فَكَذَبَتْ في دعواها وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواه ، والشرطيتان محكيتان : إما بقول مضمر أي شهد قائلا أو فقال إِنْ كانَ إلخ كما هو مذهب البصريين ، وإما يشهد لأن الشهادة قول من الأقوال مع رعاية زيادة الإيضاح ، وجملتا - وهو من الكاذبين.
وهو من الصادقين - مؤكدتان لأن من قوله : فَصَدَقَتْ يعلم كذبه ، ومن قوله : فَكَذَبَتْ يعلم صدقه ، ووجه دلالة قدّ القميص من دبر على كذبها أنها تبعته وجذبت ثوبه فقدته ، وأما دلالة قده من قبل على صدقها فمن وجهين : أحدهما أنه إذا كان تابعها وهي دافعته عن نفسه قدت قميصه من قدام بالدفع ، وثانيهما أن يسرع إليها ليلحقها فيتعثر في مقام قميصه فيشقه كذا في الكشاف ، وتعقب ابن المنير الوجه الأول بأن ما قرر في اتباعه لها يحتمل مثله في اتباعها له فإنها إنما تقد قميصه من قبل بتقدير أن يكون عليه السلام أخذ بها حتى صارا متقابلين فدفعته عن نفسها ، وهذا بعينه يحتمل إذا كانت هي التابعة بأن تكون اجتذبته حتى صارا متقابلين ثم جذبت قميصه إليها من قبل بل هذا أظهر لأن الموجب لقدّ القميص غالبا الجذب لا الدفع ، والوجه الثاني بأن ما ذكر بعينه محتمل لو كانت هي التابعة وهو فار منها بأن ينقدّ قميصه في إسراعه للفرار ا ه
.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 413
وأجيب عما ذكره أولا بأنه غير وارد لأن تلك الحالة السريعة لا تحتمل إلا أيسر ما يمكن وأسرعه ، وعلى تقدير اتباعها له تعين القدّ من دبر لأنه أهون الجذبين ، ثم لا نفرض كر الفار ليدفعها أو كما لحقت جذبت فهذا الفرض لا وجه له هنالك فإذا ثبت دلالته في الجملة على هذا القسم تعينت ، وعما ذكره ثانيا بأن الظاهر على تقدير أن تكون تابعة أنه إذا تعثر الفار يتعلق به التابع متشبثا وإذا كانا منفلتين بعد ذلك الاحتمال.
وذكر الفاضل المتعقب أن الحق في هذا الفصل أن يقال : إن الشاهد المذكور إن كان صبيا أنطقه اللّه تعالى في المهد كما ورد في بعض الأحاديث فالآية في مجرد كلامه قبل أوانه حتى لو قال صدق يوسف وكذبت لكفى برهانا على صدقه عليه السلام كما كان مجرد إخبار عيسى عليه السلام في المهد برهانا على صدق مريم ، فلا تنبغي المناسبة بين الأمارة المنصوبة وما رتب عليها لأن العمدة «1» في الدلائل نصبها لا مناسبتها ، وإن كان قريبا لها قد بصر بها من حيث لا تشعر فهذا - واللّه تعالى أعلم - كان من حقه أن يصرح بما رأى فيصدق يوسف عليه السلام ويكذبها ولكنه أراد أن لا يكون هو الفاضح لها ، ووثق بأن قدّ قميصه إنما كان من دبر فنصبه أمارة لصدقه وكذبها ، ثم ذكر القسم الآخر وهو قده من قبل على علم بأنه لم ينقد كذلك حتى ينفي عن نفسه التهمة في الشهادة وقصد الفضيحة وينصفهما جميعا فلذا ذكر أمارة على صدقها المعلوم نفيه كما ذكر أمارة على صدقه المعلوم وجوده ، وأخرجهما مخرجا واحدا وبنى قُدَّ لما لم يسم فاعله في الموضعين سترا على من قدّه ، وقدم أمارة صدقها في الذكر إزاحة للتهمة ووثوقا بأن الأمارة الثانية هي الواقعة فلا يضره تأخيرها.
والحاصل أن عمدة هذا الشاهد الأمارة الأخيرة فقط والمناسبة فيها محققة ، وأما الأمارة الأولى فليست مقصودة وإنما هي كالغرض ذكرت توطئة للثانية فلم يلتمس لها مناسبة مثل تلك المناسبة ، وأما إن كان الحكيم الذي كان الملك يرجع إلى رأيه فلا بد من التماس المناسبة في الطرفين لأنها عمدة الحكيم ، وأقرب وجه في المناسبة أن قدّ القميص من دبر دليل على إدباره عنها ، وقدّه من قبل دليل على إقباله عليها بوجهه ، ولا يخفى أن مثل هذا الوجه لا يصلح أن يكون مطمح نظر الحكيم الذي لا يلتفت إلا لليقينيات ، فالأولى أن يقال : يحتمل أن ذلك الحكيم كان واقفا على حقيقة الحال بطريق من الطرق الممكنة ، ويسهل أمر ذلك إذا قلنا : إنه كان ابن عم لها فهو متيقن بعدم مقدم الشرطية الأولى وبوجود مقدم الشرطية الثانية ، ومن ضروريات ذلك الجزم بانتفاء تالي الأولى ووقوع تالي الثانية فإذا هو إخبار بكذبها وصدقه عليه السلام لكنه ساق شهادته مساقا مأمونا من الجرح والطعن حيث صورها بصورة الشرطية المترددة ظاهرا بين نفعها ونفعه ، وأما حقيقة فلا تردد فيها قطعا كما أشير إليه ، وإلى كون الشرطية الأولى غير مقصودة بالذات ذهب العلامة ابن الكمال معرضا بغفلة القاضي البيضاوي حيث قال : إن قوله تعالى : إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ إلخ من قبيل المسامحة في أحد شقي الكلام لتعين الآخر عند القاتل تنزيلا للمحتمل منزلة الظاهر لأن الشق بالجذب في هذا الشق أيضا محتمل ، ومن غفل عن هذا قال : لأنه يدل على أنه قصدها فدفعت عن نفسها إلى آخر عبارة البيضاوي ، وحاصل ذلك على ما قرره بعض مشايخنا عليهم الرحمة أن القائل : يعلم يقينا وقوع الشق من دبر لكنه ذكر الشق من القبل مع أنه محتمل أن يكون بجذبها إياه إلى طرفها كما أن كونه من دفعها إياه من بعض محتملاته تنزيلا لهذا المحتمل منزلة الظاهر تأكيدا ومبالغة لثبوت ما دلت عليه الشرطية الثانية من صدقه وكذبها يعني
أنا نحكم بصدقها وكذبه بمجرد وقوع الشق في القبل ، وإن كان محتملا لأسباب أخر غير دفعها لكنه ما وقع هذا الشق
___________
(1) قيل : إن التصوير بصورة الشرطية على هذا الشق للإيذان بأن ذلك من العلائم أيضا ا ه منه.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 414
أصلا فلا صدق لها وذلك كما إذا قيل لك : بلغت إلى زيد الكلام الفلاني في هذا اليوم؟ فقلت : إن كنت تكلمت في هذا اليوم مع زيد فقولكم هذا صادق مع أن تكلمك معه في هذا اليوم مطلقا لا يدل على صدق دعواهم لاحتمال أنك تكلمت معه بكلام غير ذلك الكلام لكنك قلت ذلك تحقيقا لعدم تبليغك ذلك الكلام إليه ، هذا وذكر شيخ مشايخنا العلامة صبغة اللّه الحيدري طيب اللّه تعالى ثراه : أن الظاهر أن دلالة كل من الشقين في الشقين على ما يدل عليه من حيث موافقته لما ادعاه صاحبه فإنها كانت تقول : هو طلبني مقبلا عليّ فخلصت نفسي عنه بالدفع أو الفرار وهو كان يقول : هي الطالبة ففررت منها وتبعتني واجتذبت ثوبي فقدته فوقوع الشق في شق الدبر يدل على كونه مدبرا عنها لا مقبلا عليها وعكسه على عكسه ، ثم فرع على هذا أن ما ذكره ابن الكمال غفلة عن المخاصمة بالمقاولة وهو توجيه لطيف للآية الكريمة ، بيد أن دعوى وقوع المخاصمة بالمقاولة على الطرز الذي ذكره رحمه اللّه تعالى مما لا شاهد لها ، وعلى المدعي البيان على أنه يبعد عقلا أن تقول هو طلبني مقبلا فخلصت نفسي منه فانقدّ قميصه من قبل وهو الذي تقتضيه دعواه أن الظاهر أن دلالة كل من الشقين إلخ لظهور أن ظهور كذبها حينئذ أسرع ما يكون ، وبالجملة قيل : إن الاحتمالات المضعفة لهذه المشاهدة كثيرة : منها ما علمت ، ومنها ما تعلمه بأدنى التفات ، ومن هنا قالوا : إن ذلك من باب اعتبار الأمارة ، ولذلك احتج بالآية كما قال ابن الفرس : من يرى الحكم من العلماء بالأمارات والعلامات فيما لا تحضره البينات كاللقطة ، والسرقة ، والوديعة ، ومعاقد الحيطان ، والسقوف وغير ذلك.
وذكر الإمام أن علامات كذب المرأة كانت كثيرة بالغة مبلغ اليقين فضموا إليها هذه العلامة الأخرى لا لأجل أن يعوّلوا في الحكم عليها بل لأجل أن يكون ذلك جاريا مجرى المقويات والمرجحات واللّه تعالى أعلم.
وقرأ الحسن ، وأبو عمرو في رواية «من قبل ، ومن دبر» بسكون الباء فيهما والتنوين وهي لغة الحجاز ، وأسد ، وقرأ أبو يعمر ، وابن أبي إسحاق ، والعطاردي ، وأبو الزناد ، وآخرون «من قبل ، ومن دبر» بثلاث ضمات ، وقرأ الأولان ، والجارود في رواية عنهم بإسكان الباء فيهما مع بنائهما على الضم جعلوهما - كقبل ، وبعد - بعد حذف المضاف إليه ونية معناه ، وتعقب ذلك أبو حاتم بأن هذا رديء في العربية وإنما يقع بعد البناء في الظروف ، وهذان اللفظان اسمان متمكنان وليسا بظرفين ، وعن ابن إسحاق أنه قرأ من - قبل ومن دبر - بالفتح قيل : كأنه جعلهما علمين للجهتين فمنعهما الصرف للعملية والتأنيث «1» باعتبار الجهة فَلَمَّا رَأى أي السيد ، وقيل : الشاهد ، والفعل من الرؤية البصرية أو القلبية أي فلما علم قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ أي هذا القد والشق كما قال الضحاك مِنْ كَيْدِكُنَّ أي ناشىء من احتيالكن أيتها النساء ومكركن ومسبب عنه ، وهذا تكذيب لها وتصديق له عليه السلام على ألطف وجه كأنه قيل : أنت التي راودته فلم يفعل وفرّ فاجتذبتيه فشققت قميصه فهو الصادق في إسناد المراودة إليك وأنت الكاذبة في نسبة السوء إليه ، وقيل : الضمير للأمر الذي وقع فيه التشاجر وهو عبارة عن إرادة السوء التي أسندت إلى يوسف عليه السلام وتدبير عقوبته بقولها ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إلخ أي إن ذلك من جنس مكركن واحتيالكن ، وقيل : هو للسوء وهو نفسه وإن لم يكن احتيالا لكنه يلازمه ، وقال الماوردي : هو لهذا الأمر وهو طمعها في يوسف عليه السلام وجعله من الحيلة مجاز أيضا كما في الوجه الذي قبله ، وقال الزجاج : هو لقولها ما جَزاءُ إلخ فقط «2» ، واختار العلامة أبو السعود القيل الأول وتكلف له بما تكلف واعترض على ما بعده من الأقوال بما اعترض.
___________
(1) قيل : وكأنه علم جنس وفيه نظر ا ه فتأمل ا ه منه.
(2) لم يجعل هؤلاء من سببية كما أشرنا إليه ا ه منه. [.....]

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 415
ولعل ما ذكرناه أقرب للذوق وأقل مؤنة مما تكلف له وأيا ما كان فالخطاب عام للنساء مطلقا وكونه لها ولجواريها - كما قيل - ليس بذاك ، وتعميم الخطاب للتنبيه على أن الكيد خلق لهن عريق :
ولا تحسبا هندا لها الغدر وحدها سجية نفس كل غانية هند «1»
إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ فإنه ألطف وأعلق بالقلب وأشد تأثيرا في النفس ولأن ذلك قد يورث من العار ما لا يورثه كيد الرجال ، ولربات القصور منهن القدح المعلى من ذلك لأنهن أكثر تفرغا من غيرهن مع كثرة اختلاف الكيادات إليهن فهن جوامع كوامل ، ولعظم كيد النساء «2» اتخذهن إبليس عليه اللعنة وسائل لإغواء من صعب عليه إغواؤه ،
ففي الخبر «ما أيس الشيطان من أحد إلا أتاه من جهة النساء»
وحكي عن بعض العلماء أنه قال : أنا أخاف من النساء ما لا أخاف من الشيطان فإنه تعالى يقول : إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً [النساء : 76] وقال للنساء : إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ولأن الشيطان يوسوس مسارقة وهن يواجهن به ، ولا يخفى أن استدلاله بالآيتين مبني على ظاهر إطلاقهما ، ومثله مما تنقبض له النفس وتنبسط يكفي فيه ذلك القدر فلا يضر كون ضعف كيد الشيطان إنما هو في مقابلة كيد اللّه تعالى ، وعظم كيدهن إنما هو بالنسبة إلى كيد الرجال ، وما قيل : إن ما ذكر لكونه محكيا عن قطفير - لا يصلح للاستدلال به بوجه من الوجوه - ليس بشيء لأنه سبحانه قصه من غير نكير فلا جناح في الاستدلال به كما لا يخفى يُوسُفُ حذف منه حرف النداء لقربه وكمال تفطنه للحديث ، وفي ندائه باسمه تقريب له عليه السلام وتلطيف.
وقرأ الأعمش «يوسف» بالفتح ، والأشبه على ما قال أبو البقاء : أن يكون أخرجه على أصل المنادى كما جاء في الشعر
يا عديا لقد وقتك الأواقي
وقيل : لم تضبط هذه القراءة عن الأعمش ، وقيل : إنه أجرى الوقف مجرى الوصل ونقل إلى الفاء حركة الهمزة من قوله تعالى : أَعْرِضْ عَنْ هذا أي عن هذا الأمر واكتمه ولا تتحدث به فقد ظهر صدقك وطهارة ثوبك ، وهذا كما حكى اللّه أكبر أشهد أن لا إله إلا اللّه بالوصل والفتح ، وقرىء «أعرض» بصيغة الماضي فيوسف حينئذ مبتدأ والجملة بعده خبر ، ولعل المراد الطلب على أتم وجه فيؤول إلى معنى أَعْرِضْ وَاسْتَغْفِرِي أنت أيتها المرأة ، وضعف أبو البقاء هذه القراءة بأن الأشبه عليها أن يقال : فاستغفري لِذَنْبِكِ الذي صدر عنك وثبت عليك إِنَّكِ كُنْتِ بسبب ذلك مِنَ الْخاطِئِينَ أي من جملة القوم المتعمدين للذنب ، أو من جنسهم يقال : خطىء يخطىء خطأ وخطأ إذا أذنب متعمدا ، وأخطأ إذا أذنب من غير تعمد ، وذكر الراغب أن الخطأ العدول عن الجهة وهو أضرب : الأول أو يريد غير ما تحسن إراداته فيفعله ، وهذا هو الخطأ التام المأخوذ به الإنسان ، والثاني أن يريد ما يحسن فعله ولكن يقع منه خلاف ما يريد وهذا قد أصاب في الإرادة وأخطأ في الفعل ، ومن ذلك
قوله صلى اللّه تعالى عليه وسلم : «من اجتهد فأخطأ فله أجر»
والثالث أن يريد ما لا يحسن فعله ويتفق منه خلافه فهذا مخطئ في الإرادة مصيب في الفعل ، ولا يخفى أن المعنى الذي ذكرناه راجع إلى الضرب الأول من هذه الضروب ، والجملة المؤكدة في موضع التعليل للأمر والتذكير لتغليب الذكور على الإناث واحتمال أن يقال : المراد إنك من نسل الخاطئين فمنهم سرى ذلك العرق الخبيث فيك بعيد جدا ، وهذا النداء قيل : من الشاهد الحكيم ، وروي ذلك عن ابن عباس ، وحمل الاستغفار على طلب المغفرة والصفح من الزوج ، ويحتمل أن يكون المراد به طلب المغفرة من اللّه تعالى ويقال : إن أولئك القوم وإن كانوا يعبدون الأوثان إلّا أنهم مع ذلك يثبتون الصانع ويعتقدون أن للقبائح
___________
(1) هو لأبي تمام من قصيدة ا ه منه.
(2) وهذا من كيده فافهم ا ه منه.
.

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 416
عاقبة سوء من لديه سبحانه إذا لم يغفرها ، واستدل على أنهم يثبتون الصانع أيضا بأن يوسف عليه السلام قال لهم :
أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف : 39] ، والظاهر أن قائل ذلك هو العزيز ، ولعله كما قيل : كان رجلا حليما ، وروي ذلك عن الحسن ، ولذا اكتفى بهذا القدر من مؤاخذتها ، وروي أنه كان قليل الغيرة وهو لطف من اللّه تعالى بيوسف عليه السلام ، وفي البحر أن تربة إقليم قطفير اقتضت ذلك ، وأين هذا مما جرى لبعض ملوك المغرب أنه كان مع ندمائه المختصين به في مجلس أنس وجارية تغنيهم من وراء ستر فاستعاد بعض خلصائه بيتين من الجارية كانت قد غنت بهما فما لبث أن جيء برأس الجارية مقطوعا في طست ، وقال له الملك : استعد البيتين من هذا الرأس فسقط في يد ذلك المستعيد ومرض مدة حياة الملك وَقالَ نِسْوَةٌ المشهور - وإليه ذهب أبو حيان - أنه جمع تكسير للقلة كصبية ، وغلمة ، وليس له واحد من لفظه بل من معناه وهو امرأة.
وزعم ابن السراج أنه اسم جمع ، وعلى كل فتأنيثه غير حقيقي ولا التفات إلى كون ذلك المفرد مؤنثا حقيقا لأنه مع طروّ ما عارض ذلك ليس كسائر المفردات ولذا لم يؤنث فعله ، وفي نونه لغتان : الكسر وهي المشهورة والضم وبه قرأ المفضل ، والأعمش ، والسلمي كما قال القرطبي فلا عبرة بمن أنكر ذلك ، وهو إذ ذاك اسم جمع بلا خلاف ، ويكسر للكثرة على نساء ، ونسوان ، وكنّ فيما روي عن مقاتل خمسا : امرأة الخباز ، وامرأة الساقي ، وامرأة البواب ، وامرأة السجان ، وامرأة صاحب الدواب.
وروى الكلبي أنهن كنّ أربعا بإسقاط امرأة البواب فِي الْمَدِينَةِ أريد بها مصر ، والجار والمجرور في موضع الصفة - لنسوة - على ما استظهره بعضهم ، ووصفن بذلك لأن إغاظة كلامهن بهذا الاعتبار لا تصافهن بما يقوي جانب الصدق أكثر فإن كلام البدويات لبعدهن عن مظان الاجتماع والاطلاع على حقيقة أحوال الحضريات القصريات لا يلتفت إلى كلامهن فلا يغيظ تلك الإغاظة ، والكثير على اختيار تعلقه - بقال - ومعنى كون قولهن في المدينة إشاعته وإفشاؤه فيها ، وتعقب بأن ذلك خلاف الظاهر امْرَأَتُ الْعَزِيزِ هو في الأصل الذي يقهر ولا يقهر كأنه مأخوذ من عز أي حصل في عزاز وهي الأرض الصلبة التي يصعب وطؤها ويطلق على الملك ، ولعلهم كانوا يطلقونه إذ ذاك فيما بينهم على كل من ولاه الملك على بعض مخصوص من الولايات التي لها شأن فكان من خواصه ذوي القدر الرفيع والمحل المنيع ، وهو بهذا المعنى مراد هنا لأنه أريد به قطفير وهو في المشهور كما علمت إنما كان على خزائن الملك - وكان الملك الريان بن الوليد - وقيل : المراد به الملك ، وكان قطفير ملك مصر ، واسكندرية ، وإضافتهن لها إليه بهذا العنوان دون أن يصرحن باسمها او اسمه ليظهر كونها من ذوات الأخطار فيكون عونا على إشاعة الخبر بحكم أن النفوس إلى سماع أخبار ذوي الأخطار أميل ، وقيل - وهو الأولى - إن ذاك لقصد المبالغة في لومها بقولهن تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ أي تطلب مواقعته إياها وتتمحل في ذلك ، وإيثارهن صيغة للدلالة على دوام المراودة كأنها صارت سجية لها ، والفتى من الناس الطري من الشبان ، وأصله فتى بالياء لقولهم في التثنية - وهي ترد الأشياء إلى أصولها - فتيان ، فالفتوة على هذا شاذ ، وجمعه فتية ، وفتيان ، قيل : إنه يائي وواوي ككنوت وكنيت ، وله نظائر كثيرة ، ويطلق على المملوك والخادم لما أن جل الخدمة شبان.
وفي الحديث «لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي»
وأطلق على يوسف عليه السلام هنا لأنه كان يخدمها ، وقيل : لأن زوجها وهبه لها فهو مملوكها بزعم النسوة ، وتعبيرهن عنه عليه السلام بذلك مظانا إليها لا إلى العزيز لإبانة ما بينهما من التباين البين الناشئ عن الخادمية والمخدومية أو المالكية والمملوكية وكل ذلك لتربية ما مر من المبالغة في اللوم فإن من لا زوج لها من النساء أو لها زوج دنيء قد تعذر في مراودة الأخدان لا سيما إذا كان

روح المعاني ، ج 6 ، ص : 417
فيهم علو الجناب ، وأما التي لها زوج فمراودتها لغيره لا سيما لمن لم يكن بينها وبينه كفاءة لها وتماديها في ذلك غاية الغي ونهاية الضلال قَدْ شَغَفَها حُبًّا أي شق حبه شغاف قلبها وهو حجابه.
وقيل : هو جلدة رقيقة يقال لها : لسان القلب حتى وصل إلى فؤادها ، وبهذا يحصل المبالغة في وصفها بالحب له ، وقيل : الشغاف سويداء القلب ، فالمبالغة حينئذ ظاهرة ، والى هذا يرجع ما روي عن الحسن من أن الشغاف باطن القلب ، وما حكي عن أبي علي من أنه وسطه والفعل مفتوح الغين المعجمة عند الجمهور.
وقرأ ثابت البناني بكسرها وهي لغة تميم ، وقرأ علي كرم اللّه تعالى وجه ، وعلي بن الحسين ، وابنه محمد ، وابنه جعفر رضي اللّه تعالى عنهما ، والشعبي ، وعوف الأعرابي - شعفها -
بفتح العين المهملة ، وهي رواية عن قتادة ، وابن هرمز ، ومجاهد ، وحميد ، والزهري ، وروي عن ثابت البناني «1» أنه قرأ كذلك أيضا إلا أنه كسر العين ، وهو من شعف البعير إذ هنأه فأحرقه بالقطران ، فالمعنى وصل حبه إلى قلبها فكاد يحترق ، ومن هذا قول الأعشى :
يعصي الوشاة وكان الحب آونة مما يزين للمشعوف ما صنعا
وذكر الراغب أنه من شعفة القلب وهي رأسه عند معلق النياط ، ويقال : لأعلى الجبل شعفة أيضا ، وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن ابن عباس أن الشغف الحب القاتل ، والشعف حب دون ذلك ، وأخرجا عن الشعبي أن الشغف الحب ، والشعف الجنون ، وأخرجا أيضا عن ابن زيد أن الشغف في الحب ، والشعف في البغض ، وهذا المعنى ممتنع الإرادة هنا على هذه القراءة ، وفي كتاب أسرار البلاغة في فصل ترتيب الحب أن أول مراتب الحب الهوى ، ثم العلاقة وهي الحب اللازم للقلب ، ثم الكلف وهو شدة الحب ، ثم العشق وهو اسم لما فضل عن المقدار المسمى بالحب ، ثم الشعف بالمهملة وهو احتراق القلب مع لذة يجدها ، وكذلك اللوعة واللاعج ، ثم الشغف بالمعجمة وهو أن يبلغ الحب شغاف القلب ، ثم الجوى وهو الهوى الباطن ، ثم التيم وهو أن يستعبده الحب ، ثم التبل وهو أن يسقمه الحب ، ثم التدله وهو ذهاب العقل من الحب ، ثم الهيوم وهو أن يذهب الرجل على وجهه لغلبة الهوى عليه ا ه.
ورتب بعضهم ذلك على طراز آخر واللّه تعالى أعلم ، وأيا ما كان فالجملة إما خبر ثان أو حال من فاعل تُراوِدُ أو من مفعوله ، والمقصود منها تكرير اللوم وتأكيد العذل ببيان اختلاف أحوالها القلبية كأحوالها القالبية ، وجوز أبو البقاء كونها استئنافية فهي حينئذ على ما قيل : في موضع التعليل لدوام المراودة ، وليس بذاك لأنه إن اعتبر من حيث الإنية كان مصيره إلى الاستدلال بالأخفى على الأجلى ، وإن اعتبر من حيث اللمية كان فيه ميل إلى تمهيد العذر من قبلها وليس المقام له ، وانتصاب حُبًّا على التمييز وهو محول عن الفاعل إذ الأصل قد شغفها حبه كما أشير إليه ، وأدغم النحويان ، وحمزة ، وهشام ، وابن محيصن دال قَدْ في شين شغفها.
إِنَّا لَنَراها أي نعلمها ، فالرؤية قلبية واستعمالها بمعنى العلم حقيقة كاستعمالها بمعنى الإحساس بالبصر ، وإذا أريد منها البصرية ثم تجوز بها عن العلمية كان أبلغ في إفادة كونها فيما صنعت من المراودة والمحبة المفرطة مستقرة فِي ضَلالٍ عظيم عن طريق الرشد والصواب أو سنن العقل مُبِينٍ واضح لا يخفى كونه ضلالا على أحد ، أو مظهر لأمرها بين الناس ، فالتنوين للتفخيم والجملة مقرّرة لمضمون الجملتين السابقتين المسوقتين للوم والتشنيع ، وتسجيل عليها بأنها في أمرها على خطأ عظيم ، وإنما لم يقلن : إنها لفي ضلال مبين إشعارا كما قيل : بأن ذلك الحكم
___________
(1) وروى ذلك عن أبي رجاء أيضا ا ه منه.==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مقدمة ابن الصلاح تقي الدين عثمان بن عبدالرحمن المعروف بابن الصلاح

     مقدمة ابن الصلاح  تقي الدين عثمان بن عبدالرحمن المعروف بابن الصلاح  يعد هذا الكتاب أشهر كتاب في علم مصطلح الحديث على الإطلاق ذكر في...