الدعاء

اللهم فكما ألهمت بإنشائه وأعنت على إنهائه فاجعله نافعاً في الدنيا وذخيرة صالحة في الأخرى واختم بالسعادة آجالنا وحقق بالزيادة آمالنا واقرن بالعافية غدونا وآصالنا واجعل إلى حصنك مصيرنا ومآلنا وتقبل بفضلك أعمالنا إنك مجيب الدعوات ومفيض الخيرات والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين اللهم لنا جميعا يا رب العالمين .وسبحان الله وبحمده  عدد خلقه وزنة عرشه  ورضا نفسه ومداد كلماته  } أقولها ما حييت وبعد موتي  والي يوم الحساب وارحم  واغفر اللهم لوالديَّ ومن مات من اخوتي واهلي والمؤمنين منذ خَلَقْتَ الخلق الي يوم الحساب آمين وفرِّجِ كربي وردَّ اليَّ عافيتي وارضي عني في الدارين  واعِنِّي علي أن اُنْفِقها في سبيلك يا ربي اللهم فرِّج كربي واكفني همي واكشف البأساء والضراء عني وعنا.. وردَّ إليَّ عافيتي وثبتني علي دينك الحق ولا تُزِغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب اللهم وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وتوفنا مع الأبرار وألِّفْ بين قلوبنا اجمعين.يا عزيز يا غفار ... اللهم واشفني شفاءاً لا يُغَادر سقما واعفو عني وعافني وارحمني وفرج كربي واكفني همي واعتقني مما أصابني من مكروه أنت تعلمه واعتقني من النار وقني عذاب القبر وعذاب جهنم وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال ومن المأثم والمغرم ومن غلبة الدين وقهر الرجال اللهم آمين /اللهم ربي اشرح لي صدري ويسر لي أمري وأحلل عُقَد لساني واغنني بك عمن سواك يارب . والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين آمين.

الاثنين، 29 أغسطس 2022

ج11.و12.روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ( نسخة محققة ) المؤلف : شهاب الدين محمود ابن عبد الله الحسيني الآلوسي

 

11. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ( نسخة محققة )
المؤلف : شهاب الدين محمود ابن عبد الله الحسيني الآلوسي

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 199
فلم يبق إلا الواجب ، وقيل : غير ذلك ، وما ذكره مبني على أن الاحتجاج كان مع نفسه عليه السلام وهو الذي ذهب إليه البعض من المفسرين ورووا في ذلك خبرا طويلا وهو مذكور في كثير من الكتب مشهور بين العامة ، والمختار عندي ما علمت والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 84 إلى 110]
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (88)
أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90) وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)
وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 200
وَوَهَبْنا لَهُ أي لإبراهيم عليه السلام إِسْحاقَ وهو ولده من سارة عاش مائة وثمانين سنة. وفي نديم الفريد أن معنى إسحاق بالعربية الضحاك وَيَعْقُوبَ وهو ابن إسحاق عاش مائة وسبعا وأربعين سنة ، والجملة عطف على قوله تعالى : وَتِلْكَ حُجَّتُنا إلخ ، وعطف الفعلية على الاسمية مما لا نزاع في جوازه ، ويجوز على بعد أن تكون عطفا على جملة آتَيْناها بناء على أنها لا محل لها من الإعراب كما هو أحد الاحتمالات.
وقوله تعالى : كُلًّا مفعول لما بعده وتقديمه عليه للقصر لا بالنسبة إلى غيرهما بل بالنسبة إلى أحدهما أي كل واحد منهما هَدَيْنا لا أحدهما دون الآخر ، وقيل : المراد كلّا من الثلاثة ، وعليه الطبرسي. واختار كثير من المحققين الأول أن هداية إبراهيم عليه السلام معلومة من الكلام قطعا وترك ذكر المهدي إليه لظهور أنه الذي أوتي إبراهيم عليه السلام فإنهما متعبدان به.
وقال الجبائي : المراد هديناهم بنيل الثواب والكرامات وَنُوحاً قال شيخ الإسلام : منصوب بمضمر يفسره هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ ولعله إنما لم يجعله مفعولا مقدما للمذكور لئلا يفصل بين العاطف والمعطوف بشيء أو يخلو التقديم عن الفائدة السابقة أعني القصر ولا يخلو ذلك عن تأمل أي من قبل إبراهيم عليه السلام.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 201
ونوح - كما قال الجواليقي - أعجمي معرب زاد الكرماني ، ومعناه بالسريانية الساكن ، وقال الحاكم في المستدرك : إنما سمي نوحا لكثرة بكائه على نفسه واسمه عبد الغفار ، والأول أثبت عندي ، وأكثر الصحابة رضي الله تعالى عنهم - كما قال الحاكم - أنه عليه السلام كان قبل إدريس عليه السلام - وذكر النسابون أنه ابن لمك بفتح اللام وسكون الميم بعدها كاف ابن متوشلخ بفتح الميم وتشديد المثناة المضمومة بعدها واو ساكنة وفتح الشين المعجمة واللام والخاء المعجمة ابن أخنوخ بفتح المعجمة وضم النون الخفيفة وبعدها واو ساكنة ثم معجمة وهو إدريس فيما يقال. وروى الطبراني عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال : «قلت يا رسول الله من أول الأنبياء؟ قال : آدم عليه السلام قلت : ثم من؟ قال نوح عليه السلام : وبينهما عشرة قرون»
وهذا ظاهر في أن إدريس عليه السلام لم يكن قبله.
وذكر ابن جرير أن مولده عليه السلام كان بعد وفاة آدم عليه السلام بمائة وستة وعشرين عاما. وذكره سبحانه هنا قيل لأنه لما ذكر سبحانه إنعامه على خليله من جهة الفرع ثني بذكر إنعامه عليه من جهة الأصل فإن شرف الوالد سار إلى الولد ، إنما ذكره سبحانه لأن قومه عبدوا الأصنام فذكره ليكون له به أسوة ، وأما أنه ذكر لما مر فلا إذ لا دلالة على علاقة الأبوة ليقبل. ودلالة مِنْ قَبْلُ على ذلك غير ظاهرة. وقنع بعضهم بالشهرة عن ذلك وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ الضمير عند جمع لإبراهيم عليه السلام لأن مساق النظم الجليل لبيان شؤونه وما من الله تعالى به عليه من إيتاء الحجة ورفع الدرجات وهبة الأولاد الأنبياء وإبقاء هذه الكرامة في نسله كل ذلك لإلزام من ينتمي إلى ملته من المشركين واليهود ، واختار آخرون كونه لنوح عليه السلام لأنه أقرب ولأنه ذكر في الجملة لوطا عليه السلام وليس من ذرية إبراهيم بل كان ابن أخيه كما سيأتي إن شاء الله تعالى آمن به وشخص معه مهاجرا إلى الشام فأرسله الله تعالى إلى أهل سدوم ، وكذلك يونس عليه السلام لم يكن من ذريته فيما ذكر محيي السنة فلو كان الضمير له لاختص بالمعدودين في هذه الآية والتي بعدها ، وأما المذكورون في الآية الثالثة فعطف على - نوحا - ولا يجب أن يعتبر في المعطوف ما هو قيد في المعطوف عليه ، ولا يضر ذكر إسماعيل هناك وإن كان من ذرية إبراهيم عليهما السلام لأن السكوت عن إدراجه في الذرية لا يقتضي أنه ليس منهم وإنما لم يعد - كما قال بعض المحققين - : في موهبته كإسحاق لأن هبة إسحاق كانت في كبره وكبر زوجته فكانت في غاية الغرابة ، وذكر يعقوب لأن إبقاء النبوة بطنا بعد بطن غاية النعمة ، ولم يعطف «كلا هدينا» لأنه مؤكد لكونه نعمة.
ومن الناس من ادعى أن يونس عليه السلام من ذرية إبراهيم صلّى اللّه عليه وسلّم وصرح في جامع الأصول أنه كان من الأسباط في زمن شعيا ، وحينئذ يبقى لوط فقط خارجا ولا يترك له إرجاع الضمير على إبراهيم وجعله مختصا بالمعدودين في الآيات الثلاث لأنه لما كان ابن أخيه آمن به وهاجر معه أمكن أن يجعل من ذريته على سبيل التغليب كما قال الطيبي.
وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هؤلاء الأنبياء عليهم السلام كلهم مضافون إلى ذرية إبراهيم وإن كان منهم من لم يلحقه بولادة من قبل أم ولا أب لأن لوطا ابن أخي إبراهيم والعرب تجعل العم أبا كما أخبر الله تعالى عن أبناء يعقوب أنهم قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [البقرة : 133] مع أن إسماعيل عم يعقوب. والجار والمجرور متعلق بفعل مضمر مفهوم مما سبق ، وقيل : بمحذوف وقع حالا من المذكورين في الآية واختير الأول أي وهدينا من ذريته داوُدَ هو - كما قال الجلال السيوطي - ابن ايشا بكسر الهمزة وسكون الياء المثناة التحتية وبالشين المعجمة ابن عوبر بمهملة وموحدة بوزن جعفر بن عابر بموحدة ومهملة مفتوحة ابن سلمون بن يخيثون ابن عمي بن يا رب - بتحتية وآخره باء موحدة - ابن رام بن حضرموت بمهملة ثم معجمة بن فارض بفاء وآخره مهملة بن يهوذا بن يعقوب.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 202
قال كعب : كان أحمر الوجه سبط الرأس أبيض الجسم طويل اللحية فيها جعودة حسن الصوت والخلق وجمع له بين النبوة والملك ونقل النووي عن المؤرخين أنه عاش مائة سنة ومدة ملكه منها أربعون وله اثنا عشر ابنا.
وَسُلَيْمانَ ولده ، قال كعب : كان أبيض جسيما وسيما وضيئا جميلا خاشعا متواضعا وكان أبوه يشاوره في كثير من أموره في صغر سنه لوفور عقله وعلمه ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه ملك الأرض ، وعن المؤرخين أنه ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة وابتدأ بناء بيت المقدس بعد ملكه بأربع سنين وتوفي وله ثلاث وخمسون سنة ، وتقديم المفعول الصريح للاهتمام بشأنه مع ما في المفاعيل من نوع طول ربما يخل تأخيره بتجاوب النظم الكريم وَأَيُّوبَ قال ابن جرير : هو ابن موص بن روم بن عيص بن إسحاق. وقيل : ابن موص بن تارخ بن روم إلخ ، وحكى ابن عساكر أن أمه بنت لوط عليه السلام وأن أباه ممن آمن بإبراهيم فهو قبل موسى عليه السلام وقال ابن جرير : إنه كان بعد شعيب ، وقال ابن أبي خيثمة كان بعد سليمان ، وروى الطبراني أن مدة عمره كانت ثلاثا وتسعين سنة
وَيُوسُفَ وهو على الصحيح المشهور ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ويشهد له ما
أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة مرفوعا إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
عاش مائة وعشرين سنة وفيه ست لغات تثليث السين مع الياء والهمز والصواب أنه أعجمي لا اشتقاق له وَمُوسى وهو ابن عمران بن يصهر بن ماهيث بن لاوي بن يعقوب ولا خلاف في نسبه وهو اسم سرياني.
وأخرج أبو الشيخ من طريق عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : إنما سمي موسى لأنه ألقي بين شجر وماء فالماء بالقبطية مو والشجر شا ، وفي الصحيح وصفه بأنه آدم طوال جعد كأنه من رجال شنوءة وعاش - كما قال الثعلبي - مائة وعشرين سنة
وَهارُونَ أخوه شقيقه ، وقيل : لأمه ، وقيل : لأبيه فقط حكاهما الكرماني في عجائبه مات قبل موسى عليهما السلام وكان ولد قبله بسنة وفي بعض أحاديث الإسراء صعدت إلى السماء الخامسة فإذا أنا بهارون ونصف لحيته أبيض ونصفها أسود تكاد تضرب سرته من طولها فقلت : يا جبرائيل من هذا؟ قال :
المحبب في قومه هارون بن عمران.
وذكر بعضهم أن معنى هارون بالعبرانية المحبب وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ قيل : أي نجزيهم مثل ما جزينا إبراهيم عليه السلام برفع درجاته وكثرة أولاده والنبوة فيهم ، والمراد مطلق المشابهة في مقابلة الإحسان بالإحسان والمكافآت بين الأعمال والأجزية من غير بخس لا المماثلة من كل وجه لأن اختصاص إبراهيم صلّى اللّه عليه وسلّم بكثرة النبوة في عقبه أمر مشهور.
واختار بعض المحققين كون التشبيه على حد ما تقدم في قوله تعالى : وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة : 143] ونظائره ، وال في الْمُحْسِنِينَ للعهد ، والإظهار في موضع الإضمار للثناء عليهم بالإحسان الذي هو عبارة عن الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفي المقارن لحسنها الذاتي ، وقد فسره صلّى اللّه عليه وسلّم
بقوله «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»
والجملة اعتراض مقرر لما قبلها.
وَزَكَرِيَّا هو ابن ازن بن بركيا كان من ذرية سليمان عليهما السلام وقتل بعد قتل ولده وكان له يوم بشر به اثنتان وتسعون ، وقيل : تسع وتسعون ، وقيل : مائة وعشرون سنة وهو اسم أعجمي وفيه خمس لغات أشهرها المد والثانية القصر وقرىء بهما في السبع وزكري بتشديد الياء وتخفيفها وزكر كقلم.
وَيَحْيى ابنه وهو اسم أعجمي ، وقيل : عربي ، وعلى القولين - كما قال الواحدي - لا ينصرف ، وسمي بذلك على القول الثاني لأنه حيي به رحم أمه ، وقيل : غير ذلك وَعِيسى ابن مريم وهو اسم عبراني أو سرياني وفي الصحيح أنه ربعة أحمر
كأنما خرج من ديماس وفي ذكره عليه السلام دليل على أن الذرية يتناول أولاد البنات لأن

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 203
انتسابه ليس إلا من جهة أمه وأورد عليه أنه ليس له أب يصرف إضافته إلى الأم إلى نفسه فلا يظهر قياس غيره عليه في كونه ذرية لجده من الأم.
وتعقب بأن مقتضى كونه بلا أب أن يذكر في حيز الذرية وفيه منع ظاهر والمسألة خلافية ، والذاهبون إلى دخول ابن البنت في الذرية يستدلون بهذه الآية وبها احتج موسى الكاظم رضي الله تعالى عنه على ما رواه البعض عن الرشيد. وفي التفسير الكبير أن أبا جعفر رضي الله تعالى عنه استدل بها عند الحجاج بن يوسف وبآية المباهلة حيث دعا صلّى اللّه عليه وسلّم الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما بعد ما نزل تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ [آل عمران : 61].
وادعى بعضهم أن هذا من خصائصه صلّى اللّه عليه وسلّم وقد اختلف إفتاء أصحابنا في هذه المسألة ، والذي أميل إليه القول بالدخول وَإِلْياسَ قال ابن إسحاق في المبتدأ : هو ابن يس بن فنحاص بن العيزار بن هارون أخي موسى بن عمران عليهم السلام. وحكى القتبي أنه من سبط يوشع ، وقيل : من ولد إسماعيل عليه السلام. وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه إدريس وهو - على ما قال ابن إسحاق - ابن يرد بن مهلاييل بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم وهو جد نوح كما أشرنا إليه وروي ذلك عن وهب بن منبه ، وفي المستدرك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان بين نوح وإدريس ألف سنة وعلى القول بأنه قبل نوح يكون البيان مختصا بمن في الآية الأولى ، ونص الشهاب أن قوله تعالى : وَزَكَرِيَّا وما بعده حينئذ معطوفا على مجموع الكلام السابق كُلٌّ أي كل واحد من أولئك المذكورين مِنَ الصَّالِحِينَ أي الكاملين في الصلاح الذي هو عبارة عن الإتيان بما ينبغي والتحرز عما لا ينبغي وهو مقول بالتشكيك فيوصف بما هو من أعلى مراتب الأنبياء عليهم السلام والجملة اعتراض جيء بها للثناء عليهم بمضمونها وَإِسْماعِيلَ هو - كما قال النووي - أكبر ولد إبراهيم عليه السلام ويقال - كما نقل عن الجواليقي - بالنون آخره قيل ومعناه : مطيع الله وَالْيَسَعَ قال ابن جرير : هو ابن أخطوب بن العجوز. وقرأ حمزة. والكسائي «الليسع» بوزن ضيغم وهو أعجمي دخلت عليه اللام على خلاف القياس وقارنت النقل فجعلت علامة التعريب كما قاله التبريزي ونص على أن استعماله بدونها خطأ يغفل عنه الناس فليس كاليزيد في قوله :
رأيت الوليد بن اليزيد مباركا شديدا بأعباء الخلافة كاهله
ومن جميع الوجوه ، وهو على القراءة الأولى أعجمي أيضا ، وقيل : إنه معرب يوشع وقيل : عربي منقول من يسع مضارع وسع وَيُونُسَ وهو ابن متى بفتح الميم وتشديد التاء الفوقية مقصور كحتى ويقال متتى بالفك وهو اسم أبيه كما قاله ابن حجر وغيره من الحفاظ ، وقع في تفسير عبد الرزاق أنه اسم أمه وهو مردود ولم نقف كغيرنا على اتصال نسبه عليه السلام ، وقد مر ما في جامع الأصول. وقيل : إنه كان في زمن ملوك الطوائف من الفرس وهو مثلث النون ويهمز.
وقرأ أبو طلحة «يونس» بكسر النون قيل : أراد أن يجعله عربيا من أنس وهو شاذ وَلُوطاً قال ابن إسحاق :
هو ابن هاران بن آزر ، وفي المستدرك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه ابن أخي إبراهيم ولم يصرح باسم أبيه وَكلًّا أي كل واحد من هؤلاء المذكورين لا بعضهم دون بعض فَضَّلْنا بالنبوة عَلَى الْعالَمِينَ أي عالمي عصرهم ، والجملة اعتراض كأختيها ، وفيها دليل على أن الأنبياء أفضل من الملائكة وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ «1» وَإِخْوانِهِمْ يحتمل - كما قيل - أن يتعلق بما تعلق به من ذريته ومن ابتدائية والمفعول محذوف أي
___________
(1) في اصل المصنف بدل وذرياتهم وأبنائهم وهو سبق قلم وجرينا على ما في المصحف العثماني تنبه.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 204
وهدينا من آبائهم وأبنائهم وإخوانهم جماعات كثيرة أو معطوف على كلًّا فَضَّلْنا ومن تبعيضية أي فضلنا بعض آبائهم إلخ.
وجعله بعضهم عطفا على نوحا ، ومن واقعة موقع المفعول به مؤولا ببعض. واعتبار البعضية لما أن منهم من لم يكن نبيا ولا مهديا قيل : وهذا في غير الآباء لأن آباء الأنبياء كلهم مهديون موحدون ، وأنت تعلم أن هذا مختلف فيه نظرا إلى آباء نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم وكثير من الناس من وراء المنع فما ظنك بآباء غيره من الأنبياء عليهم السلام.
ولا يخفى أن إضافة الآباء والأبناء والإخوان إلى ضمير هم لا يقتضي أن يكون لكل منهم أب أو ابن أو أخ فلا تغفل وَاجْتَبَيْناهُمْ عطف على فَضَّلْناهُمْ أي اصطفيناهم وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تكرير للتأكيد وتمهيد لبيان ما هدوا إليه ولم يظهر لي السر في ذكر هؤلاء الأنبياء العظام عليهم من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل السلام على هذا الأسلوب المشتمل على تقديم فاضل على أفضل ومتأخر بالزمان على متقدم به وكذا السر في التقرير أولا بقوله تعالى : وَكَذلِكَ نَجْزِي إلخ وثانيا بقوله سبحانه : وكُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ والله تعالى أعلم بأسرار كلامه.
ذلِكَ أي الهدى إلى الطريق المستقيم أو ما يفهم من النظم الكريم من مصادر الأفعال المذكورة أو ما دانوا به ، ما في ذلك من معنى البعد لما مر مرارا هُدَى اللَّهِ الإضافة للتشريف يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ هدايته مِنْ عِبادِهِ وهم المستعدون لذلك ، وفي تعليق الهداية بالموصول إشارة إلى علية مضمون الصلة ويفيد ذلك أنه تعالى متفضل بالهداية وَلَوْ أَشْرَكُوا أي أولئك المذكورون لَحَبِطَ أي لبطل وسقط عَنْهُمْ مع فضلهم وعلو شأنهم ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي ثواب أعمالهم الصالحة فكيف بمن عداهم وهم هم وأعمالهم أعمالهم أُولئِكَ إشارة إلى المذكورين من الأنبياء الثمانية عشر والمعطوفين عليهم عليهم السلام باعتبار اتصافهم بما ذكر من الهداية وغيرها من النعوت الجليلة كما قيل. واقتصر الإمام على المذكورين من الأنبياء. وعن ابن بشير قال : سمعت رجلا سأل الحسن عن أولئك فقال له : من في صدر الآية وهو مبتدأ خبره قوله سبحانه : الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ أي جنسه. والمراد بإيتائه التفهيم التام لما فيه من الحقائق والتمكين من الإحاطة بالجلائل والدقائق أعم من أن يكون ذلك بالإنزال ابتداء وبالإيراث بقاء فإن ممن ذكر من لم ينزل عليه كتاب معين. وَالْحُكْمَ أي فصل الأمر بين الناس بالحق أو الحكمة وهي معرفة حقائق الأشياء وَالنُّبُوَّةَ فسرها بعضهم بالرسالة. وعلل بأن المذكورين هنا رسل لكن في المحاكمات لمولانا أحمد بن حيدر الصفوي أن داود عليه السلام ليس برسول وإن كان له كتاب ولم أجد في ذلك نصا. وذهب بعضهم إلى أن يوسف بن يعقوب عليه السلام ليس برسول أيضا. ويوسف في قوله تعالى : وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ ليس هو يوسف بن يعقوب عليهما السلام وإنما هو يوسف بن إفرائيم بن يوسف ابن يعقوب وهو غريب. وأغرب منه القول بأنه كان من الجن رسولا إليهم.
وقال الشهاب : قد يقال إنما ذكر الأعم في النظم الكريم لأن بعض من دخل في عموم آبائهم وذرياتهم ليسوا برسل فَإِنْ يَكْفُرْ بِها أي بهذه الثلاثة أو بالنبوة الجامعة للباقين هؤُلاءِ أي أهل مكة كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة مع دلالة الإشارة والمقام على ما قيل. وقيل : المراد بهم الكفار الذين جحدوا بنبوته صلّى اللّه عليه وسلّم مطلقا ، وأيّا ما كان فكفرهم برسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم وما أنزل عليه من القرآن يستلزم كفرهم مما يصدقه جميعا. وتقديم الجار والمجرور على الفاعل لما مر غيره مرة فَقَدْ وَكَّلْنا بِها أي أمرنا برعايتها ووفقنا للإيمان بها والقيام بحقوقها قَوْماً فخاما لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ في وقت من الأوقات بل مستمرون على الإيمان بها ، والمراد بهم على ما أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 205
عنهما وعبد بن حميد عن سعيد بن المسيب أهل المدينة من الأنصار. وقيل : أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مطلقا ، وقيل : كل مؤمن من بني آدم عليه السلام. وقيل : الفرس فإن كلا من هؤلاء الطوائف موفقون للإيمان بالأنبياء وبالكتب المنزلة إليهم عاملون بما فيها من أصول الشرائع وفروعها الباقية في شريعتنا. وعن قتادة أنهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام المذكورون وعليه يكون المراد بالتوكيل الأمر بما هو أعم من إجراء أحكامها كما هو شأنهم في حق كتابهم ومن اعتقاد حقيتها كما هو شأنهم في حق سائر الكتب التي نور فرقها القرآن ، ورجح واختار هذا الزجاج. ورجحه الزمخشري بوجهين ، الأول أن الآية التي بعد إشارة إلى الأنبياء المذكورين عليهم السلام فإن لم يكن الموكلون هم لزم الفصل بالأجنبي. الثاني أنه مرتب بالفاء على ما قبله فيقتضي ذلك ، واستبعده بعضهم فإن الظاهر كون مصدق النبوة ومنكرها مغايرا لمن أوتيها.
وأخرج ابن حميد وغيره عن أبي رجاء العطاري أنهم الملائكة فالتوكيل حينئذ هو الأمر بإنزالها وحفظها واعتقاد حقيتها ، واستبعده الإمام لأن القوم قلما يقع على غير بني آدم ، وأيّا ما كان فتنوين قَوْماً للتفخيم كما أشرنا إليه.
وهو مفعول وَكَّلْنا وبِها قبله متعلق بما عنده ، وتقديمه على المفعول الصريح لما مر ولأن فيه طولا ربما يؤدي تقديمه إلى الإخلال بتجاوب النظم الكريم أو إلى الفصل بين الصفة والموصوف. والباء التي بعد صلة لكافرين قدمت محافظة على الفواصل والتي بعدها لتأكيد النفي. وجواب الشرط محذوف يدل عليه جملة فَقَدْ وَكَّلْنا إلخ أي فإن يكفر بها هؤلاء فلا اعتداد به أصلا فقد وفقنا للإيمان قوما مستمرين على الإيمان بها والعمل بما فيها ففي إيمانهم مندوحة عن إيمان هؤلاء ، ومن هذا يعلم أن الأرجح - كما قال شيخ الإسلام - تفسير القوم بإحدى الطوائف ممن عدا الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام إذ بإيمانهم بالقرآن والعمل بأحكامه يتحقق الغنية عن إيمان الكفرة به والعمل بأحكامه ولا كذلك إيمان الأنبياء والملائكة عليهم السلام أُولئِكَ أي الأنبياء المذكورون كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والسدي ، وابن زيد ، وقيل : الإشارة إلى المؤمنين الموكلين.
وروي ذلك عن الحسن وقتادة ولا يخفى ما فيه ، وهو مبتدأ خبره قوله سبحانه : الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ أي هديناهم إلى الحق والصراط المستقيم ، والالتفات إلى الاسم الجليل للإشعار بعلة الهداية وحفظ المهدي إليه اعتمادا على غاية ظهوره فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ أي اجعل هداهم منفردا بالاقتداء واجعل الاقتداء مقصورا عليه ، والمراد بهداهم عند جمع طريقهم في الإيمان بالله تعالى وتوحيده وأصول الدين دون الشرائع القابلة للنسخ فإنها بعد النسخ لا تبقى هدى وهم أيضا مختلفون فيها فلا يمكن التأسي بهم جميعا ، ومعنى أمره صلّى اللّه عليه وسلّم بالاقتداء بذلك الأخذ به لا من حيث إنه طريق أولئك الفخام بل من حيث إنه طريق العقل والشرع ففي ذلك تعظيم لهم وتنبيه على أن طريقهم هو الحق الموافق لدليل العقل والسمع ، وبهذا أجاب العلامة الثاني عما أورده سؤالا من أن الواجب في الاعتقادات وأصول الدين هو اتباع الدليل من العقل والسمع فلا يجوز سيما للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن يقلد غيره فما معنى أمره عليه الصلاة والسلام بالاقتداء. وأورد عليه أن اعتقاده عليه الصلاة والسلام حينئذ ليس لأجل اعتقادهم بل لأجل الدليل فلا معنى لأمره بالاقتداء بذلك. واعترض أيضا بأن الأخذ بأصول الدين حاصل له قبل نزول الآية فلا معنى للأمر بأخذ ما قد أخذ قبل ، اللهم إلا أن يحمل على الأمر بالثبات عليه.
وحقق القطب الرازي في حواشيه على الكشاف أنه يتعين أن الاقتداء المأمور به ليس إلا في الأخلاق الفاضلة والصفات الكاملة كالحلم ، والصبر ، والزهد ، وكثرة الشكر ، والتضرع ونحوها ويكون في الآية دليل على أنه صلّى اللّه عليه وسلّم أفضل منهم قطعا لتضمنها أن الله تعالى هدى أولئك الأنبياء عليهم السلام إلى فضائل الأخلاق وصفات الكمال وحيث أمر رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم أن يقتدي بهداهم جميعا امتنع للعصمة أن يقال : إنه لم يمتثل فلا بد أن يقال : إنه عليه

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 206
الصلاة والسلام قد امتثل وأتى بجميع ذلك وحصل تلك الأخلاق الفاضلة التي في جميعهم فاجتمع فيه من خصال الكمال ما كان متفرقا فيهم وحينئذ يكون أفضل من جميعهم قطعا كما أنه أفضل من كل واحد منهم وهو استنباط حسن.
واستدل بعضهم بها على أنه صلّى اللّه عليه وسلّم متعبد بشرع من قبله وليس بشيء ، وفي أمره عليه الصلاة والسلام بالاقتداء بهداهم دون الاقتداء بهم ما لا يخفى من الإشارة إلى علو مقامه صلّى اللّه عليه وسلّم عند أرباب الذوق ، والهاء في اقْتَدِهْ هاء السكت التي تزاد في الوقف ساكنة ، وقد تثبت في الدرج ساكنة أيضا إجراء للوصل مجرى الوقف ، وبذلك قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم. ويحذف الهاء في الوصل خاصة حمزة ، والكسائي ، وقرأ ابن عامر «اقتده» بكسر الهاء من غير إشباع وهو الذي تسميه القراء اختلاسا وهي رواية هشام عنه. وروى غيره أشباعها وهو كسرها ووصلها بياء ، وزعم أبو بكر بن مجاهد أن قراءة ابن عامر غلط معللا ذلك بأن الهاء هاء الوقف فلا تحرك في حال من الأحوال.
وإنما تذكر ليظهر بها حركة ما قبلها. وتعقبه أبو علي الفارسي بأن الهاء ضمير المصدر وليست هاء السكت أي» اقتد الاقتداء» ومثله كما قال أبو البقاء قوله :
هذا سراقة للقرآن يدرسه والمرء عند الوشا إن يلقها ذيب
فإن الهاء فيه ضمير الدرس لا مفعول لأن يدرس قد تعدى إلى القرآن. وقال بعضهم : إن هاء السكت قد تحرك تشبيها لها بهاء الضمير ، والعرب كثيرا ما تعطي الشيء حكم ما يشبهه وتحمله عليه ، وقد روي قول أبي الطيب :
وأحر قلباه مما قلبه شبم بضم الهاء وكسرها على أنها هاء السكت شبهت بهاء الضمير فحركت. واستحسن صاحب الدر المصون جعل الكسر لالتقاء الساكنين لا لشبه الضمير لأن هاءه لا تكسر بعد الألف فكيف ما يشبهها. وزعم الإمام أن إثبات الهاء في الوصل للاقتداء بالإمام ولا يقتدى به في ذلك لأنه يقتضي أن القراءة بغير نقل تقليدا للخط هو وهم قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ أي لا أطلب عَلَيْهِ أي على القرآن أو على التبليغ فإن مساق الكلام يدل عليهما وإن لم يجر ذكرهما أَجْراً أي جعلا قل أو أكثر كما لم يسأله من قبلي من الأنبياء عليهم السلام أممهم قيل : وهذا من جملة ما أمرنا بالاقتداء به من هداهم عليهم السلام ، وهو ظاهر على ما قاله القطب لأن الكف عن أخذ أجر في مقابلة الإحسان من مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال ، وأما على قول من خص الهدى السابق بالأصول فقد قيل : إن بين القول به والقول بذلك الاختصاص تنافيا. وأجيب بأن استفادة الاقتداء بالأصول من الأمر الأول لا ينافي أن يؤمر عليه الصلاة والسلام بالاقتداء بأمر آخر كالتبليغ. وتقديم المتعلق هناك إنما هو لنفي اتباع طريقة غيرهم في شيء آخر.
واستدل بالآية على أنه يحل أخذ الأجر للتعليم وتبليغ الأحكام. وفيه كلام للفقهاء على طوله مشهور غني عن البيان.
إِنْ هُوَ أي القرآن إِلَّا ذِكْرى أي تذكير فهو مصدر ، وحمله على ضمير القرآن للمبالغة ولا حاجة لتأويله بمذكر لِلْعالَمِينَ كافة فلا يختص به قوم دون آخرين واستدل بالآية على عموم بعثته صلّى اللّه عليه وسلّم.
وَما قَدَرُوا اللَّهَ لما حكى سبحانه عن إبراهيم عليه السلام أنه ذكر دليل التوحيد وإبطال الشرك ، وقرر جل شأنه ذلك الدليل بأوضح وجه شرع سبحانه بعد في تقرير أمر النبوة لأن مدار أمر القرآن على إثبات التوحيد ،

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 207
والنبوة ، والمعاد. وبهذا ترتبط الآية بما قبلها - كما قال الإمام - وأولى منه ما قيل : إنه سبحانه «1» شأن القرآن العظيم وأنه نعمة جليلة منه تعالى على كافة الأمم حسبما نطق به قوله عز وجل : وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء :
107] عقب ذلك ببيان غمطهم إياها وكفرهم بها على وجه سرى ذلك إلى الكفر بجميع الكتب الإلهية وأصل القدر معرفة المقدار بالسبر ثم استعمل في معرفة الشيء على أتم الوجوه حتى صار حقيقة فيه ، وقال الواحدي : يقال قدر الشيء إذا سبره وأراد أن يعلم مقداره يقدره بالضم قدرا ، وقال صلّى اللّه عليه وسلّم : «إن غم عليكم فاقدروا له»
أي فاطلبوا أن تعرفوه ، ثم قيل : لمن عرف شيئا هو يقدر قدره وإذا لم يعرفه بصفاته إنه لا يقدر قدره.
واختلف التفسير هنا. فعن الأخفش أن المعنى ما عرفوا الله تعالى حَقَّ قَدْرِهِ أي حق معرفته. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما عظموا الله تعالى حق تعظيمه. وقال أبو العالية : ما وصفوه حق صفته والكل محتمل.
واختار بعض المحققين ما عليه الأخفش لأنه الأوفق بالمقام أي ما عرفوه سبحانه معرفته الحق في اللطف بعباده والرحمة عليهم ولم يراعوا حقوقه تعالى في ذلك بل أخلوا بها إخلالا عظيما إِذْ قالُوا منكرين لبعثه الرسل عليهم الصلاة والسلام وإنزال الكتب كافرين بنعمه الجليلة فيهما أو ما عرفوه جل شأنه حق معرفته في السخط على الكفار وشدة بطشه بهم حين اجترءوا على إنكار ذلك بقولهم : ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ أي شيئا من الأشياء فمن للتأكيد ونصب حَقَّ على المصدرية وهو - كما قال أبو البقاء - في الأصل صفة للمصدر أي قدره الحق فلما أضيف إلى موصوفه انتصب على ما كان ينتصب عليه. وإِذْ ظرف «2» للزمان الزمان وهل فيها معنى العلة هنا أم لا؟ احتمالان ، وأبو البقاء يعلقها بقدروا وليس بالمتعين. وقرىء «قدره» بفتح الدال.
واختلف في قائلي ذلك القول الشنيع ، فأخرج أبو الشيخ عن مجاهد أنهم مشركو قريش. والجمهور على أنهم اليهود ومرادهم من ذلك الطعن في رسالته صلّى اللّه عليه وسلّم على سبيل المبالغة فقيل لهم على سبيل الإلزام : قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى فإن المراد أنه تعالى قد أنزل التوراة على موسى عليه السلام ولا سبيل لكم إلى إنكار ذلك فلم لا تجوزون إنزال القرآن على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وبهذا ينحل استشكال ما عليه الجمهور بأن اليهود يقولون إن التوراة كتاب الله تعالى أنزله على موسى عليه السلام فكيف يقولون : «ما أنزل الله على بشر من شي ء» وحاصل ذلك أنهم أبرزوا إنزال القرآن عليه عليه الصلاة والسلام في صورة الممتنعات حتى بالغوا في إنكاره فألزموا بتجويزه ، وقيل :
إن صدور هذا القول كان عن غضب وذهول عن حقيقته ،
فقد أخرج ابن جرير والطبراني عن سعيد بن جبير أن مالك ابن الصيف من أحبار اليهود «3» قال لرسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم : أنشدك الله تعالى الذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أن الله تعالى يبغض الحبر السمين فأنت الحبر السمين قد سمنت من مالك الذي يطعمك اليهود فضحك القوم فغضب فالتفت إلى عمر رضي الله تعالى عنه فقال : ما أنزل الله على بشر من شيء فقال له قومه : ما هذا الذي بلغنا عنك؟ قال :
إنه أغضبني فنزعوه وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف فأنزل الله تعالى هذه الآية ،
واعترض بأن هذا لا يلائم الإلزام بإنزال التوراة على موسى عليه السلام فقد اعترف القائل بأنه إنما صدر ذلك عنه من الغضب فليفهم. ولا يرد أن هذه السورة مكية والمناظرات التي وقعت بين رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم وبين اليهود كلها مدنية فلا يتأتى القول بأن الآية نزلت في اليهود
___________
(1) قوله «سبحانه شأن القرآن كذا بخطه وتأمله.
(2) قوله للزمان الزمان كذا يخطه ولعله للزمان الماضي. وجل من لا يسبق قلمه.
(3) قوله قال لرسول إلخ كذا بخطه ولعل الاولى قال له رسول الله إلخ.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 208
لما أخرج أبو الشيخ عن سفيان والكلبي أن هذه الآية مدنية ، واستشكل أيضا قول مجاهد بأن مشركي قريش كما ينكرون رسالة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ينكرون رسالة سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكيف يحسن إيراد هذا الإلزام عليهم.
ودفع بأن ذلك لما أنه كان إنزال التوراة من المشاهير الذائعة ولذلك كانوا يقولون : لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ [الأنعام : 157] حسن إلزامهم بما ذكر ، ومع هذا ما ذهب إليه الجمهور أحرى بالقبول. ومن الناس من ادعى أن في الآية حجة من الشكل الثالث وهي أن موسى بشر وموسى أنزل عليه كتاب ينتج أن بعض البشر أنزل عليه كتاب وتؤخذ الصغرى من قوة الآية والكبرى من صريحها والنتيجة موجبة جزئية تكذب السالبة الكلية التي ادعتها اليهود وهي لا شيء من البشر أنزل عليه كتاب المأخوذة من قولهم : وما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ وإنما نتجت هاتان الشخصيتان مع أن شرط الشكل الثالث كلية إحدى المقدمتين لأن الشخصية عندهم في حكم الكلية.
وقال الإمام : تفلسف حجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة فقال : إن هذه الآية مبنية على الشكل الثاني من الأشكال المنطقية ، وذلك لأن حاصلها يرجع إلى أن موسى أنزل الله تعالى عليه شيئا وواحد من البشر ما أنزل الله تعالى عليه شيئا ينتج أن موسى ما كان من البشر وهذا خلف محال ، وهذه الاستحالة ليست بحسب شكل القياس لا بحسب صحة المقدمة الأولى فلم يبق إلا أنه لزم من فرض صحة المقدمة الثانية وهي قولهم : ما أَنْزَلَ اللَّهُ إلخ فوجب القول بأنها كاذبة وفي ذلك تأمل فليتأمل. ثم إن وصف الكتاب بالوصول إليهم لزيادة التقرير وتشديد التبكيت ، وكذا تقييده بقول سبحانه : نُوراً وَهُدىً فإن كونه بينا بنفسه ومبينا لغيره مما يؤكد الإلزام أي توكيد ، وانتصابهما على الحالية من الكتاب والعامل أَنْزَلَ أو من ضمير بِهِ والعامل جاء ، والظاهر تعلق الظرف بجاء ، وجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا من الفاعل ، واللام في قوله سبحانه : لِلنَّاسِ إما متعلق بهدى أو بمحذوف وقع صفة له أي هدى كائنا للناس ، والمراد بهم بنو إسرائيل ، وقيل : هم ومن عداهم ، ومعنى كونه هدى لهم أنه يرشد من وقف عليه بالواسطة أو بدونها إلى ما ينجيه من الإيمان بالله تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم. وقوله تعالى : تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ استئناف لا موضع له من الإعراب مسوق لنعي ما فعلوه من التحريف والتغيير عليهم. وجوز أن يكون في موضع نصب على الحال كما تقدم أي تضعونه في قراطيس مقطعة وأوراق مفرقة بحذف الجار بناء على تشبيه القراطيس بالظرف المبهم كما قيل.
وقال أبو علي الفارسي : المراد تجعلونه ذا قراطيس ، وجوز غير واحد عدم التقدير على معنى تجعلونه نفس القراطيس ، وفيه زيادة توبيخ لهم بسوء صنيعهم كأنهم أخرجوه من جنس الكتاب ونزلوه منزلة القراطيس الخالية عن الكتابة ، وليس المراد على الأول توبيخهم بمجرد وضعهم له في قراطيس إذ كل كتاب لا بد وأن يودع في القراطيس بل المراد التوبيخ على الجعل في قراطيس موصوفة بقوله سبحانه : تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً فالجملة المعطوفة والمعطوف عليها في موضع الصفة لقراطيس ، والعائد على الموصوف من المعطوفة محذوف أي كثيرا منها ، والمراد من الكثير نعوت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وسائر ما كتموه من أحكام التوراة كرجم الزاني المحصن. وهذا خطاب لليهود بلا مرية وكانوا يفعلون ذلك مع عوامهم متواطئين عليه ، وهو ظاهر على تقدير أن يكون الجواب السابق لهم لأن مشافهتهم به يقتضي خطابهم ، ومن جعل ما تقدم للمشركين حمل هذا على الالتفات لخطاب اليهود حيث جرى ذكرهم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو الأفعال الثلاثة بياء الغيبة ، وضمير الجمع لليهود أيضا إلا أنه التفت عن خطابهم تبعيدا لهم بسبب ارتكابهم القبيح عن ساحة الخطاب ولذا خاطبهم حيث نسب إليهم الحسن في قوله سبحانه : وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ وهذا أحسن - كما قيل - من الالتفات على القول الأول لأن فيه نقلا من الكلام مع جماعة

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 209
هم المشركون إلى الكلام مع جماعة أخرى هم اليهود قبل إتمام الكلام الأول لأن إتمامه بقوله سبحانه : قُلِ اللَّهُ إلخ بخلاف الالتفات على القول الثاني ، والجملة - على ما قال أبو البقاء - في موضع الحال من فاعل تَجْعَلُونَهُ بإضمار قد أو بدونه على اختلاف الرأيين ، وعليه - كما قال شيخ الإسلام - فينبغي أن يجعل ما عبارة عما أخذوه من الكتاب من العلوم والشرائع ليكون التقييد بالحال مفيدا لتأكيد التوبيخ وتشديد التشنيع لا على ما تلقوه من جهة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم زيادة على ما في التوراة وبيانا لما التبس عليهم وعلى آبائهم من مشكلاتها حسبما ينطق به قوله تعالى : إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [النمل : 76] لأن تلقيهم ذلك ليس مما يزجرهم عما صنعوا بالتوراة فتكون الجملة حينئذ خالية عن تأكيد التوبيخ فلا تستحق أن تقع موقع الحال بل الوجه حينئذ أن يكون استئنافا مقررا لما قبله من مجيء الكتاب بطريق التكملة والاستطراد والتمهيد لما يعقبه من مجيء القرآن ، ولا سبيل - كما قال - إلى جعل ما عبارة عما كتموه من أحكام التوراة كما يفصح عنه قوله تعالى : قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ [المائدة : 15] فإن ظهوره وإن كان مزجرة لهم عن الكتم مخافة الافتضاح ومصححا لوقوع الجملة في موقع الحال لكن ذلك مما يعلمه الكاتمون حتما.
وجوز أن تكون الجملة معطوفة على مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ من حيث المعنى أي قل من أنزل الكتاب ومن علمكم ما لم تعلموا وفيه بعد. وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد أن هذا خطاب للمسلمين. وروي عنه أنه قرأ «وعلمتم معشر العرب ما لم» إلخ وهو عند قوم اعتراض للامتنان على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم واتباعه بهدايتهم للمجادلة بالتي هي أحسن.
وقال بعضهم : إن الناس فيما تقدم عام يدخل فيهم المسلمون واليهود ، وعُلِّمْتُمْ عطف على تَجْعَلُونَهُ والخطاب فيه للناس باعتبار اليهود وفي عُلِّمْتُمْ لهم باعتبار المسلمين ولا يخفى أنه تكلف.
وقوله سبحانه : قُلِ اللَّهُ أمر لرسوله صلّى اللّه عليه وسلّم بأن يجيب السؤال السابق عنهم إشارة إلى أنهم ينكرون الحق مكابرة منهم ، وإشعارا بتعين الجواب وإيذانا بأنهم أفحموا ، ولم يقدروا على التكلم أصلا ، والاسم الجليل إما فاعل مقدر أو مبتدأ خبره جملة مقدرة أي أنزله الله أو الله تعالى أنزله ، والخلاف في الأرجح من الوجهين مشهور ثُمَّ ذَرْهُمْ أي دعهم فِي خَوْضِهِمْ أي باطلهم فلا عليك بعد إلزام الحجة وإلقام الحجر يَلْعَبُونَ في موضع الحال من - هم - الأول ، والظرف صلة ذَرْهُمْ أو يَلْعَبُونَ أو حال من مفعول ذَرْهُمْ أو من فاعل يَلْعَبُونَ.
وجوز أن يكون في موضع الحال من - هم - الثاني. وهو في المعنى فاعل المصدر المضاف إليه ، والظرف متصل بما قبله إما على أنه لغو أو حال من - هم - ولا يجوز حينئذ جعله متصلا بيلعبون على الحالية أو اللغوية لأنه يكون معمولا له متأخرا عنه رتبة ومعنى مع أنه متقدم عليه رتبة أيضا لأن العامل في الحال عامل في صاحبها فيكون فيه دور وفساد في المعنى. والآية عند بعض منسوخة بآية السيف ، واختار الإمام عدم النسخ لأنها واردة مورد التهديد وهو لا ينافي حصول المقاتلة فلم يكن ورود الآية الدالة على وجوبها رافعا للمدلول فلم يحصل النسخ فيه وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ تحقيق لإنزال القرآن الكريم بعد تقرير إنزال ما يشير به من التوراة وتكذيب لكلمتهم الشنعاء إثر تكذيب ، وتنكير كِتابٌ للتفخيم ، وجملة أَنْزَلْناهُ في موضع الرفع صفة له.
وقوله سبحانه : مُبارَكٌ أي كثير الفائدة والنفع لاشتماله على منافع الدارين وعلوم الأولين والآخرين صفة بعد صفة. قال الإمام : جرت سنة الله تعالى بأن الباحث عن هذا الكتاب المتمسك به يحصل به عز الدنيا وسعادة الآخرة ، ولقد شاهدنا والحمد لله عز وجل ثمرة خدمتنا له في الدنيا فنسأله أن لا يحرمنا سعادة الآخرة إنه البر الرحيم.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 210
وقوله جل وعلا : مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ صفة أخرى ، والإضافة - على ما نص عليه أبو البقاء - غير محضة ، والمراد بالموصول إما التوراة لأنها أعظم كتاب نزل قبل ولأن الخطاب مع اليهود ، وأما ما يعمها وغيرها من الكتب السماوية. وروي ذلك عن الحسن ، وتذكير الموصول باعتبار الكتاب أو المنزل أو نحو ذلك ، ومعنى كونها بين يديه أنها متقدمة عليه. فإن كل ما كان بين اليدين كذلك وتصديقه للكل في إثبات التوحيد والأمر به ونفي الشرك والنهي عنه. وفي سائر أصول الشرائع التي لا تنسخ.
وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى قيل : عطف على ما دل عليه صفة الكتاب كأنه قيل : أنزلناه للبركات وتصديق ما تقدمه والإنذار. واختار العلامة الثاني كونه عطفا على صريح الوصف أي كتاب مبارك وكائن للإنذار ، وادعى أنه لا حاجة مع هذا إلى ذلك التكلف فإن عطف الظرف على المفرد في باب الخبر والصفة كثير ، ودعوى أن الداعي إليه عرو تلك الصفات السابقة عن حرف العطف واقتران هذا به تستدعي القول بأن الصفات إذا تعددت ولم يعطف أولها يمتنع العطف أو يقبح والواقع خلافه ، والأولى ما يقال : إن الداعي أن اللفظ والمعنى يقتضيانه ، أما المعنى فلأن الإنذار علة لإنزاله كما يدل عليه وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ [الأنعام : 19] ولو عطف لكان على أول الصفات على الراجح في العطف عند التعدد ، ولا يحسن عطف التعليل على المعلل به ولا الجار والمجرور على الجملة الفعلية. فإنه نظير هذا رجل قام عندي وليخدمني وهو كما ترى ، ومنه يعلم الداعي اللفظي.
وجوز أن يكون علة لمحذوف يقدر مؤخرا أو مقدما أي ولتنذر أنزلناه أو وأنزلنا لتنذر ، وتقديم الجار للاهتمام أو للحصر الإضافي ، وأن يكون عطفا على مقدر أي لتبشر ولتنذر ، وأيّا ما كان ففي الكلام مضاف محذوف أي أهل أم القرى ، والمراد بها مكة المكرمة ، وسميت بذلك لأنها قبلة أهل القرى وحجهم وهم يتجمعون عندها تجمع الأولاد عند الأم المشفقة ويعظمونها أيضا تعظيم الأم ، ونقل ذلك عن الزجاج والجبائي ، ولأنها أعظم القرى شأنا فغيرها تبع لها كما يتبع الفرع الأصل. وقيل : لأن الأرض دحيت من تحتها فكأنها خرجت من تحتها كما تخرج الأولاد من تحت الأم أو لأنها مكان أول بيت وضع للناس. ونقل ذلك عن السدي.
وقرأ أبو بكر عن عاصم «لينذر» بالياء التحتية على الإسناد المجازي للكتاب لأنه منذر به وَمَنْ حَوْلَها من أهل المدر والوبر في المشارق والمغارب لعموم بعثته صلّى اللّه عليه وسلّم الصادع بها القرآن في غير آية ، واللفظ لا يأبى هذا الحمل فلا متمسك بالآية لطائفة من اليهود زعموا أنه صلّى اللّه عليه وسلّم مرسل للعرب خاصة ، على أنه يمكن أن يقال : خص أولئك بالذكر لأنهم أحق بإنذاره عليه الصلاة والسلام كقوله تعالى : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء : 214] ولذا أنزل كتاب كل رسول بلسان قومه وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وبما فيها من الثواب والعقاب ، ومن اقتصر على الثاني في البيان لاحظ سبق الإنذار يُؤْمِنُونَ بِهِ أي بالكتاب ، قيل : أو بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم لأنهم يرهبون من العذاب ويرغبون في الثواب ولا يزال ذلك يحملهم على النظر والتأمل حتى يؤمنوا به وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ يحتمل أن يراد بالصلاة مطلق الطاعة مجازا أو اكتفى ببعضها الذي هو عماد الدين وعلم الإيمان ولذا أطلق على ذلك الإيمان مجازا كقوله تعالى : ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة : 143] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً كالذين قالوا : ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ من جهته تعالى : وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ أي والحال أنه لم يوح إليه شَيْءٌ كمسيلمة والأسود العنسي وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ أي أنا قادر على مثل ذلك النظم كالذين قالوا : لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا [الأنفال : 31] وتفسير الأول بما ذكرناه لم نقف عليه لغيرنا ، وتفسير الثاني ذهب إليه الزمخشري وغيره. وتفسير الثالث ذهب إليه الزجاج ومن وافقه. وأخرج عبد بن حميد

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 211
وابن المنذر عن ابن جريج أن قوله سبحانه : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ نزلت في مسيلمة الكذاب والأخير نزل في عبد الله بن سعد بن أبي سرح وجعل بعضهم على هذا عطف أَوْ قالَ الأول على افْتَرى إلخ من عطف التفسير.
وتعقب بأنه لا يكون بأو ، واستحسن أنه من عطف المغاير باعتبار العنوان وأو للتنويع يعني أنه تارة ادعى أن الله تعالى بعثه نبيا وأخرى أن الله تعالى أوحى إليه وإن كان يلزم النبوة في نفس الأمر الإيحاء ويلزم الإيحاء النبوة ، ويفهم من صنيع بعضهم أن أو بمعنى الواو ، وأما ابن أبي سرح فلم يدع صريحا القدرة ولكن قد يقتضيها كلامه على ما يفهم من بعض الروايات ، وفسر بعضهم الثاني بعبد الله ودعواه ذلك على سبيل الترديد ،
فقد روي أن عبد الله بن سعد كان قد تكلم بالإسلام فدعاه رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم ذات يوم فكتب له شيئا فلما نزلت الآية في المؤمنين وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون : 12] أملاها عليه فلما انتهى إلى قوله سبحانه : ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون : 14] عجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان فقال : فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون : 14] فقال رسول الله : هكذا أنزلت علي فشك حينئذ وقال : لئن كان محمد صادقا لقد أوحي إلي ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال ،
وجعل الشق الثاني في معنى دعوى القدرة على المثل فيصح تفسير الثاني والثالث به لا يصح إلا إذا اعتبر عنوان الصلة في الأخير من باب المماشاة مثلا كما لا يخفى. واعتبر الإمام عموم افتراء الكذب على الله تعالى وجعل المعطوف عليه نوعا من الأشياء التي وصفت بكونها افتراء ثم قال : والفرق بين هذا القول وما قبله أن في الأول كان يدعي أنه أوحي إليه فيما يكذب به ولم ينكر نزول الوحي على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وفي الثاني أثبت الوحي لنفسه ونفاه عنه عليه الصلاة والسلام فكان جمعا بين أمرين عظيمين من الكذب إثبات ما ليس بموجود ونفي ما هو موجود انتهى. وفيه عدول عن الظاهر حيث جعل ضمير إِلَيْهِ راجعا للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم والواو في وَلَمْ يُوحَ للعطف والمتعاطفان مقول القول والمنساق للذهن جعل الضمير لمن والواو للحال وما بعدها من كلامه سبحانه وتعالى ، وربما يقال لو قطع النظر عن سبب النزول : إن المراد بمن افترى على الله كذبا من أشرك بالله تعالى أحدا بحمل افتراء الكذب على أعظم أفراده ، وهو الشرك وكثير من الآيات يصدح بهذا المعنى وبمن قال : أُوحِيَ إِلَيَّ والحال لم يوح إليه مدعي النبوة كاذبا وبمن قال : سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ الطاعن في نبوة النبي عليه الصلاة والسلام فكأنه قيل : من أظلم ممن أشرك بالله عز وجل أو ادعى النبوة كاذبا أو طعن في نبوة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، وقد تقدم الكلام على مثل هذه الجملة الاستفهامية فتذكر وتدبر.
وَلَوْ تَرى أي تبصر ، ومفعوله محذوف لدلالة الظرف في قوله تعالى : إِذِ الظَّالِمُونَ عليه ثم لما حذف أقيم الظرف مقامه والأصل لو ترى الظالمين إذ هم ، وإِذِ ظرف لترى والظَّالِمُونَ مبتدأ ، وقوله تعالى : فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ خبره وإذا ظرف لترى ، وتقييد الرؤية بهذا الوقت ليفيد أنه ليس المراد مجرد رؤيتهم بل رؤيتهم على حال فظيعة عند كل ناظر ، وقيل : المفعول إِذِ والمقصود تهويل هذا الوقت لفظاعة ما فيه ، وجواب الشرط محذوف أي لرأيت أمرا فظيعا هائلا ، والمراد بالظالمين ما يشمل الأنواع الثلاثة من الافتراء والقولين الأخيرين ، والغمرة كما قال الشهاب في الأصل : المرة من غمر الماء ثم استعير للشدة وشاع فيها حتى صار كالحقيقة.
ومنه قول المتنبي :
وتسعدني في غمرة بعد غمرة سبوح لها منها عليها شواهد
والمراد هنا سكرات الموت كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وَالْمَلائِكَةُ الذين يقبضون

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 212
أرواحهم وهم أعوان ملك الموت باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أي بالعذاب ، وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم يضربون وجوههم وأدبارهم قائلين لهم أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ أي خلصوها مما أنتم فيه من العذاب ، والأمر للتوبيخ والتعجيز ، وذهب بعضهم أن هذا تمثيل لفعل الملائكة في قبض أرواح الظلمة بفعل الغريم الملح يبسط يده إلى من عليه الحق ويعنف عليه في المطالبة ولا يمهله ويقول له : أخرج ما لي عليك الساعة ولا أريم مكاني حتى أنزعه من أحداقك ، وفي الكشف أنه كناية عن العنف في السياق والإلحاح والتشديد في الإزهاق من غير تنفيس وإمهال ولا بسط ولا قول حقيقة هناك ، واستظهر ابن المنير أنهم يفعلون معهم هذه الأمور حقيقة على الصور المحكية ، وإذا أمكن البقاء على الحقيقة فلا معدل عنها.
الْيَوْمَ المراد به مطلق الزمان لا المتعارف ، وهو إما حين الموت وما يشمله وما بعده تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ
أي المشتمل على الهوان والشدة والإضافة كما في رجل سوء تفيد أنه متمكن في ذلك لأن الاختصاص الذي تفيده الإضافة أقوى من اختصاص التوصيف ، وجوز أن تكون الإضافة على ظاهرها لأن العذاب قد يكون للتأديب لا للهوان والخزي. ومن الناس من فسر غمرات الموت بشدائد العذاب في النار فإنها وإن كانت أشد من سكرات الموت في الحقيقة إلا أنها استعملت فيها تقريبا للإفهام ، وبسط الملائكة أيديهم بضربهم للظالمين في النار بمقامع من حديد والإخراج بالإخراج من النار وعذابها واليوم باليوم المعلوم بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ مفترين عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ من نفي إنزاله على بشر شيئا وادعاء الوحي أو من نسبة الشرك إليه ودعوى النبوة كذبا ونفيها عمن اتصف بها حقيقة أو نحو ذلك. وفي التعبير بغير الحق عن الباطل ما لا يخفى وهو مفعول تَقُولُونَ ، وجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف أي قولا غير الحق وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ أي تعرضون فلا تتأملون فيها ولا تؤمنون وَلَقَدْ جِئْتُمُونا للحساب فُرادى أي منفردين عن الأعوان والأوثان التي زعمتم أنها شفعاؤكم أو عن الأموال والأولاد وسائر ما آثرتموه من الدنيا. أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وغيرهما عن عكرمة قال : قال النضر بن الحارث سوف تشفع لي اللات والعزى فنزلت ، والجملة على ما ذهب إليه بعض المحققين مستأنفة من كلامه تعالى ولا ينافي قوله تعالى : وَلا يُكَلِّمُهُمُ [البقرة : 174] ، آل عمران : 77] لأن المراد نفي تكليمهم بما ينفعهم أو لأنه كناية عن الغضب ، وقيل : معطوفة على قول : الملائكة أَخْرِجُوا إلخ وهي من جملة كلامهم وفيه بعد وإن ظنه الإمام أولى وأقوى.
ونصب فُرادى على الحال من ضمير الفاعل وهو جمع فرد على خلاف القياس كأنه جمع فردان كسكران على ما في الصحاح ، والألف للتأنيث ككسالى ، والراء في فرده مفتوحة عند صاحب الدر المصون وحكي بصيغة التمريض سكونها ، ونقل عن الراغب أنه جمع فريد كأسير وأسارى ، وفي القاموس يقال : جاؤوا فرادا وفرادا وفرادى وفرادا وفردى كسكرى أي واحد وفراد بعد واحد والواحد فرد وفرد وفريد وفردان. ولا يجوز فرد في هذا المعنى ، ولعل هذا بعيد الإرادة في الآية. وقرى «فرادا» كرخال المضموم الراء وفراد كآحاد ورباع في كونه صفة معدولة. ولا يرد أن مجيء هذا الوزن المعدول مخصوص بالعدد بل ببعض كلماته لما نص عليه الفراء وغيره من عدم الاختصاص ، نعم هو شائع فيما ذكر. وفردى كسكرى تأنيث فردان والتأنيث لجمع ذي الحال كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بدل من فُرادى بدل كل لأن المراد المشابهة في الانفراد المذكور ، والكاف اسم بمعنى مثل أي مثل الهيئة ، التي ولدتم عليها في الانفراد ويجوز أن يكون حالا ثانية على رأي من يجوز تعدد الحال من غير عطف وهو الصحيح أو حالا من الضمير في فُرادى فهي حال مترادفة أو متداخلة والتشبيه أيضا في الانفراد ، ويحتمل أن يكون باعتبار ابتداء الخلقة أي مشبهين ابتداء خلقكم بمعنى شبيهة حالكم حال ابتداء خلقكم حفاة عراة غرلا بهما ، وجوز أن يكون صفة مصدر جِئْتُمُونا أي مجيئا كخلقنا لكم.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 213
أخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قرأت هذه الآية فقالت : يا رسول الله وا سوأتاه إن النساء والرجال سيحشرون جميعا ينظر بعضهم إلى سوءة بعض فقال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم : لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شغل بعضهم عن بعض.
وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ أي ما أعطيناكم في الدنيا من المال والخدم وهو متضمن للتوبيخ أي فشغلتم به عن الآخرة وَراءَ ظُهُورِكُمْ ما قدمتم منه شيئا لأنفسكم.
أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن الحسن قال : يؤتى بابن آدم يوم القيامة كأنه بذخ فيقول له تبارك وتعالى : أين ما جمعت؟ فيقول : يا رب جمعته وتركته أوفر ما كان فيقول : أين ما قدمت لنفسك؟ فلا يراه قدم شيئا وتلا هذه الآية ،
والجملة قيل مستأنفة أو حال بتقدير قد وَما نَرى أي نبصر وهو - على ما نص عليه أبو البقاء - حكاية حال وبه يتعلق قوله تعالى : مَعَكُمْ وليس حالا من مفعول نَرى أعني قوله سبحانه : شُفَعاءَكُمُ ولا مفعول ثانيا ، والرؤية علمية. وإضافة الشفعاء إلى ضمير المخاطبين باعتبار الزعم كما يفصح عنه وصفهم بقوله عز وجل : الَّذِينَ زَعَمْتُمْ في الدنيا أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ أي شركاء الله تعالى في ربوبيتكم واستحقاق عبادتكم ، والزعم هنا نص في الباطل وجاء استعماله في الحق كما تقدمت الإشارة إليه ، ومن ذلك قوله :
تقول هلكنا إن هلكت وإنما على الله أرزاق العباد كما زعم
لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ بنصب - بين - وهي قراءة عاصم ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، واختلف في تخريج ذلك فقيل : الكلام على إضمار الفاعل لدلالة ما قبل عليه أي تقطع الأمر أو الوصل بينكم ، وقيل : إن الفاعل ضمير المصدر ، وتعقبه أبو حيان بأنه غير صحيح لأن شرط إفادة الإسناد مفقودة فيه وهو تغاير الحكم والمحكوم عليه ولذلك لا يجوز قام ولا جلس وأنت تريد قام هو أي القيام وجلس هو أي الجلوس.
ورد بأنه سمع بدا بداء ، وقد قدروا في قوله تعالى : ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ [يوسف :
35] بدا البداء.
وقال السفاقسي : إن من جعل الفاعل ضمير المصدر قال : المراد وقع التقطع والتغاير حاصل بهذا الاعتبار ولو سلم فالتقطع المعتبر مرجعا معرف بلام الجنس وتَقَطَّعَ منكر فكيف يقال اتحد الحكم والمحكوم عليه.
ولا يخفى أن القول بالتأويل متعين على هذا التقدير لأنه إذا تقطع التقطع حصل الوصل وهو ضد المقصود وقيل : إن - بين - هو الفاعل وبقي على حاله منصوبا حملا له على أغلب أحواله وهو مذهب الأخفش ، وقيل : إنه بني لإضافته إلى مبني ، وقيل غير ذلك.
واختار أبو حيان أن الكلام من باب التنازع سلط على ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ تقطع وضل عنكم فأعمل الثاني وهو ضَلَّ وأضمر في تَقَطَّعَ ضميره. والمراد بذلك الأصنام ، والمعنى لقد تقطع بينكم ما كنتم تزعمون وضلوا عنكم كما قال تعالى : وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ [البقرة : 166] أي لم يبق اتصال بينكم وبين ما كنتم تزعمون أنهم شركاء فعبدتموهم.
وقرأ باقي السبعة «بينكم» بالرفع على الفاعلية وهو من الأضداد كالقرء يستعمل في الوصل والفصل ، والمراد به هنا الوصل أي تقطع وصلكم وتفرق جمعكم ، وطعن ابن عطية في هذا بأنه لم يسمع من العرب أن البين بمعنى الوصل وإنما انتزع من هذه الآية. وأجيب بأنه معنى مجازي ولا يتوقف على السماع لأن - بين - يستعمل بين الشيئين

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 214
المتلابسين نحو بيني وبينك رحم وصداقة وشركة فصار لذلك بمعنى الوصلة. على أنه لو قيل بأنه حقيقة في ذلك لم يبعد ، فإن أبا عمرو ، وأبا عبيدة ، وابن جني ، والزجاج ، وغيرهم من أئمة اللغة نقلوه وكفى بهم سندا فيه ، فكونه منتزعا من هذه الآية غير مسلم ، وعليه فيكون مصدرا لا ظرفا. وقيل : إن - بين - هنا ظرف لكنه أسند إليه الفعل على سبيل الاتساع.
وقرأ عبد الله «لقد تقطع ما بينكم» وما فيه موصوفة أو موصولة وَضَلَّ عَنْكُمْ ضاع وبطل ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أنها شفعاؤكم أو أنها شركاء لله تعالى فيكم أو أن لا بعث ولا جزاء.
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى شروع في تقرير بعض أفاعيله تعالى العجيبة الدالة على كمال علمه تعالى وقدرته ولطيف صنعه وحكمته إثر تقرير أدلة التوحيد ، وفي ذلك تنبيه على أن المقصود من جميع المباحث العقلية والنقلية وكل المطالب الحكمية إنما هو معرفة الله تعالى بذاته وصفاته وأفعاله سبحانه. والفالق الموجد والمبدع كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والضحاك ، والحب معلوم ، والنوى جمع نواة التمر كما في القاموس وغيره يؤنث ويذكر ويجمع على أنواء ونوى بضم النون وكسرها. وفسره الإمام بالشيء الموجود في داخل الثمرة بالمثلثة أعم من التمر بالمثناة وغيره ، والمشهور أن النوى إذا أطلق فالمراد منه ما في القاموس وإذا أريد غيره قيد فيقال : نوى الخوخ ونوى الإجاص ونحو ذلك. وأصل الفلق الشق. وكان إطلاق الفالق على الموجد باعتبار أن العقل يتصور من العدم ظلمة متصلة لا انفراج فيها ولا انفلاق فمتى أوجد الشيء تخيل الذهن أنه شق ذلك العدم وفلقه وأخرج ذلك المبدع منه ، وعن الحسن ، وقتادة ، والسدي أن المعنى شاق الحبة اليابسة ومخرج النبات منها وشاق النواة ومخرج النخل والشجر منها وعليه أكثر المفسرين ولعله الأولى.
وفي ذلك دلالة على كمال القدرة لما فيه من العجائب التي تصدح أطيارها على أفنان الحكم وتطفح أنهارها في رياض الكرم. وعن مجاهد وأبي مالك أن المراد بالفلق الشق الذي بالحبوب وبالنوى أي أنه سبحانه خالقهما كذلك كما في قولك : ضيق فم الركية ووسع أسفلها ، وضعف بأنه لا دلالة على كمال القدرة كما في سابقه.
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ أي يخرج ما ينمو من الحيوان والنبات والشجر مما لا ينمو من النطفة ، والحب ، والنوى ، والجملة مستأنفة مبينة لما قبلها على ما عليه الأكثر ولذلك ترك العطف وقيل : خبر ثان ولم يعطف للإيذان باستقلاله في الدلالة على عظمة الله تعالى : وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ كالنطفة وأخويها مِنَ الْحَيِّ كالحيوان وأخويه ، وهذا عند بعض عطف على فالِقُ لا على يُخْرِجُ الْحَيَّ إلخ لأنه كما علمت بيان لما قبله وهذا لا يصلح للبيان وإن صح عطف الاسم المشتق على الفعل وعكسه.
واختار ابن المنير كونه معطوفا على يُخْرِجُ قال : وقد وردا جميعا بصيغة المضارع كثيرا وهو دليل على أنهما توأمان مقترنان وهو يبعد القطع ، فالوجه والله تعالى أعلم أن يقال : كان الأصل أن يؤتى بصيغة اسم الفاعل أسوة أمثاله في الآية إلا أنه عدل عن ذلك إلى المضارع في هذا الوصف وحده إرادة لتصور إخراج الحي من الميت واستحضاره في ذهن السامع وذلك إنما يتأتى بالمضارع دون اسم الفاعل والماضي أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً [الحج : 63] كيف عدل فيه عن الماضي المطابق لأنزل لذلك ، وقوله :
بأني قد لقيت الغول يسعى بسهب كالصحيفة صحصحان

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 215
فآخذه وأضربه فخرت صريعا لليدين وللجران
فإنه عدل فيه إلى المضارع إرادة لتصوير شجاعته واستحضارها لذهن السامع إلى ما لا يحصى كثرة ، وهو إنما ينتحي فيما تكون العناية فيه أقوى ، ولا شك أن إخراج الحي من الميت أظهر في القدرة من عكسه وهو أيضا أول الحالين والنظر أول ما يبدأ فيه ثم القسم الآخر ثان عنه فكان الأول جديرا بالتصوير والتأكيد في النفس ولذلك هو مقدم أبدا على القسم الآخر في الذكر حسب ترتبهما في الواقع ، وسهل عطف الاسم على الفعل وحسنه أن اسم الفاعل في معنى المضارع وكل منهما يقدر بالآخر فلا جناح في عطفه عليه.
وقال الإمام في وجه ذلك الاختلاف : إن لفظ الفعل يدل على أن الفاعل معتن بالفعل في كل حين وأوان ، وأما لفظ الاسم فإنه لا يفيد التجدد والاعتناء به ساعة فساعة ، ويرشد إلى هذا ما ذكره الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز من أن قوله سبحانه : هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ [فاطر : 3] قد ذكر فيه الرزق بلفظ الفعل لأنه يفيد أنه تعالى يرزقهم حالا فحالا وساعة فساعة ، وقوله عز شأنه وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الكهف : 18] قد ذكر فيه الاسم ليفيد البقاء على تلك الحالة ، وإذا ثبت ذلك يقال : لما كان الحي أشرف من الميت وجب أن يكون الاعتناء بإخراج الحي من الميت أكثر من الاعتناء بإخراج الميت من الحي ، فلذا وقع التعبير عن القسم الأول بصيغة الفعل وعن الثاني بصيغة الاسم تنبيها على أن الاعتناء بإيجاد الحي من الميت أكثر وأكمل من الاعتناء بإيجاد الميت من الحي. ثم العطف لاشتمال الكلام به على زيادة لا يضر بكون الجملة بيانا لما تقدم كما لا يضر شمول الحي والميت في الجملة المعطوف عليها للحيوان والنبات فيه.
وأيّا ما كان فلا بد من القول بعموم المجاز أو الجمع بين المجاز والحقيقة على مذهب من يرى صحته إن قلنا : إن الحي حقيقة فيمن يكون موصوفا بالحياة وهي صفة توجب صحة الإدراك والقدرة والميت حقيقة فيمن فارقته تلك الصفة أو نحو ذلك. وإن إطلاقه على نحو النبات والشجر الغض والحب والنوى مجاز. وبهذا يشعر كلام الإمام فإنه جعل ما نقل عن الزجاج أن المعنى يخرج النبات الغض الطري من الحب اليابس ويخرج الحب اليابس من النبات الحي النامي من الوجوه المجازية كالمروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن المعنى يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ذلِكُمُ القادر العظيم الشأن الساطع البرهان هو اللَّهَ الذات الواجب الوجود المستحق للعبادة وحده فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فكيف تصرفون عن عبادته وتشركون به من لا يقدر على شيء لا سبيل إلى ذلك أصلا. وتمسك الصاحب ابن عباد بهذا على أن فعل العبد ليس مخلوقا لله تعالى لأنه سبحانه لو خلق فيه الإفك لم يلق به عز شأنه أن يقول : فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ وقد قدمنا الجواب على ذلك على أتم وجه فتذكر فالِقُ الْإِصْباحِ خبر لمبتدأ محذوف أي هو فالق أو خبر آخر لأن. والْإِصْباحِ بكسر الهمزة مصدر سمي به الصبح ، قال امرؤ القيس :
ألا أيها الليل الطويل ألا أنجلي بصبح وما الإصباح منك بأمثل
وقرأ الحسن بالفتح على أنه جمع صبح كقفل وأقفال. وأنشد قوله :
أفني رياحا وبني رياح تناسخ الإمساء والإصباح
بالكسر والفتح مصدرين وجمعي مسى وصبح والفالق الخالق على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وقتادة ، والضحاك ، وقال غير واحد : الشاق. واستشكل بأن الظاهر أن الظلمة هي التي تفلق عن الصبح. وأجيب بأن الصبح صبحان ، صادق وهو المنتشر ضوءه معترضا بالأفق. وكاذب وهو ما يبدو مستطيلا وأعلاه أضوأ من باقيه

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 216
وتعقبه ظلمة. وعلى الأول يراد فلقه عن بياض النهار أو يقال : في الكلام مضاف مقدر أي فالق ظلمة الإصباح بالإصباح. وذلك لأن الأفق من الجانب الغربي والجنوبي مملوء من الظلمة والنور إنما ظهر في الجانب الشرقي فكأن الأفق كان بحرا مملوءا من الظلمة فشق سبحانه ذلك البحر المظلم بأن أجرى جدولا من النور فيه. وعلى الثاني فإيراد أنه سبحانه فالقه عن ظلمة آخر الليل وشاقه منه. وما ذكر من تقسيم الصبح إلى صادق وكاذب مما يشهد له العيان ولا يمتري فيه اثنان إلا أن في سبب ذلك كلاما لأهل الهيئة حاصله أن الصبح وكذا الشفق استنارة في كرة البخار لتقارب الشمس من أفق المشرق وتباعدها عن أفق المغرب.
وقد تحقق أن كرة البخار عبارة عن هواء متكائف بما فيه من الأجزاء الأرضية والمائية المتصاعدة من كرتيهما بتسخين الشمس وغيرها إياها وأن شكل ذلك الهواء شكل كرة محيطة بالأرض على مركزها وسطح مواز لسطحها المتساوي غاية ارتفاعها عن مركز الأرض في جميع النواحي المستلزم لكرويتها وأنها مختلفة القوام لأن ما كان منها أقرب إلى الأرض فهو أكثف مما بعد لأن الألطف يتصاعد ويتباعد أكثر من الأكثف ولكن لا يبلغ في التكاثف إلى حيث يحجب ما وراءه. وأن هذه الكرة تنتهي إلى حد لا تتجاوزه وهو من سطح الأرض أحد وخمسون ميلا تقريبا وأن للأرض ظلا على هيئة مخروط قاعدته دائرة عليها تكاد تكون عظيمة وهي مواجهة للشمس ورأسه في مقابلها. وتنقسم الأرض بهذه القاعدة إلى قسمين. أحدهما أكبر مستضيء مواجه للشمس والآخر مظلم مقابل لها. ويتحرك الضياء والظلمة على سطح الأرض في يوم بليلته دورة واحدة كعلمين متقابلين أحدهما أبيض والآخر أسود. وأن شعاع الشمس محيط بمخروط الظل من جميع جوانبه ومنبث في جميع الأفلاك سوى مقدار يسير من فلك القمر وفلك عطارد وقع في مخروط ظل الأرض لكن الأفلاك لكونها مشعة في الغاية ينفذ فيها الشعاع ولا ينعكس عنها فلذلك لا نراها مضيئة. وكذا الهواء الصافي المحيط بكرة البخار لا يقبل ضوءا.
وأما كرة البخار فهي مختلفة القوام لأن ما قرب منها إلى الأرض أكثف مما بعد والأكثف أقبل للاستضاءة فالكثيف الخشن باختلاط الهيئات الكثيرة من سطح مخروط الظل قابل للضوء وأن النهار مدة كون ذلك المخروط تحت الأفق والليل مدة كونه فوقه. وحيث تحقق كل ذلك يقال : إذا ازداد قرب الشمس من شرقي الأفق ازداد ميل المخروط إلى غربيه ولا يزال كذلك حتى يرى الشعاع المحيط به وأول ما يرى هو الأقرب إلى موضع الناظر وهو خط يخرج من بصره في سطح دائرة سمتية تمر بمركز الشمس عمودا على الخط المماس للشمس والأرض وهو الذي في سطح الفصل المشترك بين الشعاع والظل فيرى الضوء أولا مرتفعا عن الأفق عند موقع العمود مستطيلا كخط مستقيم وما بينه وبين الأفق يرى مظلما لبعده وإن كان مستنيرا في الواقع ولكثافة الهواء عند الأفق مدخل في ذلك أيضا وهو الصبح الكاذب ، ثم إذا قربت من الأفق الشرقي رئي الضوء معترضا منبسطا يزداد لحظة فلحظة وينمحي الأول بهذا الضياء القوي كما ينمحي ضياء المشاعل والكواكب في ضوء الشمس فيخيل أن الأول قد عدم وهو الصبح الصادق.
وتوضيح ما ذكر على ما في التذكرة وشرح سيد المحققين أنه يتوهم لبيان ذلك سطح يمر بمركز الشمس والأرض وبسهم المخروط ومركز قاعدته فيحدث مثلث حاد الزوايا قاعدته على الأفق وضلعاه على سطح المخروط.
أما حدوث المثلث فلما تقرر أنه إذا مر سطح مستو بسهم المخروط ومركز قاعدته أحدث فيه مثلثا. وأما حدة الزوايا فلأن رأس المخروط في نصف الليل يكون على دائرة نصف النهار فوق الأرض. وحينئذ إما أن يكون المخروط قائما على سطح الأفق. وذلك إذا كانت الشمس على سمت القدم أو مائلا إلى الشمال أو الجنوب مع تساوي بعده عن جهة المشرق والمغرب. وذلك إذا لم تكن الشمس على سمت القدم.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 217
وأيّا ما كان فذلك السطح المفروض ممتد فيما بين الخافقين أما على التقدير الأول فظاهر. وأما على التقدير الثاني فلتساوي بعد رأس المخروط عن جانبي المشرق والمغرب فيكون زاويتا قاعدة المثلث حادتين لوجوب تساويهما وامتناع وقوع قائمتين أو منفرجتين في مثلث. وإذا مال رأس المخروط عن نصف النهار المغرب فوق الأرض بسبب انتقال الشمس عنه إلى جانب المشرق تحت الأرض تضايقت الزاوية الشرقية من ذلك المثلث فتصير أحد مما كانت واتسعت الزاوية الغربية حتى تصير منفرجة لكن المقصود لا يختلف. ولا شك أن الأقرب من الضلع الذي يلي الشمس إلى الناظر يكون موقع العمود الخارج من النظر الواقع على ذلك الضلع لا موضع اتصال الضلع بالأفق ، وذلك أنه إذا خرج من البصر إلى الضلع الشرقي عمود فلا يمكن أن يقع على موضع اتصال هذا الضلع بالأفق وإلا انطبقت القائمة على بعض الحادة ولا أن يقع تحت الأفق بأن يقطع العمود قاعدة المثلث ويصل إلى الضلع المذكور بعد إخراجه تحته وإلا لزم في المثلث الحادث تحت الأفق من القدر المخرج من بعض القاعدة وبعض العمود قائمة ومنفرجة ولا أن يقع في جهة رأس المثلث على موضع اتصال أحد ضلعيه بالآخر ولا خارجا عنه في تلك الجهة لما ذكرنا بعينه فوجب أن يقع داخل المثلث فيما بين طرفي الضلع الشرقي وقد تبين أن موضع أقرب إلى الناظر من موضع اتصاله بالأفق. ولا شك في أن ما وقع من هذا الضلع فيما كثف من كرة البخار يكون مستنيرا بتمامه حال قرب الشمس من أفق المشرق إلا أن ما كان أقرب منه إلى الناظر يكون أصدق رؤية. وهو موقع العمود. ومن هنا يتحقق الصادق والكاذب. انتهى كلامهم.
والإمام الرازي أنكر كون الصبح الكاذب من أثر قرص الشمس وإنما هو بتخليق الله تعالى ابتداء قال : لأن مركز الشمس إذا وصل إلى دائرة نصف الليل فالموضع الذي يكون فلك الدائرة أفقا لهم قد طلعت الشمس من مشرقهم.
وفي ذلك الموضع أضاء نصف كرة الأرض. وذلك يقتضي أنه حصل الضوء في الربع الشرقي من بلدنا وذلك الضوء يكون منتشرا مستطيرا في جميع أجزاء الجو ويجب أن يزداد لحظة فلحظة. وحينئذ يمتنع أن يكون الصبح الأول خطا مستطيلا فحيث كان كذلك علم أنه ليس من تأثير قرص الشمس ولا من جنس نوره. ويفهم من كلامه أيضا أن الصبح الثاني كالصبح الأول ليس إلا بتخليق الفاعل المختار ويمتنع أن يكون من تأثير قرص الشمس ، وبين ذلك بأن من المقدمات المتفق عليها أن المضيء شمسا كان أو غيره لا يقع ضوءه إلا على الجرم المقابل له دون غير المقابل والشمس عند طلوع الصبح غير مرتفعة من الأفق فلا يكون جرم الشمس مقابلا لجزء من أجزاء وجه الأرض فيمتنع وقوع ضوء الشمس على وجه الأرض وإذا امتنع ذلك امتنع أن يكون ضوء الصبح من تأثير القرص ، ثم قال فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال الشمس حين كونها تحت الأرض توجب إضاءة ذلك الهواء المقابل لها وذلك الهواء مقابل للهواء الواقف فوق الأرض فيصير ضوء الهواء الواقف تحت الأرض سببا لضوء الهواء الواقف فوق الأرض ثم لا يزال يسري ذلك الضوء من هواء آخر ملاصق له حتى يصل إلى الهواء المحيط بنا.
وعلى هذا عول أبو علي بن الهيثم في المناظر فالجواب : أن هذا باطل من وجهين ، الأول أن الهواء شفاف عديم اللون فلا يقبل النور واللون في ذاته. وما كان كذلك يمتنع أن ينعكس منه النور إلى غيره فيمتنع أن يصير ضوءه سببا لضوء هواء آخر مقابل له. فإن قالوا : فلم لا يجوز أن يقال : إنه حصل في الأفق أجزاء كثيفة من الأبخرة والأدخنة وهي لكثافتها تقبل النور عن قرص الشمس ثم يفيض على الهواء المقابل له؟ فنقول : لو كان كذلك لكان كلما كانت الأبخرة والأدخنة في الأفق أكثر وجب أن يكون ضوء الصباح أقوى وليس الأمر كذلك بل بالعكس ، الثاني أن الدائرة التي هي دائرة الأفق لنا بعينها دائرة نصف النهار لقوم آخرين. وإذا كان كذلك فالدائرة التي هي نصف النهار في بلدنا

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 218
وجب كونها دائرة الأفق لأولئك الأقوام ، وإذا ثبت هذا فنقول : إذا وصل مركز الشمس إلى دائرة نصف الليل وتجاوز عنها فالشمس قد طلعت على أولئك الأقوام واستنار نصف العالم هناك ، والربع من الفلك الذي هو ربع شرقي لأهل بلدنا فهو بعينه ربع غربي بالنسبة إلى تلك البلدة ، وإذا كان كذلك فالشمس إذا تجاوز مركزها عن دائرة نصف الليل قد صار جرمها محازيا لهواء الربع الذي هو الربع الشرقي لأهل بلدنا فلو كان الهواء يقبل كيفية النور من الشمس لوجب أن يحصل النور في هذا الربع الشرقي من بلدنا بعد نصف الليل وأن يصير هواء هذا الربع في غاية الإنارة حينئذ وحيث لم يكن كذلك علمنا أن الهواء لا يقبل كيفية النور في ذاته وإذا بطل هذا بطل العذر الذي ذكره ابن الهيثم انتهى المراد منه. ولا أراه أتي بشيء يتبلج به صبح هذا المطلب كما لا يخفى على من أحاط خبرا بما قدمناه. وذكر أفضل المتأخرين العلامة أحمد بن حجر الهيثمي أن لأهل الهيئة في تحقيق الصبح الكاذب كلاما طويلا مبنيا على الحدس المبني على قاعدة الحكماء الباطلة كمنع الخرق والالتئام على أنه لا يفي ببيان سبب كون أعلاه أضوأ مع أنه أبعد من أسفله عن مستمده وهو الشمس ولا ببيان سبب انعدامه بالكلية حتى تعقبه ظلمة كما صرح به الأئمة وقدروها بساعة.
والظاهر أن مرادهم مطلق الزمن لأنها تطول تارة وتقصر أخرى وهذا شأن الساعات الزمانية المسماة بالمعوجة ويقابلونها بالساعات المستوية المقدر كل منها دائما بخمس عشرة درجة. وزعم بعض أهل الهيئة عدم انعدامه وإنما يتناقص حتى ينغمر في الصادق وقد تقدم لك ذلك فيما نقلناه لك عنهم ولعله بحسب التقدير لا الحس ، وفي خبر مسلم «لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا العارض لعمود الصبح حتى يستطبر أي ينتشر ذلك العمود في نواحي الأفق» ويؤخذ من تسميته عارضا للثاني شيئان ، أحدهما أنه يعرض للشعاع الناشئ عنه الصبح ، الثاني انحباس قرب ظهوره كما يشعر به التنفس في قوله سبحانه : وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ [التكوير : 18] فعند ذلك الانحباس يتنفس منه شيء من شبه كوة ، والمشاهد في المنحبس إذا خرج بعضه دفعة أن يكون أوله أكثر من آخره ، وهذا لكون كلام الصادق قد يدل عليه ولإنبائه عن سبب طوله وإضاءة أعلاه واختلاف زمنه وانعدامه بالكلية الموافق للحس أولى مما ذكره أهل الهيئة القاصر عن كل ذلك.
ثانيهما أنه صلّى اللّه عليه وسلّم أشار بالعارض إلى أن المقصود بالذات هو الصادق وأن الكاذب إنما قصد بطريق العرضية لينبه الناس به لقرب ذلك فينتبهوا ليدركوا فضيلة أول الوقت لاشتغالهم بالنوم الذي لولا هذه العلامة لمنعهم إدراك أول الوقت ، فالحاصل أنه نور يبرزه الله تعالى من ذلك الشعاع أو يخلقه حينئذ علامة على قرب الصبح ومخالفا له في الشكل ليحصل التميز وتتضح العلامة العارضة من المعلم عليه المقصود فتأمل ذلك فإنه غريب مهم. وفي حديث عند أحمد «ليس الفجر الأبيض المستطيل في الأفق ولكن الفجر الأحمر المعترض» وفيه شاهد لما ذكر آخر. ومما يؤيد ما أشير إليه من الكوة ما أخرجه غير واحد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن للشمس ثلاثمائة كوة تطلع كل يوم من كوة فلا بدع أنها عند قربها من تلك الكوة ينحبس شعاعها ثم يتنفس كما مر. وللقرافي المالكي وغيره كالأصبحي من الشافعية فيه كلام يوضحه ويبين صحة ما ذكر من الكوات ويوافق الاستشكال لكونه يظهر ثم يغيب. وحاصله وإن كان فيه طول لمس الحاجة إليه أنه بياض يطلع قبل الفجر ثم يذهب عند أكثر الأبصار دون الراصد المجد القوي النظر.
وذكر ابن بشير المالكي أنه من نور الشمس إذا قربت من الأفق فإذا ظهرت أنست به الأبصار فيظهر له أنه غاب وليس كذلك. ونقل الأصبحي أن بعضهم ذكر أنه يذهب بعد طلوعه ويعود مكانه ليلا وهو كثير من الشافعية ، وإن أبا جعفر البصري بعد أن عرفه بأنه عند بقاء نحو ساعتين يطلع مستطيلا إلى نحو ربع السماء كأنه عمود وربما لم ير إذا

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 219
كان الجو نقيا شتاء وأبين ما يكون إذا كان الجو كدرا صيفا أعلاه دقيق وأسفله واسع ولا ينافي هذا ما تقدم من أن أعلاه أضوأ لأن ذلك عند أول الطلوع وهذا عند مزيد قربه من الصادق وتحته سواد ثم بياض ثم يظهر بياض يغشي ذلك كله ثم يعترض رده بأنه رصده نحو خمسين سنة فلم يره غاب وإنما ينحدر ليلتقي مع المعترض في السواد ويصيران فجرا واحدا. وزعم غيبته ثم عوده وهم أو رآه يختلف باختلاف الفصول فظنه يذهب ، وبعض المؤقتين يقول :
هو المجرة إذا كان الفجر بالسعود ، ويلزمه أن لا يوجد إلا نحو شهرين في السنة قال القرافي : وقال آخرون هو شعاع يخرج من طباق بجبل قاف ثم أبطله بأن جبل قاف لا وجود له وبرهن عليه بما يرده ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من طرق خرجها الحفاظ وجماعة منهم ممن التزموا تخريج الصحيح ، وقول الصحابي ذلك ونحوه مما لا مجال للرأي فيه حكمه حكم المرفوع إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، منها أن وراء أرضنا بحرا محيطا ثم جبلا يقال له قاف ثم أرضا ثم بحرا ثم جبلا وهكذا حتى عد سبعا من كل ، وأخرج بعض أولئك عن عبد الله بن بريدة أنه جبل من زمرد محيط بالدنيا عليه كتفا السماء ، وعن مجاهد مثله ، وكما اندفع بذلك قوله : لا وجود له اندفع قوله أثره : ولا يجوز اعتقاد ما لا دليل عليه لأنه إن أراد بالدليل مطلق الأمارة فهذا عليه أدلة أو الأمارة العقلية فهذا مما يكفي فيه الظن كما هو جلي ، ثم نقل عن القرافي عن أهل الهيئة أنه يظهر ثم يخفى دائما ، ثم استشكله وأطال في جوابه بما لا يتضح إلا لمن أتقن علمي الهندسة والمناظر فأولى منه أن يختلف باختلاف النظر لاختلافه باختلاف الفصول والكيفيات العارضة لمحله فقد يدق في بعض ذلك حتى لا يرى أصلا وحينئذ فهذا عذر من عبر بأنه يغيب ثم تعقبه ظلمة ، هذا ولا يخفى أن القول بحدوث ضوء الصبح بمجرد خلق الله تعالى لا عن سبب عادي كما يشير إليه كلام الإمام أهون من القول بأنه من شعاع يخرج من طباق جبل قاف. والقول بخروج الشعاع من هذا الطباق أهون من القول بخروج الشمس التي هي على ما بين في الأجرام مائة وستة وستون مثلا للأرض مع كسر تقدم على ما هو المشهور أو ثلاثمائة وستة وعشرون مثلا لها على ما قاله غياث الدين جمشيد الكاشي في رسالته سلم السماء أو ما يقرب من ذلك على ما في بعض الروايات من كوة من جبل محيط بالأرض.
والخبر في ذلك إن صح وقلنا : إن له حكم المرفوع مما ينبغي تأويله وباب التأويل أوسع من تلك الكوة فإن كثيرا من الناس قد قطعوا دائرة الأرض على مدار السرطان مرارا ولم يجدوا أثرا لهذا الجبل المحيط الشامخ. وإثبات سبعة جبال وسبعة أبحر على الوجه السابق مما لا يخفى ما فيه أيضا. وكون الله تعالى لا يعجزه شيء مما لا يشك فيه إلا ملحد لكن الكلام في وقوع ما ذكر في الخارج. والذي تميل إليه قلوب كثير من الناس في أمر الصبح ما ذكره أهل الهيئة.
وقد بين أرسطوخس في الشكل الثاني من كتابه في جرم النيرين أن الكرة إذا اقتبست الضوء من كرة أعظم منها كان المضيء منها أعظم من نصفها. وقد بين أيضا في الشكل الأول من ذلك الكتاب أن كل كرتين مختلفتين أمكن أن يحيط بهما مخروط مستدير رأسه يلي أصغرهما ويكون المخروط مماسا لكل منهما على محيط دائرة ، ولا شك أنه محيط بالشمس والأرض مخروط مؤلف من خطوط شعاعية رأسه يلي الأرض فيكون هذا المخروط مماسا للأرض على دائرة فاصلة بين المضيء والمظلم منها وهي دائرة صغيرة لأن الجزء المضيء من الأرض أصغر.
وقد حققوا أن المستنير من الهواء كرة البخار سوى ما دخل في ظل مخروط الأرض وهي مستنيرة أبدا لكثافتها وإحاطة أشعة الشمس بها لكنها لا ترى في الليل لبعدها عن البصر وأن سهم المخروط أبدا في مقابلة جرم الشمس كما أشرنا إليه. ففي منتصف الليل يكون على دائرة نصف النهار وبعد ذلك يميل إلى جانب الغروب لحظة فلحظة إلى أن

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 220
يرى البياض في جانب المشرق على ما تقدم تفصيله وعلى هذا لا يلزم في الصورة التي ذكرها الإمام من مجاوزة مركز الشمس دائرة نصف الليل وطلوعها على أولئك الأقوام. واستنارة نصف العالم عندهم استنارة الربع الشرقي عندنا لاختلاف الوضع كما لا يخفى على المتأمل ، والتزام القول بالكروية والمخروط ونحو ذلك مما ذكره أهل الهيئة لا بأس به ، نعم اعتقاد صحة ما يقولونه مما علم خلافه من الدين بالضرورة أو علم بدليل قطعي كفر أو ضلال فتدبر.
وقرىء «فالق» بالنصب على المدح.
وقرأ النخعي «فلق الإصباح» وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً أي يسكن إليه من يتعب بالنهار ويستأنس به لاسترواحه فيه وكل ما يسكن إليه الرجل ويطمئن استئناسا به واسترواحا إليه من زوج أو حبيب يقال له : سكن ، ومنه قيل للنار :
سكن لأنه يستأنس بها ولذا سموها مؤنسة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن المعنى يسكن فيه كل طير ودابة. وروي نحوه عن ابن عباس ، ومجاهد ، رضي الله تعالى عنهم ، فالمراد حينئذ جعل الليل مسكونا فيه أخذا له من السكون أي الهدوء والاستقرار كما في قوله تعالى :
لِتَسْكُنُوا فِيهِ [يونس : 67] وقرأ سائر السبعة إلا الكوفيين «جاعل» بالرفع. وقرىء شاذا بالنصب و«الليل» فيهما مجرور بالإضافة ، ونصب سَكَناً عند كثير بفعل دل عليه هذا الوصف لا به لأنه يشترط في عمل اسم الفاعل كونه بمعنى الحال أو الاستقبال وهو هنا بمعنى الماضي كما يشهد به قراءة جَعَلَ.
وجوز الكسائي وبعض الكوفيين عمله بمعنى الماضي مطلقا حملا له على الفعل الذي تضمن معناه. وبعضهم جوز عمله كذلك إذا دخلت عليه أل. وآخرون جوزوا عمله في الثاني إذا أضيف إلى الأول لشبهه بالمعروف باللام ، وعلى هذا والأول لا يحتاج إلى تقدير فعل بل يكون الناصب هو الوصف ، واختار بعضهم كونه الناصب أيضا لكن باعتبار أن المراد به الجعل المستمر في الأزمنة المختلفة لا الزمان الماضي فقط ولا يجري على هذا مجرى الصفة المشبهة لأن ذلك - كما قال بعض المحققين - فيما قصد به الاستمرار مشروط باشتهار الوصف بذلك الاستعمال وشيوعه فيه ونصبه في قراءتنا على أنه مفعول ثان لجعل.
وجوز أن يكون جَعَلَ بمعنى أحدث المتعدي لواحد فيكون نصبا على الحال وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ معطوفان على اللَّيْلَ وعلى قراءة من جره يكون نصبهما بجعل المقدر الناصب لسكنا أو بآخر مثله ، وقيل :
بالعطف على محل اللَّيْلَ المجرور فإن إضافة الوصف إليه غير حقيقية إذا لم ينظر فيه إلى المضيء. وقرىء بالجر وهو ظاهر وبالرفع على الابتداء والخبر محذوف أي مجعولان حُسْباناً أي على أدوار مختلفة يحسب فيها الأوقات التي نيط بها العبادات والمعاملات أو محسوبان حسبانا. والحسبان بالضم مصدر حسب بالفتح كما أن الحسبان بالكسر مصدر حسب وهذا هو الأصل المسموع في نحو ذلك وما سواه وارد على خلاف القياس كما قيل.
وعن أبي الهيثم أن حُسْباناً جمع حساب مثل ركبان وركاب وشهبان وشهاب وفي إرادته هنا بعد ذلِكَ إشارة إلى جعلهما كذلك.
وقال الطبرسي : إلى ما تقدم من فلق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ، والجمهور على الأول وهو الظاهر ، وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو منزلة المشار إليه وبعد منزلته أي ذلك التسيير البديع الشأن تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ أي الغالب القاهر الذي لا يتعاصاه شيء من الأشياء التي من جملتها تسييرهما على الوجه المخصوص الْعَلِيمِ المبالغ في العلم بجميع المعلومات التي من جملتها ما في ذلك التسيير من المصالح المعاشية والمعادية.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 221
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ أي أنشأ أو صير لَكُمُ أي لأجلكم النُّجُومَ قيل : المراد بها ما عدا النيرين لأنها التي بها الاهتداء الآتي ولأن النجم يخص في العرف بما عداهما. وجوز أن يدخلا فيها فيكون هذا بيانا لفائدتهما العامة إثر بيان فائدتهما الخاصة ، والمنجمون يقسمون النجوم إلى ثوابت وسيارات والسيارات سبع بإجماع المتقدمين وثمان بزيادة هرشل عند المنجمين اليوم. والثوابت لا يعلم عدتها إلا الله تعالى. والمرصود منها كما قال عبد الرحمن الصوفي : ألف وخمسة وعشرون بإدخال الضفيرة. ومن أخرجها قال : هي ألف واثنان وعشرون ، ورتبوا الثوابت على ست أقدار وسموها أقدارا متزايدة سدسا سدسا ، وجعلوا كل قدر على ثلاث مراتب أعظم. وأوسط. وأصغر ولهم تقسيمات لها باعتبارات أخر بنوا عليها ما بنوا ولا يكاد يسلم لهم إلا ما لم يلزم منه محذور في الدين.
لِتَهْتَدُوا بِها بدل من ضمير لَكُمُ بإعادة العامل بدل اشتمال كأنه قيل جعل النجوم لاهتدائكم فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أي في ظلمات الليل في البر والبحر ، وإضافتها إليهما للملابسة أو في مشتبهات الطرق وسماها ظلمات على الاستعارة ، وهذا افراد لبعض منافعها بالذكر حسبما يقتضيه المقام وإلا فهي أجدى من تفاريق العصا ، وهي في جميع ما يترتب عليها كسائر الأسباب العادية لا تأثير لها بأنفسها ولا بأس في تعلم علم النجوم ومعرفة البروج والمنازل والأوضاع ونحو ذلك مما يتوصل به إلى مصلحة دينية.
قال العلامة ابن حجر عليه الرحمة : والمنهي عنه من علم النجوم ما يدعيه أهلها من معرفة الحوادث الآتية في مستقبل الزمان كمجيء المطر ووقوع الثلج وهبوب الريح. وتغير الأسعار ونحو ذلك يزعمون أنهم يدركون ذلك بسير الكواكب لاقترانها وافتراقها ، وهذا علم استأثر الله تعالى به لا يعلمه أحد غيره فمن ادعى علمه بذلك فهو فاسق بل ربما يؤدي به إلى الكفر ، فأما من يقول : إن الاقتران أو الافتراق الذي هو كذا جعله الله تعالى علامة بمقتضى ما اطردت به عادته الإلهية على وقوع كذا وقد يتخلف فلا إثم عليه بذلك ، وكذا الأخبار عما يدرك بطريق المشاهدة من علم النجوم الذي يعلم به الزوال وجهة القبلة وكم مضى وكم بقي من الوقت فإنه لا إثم فيه بل هو فرض كفاية ، وأما ما
في حديث الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني قال : «صلى بنا رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم صلاة الصبح في أثر ماء - أي مطر - كان من الليل فلما انصرف أقبل علينا فقال : أتدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا : الله تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم أعلم قال : أصبح من عبادي مؤمن وكافر فأما من قال : مطرنا بفضل الله تعالى فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب ومن قال : مطرنا بنوء كذا فذاك كافر بي مؤمن بالكواكب».
فقد قال العلماء : إنه محمول على ما إذا قال ذلك مريدا أن النوء هو المحدث أما لو قال ذلك على معنى أن النوء علامة على نزول المطر ومنزله هو الله تعالى وحده فلا يكفر لكن يكره له قول ذلك لأنه من ألفاظ الكفر انتهى.
وأقول : قد كثرت الأخبار في النهي عن علم النجوم والنظر فيها ،
فقد أخرج ابن أبي شيبة وأبو داود وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد»
وأخرج الخطيب عن ميمون بن مهران. قال : قلت لابن عباس رضي الله تعالى عنهما أوصني قال أوصيك بتقوى الله تعالى وإياك وعلم النجوم فإنه يدعو إلى الكهانة. وأخرج عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : نهاني رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم عن النظر في النجوم. وعن أبي هريرة ، وعائشة رضي الله تعالى عنهما نحوه ،
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم : «إن متعلم حروف أبي جادوراء في النجوم ليس له عند الله تعالى خلاق يوم القيامة».
وأخرج هو والخطيب عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : «قال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم تعلموا من النجوم ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر ثم انتهوا»
إلى غير ذلك من الأخبار ، ولعل ما تفيده من النهي

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 222
عن التعلم من باب سد الذرائع لأن ذلك العلم ربما يجر إلى محظور شرعا كما يشير إليه خبر ابن مهران. وكذا النهي عن النظر فيها محمول على النظر الذي كان تفعله الكهنة الزاعمون تأثير الكواكب بأنفسها والحاكمون بقطعية ما تدل عليه بتثليثها وتربيعها واقترانها ومقابلتها مثلا من الأحكام بحيث لا تتخلف قطعا على أن الوقوف على جميع ما أودع الله تعالى في كل كوكب مما يمتنع لغير علام الغيوب. والوقوف على البعض أو الكل في البعض لا يجدي نفعا ولا يفيد إلا ظنا المتمسك به كالمتمسك بحبال القمر والقابض عليه كالقابض على شعاع الشمس. نعم إن بعض الحوادث في عالم الكون والفساد قد جرت عادة الله تعالى بإحداثه في الغالب عند طلوع كوكب أو غروبه. أو مقارنته لكوكب آخر وفيما يشاهد عند غيبوبة الثريا وطلوعها وطلوع سهيل شاهد لما ذكرنا. ولا يبعد أن يكون ذلك من الأسباب العادية وهي قد تتخلف مسبباتها عنها سواء قلنا : إن التأثير عندها كما هو المشهور عن الأشاعرة أم قلنا :
إنها المؤثرة بإذن الله تعالى كما هو المنصور عند السلف ، ويشير إليه كلام حجة الإسلام الغزالي في العلة. فمتى أخبر المجرب عن شيء من ذلك على هذا الوجه لم يكن عليه بأس. وما أخرجه الخطيب عن عكرمة أنه سأل رجلا عن حساب النجوم وجعل الرجل يتحرج أن يخبره فقال عكرمة : سمعت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول : علم عجز الناس عنه وددت أني علمته.
وما أخرجه الزبير بن بكار عن عبد الله بن حفص قال : خصت العرب بخصال بالكهانة ، والقيافة ، والعياقة ، والنجوم ، والحساب فهدم الإسلام الكهانة وثبت الباقي بعد ذلك ، وقول الحسن بن صالح : سمعت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في النجوم : ذلك علم ضيعه الناس فلعل ذلك إن صح محمول على نحو ما قلنا. وبعد هذا كله أقول : هو علم لا ينفع والجهل به لا يضر فما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ أي بينا الآيات المتلوة المذكورة لنعمه سبحانه التي هذه النعمة من جملتها أو الآيات التكوينية الدالة على شؤونه تعالى فصلا فصلا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ معاني الآيات المذكورة فيعملون بموجبها أو يتفكرون في الآيات التكوينية فيعلمون حقيقة الحال ، وتخصيص التفصيل بهم مع عمومه للكل لأنهم المنتفعون به.
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ أي آدم عليه السلام وهو تذكير لنعمة أخرى فإن رجوع الكثرة إلى أصل واحد أقرب إلى التواد والتعاطف. وفيه أيضا دلالة على عظيم قدرته سبحانه وتعالى فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ أي فلكم استقرار في الأصلاب أو فوق الأرض واستيداع في الأرحام أو في القبر أو موضع استقرار واستيداع فيما ذكر ، وجعل الصلب مقر النطفة والرحم مستودعها لأنها تحصل في الصلب لا من قبل شخص آخر وفي الرحم من قبل الأب فأشبهت الوديعة كأن الرجل أودعها ما كان عنده ، وجعل وجه الأرض مستقرا وبطنها مستودعا لتوطنهم في الأول واتخاذهم المنازل والبيوت فيه وعدم شيء من ذلك في الثاني ، وقيل : التعبير عن كونهم في الأصلاب أو فوق الأرض بالاستقرار لأنهما مقرهم الطبيعي كما أن التعبير عن كونهم في الأرحام أو في القبر بالاستيداع لما أن كلّا منهما ليس بمقرهم الطبيعي.
وأخرج جماعة منهم الحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المستقر الرحم والمستودع الأصلاب ، وجاء في رواية أن حبر تيماء كتب إليه يسأله رضي الله تعالى عنه عن ذلك فأجابه بما ذكر.
ويؤيد تفسير المستقر بالرحم قوله تعالى : وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ [الحج : 5] وأما تفسير المستودع بالأصلاب فقال شيخ الإسلام : إنه ليس بواضح وليس كما قال ، فقد ذكر الإمام بعد أن فرق بين المستقر والمستودع بأن المستقر أقرب إلى الثبات من المستودع ، ومما يدل على قوة هذا القول يعني المروي - عن ابن عباس رضي الله

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 223
تعالى عنهما - أن النطفة الواحدة لا تبقى في صلب الأب زمانا طويلا والجنين يبقى زمانا طويلا ، ولما كان المكث في الرحم أكثر مما في صلب الأب كان حمل الاستقرار على المكث في الرحم أولى. ويلزم ذلك أن حمل الاستيداع على المكث في الصلب أولى. وأنا أقول : لعل حمل المستودع على الصلب باعتبار أن الله تعالى بعد أن أخرج من بني آدم عليه السلام من ظهورهم ذريتهم يوم الميثاق وأشهدهم على أنفسهم وكان ما كان ردهم إلى ما أخرجهم منه فكأنهم وديعة هناك تخرج حين يشاء الله تعالى ذلك ، وقد أطلق ابن عباس رضي الله تعالى عنهما اسم الوديعة على ما في الصلب صريحا. فقد أخرج عبد الرزاق عن سعيد بن جبير قال : قال لي ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أتزوجت؟ قلت : لا وما ذلك في نفسي اليوم قال : إن كان في صلبك وديعة فستخرج.
وروي تفسير المستودع بالدنيا والمستقر بالقبر عن الحسن وكان يقول : يا ابن آدم أنت وديعة في أهلك ويوشك أن تلحق بصاحبك وينشد قول لبيد :
وما المال والأهلون إلا وديعة ولا بد يوما أن ترد الودائع
وقال سليمان بن زيد العدوي في هذا المعنى :
فجع الأحبة بالأحبة قبلنا فالناس مفجوع به ومفجع
مستودع أو مستقر مدخلا فالمستقر يزوره المستودع
وعن أبي مسلم الأصفهاني أن المستقر الذكر لأن النطفة إنما تتولد في صلبه والمستودع الأنثى لأن رحمها شبيه بالمستودع لتلك النطفة فكأنه قيل : وهو الذي خلقكم من نفس واحدة فمنكم ذكر ومنكم أنثى.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «فمستقر» بكسر القاف وهو حينئذ اسم فاعل بمعنى قار ومستودع اسم مفعول والمراد فمنكم مستقر ومنكم مستودع. ووجه كون الأول معلوما والثاني مجهولا أن الاستقرار هنا بخلاف الاستيداع والمتعاطفان على القراءة الأولى مصدران أو اسما مكان ولا يجوز أن يكون الأول اسم مفعول لأن استقر لا يتعدى وكذا الثاني ليكون كالأول قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ المبينة لتفاصيل خلق البشر ومن جملتها هذه الآية لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ معاني ذلك ، قيل : ذكر مع ذكر النجوم يَعْلَمُونَ ومع ذكر إنشاء بني آدم يَفْقَهُونَ لأن الإنشاء من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوالهم المختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيرا فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنة وتدقيق نظر مطابقا له ، وهو مبني على أن الفقه أبلغ من العلم ، وقيل : هما بمعنى إلا أنه لما أريد فصل كل آية بفاصلة تنبيها على استقلال كل منهما بالمقصود من الحجة وكره الفصل بفاصلتين متساويتين لفظا للتكرار عدل إلى فاصلة مخالفة تحسينا للنظم وافتنانا في البلاغة.
وذكر ابن المنير وجها آخر في تخصيص الأولى بالعلم والثانية بالفقه وهو أنه لما كان المقصود التعريض بمن لا يتدبر آيات الله تعالى ولا يعتبر بمخلوقاته. وكانت الآيات المذكورة أولا خارجة عن أنفس النظار إذ النجوم والنظر فيها وعلم الحكمة الإلهية في تدبيره لها أمر خارج عن نفس الناظر ولا كذلك النظر في إنشائهم من نفس واحدة وتقليبهم في أطوار مختلفة وأحوال متغايرة فإنه نظر لا يعدو نفس الناظر ولا يتجاوزها فإذا تمهد هذا فجهل الإنسان بنفسه وأحواله وعدم النظر والتفكر فيها أبشع من جهله بالأمور الخارجة عنه كالنجوم والأفلاك ومقادير سيرها وتقلبها ، فلما كان الفقه أدنى درجات العلم إذ هو عبارة عن الفهم نفي بطريق التعريض عن أبشع القبيلتين جهلا وهم الذين لا يتبصرون في أنفسهم ونفي الأدنى أبشع من نفي الأعلى فخص به أسوأ الفريقين حالا. ويَفْقَهُونَ هاهنا مضارع فقه الشيء بكسر القاف إذا فهمه ولو أدنى فهم ، وليس من فقه بالضم لأن تلك درجة عالية ومعناه صار فقيها. ثم ذكر أنه إذا قيل :

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 224
فلان لا يفقه شيئا كان أذم في العرف من قولك : فلان لا يعلم شيئا وكان معنى قولك : لا يفقه شيئا ليست له أهلية الفهم وإن فهم ، وأما قولك : لا يعلم شيئا فغايته عدم حصول العلم له وقد يكون له أهلية الفهم والعلم لو تعلم. واستدل على أن التارك للتفكر في نفسه أجهل وأسوأ حالا من التارك للفكرة في غيره بقوله سبحانه : وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات : 20 ، 21] فخص التبصر في النفس بعد اندراجها فيما في الأرض من الآيات وأنكر على من لا يتبصر في نفسه إنكارا مستأنفا والله تعالى أعلم بأسرار كلامه.
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً تذكير لنعمة أخرى من نعمه سبحانه الجليلة المنبئة عن كمال قدرته عز وجل وسعة رحمته ، والمراد من الماء المطر ومن السماء السحاب أو الكلام على تقدير مضاف أي من جانب السماء.
وقيل : الكلام على ظاهره والإنزال من السماء حقيقة إلى السحاب ومنه إلى الأرض واختاره الجبائي ، واحتج على فساد قول من يقول : إن البخارات الكثيرة تجتمع في باطن الأرض ثم تصعد وترتفع إلى الهواء وينعقد السحاب منها ويتقاطر ماء وذلك هو المطر المنزل بوجوه. أحدها أن البرد قد يوجد في وقت الحر بل في حميم الصيف ونجد المطر في أبرد وقت ينزل غير جامد. وذلك يبطل ما ذكر. ثانيها أن البخارات إذا ارتفعت وتصاعدت تفرقت وإذا تفرقت لم يتولد منها قطرات الماء بل البخار إنما يجتمع إذا اتصل بسقف أملس كما في بعض الحمامات أما إذا لم يكن كذلك لم يسل منه ماء كثير فإذا تصاعدت البخارات في الهواء وليس فوقها سطح أملس تتصل به وجب أن لا يحصل منها شيء من الماء.
ثالثها أنه لو كان تولد المطر من صعود البخارات فهي دائمة الارتفاع من البحار فوجب أن يدوم هناك نزول المطر وحيث لم يكن كذلك علمنا فساد ذلك القول. ثم قال : والقوام إنما احتاجوا إلى هذا القول لأنهم اعتقدوا أن الأجسام قديمة فيمتنع دخول الزيادة والنقصان فيها. وحينئذ لا معنى لحدوث الحوادث إلا اتصاف تلك الذوات بصفة بعد أن كانت موصوفة بصفة أخرى. ولهذا السبب احتاجوا في تكوين كل شيء عن مادة معينة. وأما المسلمون فلما اعتقدوا أن الأجسام محدثة وأن خالق العالم فاعل مختار قادر على خلق الأجسام كيف شاء وأراد فعند هذا لا حاجة إلى استخراج هذه التكلفات وحيث دل ظاهر القرآن على أن الماء إنما ينزل من السماء ولا دليل على امتناع هذا الظاهر وجب القول بحمله عليه انتهى. ولا يخفى على من راجع كتب القوم أنهم أجابوا عن جميع تلك الوجوه. وأن الذي دعاهم إلى القول بذلك ليس مجرد ما ذكر بل القول بامتناع الخرق والالتئام أيضا ووجود كرة النار تحت السماء وانقطاع عالم العناصر عندها ومشاهدة من على جبل شامخ سحابا يمطر مع عدم مشاهدة ماء نازل من السماء إليه إلى غير ذلك. وهذا وإن كان بعضه مما قام الدليل الشرعي على بطلانه وبعضه مما لم يقم الدليل عليه ولم يشهد بصحته الشرع لكن مشاهدة من على الجبل ما ذكر ونحوها يستدعي صحة قولهم في الجملة ولا أرى فيه بأسا ، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : ما من قطرة تنزل إلا ومعها ملك ، وهو عند الكثير محمول على ظاهره.
والفلاسفة يحملون هذا الملك على الطبيعة الحالة في تلك الجسمية الموجبة لذلك النزول ، وقيل : هو نور مجرد عن المادة قائم بنفسه مدبر للقطر حافظ إياه ، ويثبت أفلاطون هذا النور المجرد لكل نوع من الأفلاك والكواكب والبسائط العنصرية ومركباتها على ما ذهب إليه صاحب الإشراق وهو أحد الأقوال في المثل الأفلاطونية ، ويشير إلى نحو ذلك كلام الشيخ صدر الدين القونوي في تفسير الفاتحة ، ونصب ماءً على المفعولية لأنزل ، وتقديم المفعول غير الصريح عليه لما مر مرارا فَأَخْرَجْنا بِهِ أي بسبب الماء ، والفاء للتعقيب وتعقيب كل شيء بحسبه. وأُخْرِجْنا عطف على أَنْزَلَ والالتفات إلى التكلم إظهارا لكمال العناية بشأن ما أنزل الماء لأجله ، وذكر بعضهم نكتة خاصة لهذا الالتفات غير ما ذكر وهي أنه سبحانه لما ذكر فيما مضى ما ينبهك على أنه الخالق اقتضى ذلك التوجه إليه حتى

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 225
يخاطب واختيار ضمير العظمة دون ضمير المتكلم وحده لإظهار كمال العناية أي فأخرجنا بعظمتنا بذلك الماء مع وحدته نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ أي كل صنف من أصناف النبات المختلفة في الكم ، والكيف ، والخواص ، والآثار.
اختلافا متفاوتا في مراتب الزيادة والنقصان حسبما يفصح عنه قوله سبحانه : يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ [الرعد : 4] والنبات كالنبت وهو - على ما قال الراغب - ما يخرج من الأرض من الناميات سواء كان له ساق كالشجر أو لم يكن له ساق كالنجم لكن اختص في التعارف بما لا ساق له بل قد اختص عند العامة بما تأكله الحيوانات ، ومتى اعتبرت الحقائق فإنه يستعمل في كل نام نباتا كان أو حيوانا أو إنسانا. والمراد هنا عند بعض المعنى الأول. وجعل قوله تعالى : فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً شروعا في تفصيل ما أجمل من الإخراج وقد بدأ بتفصيل حال النجم وضمير مِنْهُ للنبات. والخضر بمعنى الأخضر كأعور وعور ، وأكثر ما يستعمل الخضر فيما تكون خضرته خلقية ، وأصل الخضرة لون بين البياض والسواد وهو إلى السواد أقرب ولذا يسمى الأخضر أسود وبالعكس ، والمعنى فأخرجنا من النبات الذي لا ساق له شيئا غضا أخضر وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة. وجوز عود الضمير إلى الماء ومن سببية ، وجعل أبو البقاء هذا الكلام حينئذ بدلا من فَأَخْرَجْنا الأول ، وذكر بعض المحققين أن في الآية على تقدير عود الضمير إلى الماء معنى بديعا حيث تضمنت الإشارة إلى أنه تعالى أخرج من الماء الحلو الأبيض في رأي العين أصنافا من النبات والثمار مختلفة الطعوم والألوان وإلى ذلك نظر القائل يصف المطر :
يمد على الآفاق بيض خيوطه فينسج منها للثرى حلة خضرا
وقوله تعالى : نُخْرِجُ مِنْهُ صفة لخضر ، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة بما فيها من الغرابة ، وجوز أن يكون مستأنفا أي نخرج من ذلك الخضر حَبًّا مُتَراكِباً أي بعضه فوق بعض كما في السنبل وقرىء «يخرج منه حب متراكب» وَمِنَ النَّخْلِ «1» جمع نخل - كما قال الراغب - والنخل معروف ويستعمل في الواحد والجمع ، وهذا شروع في تفصيل حال الشجر إثر بيان حال النجم عند البعض ، فالجار والمجرور خبر مقدم وقوله سبحانه : مِنْ طَلْعِها بدل منه بدل بعض من كل بإعادة العامل.
وقوله سبحانه : قِنْوانٌ مبتدأ وحاصله من طلع النخيل قنوان ، وجوز أن يكون الخبر محذوفا لدلالة أخرجنا عليه وهو كون خاص وبه يتعلق الجار. والتقدير ومخرجه من طلع النخل قنوان. وعلى القراءة السابقة آنفا يكون قِنْوانٌ معطوفا على حب. وقيل : المعنى وأخرجنا من النخل نخلا من طلعها قنوان ومن النخل شيئا من طلعها قنوان ، وهو جمع قنو بمعنى العذق وهو للتمر بمنزلة العنقود للعنب. وتثنيته أيضا قنوان ولا يفرق بين المثنى والجمع إلا الإعراب ، ولم يأت مفرد يستوي مثناه وجمعه إلا ثلاثة أسماء هذا وصنو وصنوان. ورئد ورئدان بمعنى مثل قاله ابن خالويه. وحكى سيبويه شقد ، وشقدان ، وحش ، وحشان للبستان نقله الجلال السيوطي في المزهر. وقرىء بضم القاف وبفتحها على أنه اسم جمع لأن فعلان ليس من زنات التكسير دانِيَةٌ أي قريبة من المتناول كما قال الزجاج. واقتصر على ذكرها عن مقابلها لدلالتها عليه وزيادة النعمة فيها وقيل : المراد دانية من الأرض بكثرة ثمرها وثقل حملها والدنو القولين حقيقة ، ويحتمل أن يراد به سهولة الوصول إلى ثمارها مجازا.
وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ عطف على نبات كل شيء أي وأخرجنا به جنات كائنة من أعناب ، وجعله الواحدي عطفا على خَضِراً. وقال الطيبي : الأظهر أن يكون عطفا على «حبا» لأن قوله سبحانه : نَباتَ كُلِّ شَيْ ءٍ
___________
(1) أصل المصنف ومن النخيل كذا بخطه لذلك قال بعده جمع نخل والتلاوة كما في المصحف العثماني ومن النخل تنبه.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 226
مفصل لاشتماله على كل صنف من أصناف النامي ، والنامي الحب والنوى وشبههما. وقوله سبحانه : فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً إلخ تفصيل لذلك النبات ، وهو بدل من فَأَخْرَجْنا الأول بدل اشتمال ، وقيل : وهذا مبني على أن المراد بالنبات المعنى العام وحينئذ لا يحسن عطفه عليه لأنه داخل فيه وإن أريد ما لا ساق له تعين عطفه عليه لأنه غير داخل فيه وتعين أن يقدر لقوله سبحانه : وَمِنَ النَّخْلِ فعل آخر كما أشير إليه فتدبر.
وقرأ أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه ، وابن مسعود ، والأعمش ، ويحيى بن يعمر ، وأبو بكر عن عاصم «وجنات» بالرفع على الابتداء أي ولكم أو ثم جنات أو نحو ذلك ، وجوز الزمخشري أن يكون على العطف على قِنْوانٌ قال في التقريب : وفيه نظر لأنه إن عطف - على ذلك فمن أعناب - حينئذ إما صفة جَنَّاتٍ فيفسد المعنى إذ يصير المعنى وحاصلة من النخيل جنات حصلت من أعناب ، وإما خبر لجنات فلا يصح لأنه يكون عطفا لها على مفرد ويكون المبتدأ نكرة فلا يصح ، وفي الكشف أن الثاني بعيد الفهم من لفظ الزمخشري وإن أمكن الجواب بأن العطف على المخصص مخصص كما قال ابن مالك ، واستشهد عليه بقوله :
عندي اصطبار وشكوى عند قاتلتي فهل بأعجب من هذا امرؤ سمعا
والظاهر الأول لكنه عطف جملة على جملة. ويقدر ومخرجة من الخضر أو من الكرم أو حاصلة جنات من أعناب دون صلته لأن التقييد لازم كما حقق في عطف المفرد وحده ، ولا يخفى أن هذا تكلف مستغنى عنه ، ولعل زيادة الجنات هنا - كما قيل - من غير اكتفاء بذكر اسم الجنس كما فيما تقدم وما تأخر لما أن الانتفاع بهذا الجنس لا يتأتى غالبا إلا عند اجتماع طائفة من أفراده وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ نصب على الاختصاص لعزة هذين الصنفين عندهم أو على العطف على نَباتَ.
وقوله سبحانه : مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ إما حال من الزَّيْتُونَ لسبقه اكتفى به عن حال ما عطف عليه والتقدير والزيتون مشتبها وغير متشابه والرمان كذلك ، وإما حال من الرُّمَّانَ لقربه ويقدر مثله في الأول. وأيّا ما كان ففي الكلام مضاف مقدر وهو بعض أي بعض ذلك مشتبها وبعضه غير متشابه في الهيئة والمقدار واللون والطعم وغير ذلك من الأوصاف الدالة على كمال قدرة صانعها وحكمة منشئها ومبدعها جل شأنه وإلا كان المعنى جميعه مشتبه وجميعه غير متشابه وهو غير صحيح. ومن الناس من جوز كونه حالا منهما مع التزام التأويل. وافتعل وتفاعل هنا بمعنى كاستوى وتساوى. وقرىء متشابها وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا نظر اعتبار واستبصار إِلى ثَمَرِهِ أي ثمر ذلك أي الزيتون والرمان والمراد شجرتهما وأريد بهما فيما سبق الثمرة ففي الكلام استخدام. وعن الفراء أن المراد في الأول شجر الزيتون وشجر الرمان وحينئذ لا استخدام ، وأيّا ما كان فالضمير راجع إليهما بتأويله باسم الإشارة. ورجوعه إلى كل واحد منهما على سبيل البدل بعيد لا نظير له في عدم تعيين مرجع الضمير.
وجوز رجوع الضمير إلى جميع ما تقدم بالتأويل المذكور ليشمل النخل وغيره مما يثمر إِذا أَثْمَرَ أي إذا أخرج ثمره كيف يخرجه ضئيلا لا يكاد ينتفع به. وقرأ حمزة والكسائي «ثمره» بضم الثاء وهو جمع ثمرة كخشبة وخشب أو ثمار ككتاب وكتب وَيَنْعِهِ أي وإلى حال نضجه أو إلى نضيجه كيف يعود ضخما ذا نفع عظيم ولذة كاملة. وهو في الأصل مصدر ينعت الثمرة إذا أدركت ، وقيل : جمع يانع كتاجر وتجر. وقرىء بالضم وهي لغة فيه.
وقرأ ابن محيصن «ويانعه» ، ولا يخفى أن في التقييد بقوله تعالى : إِذا أَثْمَرَ على ما أشرنا إليه إشعارا بأن المثمر حينئذ ضعيف غير منتفع به فيقابل حال الينع. ويدل كمال التفاوت على كمال القدرة. وعن الزمخشري أنه قال فإن قلت هلا قيل : إلى غض ثمره وينعه؟ قلت : في هذا الأسلوب فائدة وهي أن الينع وقع فيه معطوفا على الثمر على سنن

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 227
الاختصاص نحو قوله سبحانه : وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة : 98] للدلالة على أن الينع أولى من الغض وله وجه وجيه وإن خفي على بعض الناظرين.
إِنَّ فِي ذلِكُمْ إشارة إلى ما أمروا بالنظر إليه. وما في اسم الإشارة من معنى البعد لما مر غير مرة لَآياتٍ عظيمة أو كثيرة دالة على وجود القادر الحكيم ووحدته لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي يطلبون الإيمان بالله تعالى - كما قال القاضي - أو مؤمنون بالفعل ، وتخصيصهم بالذكر لأنهم الذين انتفعوا بذلك دون غيرهم - كما قيل - ووجه دلالة ما ذكر على وجود القادر الحكيم ووحدته أن حدوث هاتيك الأجناس المختلفة والأنواع المتشعبة من أصل واحد وانتقالها من حال إلى حال على نمط بديع لا بد أن يكون بإحداث صانع يعلم تفاصيلها ويرجح ما تقتضيه حكمته من الوجوه الممكنة على غيره ولا يعوقه ضد يعانده أو ند يعارضه ، ثم إنه سبحانه بعد أن ذكر هذه النعم الجليلة الدالة على توحيده وبخ من أشرك به سبحانه ورد عليه بقوله عز شأنه : وَجَعَلُوا في اعتقادهم لِلَّهِ الذي شأنه ما فصل في تضاعيف هذه الآيات شُرَكاءَ في الألوهية أو الربوبية الْجِنَّ أي الملائكة حيث عبدوهم وقالوا : إنهم بنات الله سبحانه وتسميتهم جنا مجاز لاجتنانهم واستتارهم عن الأعين كالجن. وفي التعبير عنهم بذلك حط لشأنهم بالنسبة إلى مقام الإلهية.
وروي هذا عن قتادة ، والسدي ، ويفهم من كلام بعضهم أن الجن تشمل الملائكة حقيقة. وقيل : المراد بهم الشياطين وروي عن الحسن ومعنى جعلهم شركاء أنهم أطاعوهم كما يطاع الله تعالى أو عبدوا الأوثان بتسويلهم وتحريضهم. ويروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الآية نزلت في الزنادقة الذين قالوا : إن الله تعالى خالق الناس ، والدواب ، والأنعام ، والحيوان ، وإبليس خالق السباع ، والحيات ، والعقارب والشرور. فالمراد من الجن إبليس وأتباعه الذين يفعلون الشرور ويلقون الوساوس الخبيثة إلى الأرواح البشرية ، وهؤلاء المجوس القائلون بالنور والظلمة ولهم في هذا الباب أقوال تمجها الأسماع وتشمئز عنها النفوس.
وادعى الإمام أن هذا أحسن الوجوه المذكورة في الآية ، ومفعولا - جعل - قيل : لله ، وشركاء ، والْجِنَّ إما منصوب بمحذوف وقع جوابا عن سؤال كأنه قيل : من جعلوه شركاء؟ فقيل : الجن ، أو منصوب على البدلية من شُرَكاءَ والمبدل منه ليس في حكم الساقط بالكلية وتقديم المفعول الثاني لأنه محز الإنكار ولأن المفعول الأول منكر يستحق التأخير. وقيل : هما شُرَكاءَ والْجِنَّ ، وتقديم ثانيهما على الأول لاستعظام أن يتخذ لله سبحانه شريك ما كائنا ما كان ، ولِلَّهِ متعلق بشركاء وتقديمه عليه للنكتة المذكورة أيضا على ما اختاره الزمخشري.
وقرىء «الجن» بالرفع كأنه قيل : من هم؟ فقيل : الجن وبالجر على الإضافة التي هي للتبيين : وَخَلَقَهُمْ حال من فاعل جَعَلُوا بتقدير قد أو بدونه على اختلاف الرأيين مؤكدة لما في جعلهم ذلك من الشناعة والبطلان باعتبار علمهم بمضمونها أي وقد علموا أن الله تعالى خالقهم خاصة ، وقيل : الضمير للجن أي والحال أنه تعالى خلق الجن فكيف يجعلون مخلوقه شريكا له. ورجح الأول بخلوه عن تشتت الضمائر ورجح الإمام الثاني بأن عود الضمير إلى أقرب المذكورات واجب ، وبأنه إذا رجع الضمير إلى هذا الأقرب صار اللفظ الواحد دليلا قاطعا تاما كاملا في إبطال المذهب الباطل. وقرأ يحيى بن يعمر «وخلقهم» على صيغة المصدر عطفا على الْجِنَّ أي وما يخلقونه من الأصنام أو على شُرَكاءَ أي وجعلوا له اختلاقهم للقبائح حيث نسبوها إليه سبحانه وقالوا : الله أمرنا بها وَخَرَقُوا لَهُ أي افتعلوا وافتروا له سبحانه ، قال الفراء : يقال : خلق الإفك واختلقه وخرقه واخترقه بمعنى.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 228
ونقل عن الحسن أنه سئل عن ذلك فقال : كلمة عربية كانت العرب تقولها كان الرجل إذا كذب كذبة في نادي القوم يقول له بعضهم : قد خرقها والله. وقال الراغب : أصل الخرق قطع الشيء على سبيل الفساد من غير تفكر ولا تدبر.
ومنه قوله تعالى : أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها [الكهف : 71] وهو ضد الخلق فإنه فعل الشيء بتقدير ورفق والخرق بغير تقدير قال تعالى : وَخَرَقُوا لَهُ أي حكموا بذلك على سبيل الخرق وباعتبار القطع. وقرأ نافع «وخرّقوا» بتشديد الراء للتكثير. وقرأ ابن عمر وابن عباس رضي الله تعالى عنهم «وحرفوا» من التحريف أي وزوروا له بَنِينَ وَبَناتٍ فقالت اليهود. عزير ابن الله ، وقالت النصارى : المسيح ابن الله ، وقالت العرب : الملائكة بنات الله والله سبحانه منزه عما قالو بِغَيْرِ عِلْمٍ بحقيقته من خطأ أو صواب ولا فكر ولا روية فيه بل قالوه عن عمى وجهالة أو بغير علم بمرتبة ما قالوه وأنه من الشناعة بالمحل البعيد.
وأيّا ما كان فالجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من الواو أو نعت لمصدر مؤكد أي خرقوا ملتبسين بغير علم أو خرقا كائنا بغير علم والمقصود على الوجهين ذمهم بالجهل ، وقيل : إن ذلك كناية عن نفي ما قالوا فإن ما لا أصل له لا يكون معلوما ولا يقام عليه دليل ، ولا حاجة إليه إذ نفيه معلوم من جعله اختلاقا وافتراء ومن قوله عز وجل :
سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ من أن له جل شأنه شريكا أو ولدا ، وقد تقدم الكلام في سبحانه وما يفيده من المبالغة في التنزيه ، وتَعالى عطف على الفعل المضمر الناصب لسبحان.
وفرق الإمام بين التسبيح والتعالي بأن الأول راجع إلى أقوال المسبحين والثاني إلى صفاته تعالى الذاتية التي حصلت لذاته سبحانه لا لغيره والمراد بالبنين فيما تقدم ما فوق الواحد أو أن من يجوز الواحد يجوز الجمع.
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مبدعهما وموجدهما بغير آلة ولا مادة ولا زمان ولا مكان قاله الراغب ، وهو كما يطلق على المبدع يطلق على المبدع اسم مفعول ، ومنه قيل : ركي بديع وكذلك البدع بكسر الباء يقال لهما.
وقيل : هو من إضافة الصفة المشبهة إلى الفاعل للتخفيف بعد نصبه تشبيها لها باسم الفاعل كما هو المشهور أي بديع سماواته وأرضه من بدع إذا كان على نمط عجيب وشكل فائق وحسن رائق أو إلى الظرف كما في قولهم فلان ثبت الغدر أي ثبت في الغدر وهو بغين معجمة ودال وراء مهملتين المكان ذو الحجارة والشقوق ويقولون ذلك إذا كان الرجل ثبتا في قتال أو كلام. والمراد من بديع في السماوات والأرض أنه سبحانه عديم النظير فيهما.
ومعنى ذلك - على ما قال بعض المحققين - أن إبداعه لهما لا نظير له لأنهما أعظم المخلوقات الظاهرة فلا يرد أنه لا يلزم من نفي النظير فيهما نفيه مطلقا ، ولا حاجة إلى تكلف أنه خارج مخرج الرد على المشركين بحسب زعمهم أنه لا موجود خارج عنهما. واختار غير واحد التفسير الأول ، والمعنى عليه أنه تعالى مبدع لقطري العالم العلوي والسفلي بلا مادة فاعل على الإطلاق منزه عن الانفعال بالكلية ، والوالد عنصر الولد منفعل بانتقال مادته عنه فكيف يمكن أن يكون له ولد؟.
وقرىء «بديع» بالنصب على المدح والجر على أنه بدل من الاسم الجليل أو من الضمير المجرور في سُبْحانَهُ على رأي من يجوزه ، وارتفاعه على القراءة المشهورة على ثلاثة أوجه - كما قال أبو البقاء - ، الأول أنه خبر مبتدأ محذوف ، الثاني أنه فاعل ، تَعالى وإظهاره في موضع الإضمار لتعليل الحكم ، وتوسيط الظرف بينه وبين الفعل للاهتمام ببيانه ، والثالث أنه مبتدأ خبره قوله سبحانه : أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وهو على الأولين جملة مستقلة مسوقة كما قبلها لبيان استحالة ما نسبوه إليه تعالى وتقرير تنزيهه عنه جل شأنه. وقوله تعالى : وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ حال مؤكدة للاستحالة المذكورة ضرورة أن الولد لا يكون بلا والده أصلا وإن أمكن وجوده بلا والد أي من أين أو

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 229
كيف يكون له ولد والحال أنه ليس له صاحبة يكون الولد منها. وقرأ إبراهيم النخعي «لم يكن» بتذكير الفعل وجاز ذلك مع أن المرفوع مؤنث للفصل كما في قوله :
لقد ولد الأخيطل أم سوء على قمع استها صلب وشام
قال ابن جني : تؤنث الأفعال لتأنيث فاعلها لأنهما يجريان مجرى كلمة واحدة لعدم استغناء كل عن صاحبه فإذا فصل جاز تذكيره وهو في باب كان أسهل لأنك لو حذفتها استقل ما بعدها. قيل : إن اسم «يكن» ضميره تعالى.
والخبر هو الظرف وصاحِبَةٌ مرتفع به على الفاعلية لاعتماده على المبتدأ والظرف خبره مقدم وصاحِبَةٌ مبتدأ والجملة خبر يَكُونُ وعلى هذا يجوز أن يكون الاسم ضمير الشأن لصلاحية الجملة حينئذ لأن تكون مفسرة للضمير لا على الأول لأنه كما بين في موضعه لا يفسر إلا بجملة صريحة ، والاعتراض بأنه إذا كان العمدة في المفسرة مؤنثا فالمقدر ضمير القصة لا الشأن فيعود السؤال ليس بوارد كعدم اللزوم وإن توهمه بعضهم. وقوله تعالى : وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ استئناف لتحقيق ما ذكر من الاستحالة أو حال أخرى مقررة لها أي أن يكون له ولد والحال أنه خلق كل شيء من الموجودات التي من جملتها ما سموه ولدا فكيف يتصور أن يكون المخلوق ولدا لخالقه. ويفهم من التفسير الكبير أن من زعم أن لله تعالى شأنه ولدا إن أراد أنه سبحانه أحدثه على سبيل الإبداع من غير تقدم نطفة مثلا رد بأن خلقه للسماوات والأرض كذلك فيلزم كونهما ولدا له تعالى وهو باطل بالاتفاق ، وإن أراد ما هو المعروف من الولادة في الحيوانات رد أولا بأنه لا صاحبة له وهي أمر لازم في المعروف. وثانيا بأن تحصيل الولد بذلك الطريق إنما يصح في حق من لا يكون قادرا على الخلق والإيجاد والتكوين دفعة واحدة أما من كان خالقا لكل الممكنات وكان قادرا على كل المحدثات فإذا أراد شيئا قال له كن فيكون فيمتنع منه إحداث شخص بطريق الولادة.
وإن أراد مفهوما ثالثا فهو غير متصور وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ من شأنه أن يعلم كائنا ما كان مخلوقا أو غير مخلوق كما ينبىء عنه ترك الإضمار إلى الإظهار عَلِيمٌ مبالغ في العلم أزلا وأبدا حسبما يعرب عنه العدول إلى الجملة الاسمية ، وحينئذ فلا يخلو إما أن يكون الولد قديما أو محدثا لا جائز أن يكون قديما لأن القديم يجب كونه واجب الوجود لذاته وما كان كذلك كان غنيا عن غيره فامتنع كونه ولدا للغير فتعين كونه حادثا ، ولا شك أنه تعالى عالم بكل شيء فأما أن يعلم أن له في تحصيل الولد كمالا أو نفعا أو يعلم أنه ليس كذلك ، فإن كان الأول فلا وقت يفرض إلا والداعي إلى إيجاد هذا الولد كان حاصلا قبله وهو يوجب كونه أزليا وهو محال وإن كان الثاني وجب أن لا يحدث البتة في وقت من الأوقات. وقرر الإمام عليه الرحمة الرد بهذه الجملة بوجه آخر أيضا ، وبعضهم جعل هذه الجملة مع ما قبلها متضمنة لوجه واحد من أوجه الرد ، والجملة إما حالية أو مستأنفة ، واقتصر بعضهم على الثاني فقال : إنها استئناف مقرر لمضمون ما قبلها من الدلائل القاطعة ببطلان مقالتهم الشنعاء التي اجترءوا عليها بغير علم. والظاهر من هذا أن ما في الآية أدلة قطعية على بطلان ما زعمه المختلفون ، وكلام الإمام حيث قال بعد تقرير الوجوه : لو أن الأولين والآخرين اجتمعوا على أن يذكروا في هذه المسألة كلاما يساويه أي ما دلت عليه الآية في القوة والكمال لعجزوا عنه. وادعى الشهاب أن ما يفهم من ذلك أدلة إقناعية ، ولعل الأولى القول بأن البعض قطعي والبعض الآخر إقناعي فتدبر ذلِكُمُ إشارة إلى المنعوت بما ذكر من جلائل النعوت ، وما فيه من معنى البعد لما مر مرارا. والخطاب للمشركين المعهودين بطريق الالتفات.
وذهب الطبرسي أنه لجميع الناس ، وهو مبتدأ وقوله سبحانه : اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ أخبار أربعة مترادفة أي ذلك الموصوف بتلك الصفات العظيمة الشأن هو الله المستحق للعبادة خاصة مالك أمركم لا شريك له أصلا خالق كل شيء مما كان وسيكون ، والمعتبر في عنوان الموضوع حسبما اقتضته الإشارة إنما هو خالقيته

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 230
سبحانه لما كان فقط كما ينبىء عنه صيغة الماضي ، وجوز أن يكون الاسم الجليل بدلا من اسم الإشارة ورَبُّكُمْ صفته وما بعده خبر ، وأن يكون الاسم الجليل هو الخبر وما بعده إبدال منه ، وأن يكون بدلا والبواقي أخبار ، وأن يقدر لكل خبر من الأخبار الثلاثة مبتدأ ، وأن يجعل الكل بمنزلة اسم واحد ، وأن يكون خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ بدلا من الضمير ، وجوز غير ذلك. وقوله تعالى : فَاعْبُدُوهُ مسبب عن مضمون الجملة فإن من جمع هذه الصفات كما هو المستحق للعبادة خاصة ، وادعى بعضهم أن العبادة المأمور بها في نهاية الخضوع وهي لا تتأتى مع التشريك فلذا استغني عن أن يقال : فلا تعبدوا إلا إياه ، ويفهم منه أن مجرد مفهوم العبادة يفيد الاختصاص ، ولا يأباه دعوى إفادة تقديم المفعول في إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة : 5] إياه «1» لأن إفادة الحصر بوجهين لا مانع منها كما في فَلِلَّهِ الْحَمْدُ [الجاثية : 36] ونحوه ، وإنما قال سبحانه هنا : ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وفي سورة المؤمن ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [غافر : 62] فقدم سبحانه هنا لا إِلهَ إِلَّا هُوَ على خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وعكس هناك قال بعض المحققين لأن هذه الآية جاءت بعد قوله تعالى جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ إلخ فلما قال جل شأنه. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ أتى بعده بما يدفع الشركة فقال عز قائلا : لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ثم خالق كل شيء وتلك جاءت بعد قوله سبحانه : لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر : 57] فكان الكلام على تثبيت خلق الناس وتقريره لا على نفي الشريك عنه جل شأنه كما كان في الآية الأولى فكان تقديم خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ هناك أولى والله تعالى أعلم بأسرار كلامه.
وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ عطف على الجملة السابقة أي وهو مع تلك الصفات الجليلة الشأن متولي جميع الأمور الدنيوية والأخروية ، ويلزم من ذلك أن لا يوكل أمر إلى غيره ممن لا يتولى.
وجوز أن تكون هذه الجملة في موضع الحال وقيدا للعبادة ويؤول المعنى إلى أنه سبحانه مع ما تقدم متولي أموركم فكلوها إليه وتوسلوا بعبادته إلى إنجاح مأربكم ، وفسر بعضهم الوكيل بالرقيب أي أنه تعالى رقيب على أعمالكم فيجازيكم عليها. واستدل أصحابنا بعموم خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ على أنه تعالى هو الخالق لأعمال العباد.
والمعتزلة قالوا : عندنا هنا أشياء تخرج أعمال العباد من البين. أحدها تعقيب ذلك العموم بقوله سبحانه :
فَاعْبُدُوهُ فإنه لو دخلت أعمال العباد هناك لصار تقدير الآية إنا خلقنا أعمالكم فافعلوها بأعيانها مرة أخرى وفساده ظاهر. ثانيها أن خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ذكر في معرض المدح والثناء ولا تمدح بخلق الزنا واللواطة والسرقة والكفر مثلا.
ثالثها أنه تعالى قال بعد : قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وهو تصريح بكون العبد مستقلا بالفعل والترك وأنه لا مانع له. رابعها أن هذه الآية أتى بها بعد وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ والمراد منه على ما روي عن الحبر الرد على المجوس في إثبات الهين فيجب أن يكون خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ محمولا على إبطال ذلك وهو إنما يكون إذا قلنا : إنه تعالى هو الخالق لما في هذا العالم من السباع والآلام ونحوها وإذا حمل على ذلك لم تدخل أعمال العباد ولا يخفى ما في ذلك من النظر ومثله استدلالهم بالآية على نفي الصفات وكون القرآن مخلوقا فتدبر لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ جمع بصر يطلق كما قال الراغب على الجارحة الناظرة وعلى القوة التي فيها وعلى البصيرة. وهي قوة القلب المدركة وإدراك الشيء عبارة عن الوصول إلى غايته والإحاطة به ، وأكثر المتكلمين على حمل البصر هنا على الجارحة من حيث إنها محل القوة. وقيل : هو إشارة إلى ذلك وإلى الأوهام والافهام كما
قال أمير
___________
(1) هو مفعول إفادة اه. منه.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 231
المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه التوحيد أن لا تتوهمه وقال أيضا : كل ما أدركته فهو غيره.
ونقل الراغب عن بعضهم أنه حمل ذلك على البصيرة ، وذكر أنه قد نبه به على ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه في قوله : يا من غاية معرفته القصور عن معرفته إذا كان معرفته تعالى أن تعرف الأشياء فتعلم أنه ليس بمثل لشيء منها بل هو موجد كل ما أدركته. واستدل المعتزلة بهذه الآية على أنه تعالى لا يرى.
وتقرير ذلك على ما في المواقف وشرحها أن الإدراك المضاف إلى الأبصار إنما هو الرؤية ولا فرق بين أدركته ببصري ورأيته إلا في اللفظ أو هما متلازمان لا يصح نفي أحدهما مع إثبات الآخر فلا يجوز رأيته وما أدركته ببصري ولا عكسه ، فالآية نفت أن تراه الأبصار وذلك يتناول جميع الأبصار بواسطة اللام الجنسية في مقام المبالغة في جميع الأوقات. لأن قولك فلان تدركه الأبصار لا يفيد عموم الأوقات فلا بد أن يفيده ما يقابله فلا يراه شيء من الأبصار لا في الدنيا ولا في الآخرة لما ذكر ولأنه تعالى تمدح بكونه لا يرى حيث ذكره في أثناء المدائح وما كان من الصفات عدمه مدحا كان وجوده نقصا يجب تنزيه الله تعالى عنه فظهر أنه يمتنع رؤيته سبحانه ، وإنما قيل : من الصفات احترازا عن الأفعال كالعفو والانتقام فإن الأول تفضل والثاني عدل وكلاهما كمال انتهى. وحاصله أن المراد بالإدراك الرؤية المطلقة لا الرؤية على وجه الإحاطة ، وأن لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ سالبة كلية دائمة وهذا أقوى أدلتهم النقلية في هذا المطلب كما ذكره شيخ مشايخنا الكوراني قدس سره. والجواب عنه من وجوه ، الأول أن الإدراك ليس هو الرؤية المطلقة وإن اختاره - على ما نقله الآمدي أبو الحسن الأشعري وإنما هو الرؤية على نعت الإحاطة بجوانب المرئي كما فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بها في أحد تفسيريه ، ففي الدر المنثور وأخرج ابن جرير عن ابن عباس «لا تدركه الأبصار» لا يحيط بصر أحد بالله تعالى انتهى. وإليه ذهب الكثير من أئمة اللغة وغيرهم. والرؤية المكيفة بكيفية الإحاطة - أخص مطلقا من الرؤية المطلقة ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم ، فظهر صحة أن يقال : رأيته وما أدركه بصري أي ما أحاط به من جوانبه وإن لم يصح عكسه.
الثاني أن لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ كما يحتمل أن يلاحظ فيه أولا دخول النفي ثم ورود اللام فتكون سالبة كلية على طرز قوله تعالى : وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ [غافر : 31] فيكون لعموم السلب كذلك يحتمل أن يعتبر فيه العموم أولا ثم ورود النفي عليه فتكون سالبة جزئية نحو ما قام العبيد كلهم ولم آخذ الدراهم كلها فتكون لسلب العموم وكل ما احتمل سلب العموم لم يكن نصا في عموم السلب وإن كان عموم السلب في مثل هذا هو الأكثر وكل ما كان كذلك لم يبق فيه حجة على امتناع الرؤية مطلقا وهو ظاهر ، وهذا إذا كان أل في الْأَبْصارُ للاستغراق فإن كان للجنس كان لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ سالبة مهملة وهي في قوة الجزئية فيكون المعنى لا تدركه بعض الأبصار وهو متفق عليه. الثالث أنا لو سلمنا أن الإدراك هو الرؤية المطلقة وأن أل للاستغراق وأن الكلام لعموم السلب لكن لا نسلم عمومه في الأحوال والأوقات أي لا نسلم أنها دائمة لجواز أن يكون المراد نفي الرؤية في الدنيا كما يروى تقييده بذلك عن الحسن وغيره.
ويدل عليه ما
أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال : «تلا رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم هذه الآية رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف : 143] فقال : قال الله تعالى : يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده ولا رطب إلا تفرق وإنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم ولا تبلى أجسادهم»
قولهم :
بل هي دائمة لأن قولك : فلان تدركه الأبصار لا يفيد عموم الأوقات فلا بد أن يفيده ما يقابله ، قلنا : هذا لا يتم إلا إذا وجب أن يكون التقابل من الله تعالى تدركه الأبصار ولا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ تقابل تناقض ولا موجب لذلك لا عقليا ولا لغويا ولا شرعيا : أما الأول فلأنا إذا وجدنا قضية موجبة مطلقة جاز أن يقابلها سالبة دائمة مطلقة وأن يقابلها سالبة

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 232
دائمة ولا تتعين الدائمة الصادقة إلا إذا كانت المطلقة كاذبة قطعا لكن كذب المطلقة هاهنا أول البحث وعين المتنازع فيه فلا يجوز أن يبنى كون لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ دائمة على كذب هذه المطلقة أعني الله تعالى يدركه الأبصار مرادا بها أبصار المؤمنين في الجنة والموقف لأنه مصادرة على المطلوب المستلزم للدور ، وأما الثاني فلأن الجملة ثبوتية كانت أو منفية تستعمل بحسب المقامات تارة في الإطلاق وتارة في الدوام وليس يجب في اللغة أنا إذا وجدنا جملة مثبتة استعملت في مقام ما في معنى الإطلاق أن تكون الجملة المقابلة لها مستعملة في معنى الدوام البتة بل يختلف باختلاف المقامات وقصد المستعملين لها وهو ظاهر جدا ، وأما الثالث فلأن المطلقة المذكورة بالمعنى السابق عين المتنازع فيه بيننا وبين المعتزلة شرعا فنحن نقول : إنها صادقة شرعا ونحتج عليها بالعقل والنقل من الكتاب والسنة ، وكل ما كان كذلك لزم أن لا يكون لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ دائمة دفعا للتناقض فتكون إما مطلقة عامة أو وقتية مطلقة ، وعلى التقديرين لا تناقض لانتفاء اتحاد الزمان فيصدق الله تعالى تدركه الأبصار أي أبصار المؤمنين يوم القيامة مثلا أو وقت تجليه في نوره الذي لا يذهب بالأبصار الله تعالى لا تدركه الأبصار أي في الدنيا بالقيد الذي أشير إليه سابقا أو وقت تجليه بنوره الذي يذهب بالأبصار وهو النور الشعشعاني المشار إليه
في الحديث الوارد في صحيح مسلم وغيره «لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره».
وإلى هذا التقييد يشير ثاني تفسيري ابن عباس المتقدم أولهما.
فقد روي أنه قال : «رأى محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ربه فقال له عكرمة : أليس الله تعالى يقول : لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ فقال :
لا أم لك ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شي ء» الحديث.
وبإثبات هذين النورين يجمع بين جوابيه عليه الصلاة والسلام لأبي ذر حيث سأله هل رأيت ربك؟ فقال في أحد جوابيه
«نور أنى أراه»
وفي الجواب
«رأيت نورا»
فيقال : النور الذي نفى رؤيته في الاستفهام الإنكاري المدلول عليه بأنى هو نوره أعني النور الذي يذهب بالأبصار ولا يقوم له بصر ، والنور الذي أثبت رؤيته هو النور الذي لا يذهب بالأبصار.
وكذا يمكن حمل قول عائشة رضي الله تعالى عنهما من زعم أن محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم رأى ربه سبحانه فقد أعظم على الله عز وجل الفرية ، واستشهادها لذلك بهذه الآية على هذا بأن يقال : أرادت من زعم أن محمدا عليه الصلاة والسلام رأى ربه سبحانه في نوره الذي هو نوره الذي يذهب بالأبصار فقد أعظم على الله عز وجل الفرية ويكون الاستشهاد بالآية على ما روي عن ابن عباس من ثاني تفسيريه ، وحينئذ لا يتم للمعتزلة دعوى كون لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ دائمة إلا إذا كانت هذه المطلقة كاذبة شرعا وهو عين المتنازع فيه كما عرفت فلم يبق لهم على دعوى الدوام دليل أصلا.
وقد يقال أيضا : المراد نفي الرؤية وقت عدم إذن الله تعالى للأبصار بالإدراك ، والدليل على صحة إرادة هذا القيد هو أن إرادة الأبصار فعل من أفعال العبيد وكسب من كسبهم وقد ثبت بغير ما دليل أن العباد لا يقدرون على شيء ما من المقدورات إلا بإذن الله تعالى ومشيئته وتمكينه فلا تدركه الأبصار إلا بإذنه وهو المطلوب.
ويؤيد هذا البيان ويشيد أركانه أن لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وقع بعد قوله سبحانه : وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ. ووجه التأييد أن الله تعالى أخبر بأنه على كل شيء وكيل أي متول لأموره ، ومعلوم أن الأبصار من الأشياء وأن إدراكها من أمورها فهو سبحانه وتعالى متوليها ومتصرف فيها على حسب مشيئته فيفيض عليها الإدراك ويأذن لها إذا شاء كيف شاء وعلى الحد الذي شاء ويقبض عنها الإدراك قبضا كليا أو جزئيا في أي وقت شاء كيف شاء ، ولا يخفى على هذا أنه غاية التمدح بالعزة والقهر والغلبة فإن من هو على كل شيء وكيل إذا لم تدركه الأبصار إلا بإذنه مع كونه يدرك الأبصار ولا تخفى عليه خافية كان ذلك غاية في عزته وقهره وكونه غالبا على أمره.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 233
وذهب بعض المحققين أن الآية لم تسق للتمدح وإنما سيقت للتخويف بأنه سبحانه رقيب من حيث لا يرى فليحذر ، وهو ظاهر على التفسير الثاني للوكيل. الرابع من الوجوه يجوز أن يكون المراد لا تدركه الأبصار على الوجه المعتاد في رؤية المحسوسات المشروطة بالشروط التسعة العادية على ما يشير إليه آخر الآية ، ومعلوم أن نفي الخاص لا يستلزم نفي العام فلا يلزم على هذا من الآية نفي الرؤية مطلقا. الخامس ما قيل : إنا لو سلمنا للخصم ما أراد نقول :
إن الآية إنما تدل على أن الأبصار لا تدركه ونحن نقول به وندعي أن ذوي الأبصار يدركونه ، والاعتراض بأنه كما أن الأبصار لا تدركه فكذلك لا يدركه غيرها فلا فائدة للتخصيص مدفوع بأنه إنما يلزم انتفاء الفائدة أن لو انحصرت في نفي حكم المنطوق على المسكوت وهو غير مسلم ولعله كان بخصوص سؤال سائل عنه دون غيره أو لمعنى آخر.
السادس أنا سلمنا أن المراد لا يدركه المبصرون بأبصارهم لكنه لا يفيد المطلوب أيضا لجواز حصول إدراك الله تعالى بحاسة سادسة مغايرة لهذه الحواس كما يدعيه ضرار بن عمرو الكوفي ، فقد نقل عنه أنه كان يقول : إن الله تعالى لا يرى بالعين وإنما يرى بحاسة سادسة يخلقها سبحانه له يوم القيامة ، واحتج عليه بهذه الآية فقال : إنها دلت على تخصيص نفي إدراك الله تعالى بالبصر وتخصيص الحكم بالشيء يدل على أن الحال في غيره بخلافه فوجب أن يكون إدراك الله تعالى بغير البصر جائزا في الجملة ، ولما ثبت أن سائر الحواس الموجودة الآن لا يصلح لذلك ثبت أنه تعالى يخلق يوم القيامة حاسة سادسة بها تحصل رؤية الله تعالى وإدراكه اه.
ومن الناس من استدل بالآية على أن الاطلاع على كنه ذات الله تعالى ممتنع بناء على أن الأبصار جمع بصر بمعنى البصيرة وقرره كما قرر المعتزلة استدلالهم على امتناع الرؤية. وفيه ما فيه. نعم احتمال حمل البصر على البصيرة مما يوهن استدلال المعتزلة كما لا يخفى ، ولهم في هذا المطلب أدلة أخرى نقلية سيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على بعضها ، وعقلية قد عقلها القوم في معاطن البطلان. ولعل النوبة تفضي إلى تسريح يعملات الأقلام في رياض تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى الملك العلام فمنه التوفيق لإدراك أبصار الافهام مخفيات الأسرار وفلق صباح الحق بسواطع الأنوار وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ أي يراها على وجه الإحاطة أو يحيط بها علما أو علما ورؤية كما قيل ، وذكر الآمدي أن البصريين من المعتزلة ذهبوا إلى أن إدراك الله تعالى بمعنى الرؤية وأن البغداديين منهم ذهبوا إلى أنها بمعنى العلم لا بمعنى الرؤية ، والمراد بالأبصار هنا على ما قرره بعض المحققين النور الذي تدرك به المبصرات فإنه لا يدركه مدرك بخلاف جرم العين فإنه يرى. ولعل هذا هو السر في الإظهار في مقام الإضمار ، وجوز أن يقال المراد أن كل عين لا ترى نفسها : وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ فيدرك سبحانه ما لا يدركه الأبصار ، فالجملة سيقت لوصفه تعالى بما يتضمن تعليل قوله سبحانه : وَهُوَ إلخ.
وجوز غير واحد أن يكون ما ذكر من باب اللف فإن اللطيف يناسب كونه غير مدرك بالفتح والخبير يناسب كونه تعالى مدركا بالكسر. واللطيف مستعار من مقابل الكثيف لما لا يدرك بالحاسة من الشيء الخفي.
ويفهم من ظاهر كلام البهائي - كما قال الشهاب - أنه لا استعارة في ذلك حيث قال في شرح أسماء الله تعالى الحسنى : اللطيف الذي يعامل عباده باللطف وألطافه جل شأنه لا تتناهى ظواهرها وبواطنها في الأولى والأخرى وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم : 34 ، النحل : 18] وقيل : اللطيف العليم بالغوامض والدقائق من المعاني والحقائق ولذا يقال للحاذق في صنعته لطيف.
ويحتمل أن يكون من اللطافة المقابلة للكثافة وهو وإن كان في ظاهر الاستعمال من أوصاف الجسم لكن اللطافة المطلقة لا توجد في الجسم لأن الجسمية يلزمها الكثافة وإنما لطافتها بالإضافة ، فاللطافة المطلقة لا يبعد أن

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 234
يوصف بها النور المطلق الذي يجل عن إدراك البصائر فضلا عن الأبصار ويعز عن شعور الأسرار فضلا عن الأفكار ويتعالى عن مشابهة الصور والأمثال وينزه عن حلول الألوان والأشكال ، فإن كمال اللطافة إنما يكون لمن هذا شأنه ووصف الغير بها لا يكون على الإطلاق بل بالقياس إلى ما هو دونه في اللطافة ويوصف إليه بالكثافة انتهى. والمرجح أن إطلاق اللطيف بمعنى مقابل الكثيف على ما ينساق إلى الذهن على الله تعالى ليس بحقيقة أصلا كما لا يخفى.
قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ استئناف وارد على لسان الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم فقل مقدرة كما قاله بعض المحققين.
والبصائر جمع بصيرة وهي للقلب كالبصر للعين ، والمراد بها الآيات الواردة هاهنا أو جميع الآيات ويدخل ما ذكر دخولا أوليا ، ومِنْ لابتداء الغاية مجازا وهي متعلقة بجاء أو بمحذوف وقع صفة لبصائر ، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لإظهار كمال اللطف بهم أي قد جاءكم من جهة مالككم ومبلغكم إلى كمالكم اللائق بكم من الوحي الناطق بالحق والصواب ما هو كالبصائر للقلوب أو قد جاءكم بصائر كائنة من ربكم فَمَنْ أَبْصَرَ أي الحق بتلك البصائر وآمن به فَلِنَفْسِهِ أي فلنفسه أبصر كما نقل عن الكلبي وتبعه الزمخشري أو فإبصاره لنفسه كما اختاره أبو حيان لما ستعلم قريبا إن شاء الله تعالى.
والمراد على القولين أن نفع ذلك يعود إليه وَمَنْ عَمِيَ أي ومن لم يبصر الحق بعد ما ظهر له بتلك البصائر ظهورا بينا وضل عنه ، وإنما عبر عنه بالعمى تنفيرا عنه فَعَلَيْها عمى أو فعماه عليها أي وبال ذلك عليها ، وهما قولان لمن تقدم. وذكر أبو حيان أن تقدير المصدر أولى لوجهين : أحدهما أن المحذوف يكون مفردا لا جملة ويكون الجار والمجرور عمدة لا فضلة. والثاني أنه لو كان المقدر فعلا لم تدخل الفاء سواء كانت «من» شرطية أو موصولة لامتناعها في الماضي. وتعقب بأن تقدير الفعل يترجح لتقدم فعل ملفوظ به وكان أقوى في الدلالة ، وأيضا أن في تقديره تقديم المعمول المؤذن بالاختصاص ، وأيضا ما ذكر في الوجه الثاني غير لازم لأنه لم يقدر الفعل موليا لفاء الجواب بل قدر معمول الفعل الماضي مقدما ولا بد فيه من الفاء فلو قلت : من أكرم زيدا فلنفسه أكرمه لم يكن بد من الفاء. نعم لم يعهد تعدية عَمِيَ بعلى وهو لازم التقدير السابق في الجملة الثانية وكأنه لذلك عدل عنه بعضهم بعد أن وافق في الأول إلى قوله : فعليها وباله وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ وإنما أنا منذر والله تعالى هو الذي يحفظ أعمالكم ويجازيكم عليها : وَكَذلِكَ أي مثل ذلك التصريف البديع نُصَرِّفُ الْآياتِ الدالة على المعاني الرائقة الكاشفة عن الحقائق الفائقة لا تصريفا أدنى منه.
وقيل : المراد كما صرفنا الآيات قبل نصرف هذه الآيات. وقد تقدم لك ما هو الحري بالقبول. وأصل التصريف - كما قال علي بن عيسى - إجراء المعنى الدائر في المعاني المتعاقبة من الصرف وهو نقل الشيء من حال إلى حال.
وقال الراغب التصريف كالصرف إلا في التكثير وأكثر ما يقال في صرف الشيء من حال إلى حال وأمر إلى أمر.
وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ علة لفعل قد حذف تعويلا على دلالة السياق عليه أي وليقولوا درست نفعل ما نفعل من التصريف المذكور. وبعضهم قدر الفعل ماضيا والأمر في ذلك سهل ، واللام لام العاقبة.
وجوز أن تكون للتعليل على الحقيقة لأن نزول الآيات لإضلال الأشقياء وهداية السعداء قال تعالى : يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً [البقرة : 26]. والواو اعتراضية. وقيل : هي عاطفة على علة محذوفة واللام متعلقة بنصرف أي مثل ذلك التصريف نصرف الآيات لتلزمهم الحجة وليقولوا إلخ. وهو أولى من تقدير لينكروا وليقولوا إلخ. وقيل :
اللام لام الأمر ، وينصره القراءة بسكون اللام كأنه قيل : وكذلك نصرف الآيات وليقولوا هم ما يقولون فإنهم لا

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 235
احتفال بهم ولا اعتداد بقولهم ، وهو أمر معناه الوعيد والتهديد وعدم الاكتراث. ورده في الدر المصون بأن ما بعده يأباه فإن الام فيه نص في أنها لام كي ، وتسكين اللام في القراءة الشاذة لا دليل فيه لاحتمال أن يكون للتخفيف.
ومعنى دَرَسْتَ قرأت وتعلمت ، وأصله - على ما قال الأصمعي - من قولهم : درس الطعام يدرسه دراسا إذا داسه كأن التالي يدوس الكلام فيخف على لسانه.
وقال أبو الهيثم : يقال درست الكتاب أي ذللته بكثرة القراءة حتى خف حفظه من قولهم : درست الثوب أدرسه درسا فهو مدروس ودريس أي أخلقته ، ومنه قيل للثوب الخلق : دريس لأنه قد لان ، والدرسة الرياضة ومنه درست السورة حتى حفظتها. وهذا كما قال الواحدي قريب مما قاله الأصمعي أو هو نفسه لأن المعنى يعود فيه إلى التذليل والتليين. وقال الراغب : يقال درس الدار أي بقي أثره وبقاء الأثر يقتضي انمحاءه في نفسه فلذلك فسر الدروس بالانمحاء ، وكذا درس الكتاب ودرست العلم تناولت أثره بالحفظ ، ولما كان تناول ذلك بمداومة القراءة عبر عن إدامة القراءة بالدرس وهو بعيد عما تقدم كما لا يخفى. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «دارست» بالألف وفتح التاء وهي قراءة ابن عباس ، ومجاهد ، أي دارست يا محمد غيرك ممن يعلم الأخبار الماضية وذكرته ، وأرادوا بذلك نحو ما أرادوا بقولهم إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النحل : 103]. قال الإمام ويقوي هذه القراءة قوله تعالى حكاية عنهم : إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ [الفرقان : 4] وقرأ ابن عامر ، ويعقوب ، وسهل «درست» بفتح السين وسكون التاء ، ورويت عن عبد الله بن الزبير ، وأبيّ ، وابن مسعود ، والحسن رضي الله تعالى عنهم.
والمعنى قدمت هذه الآيات وعفت وهو كقولهم : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الأنعام : 25 ، وغيرها]. وقرىء «درست» بضم الراء مبالغة في درست لأن فعل المضموم للطبائع والغرائز أي اشتد دروسها ، و«درّست» على البناء للمفعول بمعنى قرئت أو عفيت وقد صح مجيء عفا متعديا كمجيئه لازما ، و«دارست» بتاء التأنيث أيضا. والضمير إما لليهود لاشتهارهم بالدراسة أي دارست اليهود محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم وإما للآيات وهو في الحقيقة لأهلها أي دارست أهل الآيات وحملتها محمدا عليه الصلاة والسلام وهم أهل الكتاب ، و«دورست» على مجهول فاعل. و«درست» بالبناء للمفعول والإسناد إلى تاء الخطاب مع التشديد ، ونسبت إلى ابن زيد. و«ادارست» مشددا معلوما ونسبت إلى ابن عباس ، وفي رواية أخرى عن أبي «درس» على إسناده إلى ضمير النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أو الكتاب إن كان بمعنى انمحى ونحوه و«درسن» بنون الإناث مخففا ومشددا. و«دارسات» بمعنى قديمات أو ذات درس أو دروس كعيشة راضية [القارعة : 7] وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي دارسات وَلِنُبَيِّنَهُ عطف على لِيَقُولُوا واللام فيه للتعليل المفسر ببيان ما يدل على المصلحة المترتبة على الفعل عند الكثير من أهل السنة. ولا ريب في أن التبيين مصلحة مرتبة على التصريف. والخلاف في أن أفعال الله تعالى هل تعلل بالأغراض مشهور وقد أشرنا إليه فيما تقدم. والضمير للآيات باعتبار التأويل بالكتاب أو للقرآن وإن لم يذكر لكونه معلوما أو لمصدر نُصَرِّفُ كما قيل أو نبين أي ولنفعلن التبيين لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فإنهم المنتفعون به وهو الوجه في تخصيصهم بالذكر. وهم - على ما روي عن ابن عباس - أولياؤه الذين هداهم إلى سبيل الرشاد.
ووصفهم بالعلم للإيذان بغاية جهل غيرهم وخلوهم عن العلم بالمرة اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أي دم على ما أنت عليه من التدين بما أوحي إليك من الشرائع والأحكام التي عمدتها التوحيد. والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام من إظهار اللطف به صلّى اللّه عليه وسلّم ما لا يخفى والجار والمجرور يجوز أن يكون متعلقا بأوحي. وأن يكون حالا من ضمير المفعول المرفوع فيه.
وأن يكون حالا من مرجعه.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 236
وقوله سبحانه : لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يحتمل أن يكون اعتراضا بين المعطوف والمعطوف عليه أكد به إيجاب الاتباع لا سيما في أمر التوحيد. وجوز أبو البقاء وغيره أن يكون حالا مؤكدة مِنْ رَبِّكَ أي منفردا في الألوهية وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ أي لا تعتد بأقاويلهم الباطلة التي من جملتها ما حكي عنهم آنفا ولا تبال بها ولا تلتفت إلى أذاهم وعلى هذا فلا نسخ في الآية. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها منسوخة بآية السيف فيكون الإعراض محمولا على ما يعم الكف عنهم وَلَوْ شاءَ اللَّهُ عدم إشراكهم ما أَشْرَكُوا وهذا دليل لأهل السنة على أنه تعالى لا يريد إيمان الكافر لكن لا بمعنى أنه تعالى يمنعه عنه مع توجهه إليه بل بمعنى أنه تعالى لا يريده منه لسوء اختياره الناشئ من سوء استعداده. والجملة اعتراض مؤكد للإعراض. وكذا قوله تعالى : وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً أي رقيبا مهيمنا من قبلنا تحفظ عليهم أعمالهم. وكذا قوله سبحانه : وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ من جهتهم تقوم بأمرهم وتدبر مصالحهم وقيل : المراد ما جعلناك عليهم حفيظا تصونهم عما يضرهم وما أنت عليهم بوكيل تجلب لهم ما ينفعهم. وعَلَيْهِمْ في الموضعين متعلق بما بعده قدم عليه للاهتمام به أو لرعاية الفواصل وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي لا تشتموهم ولا تذكروهم بالقبيح ، والمراد من الموصول إما المشركون على معنى لا تسبوهم من حيث عبادتهم لآلهتهم كإن تقولوا تبا لكم ولما تعبدونه مثلا أو آلهتهم فالآية صريحة في النهي عن سبها. والعائد حينئذ مقدر أي الذين تدعونهم.
والتعبير عنها بالذين مبني على زعمهم أنها من أهل العلم أو على تغليب العقلاء منها كالملائكة والمسيح وعزير عليهم الصلاة والسلام. وقيل : إن سب الآلهة سب لهم كما يقال ضرب الدابة صفع لراكبها فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً تجاوزا عن الحق إلى الباطل ، ونصبه على أنه حال مؤكدة. وجوز أبو البقاء أن يكون على أنه مفعول له ، وأن يكون على المصدرية من غير لفظ الفعل ، وفَيَسُبُّوا منصوب على جواب النهي. وقيل : مجزوم على العطف كقولهم : لا تمددها فتشققها.
ومعنى سبهم لله عز وجل إفضاء كلامهم إليه كشتمهم له صلّى اللّه عليه وسلّم ولمن يأمره ، وقد فسر بِغَيْرِ عِلْمٍ بذلك أي فيسبوا الله تعالى بغير علم أنهم يسبونه وإلا فالقوم كانوا يقرون بالله تعالى وعظمته وأن آلهتهم إنما عبدوها لتكون شفعاء لهم عنده سبحانه فكيف يسبونه؟ ويحتمل أن يراد سبهم له عز اسمه صريحا ولا إشكال بناء على أن الغضب والغيظ قد يحملهم على ذلك ألا ترى أن المسلم قد تحمله شدة غيظه على التكلم بالكفر.
ومما شاهدناه أن بعض جهلة العوام أكثر الرافضة سب الشيخين رضي الله تعالى عنهما عنده فغاظه ذلك جدا فسب عليا كرم الله تعالى وجهه فسئل عن ذلك فقال : ما أردت إلا إغاظتهم ولم أر شيئا يغيظهم مثل ذلك فاستتيب عن هذا الجهل العظيم ، وقال الراغب : إن سبهم لله تعالى ليس أنهم يسبونه جل شأنه صريحا ولكن يخوضون في ذكره تعالى ويتمادون في ذلك بالمجادلة ويزدادون في وصفه سبحانه بما ينزه تقدس اسمه عنه ، وقد يجعل الإصرار على الكفر والعناد سبا وهو سب فعلي ، قال الشاعر :
وما كان ذنب بني مالك بأن سب منهم غلام فسب
بأبيض ذي شطب قاطع يقد العظام ويبري العصب
ونبه به على ما قال الآخر :
ونشتم بالأفعال لا بالتكلم

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 237
وقيل : المراد بسب الله تعالى سب الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ونظير ذلك من وجه قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح : 10] الآية. وقرأ يعقوب «عدوا» يقال : عدا فلان يعدو عدوا وعدوا وعدوانا.
أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : لما حضر أبا طالب الموت قالت قريش : انطلقوا فلندخل على هذا الرجل فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فتقول العرب : كان يمنعه فلما مات قتلوه فانطلق أبو سفيان ، وأبو جهل ، والنضر بن الحارث ، وأمية وأبي ابنا خلف ، وعقبة بن أبي معيط ، وعمرو بن العاص ، والأسود بن البحتري إلى أبي طالب فقالوا أنت كبيرنا وسيدنا وإن محمدا قد آذانا وآذى آلهتنا فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ولندعنه وإلهه فدعاه فجاء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال له أبو طالب : هؤلاء قومك وبنو عمك فقال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم : ماذا تريدون؟ قالوا : نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك فقال أبو طالب : قد أنصفك قومك فاقبل منهم فقال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم : أرأيتكم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم بها العجم. قال أبو جهل : نعم لنعطينكها وأبيك وعشر أمثالها فما هي؟ قال قولوا لا إله إلا الله فأبوا واشمأزوا فقال أبو طالب : قل غيرها يا ابن أخي فإن قومك قد فزعوا منها فقال صلّى اللّه عليه وسلّم :
يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها فقالوا : لتكفن عن شتمك آلهتنا أو لنشتمنك ولنشتمن من يأمرك فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال : قالوا يا محمد لتنتهين عن سبك آلهتنا أو لنهجون ربك فنهاهم الله تعالى أن يسبوا أوثانهم ، وفي رواية عنه أنهم قالوا ذلك عند نزول قوله تعالى : إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء : 98] نزلت وَلا تَسُبُّوا إلخ ،
واستشكل ذلك بأن وصف آلهتهم بأنها حصب جهنم وبأنها لا تضر ولا تنفع سب لها فكيف نهى عنه بما هنا. وأجيب بأنهم إذا قصدوا بالتلاوة سبهم وغيظهم يستقيم النهي عنها ولا بدع في ذلك كما ينهى عن التلاوة في المواضع المكروهة.
وقال في الكشف : المعنى على هذه الرواية لا يقع السب منكم بناء على ما ورد في الآية فيصير سبا لسبهم.
وقيل : ما في الآية لا يعد سبا لأنه ذكر المساوي لمجرد التحقير والإهانة وما فيها إنما ورد للاستدلال على عدم صلوحها للألوهية والمعبودية وفيه تأمل ، وقريب منه ما قيل إن النهي في الحقيقة إنما هو عن العدول عن الدعوة إلى السب كأنه قيل : لا تخرجوا من دعوة الكفار ومحاجتهم إلى أن تسبوا ما يعبدونه من دون الله تعالى فإن ذلك ليس من الحجاج في شيء ويجر إلى سب الله عز وجل. واستدل بالآية على أن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة وجب تركها فإن ما يؤدي إلى الشر شر وهذا بخلاف الطاعة في موضع فيه معصية لا يمكن دفعها وكثيرا ما يشتبهان ، ولذا لم يحضر ابن سيرين جنازة اجتمع فيها الرجال والنساء وخالفه الحسن قائلا : لو تركنا الطاعة لأجل المعصية لأسرع ذلك في ديننا للفرق بينهما.
ونقل الشهاب عن المقدسي في الرمز أن الصحيح عند فقهائنا أنه لا يترك ما يطلب لمقارنة بدعة كترك إجابة دعوة لما فيها من الملاهي وصلاة جنازة لنائحة فإن قدر على المنع منع وإلا صبر ، وهذا إذا لم يقتد به وإلا لا يقعد لأن فيه شين الدين. وما روي عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه ابتلي به كان قبل صيرورته إماما يقتدى به. ونقل عن أبي منصور أنه قال : كيف نهانا الله تعالى عن سب من يستحق السب لئلا يسب من لا يستحقه وقد أمرنا بقتالهم وإذا قاتلناهم قتلونا وقتل المؤمن بغير حق منكر ، وكذا أمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بالتبليغ والتلاوة عليهم وإن كانوا يكذبونه ، وأنه أجاب بأن سب الآلهة مباح غير مفروض وقتالهم فرض. وكذا التبليغ وما كان مباحا ينهى عما يتولد منه ويحدث وما كان فرضا لا ينهى عما يتولد منه وعلى هذا يقع الفرق لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه فيمن قطع يد قاطع قصاصا فمات

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 238
منه فإنه يضمن الدية لأن استيفاء حقه مباح فأخذ المتولد منه ، والإمام إذا قطع يد السارق فمات لا يضمن لأنه فرض عليه فلم يؤخذ بالمتولد منه اه. ومن هنا لا تحمل الطاعة فيما تقدم على إطلاقها كَذلِكَ أي مثل ذلك التزيين القوي زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ من الأمم عَمَلَهُمْ من الخير والشر بإحداث ما يمكنهم منه ويحملهم عليه توفيقا أو تخذيلا ، وجوز أن يراد بكل أمة أمم الكفر إذ الكلام فيهم وبعملهم شرهم وفسادهم ، والمشبه به تزيين سب الله تعالى شأنه لهم ، واستدل بالآية على أنه تعالى هو الذي زين للكافر الكفر كما زين للمؤمن الإيمان.
وأنكر ذلك المعتزلة وزين لهم الشيطان أعمالهم فتأولوا الآية بما لا يخفى ضعفه ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مالك أمرهم مَرْجِعُهُمْ أي رجوعهم ومصيرهم بالبعث بعد الموت فَيُنَبِّئُهُمْ من غير تأخير بِما كانُوا يَعْمَلُونَ في الدنيا على الاستمرار من خير أو شر ، وذلك بالثواب على الأول والعقاب على الثاني ، فالجملة للوعد والوعيد. وفسر بعضهم ما بالسيئات المزينة لهم وقال : إن هذا وعيد بالجزاء والعذاب كقول الرجل لمن يتوعده سأخبرك بما فعلت وَأَقْسَمُوا أي المشركون بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي جاهدين فيها. فجهد مصدر في موضع الحال.
وجوز أن يكون منصوبا بنزع الخافض أي أقسموا بجهد أيمانهم أي أوكدها وهو بفتح الجيم وضمها في الأصل بمعنى الطاقة والمشقة ، وقيل : بالفتح المشقة وبالضم الوسع ، وقيل : ما يجهد الإنسان ، والمعنى هنا على ما قال الراغب : إنهم حلفوا واجتهدوا في الحلف أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ من مقترحاتهم أو من جنس الآيات. ورجحه بعض المحققين بأنه الأنسب بحالهم في المكابرة والعناد وترامي أمرهم في العتو والفساد حيث كانوا لا يعدون ما يشاهدونه من المعجزات القاهرة من جنس الآيات فاقترحوا غيرها لَيُؤْمِنُنَّ بِها وما كان مرمى غرضهم إلا التحكم على رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم في طلب المعجزة وعدم الاعتداد بما شاهدوا منه عليه الصلاة والسلام من البينات. والباء صلة الإيمان ، والمراد من الإيمان بها التصديق بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم. وجعلها للسببية على معنى ليؤمنن بك بسببها خلاف الظاهر.
قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ أي كلها فيدخل ما اقترحوه فيها دخولا أوليا عِنْدَ اللَّهِ أي أمرها في حكمه وقضائه خاصة يتصرف فيها حسب مشيئته المبنية على الحكم البالغة لا تتعلق بها قدرة أحد ولا مشيئته استقلالا ولا اشتراكا بوجه من الوجوه حتى يمكنني أن أتصدى لإنزالها بالاستدعاء وهذا كما ترى سد لباب الاقتراح.
وقيل : إن المعنى إنما الآيات عند الله لا عندي فكيف أجيبكم إليها أو آتيكم بها أو المعنى هو القادر عليها لا أنا حتى آتيكم بها. واعترض ذلك شيخ الإسلام بعد أن اختار ما قدمناه بأنه لا مناسبة له بالمقام كيف لا وليس مقترحهم مجيئها بغير قدرة الله تعالى فتدبر.
روي أن قريشا اقترحوا بعض آيات فقال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم : فإن فعلت بعض ما تقولون أتصدقونني فقالوا : نعم وأقسموا لئن فعلته لنؤمنن جميعا فسأل المسلمون رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم أن ينزلها طمعا في إيمانهم فهم عليه الصلاة والسلام بالدعاء فنزلت.
وأخرج ابن جرير عن محمد القرظي قال : كلم رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم قريشا فقالوا : يا محمد تخبرنا أن موسى عليه السلام كان معه عصا يضرب بها الحجر وأن عيسى عليه السلام كان يحيي الموتى وأن ثمود كانت لهم ناقة فائتنا ببعض تلك الآيات حتى نصدقك فقال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم : أي شيء تحبون أن آتيكم به؟
قالوا : تحول لنا الصفا ذهبا قال : فإن فعلت تصدقوني؟ قالوا : نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعين فقام رسول الله عليه الصلاة والسلام يدعو فجاءه جبريل عليه السلام فقال : إن شئت أصبح الصفا ذهبا فإن لم يصدقوا عند ذلك لنعذبنهم وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم فقال صلّى اللّه عليه وسلّم : اتركهم حتى يتوب تائبهم فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى يَجْهَلُونَ.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 239
وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ كلام مستأنف غير داخل تحت الأمر مسوق من جهته تعالى لبيان الحكمة فيما أشعر به الجواب السابق من عدم مجيء الآيات خوطب به المؤمنون - كما قال الفراء وغيره - إما خاصة بطريق التلوين لما كانوا راغبين في نزولها طمعا في إسلامهم ، وإما معه عليه الصلاة والسلام بطريق التعميم لما روي مما يدل على رغبته عليه الصلاة والسلام في ذلك أيضا كالهم بالدعاء ، وفيه بيان لأن أيمانهم فاجرة وإيمانهم في زوايا العدم وإن أجيبوا إلى ما سألوه.
وجوز بعضهم دخوله تحت الأمر. ولا وجه له إلا أن يقدر قل للكافرين : إنما الآيات عند الله وللمؤمنين وما يشعركم إلخ وهو تكلف لا داعي إليه. وعن مجاهد أن الخطاب للمشركين. وهو داخل تحت الأمر وفيه التفات وأَنَّها إلخ عنده إخبار ابتدائي كما يدل عليه ما رواه عنه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وما استفهامية إنكارية - على ما قاله غير واحد - لا نافية لما يلزم عليه من بقاء الفعل بلا فاعل ، وجعله ضمير الله تعالى تكلف أو غير مستقيم إلا على بعد ، واستشكل بأن المشركين لما اقترحوا آية وكان المؤمنون يتمنون نزولها طمعا في إسلامهم كان في ظنهم إيمانهم على تقدير النزول ، فإذا أريد الإنكار عليهم فالمناسب إنكار الإيمان لا عدمه كأنهم قالوا : ربنا أنزل للمشركين آية فإنه لو نزلت يؤمنون ، وحينئذ يقال في الإنكار : ما يدريكم أنها إذا جاءت يؤمنون.
ويتضح هذا بمثال ، وذلك أنه إذا قال لك القائل : أكرم فلانا فإنه يكافئك وكنت تعلم منه عدم المكافأة فإنك إذا أنكرت على المشير بإكرامه قلت : وما يدريك أني إذا أكرمته يكافئني فأنكرت عليه إثبات المكافأة وأنت تعلم نفيها فإن قال لك : لا تكرمه فإنه لا يكافئك وأنت تعلم منه المكافأة وأردت الإنكار على المشير بحرمانه قلت : وما يدريك أنه لا يكافئني فأنكرت عليه عدم المكافأة وأنت تعلم ثبوتها.
والآية كما لا يخفى من قبيل المثال الأول فكان الظاهر حيث ظنوا ايمانهم ورغبوا فيه وعلم الله تعالى عدم وقوعه منهم ولو نزل عليهم الملائكة وكلمهم الموتى أن يقال : وما يشعركم أنهم إذا جاءت يؤمنون. وأجاب عنه بعضهم بأن هذا الاستفهام في معنى النفي وهو إخبار عنهم بعدم العلم لا إنكار عليهم ، والمعنى أن الآيات عند الله تعالى ينزلها بحسب المصلحة ، وقد علم سبحانه أنهم لا يؤمنون ولا تنجع فيهم الآيات وأنتم لا تدرون ما في الواقع وفي علم الله تعالى وهو أنهم لا يؤمنون فلذلك تتوقعون إيمانهم ، والحاصل أن الاستفهام للإنكار وله معنيان لم ولا فإن كان بمعنى لم يقال ما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون بدون لا على معنى لم قلتم إنها إذا جاءت يؤمنون وتوقعتم ذلك؟
وإن كان بمعنى لا يقال ما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بإثبات لا على معنى لا تعلمون أنهم لا يؤمنون فلذا توقعتم إيمانهم ورغبتم في نزول آية لهم ، وهذا الثاني هو المراد ويرجع إلى إقامة عذر المؤمنين في طلبهم ذلك ورغبتهم فيه.
وأجاب آخرون بأن لا زائدة كما في قوله تعالى : ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف : 12] وحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ [الأنبياء : 95] فإنه أريد تسجد ويرجعون بدون لا. وعن الخليل أن أن بمعنى لعل كما في قولهم ائت السوق أنك تشتري لحما وقول امرئ القيس :
عرجوا على الطلل المحيل لأننا نبكي الديار كما بكى ابن خذام
وقول الآخر :
هل أنتم عائجون بنا لأنا نرى العرصات أو أثر الخيام
ويؤيده أن يشعركم ويدريكم بمعنى. وكثيرا ما تأتي لعل بعد فعل الدراية نحو وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 240
[عبس : 3] وأن في مصحف أبي رضي الله تعالى عنه «وما أدراك لعلها» والكلام على هذا قد تم قبل أَنَّها والمفعول الثاني ليشعركم محذوف. والجملة استئناف لتعليل الإنكار وتقديره أي شيء يعلمكم حالهم وما سيكون عند مجيء ذلك لعلها إذا جاءت لا يؤمنون فما لكم تتمنون مجيئها فإن تمنيه إنما يليق بما إذا كان إيمانهم بها متحقق الوقوع عند مجيئها لا مرجو العدم. ومن الناس من زعم أن أَنَّها إلخ جواب قسم محذوف بناء على أن أن في جواب القسم يجوز فتحها ولا يخفى بعده. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم ، ويعقوب «إنها» بالكسر على الاستئناف حسبما سيق مع زيادة تحقيق لعدم إيمانهم. قال في الكشف : وهو على جواب سؤال مقدر على ما ذكره الشيخ ابن الحاجب كأنه قيل لم وبخوا؟ فقيل لأنها إذا جاءت لا يؤمنون. ولك أن تبنيه على قوله تعالى : وَما يُشْعِرُكُمْ أي بما يكون منهم فإنه إبراز في معرض المحتمل كأنه قد سئل عنه سؤال شاك ثم علل بأنها إذا جاءت جزما بالطرف المحالف وبيانا لكون الاستفهام غير جار على الحقيقة. وفيه إنكار لتصديق المؤمنين على وجه يتضمن إنكار صدق المشركين في المقسم عليه. وهذا نوع من السحر البياني لطيف المسلك انتهى.
وقرأ ابن عامر ، وحمزة «لا تؤمنون» بالفوقانية. والخطاب حينئذ في الآية للمشركين بلا خلاف. وقرىء «وما يشعرهم أنها إذا جاءتهم لا يؤمنون» فمرجع الإنكار إقدام المشركين على الحلف المذكور مع جهلهم بحال قلوبهم عند مجيء ذلك وبكونها حينئذ كما هي الآن. وقرىء «وما يشعركم» بسكون خالص واختلاس. وضمير بِها على سائر القراءات راجع للآية لا للآيات لأن عدم إيمانهم عند مجيء ما اقترحوه أبلغ في الذم كما أن استعمال إذا مع الماضي دون أن مع المستقبل لزيادة التشنيع عليهم. وزعم بعضهم أن عوده للآيات أولى لقربه مع ما فيه من زيادة المبالغة في بعدهم عن الإيمان وبلوغهم في العناد غاية الإمكان وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ عطف على لا يُؤْمِنُونَ داخل معه في حكم وَما يُشْعِرُكُمْ مقيد بما قيد به أي وما يشعركم أنا نقلب أفئدتهم عن إدراك الحق.
فلا يدركونه وأبصارهم عن اجتلائه فلا يبصرونه. وهذا على ما قال الإمام تقريرا لما في الآية الأولى من أنهم لا يؤمنون.
وذكر شيخ الإسلام أن هذا التقليب ليس مع توجه الأفئدة والأبصار إلى الحق واستعدادها له بل لكمال نبوها عنه وإعراضها بالكلية ولذلك أخر ذكره عن ذكر عدم إيمانهم إشعارا بأصالتهم في الكفر وحسما لتوهم أن عدم إيمانهم ناشىء من تقليبه تعالى مشاعرهم بطريق الإجبار. وتحقيقه على ما ذكره شيخ مشايخنا الكوراني أنه سبحانه حيث علم في الأزل سوء استعدادهم المخبوء في ماهياتهم أفاض عليهم ما يقتضيه وفعل بهم ما سألوه بلسان الاستعداد بعد أن رغبهم ورهبهم وأقام الحجة وأوضح المحجة ولله تعالى الحجة البالغة وما ظلمهم الله سبحانه ولكن كانوا هم الظالمين كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أي بما جاء من الآيات بالله تعالى. وقيل : بالقرآن. وقيل : بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم وإن لم يجر لذلك ذكر. وقيل : بالتقليب وهو كما ترى.
أَوَّلَ مَرَّةٍ أي عند ورود الآيات السابقة. والكاف في موضع النعت لمصدر منصوب بلا يؤمنون وما مصدرية أي لا يؤمنون بل يكفرون كفرا كائنا ككفرهم أول مرة. وتوسيط تقليب الأفئدة والأبصار لأنه من متممات عدم إيمانهم. وقال أبو البقاء : إن الكاف نعت لمصدر محذوف أي تقليبا ككفرهم أي عقوبة مساوية لمعصيتهم أول مرة ولا يخفى ما فيه. والآية ظاهرة في أن الإيمان والكفر بقضاء الله تعالى وقدره.
وأجاب الكعبي عنها بأن المراد من وَنُقَلِّبُ إلخ أنا لا نفعل بهم ما نفعله بالمؤمنين من الفوائد والألطاف من حيث أخرجوا أنفسهم عن هذا الحد بسبب كفرهم. والقاضي بأن المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في الآيات التي ظهرت فلا نجدهم يؤمنون بها آخرا كما لم يؤمنوا بها أولا. والجبائي بأن المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في جهنم

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 241
على لهب النار وجمرها لنعذبهم كما لم يؤمنوا به أول مرة في الدنيا. والكل كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ، وهكذا غالب كلام المعتزلة وَنَذَرُهُمْ أي ندعهم : فِي طُغْيانِهِمْ أي تجاوزهم الحد في العصيان يَعْمَهُونَ أي يترددون متحيرين وهذا عطف على «لا يؤمنون» مقيد بما قيد به أيضا مبين لما هو المراد بتقليب الأفئدة والأبصار معرب عن حقيقته بأنه ليس على ظاهره. والجار متعلق بما عنده. وجملة يَعْمَهُونَ في موضع الحال من الضمير المنصوب في نذرهم. وقرىء «يقلب. ويذر» على الغيبة والضمير لله عز وجل. وقرأ الأعمش «وتقلّب» على البناء للمفعول وإسناده إلى أفئدتهم.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات : وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ قال الجنيد قدس سره : أي أخلصناهم وآويناهم لحضرتنا ودللناهم للاكتفاء بنا عما سوانا ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وهم أهل السابقة الذين سألوه سبحانه الهداية بلسان الاستعداد الأزلي وَلَوْ أَشْرَكُوا بالميل إلى السوي وهو شرك الكاملين كما أشار إليه سيدي عمر بن الفارض قدس سره بقوله :
ولو خطرت لي في سواك إرادة على خاطري سهوا حكمت بردتي
لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ لعظم ما أتوا به إن الشرك لظلم عظيم فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ وهم المحجوبون فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ وهم العارفون بالله عز وجل الذين هم خزائن حقائق الإيمان.
وفي الخبر «لا يزال طائفة من أمتي قائمين بأمر الله تعالى لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله سبحانه وهم على ذلك»
أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ وهو آداب الشريعة والطريقة والحقيقة اقْتَدِهْ أمر له صلّى اللّه عليه وسلّم أن يتصف بجميع ما تفرق فيهم من ذلك الهدى وكان ذلك - على ما قيل - في منازل الوسائط ، ولما كحل عيون أسراره بكحل الربوبية جعله مستقلا بذاته مستقيما بحاله وأخرجه من حد الإرادة إلى حد المعرفة والاستقامة ولذا أمره عليه الصلاة والسلام بإسقاط الوسائط كما يشير إليه قوله سبحانه : قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي [الأعراف :
203] مع
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي».
وقال بعض العارفين ليس في هذا توسيط الوسائط لأنه أمر بالاقتداء بهداهم لا بهم. ونظيره أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [النحل : 123] حيث لم يقل سبحانه أن اتبع إبراهيم وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي ما عرفوه حق معرفته إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ أي لم يظهر من علمه وكلامه سبحانه على أحد شيئا وذلك لزعمهم البعد من عباده جل شأنه وعدم إمكان ظهور بعض صفاته على مظهر بشري ولو عرفوا لما أنكروا ولا اعتقدوا أنه لا مظهر لكمال علمه وحكمته إلا الإنسان الكامل بل لو ارتفع الحول عن العين لما رأوا الواحد اثنين وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ لما فيه من أسرار القرب والوصال والتشويق إلى الحسن والجمال بل منه تجلى الحق لخلقه لو يعلمون.
مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من التوراة والإنجيل لجمعه الظاهر والباطن على أتم وجه وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وهي القلب وَمَنْ حَوْلَها من القوى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً كمن ادعى الكمال والوصول إلى التوحيد والخلاص عن كثرة صفات النفس وزعم أنه بالله عز وجل وأنه من أهل الإرشاد وهو ليس كذلك أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ كمن سمى مفتريات وهمه وخياله ومخترعات عقله وفكره وحيا وفيضا من الروح القدسي فتنبأ لذلك وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ كمن تفرعن وادعى الألوهية وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ وهم هؤلاء الأصناف الثلاثة فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ الطبيعي وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ بقبض أرواحهم كالمتقاضي الملظ يقولون أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ تغليظا وتعنيفا عليهم الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 242
والصغار لوجود صفات نفوسكم وهيئاتها المظلمة وتكاثف حجب أنانيتكم وتفرعنكم وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى أي منفردين مجردين عن كل شيء بالاستغراق في عين جمع الذات كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ عند أخذ الميثاق.
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ أي حبة القلب بنور الروح عن العلوم والمعارف وَالنَّوى أي نوى النفس بنور القلب عن الأخلاق والمكارم أو فالق حبة المحبة الأزلية في قلوب المحبين والصديقين ونوى شجر أنوار الأزل في فؤاد العارفين فتثمر بالأعمال الزكية والمقامات الشريفة والحالات الرفيعة يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ أي العالم به من الجاهل وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ أي الجاهل به من العالم أو يخرج حي القلب عن ميت النفس تارة باستيلاء نور الروح عليها ومخرج ميت النفس عن حي القلب أخرى بإقباله عليها واستيلاء الهوى وصفات النفس عليه فالِقُ الْإِصْباحِ أي مظهر أنوار صفاته على صفحات آفاق مخلوقاته أو شاق ظلمة الإصباح بنور الإصباح وذلك لأن بحر العدم كان مملوءا من الظلمة فشقه بأن أجرى فيه جدولا من نوره حتى بلغ السيل الربى وقال الإمام فالق ظلمة العدم بصباح التكوين والإيجاد وفالق ظلمة الجمادية بصباح الحياة والعقل والرشاد وفالق ظلمة الجهالة بصباح الإدراك وفالق ظلمة العالم الجسماني بتخليص النفس القدسية إلى فسحة عالم الأفلاك وفالق ظلمة الاشتغال بعالم الممكنات بصباح نور الاستغراق في معرفة مدبر المحدثات والمبدعات ، وقال بعض العارفين المعنى فالق ظلمة صفات النفس عن القلب بإصباح نور شمس الروح وإشراقه عليها وجاعل الليل أي ليل الحيرة في الذات البحت سَكَناً تسكن إليه أرواح العاشقين كما قال قائلهم :
زدني بفرط الحب فيك تحيرا وارحم حشا بلظى هواك تسعرا
أو جاعل ظلمة النفس سكن القلب يسكن إليها أحيانا للارتفاق والاسترواح أو سكنا تسكن فيه القوى البدنية وتستقر عن الاضطراب كما قيل وَالشَّمْسَ أي شمس تجلي الصفات وَالْقَمَرَ أي قمر تجلي الأفعال «حسبانا» أي على حساب الأحوال حيث يعتبر بهما أو شمس الروح وقمر القلب محسوبين في عداد الموجودات الباقية الشريفة معتدا بهما. أو علمي حساب الأوقات والأحوال وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ أي المرشدين أو بحوم الحواس لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وهو علم الآداب وَالْبَحْرِ وهو علم الحقائق أو المعنى لتهتدوا بها في ظلمات بر الأجساد إلى مصالح المعاش وبحر العلوم باكتسابها بها وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ أي أظهركم مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وهي النفس الكلية فَمُسْتَقَرٌّ في أرض البدن حال الظهور وَمُسْتَوْدَعٌ في عين جمع الذات وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً أي من سماء الروح ماء العلم فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ أي كل صنف من الأخلاق والفضائل فَأَخْرَجْنا مِنْهُ أي النبات خَضِراً زينة النفس وبهجة لها نُخْرِجُ مِنْهُ أي الخضر حَبًّا مُتَراكِباً أي أعمالا مترتبة شريفة ونيات صادقة يتقوى القلب بها وَمِنَ النَّخْلِ أي نخل العقل مِنْ طَلْعِها أي من ظهور تعلقها قِنْوانٌ معارف وحقائق دانِيَةٌ قريبة التناول لظهورها بنور الروح كأنها بديهية وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وهي أعناب الأحوال والأذواق ومنها تعتصر سلافة المحبة
وفي سكرة منها ولو عمر ساعة ترى الدهر عبدا طائعا ولك الحكم
وَالزَّيْتُونَ أي زيتون التفكر وَالرُّمَّانَ أي رمان الهمم الشريفة والعزائم النفيسة مُشْتَبِهاً كما في أفراد نوع واحد وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كنوعين وفردين منهما مثلا انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ أي راعوه بالمراقبة عند السلوك وبدء الحال وَيَنْعِهِ وهو كماله عند الوصول بالحضور وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ أي جن الوهم والخيال حيث أطاعوهم وانقادوا لهم وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا افتروا لَهُ بَنِينَ من العقول وَبَناتٍ من النفوس

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 243
يعتقدون أنها لتجردها مؤثرة مثله بِغَيْرِ عِلْمٍ منهم أنها أسماؤه وصفاته لا تؤثر إلا به جل شأنه سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ من تقيده بما قيدوه به جل شأنه لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ قال الشيخ الأكبر قدس سره في الباب الحادي والعشرين وأربعمائة : يعني من كل عين من أعين الوجوه وأعين القلوب فإن القلوب ما ترى إلا بالبصر وأعين الوجوه لا ترى إلا بالبصر فالبصر حيث كان به يقع الإدراك فيسمى البصر في العقل عين البصيرة ويسمى في الظاهر بصر العين والعين في الظاهر محل للبصر والبصيرة في الباطن محل للعين الذي هو بصر في عين الوجه فاختلف الاسم عليه وما اختلف هو في نفسه فكما لا تدركه العيون بأبصارها لا تدركه البصائر بأعينها ، وورد في الخبر عن رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم «إن الله تعالى احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار وإن الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم»
فاشتركنا في الطلب مع الملأ الأعلى واختلفنا في الكيفية فمنا من يطلبه بفكره والملأ الأعلى له العقل وما له الفكر ، ومنا من يطلبه به وليس في الملأ الأعلى من يطلبه به لأن الكامل منا هو على الصورة الإلهية التي خلقه الله تعالى عليها فلهذا يصح ممن هذه صفته أن يطلب الله تعالى به ومن طلبه به وصل إليه فإنه لم يصل إليه غيره وأن الكامل منا له نافلة تزيد على فرائضه إذا تقرب العبد بها إلى ربه أحبه فإذا أحبه كان سمعه وبصره فإذا كان الحق بصر مثل هذا العبد رآه وأدركه ببصره لأن بصره الحق فما أدركه إلا به لا بنفسه وما ثم ملك يتقرب إلى الله تعالى بنافلة بل هم في الفرائض وفرائضهم قد استغرقت أنفاسهم فلا نفل عندهم فليس لهم مقام ينتج أن يكون الحق بصرهم حتى يدركوه به فهم عبيد اضطرار ونحن عبيد اضطرار من فرائضنا وعبيد اختيار من نوافلنا إلى آخر ما قال ، وهو صريح في أن بعض الأبصار تدركه لكن من حيثية رفع الغيرية. وقال في الباب الرابع عشر وأربعمائة بعد أن أنشد :
من رأى الحق كفاحا علنا إنما أبصره خلف حجاب
وهو لا يعرفه وهو به إن هذا لهو الأمر العجاب
كل راء لا يرى غير الذي هو فيه من نعيم وعذاب
صورة الرائي تجلت عنده وهو عين الراء بل عين الحجاب
فإذا رآه سبحانه الرائي كفاحا فما يراه إلا حتى يكون الحق جل جلاله بصره فيكون هو الرائي نفسه ببصره في صورة عبده فأعطته الصورة المكافحة إذا كانت الحاملة للبصر ولجميع القوى إلخ. وقال في الباب الحادي وأربعمائة بعد أن أنشد :
قد استوى الميت والحي في كونهم ما عندهم شي ء
مني فلا نور ولا ظلمة فيهم ولا ظل ولا في
رؤيتهم لي معدومة فنشرهم في كونهم طي
وفهمهم إن كان معناهم عنه إذا حققته غي
إن كل مرئي لا يرى الرائي إذا رآه منه إلا قدر منزلته ورتبته فما رآى إلا نفسه ولولا ذلك ما تفاضلت الرؤية في الرائين إذ لو كان هو المرئي ما اختلفوا لكن لما كان هو سبحانه مجلي رؤيتهم أنفسهم لذلك وصفوه بأنه جل شأنه يتجلى ولكن شغل الرائي برؤية نفسه في مجلي الحق حجبه عن رؤية الحق فلو لم تبد للرائي صورته أو صورة كون من الأكوان ربما كان يراه فما حجبنا عنه إلا رؤية نفوسنا فيه فلو زلنا عنا ما رأيناه لأنه ما كان يبقى بزوالنا من يراه وإن نحن لم نزل فما نرى إلا نفوسنا فيه وصورنا وقدرنا ومنزلتنا فعلى كل حال ما رأيناه وقد نتوسع فنقول : قد رأيناه ونصدق كما أنه لو قلنا رأينا الإنسان صدقنا في أن نقول : رأينا من مضي من الناس ومن بقي ومن في زماننا من كونهم

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 244
إنسانا لا من حيث شخصية كل إنسان ولما كان العالم أجمعه وآحاده على صورة حق ورأينا الحق فقد رأينا وصدقنا وإذا نظرنا في عين التمييز في عين عين لم نصدق إلى آخر ما قال. وفي ذلك تحقيق نفيس لهذا المطلب ، ومنه يعلم ما في قول بعضهم لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ لغاية ظهوره سبحانه وَهُوَ اللَّطِيفُ إذ لا ألطف كما قال الشيخ الأكبر قدس سره من هوية تكون عين بصر العبد الْخَبِيرُ أي العليم خبرة أنه بصر العبد وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ [البروج : 20]. ولَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى : 11] وعن الجنيد قدس سره للطيف من نور قلبك بالهدى وربب جسمك بالغذاء وجعل لك الولاية بالبلوى. ويحرسك وأنت في لظى. ويدخلك جنة المأوى.
وقال غيره : اللطيف إن دعوته لباك وإن قصدته أواك ، وإن أحببته أدناك وإن أطعته كافأك. وإن أغضبته عافاك وإن أعرضت عنه دعاك. وإن أقبلت إليه هداك وإن عصيته راعاك. وهو كلام ما ألطفه قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وهي صور تجليات صفاته. وقال بعض العارفين : إنها كلماته التي تجلى منها لذوي الحقائق وبرزت من تحت سرادقاتها أنوار نعوته الأزلية فَمَنْ أَبْصَرَ واهتدى فَلِنَفْسِهِ ذلك الإبصار أي أن ثمرته تعود إليه وَمَنْ عَمِيَ واحتجب عن الهدى فَعَلَيْها عماه واحتجابه وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ بل الله تعالى حفيظ عليكم لأنكم وسائر شؤونكم به موجودون «1» وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قال ابن عطاء أي حقيقة البيان وهو الوقوف معه حيث ما وقف والجري معه حيث ما جرى لا يتقدم بغلبته ولا يتخلف عنه لعجزه ، وقال آخر : المعنى لقوم يعرفون قدري ويفهمون خطابي لا من لا يعرف مكان خطابي ومرادي من كلامي اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ قيل : وهو إشارة إلى وحي خاص به صلّى اللّه عليه وسلّم لا يتحمله غيره أو إشارة إلى الوحي بالتوحيد ولذا وصف سبحانه نفسه بقوله : لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ثم قال جل شأنه وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ المحجوبين بالكثرة عن الوحدة وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا بل شاء سبحانه إشراكهم لأنه المعلوم له جل شأنه أزلا دون إيمانهم ولا يشاء إلا ما يعلمه دون ما لا يعلمه من النفي الصرف وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بل أرشدوهم إلى الحق بالتي هي أحسن فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ بأن يسبوكم وأنتم أعظم مظاهره كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ إذ هو الذي طلبوه منا بألسنة استعدادهم الأزلي من شأننا أن لا نرد طالبا وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ
لَيُؤْمِنُنَّ بِها أي أنهم طلبوا خوارق العادات وأعرضوا عن الحجج البينات لاحتجابهم بالحس والمحسوس قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ فيأتي بها حسبما تقتضيه الحكمة وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ لسبق الشقاء عليهم وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ لاقتضاء استعدادهم ذلك كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ حين أعرضوا عن الحجج البينات أو في الأزل وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ الذي هو لهم بمقتضى استعدادهم يَعْمَهُونَ يترددون متحيرين لا يدرون وجه الرشاد وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الرعد : 33] تم طبع الجزء السابع من تفسير روح المعاني للعلامة الألوسي بحول الله وقوته ويتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الثامن منه وأول قوله تعالى وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا الآية
___________
(1) قوله وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ كذا بخطه وأسقط المصنف كلمات من هذه الآية كما أنه أسقط بعض ألفاظ - من هذه الصحيفة كما هو عادته في نظائر ما هنا

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 245
روح المعاني الجزء الثامن

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 246

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 247
بسم اللّه الرحمن الرحيم
[سورة الأنعام (6) : الآيات 111 إلى 128]
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (123) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125)
وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 248
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ تصريح بما أشعر به قوله عز وجل : وَما يُشْعِرُكُمْ إلخ من الحكمة الداعية إلى ترك الإجابة إلى ما اقترحوا وبيان لكذبهم في إيمانهم على أبلغ وجه وآكده أي ولو أنا لم نقتصر على ما اقترحوه هاهنا بل نزلنا إليهم الملائكة كما سألوه بقولهم : لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ [الفرقان : 21] وقولهم : لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ [الحجر : 7] وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى بأن أحييناهم وشهدوا بحقية الإيمان حسبما اقترحوه بقولهم : فَأْتُوا بِآبائِنا [الدخان : 36] وَحَشَرْنا أي جمعنا وسوقنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا أي مقابلة ومعاينة حتى يواجهوهم كما روي عن ابن عباس وقتادة ، وهو على هذا مصدر كما قاله غير واحد وإلى ذلك ذهب ابن زيد ، وعنه : يقال لقيت فلانا قبلا ومقابلة وقبلا وقبلا وقبيلا كله بمعنى واحد وهو المواجهة. ونقل الراغب أنه جمع قابل بمعنى مقابل لحواسهم ، وقيل : هو جمع قبيل بمعنى كفيل كرغيف ورغف وقضيب وقضب فهو من قولك : قبلت الرجل وتقبلت به إذا تكفلت به ، ومنه القبالة لكتاب العهد والصك. وروي ذلك عن الفراء. وعن مجاهد تفسيره بالجماعة على أنه جمع قبيلة كما قال الراغب. ونقل تفسيره بالكفيل وبالجماعة وكذا بالمعاينة والمقابلة في قوله تعالى : أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الإسراء : 92] أي لو أحضرنا لديهم كل شيء تتأتى منهم «1» الكفالة والشهادة بحقية الإيمان لا فرادى بل بطريق المعية أو لو حشرنا عليهم كل شيء جماعات في موقف واحد ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا أي ما صح ولا استقام لهم الإيمان ، وانتصاب قُبُلًا على هذه الأقوال على أنه حال من «كل» وساغ ذلك على القول بجمعيته لأن كلا يجوز مراعاة معناه ومراعاة لفظه كما نص عليه النحاة واستشهدوا له بقول عنترة :
جادت عليه كل عين ثرة فتركن كل حديقة كالدرهم
إذ قال تركن دون تركت فلا حاجة إلى ما قيل : إن ذلك باعتبار لازمه وهو الكل المجموعي : وقرأ نافع وابن عامر «قبلا» بكسر القاف وفتح الباء وهو مصدر بمعنى مقابلة ومشاهدة ، ونصبه على الحال كما قال الفراء ، والزجاج ، وكثير ، وعن المبرد أنه بمعنى جهة وناحية فانتصابه على الظرفية كقولهم : لي قبل فلان كذا. وقرىء «قبلا» بضم فسكون. وما كانُوا إلخ جواب لو وهو إذا كان منفيا لا تدخله اللام خلافا لمن وهم فقدرها.
وعلل هذا الحكم بسوء استعدادهم الثابت أزلا في علم الله تعالى المتعلق بالأشياء حسبما هي عليه في نفس
___________
(1) قوله كل شيء تتأتى منهم كذا بخطه والأمر في دلك سهل.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 249
الأمر وعلله البعض لسبق القضاء عليهم بالكفر. واعترض عليه بعض الأفاضل بأن فيه تعليل الحوادث بالتقدير الأزلي ولا يخفى فساده ، وعلله ببطلان استعدادهم وتبدل فطرتهم القابلة بسوء اختيارهم ، وتبعه في ذلك شيخ الإسلام وعلله بتماديهم في العصيان وغلوهم وتمردهم في الطغيان معترضا على ما ذكر بأنه من الأحكام المترتبة على التمادي المذكور حسبما ينبىء عنه قوله تعالى : وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ وتعقب ذلك الشهاب قائلا : إنه ليس بشيء لأن ما ذكر على مذهب الأشعري القائل بأنه لا تأثير لاختيار العبد وإن قارن الفعل عنده ، ولا يلزم الجبر كما يتوهم على ما حققه أهل الأصول. ولا خفاء في كون القضاء الأزلي سببا لوقوع الحوادث ولا فساد فيه ، وأما سوء اختيار العبد فسبب للقضاء الأزلي ، وتحقيقه كما قيل : إن سوء الاختيار وإن كان كافيا في عدم وقوع الإيمان لكنه لا قطع فيه لجواز أن يحسن الاختيار بصرفه إلى الإيمان بدل صرفه إلى الكفر فكان سوء اختياره فيما لا يزال سببا للقضاء بكفره في الأزل فبعد القضاء يكون الواقع منه الكفر حتما كما قال سبحانه وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها [السجدة : 13] انتهى. وأنا أقول وإن أنكر على أرباب الفضول : إن المعلل بسوء الاستعداد هو السالك مسلك السداد ، وتحقيق ذلك أنه قد حقق كثير من الراسخين وأهل الكشف الكاملين أن ماهيات الممكنات المعلومة لله تعالى أزلا معدومات متميزة في نفسها تمييزا ذاتيا غير مجعول لما حقق من توقف العلم بها على ذلك التميز وإنما المجعول صورها الوجودية الحادثة وأن لها استعدادات ذاتية غير مجعولة تختلف اقتضاءاتها ، فمنها ما يقتضي اختيار الإيمان والطاعة.
ومنها ما يقتضي اختيار الكفر والمعصية والعلم الإلهي متعلق بها كاشف لها على ما هي عليه في أنفسها من اختلاف استعداداتها التي هي من مفاتح الغيب التي لا يعلمها إلا هو واختلاف مقتضيات تلك الاستعدادات فإذا تعلق العلم الإلهي بها على ما هي عليه مما يقتضيه استعدادها من اختيار أحد الطرفين الممكنين أعني الإيمان والطاعة أو الكفر والمعصية تعلقت الإرادة الإلهية بهذا الذي اختاره العبد حال عدمه بمقتضى استعداده تفضلا ورحمة لا وجوبا لغناه الذاتي عن العالمين المصحح لصرف اختيار العبد إلى الطرف الآخر الممكن بالذات إن شاء فيصير مراد العباد بعد تعلق الإرادة الإلهية مراد الله تعالى ، ومن هذا ظهر أن اختيارهم الأزلي بمقتضى استعدادهم متبوع للعلم المتبوع للإرادة مراعاة للحكمة تفضلا وإن اختيارهم فيما لا يزال تابع للإرادة الأزلية المتعلقة باختيارهم لما اختاروه فهم مجبورون فيما لا يزال في عين اختيارهم أي مساقون إلى أن يفعلوا ما يصدر عنهم باختيارهم لا بالإكراه والجبر. ومنه يتضح معنى
قول أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه : إن الله تعالى لم يعص مغلوبا ولم يطع مكرها ولم يملك تفويضا
ولم يكونوا مجبورين في اختيارهم الأزلي لأنه سابق الرتبة على العلم السابق على تعلق الإرادة والجبر تابع للإرادة التابع للعلم التابع للمعلوم الذي هو هنا اختيارهم الأزلي فيمتنع أن يكون تابعا لما هو متأخر عنه بمراتب فمن وجد خيرا فليحمد الله تعالى لأنه سبحانه متفضل بإيجاد ما اختاروه لا يجب عليه مراعاة الحكمة ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه لأن إرادته جل شأنه لم تتعلق بما صدر منهم من الأفعال إلا لكونهم اختاروها أزلا بمقتضى استعدادهم فاختارها تعالى مراعاة للحكمة تفضلا ، والعباد كاسبون بالله تعالى إذ لا كسب إلا بقوة ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، والله تعالى خالق أعمالهم بهم لأنه سبحانه أخبر بأنه خالق أعمالهم مع نسبة العمل إليهم المتبادر منها صدورها منهم باختيارهم وذلك يقتضي أن المخلوق لله تعالى بالعبد عين مكسوب العبد بالله تعالى ، ولا منافاة بين كون الأعمال مخلوقة لله تعالى وبين كونها مكسوبة لهم بقدرتهم واختيارهم ، وما شاع عن الأشعري من أنه لا تأثير لقدرة العبد أصلا وإنما هي مقارنة للفعل وهو بمحض قدرة الله تعالى فمما لا يكاد يقبل عند المحققين المحقين ، وقدرة العبد عندهم مؤثرة بإذن الله تعالى لا استقلالا كما يزعمه المعتزلة ولا غير مؤثّرة كما نسب إلى الأشعري ولا هي منفية بالكلية. كما يقوله الجبرية ، وهذا بحث مفروغ منه وقد أشرنا إليه في أوائل التفسير ، وليس غرضنا هنا سوى

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 250
تحقيق أن عدم إيمان الكفار إنما هو لسوء استعدادهم الأزلي الغير المجعول المتبوع للعلم المتبوع للإرادة ليعلم منه ما في كلام الشهاب وغيره وقد حصل ذلك بتوفيقه تعالى عند من تأمل وأنصف.
إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ استثناء من أعم الأحوال فإن لوحظ أن جميع أحوالهم شاملة لحال تعلق المشيئة بهم فهو متصل وإن لم يلاحظ لأن حال المشيئة ليس من أحوالهم كان منقطعا أي لكن إن شاء الله تعالى آمنوا واستبعده أبو حيان ، وقيل : هو استثناء من أعم الأزمان وهو خلاف الظاهر ، والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة أي ما كانوا ليؤمنوا بعد اجتماع ما ذكر من الأمور الموجبة للإيمان في حال من الأحوال إلا في حال مشيئته تعالى إيمانهم ، والمراد بيان استحالة وقوع إيمانهم بناء على استحالة وقوع المشيئة كما يدل عليه السباق واللحاق وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ استثناء من مضمون الشرطية بعد ورود الاستثناء ، وضمير الجمع للمسلمين أو للمقسمين ، والمعنى أن حالهم كما شرح ولكن أكثر المسلمين يجهلون عدم إيمانهم عند مجيء الآيات لجهلهم عدم مشيئته تعالى لإيمانهم فيتمنون مجيئها طمعا فيما لا يكون أو ولكن المشركين يجهلون عدم إيمانهم عند مجيء الآيات لجهلهم عدم مشيئته تعالى لإيمانهم حينئذ فيقسمون بالله تعالى جهد أيمانهم على ما لا يكاد يوجد أصلا. فالجملة على الأول - كما قال بعض المحققين - مقررة لمضمون قوله تعالى : وَما يُشْعِرُكُمْ إلخ على القراءة المشهورة ، وعلى الثاني بيان لمنشأ خطأ المقسمين ومناط أقسامهم على تلك القراءة أيضا وتقرير له على قراءة «لا تؤمنون» بالفوقانية ، وكذا على قراءة «وما يشعرهم أنها إذا جاءت لا يؤمنون» واستدل أهل السنة بالآية على أن الله تعالى يشاء من الكافر كفره وقرر ذلك بأنه سبحانه لما ذكر أنهم لا يؤمنون إلا أن يشاء الله تعالى إيمانهم دل على أنه جل شأنه ما شاء ايمانهم بل كفرهم.
وأجاب عنه المعتزلة بأن المراد إلا أن يشاء مشيئة قسر وإكراه ، وعدم إيمانهم يستلزم عدم المشيئة القسرية وهي لا تستلزم عدم المشيئة مطلقا. واستدل بها الجبائي على حدوث مشيئته تعالى وإلا يلزم قدم ما دل الحس على حدوثه.
وأهل السنة تفصوا عن ذلك بدعوى أن تعلقها بإحداث ذلك المحدث في الحال إضافة حادثة فتأمل جميع ذلك :
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا كلام مبتدأ مسوق لتسلية رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم عما يشاهده من عداوة قريش وما بنوا عليها من الأقاويل والأفاعيل ، وذلك إشارة إلى ما يفهم مما تقدم ، والكاف في موضع نصب على أنه نعت لمصدر مؤكد لما بعده ، والتقديم للقصر المفيد للمبالغة ، وعَدُوًّا بمعنى أعداء كما في قوله :
إذا أنا لم أنفع صديقي بوده فإن عدوي لم يضرهم بغضي
أي مثل ذلك الجعل في حقك حيث جعلنا لك أعداء أيضا دونك ولا يؤمنون ويبغونك الغوائل ويجهدون في إبطال أمرك جعلنا لكل نبي تقدمك فعلوا معهم نحو ما فعل معك أعداؤك لا جعلا أنقص منه.
وجعله الإمام على هذا الوجه عطفا على معنى ما تقدم من الكلام ، ولعله ليس المراد منه العطف الاصطلاحي ، وجوز أن يكون مرتبطا بقوله سبحانه : وكَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ أي كما فعلنا ذلك جعلنا لكل نبي عدوا وفيه بعد.
وأيا ما كان فالآية ظاهرة فيما ذهب إليه أهل السنة من أنه تعالى خالق الشر كما أنه خالق الخير ، وحملها على أن المراد بها وكما خلينا بينك وبين أعدائك كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأعدائهم لم نمنعهم من العداوة لما فيه من الامتحان الذي هو سبب ظهور الثبات والصبر وكثرة الثواب والأجر خلاف الظاهر. ومثله قول أبي بكر الأصم إن هذا الجعل بطريق التسبب حيث أرسل سبحانه الأنبياء عليهم السلام وخصهم بالمعجزات فحسدهم من حسدهم وصار ذلك سببا للعداوة القوية ، ونظير ذلك قول المتنبي :

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 251
فأنت الذي صيرتهم حسدا وقيل : المراد كما أمرناك بعداوة قومك من المشركين كذلك أمرنا من قبلك من الأنبياء بمعاداة نحو أولئك أو كما أخبرناك بعداوة المشركين وحكمنا بذلك أخبرنا الأنبياء بعداوة أعدائهم وحكمنا بذلك والكل ليس بشيء ، وهكذا غالب تأويلات المعتزلة.
شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ أي مردة النوعين كما روي عن الحسن ، وقتادة ، ومجاهد على أن الإضافة يعني من البيانية وقيل : هي إضافة الصفة للموصوف والأصل الإنس والجن الشياطين ، وقيل : هي بمعنى اللام أي الشياطين للإنس والجن. وفي تفسير الكلبي عن ابن عباس ما يؤيده فإنه
روي عنه أنه قال : إن إبليس عليه اللعنة جعل جنده فريقين فبعث فريقا منهم إلى الإنس وفريقا آخر إلى الجن.
وفي رواية أخرى عنه أن الجن هم الجان وليسوا بشياطين الشياطين ولد إبليس وهم لا يموتون إلا معه والجن يموتون ومنهم المؤمن والكافر ، وهو نصب على البدلية من عَدُوًّا والجعل متعد إلى واحد أو إلى اثنين وهو أول مفعوليه قدم عليه الثاني مسارعة إلى بيان العداوة ، واللام على التقديرين متعلقة بالجعل أو بمحذوف وقع حالا من عَدُوًّا قدم عليه لنكارته ، وجوز أن يكون متعلقا به وقدم عليه للاهتمام ، وأن يكون نصب شَياطِينَ بفعل مقدر.
وقوله سبحانه : يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ كلام مستأنف مسوق لبيان أحكام عداوتهم أو حال من شياطين أو صفة لعدو ، وجمع الضمير باعتبار المعنى كما في البيت السابق ، وأصل الوحي - كما قال الراغب - الإشارة السريعة ولتضمن السرعة قيل أمر وحي ، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض ، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب وبإشارة بعض الجوارح وبالكتابة أيضا ، والمعنى هنا يلقي ويوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس أو بعض كل من الفريقين إلى الآخر زُخْرُفَ الْقَوْلِ أي المزوق من الكلام الباطل منه. وأصل الزخرف الزينة المزوقة ، ومنه قيل للذهب : زخرف ، وقال بعضهم : أصل معنى الزخرف الذهب ، ولما كان حسنا في الأعين قيل لكل زينة زخرفة ، وقد يخص بالباطل غُرُوراً مفعول له أي ليغروهم ، أو مصدر في موقع الحال أي غارين ، أو مصدر لفعل مقدر هو حال من فاعل يُوحِي أي يغرون غرورا ، وفسر الزمخشري الغرور بالخداع والأخذ على غرة ، ونسب للراغب أنه قال :
يقال غره غرورا كأنما طواه على غره - بكسر الغين المعجمة وتشديد الراء - وهو طيه الأول.
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ رجوع كما قيل إلى بيان الشؤون الجارية بينه عليه الصلاة والسلام وبين قومه المفهومة من حكاية ما جرى بين الأنبياء عليهم السلام وبين أممهم كما ينبىء عنه الالتفات ، والتعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام المعربة عن كمال اللطف في التسلية ، والضمير المنصوب في فَعَلُوهُ عائد إلى عداوتهم له صلّى اللّه عليه وسلّم وإيحاء بعضهم إلى بعض مزخرفات الأقاويل الباطلة المتعلقة بأمره عليه الصلاة والسلام باعتبار انفهام ذلك مما تقدم وأمر الإفراد سهل ، وقيل : إنه عائد إلى ما ذكر من معاداة الأنبياء عليهم السلام ، وإيحاء الزخرف أعم من أن تكون في أمره صلّى اللّه عليه وسلّم وأمور إخوانه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وفيه أن قوله تعالى : فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ كالصريح في أن المراد بهم الكفرة المعاصرون له عليه الصلاة والسلام ، وقيل : هو عائد إلى الإيحاء أو الزخرف أو الغرور ، وفي أخذ ذلك عاما أو خاصا احتمالان لا يخفى الأولى منهما ، ومفعول المشيئة محذوف أي عدم ما ذكر ولا إشكال في جعل العدم الخاص متعلق المشيئة ، وقدره بعضهم إيمانهم.
واعترض بأن القاعدة المستمرة أن مفعول المشيئة عند وقوعها شرطا يكون مضمون الجزاء كما في علم المعاني وهو هنا ما فَعَلُوهُ وتعقب بأنه هاهنا المشيئة فيما تقدم متعلقا بشيء وهو الإيمان كما أشير إليه ثم ذكر في

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 252
حيز الشرط بدون متعلق فالظاهر أنه يجوز أن يقدر متعلقه مضمون الجزاء وأن يقدر ما علق به فعل المشيئة سابقا ، ولا بأس بمراعاة كل من الأمرين بحسب ما يقتضيه الحال. والمذكور في المعاني إنما هو فيما لم يتكرر فيه فعل المشيئة ولم يكن قرينة غير الجزاء فليعرف ذلك فإنه بديع ، والأولى عندي اعتبار مضمون الجزاء مطلقا ، وإنما قال سبحانه هنا وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ وفيما يأتي وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ [الأنعام : 137] فغاير بين الاسمين في المحلين لما ذكر بعضهم وهو أن ما قبل هذه الآية من عداوتهم له عليه الصلاة والسلام كسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام التي لو شاء منعهم عنها فلا يصلون إلى المضرة أصلا يقتضي ذكره جل شأنه بهذا العنوان إشارة إلى أنه مربيه صلّى اللّه عليه وسلّم في كنف حمايته وإنما لم يفعل سبحانه ذلك لأمر اقتضته حكمته ، وأما الآية الأخرى فذكر قبلها إشراكهم فناسب ذكره عز اسمه بعنوان الألوهية التي تقتضي عدم الاشتراك فكأنه قيل هاهنا : إذا كان ما فعلوه من أحكام عداوتك من فنون المفاسد بمشيئة ربك جل شأنه الذي لم تزل في كنف حمايته وظل تربيته فاتركهم وافتراءهم أو وما يفترونه من أنواع المكائد ولا تبال به فإن لهم في ذلك عقوبات شديدة ولك عواقب حميدة لابتناء مشيئته سبحانه على الحكم البالغة البتة.
وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أي إلى زخرف القول ، وقيل : الضمير للوحي أو للغرور أو للعداوة لأنها بمعنى التعادي ، والواو للعطف وما بعدها عطف على غُرُوراً بناء على أنه مفعول له فيكون علة أخرى للإيحاء وما في البين اعتراض ، وإنما لم ينصب لفقد شرط النصب إذ الغرور فعل الموحي وصغو الأفئدة فعل الموحى إليه. وهو على الوجهين الأخيرين علة لفعل محذوف يدور عليه المقام أي وليكون ذلك جعلنا ما جعلنا. وأصل الصغو - كما قال الراغب - الميل يقال :
صغت الشمس والنجوم صغوا مالت للغروب وصغت الإناء وأصغيته وأصغيت إلى فلان ملت بسمعي نحوه ، وحكي صغوت إليه أصغو وأصغي صغوا وصغيا ، وقيل : صغيت أصغي وأصغيت أصغي. وفي القاموس صغا يصغو ويصغي صغوا وصغى يصغي صغا وصغيا مال. وذكر بعض الفضلاء أن هذا الفعل مما جاء واويا ويائيا فقيل : يصغو ويصغي صغوا وصغى يصغي صغا وصغيا مال. وذكر بعض الفضلاء أن هذا الفعل مما جاء واويا ويائيا فقيل : يصغو ويصغي ويقال : في مصدره صغيا بالفتح والكسر. وزاد الفراء صغيا وصغوا بالياء والواو مشددتين ، ويقال : إن أصغى مثله.
والمراد هنا ولتميل إليه أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي على الوجه الواجب. وخص عدم إيمانهم بها دون ما عداها من الأمور التي يجب الإيمان بها وهم بها كافرون - قال مولانا شيخ الإسلام - إشعارا بما هو المدار في صغو أفئدتهم إلى ما يلقى إليهم فإن لذات الآخرة محفوفة في هذه النشأة بالمكاره وآلامها مزينة بالشهوات فالذين لا يؤمنون بها وبأحوال ما فيها لا يدرون أن وراء تلك المكاره لذات ودون هذه الشهوات آلاما وإنما ينظرون ما بدا لهم في الدنيا بادي الرأي فهم مضطرون إلى حب الشهوات التي من جملتها مزخرفات الأقاويل ومموهات الأباطيل ، وأما المؤمنون بها فحيث كانوا واقفين على حقيقة الحال ناظرين إلى عواقب الأمور لم يتصور منهم الميل إلى تلك المزخرفات لعلمهم ببطلانها ووخامة عاقبتها اه. والآية حجة على المعتزلة في وجه. وأجاب الكعبي بأن الكلام للعاقبة وليست للتعليل بوجه وهو خلاف الظاهر. وقال غيره : إنها لام القسم كسرت لما لم يؤكد الفعل بالنون ، واعترض بأن النون حذفت ولام القسم باقية على فتحهها كقوله :
لئن تك قد ضاقت علي بيوتكم ليعلم ربي أن بيتي واسع
بفتح لام ليعلم ، نعم حكي عن بعض العرب كسر لام جواب القسم الداخلة على المضارع كقوله :
لتغني عني ذا أنائك أجمعا

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 253
وهو غير مجمع عليه أيضا فإن أناسا أنكروا ورود ذلك ، وجعلوا اللام في البيت للتعليل والجواب محذوف أي لتشربن لتغني عني. واستشهد الأخفش بالبيت على إجابة القسم بلام كي.
وقال الرضي : لا يجوز عند البصريين في جواب القسم الاكتفاء بلام الجواب عن نون التوكيد إلا في الضرورة.
وعن الجبائي أن اللام هنا لام الأمر ، والمراد منه التهديد أو التخلية واستعمال الأمر في ذلك كثير.
واعترض بأنها لو كانت لام الأمر لحذف حرف العلة. وأجيب بأن حرف العلة قد يثبت في مثله كما خرج عليه قراءة أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ «1» إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ «2» فليكن هذا كذلك. ويؤيد أنها لام الأمر أنه قرىء بحذف حرف العلة.
وقرأ الحسن بتسكين اللام في هذا وفي الفعلين بعده. فدعوى أن ضعف كونها للأمر أظهر من ضعف الوجهين الأولين غير ظاهرة. واستدل أصحابنا بإسناد الصغو إلى الأفئدة على أن البنية ليست شرطا للحياة فالحي عندهم هو الجزء الذي قامت به الحياة ، والعالم هو الجزء الذي قام به العلم ، وقالت المعتزلة : الحي والعالم هو الجملة لا ذلك الجزء ، والإسناد هنا مجازي وَلِيَرْضَوْهُ لأنفسهم بعد ما مالت إليه أفئدتهم وَلِيَقْتَرِفُوا أي ليكتسبوا ، قال الراغب : أصل القرف والاقتراف قشر اللحاء عن الشجرة والجليدة عن الجرح وما يؤخذ منه قرف ، واستعير الاقتراف للاكتساب حسنى أو سوأى وفي الإساءة أكثر استعمالا ، ولهذا يقال : الاعتراف يزيل الاقتراف ، ويقال : قرفت فلانا بكذا إذا عبته به واتهمته وقد حمل على ذلك ما هنا وفيه بعد. ومثله ما نقل عن الزجاج أن المعنى فيه وليختلقوا وليكذبوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ أي الذي هم مقترفون من القبائح التي لا يليق ذكرها. وجوز أن تكون ما موصوفة ، والعائد محذوف أيضا. وأن تكون مصدرية فلا حاجة إلى تقدير عائد.
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً كلام مستأنف على إرادة القول. والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي قل لهم يا محمد : أأميل إلى زخارف الشياطين أو أعدل عن الطريق المستقيم فأطلب حكما غير الله تعالى يحكم بيني وبينكم ويفصل المحق منا من المبطل. وقيل : إن مشركي قريش قالوا لرسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم : اجعل بيننا وبينك حكما من أحبار اليهود أو من أساقفة النصارى ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك فنزلت.
وإسناد الابتغاء المنكر لنفسه الشريفة صلّى اللّه عليه وسلّم لا إلى المشركين كما في قوله سبحانه : أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ [آل عمران : 83] مع أنهم الباغون لإظهار كمال النصفة أو لمراعاة قولهم اجعل بيننا وبينك حكما ، و«غير» مفعول أَبْتَغِي وحَكَماً حال منه ، وقيل : تمييز لما في «غير» من الإبهام كقولهم : إن لنا إبلا غيرها ، وقيل : مفعول له ، وأولى المفعول همزة الاستفهام دون الفعل لأن الإنكار إنما هو في ابتغاء غير الله تعالى حكما لا في مطلق الابتغاء فكان أولى بالتقديم وأهم ، وقيل : تقديمه للتخصيص. وحمل على أن المراد تخصيص الإنكار لا إنكار التخصيص ، وقيل : في تقديمه إيماء إلى وجوب تخصيصه تعالى بالابتغاء والرضى بكونه حكما.
وجوز أن يكون «غير» حالا من حَكَماً وحكما مفعول أَبْتَغِي والتقديم لكونه مصب الإنكار ، والحكم يقال للواحد والجمع كما قال الراغب ، وصرح هو وغيره بأنه أبلغ من الحاكم لا مساو له كما نقل الواحدي عن أهل اللغة ، وعلل بأنه صفة مشبهة تفيد ثبوت معناها ولذا لا يوصف به إلا العادل أو من تكرر منه الحكم.
___________
(1) سورة : يوسف ، الآية : 12. [.....]
(2) سورة : يوسف ، الآية : 90.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 254
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ جملة حالية مؤكدة للإنكار ، ونسبة الإنزال إليه خاصة مع أن مقتضى المقام إظهار تساوي نسبته إلى المتحاكمين لاستمالتهم نحو المنزل واستنزالهم إلى قبول حكمه بإيهام قوة نسبته إليهم وقيل : لأن ذلك أوفق بصدر الآية بناء على أن المراد بها الإنكار عليهم وإن عبر بما عبر إظهارا للنصفة ، ونظير ذلك قوله تعالى : وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس : 22].
ومعنى الآية عند بعض المحققين أغيره تعالى أبتغي حكما والحال أنه هو الذي أنزل إليكم الكتاب وأنتم أمة أمية لا تدرون ما تأتون وما تدرون القرآن الناطق بالحق والصواب الحقيق بأن يخص به اسم الكتاب.
مُفَصَّلًا أي مبينا فيه الحق والباطل والحلال والحرام وغير ذلك من الأحكام بحيث لم يبق في أمر الدين شيء من التخليط والإبهام فأي حاجة بعد ذلك إلى الحكم ، ثم قال : وهذا كما ترى صريح في أن القرآن الكريم كاف في أمر الدين مغن عن غيره ببيانه وتفصيله وأما أن يكون لإعجازه دخل في ذلك كما قيل فلا انتهى.
ولا يخفى أن ملاحظة الإعجاز أمر مطلوب على تقدير كون الآية مرتبطة معنى بقوله سبحانه : وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ الآية ، وبيان ذلك على ما ذكره الإمام أنه سبحانه وتعالى لما حكى عن الكفار أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أتتهم آية ليؤمنن بها أجاب عنه جل شأنه بأنه لا فائدة في إظهار تلك الآيات لأنه تعالى لو أظهرها لبقوا مصرين على كفرهم ، ثم إنه تعالى بين في هذه الآية أن الدليل الدال على نبوته عليه الصلاة والسلام قد حصل وكمل فكان ما يطلبونه طلبا للزيادة وذلك مما لا يجب الالتفات إليه ، ثم نبه على حصول الدليل من هذه الآية بوجهين ، الأول أنه تعالى أنزل إليه الكتاب المفصل المبين المشتمل على العلوم الكثيرة والفصاحة الكاملة وقد عجز الخلق عن معارضته فيكون ظهور هذا المعجز دليلا على أنه تعالى قد حكم بنبوته ، فمعنى الآية قل يا محمد : إنكم تتحكمون في طلب سائر المعجزات فهل يجوز في العقل أن يطلب غير الله سبحانه حكما؟ فإن كل أحد يقول : إن ذلك غير جائز ثم قل :
إنه تعالى حكم بصحة نبوتي حيث خصني بمثل هذا الكتاب المفصل الكامل البالغ إلى حد الإعجاز. الثاني اشتمال التوراة والإنجيل على الآيات الدالة على أنه صلّى اللّه عليه وسلّم رسول حق وعلى أن القرآن كتاب حق من عند الله تعالى وهذا هو المراد من الآية بعد انتهى. ووجه بعضهم مدخلية الإعجاز بأنه لا يتم الإلزام إلا بالعلم بكون المنزل من عند الله تعالى وهو يتوقف على الإعجاز بحيث يستغني عن آية أخرى دالة على صدق دعواه عليه الصلاة والسلام أنه من عند الله تعالى لكن قال : إن في دلالة النظم الكريم على ذلك خفاء إلا أن يقال : الجملة الاسمية الحالية تفيده لما فيها من الدلالة على ثبوته وتقرره في نفسه أو يجعل الكتاب بمعنى المعهود إعجازه ، وذكر أن هذا من عدم تدبر الآية إذ المعنى لا أبتغي حكما في شأني وشأن غيري إلا الله سبحانه الذي نزل الكتاب لذلك ، وهو إنما يحكم له صلّى اللّه عليه وسلّم بصدق مدعاه بالإعجاز ، فإنهم لما طعنوا في نبوته عليه الصلاة والسلام وأقسموا إن جاءتهم آية آمنوا بين سبحانه أنهم مطبوع على قلوبهم وأمره أن يوبخهم وينكر عليهم بقوله تعالى : أَفَغَيْرَ اللَّهِ إلخ أي أأزيغ عن الطريق السوي فأخص غيره بالحكم وهو الذي أنزل هذا الكتاب المعجز الذي أفحكم وألزمكم الحجة فكفى به سبحانه حاكما بيني وبينكم بإنزال هذا الكتاب المفصل بالآيات البينات من التوحيد والنبوة وغيرهما الذي أعجزكم عن آخركم ، ويؤول هذا إلى أنه صلّى اللّه عليه وسلّم أجابهم بالقول بالموجب لأنهم طعنوا في معجزاته فكبتهم على أحسن وجه وضم إليه علم أهل الكتاب ، وعلى هذا فكونه معجزا مأخوذ من كونه مغنيا عما عداه في شأنه وشأن غيره على ما أشير إليه ، وهذا له نوع قرب مما ذكره الإمام وما أشار إليه من ارتباط الآية معنى بما تقدم من قوله تعالى : وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ إلخ لا يخلو عن حسن إلا أن

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 255
دعوى خفاء دلالة النظم الكريم على الإعجاز مما لا خفاء في صحتها عندي ، ولم يظهر مما ذكر ما يزيل ذلك الخفاء ، وكون سوق الآية دليلا على ملاحظة ذلك غير بعيد عن المأخذ الذي سمعته فتدبر. ومن الناس من قال : يحتمل أن يراد بالكتاب التوراة أي إنه تعالى حكم بيني وبينكم بما أنزل فيه مفصلا حيث أخبركم بنبوتي وفصل فيه علاماتي وهو كما ترى ، والحق ما تقدم.
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ كلام مستأنف غير داخل تحت القول المقدر مسوق من جهته تعالى لتحقيق حقية الكتاب الذي نيط بإنزاله أمر الحكمية وتقرير كونه منزلا من عنده عز وجل ، وليس المراد منه الاستدلال على ثبوت نبوته صلّى اللّه عليه وسلّم كما يلوح من كلام الإمام ، والمراد بالكتاب التوراة والإنجيل ، والتعبير عنهما بذلك للإيماء إلى ما بينهما وبين القرآن من المجانسة المقتضية للاشتراك في الحقية والنزول من عنده تعالى مع ما فيه من الإيجاز ، والمراد بالموصول إما علماء اليهود والنصارى وإما الفريقان مطلقا والعلماء داخلون دخولا أوليا ، والإيتاء على الأول التفهيم بالفعل وعلى الثاني أعم منه ومن التفهيم بالقوة ، وإيراد الطائفتين بعنوان إيتاء الكتاب للإيذان بأنهم علموا ما علموا من جهة كتابهم ، وقيل : المراد بالموصول مؤمنو أهل الكتاب.
وعن عطاء أن المراد بالكتاب القرآن وبالموصول كبراء الصحابة وأهل بدر رضي الله تعالى عنهم أجمعين ، ولا يخفى أنه أبعد من الثريا. والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لتشريفه صلّى اللّه عليه وسلّم مع الإيذان بأن نزوله من آثار الربوبية. ومِنْ لابتداء الغاية مجازا وهي متعلقة بمنزل ، والباء للملابسة وهي متعلقة بمحذوف وقع حالا من الضمير المستكن في مُنَزَّلٌ أي متلبسا بالحق. وقرأ غالب السبعة «منزل» بالتخفيف من الإنزال.
والفرق بين أنزل ونزل قد أشرنا إليه فيما مر وأن الأول دفعي والثاني تدريجي وأنه أكثري ، والقراءة بهما تدل على قطع النظر عن الفرق ، وليس إشارة إلى المغنين باعتبار إنزاله إلى السماء الدنيا ثم إنزاله إلى الأرض لأن إنزاله دفعة إلى السماء على ما قيل لا يعلمه أهل الكتاب.
فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أي المترددين في أنهم يعملون ذلك لما لا يشاهد منهم آثار العلم وأحكام المعرفة ، فالفاء لترتيب النهي على الاخبار بعلم أهل الكتاب أو في أنه منزل من ربك بالحق فليس المراد حقيقة النهي له صلّى اللّه عليه وسلّم عن الامتراء في ذلك بل تهييجه وتحريضه عليه الصلاة والسلام كقوله سبحانه. وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام : 14 ، يونس : 105 ، القصص : 87] ويحتمل أن يكون الخطاب في الحقيقة للأمة على طريق التعريض وإن كان له عليه الصلاة والسلام صورة ، وأن يكون لكل أحد ممن يتصور منه الامتراء بناء على ما تقرر أن أصل الخطاب أن يكون مع معين وقد يترك لغيره كما في قوله سبحانه : وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ [السجدة : 12] والفاء على هذه الأوجه لترتيب النهي على نفس علمهم بحال القرآن.
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ شروع في بيان كمال القرآن من حيث ذاته إثر بيان كماله من حيث إضافته إليه عز وجل بكونه منزلا منه سبحانه بالحق وتحقيق ذلك بعلم أهل الكتابين به ، وتمام الشي ء - كما قال الراغب - انتهاؤه إلى حد لا يحتاج إلى شيء خارج عنه. والمراد بالكلمة الكلام وأريد به - كما قال قتادة وغيره - القرآن ، وإطلاقها عليه إما من باب المجاز المرسل أو الاستعارة وعلاقتها تأبى أن تطلق الكلمة على الجملة غير المفيدة وعلاقته لا لكن لم يوجد في كلامهم ذلك الإطلاق ، واختير هذا التعبير لما فيه من اللطافة التي لا تخفى على من دقق النظر. وقال البعض لما أن الكلمة هي الأصل في الاتصاف بالصدق والعدل وبها تظهر الآثار من الحكم. وعن أبي مسلم أن المراد بالكلمة دين الله تعالى كما في قوله سبحانه : وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا [التوبة : 40].

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 256
وقيل : المراد بها حجته عز وجل على خلقه والأول هو الظاهر وقرأ بالتوحيد عاصم ، وحمزة ، وعلي ، وخلف ، وسهل ، ويعقوب ، وقرأ الباقون «كلمات ربك» : صِدْقاً وَعَدْلًا مصدران نصبا على الحال من رَبِّكَ أو من كَلِمَةُ كما ذهب إليه أبو علي الفارسي. وجوز أبو البقاء نصبهما على التمييز وعلى العلة والصدق في الأخبار والمواعيد منها في المشهور والعدل في الأقضية والأحكام لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ استئناف مبين لفضلها على غيرها إثر بيان فضلها في نفسها. وقال بعض المحققين : إنه سبحانه لما أخبر بتمام كلمته وكان التمام يعقبه النقص غالبا كما قيل :
إذا تم أمر بدا نقصه توقع زوالا إذا قيل تم
ذكر هذا احتراسا وبيانا لأن تمامها ليس كتمام غيرها. وجوز أن يكون حالا من فاعل تَمَّتْ على أن الظاهر مغن عن الضمير الرابط. قال أبو البقاء : ولا يجوز أن يكون حالا من ربك لئلا يفصل بين الحال وصاحبها بأجنبي وهو صِدْقاً وَعَدْلًا إلا أن يجعلا حالين منه أيضا. والمعنى لا أحد يبدل شيئا من كلماته بما هو أصدق وأعدل منه ولا بما هو مثله فكيف يتصور ابتغاء حكم غيره تعالى. والمراد بالأصدق الأبين والأظهر صدقا فلا يراد أن الصدق لا يقبل الزيادة والنقص لأن النسبة إن طابقت الواقع فصدق وإلا فكذب.
وذكر الكرماني
في حديث «أصدق الحديث» إلخ
أنه جعل الحديث كمتكلم فوصف به كما يقال زيد أصدق من غيره والمتكلم يقبل الزيادة والنقص في ذلك ، وقيل : المعنى لا يقدر أحد أن يحرفها شائعا كما فعل بالتوراة فيكون هذا ضمانا منه سبحانه بالحفظ كقوله جل وعلا : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر : 9] أو لا نبي ولا كتاب بعدها يبدلها وينسخ أحكامها. وعيسى عليه السلام يعمل بعد النزول بها لا ينسخ شيئا كما حقق في محله.
وقيل : المراد أن أحكام الله تعالى لا تقبل التبدل والزوال لأنها أزلية والأزلي لا يزول. وزعم الإمام أن الآية على هذا أحد الأصول القوية في إثبات الجبر ، لأنه تعالى لما حكم على زيد بالسعادة وعلى عمرو بالشقاوة ثم قال : لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ يلزم امتناع أن ينقلب السعيد شقيا والشقي سعيدا فالسعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه وأنا أقول : لا يخفى أن الشقي في العلم لا يكون سعيدا والسعيد فيه لا يكون شقيا أصلا لأن العلم لا يتعلق إلا بما المعلوم عليه في نفسه وحكمه سبحانه تابع لذلك العلم. وكذا إيجاده الأشياء على طبق ذلك العلم. ولا يتصور هناك جبر بوجه من الوجوه لأنه عز شأنه لم يفض على القوابل إلا ما طلبته منه جل وعلا بلسان استعدادها كما يشير إليه قوله سبحانه : أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ [طه : 50] نعم يتصور الجبر لو طلبت القوابل شيئا وأفاض عليها عز شأنه ضده والله سبحانه أجل وأعلى من ذلك وَهُوَ السَّمِيعُ لكل ما يتعلق به السميع الْعَلِيمُ بكل ما يمكن أن يعلم فيدخل في ذلك أقوال المتحاكمين وأحوالهم الظاهرة والباطنة دخولا أوليا.
ثم إنه تعالى - على ما ذكر الإمام - لما أجاب عن شبهات الكفار وبين بالدليل صحة النبوة أرشد إلى أنه بعد زوال الشبهة وظهور الحجة لا ينبغي أن يلتفت العاقل إلى كلمات الجهال فقال سبحانه : وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وقال شيخ الإسلام : إنه لما تحقق اختصاصه تعالى بالحكمية لاستقلاله بما يوجب ذلك من إنزال الكتاب الفاصل بين الحق والباطل وتمام صدق كلامه وكمال عدله في أحكامه وامتناع وجود من يبدل شيئا منها واستبداده سبحانه بالإحاطة التامة بجميع المسموعات والمعلومات عقب ذلك ببيان أن الكفرة متصفون

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 257
بنقائض تلك الكمالات من النقائض التي هي الضلال والإضلال واتباع الظنون الفاسدة الناشئ من الجهل والكذب على الله تعالى إبانة لكمال مباينة حالهم لما يرمونه وتحذيرا عن الركون إليهم والعمل بآرائهم فقال سبحانه ما قال.
ويحتمل أن يكون هذا من باب الإرشاد إلى اتباع القرآن والتمسك به بعد بيان كماله على أكمل وجه خطاب له صلّى اللّه عليه وسلّم ولأمته.
وقيل : خوطب عليه الصلاة والسلام وأريد غيره. والمراد بمن في الأرض : الناس ، وبأكثرهم الكفار وقيل : ما يعمهم وغيرهم من الجهال واتباع الهوى. وقيل : أهل مكة والأرض أرضها وأكثر أهلها كانوا حينئذ كفارا.
ومن الناس من زعم أن هذا نهي في المعنى عن متابعة غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذ هم والكرام قليل أقل الناس عددا. وقد قال سبحانه : فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام : 90] وهو كما ترى. ومثله احتمال أنه نهى عن متابعة غير الله سبحانه لأنه لو أطيع أكثر من في الأرض لأضلوا فضلا عن إطاعة قليل أو واحد منهم. والمعنى إن تطع أحدا من الكفار بمخالفة ما شرع لك وأودعه كلماته المنزلة من عنده إليك يضلوك عن الحق أو إن تطع الكفار بأن جعلت منهم حكما يضلوك عن الطريق الموصل إليه أو عن الشريعة التي شرعها لعباده إِنْ يَتَّبِعُونَ أي ما يتبعون فيما هم عليه من الشرك والضلال إِلَّا الظَّنَّ وإن الظن فيما يتعلق بالله تعالى لا يغني من الحق شيئا ولا يكفي هناك إلا العلم وأنى لهم به. وهذا بخلاف سائر الأحكام وأسبابها مثلا فإنه لا يشترط فيها العلم وإلا لفات معظم المصالح الدنيوية والأخروية ، والفرق بينهما على - ما قاله العز بن عبد السلام في قواعده الكبرى - أن الظان مجوز لخلاف مظنونه فإذا ظن صفة من صفات الإله عز شأنه فإنه يجوز نقيضها وهو نقص ولا يجوز النقص عليه سبحانه بخلاف الأحكام فإنه لو ظن الحلال حراما أو الحرام حلالا لم يكن في ذلك تجويز نقص على الرب جل شأنه لأنه سبحانه لو أحل الحرام وحرم الحلال لم يكن ذلك نقصا عليه عز وجل فدار تجويزه بين أمرين كل منهما كمال بخلاف الصفات.
وقال غير واحد : المراد ما يتبعون إلا ظنهم أن آباءهم كانوا على الحق وجهالاتهم وآراءهم الباطلة ، ويراد من الظن ما يقابل العلم أي الجهل فليس في الآية دليل على عدم جواز العمل بالظن مطلقا فلا متمسك لنفاة القياس بها ، والإمام بعد أن قرر وجه استدلالهم قال : والجواب لم يجوز أن يقال : الظن عبارة عن الاعتقاد الراجح إذا لم يستند إلى أمارة وهو مثل ظن الكفار أما إذا كان الاعتقاد الراجح مستندا إليها فلا يسمى ظنا وهو كما ترى وَإِنْ هُمْ أي وما هم إِلَّا يَخْرُصُونَ أي يكذبون. وأصل الخرص القول بالظن وقول من لا يستيقن ويتحقق كما قال الأزهري ، ومنه خرص النخل خرصا بفتح الخاء وهي خرص بالكسر أي مخروصة ، والمراد أن شأن هؤلاء الكذب وهم مستمرون على تجدده منهم مرة بعد مرة مع ما هم عليه من اتباع الظن في شأن خالقهم عز شأنه.
وقال الإمام : المراد أن هؤلاء الكفار الذين ينازعونك في دينك ومذهبك غير قاطعين بصحة مذاهبهم بل لا يتبعون إلا الظن وهم خراصون كاذبون في ادعاء القطع ، ولا يخفى بعد تقييد الكذب بادعاء القطع. وقال غير واحد : المراد أنهم يكذبون على الله تعالى فيما ينسبون إليه جل شأنه كاتخاذ الولد وجعل عبادة الأوثان ذريعة إليه سبحانه وتحليل الميتة والبحائر ونظير ذلك. ولعل ما ذهبنا إليه أولى وأبلغ في الذم ، ويحتمل أن يكون المراد أن هؤلاء الكفار يتبعون في أمور دينهم ظن أسلافهم وأن شأنهم أنفسهم الظن أيضا ، وحاصل ذلك ذمهم بفسادهم وفساد أصولهم إلا أن ذلك بعيد جدا.
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ تقرير - كما قال بعض المحققين - لمضمون الشرطية وما بعدها وتأكيد لما يفيده من التحذير أي هو أعلم بالفريقين فاحذر أن تكون من الأولين.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 258
ومَنْ موصولة أو موصوفة في محل النصب على المفعولية بفعل دل عليه أَعْلَمُ - كما ذهب إليه الفارسي - أي يعلم لا به فإن أفعل لا ينصب الظاهر فيما إذا أريد به التفضيل على الصحيح خلافا لبعض الكوفيين لأنه ضعيف لا يعمل عمل فعله ، وإذا جرد لمعنى اسم الفاعل ، فمنهم من جوز نصبه كما صرح به في التسهيل ، وحينئذ يؤتى بمفعوله مجرورا بالباء أو اللام. ومن الناس من ادعى أن الباء هنا مقدرة ليتطابق طرفا الآية. ولا يجوز أن يكون أفعل مضافا إلى من لفساد المعنى.
وجوز أن تكون استفهامية مبتدأ والخبر يَضِلُّ والجملة معلق عنها الفعل المقدر ، وإلى هذا ذهب الزجاج ولا يخفى ما في التعبير في جانب الفريق الأول بما عبر به وفي جانب الفريق الثاني بالمهتدين مع عدم بيان ما اهتدوا إليه من الاعتناء بشأن الآخرين ومزيد التفرقة بينهم وبين الأولين. وقرىء «من يضّل» بضم الياء على أن مَنْ مفعول لما أشير إليه من الفعل المقدر وفاعل يَضِلُّ ضمير راجع إليه ومفعوله محذوف أي يعلم من يضل الناس فيكون تأكيدا للتحذير عن طاعة الكفرة ، وجوز أن تكون مجرورة بالإضافة أي أعلم المضلين من قوله تعالى : مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ [النساء : 88 وغيرها] أو من قولك : أضللته إذا وجدته ضالا كأحمدته إذا وجدته محمودا ، وأن تكون استفهامية معلقا عنها الفعل أيضا ، وأن يكون فاعل يَضِلُّ ضمير الله تعالى ، ومن منصوبة بما ذكر من الفعل المقدر أي يعلم من يضله الله تعالى ، قيل : وكان الظاهر أن يقال : بالمهديين. وكأن وجه العدول عنه الإشارة إلى أن الهداية صفة سابقة ثابتة لهم في أنفسهم كأنها غير محتاجة إلى جعل
لقوله «عليه الصلاة والسلام» كل مولود يولد على الفطرة :
بخلاف الضلال فإنه أمر طار أوجده فيهم فتأمل.
والتفضيل في العلم إما بالنظر إلى المعلومات فإنها غير متناهية أو إلى وجوه العلم التي يمكن تعلقه بها ، وإما باعتبار الكيفية وهي لزوم العلم له سبحانه أو كونه بالذات لا بالغير.
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أمر مترتب على النهي عن اتباع المضلين الذين من جملة إضلالهم تحليل الحرام وتحريم الحلال ،
فقد ذكر الواحدي أن المشركين قالوا : يا محمد أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قبلها فقال عليه الصلاة والسلام : الله تعالى قتلها قالوا : فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال وما قتل الصقر والكلب حلال وما قتله الله تعالى حرام فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال عكرمة : إن المجوس من أهل فارس لما أنزل الله تعالى تحريم الميتة كتبوا إلى مشركي قريش وكانوا أولياءهم في الجاهلية وكانت بينهم مكاتبة أن محمدا عليه الصلاة والسلام وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله تعالى ثم يزعمون أن ما ذبحوا فهو حلال وما ذبح الله تعالى فهو حرام فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء فأنزل سبحانه الآية.
وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : جاءت اليهود إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا : أنأكل مما قتلنا ولا نأكل مما يقتل الله تعالى فأنزل الله تعالى الآية ،
والمعنى على ما ذهب إليه غير واحد كلوا مما ذكر اسم الله تعالى على ذبحه لا مما ذكر عليه اسم غيره خاصة أو مع اسمه عز اسمه أو مات حتف أنفه ، والحصر - كما قيل - مستفاد من عدم اتباع المضلين ومن الشرط ولولا ذلك لكان هذا الكلام متعرضا لما لا يحتاج إليه ساكتا عما يحتاج إليه ، وادعى بعضهم أن لا حصر واستفادة عدم حل ما مات حتف أنفه من صريح النظم أعني قوله تعالى : وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا إلخ وهو مخالف لما عليه الجمهور إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ التي من جملتها الآيات الواردة في هذا الشأن مُؤْمِنِينَ فإن الإيمان بها يقتضي استباحة ما أحل الله تعالى واجتناب ما حرم ، وقيل : المعنى إن صرتم عالمين حقائق الأمور التي هذا الأمر من جملتها بسبب إيمانكم ، وقيل : المراد إن كنتم متصفين بالإيمان وعلى

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 259
يقين منه فإن التصديق يختلف ظنا وتقليدا وتحقيقا ، والجار والمجرور متعلق بما بعده وقدم رعاية للفواصل وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إنكار لأن يكون لهم شيء يدعوهم إلى الاجتناب عن أكل ما ذكر اسم الله تعالى عليه ، فما للاستفهام الإنكاري وليست نافية كما قيل وهي مبتدأ ولَكُمْ الخبر وأن تأكلوا بتقدير حرف الجر أي في أن تأكلوا ، والخلاف في محل المنسبك بعد الحذف مشهور.
وجوز أن يكون ذلك حالا ، ورد بأن المصدر المؤول من أن والفعل لا يقع حالا كما صرح به سيبويه لأنه معرفة ولأنه مصدر بعلامة حرف الاستقبال المنافية للحالية إلا أن يؤول بنكرة أو يقدر مضاف أي ذوي أن لا تأكلوا ومفعول تَأْكُلُوا كما قال أبو البقاء : محذوف أي شيئا مما إلخ ، قيل : وظاهر الآية مشعر بأنه يجوز الأكل مما ذكر اسم الله تعالى عليه وغيره معا وليست من التبعيضية لإخراجه بل لإخراج ما لم يؤكل كالروث والدم وهو خارج بالحصر السابق فلا تغفل ، وسبب نزول الآية - على ما قاله الإمام أبو منصور - أن المسلمين كانوا يتحرجون من أكل الطيبات تقشفا وتزهدا فنزلت وقد فضّل لكم ما حرّم عليكم بقوله تعالى : قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً [الأنعام :
145] الآية فبقي ما عدا ذلك على الحل ، وقيل بقوله تعالى : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [المائدة : 3] واعترضه الإمام بأن سورة المائدة من أواخر ما نزل بالمدينة وهذه مكية كما علمت فلا يتأتى ذلك وأما التأخر في التلاوة فلا يوجب التأخر في النزول فلا يضر تأخر قُلْ لا أَجِدُ إلخ عن هذه الآية في هذه السورة ، وقيل : التفصيل بوحي غير متلو ، والجملة حالية مؤكدة للإنكار السابق.
وقرأ أهل الكوفة غير حفص «فصل ما حرم» ببناء الأول للفاعل والثاني للمفعول. وقرأ أهل المدينة ، وحفص ، ويعقوب ، وسهل «فصل وحرم» كليهما بالبناء للفاعل. وقرأهما الباقون بالبناء للمفعول.
إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ أي دعتكم الضرورة إلى أكله بسبب شدة المجاعة ، وظاهر تقرير الزمخشري - كما قال العلامة الثاني - يقتضي أن ما موصولة فلا يستقيم غير جعل الاستثناء منقطعا أي لكن الذي اضطررتم إلى أكله مما هو حرام عليكم حلال لكم حال الضرورة ، وجوز عليه الرحمة جعله استثناء من ضمير حَرَّمَ وما مصدرية في معنى المدة أي فصّل لكم الأشياء التي حرمت عليكم إلا وقت الاضطرار إليها ، واعترض بأنه لا يصح حينئذ الاستثناء من الضمير بل هو استثناء مفرغ من الظرف العام المقدر كأنه قيل : حرمت عليكم كل وقت إلا وقت إلخ ، ومن الناس من أورد هنا شيئا لا أظنه مما يضطر إليه حيث قال بعد كلام : والمهم في هذا المقام بيان فائدة إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ وقد أعني عنه قوله سبحانه : وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ لأن تفصيل ما حرم يتضمن قوله تعالى. إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وكأن الفائدة فيه والله تعالى أعلم المبالغة في النهي عن الامتناع عن الأكل بأن ما حرم يصير مما لا يؤكل بخلاف ما حل فإنه لا يصير مما لا يؤكل فكيف يجتنب عما يؤكل فتأمل وَإِنَّ كَثِيراً من الكفار لَيُضِلُّونَ الناس بتحريم الحلال وتحليل الحرام كعمرو بن لحي وأضرابه الذين اتخذوا البحائر والسوائب وأحلوا أكل الميتة ، وعن الزجاج أن المراد بهذا الكثير الذين ناظروا في الميتة.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب «ليضلّون» بفتح الياء بِأَهْوائِهِمْ الزائغة وشهواتهم الباطلة بِغَيْرِ عِلْمٍ مقتبس من الشريعة مستند إلى الوحي أو بغير علم أصلا - كما قيل - وذكر ذلك للإيذان بأن ما هم عليه محض هوى وشهوة ، وجوز أن يكون من قبيل قوله تعالى : وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران : 112].
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ المتجاوزين الحق إلى الباطل والحلال إلى الحرام فيجازيهم على ذلك ،

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 260
ولعل المراد بهم هذا الكثير ، ووضع الظاهر موضع ضميرهم لوسمحهم بصفة الاعتداء وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ أي ما يعلن وما يسر كما قال مجاهد ، وقتادة ، والربيع بن أنس أو ما بالجوارح وما بالقلب - كما قاله الجبائي - أو نكاح ما نكح الآباء ونحوه والزنا بالأجنبيات كما روي عن ابن جبير أو الزنا من الحوانيت واتخاذ الأخدان كما روي عن الضحاك ، والسدي ، وقد روي أن أهل الجاهلية كانوا يرون أن الزنا إذا ظهر كان إثما وإذا استسر به صاحبه فلا إثم فيه.
قال الطيبي : وهو على هذا الوجه مقصود بالعطف مسبب عن عدم الاتباع ، وعلى الأول معترض توكيدا لقوله سبحانه : فَكُلُوا أولا وَلا تَأْكُلُوا ثانيا وهو الوجه ، ولعل الأمر على الوجه الذي قبله مثله.
إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ
أي يعملون المعاصي التي فيها الإثم ويرتكبون القبائح الظاهرة أو الباطنة سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ أي يكسبون من الإثم كائنا ما كان فلا بد من اجتناب ذلك ، والجملة تعليل للأمر وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أي من الحيوان كما هو المتبادر ، والآية ظاهرة في تحريم متروك التسمية عمدا كان أو نسيانا وإليه ذهب داود.
وعن أحمد ، والحسن ، وابن سيرين ، والجبائي مثله ، وقال الشافعي بخلافه لما رواه أبو داود وعبد بن حميد عن راشد بن سعد مرسلا ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله تعالى أو لم يذكر. وعن مالك وهي الرواية المعول عليها عند أئمة مذهبه أن متروك التسمية عمدا لا يؤكل سواء كان تهاونا أو غير تهاون ، ولأشهب قول شاذ بجواز غير المتهاون في ترك التسمية عليه. وزعم بعضهم أن مذهب مالك كمذهب الشافعي ، وآخرون أنه كمذهب داود ومن معه ، وما ذكرناه هو الموجود في كتب المالكية وأهل مكة أدرى بشعابها. ومذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه التفرقة بين العمد والنسيان كالصحيح من مذهب مالك ، قال العلامة الثاني : إن الناسي على مذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه ليس بتارك للتسمية بل هي في قلبه على ما
روي أنه صلّى اللّه عليه وسلّم سئل عن متروك التسمية ناسيا فقال عليه الصلاة والسلام :
كلوه فإن تسمية الله تعالى في قلب كل مسلم
ولم يلحق به العامد إما لامتناع تخصيص الكتاب بالقياس وإن كان منصوص العلة ، وإما لأنه ترك التسمية عمدا فكأنه نفي ما في قلبه ، واعترض بأن تخصيص العام الذي خص منه البعض جائز بالقياس المنصوص العلة وفاقا وبأنا لا نسلم أن التارك عمدا بمنزلة النافي لما في قلبه بل ربما يكون لوثوقه بذلك وعدم افتقاره لذكره ، ثم قال : فذهبوا إلى أن الناسي خارج بقوله تعالى : وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ إذ الضمير عائد إلى المصدر المأخوذ من مضمون لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وهو الترك لكونه الأقرب ، ومعلوم أن الترك نسيانا ليس بفسق لعدم تكليف الناسي والمؤاخذة عليه فيتعين العمد.
واعترض ما ذكر بأن كون ذلك فسقا لا سيما على وجه التحقيق والتأكيد خلاف الظاهر ولم يذهب إليه أحد ولا يلائم قوله تعالى : أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الأنعام : 145] مع أن القرآن يفسر بعضه بعضا سيما في حكم واحد وبأن ما لم يذكر اسم الله عليه يتناول الميتة مع القطع بأن ترك التسمية عليها ليس بفسق ، وبعضهم أرجع الضمير إلى ما بمعنى الذبيحة وجعلها عين الفسق على سبيل المبالغة لكن لا بد من ملاحظة كونها متروكة التسمية عمدا إذ لا فسق في النسيان وحينئذ لا يصح الحمل أيضا ومما تقدم يعلم ما فيه. وذكر العلامة للشافعية في دعوى حل متروك التسمية عمدا أو نسيانا وحرمة ما ذبح على النصب أو مات حتف أنفه وجوها الأول أن التسمية على ذكر المؤمن وفي قلبه ما دام مؤمنا فلا يتحقق منه عدم الذكر فلا يحرم من ذبيحته إلا ما أهلّ به لغير الله تعالى.
الثاني أن قوله سبحانه : وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ على وجه التحقيق والتأكيد لا يصح في حق أكل ما لم يذكر اسم الله تعالى عليه عمدا كان أو سهوا إذ لا فسق بفعل ما هو محل الاجتهاد. الثالث أن هذه الجملة في موقع الحال إذ لا

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 261
يحسن عطف الخبر على الإنشاء ، وقد بين الفسق بقوله عز شأنه : أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فيكون النهي عن الأكل مقيدا بكون ما لم يذكر اسم الله تعالى عليه قد أهل به لغير الله تعالى فيحل ما ليس كذلك إما بطريق مفهوم المخالفة وإما بحكم الأصل ، وإما بالعمومات الواردة في حل الأطعمة. وهذا خلاصة ما ذكره الإمام في مجلس تذكير عقده له سلطان خوارزم فيها بمحضر منه ومن جلة الأئمة الحنفية. وعليه لا حاجة للشافعية إلى دليل خارجي في تخصيص الآية.
واعترض بأنه يقتضي أن لا يتناول النهي أكل الميتة مع أنه سبب النزول. وبأن التأكيد بأن واللام ينفي كون الجملة حالية لأنه إنما يحسن فيما قصده الإعلام بتحققه البتة والرد على منكر تحقيقا أو تقديرا على ما بين في علم المعاني والحال الواقع في الأمر والنهي مبناه على التقدير كأنه قيل : لا تأكلوا منه إن كان فسقا فلا يحسن وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ بل وهو فسق. ومن هنا ذهب كثير إلى أن الجملة مستأنفة. وأجيب عن الأول بأنه دخل في قوله تعالى :
وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ما أهل لغير الله وبقوله جل شأنه : وَإِنَّ الشَّياطِينَ إلخ الميتة فيتحقق قولهم : إن النهي مخصوص بما أهل به لغير الله تعالى أو مات حتف أنفه. وأجاب العلامة عن الثاني بأنه لما كان المراد بالفسق هاهنا الإهلال لغير الله تعالى كان التأكيد مناسبا كأنه قيل : لا تأكلوا منه إذا كان هذا النوع من الفسق الذي الحكم به متحقق والمشركون ينكرونه ، ومنهم من تأول الآية بالميتة لأن الجدال فيها كما ستعلم قريبا إن شاء الله تعالى.
واستظهر رجوع الضمير إلى الأكل الذي دل عليه وَلا تَأْكُلُوا والذي يلوح من كلام بعض المحققين أن ما لم يذكر اسم الله عليه عاما لما أهل به لغير الله تعالى ولمتروك التسمية عمدا أو سهوا ولما مات حتف أنفه لأنه سبب نزول الآية. والتحقيق أن العام الظاهر متى ورد على سبب خاص كان نصا في السبب ظاهرا باقيا على ظهوره فيما عداه. وأنه لا بد لمبيح منسي التسمية من مخصص وهو الخبر المشتمل على السؤال والجواب وادعى أن هذا عند التحقيق ليس بتخصيص بل منع لاندراج المنسي في العموم مستند بالحديث المذكور.
ويؤيد بأن العام الوارد على سبب خاص وإن قوي تناوله للسبب حتى ينتهض الظاهر فيه نصا إلا أنه ضعيف التناول لما عداه حتى ينحط من أعالي الظواهر فيه ويكتفي من معارضة ما لا يكتفى به منه لولا السبب انتهى.
ولا يخفى ما فيه لمن أحاط خبرا بما ذكره العلامة قبل. وذكر كثير من أصحابنا أن قول الشافعي عليه الرحمة مخالف للإجماع إذ لا خلاف فيمن كان قبله في حرمة متروك التسمية عامدا وإنما الخلاف بينهم في متروكها ناسيا فمذهب ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه يحرم ومذهب علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه يحل ولم يختلفوا في حرمة متروك التسمية عامدا ولهذا قال أبو يوسف والمشايخ رحمهم الله تعالى : إن متروك التسمية عامدا لا يسع فيه الاجتهاد ولو قضي القاضي بجواز بيعه لا ينفّذ لكونه مخالفا للإجماع وأن ظاهر الآية يقتضي شمولها لمتروك التسمية نسيانا إلا أن الشرع جعل الناسي ذاكرا لعذر من جهته وفي ذلك رفع للحرج فإن الإنسان كثير النسيان.
وقول بعض الشافعية عليهم الرحمة : إن التسمية لو كانت شرطا للحل لما سقط بعذر النسيان كالطهارة في باب الصلاة مفض إلى التسوية بين العمد والنسيان ، وهي معهودة فيما إذا كان على الناسي هيئة مذكرة كالأكل في الصلاة والجماع في الإحرام لا فيما إذا لم يكن كالأكل في الصيام ، وهنا إن لم تكن هيئة توجب النسيان وهي ما يحصل للذابح عند زهوق روح حيوان من تغير الحال فليس هيئة مذكرة بموجودة.
والحق عندي أن المسألة اجتهادية وثبوت الإجماع غير مسلم ولو كان ما كان خرقه الإمام الشافعي رحمه الله

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 262
تعالى ، واستدلاله على مدعاه على ما سمعت لا يخلو من متانة ، وقول الأصفهاني - كما في المستصفى - أفحش الشافعي حيث خالف سبع آيات من القرآن ثلاث منها في سورة الأنعام ، الأولى فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، والثانية وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، والثالثة وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وثلاث في سورة الحج ، الأولى لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ [الحج : 28] ، والثانية وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ [الحج : 34] ، والثالثة وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ [الحج : 36] وآية فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ [المائدة : 4] من الفحش في حق هذا الإمام القرشي ، ومثاره عدم الوقوف على فضله وسعة علمه ودقة نظره ، وبالجملة ، الكلام في الآية واسع المجال وبها استدل كل من أصحاب هاتيك الأقوال.
وعن عطاء وطاوس أنهما استدلا بظاهرها على أن متروك التسمية حيوانا كان أو غيره حرام ، وسبب النزول يؤيد خلاف ذلك كما علمت والاحتياط لا يخفى.
وَإِنَّ الشَّياطِينَ أي إبليس وجنوده لَيُوحُونَ أي يوسوسون إِلى أَوْلِيائِهِمْ الذين اتبعوهم من المشركين قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وقيل : المراد بالشياطين مردة المجوس فإيحاؤهم إلى أوليائهم ما أنهوا إلى قريش حسبما حكيناه عن عكرمة لِيُجادِلُوكُمْ أي بالوساوس الشيطانية أو بما نقل من أباطيل المجوس وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ في استحلال الحرام إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ضرورة أن من ترك طاعة الله تعالى إلى طاعة غيره واستحل الحرام واتبعه في دينه فقد أشركه به تعالى بل آثره عليه سبحانه.
ونقل الإمام عن الكعبي أنه قال : الآية حجة على أن الإيمان اسم لجميع الطاعات وإن كان معناه في اللغة التصديق كما جعل تعالى الشرك اسما لكل ما كان مخالفة لله عز وجل وإن كان في اللغة مختصا بمن يعتقد أن لله تعالى شأنه شريكا بدليل أنه سبحانه سمى طاعة المؤمنين للمشركين في إباحة الميتة شركا ، ثم قال : ولقائل أن يقول :
لم لا يجوز أن يكون المراد من الشرك هاهنا اعتقاد أن لله تعالى شريكا في الحكم والتكليف؟ وبهذا القدر يرجع معنى هذا الشرك إلى الاعتقاد فقط انتهى. والظاهر أن التعبير عن هذه الإطاعة بالشرك من باب التغليظ ونظائره كثيرة والكلام هنا كما قال أبو حيان وغيره على تقدير القسم وحذف لام التوطئة أي ولئن أطعتموهم والله إنكم لمشركون وحذف جواب الشرط لسد جواب القسم مسده. وجعل أبو البقاء وتبعه بعضهم المذكور جواب الشرط ولا قسم وادعى أن حذف الفاء منه حسن إذا كان الشرط بلفظ الماضي كما هنا واعترض بأن هذا لم يوجد في كتب العربية بل اتفق الكل على وجوب الفاء في الجملة الاسمية ولم يجوزوا تركها إلا في ضرورة الشعر وفيه أن المبرد أجاز ذلك في الاختيار كما ذكره المرادي في شرح التسهيل.
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ تمثيل مسوق لتنفير المسلمين عن طاعة المشركين إثر تحذيرهم عنها بالإشارة إلى أنهم مستضيئون بأنوار الوحي الإلهي والمشركون غارقون في ظلمات الكفر والطغيان فكيف يعقل طاعتهم له ، فالآية - كما قال الطيبي - متصلة بقوله سبحانه ، وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ والهمزة للإنكار. والواو - كما قال غير واحد - لعطف الجملة الاسمية على مثلها الذي يدل عليه الكلام أي أنتم مثلهم ومن كان ميتا فأعطيناه الحياة وَجَعَلْنا لَهُ مع ذلك من الخارج نُوراً عظيما يَمْشِي بِهِ أي بسببه فِي النَّاسِ أي فيما بينهم آمنا من جهتهم ، والجملة إما استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل : فماذا يصنع بذلك النور؟ فقيل : يمشي إلخ أو صفة له.
ومن اسم موصول مبتدأ : وما بعده صلته والخبر متعلق الجار والمجرور في قوله تعالى : كَمَنْ مَثَلُهُ أي صفته

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 263
العجيبة. ومن فيه اسم موصول أيضا ومَثَلُهُ مبتدأ. وقوله سبحانه : فِي الظُّلُماتِ خبر هو محذوف. وقوله سبحانه : لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها في موضع الحال من المستكن في الظرف ، وهذه الجملة خبر المبتدأ أعني مثله على سبيل الحكاية بمعنى إذا وصف يقال له ذلك ، وجملة مَثَلُهُ مع خبره صلة الموصول.
وإن شئت جعلت من في الموضعين نكرة موصوفة ولم يجوز أن يكون فِي الظُّلُماتِ خبرا عن مَثَلُهُ لأن الظلمات ليس ظرفا للمثل. وظاهر كلام بعضهم كأبي البقاء أن «في الظلمات» هو الخبر وليس هناك هو مقدرا ، ولا يلزم - كما نص عليه بعض المحققين - حديث الظرفية لأن المراد أن مثله هو كونه في الظلمات والمقصود الحكاية نعم ما ذكر أولا أولى لأن خبر مَثَلُهُ لا يكون إلا جملة تامة والظرف بغير فاعل ظاهر لا يؤدي مؤدى ذلك.
وجوز كون جملة لَيْسَ بِخارِجٍ حالا من الهاء في مَثَلُهُ ومنعه أبو البقاء للفصل ، قيل : ولضعف مجيء الحال من المضاف إليه. وقرأ نافع ويعقوب «ميّتا» بالتشديد وهو أصل للمخفف والمحذوف من الياءين الثانية المنقلبة عن الواو أعلّت بالحذف كما أعلت بالقلب ولا فرق بينهما عند الجمهور.
ثم إن هذا الأخير - كما قال شيخ الإسلام - مثل أريد به من بقي في الضلالة بحيث لا يفارقها أصلا كما أن الأول مثل أريد به من خلقه الله تعالى على فطرة الإسلام وهداه بالآيات البينات إلى طريق الحق يسلكه كيف شاء لكن لا على أن يدل على كل واحد من هذه المعاني بما يليق به من الألفاظ الواردة في المثلين بواسطة تشبيهه بما يناسبه من معانيها فإن ألفاظ المثل باقية على معانيها الأصلية بل على أنه قد انتزعت من الأمور المتعددة المعتبرة في كل واحد من جانب المثلين هيئة على حدة ومن الأمور المتعددة المذكورة في كل واحد من جانب المثلين هيئة على حدة فشبهت بهما الأولتان ونزلتا منزلتهما فاستعمل فيهما ما يدل على الأخيرتين بضرب من التجوز إلى آخر ما قال ، ونص القطب الرازي على أنهما تمثيلان لا استعارتان ، ورد - كما قال الشهاب - بأن الظاهر بأن من كان ميتا ومن مثله في الظلمات من قبيل الاستعارة التمثيلية إذ لا ذكر للمشبه صريحا ولا دلالة بحيث ينافي الاستعارة والاستعارة الأولى بجملتها مشبهة والثانية مشبه به وهذا كما تقول في الاستعارة الإفرادية أيكون الأسد كالثعلب؟ أي الشجاع كالجبان وهو من بديع المعاني الذي ينبغي أن يتنبه له ويحفظ والتفسير المأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد بالميت الكافر الضال وبالأحياء الهداية وبالنور القرآن وبالظلمات الكفر والضلالة ، والآية على ما أخرج أبو الشيخ عنه نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وهو المراد بمن أحياه الله تعالى وهداه ، وأبي جهل بن هشام لعنه الله تعالى وهو المراد بمن
مثله في الظلمات ليس بخارج ، وروي عن زيد بن أسلم مثل ذلك.
وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها في حمزة وأبي جهل ، وعن عكرمة أنها في عمار بن ياسر وأبي جهل ، وأيّا ما كان فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فيدخل في ذلك كل من انقاد لأمر الله تعالى ومن بقي على ضلاله وعتوه كَذلِكَ إشارة إلى التزيين المذكور على طرز ما قرر في أمثاله أو إشارة إلى إيحاء الشياطين إلى أوليائهم أو إلى تزيين الإيمان للمؤمنين زُيِّنَ من جهته تعالى خلقا أو من جهة الشياطين وسوسة لِلْكافِرِينَ كأبي جهل وأضرابه ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي ما استمروا على عمله من فنون الكفر والمعاصي التي من جملتها ما حكي عنهم من القبائح : وَكَذلِكَ قيل أي كما جعلنا في مكة أكابر مجرميها ليمكروا فيها جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ من سائر القرى أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها أو كما جعلنا أعمال أهل مكة مزينة لهم جعلنا في كل قرية إلخ ، وإلى الاحتمالين ذهب الإمام الرازي. وجعل غير واحد جعل بمعنى صير المتعدية لمفعولين واختلف في تعيينهما

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 264
فقيل فِي كُلِّ قَرْيَةٍ مفعول ثان ، وأَكابِرَ مُجْرِمِيها بالإضافة هو الأول ، وقيل : أَكابِرَ مفعول أول ومُجْرِمِيها بدل منه ، وقيل : أَكابِرَ مفعول ثان ومُجْرِمِيها مفعول أول لأنه معرفة فيتعين أنه المبتدأ بحسب الأصل ، والتقدير جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر فيتعلق الجار والمجرور بالفعل.
واعترض أبو حيان كون مُجْرِمِيها بدلا من أَكابِرَ أو مفعولا بأنه خطأ وذهول عن قاعدة نحوية وهي أن أفعل التفضيل يلزم إفراده وتذكيره إذا كان بمن ظاهرة أو مقدرة أو مضافا إلى نكرة سواء كان لمفرد مذكر أو لغيره فإن طابق ما هو له تأنيثا وجمعا وتثنية لزمه أحد الأمرين إما الألف واللام أو الإضافة إلى معرفة وأَكابِرَ في التخريجين باق على الجمعية وهو غير معرف بأل ولا مضاف لمعرفة وذلك لا يجوز. وتعقبه الشهاب فقال : إنه غير وارد لأن أكابر وأصاغر أجري مجرى الأسماء لكونه بمعنى الرؤساء - كما نص عليه الراغب - وما ذكره إنما هو إذا بقي على معناه الأصلي. ويؤيده قول ابن عطية : أنه يقال أكابرة كما يقال أحمر وأحامرة كما قال :
إن الأحامرة الثلاث تعولت وإن رده أبو حيان بأنه لم يعلم أن أحدا من أهل اللغة والنحو أجاز في جمع أفضل أفاضلة وفيه نظر. وأما الجواب بأنه على حذف المضاف المعرفة للعلم به أي أكابر الناس أو أكابر أهل القرية فلا يخفى ضعفه اه. وظاهر كلام الزمخشري أن الظرف لغو و«أكابر» أول المفعولين مضاف لمجرميها و«ليمكروا» المفعول الثاني.
وجوز بعضهم كون جعل متعديا لواحد على أن المراد بالجعل التمكين بمعنى الإقرار في المكان والإسكان فيه ومفعوله أَكابِرَ مُجْرِمِيها بالإضافة ، ويفهم من كلام البعض أن احتمال الإضافة لا يجري إلا على تفسير جعلناهم بمكناهم ولا يخلو ذلك عن دغدغة. وقال العلامة الثاني بعد سرد عدة من الأقوال : والذي يقتضيه النظر الصائب أن فِي كُلِّ قَرْيَةٍ لغو وأَكابِرَ مُجْرِمِيها مفعول أول ولِيَمْكُرُوا هو الثاني ولا يخفى حسنه بيد أنه مبني على جعل الإشارة لأحد الأمرين اللذين أشير فيما سبق إليهما. وناقش في ذلك شيخ الإسلام وادعى أن الأقرب جعل المشار إليه الكفرة المعهودين باعتبار اتصافهم بصفاتهم والإفراد باعتبار الفريق أو المذكور ، ومحل الكاف النصب على أنه المفعول الثاني لجعلنا قدم عليه لإفادة التخصيص كما في قوله سبحانه : وكَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ [النساء : 94] والأول أَكابِرَ مُجْرِمِيها ، والظرف لغو أي ومثل أولئك الكفرة الذين هم صناديد مكة ومجرموها جعلنا في كل قرية أكابرها المجرمين أن جعلناهم متصفين بصفات المذكورين مزينا لهم أعمالهم مصرين على الباطل مجادلين به الحق ليمكروا فيها أي ليفعلوا المكر فيها اه. ولا يخفى بعده.
وتخصيص الأكابر لأنهم أقوى على استتباع الناس والمكر بهم. وقرىء «أكابر مجرميها» وهذه تسلية لرسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم.
وقوله سبحانه : وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ اعتراض على سبيل الوعد له عليه الصلاة والسلام والوعيد للكفرة الماكرين أي وما يحيق غائلة مكرهم إلا بهم وَما يَشْعُرُونَ حال من ضمير يَمْكُرُونَ أي إنما يمكرون بأنفسهم والحال أنهم ما يشعرون بذلك أصلا بل يزعمون أنهم يمكرون بغيرهم وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ رجوع إلى بيان حال مجرمي أهل مكة بعد ما بين بطريق التسلية حال غيرهم فإن العظيمة المنقولة إنما صدرت عنهم لا عن سائر المجرمين أي وإذا جاءتهم آية بواسطة الرسول عليه الصلاة والسلام.
قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ قال شيخ الإسلام : قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حتى يوحى إلينا ويأتينا جبريل عليه السلام فيخبرنا أن محمدا عليه الصلاة والسلام صادق كما قالوا أَوْ تَأْتِيَ

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 265
بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا
[الإسراء : 92]. وعن الحسن البصري مثله ، وهذا كما ترى صريح في أن ما علق بإيتاء ما أوتي الرسل عليهم السلام هو إيمانهم برسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم وبما أنزل إليه إيمانا حقيقيا كما هو المتبادر منه عند الإطلاق خلا أنه يستدعي أن يحمل ما أوتي رسل الله على مطلق الوحي ومخاطبة جبريل عليه السلام في الجملة وأن يصرف الرسالة في قوله سبحانه : اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ عن ظاهرها وتحمل على رسالة جبريل عليه السلام بالوجه المذكور ، ويراد بجعلها تبليغها إلى المرسل إليه لا وضعها في موضعها الذي هو الرسول ليتأتى كونه جوابا عن اقتراحهم وردا له بأن كون معنى الاقتراح لن نؤمن بكون تلك الآية نازلة من عند الله تعالى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام حتى يأتينا جبريل بالذات عيانا كما يأتي الرسل فيخبرنا بذلك ، ومعنى الرد الله أعلم بمن يليق بإرسال جبريل عليه السلام إليه الأمر من الأمور إيذانا بأنهم بمعزل من استحقاق ذلك التشريف ، وفيه من التمحل ما لا يخفى.
وأنت تعلم أنه لا تمحل في حمل ما أوتي رسل الله على مطلق الوحي بل في العدول عن قول لن نؤمن حتى نجعل رسلا مثلا إلى ما في النظم الكريم نوع تأييد لهذا الحمل ، نعم صرف الرسالة عن ظاهرها وحمل الجعل على التبليغ لا يخلو عن بعد ، ولعل الأمر فيه سهل. ويفهم من كلام البعض أن مطلق الوحي ومخاطبة جبريل عليه السلام في الجملة وإن لم يستدع تلك الرسالة إلا أنه قريب من منصبها فيصلح ما ذكر جوابا بدون حاجة إلى الصرف والحمل المذكورين ، وفيه ما فيه. وقال مقاتل : نزلت في أبي جهل حين قال : زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يوحى إليه والله لا نرضى به ولا نتبعه أبدا حتى يأتينا وحي كما يأتيه. وقال الضحاك : سأل كل واحد من القوم أن يخص بالرسالة والوحي كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله سبحانه : بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً [المدثر : 52] قال الشيخ : ولا يخفى أن كل واحد من هذين القولين وإن كان مناسبا للرد المذكور لكنه يقتضي أن يراد بالإيمان المعلق بإيتاء مثل ما أوتي الرسل مجرد تصديقهم برسالته صلّى اللّه عليه وسلّم في الجملة من غير شمول لكافة الناس ، وأن يكون كلمة حتى في قول اللعين. حتى يأتينا وحي كما يأتيه إلخ غاية لعدم الرضى لا لعدم الاتباع فإنه مقرر على تقديري إتيان الوحي وعدمه ، فالمعنى لن نؤمن رسالته أصلا حتى نؤتى نحن من النبوة مثل ما أوتي رسل الله أو إيتاء رسل الله ، ولا يخفى أنه يجوز أن تكون حتى في كلام اللعين غاية للاتباع أيضا على أن المراد به مجرد الموافقة وفعل مثل ما يفعله صلّى اللّه عليه وسلّم من توحيد الله تعالى وترك عبادة الأصنام لاقفو الأثر بالائتمار ، على أن اللعين إنما طلب إتيان وحي كما يأتي النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وليس ذلك نصا في طلب الاستقلال المنافي للاتباع.
ولعل مراده عليه اللعنة المشاركة في الشرف بحيث لا ينحط عنه عليه الصلاة والسلام بالكلية ويمكن أن يدعي أيضا أن هؤلاء الكفرة لكون كل منهم أبا جهل بما يقتضيه منصب الرسالة لا يأبون كون الرسولين يجوز أن يبعث أحدهما إلى الآخر ويلزم أحدهما امتثال أمر الآخر واتباعه وإن كان مشاركا له في أصل الرسالة فليفهم ، وقيل : إن الوليد ابن المغيرة قال لرسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم : لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سنا وأكثر مالا وولدا فنزلت هذه الآية.
وتعقبه الشيخ قدس سره أنه لا تعلق له بكلامهم المردود إلا أن يراد بالإيمان المعلق بما ذكر مجرد الإيمان بكون الآية النازلة وحيا صادقا لا الإيمان بكونها نازلة إليه عليه الصلاة والسلام فيكون المعنى وإذا جاءتهم آية نازلة إلى الرسول قالوا : لن نؤمن بنزولها من عند الله حتى يكون نزولها إلينا لا إليه لأنا نحن المستحقون دونه فإن ملخص معنى قوله : «لو كانت النبوة حقا» إلخ لو كان ما تدعيه من النبوة حقا لكنت أنا النبي لا أنت وإذا لم يكن الأمر كذلك فليست بحق ، ومآله تعليق الإيمان بحقية النبوة بكون نفسه نبيا.
وأنت تعلم أن إطلاق النبوة وقولهم رُسُلُ اللَّهِ ليس بينهما كمال الملاءمة بحسب الظاهر كما لا يخفى ،

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 266
فالحق سقوط هذا القول عن درجة الاعتبار وإن روي مثله عن ابن جريج لما في تطبيقه على ما في الآية من مزيد العناية.
ومِثْلَ ما أُوتِيَ نصب على أنه نعت لمصدر محذوف وما مصدرية أي حتى نؤتاها إيتاء مثل إيتاء رسل الله ، وإضافة الإيتاء إليهم لأنهم منكرون لإيتائه عليه الصلاة والسلام ، و«حيث» مفعول لفعل مقدر أي يعلم وقد خرجت عن الظرفية بناء على القول بتصرفها ولا عبرة بمن أنكره. والجملة بعدها كما نص عليه أبو علي في كتاب الشعر صفة لها ، وإضافتها إلى ما بعدها حيث استعملت ظرفا. وقال الرضي : الأولى أن حيث مضافة ولا مانع من إضافتها وهي اسم إلى الجملة ، وبحث فيه ، ولا يجوز فيها هنا عند الكثير أن تكون مجرورة بالإضافة لأن أفعل بعض ما يضاف إليه. ولا منصوبة بأفعل نصب الظرف لأن علمه تعالى غير مقيد بالظرف وممن نص على ذلك ابن الصائغ ، وجوز بعضهم الثاني ورد ما علل به المنع منه بأن يجوز جعل تقييد علمه تعالى بالظرف مجازيا باعتبار ما تعلق به بل ذلك أولى من إخراج حيث عن الظرفية فإنه إما نادر أو ممتنع.
وجملة اللَّهُ أَعْلَمُ إلخ استئناف بياني ، والمعنى أن منصب الرسالة ليس مما ينال بما يزعمونه من كثرة المال والولد وتعاضد الأسباب والعدد وإنما ينال بفضائل نفسانية ونفس قدسية أفاضها الله تعالى بمحض الكرم والجود على من كمل استعداده ، ونص بعضهم على أنه تابع للاستعداد الذاتي وهو لا يستلزم الإيجاب الذي يقوله الفلاسفة لأنه سبحانه إن شاء أعطى ذلك وإن شاء أمسك وإن استعد المحل ، وما في المواقف من أنه لا يشترط في الإرسال الاستعداد الذاتي بل الله تعالى يختص برحمته من يشاء محمول على الاستعداد الذاتي الموجب ، فقد جرت عادة الله تعالى أن يبعث من كل قوم أشرفهم وأطهرهم جبلة ، وتمام البحث في موضعه.
وقرأ أكثر السبعة «رسالاته» بالجمع ، وعن بعضهم أنه يسن الوقف على رُسُلُ اللَّهِ وأنه يستجاب الدعاء بين الآيتين ولم أر في ذلك ما يعول عليه سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا استئناف آخر ناع عليهم ما سيلقونه من فنون الشر بعد ما نعي عليهم حرمانهم مما أملوه ، والسين للتأكيد ، ووضع الموصول موضع الضمير لمزيد التشنيع ، وقيل :
إشعارا بعلية مضمون الصلة أي يصيبهم البتة مكان ما تمنوه وعلقوا به أطماعهم الفارغة من عز النبوة وشرف الرسالة صَغارٌ أي ذل عظيم وهوان بعد كبرهم عِنْدَ اللَّهِ يوم القيامة.
وقيل : من عند الله وعليه أكثر المفسرين كما قال الفراء ، واعترضه بأنه لا يجوز في العربية أن تقول : جئت عند زيد وأنت تريد من عند زيد ، وقيل : المراد أن ذلك في ضمانه سبحانه أو ذخيرة لهم عنده وهو جار مجرى التهكم كما لا يخفى وَعَذابٌ شَدِيدٌ في الآخرة أو في الدنيا بِما كانُوا يَمْكُرُونَ أي بسبب مكرهم المستمر أو بمقابلته ، وحيث كان هذا من أعظم مواد إجرامهم صرح بسببه فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ أي يعرفه طريق الحق ويوفقه للإيمان ، وقالت المعتزلة : المراد يهديه إلى الثواب أو إلى الجنة أو يثيبه على الهدى أو يزيده ذلك يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فيتسع له وينفسح وهو مجاز أو كناية عن جعل النفس مهيأة لحلول الحق فيها مصفاة عما يمنعه وينافيه كما أشار إليه صلّى اللّه عليه وسلّم حين
قيل له : «كيف الشرح يا رسول الله؟ فقال : نور يقذف في الصدر فينشرح له وينفسح فقيل : هل لذلك من آية يعرف بها يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل لقاء الموت».
وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ أي يخلق فيه الضلالة لسوء اختياره ، وقيل : المراد يضله عن الثواب أو عن الجنة أو عن زيادة الإيمان أو يخذله ويخلي بينه وبين ما يريده يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً بحيث ينبو عن قبول الحق فلا يكاد

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 267
يكون فيه للخير منفذ وقرأ ابن كثير «ضيقا» بالتخفيف ، ونافع وأبو بكر عن عاصم «حرجا» بكسر الراء أي شديد الضيق والباقون بفتحها وصفا بالمصدر للمبالغة ، وأصل معنى الحرج - كما قال الراغب - مجتمع الشيء ، ومنه قيل :
للضيق حرج ، وقال بعض المحققين : أصل معناه شدة الضيق فإن الحرجة غيضة أشجارها ملتفة بحيث يصعب دخولها.
وأخرج ابن حميد ، وابن جرير ، وغيرهما عن أبي الصلت الثقفي أن عمر رضي الله تعالى عنه قرأ حَرَجاً بفتح الراء وقرأ بعض من عنده من أصحاب رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم «حرجا» بكسرها فقال عمر : ابغوني رجلا من كنانة واجعلوه راعيا وليكن مدلجيا فأتوه به فقال له عمر : يا فتى ما الحرجة فيكم؟ قال : الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار التي لا تصل إليها راعية ولا وحشية ولا شيء فقال عمر رضي الله تعالى عنه : كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ استئناف أو حال من ضمير الوصف أو وصف آخر ، والمراد المبالغة في ضيق صدره حيث شبه بمن يزاول ما لا يقدر عليه فإن صعود السماء مثل فيما هو خارج عن دائرة الاستطاعة ، وفيه تنبيه على أن الإيمان يمتنع منه كما يمتنع منه الصعود ، والامتناع في ذلك عادي. وعن الزجاج معناه كأنما يتصاعد إلى السماء نبوا عن الحق وتباعدا في الهرب منه ، وأصل يَصَّعَّدُ يتصعد وقد قرىء به فأدغمت التاء في الصاد.
وقرأ ابن كثير يَصَّعَّدُ وأبو بكر عن عاصم «يصاعد» وأصله أيضا يتصاعد ففعل به ما تقدم.
كَذلِكَ إشارة إلى الجعل المذكور بعده على ما مر تحقيقه أو إشارة إلى الجعل السابق أي مثل ذلك الجعل أي جعل الصدر حرجا على الوجه المذكور يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ أي العذاب أو الخذلان.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد أنه قال : الرِّجْسَ ما لا خير فيه. وقال الراغب : الرِّجْسَ الشيء القذر ، وقال الزجاج : هو اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة. وأصله - على ما قيل - من الارتجاس وهو الاضطراب عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ أي عليهم. ووضع الظاهر موضع المضمر للتعليل وَهذا أي ما جاء به القرآن كما روي عن ابن مسعود أو الإسلام كما روي عن ابن عباس أو ما سبق من التوفيق والخذلان كما قيل صِراطُ رَبِّكَ أي طريقه الذي ارتضاه أو عادته وطريقته التي اقتضها حكمته. ولا يخفى ما في التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطب من اللطف مُسْتَقِيماً لا اعوجاج فيه ولا زيغ أو عادلا مطردا وهو إما حال مؤكدة لصاحبها وعاملها محذوف وجوبا مثل هذا أبوك عطوفا أو مؤسسة والعامل فيها معنى الإشارة أو ها التي للتنبيه قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ بيناها مفصلة لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ أي يتذكرون ما في تضاعيفها فيعلمون أن كل الحوادث بقضائه سبحانه وقدره وأنه جل شأنه حكيم عادل في جميع أفعاله ، وتخصيص هؤلاء القوم بالذكر لأنهم المنتفعون بذلك التفصيل لَهُمْ أي لهؤلاء القوم دارُ السَّلامِ أي الجنة كما قال قتادة ، والسلام هو الله تعالى كما قال الحسن ، وابن زيد ، والسدي ، وإضافة الدار إليه سبحانه للتشريف. وقال الزجاج والجبائي : السَّلامِ بمعنى السلامة أي دار السلامة من الآفات والبلايا وسائر المكاره التي يلقاها أهل النار. وقيل : هو بمعنى التسليم أي دار تحيتهم فيها سلام عِنْدَ رَبِّهِمْ أي في ضمانه وتكفله التفضلي أو ذخيرة لهم عنده لا يعلم كنه ذلك غيره.
والجملة مستأنفة ، وقيل صفة لقوم وَهُوَ وَلِيُّهُمْ أي محبهم أو ناصرهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي بسبب أعمالهم الصالحة أو متوليهم متلبسا بجزائها بأن يتولى إيصال الثواب إليهم.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات : وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا لتفاوت مراتب أرواحهم في الصفاء والكدورة والنور والظلمة والقرب والبعد. ومن هنا قيل : والجاهلون لأهل العلم أعداء. وكلما اشتد التفاوت اشتدت العداوة وزاد الإيذاء الناشئ منها. ولهذا
ورد في بعض الآثار «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت».
وتسبب هذه العداوة مزيد

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 268
التوجه إلى الحق جل شأنه والإعراض عن الملاذ والحرص على الفضيلة التي يقهر بها العدو والاحتراز عما يوشك أن يكون سببا للطعن إلى غير ذلك وَلِتَصْغى أي تميل إليه أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ وهم المحجوبون لوجود المناسبة وَلِيَرْضَوْهُ بمحبتهم إياه وليقترفوا ما هم مقترفون من اسم التعاضد والتظاهر أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ المعجز الجامع مُفَصَّلًا فيه الحق والباطل بحيث لا يبقى معه مقال لقائل فطلب ما سواه مما لا يليق بعاقل ولا يميل إليه إلا جاهل وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي تم قضاؤه في الأزل بما قضى وقدر صِدْقاً مطابقا لما يقع وَعَدْلًا مناسبا للاستعداد ، وقيل : صدقا فيما وعد وعدلا فيما أوعد لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ لأنها على طرز ما ثبت في علمه والانقلاب محال وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ أي من الجهة السفلية بالركون إلى الدنيا وعالم النفس والطبيعة يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لأنهم لا يدعون إلا للشهوات المبعدة عن الله تعالى إِنْ يَتَّبِعُونَ أي ما يتبعون لكونهم محجوبين في مقام النفس بالأوهام والخيالات إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ بقياس الغائب على الشاهد وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ من الأقوال والأفعال الظاهرة على الجوارح وَباطِنَهُ من العقائد الفاسدة والعزائم الباطلة.
وقال سهل : ظاهر الإثم المعاصي كيف كانت وباطنه حبها ، وقال الشبلي : ظاهر الإثم الغفلة وباطنه نسيان مطالعة السوابق ، وقال بعضهم : ظاهر الإثم طلب الدنيا وباطنه طلب الجنة لأن الأمرين يشغلان عن الحق وكل ما يشغل عنه سبحانه فهو إثم ، وقيل : ظاهر الإثم حظوظ النفس وباطنه حظوظ القلب ، وقيل : ظاهر الإثم حب الدنيا وباطنه حب الجاه ، وقيل : ظاهر الإثم رؤية الأعمال وباطنه سكون القلب إلى الأحوال.
وَإِنَّ الشَّياطِينَ وهم المحجوبون بالظاهر عن الباطن لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ أي من يواليهم من المنكرين لِيُجادِلُوكُمْ بما يتلقونه من الشبه وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ وتركتم ما أنتم عليه من التوحيد إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ مثلهم أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً بالجهل وهو النفس أو الاحتجاب بصفاتها فأحييناه بالعلم ومحبة الحق أو كشف حجب صفاته وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً من هدايتنا وعلمنا أو نورا من صفاتنا أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً بالمجاهدات فَأَحْيَيْناهُ بروح المشاهدات أو ميتا بشهوات النفس فأحييناه بصفاء القلب أو ميتا برؤية الثواب فأحييناه برؤية المآب إلى الوهاب وجعلنا له نور الفراسة أو الإرشاد ، وقال جعفر الصادق : المعنى أومن كان ميتا عنا فأحييناه بنا وجعلناه إماما يهدي بنور الإجابة ويرجع إليه الضلّال ،
وقال ابن عطاء : أومن كان ميتا بحياة نفسه وموت قلبه فأحييناه بإماتة نفسه وحياة قلبه وسهلنا عليه سبل التوفيق وكحلناه بأنوار القرب فلا يرى غيرنا ولا يلتفت إلى سوانا كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ أي ظلمات نفسه وصفاته وأفعاله لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها لسوء استعداده كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ المحجوبين ما كانُوا يَعْمَلُونَ فاحتجبوا به وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها ويكون ذلك سببا لمزيد كمال العارفين حسبما تقدم في جعل الأعداء للأنبياء عليهم السلام. ويمكن أن يكون إشارة إلى ما في الأنفس أي «وكذلك جعلنا في كل قرية» وجود الإنسان التي هي البدن أَكابِرَ مُجْرِمِيها من قوى النفس الأمارة «ليمكروا فيها» بإضلال القلب وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ لأن عاقبة مكرهم راجع إليهم آفاقا وأنفسا وَإِذا جاءَتْهُمْ على يد الرسول عليه الصلاة والسلام آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ من الرسالة إليهم اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ وذلك حيث خزينة الاستعداد عامرة والنفس قدسية سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا بالاحتجاب عن الحق صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ أي ذلك بذهاب قدرهم حين خراب أبدانهم وَعَذابٌ شَدِيدٌ بحرمانهم الملائم ووصول المنافي إليهم في المعاد الجسماني فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ إليه

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 269
ويعرفه به يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ بأن يقذف فيه نورا من أنواره فيعرفه بذلك وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً لا يدخل فيه شيء من أنوار شمس العرفان كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ نبوا وهربا عن قبول ذلك لأنه خلاف استعداده ، وقيل : المعنى فمن يرد الله أن يهديه للتوحيد يشرح صدره لقبول نور الحق وإسلام الوجود إلى الله سبحانه بكشف حجب صفات نفسه عن وجه قلبه الذي يلي النفس فينفسح لقبول نور الحق ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا باستيلاء النفس عليه وضغطها له كما يصعد في سماء روحه مع تلك الهيئات البدنية المظلمة وذلك أمر محال ، وقيل غير ذلك كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ أي رجس التلوث بنتن الطبيعة عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ وهم المحجوبون عن الحق وهذا أي طريق التوحيد أو الجعل صِراطُ رَبِّكَ أي طريقه الذي ارتضاه أو عادته التي اقتضتها حكمته قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ المعارف والحقائق المركوزة في استعدادهم لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ هي ساحة جلاله وحضائر قدس صفاته ومساقط وقوع أنوار جماله المنزهة عن خطر الحجاب وعلة العتاب وطريان العذاب وهو وليهم بنعت رعايتهم وكشف جماله لهم أو وليهم يحفظهم عن رؤية الغير في البين. ويجوز أن يكون المعنى لهم دار السلامة من كل خوف وآفة حيث يكون العبد فيها في ظل الذات والصفات وريف البقاء بعد الفناء والكثير على أن السلام من أسمائه تعالى فما ظنك بدار تنسب إليه جل شأنه :
إذا نزلت سلمى بواد فماؤه زلال وسلسال وأشجاره ورد
نسأل الله تعالى أن يدخلنا هاتيك الدار بحرمة نبيه المختار صلّى اللّه عليه وسلّم وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً نصب على الظرفية والعامل فيه مقدر أي اذكر أو نقول أو كان ما لا يذكر لفظاعته ، وجوز أن يكون مفعولا به لمقدر أيضا أي اذكر ذلك اليوم ، والضمير المنصوب لمن يحشر من الثقلين ، وقيل : للكفار. وقرأ حفص عن عاصم. وروح عن يعقوب «يحشر» بالياء والباقون بنون العظمة على الالتفات لتهويل الأمر.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 129 إلى 142]
وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133)
إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌلا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138)
وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 270
وقوله سبحانه : ا مَعْشَرَ الْجِنِ
على إضمار القول ، والمعشر الجماعة أمرهم واحد ، وقال الطبرسي :
الجماعة التامة من القوم التي تشتمل على أصناف الطوائف ومنه العشرة لأنها تمام العقد ، والمراد بالجن أو بمعشرهم على ما قيل الشياطين ، وذكر بعض الفضلاء أن الجن يقال على وجهين ، أحدهما للروحانيين المستترين عن الحواس كلها فيدخل فيهم الملائكة والشياطين ، وثانيهما للروحانيين مما عدا الملائكة ، وقال آخرون : إن الروحانيين ثلاثة :
أخيار وهم الملائكة وأشرار وهم الشياطين. وأوساط فيهم أخيار وأشرار ، وأيا ما كان فالمقصود بالنداء الأشرار الذين يغوون الناس فإنهم أهل للخطاب بقوله سبحانه : قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أي أكثرتم من إغوائهم وإضلالهم كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، ومجاهد ، والزجاج ، فالكلام على حذف مضاف أو منهم بأن جعلتموهم أتباعكم فحشروا معكم كما يقال : استكثر الأمير من الجنود وهذا بطريق التوبيخ والتقريع.
قيل : وإنما ذكر المعشر في جانب الجن دون جانب الانس لما أن الإغواء كثيرا ما يقتضي التظاهر والتعاون ، وفي المعشر نوع إيماء إليه ولا كذلك الغوى وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ أي الذين أطاعوهم واتبعوهم مِنَ الْإِنْسِ أي الذين هم من الإنس أو كائنين منهم ، فمن إما لبيان الجنس أو متعلقة بمحذوف وقع حالا من أولياء رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ أي انتفع الإنس بالجن حيث دلوهم على الشهوات وما يتوصل به إليها والجن بالإنس حيث اتخذوهم قادة ورؤساء واتبعوا أمرهم فأدخلوا عليهم السرور بذلك.
وعن الحسن ، وابن جريج ، والزجاج ، وغيرهم أن استمتاع الإنس بهم أنهم كانوا إذا سافر أحدهم وخاف الجن قال : أعوذ بسيد هذا الوادي. واستمتاعهم بالإنس اعترافهم بأنهم قادرون على إعاذتهم وإجارتهم.
وعن محمد بن كعب أن المراد باستمتاع بعضهم ببعض طاعة بعضهم بعضا وموافقته له. وقال البلخي : يحتمل أن يكون الاستمتاع مقصورا على الإنس فيكون الإنس قد استمتع بعضهم ببعض الجن دون الجن.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 271
وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا وهو يوم القيامة على ما قاله غير واحد ، وعن الحسن ، والسدي ، وابن جريج أنه الموت والأول أولى ، وإنما قال الأولياء ما قالوا اعترافا بما فعلوا من طاعة الشياطين واتباع الهوى وتكذيب البعث وإظهار للندامة عليها وتحسرا على حالهم واستسلاما لربهم وإلا ففائدة الخبر ولازمها مما لا تحقق له.
قيل : ولعل الاقتصار على حكاية كلام الضالين للإيذان بأن المضلين قد أفحموا بالمرة فلم يقدروا على التكلم أصلا.
وقرىء «آجالنا» بالجمع والَّذِي بالتذكير والإفراد ، قال أبو علي : هو جنس أو وقع الذي موقع التي.
قالَ استئناف بياني كأنه قيل : فماذا قال الله تعالى حينئذ؟ فقيل قال : النَّارُ مَثْواكُمْ أي منزلكم ومحل إقامتكم أو ذات ثوائكم على أن المثوى اسم مكان أو مصدر خالِدِينَ فِيها حال من ضمير الجمع والعامل فيها «مثوى» إن كان مصدرا وقدروا عاملا أي يبؤون خالدين إن كان مثوى اسم مكان لأنه حينئذ لا يصلح للعمل.
وقال أبو البقاء : إن العامل في الحال على هذا التقدير معنى الإضافة ، وردوه بأن النسبة الإضافية لا تعمل ولا يصح أن تنصب الحال إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه تعالى استثنى قوما قد سبق في علمه أنهم يسلمون ويصدقون النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، وهذا مبني على أن الاستثناء ليس من المحكي وأن ما بمعنى من ، ولا يخفى أن استعمال ما للعقلاء قليل فيبعد ذلك كما يبعد شمول ما نقدم للمستثنى ، وقيل : إن ما مصدرية وقتية على ما هو الظاهر ، المراد إلا الوقت الذين ينقلون فيه إلى الزمهرير ،
فقد روي أنهم يدخلون واديا من الزمهرير ما يمييز بعض أوصالهم من بعض فيتعاوون ويطلبون الرد إلى الجحيم ،
ورد بأن فيه صرف النار من معناها العلمي وهو دار العذاب إلى اللغوي ، وأجيب عنه بأنه لا بأس به إذا دعت إليه الضرورة ، وقيل عليه : إن المعترض لا يسلم الضرورة لإمكان غير هذا التأويل.
مع أن قوله سبحانه : مَثْواكُمْ يقتضي ما ذهب إليه المعترض بحسب الظاهر ، وقيل : إن لهم وقتا يخرجون فيه من دار العذاب ، وذلك أنه
روي أنهم تفتح لهم أبواب الجنة ويخرجون من النار فإذا توجهوا للدخول أغلقت في وجوههم استهزاء بهم ،
وإليه الإشارة بقوله تعالى : فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ [المطففين : 34].
وأنت تعلم أن ظواهر الآيات صادحة بعدم تخفيف العذاب عن الكفار بعد دخولهم النار وفي إخراجهم هذا تخفيف أي تخفيف وإن كان بعده ما تشيب منه النواصي ، ولعل الخبر في ذلك غير صحيح ، والمشهور أن المرائين يدنون من الجنة حتى إذا استنشقوا ريحها ورأوا ما أعد الله تعالى لعباده فيها نودوا أن اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها الخبر بتمامه وقد قدمناه ويكون ذلك قبل إدخالهم النار كما لا يخفى على من راجع الحديث.
وقيل : المستثنى زمان إمهالهم قبل الدخول كأنه قيل النار مثواكم أبدا إلا ما أمهلكم ، ورده أبو حيان بأنه في الاستثناء يشترط اتحاد زمان المخرج والمخرج منه فإذا قلت قام القوم إلا زيدا فإن معناه إلا زيدا ما قام ولا يصح أن يكون المعنى إلا زيدا ما يقوم في المستقبل. وكذلك سأضرب القوم إلا زيدا معناه إلا زيدا فإني لا أضربه في المستقبل ولا يصح أن يكون المعنى إلا زيدا فإني ما ضربته وأجيب بأن هذا إذا لم يكن الاستثناء منقطعا أما إذا كان منقطعا فإنه يسوغ كقوله تعالى : لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان : 56] أي لكن الموتة الأولى فإنهم ذاقوها فلعل القائل بأن المستثنى زمان إمهالهم يلتزم انقطاع الاستثناء كما في هذه الآية ولا محذور فيه مع ورود مثله في القرآن وفيه نظر ظاهر ، وذهب الزجاج إلى وجه لطيف إنما يظهر بالبسط فقال : المراد والله تعالى أعلم إلا ما شاء الله من زيادة العذاب ولم يبين وجه استقامة الاستثناء والمستثنى على هذا التأويل ، قال ابن المنير : ونحن نبينه فنقول :
العذاب والعياذ بالله عز وجل على درجات متفاوتة فكأن المراد أنهم مخلدون في جنس العذاب إلا ما شاء ربك من

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 272
زيادة تبلغ الغاية وتنتهي إلى أقصى النهاية حتى تكاد لبلوغها الغاية ومباينتها لأنواع العذاب في الشدة تعد خارجة عنه ليست من جنس العذاب والشيء إذا بلغ الغاية عندهم عبروا عنه بالضد كما عبروا عن كثرة الفعل برب وقد وهما موضوعان لضد الكثرة من القلة وذلك أمر يعتاد في لغة العرب. وقد حام أبو الطيب حوله فقال :
ولجدت حتى كدت تبخل حائلا للمنتهى ومن السرور بكاء
فكان هؤلاء إذا نقلوا إلى غاية العذاب ونهاية الشدة فقد وصلوا إلى الحد الذي يكاد أن يخرج عن اسم العذاب المطلق حتى تسوغ معاملته في التعبير بمعاملة المغاير وهو وجه حسن لا يكاد يفهم من كلام الزجاج إلا بعد هذا البسط ، وفي تفسير ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما يؤيده انتهى. ونقل عن بعضهم أن هذا الاستثناء معذوق بمشيئة الله تعالى رفع العذاب أي يخلدون إلى أن يشاء الله تعالى لو شاء. وفائدته إظهار القدرة والإذعان بأن خلودهم إنما كان لأن الله تعالى شأنه قد شاءه وكان من الجائز العقلي في مشيئته أن لا يعذبهم ولو عذبهم لا يخلدهم وأن ذلك ليس بأمر واجب عليه وإنما هو مقتضى مشيئته وإرادته عز وجل ، وفي الآية على هذا دفع في صدور المعتزلة الذين يزعمون أن تخليد الكفار واجب على الله تعالى بمقتضى الحكمة وأنه لا يجوز في العقل مقتضى ذلك ، ولعل هذا هو الحق الذي لا محيص عنه ، وفي معناه ما قيل : المراد المبالغة في الخلود بمعنى أنه لا ينتفي إلا وقت مشيئة الله تعالى وهو مما لا يكون مع إيراده في صورة الخروج وأطماعهم في ذلك تهكما وتشديدا للأمر عليهم ومن أفاضل العصريين الأكابر من ادعى ذلك الوجه له وأنه قد خلت عنه الدفاتر وهو مذكور في غير ما موضع فإن كان لا يدري فتلك مصيبة وإن كان يدري فالمصيبة أعظم ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام في ذلك عند قوله سبحانه : إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ.
إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ في التعذيب والإثابة أو في كل أفعاله عَلِيمٌ بأحوال الثقلين وأعمالهم وبما يليق بها من الجزاء أو بكل شيء ويدخل ما ذكر دخولا أوليا وَكَذلِكَ أي مثل ما سبق من تمكين الجن من إغواء الإنس وإضلالهم أو مثل ما سبق نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ من الإنس بَعْضاً آخر منهم أن نجعلهم بحيث يتولونهم ويتصرفون فيهم في الدنيا بالإغواء والإضلال وغير ذلك ، واستدل به على أن الرعية إذا كانوا ظالمين فالله تعالى يسلط عليهم ظالما مثلهم ، وفي الحديث «كما تكونوا يولىّ عليكم»
أو المعنى نجعل بعضهم قرناء بعض في العذاب كما كانوا كذلك في الدنيا عند اقتراف ما يؤدي إليه من القبائح كما قيل ، وروي مثله عن قتادة بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي بسبب ما كانوا مستمرين على كسبه من الكفر والمعاصي ا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
شروع في حكاية ما سيكون من توبيخ المعشرين وتقريعهم بتفريطهم فيما يتعلق بخاصة أنفسهم لَمْ يَأْتِكُمْ
في الدنياسُلٌ
من عند الله عز وجل كائنةنْكُمْ
أي من جملتكم لكن لا على أن يأتي كل رسول كل واحدة من الأمم ولا على أن أولئك الرسل عليهم السلام من جنس الفريقين معا بل على أن يأتي كل أمة رسول خاص بها وعلى أن تكون من الإنس خاصة إذ المشهور أنه ليس من الجن رسل وأنبياء ، ونظيره في هذا قوله تعالى : يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرحمن :
22] فإنهما إنما يخرجان من الملح فقط كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.
والفراء قدر هنا مضافا لذلك أي من أحدكم ، وقال غير واحد : المراد بالرسل ما يعم رسل الرسل ، وقد ثبت أن الجن استمعوا القرآن وأنذروا به قومهم فقد قال سبحانه : وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ إلى قوله عز وجل : وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [الأحقاف : 29]. وعن الضحاك. وغيره أن الله تعالى أرسل للجن رسلا منهم وصرح بعضهم أن رسولا منهم يسمى يوسف ، وظاهر الآية يقتضي إرسال الرسل إلى كل من المعشرين من جنسهم وادعى بعض قيام الإجماع على أنه لم يرسل إلى الجن رسول منهم وإنما أرسل إليهم من الإنس وهل كان ذلك قبل بعثة

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 273
نبينا عليه الصلاة والسلام أم لا الذي نص عليه الكلبي الثاني قال : كان الرسل يرسلون إلى الانس حتى بعث محمد صلّى اللّه عليه وسلّم إلى الانس والجن قُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي
التي أوحيتها إليهم ، والحج ملة صفة أخرى لرسل محققة لما هو المراد من إرسالهم من التبليغ والإنذار وقد حصل ذلك بالنسبة إلى الثقلين يُنْذِرُونَكُمْ
أي يخوفونكم بما في تضاعيفها من القوارع قاءَ يَوْمِكُمْ هذا
أي يوم الحشر الذي قد عاينوا فيه ما عاينواالُوا
استئناف بياني ، والمقصود منه حكاية قولهم : كيف يقولون وكيف يعترفون هِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
أي بإيتاء الرسل وقصهم وإنذارهم وبمقابلتهم إياهم بالكفر والتكذيب ، وقوله سبحانه : غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا
مع ما عطف عليه اعتراض لبيان ما أداهم في الدنيا إلى ارتكاب القبائح التي ارتكبوها وألجأهم في الآخرة إلى الاعتراف بالكفر واستيجاب العذاب وذم لهم بذلك وتسفيه لرأيهم فلا تكرار في الشهادتين أي واغتروا في الدنيا بالحياة الدنيئة واللذات الخسيسة الفانية وأعرضوا عن النعيم المقيم الذي بشرت به الرسل عليهم السلام واجترءوا على ارتكاب ما يجرهم إلى العذاب المؤبد الذي أنذروهم إياه شَهِدُوا
في الآخرةلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا
في الدنياافِرِينَ
بالآيات والنذر واضطروا إلى الاستسلام لأشد العذاب ، وفي ذلك من تحسرهم وتحذير السامعين عن مثل صنيعهم ما لا مزيد عليه.
ذلِكَ إشارة إلى إتيان الرسل أو السؤال المفهوم من لَمْ يَأْتِكُمْ
أو ما قص من أمرهم أعني شهادتهم على أنفسهم بالكفر واستيجاب العذاب ، وهو إما مرفوع على أنه خبر مبتدأ مقدر أي الأمر ذلك أو مبتدأ خبره مقدر أو خبره قوله سبحانه : أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بحذف اللام على أن أن مصدرية أو مخففة من أن وضمير الشأن الذي هو اسمها ، وإما منصوب على أنه مفعول به لفعل مقدر كخذ وفعلنا ونحو ذلك ، وجوز أن يكون أَنْ لَمْ إلخ بدلا من اسم الإشارة ، وقوله تعالى : بِظُلْمٍ متعلق إما بمهلك أي بسبب ظلم أو بمحذوف وقع حالا من القرى أي متلبسة بظلم أو حالا من رَبُّكَ أو من ضميره في مُهْلِكَ ، والمراد مهلك أهل القرى إلا أنه تجوز في النسبة أو حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، ولا يأباه قوله تعالى : وَأَهْلُها غافِلُونَ لأن أصله وهم غافلون فلما حذف المضاف أقيم الظاهر مقام ضميره.
واعترض شيخ الإسلام على جعل بِظُلْمٍ حالا من رَبُّكَ أو من ضميره بأنه يأباه أن غفلة أهلها مأخوذة في معنى الظلم وحقيقته لا محالة فلا يحسن تقييده بالجملة بعد ، وأورد عليه أنه قد يتصور الظلم مع عدم الغفلة بأن يكون حال التيقظ ومقارنة الانقياد ، وإن كان المراد هاهنا هو الإهلاك حال الغفلة ففائدة التقييد تعيين المراد ولا يخفى حسنه ولا يخفى ما فيه ، واختار قدس سره من احتمالات المشار إليه وأوجه إعراب اسم الإشارة الثالث من كل قال :
والمعنى ذلك ثابت لانتفاء كون ربك أو لأن الشأن لم يكن ربك مهلك القرى بسبب أي ظلم فعلوه من أفراد الظلم قبل أن ينهوا عنه وينبهوا على بطلانه برسول وكتاب وإن قضى به بداهة العقول وينذروا عاقبة جناياتهم أي لولا انتفاء كونه تعالى معذبا لهم قبل إرسال الرسل وإنزال الكتب لما أمكن التوبيخ بما ذكر ولما شهدوا على أنفسهم بالكفر واستيجاب العذاب ولا اعتذروا بعدم إتيان الرسل إليهم كما في قوله سبحانه : وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى [طه : 134] وإنما علل ما ذكر بانتفاء التعذيب الدنيوي الذي هو إهلاك القرى قبل الإنذار مع أن التقريب في تعليله بانتفاء مطلق التعذيب من غير بعث الرسل أتم على ما نطق به قوله تعالى : وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء : 15] على ما اختاره أهل السنة في معناه لبيان كمال نزاهته سبحانه على كلا التعذيبين من غير إنذار على أبلغ وجه وآكده.
ولا يخفى أن لما اختاره وجها وجيها خلا أن قوله فيما بعد : إن جعل ذلك إشارة إلى إرسال الرسل عليهم

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 274
السلام وإنذارهم وخبر المبتدأ محذوفا كما أطبق عليه الجمهور بمعزل عن مقتضى المقام ممنوع ، وعلى سائر الاحتمالات الخطاب للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم بطريق تلوين الخطاب ، والظاهر أن انتفاء الإهلاك قبل الإنذار لا يختص بالإنس بل الجن أيضا لا يهلكون قبل إنذارهم وإن لم يشع إطلاق أهل القرى عليهم ، وهذا مبني على محض فضل الله تعالى عندنا. والمعتزلة يقولون : يجب على الله تعالى أن لا يعذب قبل الإنذار وقيام الحجة وبنوه على قاعدة الحسن والقبح العقليين ، وأئمتنا يثبتون ذلك لكنهم لا يجعلونه مناط الحكم كما زعم المعتزلة وَلِكُلٍّ من المكلفين جنا كانوا أو إنسا دَرَجاتٌ أي مراتب فيتناول الدركات حقيقة أو تغليبا مِمَّا عَمِلُوا أي من أعمالهم صالحة كانت أو سيئة أو من أجل أعمالهم أو من جزائها ، فمن إما ابتدائية أو تعليلية أو بيانية بتقدير مضاف وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ فلا يخفى عليه سبحانه عمل عامل أو قدر ما يستحق به من ثواب أو عقاب.
وقرأ ابن عامر «تعملون» بالتاء على تغليب الخطاب على الغيبة ولو أريد شمول يَعْمَلُونَ بالتحتية للمخاطب بأن يراد جميع الخلق فلا مانع من اعتبار تغليب الغائب على المخاطب سوى أن ذلك لم يعهد مثله في كلامهم وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ أي لا غنى عن كل شيء كائنا ما كان إلا هو سبحانه فلا احتياج له عز شأنه إلى العباد ولا إلى عبادتهم ، ولا يخفى ما في التعرض لعنوان الربوبية مع الإظهار في مقام الإضمار والإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام من اللطف الجزيل ، والكلام مبتدأ وخبر.
وقوله سبحانه : ذُو الرَّحْمَةِ خبر آخر ، وجوز أن يكون هو الخبر والْغَنِيُّ صفة أي الموصوف بالرحمة العامة فيترحم على العباد بالتكليف تكميلا لهم ويمهلهم على المعاصي إلى ما شاء ، وفي ذلك تنبيه على أن ما تقدم ذكره من الإرسال ليس لنفعه بل لترحمه على العباد وتوطئة لقوله سبحانه : إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أي ما به حاجة إليكم أصلا إن يشأ يذهبكم أيها العصاة أو أيها الناس بالإهلاك ، وفي تلوين الخطاب من تشديد الوعيد ما لا يخفى وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ أي وينشىء من بعد إذهابكم ما يَشاءُ من الخلق ، وإيثار ما على من لإظهار كمال الكبرياء وإسقاطهم عن رتبة العقلاء كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ أي من نسل قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم وهم أهل سفينة نوح عليه السلام لكنه سبحانه أبقاكم ترحما عليكم ، وما في كَما مصدرية ومحل الكاف النصب على المصدرية أو الوصفية لمصدر الفعل السابق أي وينشىء إنشاء كإنشائكم أو يستخلف استخلافا كائنا كإنشائكم ، ومِنْ لابتداء الغاية ، وقيل : هي بمعنى البدل والشرطية استئناف مقرر لمضمون ما قبلها من الغنى والرحمة إِنَّ ما تُوعَدُونَ أي إن الذي توعدونه من القيامة ، والحساب ، والعقاب ، والثواب ، وتفاوت الدرجات والدركات ، وصيغة الاستقبال للدلالة على الاستمرار التجددي ، وما اسم أن ولا يجوز أن تكون الكافة لأن قوله سبحانه : لَآتٍ يمنع من ذلك كما قال أبو البقاء ، وهو خبر أن ، والمراد أن ذلك لواقع لا محالة ، وإيثار آت على واقع لبيان كمال سرعة وقوعه بتصويره بصورة طالب حثيث لا يفوته هارب حسبما يعرب عنه قوله تعالى : وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أي جاعلي من طلبكم عاجزا عنكم غير قادر على إدراككم.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المعنى وما أنتم بسابقين ، وإيثار صيغة الفاعل على المستقبل للإيذان بقرب الإتيان والدوام الذي يفيده العدول عن الفعلية إلى الاسمية متوجه إلى النفي فالمراد دوام انتفاء الإعجاز لا بيان دوام انتفائه ، وله نظائر في الكتاب الكريم.
قُلْ يا قَوْمِ أمر له صلّى اللّه عليه وسلّم أن يواجه الكفار بتشديد التهديد وتكرير الوعيد ويظهر لهم ما هو عليه من غاية التصلب في الدين ونهاية الوثوق بأمره وعدم المبالاة بهم أصلا أثر ما بين لهم حالهم ومآلهم أي قل يا محمد لهؤلاء الكفار. اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي على غاية تمكنكم واستطاعتكم على أن المكانة مصدر مكن إذا تمكن أبلغ

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 275
التمكن وجوز أن يكون ظرفا بمعنى المكان كالمقام والمقامة ، ومن هنا فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما رواه ابن المنذر عنه بالناحية وتجوز به عن ذلك من فسره بالحالة أي اعملوا على حالتكم التي أنتم عليها.
وقرأ أبو بكر عن عاصم «مكاناتكم» على الجمع في كل القرآن ، وزعم الواحدي أن الوجه الإفراد وفيه نظر ، والمعنى اثبتوا على كفركم ومعاداتكم لي إِنِّي عامِلٌ على مكانتي أي ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم.
والأمر للتهديد وإيراده بصيغة الأمر كما قال غير واحد - مبالغة في الوعيد كأن المهدد يريد تعذيبه مجمعا عازما عليه فيحمله بالأمر على ما يؤدي إليه وتسجيل بأن المهدد لا يتأتى منه إلا الشر كالمأمور به الذي لا يقدر أن يتفصى عنه. وجعل العلامة الثاني ذلك من قبيل الاستعارة التمثيلية تشبيها لذلك المعنى بالمعنى المأمور به الواجب الذي لا بد أن يكون ممن ضربت عليه الشقوة فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ أي إنكم لتعلمون ذلك لا محالة.
فسوف لتأكيد مضمون الجملة. والعلم عرفاني فيتعدى إلى واحد ، ومن استفهامية معلقة لفعل العلم محلها الرفع على الابتداء. والجملة بعدها خبرها ومجموعهما ساد مسد مفعول العلم.
والمراد بالدار الدنيا لا دار السلام كما قيل ، وبالعاقبة العاقبة الحسنى أي عاقبة الخير لأنها الأصل فإنه تعالى جعل الدنيا مزرعة الآخرة وقنطرة المجاز إليها وأراد من عباده أعمال الخير لينالوا حسن الخاتمة.
وأما عاقبة الشر فلا اعتداد بها لأنها من نتائج تحريف الفجار أي فسوف تعلمون أينا تكون له العاقبة الحسنى التي خلق الله تعالى هذه الدار لها ويجوز أن تكون ما موصولة فمحلها النصب على أنها مفعول تَعْلَمُونَ أي فسوف تعلمون الذي له عاقبة الدار ، وفيه مع الإنذار المستفاد من التهديد إنصاف في المقال وتنبيه على كمال وثوق المنذر بأمره. وقرأ حمزة ، والكسائي «يكون» بالتحتية لأن تأنيث العاقبة غير حقيقي إِنَّهُ أي الشأن لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أي لا يظفروا بمطلوبهم ، وإنما وضع الظلم موضع الكفر لأنه أعم منه وهو أكثر فائدة لأنه إذا لم يفلح الظالم فكيف الكافر المتصف بأعظم افراد الظلم وَجَعَلُوا أي مشركو العرب لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ أي خلق قال الراغب : الذرء ، إظهار الله تعالى ما أبدعه يقال : ذرأ الله تعالى الخلق أي أوجد أشخاصهم ، وقال الطبرسي : الذرء الخلق على وجه الاختراع وأصله الظهور ومنه ملح ذراني لظهور بياضه. ومن متعلقة بجعل وما موصولة وجملة ذَرَأَ صلته والعائد محذوف. وقوله سبحانه : مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ متعلق بذرأ.
وجوز أبو البقاء أن يكون «مما» متعلقا بمحذوف وقع حالا من قوله تعالى : نَصِيباً وأن يكون مِنَ الْحَرْثِ حالا أيضا من ما أو من العائد المحذوف. ونَصِيباً على كل تقدير مفعول جعل وهو متعد لواحد ، وجوز أن يكون متعديا لاثنين أولهما مِمَّا ذَرَأَ على أن من تبعيضية وثانيهما نَصِيباً ، وقيل : الأمر بالعكس.
واعترض بأنه لا يساعده سداد المعنى ، وأيا ما كان فهذا شروع في تقبيح أحوالهم الفظيعة بحكاية أقوالهم وأفعالهم الشنيعة ، أخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية : إنهم كانوا إذا احترثوا حرثا أو كانت لهم ثمرة جعلوا لله تعالى منه جزءا وجزءا للوثن فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه فإن سقط شيء مما سمي للصمد ردوه إلى ما جعلوه للوثن وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن فسقي شيئا مما جعلوه لله تعالى جعلوه للوثن وإن سقط شيء من الحرث والثمرة الذي جعلوه لله تعالى فاختلط بالذي جعلوه للوثن قالوا : هذا فقير ولم يردوه إلى ما جعلوا لله تعالى وإن سبقهم الماء الذي سموا لله تعالى فسقي ما سموا للوثن تركوه للوثن ، وكانوا يحرمون من أنعامهم البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحامي فيجعلونه للأوثان

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 276
ويزعمون أنهم يحرمون لله سبحانه. وروي أنهم كانوا يعينون شيئا من حرث ونتاج لله تعالى فيصرفونه إلى الضيفان والمساكين وأشياء منهما لآلهتهم فينفقون منها لسدنتها ويذبحون عندها فإذا رأوا ما جعلوه لله تعالى زاكيا ناميا يزيد في نفسه خيرا رجعوا فجعلوه لآلهتهم وإذا زكا ما جعلوه لآلهتهم تركوه معتلين بأن الله تعالى غني وما ذاك إلا لفرط جهلهم حيث أشركوا الخالق القادر جمادا لا يقدر على شيء ثم رجحوه عليه سبحانه بأن جعلوا الزاكي له ، واختار هذه الرواية الزجاج وغيره.
وأصل النظم الكريم وجعلوا لله إلخ ولشركائهم فطوى ذكر الشركاء لأنه - على ما قيل - أمر محقق عندهم وأشير إلى تقديره بالتصريح به في قوله تعالى : فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا أي الأوثان ، وسموهم شركاءهم لأنهم جعلوا لهم نصيبا من أموالهم فهم شركاؤهم فيها ويحتمل أن الإضافة لأدنى ملابسة حيث إنهم زعموا كونهم شركاء لله تعالى. وقرأ الكسائي ، ويحيى بن وثاب ، والأعمش «بزعمهم» بضم الزاي وهو لغة فيه ، وجاء الكسر أيضا فهو مثلث كالود وقد تقدم معناه ، وإنما قيد به الأول للتنبيه على أنه في الحقيقة ليس بجعل لله سبحانه غير مستتبع لشيء من الثواب كالتطوعات التي يبتغى بها وجه الله تعالى ، وقيل : للإيذان بأن ذلك مما اخترعوه لم يأمرهم الله تعالى به. ورد بأن ذلك مستفاد من الجعل ولذلك لم يقيد به الثاني.
وجوز أن يكون ذلك تمهيدا لما بعده على أن معنى قولهم. هذا لِلَّهِ مجرد زعم منهم لا يعملون بمقتضاه الذي هو اختصاصه به تعالى فقوله سبحانه : فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ بيان وتفصيل له أي فما عينوه لشركائهم لا يصرف إلى الوجوه التي يصرف إليها ما عينوه لله تعالى وما عينوه لله تعالى يصرف إلى الوجوه التي يصرف إليها ما عينوه لآلهتهم ساءَ ما يَحْكُمُونَ فيما فعلوا من إيثار مخلوق عاجز عن كل شيء على خالق قادر على كل شيء وعملهم بما لم يشرع لهم ، وساءَ يجري مجرى بئس ، فما سواء كانت موصولة أو موصوفة فاعل ، والمخصوص بالذم محذوف أي حكمهم هذا ، وقيل : إن ساءَ هنا غير الجارية مجرى بئس فلا تحتاج إلى مخصوص بالذم بل إلى فاعل فقط فإن فاعل الجارية يجب أن يكون معرفا باللام أو مضافا في الأشهر ، واختاره بعض المحققين.
وَكَذلِكَ أي ومثل ذلك التزيين وهو تزيين الشرك في قسمة القربات من الحرث والإنعام بين الله تعالى وبين شركائهم أو مثل ذلك التزيين البليغ المعهود من الشياطين زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي مشركي العرب قَتْلَ أَوْلادِهِمْ فكانوا يئدون البنات الصغار بأن يدفنونهن أحياء ، وكانوا في ذلك - على ما قيل فريقين. أحدهما يقول : إن الملائكة بنات الله سبحانه فألحقوا البنات بالله تعالى فهو أحق بها. والآخر يقتلهن خشية الإنفاق ، وقيل :
خشية ذلك والعار وهو المروي عن الحسن ، وجماعة ، وقيل : السبب في قتل البنات أن النعمان بن المنذر أغار على قوم فسبى نساءهم وكانت فيهن بنت قيس بن عاصم ثم اصطلحوا فأرادت كل امرأة منهن عشيرتها غير ابنة قيس فإنها أرادت من سباها فحلف قيس لا تولد له بنت إلا وأدها فصار ذلك سنة فيما بينهم ، وقيل : إنهم كانوا ينذر أحدهم إذا بلغ بنوه ، عشرة نحر واحد منهم كما فعله عبد المطلب في قصته المشهورة ، وإليها أشار صلّى اللّه عليه وسلّم
بقوله : «أنا ابن الذبيحين»
وقَتْلَ مفعول زَيَّنَ مضاف إلى أَوْلادِهِمْ من إضافة المصدر إلى مفعوله.
وقوله سبحانه : شُرَكاؤُهُمْ فاعل له ، والمراد بالشركاء إما الجن أو السدنة ، ووسموا بذلك لأنهم شركاء في أموالهم كما مر آنفا أو لإطاعتهم له كما يطاع الشريك لله عز اسمه. ومعنى تزيينهم لهم ذلك تحسينه لهم وحثهم عليه.
وقرأ ابن عامر «زيّن» بالبناء للمفعول الذي هو القتل ، ونصب الأولاد وجر الشركاء بإضافة القتل إليه مفصولا بينهما

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 277
بمفعوله. وعقب ذلك الزمخشري بأنه شيء لو كان في مكان الضرورات وهو الشعر لكان سمجا مردودا كما سمج.
ورد زج القلوص أبي مزادة. فكيف به في الكلام المنثور فكيف به في الكلام المعجز ، ثم قال : والذي حمله على ذلك أنه رأى في بعض المصاحف شُرَكاؤُهُمْ مكتوبا بالياء ، ولو قرأ بجر الأولاد والشركاء لأن الأولاد شركاؤهم لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب اه.
وقد ركب في هذا الكلام عمياء وتاه في تيهاء ، فقد تخيل أن القراء أئمة الوجوه السبعة اختار كل منهم حرفا قرأ به اجتهادا لا نقلا وسماعا كما ذهب إليه بعض الجهلة فلذلك غلط ابن عامر في قراءته هذه وأخذ يبين منشأ غلطه ، وهذا غلط صريح يخشى منه الكفر والعياذ بالله تعالى فإن القراءات السبعة متواترة جملة وتفصيلا عن أفصح من نطق بالضاد صلّى اللّه عليه وسلّم فتغليط شيء منها في معنى تغليط رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم بل تغليط الله عز وجل نعوذ بالله سبحانه من ذلك. قال أبو حيان : عجب لعجمي ضعيف في النحو يرد على عربي صريح محض قراءة متواترة نظيرها في كلام العرب في غير ما بيت ، وأعجب بسوء هذا الرجل بالقراء الأئمة الذين تخيرتهم هذه الأمة لنقل كتاب الله تعالى شرقا وغربا ، وقد اعتمد المسلمون على نقلهم لضبطهم ومعرفتهم وديانتهم اه. وقد شنع عليه أيضا غير واحد من الأئمة ، ولعل عذره في ذلك جهله بعلمي القراءة والأصول.
وقد يقال : إنه لم يفرق بين المضاف الذي لم يعمل وبين غيره. ومحققو النحاة قد فرقوا بينهما بأن الثاني يفصل فيه بالظرف ، والأول إذا كان مصدرا أو نحوه يفصل بمعموله مطلقا لأن إضافته في نية الانفصال ومعموله مؤخر رتبة ففصله كلا فصل فلذا ساغ ذلك فيه ولم يخص بالشعر كغيره. وممن صرح بذلك ابن مالك ، وخطأ الزمخشري بعدم التفرقة وقال في كافيته :
وظرف أو شبيهه قد يفصل جزأي إضافة وقد يستعمل
فصلان في اضطرار بعض الشعرا وفي اختيار قد أضافوا المصدرا
لفاعل من بعد مفعول حجز كقول بعض القائلين للرجز
بفرك حب السنبل الكنافج بالقاع فرك القطن المحالج
وعمدتي قراءة ابن عامر وكم لها من عاضد وناصر
انتهى. وبعد هذا كله لو سلمنا أن قراءة ابن عامر منافية لقياس العربية لوجب قبولها أيضا بعد أن تحقق صحة نقلها كما قبلت أشياء نافت القياس مع أن صحة نقلها دون صحة القراءة المذكورة بكثير ، وما ألطف قول الإمام على ما حكاه عنه الجلال السيوطي ، وكثيرا ما أرى النحويين متحيرين في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن ، فإذا استشهد في تقريره ببيت مجهول فرحوا به وأنا شديد التعجب منهم لأنهم إذا جعلوا ورود ذلك البيت المجهول على وفقه دليلا على صحته فلأن يجعلوا ورود القرآن به دليلا على صحته كان أولى ، ومما ذكرنا يعلم ما في قول السكاكي : لا يجوز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير الظرف ، ونحو قوله :
بين ذراعي وجبهة الأسد محمول على حذف المضاف إليه من الأول ، ونحو قراءة من قرأ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لاستنادها إلى الثقات وكثرة نظائرها ، ومن أرادها فعليه بخصائص ابن جني محمولة عندي على حذف المضاف إليه من الأول وإضمار المضاف في الثاني كما في قراءة من قرأ وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ [الأنفال : 67] بالجر أي عرض الآخرة ، وما ذكر وإن كان فيه نوع بعد إلا أن تخطئة الثقات والفصحاء أبعد اه. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ببناء «زيّن»

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 278
للمفعول ورفع «قتل» وجر «أولادهم» ورفع «شركائهم» بإضمار فعل دل عليه زَيَّنَ كما في قوله :
ليبك يزيد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح
كأنه لما قيل : زين لهم قتل أولادهم قيل من زينه؟ فقيل : زينه شركاؤهم لِيُرْدُوهُمْ أي ليهلكوهم بالإغواء : وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ أي ليخلطوا عليهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل عليه السلام حتى زلوا عنه إلى الشرك أو دينهم الذي وجب أن يكونوا عليه. وقيل : المعنى ليوقعوهم في دين ملتبس ، واللام للتعليل إن كان التزيين من الشياطين لأن مقصودهم من إغوائهم ليس إلا ذلك ، وللعاقبة إن كان من السدنة إذ ليس محط نظرهم ذلك لكنه عاقبته وَلَوْ شاءَ اللَّهُ أي عدم فعلهم ذلك ما فَعَلُوهُ أي ما فعل المشركون ما فعل المشركون ما زين لهم من القتل أو ما فعل الشركاء من التزيين أو الإرداء واللبس أو ما فعل الفريقان جميع ذلك على إجراء الضمير المفرد مجرى اسم الإشارة فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ الفاء فصيحة أي إذا كان ما كان بمشيئة الله تعالى فدعهم وافتراءهم أو ما يفترونه من الكذب ولا تبال بهم فإن في ما يشاء الله تعالى حكما بالغة وفيه من شدة الوعيد ما لا يخفى وَقالُوا حكاية لنوع آخر من أنواع كفر أولئك الكفار ، وقيل : تتمة لما تقدم هذِهِ أي ما جعلوه لآلهتهم والتأنيث للخبر أَنْعامٌ وَحَرْثٌ أي زرع حِجْرٌ أي ممنوع منها وهو فعل بمعنى مفعول كالذبح يستوي فيه الواحد والكثير والذكر والأنثى لأن أصله المصدر ولذلك وقع صفة لأنعام وحرث.
وقرأ الحسن وقتادة «حجر» بضم الحاء ، وقرأ أيضا بفتح الحاء وسكون الجيم وبضم الحاء والجيم معا.
ويحتمل في هذا أن يكون مصدرا كالحلم ، وأن يكون جمعا كسقف ورهن. وعن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهما «حرج» بكسر الحاء وتقديم الراء على الجيم أي ضيق وأصله «حرج» بفتح الحاء وكسر الراء ، وقيل :
هو مقلوب من حجر كعميق ومعيق لا يَطْعَمُها أي يأكلها إِلَّا مَنْ نَشاءُ يعنون كما روي عن ابن زيد - الرجال دون النساء ، وقيل : يعنون ذلك وخدم الأوثان ، والجملة صفة أخرى لأنعام وحرث ، وقوله سبحانه : بِزَعْمِهِمْ متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل قالُوا أي قالوا ذلك متلبسين بزعمهم الباطل من غير حجة وَأَنْعامٌ خبر مبتدأ محذوف والجملة معطوفة على قوله سبحانه : هذِهِ أَنْعامٌ أي قالوا مشيرين إلى طائفة من أنعامهم وهذه أنعام.
وقيل : إن الإشارة أولا إلى ما جعل لآلهتهم السابق وما بينهما كالاعتراض وهذا عطف على أَنْعامٌ المتقدم إدخاله فيما تقدم لأن المراد به السوائب ونحوها وهي بزعمهم تعتق وتعفى لأجل الآلهة حُرِّمَتْ أي منعت ظُهُورُها فلا تركب ولا يحمل عليها وَأَنْعامٌ أي وهذه أنعام على ما مر.
وقوله سبحانه : لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صفة لأنعام مسوق من قبله تعالى تعيينا للموصوف وتمييزا له عن غيره كما في قوله تعالى : وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ [النساء : 157] في رأي لا أنه واقع في كلامهم المحكي كنظائره كأنه قيل : وأنعام ذبحت على الأصنام فإنها التي لا يذكر اسم الله تعالى عليها وإنما يذكر عليها اسم الأصنام. وأخرج ابن المنذر. وغيره عن أبي وائل أن المعنى لا يحجون عليها ولا يلبون. وعن مجاهد كانت لهم طائفة من أنعامهم لا يذكرون اسم الله تعالى عليها ولا في شيء من شأنها لا إن ركبوا ولا إن حلبوا ولا ولا افْتِراءً عَلَيْهِ أي على الله سبحانه وتعالى ، ونصب افْتِراءً على المصدر إما على أن قولهم المحكي بمعنى الافتراء ، وإما على تقدير عامل من لفظه أي افتروا افتراء أو على الحال من فاعل قالُوا أي مفترين أو على العلة أي للافتراء وهو بعيد معنى ، وعَلَيْهِ قيل : متعلق بقالوا أو بافتروا المقدر على الاحتمالين الأولين وبافتراء على الاحتمالين الأخيرين. ولا يخفى بعد تعلقه بقالوا ، والذي دعاهم إليه ومنعهم من تعلقه بالمصدر - على ما قيل - أن

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 279
المصدر إذا وقع مفعولا مطلقا لا يعمل لعدم تقديره بأن والفعل ، وفيه نظر لأن تأويله بذلك ليس بلازم لتعلق الجار به فإنه مما يكفيه رائحة الفعل.
وجوز أبو البقاء أن يكون الجار متعلقا بمحذوف وقع صفة لافتراء أي افتراء كائنا عليه سَيَجْزِيهِمْ ولا بد بِما كانُوا يَفْتَرُونَ أي بسببه أو بدله ، وأبهم الجزاء للتهويل وَقالُوا حكاية لفن آخر من فنون كفرهم ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ يعنون به أجنة البحائر والسوائب كما روي عن مجاهد والسدي ، وروى ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم يعنون به الألبان ، وما مبتدأ خبره قوله سبحانه : خالِصَةٌ لِذُكُورِنا أي حلال لهم خاصة لا يشركهم فيه أحد من الإناث ، والتاء للنقل إلى الاسمية أو للمبالغة كرواية الشعر أي كثير الرواية له أو لأن الخالصة مصدر - كما قال الفراء - كالعافية وقع موقع الخالص مبالغة أو بتقدير ذو وهذا مستفيض في كلام العرب تقول : فلان خالصتي أي ذو خلوصي ، قال الشاعر :
كنت أميني وكنت خالصتي وليس كل امرئ بمؤتمن
نعم قيل : مجيء المصدر بوزن فاعل وفاعلة قليل ، وقيل : إن التاء للتأنيث بناء على أن «ما» عبارة عن الأجنة.
والتذكير في قوله تعالى : وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا أي على جنس أزواجنا وهن الإناث باعتبار اللفظ ، واستبعد ذلك بأن فيه رعاية المعنى أولا واللفظ ثانيا وهو خلاف المعهود في الكتاب الكريم من العكس ، وادعى بعض أن له نظائر فيه ، منها قوله تعالى : كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً [الإسراء : 38] إذ أنث فيه ضمير كُلُّ أولا مراعاة للمعنى ثم ذكر حملا على اللفظ ، وقيل : إن ما هنا جار على المعهود من رعاية اللفظ أولا لأن صلة «ما» جار ومجرور تقدير متعلقه استقر لا استقر لا استقرت ولا وجه لذلك لأن المتعلق والضمير المستتر فيه لا يعلم تذكيره وتأنيثه حتى يكون مراعاة لأحد الجانبين. والذي يقتضيه الإنصاف أن الحمل على اللفظ بعد المعنى قليل وغيره أولى ما وجد إليه سبيل ، وذكر بعضهم أن ارتكاب خلاف المعهود هاهنا لا يخلو عن لطف معنوي ولفظي ، أما الأول فموافقة القول الفعل حيث إن المعهود من ذوي المروءة جبر قلوب الإناث لضعفهن. ولذا يندب للرجل إذا أعطي شيئا لولده أن يبدأ بأنثاهم ، وأما الثاني فمراعاة ما يشبه الطباق بوجه بين خالِصَةٌ ولِذُكُورِنا وبين مُحَرَّمٌ وأَزْواجِنا وهو كما ترى.
وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً عطف على ما يفهم من الكلام أي ذلك حلال للذكور محرم على الإناث إن ولد حيا وإن ولدت ميتة فَهُمْ أي الذكور والإناث فِيهِ أي فيما في بطون الأنعام ، وقيل : الضمير للميتة إلا أنه لما كان المراد بها ما يعم الذكر والأنثى غلب الذكر فذكر الضمير كما فعل ذلك فيما قبله شُرَكاءُ يأكلون منه جميعا ، وهذا الذي ذكر في هذه الشرطية إنما يظهر على القول الأول في تفسير الموصول ، وأما على القول الثاني فيه فلا. ولعل الذي يقول به يقرأ الآية بإحدى الأوجه الآتية أو يتأول الضمير ، وقرأ الأعرج. وقتادة «خالصة» بالنصب وخرج ذلك على أنه مصدر مؤكد وخبر المبتدأ لِذُكُورِنا ، وقال القطب الرازي : يجوز أن يكون حالا من الضمير في الظرف الواقع صلة أي في حال خلوصه من البطون أي خروجه حيا ، والتزم جعلها حالا مقدرة ولعله ليس باللازم ، ومنع غير واحد جعله حالا من الضمير فيما بعده أو من ذكورنا نفسه لأن الحال لا تتقدم على العامل المعنوي كالجار والمجرور واسم الإشارة وهاء التنبيه العاملة بما تضمنته من معنى الفعل ولا على صاحبها المجرور كما تقرر في محله ، وقرأ ابن جبير «خالصا» بدون تاء مع النصب أيضا والكلام فيه نظير ما مر ، وقرأابن عباس ، وابن مسعود ، والأعمش «خالصة» بالرفع والإضافة إلى الضمير على أنه بدل من ما أو مبتدأ ثان ، وقرأ ابن عامر وأبو جعفر «وإن

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 280
تكن» بالتاء «ميتة» بالرفع ، وابن كثير «يكن» بالياء وميتة بالرفع. وأبو بكر عن عاصم «تكن» بالتاء كابن عامر «ميتة» بالنصب.
قال الإمام : وجه قراءة ابن عامر أنه ألحق الفعل علامة التأنيث لما كان الفاعل مؤنثا في اللفظ ، ووجه قراءة ابن كثير أن «ميتة» اسم «يكن» وخبره مضمر أي إن يكن لهم أو هناك ميتة ، وذكر لأن الميتة في معنى الميت.
وقال أبو علي : لم يلحق الفعل علامة التأنيث لأن تأنيث الفاعل المسند إليه غير حقيقي ولا تحتاج كان إلى خبر لأنها بمعنى وقع وحدث ، ووجه القراءة الأخيرة أن المعنى وإن تكن الأجنة أو الأنعام ميتة سَيَجْزِيهِمْ ولا بد وَصْفَهُمْ الكذب على الله تعالى في أمر التحليل والتحريم من قوله تعالى : وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ [النحل :
62] وهو - كما قال بعض المحققين - من بليغ الكلام وبديعه فإنهم يقولون : وصف كلامه الكذب إذا كذب ، وعينه تصف السحر أي ساحر ، وقده يصف الرشاقة بمعنى رشيق مبالغة حتى كان من سمعه أو رآه وصف له ذلك بما يشرحه له ، قال المعري :
سرى برق المعرة بعد وهن فبات برامة يصف الملالا
ونصب وَصْفَهُمْ على ما ذهب إليه الزجاج لوقوعه موقع مصدر «يجزيهم» فالكلام على تقدير المضاف أي جزاء وصفهم ، وقيل : التقدير سيجزيهم العقاب بوصفهم أي بسببه فلما سقط الباء نصب وَصْفَهُمْ.
إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ تعليل للوعد بالجزاء فإن الحكيم العليم بما صدر عنهم لا يكاد يترك جزاءهم الذي هو من مقتضيات الحكمة. واستدل بالآية على أنه لا يجوز الوقف على أولاده الذكور دون الإناث وأن ذلك الوقف يفسخ ولو بعد موت الواقف لأن ذلك من فعل الجاهلية ، واستدل بذلك بعض المالكية على مثل ذلك في الهبة ، وأخرج البخاري في التاريخ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : يعمد أحدكم إلى المال فيجعله للذكور من ولده إن هذا إلا كما قال الله تعالى : خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ وهم العرب الذين كانوا يقتلون أولادهم على ما مر ، وأخرج ابن المنذر عن عكرمة أنها نزلت فيمن كان يئد البنات من ربيعة ومضر أي هلكت نفوسهم باستحقاقهم على ذلك العقاب أو ذهب دينهم ودنياهم.
وقرأ ابن كثير وابن عامر «قتّلوا» بالتشديد لمعنى التكثير أي فعلوا ذلك كثيرا سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ أي لخفة عقلهم وجهلهم بصفات ربهم سبحانه ، ونصب سَفَهاً على أنه علة لقتلوا أو على أنه حال من فاعله ، ويؤيده أنه قرىء «سفهاء» أو على المصدرية لفعل محذوف دل عليه الكلام ، والجار والمجرور إما صفة أو حال.
وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ من البحائر والسوائب. ونحوهما افْتِراءً عَلَى اللَّهِ نصب على أحد الأوجه المذكورة ، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لإظهار كمال عتوهم وطغيانهم قَدْ ضَلُّوا عن الطريق السوي وَما كانُوا مُهْتَدِينَ إليه وإن هدوا بفنون الهدايات أو ما كانوا مهتدين من الأصل ، والمراد المبالغة في نفي الهداية عنهم لأن صيغة الفعل تقتضي حدوث الضلال بعد أن لم يكن فأردف ذلك بهذه الحال لبيان عراقتهم في الضلال وأن ضلالهم الحادث ظلمات بعضها فوق بعض ، وصرح بعض المحققين بأن الجملة عطف على ضَلُّوا على الأول واعتراض على الثاني ، وقرأ ابن رزين «قد ضلوا قبل ذلك وما كانوا مهتدين».
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ تمهيد لما سيأتي من تفصيل أحوال الأنعام. وقال الإمام : إنه عود إلى ما هو المقصود الأصلي وهو إقامة الدلائل على تقرير التوحيد أي وهو الذي خلق وأظهر تلك الجنات من غير شركة

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 281
لأحد في ذلك بوجه من الوجوه ، والمعروشات من الكرم ما يحمل على العريش وهو عيدان تصنع كهيئة السقف ويوضع الكرم عليها وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وهي الملقيات على وجه الأرض من الكرم أيضا ، وهذا قول من قال : إن المعروشات وغيرها كلاهما للكرم ، وعن أبي مسلم أن المعروش ما يحتاج إلى أن يتخذ له عريش يحمل عليه فيمسكه من الكرم وما يجري مجراه ، وغير المعروش هو القائم من الشجر المستغني باستوائه وقوة ساقه عن التعريش ، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المعروش ما يحصل في البساتين والعمرانات مما يغرسه الناس وغير المعروش ما نبت في البراري والجبال ، وقيل : المعروش العنب الذي يجعل له عريش وغير المعروش كل ما نبت منبسطا على وجه الأرض مثل القرع والبطيخ ، وقال عصام الدين : ولا يبعد أن يراد بالمعروش المعروش بالطبع كالأشجار التي ترتفع وبغير المعروش ما ينبسط على وجه الأرض كالكرم ويكون قوله سبحانه : وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ تخصيصا بعد التعميم وهو عطف على جَنَّاتٍ أي أنشأهما مُخْتَلِفاً في الهيئة والكيفية أُكُلُهُ أي ثمره الذي يؤكل منه ، وقرأ ابن كثير ونافع «أكله» بسكون الكاف وهو لغة فيه على ما يشير إليه كلام الراغب ، والضمير إما أن يرجع إلى أحد المتعاطفين على التعيين ويعلم حكم الآخر بالمقايسة إليه أو إلى كل واحد على البدل أو إلى الجميع والضمير بمعنى اسم الإشارة ، وعن أبي حيان أن الضمير لا يجوز إفراده مع العطف بالواو فالظاهر عوده على أقرب مذكور وهو الزَّرْعَ ويكون قد حذف حال النخل لدلالة هذه الحال عليها ، والتقدير والنخل مختلفا أكله والزرع مختلفا أكله ، وجوز وجها آخر وهو أن في الكلام مضافا مقدرا والضمير راجع إليه أي ثمر جنات ، والحال المشار إليها على كل حال مقدرة إذ لا اختلاف وقت الإنشاء.
وزعم أبو البقاء أنها كذلك إن لم يقدر مضاف أي ثمر النخل وحب الزرع وحال مقارنة إن قدر.
وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ أي أنشأهما مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ أي يتشابه بعض أفرادهما في اللون أو الطعم أو الهيئة ولا يتشابه في بعضها ، وأخرج ابن المنذر. وأبو الشيخ عن ابن جريح أنه قال : متشابها في المنظر وغير متشابه في المطعم ، والنصب على الحالية كُلُوا أمر إباحة كما نص عليه غير واحد مِنْ ثَمَرِهِ الكلام في مرجع الضمير على طرز ما تقدم آنفا إِذا أَثْمَرَ وإن لم ينضج وينيع بعد ففائدة التقييد إباحة الأكل قبل الإدراك ، وقيل : فائدته رخصة المالك في الأكل منه قبل أداء حق الله تعالى وهو اختيار الجبائي وغيره.
وَآتُوا حَقَّهُ الذي أوجبه الله تعالى فيه يَوْمَ حَصادِهِ وهو على ما في رواية عطاء عن ابن عباس العشر ونصف العشر ، وإليه ذهب الحسن ، وسعيد بن المسيب ، وقتادة ، وطاوس ، وغيرهم ، والظرف قيد لما دل عليه الأمر بهيئته من الوجوب لا لما دل عليه بمادته من الحدث إذ ليس الأداء وقت الحصاد والحب في سنبله كما يفهم من الظاهر بل بعد التنقية والتصفية. وادعى علي بن عيسى أن الظرف متعلق بالحق فلا يحتاج إلى ما ذكر من التأويل.
وفي رواية أخرى عن الحبر أنه ما كان يتصدق به يوم الحصاد بطريق الوجوب من غير تعيين المقدار ثم نسخ بالزكاة ، وإلى ذلك ذهب سعيد بن جبير ، والربيع بن أنس ، وغيرهما. قيل : ولا يمكن أن يراد به الزكاة المفروضة لأنها فرضت بالمدينة والسورة مكية ، وأجاب الإمام عن ذلك بأنا لا نسلم أن الزكاة ما كانت واجبة في مكة وكون آيتها مدنية لا يدل على ذلك ، على أنه قد قيل : إن هذه الآية مدنية أيضا ، وعن الشعبي أن هذا حق في المال سوى الزكاة ، وأخرج ابن منصور ، وابن المنذر ، وغيرهما عن مجاهد أنه قال في الآية : إذا حصدت فحضرك المساكين فاطرح لهم من السنبل فإذا دسته فحضرك المساكين فاطرح لهم فإذا ذريته وجمعته وعرفت كيله فاعزل زكاته. وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وحمزة ، والكسائي حَصادِهِ بكسر الحاء وهي لغة فيه ، وعدل عن حصده وهو المصدر المشهور لحصد

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 282
إليه لدلالته على حصد خاص وهو حصد الزرع إذا انتهى وجاء زمانه كما صرح به سيبويه وأشار إليه الراغب وَلا تُسْرِفُوا أي لا تتجاوزا الحد فتبسطوا أيديكم كل البسط في الإعطاء.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن جريج قال : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس جذّ نخلا فقال : لا يأتين اليوم أحد إلا أطعمته فأطعم حتى أمسى وليست له ثمرة فأنزل الله تعالى ذلك ، وروي مثله عن أبي العالية.
وعن أبي مسلم أن المراد ولا تسرفوا في الأكل قبل الحصاد كيلا يؤدي إلى بخس حق الفقراء. وأخرج عبد الرزاق عن ابن المسيب أن المعنى لا تمنعوا الصدقة فتعصوا ، وقال الزهري : المعنى لا تنفقوا في معصية الله تعالى.
ويروى نحوه عن مجاهد.
فقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال : لو كان أبو قبيس ذهبا فأنفقه رجل في طاعة الله تعالى لم يكن مسرفا ولو أنفق درهما في معصية الله تعالى كان مسرفا. وقال مقاتل : المراد لا تشركوا الأصنام في الحرث والأنعام.
والخطاب على جميع هذه الأقوال لأرباب الأموال ، وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أن الخطاب للولاة أي لا تأخذوا ما ليس لكم بحق وتضروا أرباب الأموال. واختار الطبرسي أنه خطاب للجميع من أرباب الأموال والولاة أي لا يسرف رب المال في الإعطاء ولا الإمام في الأخذ والدفع إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ بل يبغضهم من حيث إسرافهم ويعذبهم عليه إن شاء جل شأنه وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً شروع في تفصيل حال الأنعام وإبطال ما تقولوا على الله تعالى في شأنها بالتحريم والتحليل ، وهو عطف على جَنَّاتٍ والجهة الجامعة إباحة الانتفاع بهما.
والجار والمجرور متعلق بأنشأ. والحمولة ما يحمل عليه لا واحد له كالركوبة.
والمراد به ما يحمل الأثقال من الأنعام وبالفرش ما يفرش للذبح أو ما يفرش المنسوج من صوفه وشعره ووبره ، وإلى الأول ذهب أبو مسلم وروي عن الربيع بن أنس. وإلى الثاني ذهب الجبائي ، وقيل : الحمولة الكبار الصالحة للحمل والفرش الصغار الدانية من الأرض مثل الفرش المفروش عليها ، وروي ذلك عن ابن مسعود لكنه رضي الله تعالى عنه خص ذلك بكبار الإبل وصغارها وهو إحدى الروايات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وفي رواية أخرى الحمولة الإبل والخيل والبغال والحمير وكل شيء يحمل عليه والفرش الغنم كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي كلوا بعض ما رزقكم الله تعالى وهو الحلال ، فمن تبعيضية.
والرزق شامل للحلال والحرام ، والمعتزلة خصوه بالحلال كما تقدم أوائل الكتاب وادعوا أن هذه الآية أحد أدلتهم على ذلك وركبوا شكلا منطقيا أجزاؤه سهلة الحصول تقديره الحرام ليس بمأكول شرعا وهو ظاهر والرزق ما يؤكل شرعا لقوله تعالى : كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ فالحرام ليس برزق.
وأنت تعلم أن هذا إنما يفيد لو صدق كل رزق مأكول شرعا ، والآية لا تدل عليه ، أما إذا كانت تبعيضية فظاهر ، وأما إن كانت ابتدائية فلأنه ليس فيها ما يدل على تناول الجميع ، وقيل : معنى الآية استحلوا الأكل مما أعطاكم الله تعالى وَلا تَتَّبِعُوا في أمر التحليل والتحريم بتقليد أسلافكم المجازفين في ذلك من تلقاء أنفسهم المفترين على الله سبحانه خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي طرقه فإن ذلك منهم بإغوائه واستتباعه إياهم إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ أي ظاهر العداوة فقد أخرج آدم عليه السلام من الجنة وقال : لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء : 62] أعاذنا الله تعالى والمسلمين من شره إنه الرحمن الرحيم.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات : وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً في عين الجمع المطلق قائلا يا معشر الجن أي

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 283
القوى النفسانية قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أي من الحواس والأعضاء الظاهرة أو من الصور الإنسانية بأن جعلتموهم أتباعكم بإغوائكم إياهم وتزيين اللذائذ الجسمانية لهم : وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وانتفع كل منا في صورة الجمعية الإنسانية بالآخر وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا بالموت أو المعاد على أقبح الهيئات وأسوأ الأحوال قالَ النَّارُ أي نار الحرمان ووجدان الآلام مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ ولا يشاء إلا ما يعلم ولا يعلم سبحانه الشيء إلا على ما هو عليه في نفسه إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ لا يعذبكم إلا بهيئات نفوسكم على ما تقتضيه الحكمة عليم بهاتيك الهيئات فيعذب على حسبها وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً أي نجعل بعضهم ولي بعض أو وليه وقرينه في العذاب بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من المعاصي حسب استعدادهم.
مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
وهي عند كثير من أرباب الإشارة العقول وهي رسل خاصة ذاتية إلى ذويها مصححة لإرسال الرسل الأخر وهي رسل خارجية.
وبعض المعتزلة حمل الرسول في قوله تعالى : وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا على العقل أيضا. وهذه الأسئلة عند بعض المؤولين والأجوبة والشهادات كلها بلسان الحال وإظهار الأوصاف ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى أي الأبدان أو القلوب بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ بل ينبههم بالعقل وإرشاده إقامة للحجة ولله تعالى الحجة البالغة وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مراتب في القرب والبعد وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ لذاته عن كل ما سواه ذُو الرَّحْمَةِ العامة الشاملة فخلق العباد ليربحوا عليه لا ليربح عليهم ، والغني عند الكثير مشير إلى نعت الجلال وذو الرحمة إلى صفة الجمال إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ لغناه الذاتي عنكم وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ من أهل طاعته برحمته قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي جهتكم من الاستعداد إِنِّي عامِلٌ على مكانتي من ذلك وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ في قلوب عباده جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ ككرم العشق والمحبة وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وهي الصفات الروحانية التي جبلت القلوب عليها كالسخاء ، والوفاء ، والعفة ، والحلم ، والشجاعة.
وَالنَّخْلَ أي نخل الإيمان وَالزَّرْعَ أي زرع إرادات الأعمال الصالحة وَالزَّيْتُونَ أي زيتون الإخلاص وَالرُّمَّانَ أي رمان شجر الإلهام ، وقيل في كل غير ذلك وباب التأويل واسع كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وهو المشاهدات والمكاشفات إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا المريدين حَقَّهُ وهو الإرشاد والموعظة الحسنة يَوْمَ حَصادِهِ أوان وصولكم فيه إلى مقام التمكين والاستقامة وَلا تُسْرِفُوا بالكتمان عن المستحقين أو بالشروع في الكلام في غير وقته والدعوة قبل أوانها إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ لا يرتضي فعلهم وَمِنَ الْأَنْعامِ أي قوى الإنسان حَمُولَةً ما هو مستعد لحمل الأمانة وتكاليف الشرع وَفَرْشاً ما هو مستعد لإصلاح القالب وقيام البشرية كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وهو مختلف فرزق القلب هو التحقيق من حيث البرهان ورزق الروح هو المحبة بصدق التحرز عن الأكوان. ورزق السر هو شهود العرفان بلحظ العيان وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ بالميل إلى الشهوات الفانية والاحتجاب بالسوى إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ يريد أن يحجبكم عن مولاكم والله تعالى الموفق لسلوك الرشاد.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 143 إلى 147]
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 284
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ الزوج يقال لكل واحد من القرينين من الذكر والأنثى في الحيوانات المتزاوجة ويطلق على مجموعهما ، والمراد به هنا الأول ، وإلا كانت أربعة. وإيرادها بهذا العنوان وهذا العدد أوفق لما سيق له الكلام وثَمانِيَةَ على ما قاله الفراء واختاره غير واحد من المحققين - بدل من حَمُولَةً وَفَرْشاً منصوب بما نصبهما وهو ظاهر على تفسير الحمولة والفرش بما يشمل الأزواج الثمانية أما لو خص ذلك بالإبل ففيه خفاء.
وجوز أن يكون التقدير وأنشأ ثمانية وأنه معطوف على جَنَّاتٍ وحذف الفعل وحرف العطف ، وضعفه أبو البقاء ووجهه لا يخفى. وأن يكون مفعولا لكلوا الذي قبله والتقدير كلوا لحم ثمانية أزواج وَلا تَتَّبِعُوا جملة معترضة. وأن يكون حالا من ما مرادا بها الأنعام ويؤول بنحو مختلفة أو متعددة ليكون بيانا للهيئة وهو عند من يشترط في الحال أن يكون مشتقا أو مؤولا به ظاهر. وتعقب ذلك شيخ الإسلام بأنه يأباه جزالة النظم الكريم لظهور أنه مسوق لتوضيح حال الأنعام بتفصيلها أولا إلى حمولة وفرش ثم تفصيلها إلى ثمانية أزواج حاصلة من تفصيل الأول إلى الإبل والبقر وتفصيل الثاني إلى الضأن والمعز ثم تفصيل كل من الأقسام الأربعة إلى الذكر والأنثى كل ذلك لتحرير المواد التي تقوّلوا فيها عليه سبحانه بالتحليل والتحريم ثم تبكيتهم بإظهار كذبهم وافترائهم في كل مادة مادة من تلك المواد بتوجيه الإنكار إليها مفصلة انتهى. وفيه منع ظاهر ، وقوله سبحانه : مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ على معنى زوجين اثنين الكبش والنعجة. ونصب «اثنين» قيل : على أنه بدل من «ثمانية أزواج» بدل بعض من كل أو كل من كل أن لوحظ العطف عليه منصوب بناصبه والجار متعلق به.
وقال العلامة الثاني : الظاهر أن مِنَ الضَّأْنِ بدل من الأنعام واثْنَيْنِ من حَمُولَةً وَفَرْشاً أو من ثمانية أزواج أن جوزنا أن يكون للبدل بدل ، وجوز أن يكون البدل «اثنين» ومن الضأن حال من النكرة قدمت عليها.
وقرىء «اثنان» على أنه مبتدأ خبره الجار والمجرور ، والجملة بيانية لا محل لها من الإعراب ، والضأن اسم جنس كالإبل جمع ضئين كأمير وكعبيد أو جمع ضائن كتاجر وتجر ، وقرىء بفتح الهمزة وهو لغة فيه وَمِنَ الْمَعْزِ زوجين اثْنَيْنِ التيس والعنز. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب ، وابن عامر بفتح العين وهو جمع ماعز كصاحب وصحب وحارس وحرس. وقرأ أبي «ومن المعزى» وهو اسم جمع معز ، وهذه الأزواج الأربعة - على ما

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 285
اختاره شيخ الإسلام - تفصيل للفرش قال : ولعل تقديمها في التفصيل مع تأخر أصلها في الإجمال لكون هذين النوعين عرضة للأكل الذي هو معظم ما يتعلق به الحل والحرمة وهو السر في الاقتصار على الأمر به في قوله تعالى : كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من غير تعرض للانتفاع بالحمل والركوب وغير ذلك مما حرموه في السائبة وأخواتها ومن الناس من علل التقديم بأشرفية الغنم ولهذا رعاها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهو لا يناسب المقام كما لا يخفى قُلْ تبكيتا لهم وإظهارا لعجزهم عن الجواب آلذَّكَرَيْنِ ذكر الضار وذكر المعز حَرَّمَ الله تعالى أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أي أنثى ذينك الصنفين ، ونصب آلذَّكَرَيْنِ والْأُنْثَيَيْنِ بحرم أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أي أم الذي حملته إناث النوعين ذكرا كان أو أنثى. نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ أي أخبروني بأمر معلوم من جهته تعالى جاءت به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يدل على أنه تعالى حرم شيئا ما ذكر أو نبئوني ببينة متلبسة بعلم صادرة عنه إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى التحريم عليه سبحانه وتعالى ، والأمر تأكيد للتبكيت وإظهار الانقطاع وَمِنَ الْإِبِلِ زوجين اثْنَيْنِ الجمل والناقة ، وهذا عطف على قوله سبحانه : ومِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ والإبل - كما قال الراغب - يقع على البعران الكثيرة ولا واحد له من لفظه ويجمع - كما في القاموس - على آبال والتصغير أبيلة.
وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ هما الثور وأنثاه قُلْ إفحاما لهم في أمر هذين النوعين أيضا آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ الله تعالى منهما أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ من ذينك النوعين ، والمعنى - كما قال كثير من أجلة العلماء - إنكار أن الله تعالى حرم عليهم شيئا من هذه الأنواع الأربعة وإظهار كذبهم في ذلك وتفصيل ما ذكر من الذكور والإناث وما في بطونها للمبالغة في الرد عليهم بإيراد الإنكار على كل مادة من مواد افترائهم فإنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة وإناثها تارة وأولادها كيفما كانت تارة أخرى مسندين ذلك كله لله سبحانه ، وإنما لم يل المنكر وهو التحريم الهمزة والجاري في الاستعمال أن ما نكر وليها لأن ما في النظم الكريم أبلغ.
وبيانه - على ما قال الكسائي - أن إثبات التحريم يستلزم إثبات محله لا محالة فإذا انتفى محله وهو الموارد الثلاثة لزم انتفاء التحريم على وجه برهاني كأنه وضع الكلام موضع من سلم أن ذلك قد كان ثم طالبه ببيان محل كي يتبين كذبه ويفتضح عند المحاقة ، وإنما لم يورد سبحانه الأمر عقيب تفصيل الأنواع الأربعة بأن يقال : قل الذكور حرم أم الإناث أما اشتملت عليه أرحام الإناث لما في التكرير من المبالغة أيضا في الإلزام والتبكيت.
ونقل الإمام عن المفسرين أنهم قالوا : إن المشركين من أهل الجاهلية كانوا يحرمون بعض الأنعام فاحتج الله سبحانه على إبطال ذلك بأن للضأن والمعز والإبل والبقر ذكرا وأنثى فإن كان قد حرم سبحانه منها الذكر وجب أن يكون كل ذكورها حراما وإن كان حرم جل شأنه الأنثى وجب أن يكون كل إناثها حراما. وإن كان حرم الله تعالى شأنه ما اشتملت عليه أرحام الإناث وجب تحريم الأولاد كلها لأن الأرحام تشتمل على الذكر والإناث.
وتعقبه بأنه بعيد جدا لأن لقائل أن يقول : هب أن هذه الأجناس الأربعة محصورة في الذكور والإناث إلا أنه لا يجب أن تكون علة تحريم ما حكموا بتحريمه محصورة في الذكورة والأنوثة بل علة تحريمها كونها بحيرة أو سائبة أو وصيلة أو غير ذلك من الاعتبارات كما إذا قلنا : إنه تعالى حرم ذبح بعض الحيوانات لأجل الأكل فإذا قيل : إن ذلك الحيوان إن كان قد حرم لكونه ذكرا وجب أن يحرم كل حيوان ذكر. وإن كان قد حرم لكونه أنثى وجب أن يحرم كل حيوان أنثى. ولما لم يكن هذا الكلام لازما عليه فكذا هو الوجه الذي ذكره المفسرون ، ثم ذكر في الآية وجهين من عنده وفيما ذكرنا غني عن نقلهما.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 286
ومن الناس من زعم أن المراد من الاثنين في الضأن والمعز والبقر الأهلي والوحشي وفي الإبل العربي والبختي وهو مما لا ينبغي أن يلتفت إليه. وما روي عن ليث بن سليم لا يدل عليه ، وقول الطبرسي : إنه المروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه كذب لا أصل له وهو شنشنة أعرفها من أخزم ، وقوله سبحانه : أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ تكرير للإفحام والتبكيت ، وأم منقطعة ، والمراد بل أكنتم حاضرين مشاهدين إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ أي أمركم وألزمكم بِهذا التحريم إذ العلم بذلك إما بأن يبعث سبحانه رسولا بخبركم به وإما بأن تشاهدوا الله تعالى وتسمعوا كلامه جل شأنه فيه. والأول مناف لما أنتم عليه لأنكم لا تؤمنون برسول فيتعين المشاهدة والسماع بالنسبة إليكم وذلك محال ففي هذا ما لا يخفى من التهكم بهم.
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فنسب إليه سبحانه تحريم ما لم يحرم ، والمراد به - على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - عمرو بن لحي بن قمئة الذي بحر البحائر وسيب السوائب وتعمد الكذب على الله تعالى ، وقيل : كبراؤهم المقررون لذلك ، وقيل : الكل لاشتراكهم في الافتراء عليه سبحانه وتعالى ، والمراد فأي فريق أظلم ممن إلخ ، واعترض بأن قيد التعمد معتبر في معنى الافتراء. ومن تابع عمرا من الكبراء يحتمل أنه أخطأ في تقليده فلا يكون متعمدا للكذب فلا ينبغي تفسير الموصول به ، والفاء لترتيب ما بعد على ما سبق من تبكيتهم وإظهار كذبهم وافترائهم ، ونصب كَذِباً قيل على المفعولية ، وقيل : على المصدرية من غير لفظ الفعل ، وجعله حالا أي كاذبا جوزه بعض كمل المتأخرين وهو بعيد لا خطأ خلافا لمن زعمه.
لِيُضِلَّ النَّاسَ متعلق بالافتراء بِغَيْرِ عِلْمٍ متعلق بمحذوف وقع حالا من ضمير افْتَرى أي افترى عليه سبحانه جاهلا بصدور التحريم عنه جل شأنه ، وإنما وصف بعدم العلم مع أن المفتري عالم بعدم الصدور إيذانا بخروجه في الظلم عن الحدود والنهايات فإن من افترى عليه سبحانه بغير علم بصدور ذلك عنه جل جلاله مع احتمال صدوره إذا كان في تلك الغاية من الظلم فما الظن بمن افترى وهو يعلم عدم الصدور.
وجوز كونه حالا من فاعل يضل على معنى متلبسا بغير علم بما يؤدي به إليه من العذاب العظيم. وقيل :
معنى الآية عليه أنه عمل عمل القاصد إضلال الناس من أجل دعائهم إلى ما فيه الضلال وإن لم يقصد الإضلال وكان جاهلا بذلك غير عالم به ، وهو ظاهر في أن اللام للعاقبة وله وجه. وجوز أن يكون الجار متعلقا بمحذوف وقع حالا من النَّاسَ وما تقدم أظهر وأبلغ في الذم. واستدل القاضي بالآية على أن الإضلال عن الدين مذموم لا يليق بالله تعالى لأنه سبحانه إذا ذم الإضلال الذي ليس فيه إلا تحريم المباح فالذي هو أعظم منه أولى بالذم ، وفيه أنه ليس كل ما كان مذموما من الخلق كان مذموما من الخالق.
إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ إلى طريق الحق ، وقيل : إلى دار الثواب لاستحقاقهم العقاب واختاره الطبرسي ، وإلى نحوه ذهب القاضي بناء على مذهبه وليس بالبعيد على أصولنا أيضا. وقيل : إلى ما فيه صلاحهم عاجلا وآجلا وهو أتم فائدة وأنسب بحذف المعمول ، ونفي الهداية عن الظالم يستدعي نفيها عن الأظلم من باب أولى قُلْ أمر لرسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم بعد إلزام المشركين وتبكيتهم وبيان أن ما يتقولونه في أمر التحريم افتراء بحت بأن يبين لهم ما حرم عليهم.
وقوله سبحانه : لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً إلخ كناية عن عدم الوجود ، وفيه إيذان بأن طريق التحريم ليس إلا التنصيص من الله تعالى دون التشهي والهوى ، وتنبيه - كما قيل - على أن الأصل في الأشياء الحل ، و

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 287
مُحَرَّماً صفة لمحذوف دل عليه ما بعد وقد قام مقامه بعد حذفه فهو مفعول أول لأجد ومفعوله الثاني فِي ما أُوحِيَ قدم للاهتمام لا لأن المفعول الأول نكرة لأنه نكرة عامة بالنفي فلا يجب تقديم المسند الظرف ، وليس المفعول الأول محذوفا أي لا أجد ريثما تصفحت ما أوحي إلي قرآنا وغيره على ما يشعر به العدول عن أنزل إلى «أوحي» أو ما أوحي إلي من القرآن طعاما محرما من المطاعم التي حرمتموها عَلى طاعِمٍ أي طاعم كان من ذكر أو أنثى ردا على قولهم : مُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وقوله تعالى : يَطْعَمُهُ في موضع الصفة لطاعم جيء به كما في قوله سبحانه : طائِرٍ يَطِيرُ [الأنعام : 38] قطعا للمجاز. وقرىء «يطعمه» بالتشديد وكسر العين ، والأصل يطتعمه فأبدلت التاء طاء وأدغمت فيها الأولى ، والمراد بالطعم تناول الغذاء ، وقد يستعمل طعم في الشراب أيضا كما تقدم الكلام عليه ، والمتبادر هنا الأول ، وقد يراد به مطلق النفع ، ومنه ما في حديث بدر ما قتلنا أحدا به طعم ما قتلنا إلا عجازا صلعا أي قتلنا من لا منفعة له ولا اعتداد به ، وإرادة هذا المعنى هنا بعيد جدا ولم أر من قال به ، نعم قيل : المراد سائر أنواع التناولات من الأكل والشرب وغير ذلك ، ولعل إرادة غير الأكل فيه بطريق القياس ، وكذا حمل الطاعم على الواجد من قولهم : رجل طاعم أي حسن الحال مرزوق وإبقاء يَطْعَمُهُ على ظاهره أي على واجد يأكله فلا يكون الوصف حينئذ لزيادة التقرير على ما أشرنا إليه.
إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذلك الطعام أو الشيء المحرم مَيْتَةً المراد بها ما لم يذبح ذبحا شرعيا فيتناول المنخنقة ونحوها. وقرأ ابن كثير. وحمزة «تكون» بالتاء لتأنيث الخبر. وقرأ ابن عامر وأبو جعفر «يكون ميتة» بالياء ورفع «ميتة». وأبو جعفر يشدد أيضا على أن كان هي التامة أَوْ دَماً عطف على مَيْتَةً أو على أن مع ما في حيزه. وقوله سبحانه : مَسْفُوحاً أي مصبوبا سائلا كالدم في العروق صفة له خرج به الدم الجامد كالكبد والطحال. وفي الحديث «أحلت لنا ميتتان السمك والجراد ودمان الكبد والطحال»
وقد رخص في دم العروق بعد الذبح ، وإلى ذلك ذهب كثير من الفقهاء. وعن عكرمة أنه قال : لولا هذا القيد لا تبع المسلمون من العروق ما اتبع اليهود.
أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ أي اللحم - كما قيل - لأنه المحدث عنه أو الخنزير لأنه الأقرب ذكرا. وذكر اللحم لأنه أعظم ما ينتفع به منه فإذا حرم فغيره بطريق الأولى ، وقيل - وهو خلاف الظاهر - : الضمير لكل من الميتة والدم ولحم الخنزير على معنى فإن المذكور رِجْسٌ أي قدر أو خبيث مخبث أَوْ فِسْقاً عطف على لَحْمَ خِنزِيرٍ على ما اختاره كثير من المعربين وما بينهما اعتراض مقرر للحرمة أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ صفة له موضحة.
وأصل الإهلال رفع الصوت. والمراد الذبح على اسم الأصنام. إنما سمي ذلك فسقا لتوغله في الفسق. وجوز أن يكون فِسْقاً مفعولا له لأهلّ وهو عطف على يَكُونَ وبِهِ قائم مقام الفاعل. والضمير راجع إلى ما رجع إليه المستكن في يَكُونَ.
قال أبو حيان : وهذا إعراب متكلف جدا والنظم عليه خارج عن الفصاحة وغير جائز على قراءة من قرأ «إلا أن يكون ميتة» بالرفع لأن ضمير بِهِ ليس له ما يعود عليه ، ولا يجوز أن يتكلف له موصوف محذوف يعود عليه الضمير أي شيء أهل لغير الله به لأن مثل هذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر اه. وعنى بذلك - كما قال الحلبي - أنه لا يحذف الموصوف والصفة جملة إلا إذا كان في الكلام - من - التبعيضية نحو منا أقام ومنا ظعن أي فريق أقام وفريق ظعن فإن لم يكن فيه - من - كان ضرورة كقوله :
ترمى بكفي كان من أرمى البشر

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 288
أراد بكفي رجل كان إلخ. وهذا - كما حقق في موضعه - رأي بعض ، وأما غيره فيقول : متى دل دليل على الموصوف حذف مطلقا فيجوز أن يرى المجوز هذا الرأي ومنعه من حيث رفع الميتة - كما قال السفاقسي - فيه نظر لأن الضمير يعود على ما يعود عليه بتقدير النصب والرفع لا يمنع من ذلك ، نعم الإعراب الأول أولى كما لا يخفى فَمَنِ اضْطُرَّ أي أصابته الضرورة الداعية إلى تناول شيء من ذلك غَيْرَ باغٍ أي طالب ما ليس له طلبه بأن يأخذ ذلك من مضطر آخر مثله. وإلى هذا ذهب كثير من المفسرين.
وقال الحسن : أي غير متناول للذة وقال مجاهد : غَيْرَ باغٍ على إمام وَلا عادٍ أي متجاوز قدر الضرورة فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ مبالغ في المغفرة والرحمة لا يؤاخذه بذلك. وهذا جزاء الشرط لكن باعتبار لازم معناه وهو عدم المؤاخذة. وبعضهم قال بتقدير جزاء يكون هذا تعليلا له ولا حاجة إليه.
ونصب غَيْرَ على أنه حال. وكذا ما عطف عليه. وليس التقييد بالحال الأولى لبيان أنه لو لم يوجد القيد بالمعنى السابق لتحققت الحرمة المبحوث عنها بل للتحذير من حرام آخر وهو أخذه حق مضطر آخر فإن من أخذ لحم ميتة مثلا من مضطر آخر فأكله فإن حرمته ليست باعتبار كونه لحم الميتة بل باعتبار كونه حقا للمضطر الآخر. وأما الحال الثانية فلتحقيق زوال الحرمة المبحوث عنها قطعا فإن التجاوز عن القدر الذي يسد به الرمق حرام من حيث إنه لحم الميتة.
وفي التعرض لوصفي المغفرة والرحمة إيذان بأن المعصية باقية لكن الله تعالى يغفر له ويرحمه. وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر ولا تغفل. واستشكلت هذه الآية بأنها حصرت المحرمات من المطعومات في أربعة : الميتة ، والدم المسفوح ، ولحم الخنزير ، والفسق الذي أهلّ لغير الله تعالى به ، ولا شك أنها أكثر من ذلك. وأجيب بأن المعنى لا أجد محرما مما كان أهل الجاهلية يحرمونه من البحائر والسوائب كما أشرنا إليه. وحينئذ يكون استثناء الأربعة منه منقطعا أي لا أجد ما حرموه لكن أجد الأربعة محرمة. وهذا لا دلالة فيه على الحصر. والاستثناء المنقطع ليس كالمتصل في الحصر كما نبهوا عليه وهو مما ينبغي التنبه له.
فإن قلت : المستثنى ليس مَيْتَةً بل كونه ميتة وذلك ليس من جنس الطعام فيكون الاستثناء منقطعا لا محالة فلا حاجة إلى ذلك التقييد. قال القطب : نعم كذلك إلا أن المقصود إخراج الميتة من الطعام المحرم يعني لا أجد محرما إلا الميتة فلولا التقييد كان في الحقيقة استثناء متصلا وورد الأشكال. وضعف ذلك الجواب بأوجه. منها أنه تعالى قال في سورة البقرة وفي سورة [النحل : 115] : إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وإنما تفيد الحصر ، وقال سبحانه في سورة [المائدة : 1] : أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ وأجمع المفسرون على أن المراد بقوله عز وجل : إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ قوله تعالى : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [المائدة : 3] وأما المنخنقة والموقوذة وغيرهما فهي أقسام الميتة. وإنما أعيدت بالذكر لأنهم كانوا يحكمون عليها بالتحليل فالآيتان تدلان على أن لا محرم إلا الأربعة وحينئذ يجب القول بدلالة الآية التي نحن بصددها على الحصر لتطابق ذلك وأن لا تقييد مع أن الأصل عدم التقييد.
وأجيب عن الإشكال بأن الآية إنما تدل على أنه عليه الصلاة والسلام لم يجد فيما أوحي إليه إلى تلك الغاية محرما غير ما نص عليه فيها وذلك لا ينافي ورود التحريم في شيء آخر قيل : وحينئذ يكون الاستثناء من أعم الأوقات أو أعم الأحوال مفرغا بمعنى لا أجد شيئا من المطاعم محرما في وقت من الأوقات أو حال من الأحوال إلا في وقت أو

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 289
حال كون الطعام أحد الأربعة فإني أجد حينئذ محرما فالمصدر «1» المتحصل من أن يكون للزمان أو الهيئة. واعترض الإمام هذا الجواب بأن ما يدل على الحصر من الآيات نزل بعد استقرار الشريعة فيدل على أن الحكم الثابت في الشريعة المحمدية من أولها إلى آخرها ليس إلا حصر المحرمات في هذه الأشياء وبأنه لما ثبت بمقتضى ذلك حصر المحرمات في الأربعة كان هذا اعترافا بحل ما سواها والقول بتحريم شيء خامس يكون نسخا. ولا شك أن مدار الشريعة على أن الأصل عدم النسخ لأنه لو كان احتمال طريان النسخ معادلا لاحتمال بقاء الحكم على ما كان فحينئذ لا يمكن التمسك بشيء من النصوص في إثبات شيء من الأحكام لاحتمال أن يقال : إنه وإن كان ثابتا إلا أنه زال. وما قيل في الاستثناء يرد عليه أن المصدر المؤول من أن والفعل لا ينصب على الظرفية ولا يقع حالا لأنه معرفة. وبعضهم قال لاتصال الاستثناء : إن التقدير إلا الموصوف بأن يكون أحد الأربعة على أنه بدل من مُحَرَّماً وفيه تكلف ظاهر ، وقيل التقدير على قراءة الرفع إلا وجود ميتة. والإضافة فيه من إضافة الصفة إلى الموصوف أي ميتة موجودة.
وأجيب أيضا عن الإشكال بأن الآية وإن دلت على الحصر إلا أنا نخصصها بالأخبار. وتعقبه الإمام أيضا بأن هذا ليس من باب التخصيص بل هو صريح النسخ لأنها لما كان معناها أن لا محرم سوى الأربعة فإثبات محرم آخر قول بأن الأمر ليس كذلك وهو رفع للحصر ونسخ القرآن بخبر الواحد غير جائز. وأجاب عن ذلك القطب الرازي بأنه لا معنى للحصر هاهنا إلا أن الأربعة محرمة وما عداها ليس بمحرم وهذا عام فإثبات محرم آخر تخصيص لهذا العام وتخصيص العام بخبر الواحد جائز. وقد احتج بظاهر الآية كثير من السلف فأباحوا ما عدا المذكور فيها فمن ذلك الحمر الأهلية. أخرج البخاري عن عمرو بن دينار قلت لجابر بن عبد الله : إنهم يزعمون أن رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر فقال : قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو عن رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم ولكن أبى ذلك البحر - يعني ابن عباس - وقرأ قل لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ الآية.
وأخرج أبو داود عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن أكل القنفذ فقرأ الآية ، وأخرج ابن أبي حاتم وغيره بسند صحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت إذا سئلت عن كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير قالت : قُلْ لا أَجِدُ إلخ. وأخرج عن ابن عباس قال : ليس من الدواب شيء حرام إلا ما حرم الله تعالى في كتابه قُلْ لا أَجِدُ الآية. وقوى الإمام الرازي القول بالظاهر فإنه قال بعد كلام. فثبت بالتقرير الذي ذكرناه قوة هذا الكلام وصحة هذا المذهب وهو الذي كان يقول به مالك بن أنس ثم قال : ومن السؤالات الصعبة أن كثيرا من الفقهاء خصوا عموم هذه الآية بما نقل
أنه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «ما استخبثته العرب فهو حرام»
وقد علم أن الذي تستخبثه غير مضبوط
فسيد العرب بل سيد العالمين عليه الصلاة والسلام لما رآهم يأكلون الضب قال : «يعافه طبعي»
ولم يكن ذلك سببا لتحريمه. وأما سائر العرب ففيهم من لا يستقذر شيئا وقد يختلفون في بعض الأشياء فيستقذرها قوم ويستطيبها آخرون فعلم أن أمر الاستقذار غير مضبوط بل هو مختلف باختلاف الأشخاص والأحوال فكيف يجوز نسخ هذا النص القاطع بذلك الأمر الذي ليس له ضابط معين ولا قانون معلوم انتهى. ولا يخفى ما فيه.
واستدل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بقوله سبحانه : عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ على أنه إنما حرم من الميتة أكلها وأن جلدها يطهر بالدبغ ،
أخرج أحمد وغيره عن ابن عباس قال : ماتت شاة لسودة بنت زمعة فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «لو أخذتم مسكها فقالت نأخذ مسك شاة قد ماتت؟ فقال عليه الصلاة والسلام : إنما قال الله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما
___________
(1) قوله فالمصدر المتحصل من ان يكون إلخ كذا بخطه ولعله من ان يكون إلخ.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 290
على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة وإنكم لا تطعمونه إن تدبغوه تنتفعوا به».
واستدل الشافعية بقوله سبحانه : فَإِنَّهُ رِجْسٌ على نجاسة الخنزير بناء على عود الضمير على خنزير لأنه أقرب مذكور وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا أي اليهود خاصة لا على من عداهم من الأولين والآخرين حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ أي ما ليس منفرج الأصابع كالإبل ، والنعام ، والإوز ، والبط قاله ابن عباس ، وابن جبير وقتادة ، ومجاهد ، والسدي وعن ابن زيد أنه الإبل فقط. وقال الجبائي : يدخل فيه كل السباع والكلاب ، والسنانير ، وما يصطاد بظفره ، وعن القتبي. والبلخي أنه ذو المخلب من الطير وذو الحافر من الدواب وسمي الحافر ظفرا مجازا. واستبعد ذلك الإمام ، ولعل المسبب عن الظلم هو تعميم التحريم لأن البعض كان حراما قبله.
ويحتمل أن يراد كل ذي ظفر حلال بقرينة حَرَّمْنا وهذا - كما قيل - تحقيق لما سلف من حصر المحرمات فيها فصل بإبطال ما يخلفه من فرية اليهود وتكذيبهم في ذلك فإنهم كانوا يقولون : لسنا أول من حرمت عليه وإنما كانت محرمة على نوح ، وإبراهيم ، ومن بعدهما عليهم السلام حتى انتهى التحريم إلينا ، وقال بعض المحققين : إن ذلك تتميم لما قبله لأن فيه رفع أنه تعالى حرم على اليهود جميع هذه الأمور فكذلك حرم البحيرة والسائبة ونحوهما بأن ذلك كان على اليهود خاصة غضبا عليهم : وقرأ الحسن «ظفر» بكسر الظاء وسكون الفاء. وقرأ أبو السماك بكسرهما. وقرىء كما قال أبو البقاء «ظفر» بضم الظاء وسكون الفاء.
وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما لا لحومهما فإنها باقية على الحل ، والمراد بالشحوم ما يكون على الأمعاء والكرش من الشحم الرقيق وشحوم الكلى. وقيل : هو عام استثني منه ما سيأتي. ومِنَ الْبَقَرِ متعلق بحرمنا بعده. وكان يكفي حينئذ أن يقال : الشحوم لكنه أضيف لزيادة الربط والتأكيد كما يقال : أخذت من زيد ماله وهو متعارف في كلامهم ، وجوز أبو البقاء - وظاهر صنيعه اختياره مع أنه خلاف الظاهر - أن مِنَ الْبَقَرِ عطف على كُلَّ ذِي ظُفُرٍ على معنى وبعض البقر وجعل حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما تبيينا للمحرم من ذلك وحينئذ الإضافة للربط المحتاج إليه.
إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما
أي ما علق بظهورهما. والاستثناء منقطع أو متصل من الشحوم. وإلى الانقطاع ذهب الإمام الأعظم رضي اللّه تعالى عنه فقد نقل عنه لو حلف لا يأكل شحما يحنث بشحم البطن فقط وخالفه في ذلك صاحباه فقالا : يحنث بشحم الظهر أيضا لأنه شحم وفيه خاصية الذوب بالنار. وأيد ذلك بهذا الاستثناء بناء على أن الأصل فيه الاتصال. وللإمام رضي الله تعالى عنه أنه لحم حقيقة لأنه ينشأ من الدم ويستعمل كاللحم في اتخاذ الطعام والقلايا ويؤكل كاللحم ولا يفعل ذلك بالشحم ولهذا يحنث بأكله لو حلف لا يأكل لحما وبائعه يسمى لحاما لا شحاما. والاتصال وإن كان أصلا في الاستثناء إلا أن هنا ما يدل على الانقطاع وهو قوله تعالى : أَوِ الْحَوايا فإنه عطف على المستثنى وليس بشحم بل هو بمعنى المباعر كما روي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وغيرهما أو المرابض وهي نبات اللبن كما روي عن ابن زيد أو المصارين والأمعاء كما قال غير واحد من أهل اللغة. وللقائل بالاتصال أن يقول : العطف على تقدير مضاف أي شحوم الحوايا أو يؤول ذلك بما حمله الحوايا من شحم على أنه يجوز أن يفسر الْحَوايا بما اشتملت عليه الأمعاء لأنه من حواه بمعنى اشتمل عليه فيطلق على الشحم الملتف على الأمعاء. وجوز غير واحد أن يكون العطف على ظُهُورُهُما وأن يكون على شُحُومَهُما وحينئذ يكون ما ذكر محرما وإليه ذهب بعض السلف. وهو يعطف قوله تعالى : أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ وهو شحم الألية لاتصالها بالعصعص ، وقيل : هو المخ ولا يقول أحد إنه شحم عليه ويقول بتحريمه أيضا. والْحَوايا قيل جمع حاوية كزاوية وزوايا ووزنه فواعل

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 291
وأصله حواوي فقلبت الواو التي هي عين الكلمة همزة لأنها ثاني حرفي لين اكتنفا مدة مفاعل ثم قلبت الهمزة المكسورة ياء ثم فتحت لثقل الكسرة على الياء فقلبت الياء الأخيرة ألفا لتحركها بعد فتحة فصارت حوايا أو قلبت الواو همزة مفتوحة ثم الياء الأخيرة إلفا ثم الهمزة ياء لوقوعها بين ألفين كما فعل بخطايا وقيل : جمع حاوياء كقاصعاء وقواصع ووزنه فواعل أيضا وإعلاله كما علمت ، وقيل : جمع حوية كظريفة وظرائف ووزنه فعائل وأصله حوائي فقلبت الهمزة ياء مفتوحة والياء التي هي لام الفا فصار حوايا.
وجوز الفارسي أن يكون جمعا لكل واحد من هذه الثلاثة وقد سمع في مفرده أيضا. وأَوِ بمعنى الواو.
وقال أبو البقاء لتفصيل مذاهبهم نظيرها في قوله تعالى : وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة : 135] وقال الزجاج : هي فيما إذا كان العطف على الشحوم للإباحة كما في قوله تعالى : وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الإنسان : 24] أي كل هؤلاء أهل أن يعصى فاعص هذا أو اعص هذا. وأَوِ بليغة في هذا المعنى لأنك إذا قلت : لا تطع زيدا وعمرا فجائز أن تكون نهيت عن طاعتهما معا فإن أطيع زيد على حدته لم يكن معصية فإذا قلت : لا تطع زيدا أو عمرا أو خالدا كان المعنى هؤلاء كلهم أهل أن لا يطاع فلا تطع واحدا منهم ولا تطع الجماعة ، ومنه جالس الحسن أو ابن سيرين أو الشعبي فليس المعنى الأمر بمجالسة واحد منهم كلهم أهل أن يجالس فإن جالست واحدا منهم فأنت مصيب وإن جالست الجماعة فأنت مصيب. واختاره العلامة الثاني وقال : الوجه أن يقال إن كلمة أَوِ في العطف على المستثنى من قبيل جالس الحسن أو ابن سيرين كما في العطف على المستثنى منه يعني أنها لإفادة التساوي في الكل فيحرم الكل. وتحقيقه أن مرجع التحريم إلى النهي كأنه قيل لا تأكلوا أحد الثلاثة وهو معنى العموم ، وهذا مراد الزمخشري فيما نقل عنه من أن الجملة لما دخلت في حكم التحريم فوجه العطف بحرف التخيير أنها بليغة بهذا المعنى ثم قال : وبهذا يتبين فساد ما يتوهم أنه يريد أنه على تقدير العطف على المستثنى منه يكون المعنى حرمنا عليهم شحومهما أو حرمنا عليهم الحوايا أو حرمنا عليهم ما اختلط بعظم فيجوز لهم ترك أيها كان وأكل الآخرين وادعى أن الظاهر أن مثل هذا وإن كان جائزا فليس من الشرع أن يحرم أو يحلل واحد مبهم من أمور معينة وإنما ذلك في الواجب فقط.
وهذه الدعوى من العجب فإن الحرام المخير والمباح المخير مما صرح به الفقهاء وأهل الأصول قاطبة ويحتاج الأمر إلى إمعان نظر فليمعن ، وذكر الطيبي في حاصل كلام بعض المحققين في «أو» هنا أنك إذا عطفت على الشحوم دخلت الثلاثة تحت حكم النفي فيحرم الكل سوى ما استثني منه وإذا عطفت على المستثنى لم يحرم سوى الشحوم وأَوِ على الوجه الأول للإباحة وعلى الثاني للتنويع ذلِكَ إشارة إلى الجزاء أو التحريم : فهو على الأول نصب على أنه مصدر مؤكد لما بعده. وعلى الثاني على أنه مفعول ثان له أي ذلك التحريم جَزَيْناهُمْ وجزى يتعدى بالباء وبنفسه كما ذكره الراغب وغيره. وما نقل عن ابن مالك أن اسم الإشارة لا ينتصب مشارا به إلى المصدر إلا ويتبع بالمصدر نحو قمت هذا القيام وقعدت ذلك القعود ولا يجوز قمت هذا ولا قعدت ذاك رده أبو حيان والحلبي وصححا ورود اسم الإشارة مشارا به إلى المصدر غير متبوع به.
وجوز كون ذلك خبر مبتدأ مقدر أي الأمر ذلك أو مبتدأ خبره ما بعده والعائد محذوف أي جزيناهم إياه بِبَغْيِهِمْ أي بسبب ظلمهم وهو قتلهم الأنبياء بغير حق وأكلهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل.
وكانوا كلما أتوا بمعصية عوقبوا بتحريم شيء مما أحل لهم وهم ينكرون ذلك ويدعون أنها لم تزل محرمة على الأمم.
وقيل : المراد ببغيهم على فقرائهم بناء على ما نقل علي بن ابراهيم في تفسيره أن ملوك بني إسرائيل كانوا يمنعون فقراءهم من أكل لحوم الطير والشحوم فحرم الله تعالى عليهم ذلك بسبب هذا المنع وهو تابع للمصلحة أيضا. ولا بعد

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 292
في أن يكون المنع من الانتفاع لمزيد استحقاق الثواب وأن يكون لجرم متقدم وَإِنَّا لَصادِقُونَ في جميع أخبارنا التي من جملتها الأخبار بالتحريم وبالبغي. وعد منها - واقتصر عليهم بعضهم - الوعد والوعيد.
وقوى الإمام بهذه الآية ما ذهب إليه الإمام مالك ، وكثير من السلف وهو القول بما يقتضيه ظاهر الآية السابقة من حل ما عدا الأربعة المذكورة فيها. وذلك أنه أوجب حمل الظفر على المخلب لبعد حمله على الحافر لوجهين : الأول أن الحافر لا يكاد يسمى ظفرا. والثاني أن الأمر لو كان كذلك لوجب أن يقال : إنه تعالى حرم عليهم كل حيوان له حافر وهو باطل لأن الآية تدل على أن الغنم والبقر مباحان لهم مع حصول الحافر لهم وإذا وجب حمله على المخلب.
والآية تفيد تخصيص هذه الحرمة باليهود كما أشرنا إليه من وجهين. الأول إفادة التركيب الحصر لغة ، والثاني أنها لو كانت ثابتة في حق الكل لم يبق للاقتصار على ذكرهم فائدة ووجب أن لا تكون السباع. وذوات المخلب من الطير محرمة على المسلمين بل يكون تحريمها مختصا باليهود. وحينئذ فما
روي أنه صلّى اللّه عليه وسلّم حرم كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير
ضعيف لأنه خبر واحد على خلاف كتاب الله تعالى فلا يكون مقبولا فيتقرر قول الجماعة السابق وفيه نظر لا يخفى فتدبر فَإِنْ كَذَّبُوكَ أي اليهود كما قال مجاهد ، والسدي ، وغيرهما وهو الذي يقتضيه الظاهر لأنهم أقرب ذكرا ولذكر المشركين بعد بعنوان الإشراك ، وقيل : الضمير للمشركين فالمعنى على الأول إن كذلك اليهود في الحكم المذكور وأصروا على ما كانوا عليه من ادعاء قدم التحريم فَقُلْ لهم رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ عظيمة واسِعَةٍ لا يؤاخذكم بكل ما تأتونه من المعاصي ويمهلكم على بعضها وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ أي لا يدفع عذابه بالكلية عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ فلا تنكروا ما وقع منه تعالى من تحريم بعض الطيبات عليكم عقوبة وتشديدا.
وعلى الثاني فإن كذبك المشركون فيما فصل من أحكام التحليل والتحريم فقل لهم : ربكم ذو رحمة واسعة ولا يعاجلكم بالعقوبة على تكذيبكم فلا تغتروا بذلك فإنه إمهال لا إهمال.
وقيل : يحتمل أن يكون المراد أنه تعالى ذو رحمة واسعة فهو يرحمني بتوفيق كثير لتصديقي فلا يضرني تكذيبكم ويضركم لأنه لا يرد بأسه عن المجرمين المكذبين أو سيرحمني بالانتقام منكم ولا يرد بأسه عنكم وفيه بعد ، وقيل : المراد ذو رحمة للمطيعين وذو بأس شديد على المجرمين فأقيم مقامه قوله تعالى : وَلا يُرَدُّ إلخ لتضمنه التنبيه على إنزال البأس عليهم مع الدلالة أنه لاحق بهم البتة من غير صارف يصرفه عنهم أصلا.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 148 إلى 165]
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)
وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162)
لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 293
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا حكاية لفن آخر من أباطيلهم والأخبار قبل وقوعه ثم وقوعه حسبما أخبر كما يحكيه قوله تعالى عند وقوعه : وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [النحل : 35] صريح في أنه من عند الله تعالى ، وقد نص غير واحد على أن وقوع ما أخبر الله تعالى به من المغيبات من وجوه الإعجاز لكلامه ولم يكن الإعجاز به فقط كما في قوله مضعف لَوْ شاءَ اللَّهُ عدم إشراكنا وعدم تحريمنا شيئا ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ لم يريدوا بهذا الكلام الاعتذار عن ارتكاب القبيح إذ لم يعتقدوا قبح أفعالهم وهي أفعى لهم بل هم كما نطقت به الآيات يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الكهف : 104] وأنهم إنما يعبدون الأصنام ليقربوهم

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 294
إلى الله زلفى وأن التحريم إنما كان من الله عز وجل فما مرادهم بذلك إلا الاحتجاج على أن ما ارتكبوه حق ومشروع ومرضي عند الله تعالى بناء على أن المشيئة والإرادة تساوق الأمر وتستلزم الرضا كما زعمت المعتزلة فيكون حاصل كلامهم أن ما نرتكبه من الشرك والتحريم وغيرهما تعلقت به مشيئة الله تعالى وإرادته وكل ما تعلق به مشيئته سبحانه وإرادته فهو مشروع ومرضي عنده عز وجل فينتج أن ما نرتكبه من الشرك والتحريم مشروع ومرضي عند الله تعالى.
وبعد أن حكى سبحانه ذلك عنهم رد عليهم بقوله عز من قائل : كَذلِكَ أي مثل ما كذب هؤلاء كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وهم أسلافهم المشركون. وحاصله أن كلامهم يتضمن تكذيب الرسل عليهم السلام وقد دلت المعجزة على صدقهم. ولا يخفى أن المقدمة الأولى لا تكذيب فيها نفسها بل هي متضمنة لتصديق ما تطابق فيه العقل والشرع من كون كل كائن بمشيئة الله تعالى وامتناع أن يجري في ملكه خلاف ما يشاء. فمنشأ التكذيب هو المقدمة الثانية لأن الرسل عليهم السلام يدعونهم إلى التوحيد ويقولون لهم : إن الله تعالى لا يرضى لعباده الكفر دينا ولا يأمر بالفحشاء فيكون قولهم : إن ما نرتكبه مشروع مرضي عنده تعالى تكذيب لهذا القول ، وحيث كان فساد هذه الحجة باعتبار المقدمة الثانية تعين أنها ليست بصادقة وحينئذ يصدق نقيضها وهي أنه ليس كل ما تعلقت به المشيئة والإرادة بمشروع ومرضي عنده سبحانه بناء على أن الإرادة لا تساوق الأمر والرضا على ما هو مذهب أهل السنة إذ المشيئة ترجح بعض الممكنات على بعض مأمورا كان أو منهيا حسنا كان أو قبيحا. وعلى هذا فلا حجة في الآية للمعتزلة بل قد انقلب الأمر فصارت الآية حجة لنا عليهم لأنهم لم يفرقوا بين المأمور والمراد واعتقدوا كالمشركين بأن كل مراد مأمور ومرضي ، ويجوز أيضا أن يقال مقصود المشركين من قولهم ذلك : رد دعوة الأنبياء عليهم السلام ورفع البعثة والتكليف وهو المذكور في كثير من الكتب الكلامية.
وحاصله حينئذ أن ما شاء الله تعالى يجب وما لم يشأ يمتنع وكل ما هذا شأنه فلا يكلف به لكونه مشروطا بالاستطاعة فينتج أن ما نرتكبه من الشرك وغيره لم نكلف بتركه ولم يبعث له نبي فرد الله تعالى عليهم بأن هذه كلمة صدق أريد بها باطل لأنهم أرادوا بها أن الرسل عليهم السلام في دعواهم البعثة والتكليف كاذبون وقد ثبت صدقهم بالدلائل القطعية ولكون ذلك صدقا أريد به باطل ذمهم الله تعالى بالتكذيب ، ووجوب وقوع متعلق المشيئة لا ينافي صدق دعوى البعثة والتكليف لأنها لإظهار المحجة وإبلاغ الحجة.
وسيأتي توجيه آخر إن شاء اللّه تعالى قريبا للآية.
وعطف آباؤُنا على الضمير المرفوع في أَشْرَكْنا وساغ ذلك عند البصريين وإن لم يؤكد الضمير لأنه يكفي عندهم أي فاصل كان ، وقد فصل بلا هاهنا ، والكوفيون لا يشترطون في ذلك شيئا ويستدلون بما هنا ولا يعتبرون هذا الفصل لأنه ينبغي أن يتقدم حرف العطف ليدفع الهجنة ولا يكفي عندهم الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه ، وتوقف أبو علي في كفاية الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه وإن لم يفصل حرف العطف. وادعى الإمام أن في الكلام تقديرا لأن النفي لا يصرف إلى ذوات الآباء بل يجب صرفه إلى فعل صدر منهم وذلك هو الإشراك فيكون التقدير ما أشركنا ولا أشرك آباؤنا وحينئذ فلا إشكال. حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا أي نالوا عذابنا الذي أنزلناه عليهم بتكذيبهم ، وفيه - على ما قيل - إيماء إلى أن لهم عذابا مدخرا عند الله تعالى لأن الذوق أول إدراك الشيء.
قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ أي من أمر معلوم يصح الاحتجاج به على زعمكم فَتُخْرِجُوهُ أي فتظهروه لَنا على أتم وجه وأوضح بيان ، وقيل : المراد هل لكم من اعتقاد ثابت مطابق فيما ادعيتهم أن الإشراك وسائر ما أنتم عليه مرضي لله تعالى فتظهروه لنا بالبرهان ، وجعل إمام الحرمين في الإرشاد هذا وما بعده دليلا على أن المشركين إنما استوجبوا التوبيخ على قولهم ذلك لأنهم كانوا يهزؤون بالدين ويبغون رد دعوة الأنبياء عليهم السلام حيث قرع

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 295
مسامعهم من شرائع الرسل عليهم السلام تفويض الأمور إليه سبحانه فحين طالبوهم بالإسلام والتزام الأحكام احتجوا عليهم بما أخذوه من كلامهم مستهزئين بهم عليهم الصلاة والسلام ولم يكن غرضهم ذكر ما ينطوي عليه عقدهم كيف لا والإيمان بصفات الله تعالى فرع الإيمان به عز شأنه وهو عنهم مناط العيوق.
إِنْ تَتَّبِعُونَ أي ما تتبعون في ذلك إِلَّا الظَّنَّ الباطل الذي لا يغني من الحق شيئا أو المراد إن عادتكم وجل أمركم أنكم لا تتبعون إلا الظن وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ تكذبون على الله تعالى ، وقد تقدم الكلام في حكم اتباع الظن على التفصيل فتذكر قُلْ فَلِلَّهِ خاصة الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ أي البينة الواضحة التي بلغت غاية المتانة والقوة على الإثبات أو بلغ بها صاحبها صحة دعواه كعيشة راضية ، والمراد بها في المشهور الكتاب والرسول والبيان ، وقال شيخ مشايخنا الكوراني : الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ إشارة إلى أن العلم تابع للمعلوم وأن إرادة الله تعالى متعلقة بإظهار ما اقتضاه استعداد المعلوم في نفسه مراعاة للحكمة جودا ورحمة لا وجوبا. وهي من الحج بمعنى القصد كأنها يقصد به إثبات الحكم وتطلبه أو بمعنى الغلبة وهو المشهور ، والفاء جواب شرط محذوف أي إذا ظهر أن لا حجة لكم قل فلله الحجة فَلَوْ شاءَ هدايتكم جميعا لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ بالتوفيق لها والحمل عليها ولكن شاء هداية البعض الصارفين اختيارهم إلى سلوك طريق الحق وضلال آخرين صرفوه إلى خلاف ذلك.
وقال الكوراني : المراد لكنه لم يشأ إذ لم يعلم أن لكم هداية يقتضيها استعدادكم بل المعلوم له عدم هدايتكم وهو مقتضى استعدادكم الأزلي الغير المجعول. وهذا تحقيق للحق ولا ينافي ما في صدر الآية لما علمت من مرادهم به ، وفائدة إرسال الرسل على القول بالاستعداد تحريك الدواعي للفعل والترك باختيار المكلف الناشئ من ذلك الاستعداد وقطع اعتذار الظالمين ، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل فتذكر. وذكر ابن المنير وجها آخر في توجيه ما في الآية وهو أن الرد عليهم إنما كان لاعتقادهم أنهم مسلوبون اختيارهم وقدرتهم وأن إشراكهم إنما صدر منهم على وجه الاضطرار وزعموا أنهم يقيمون الحجة على الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام بذلك فرد الله تعالى قولهم في دعواهم عدم الاختيار لأنفسهم وشبهتهم بمن اغتر قبلهم بهذا الخيال فكذب الرسل وأشرك بالله عز وجل واعتمد على أنه إنما يفعل ذلك بمشيئة الله تعالى ورام إفحام الرسل بهذه الشبهة ، ثم بين سبحانه أنهم لا حجة لهم في ذلك وأن الحجة البالغة له جل وعلا لا لهم ، ثم أوضح سبحانه أن كل واقع ، واقع بمشيئته وأنه لم يشأ منهم إلا ما صدر عنهم وأنه تعالى لو شاء منهم الهداية لاهتدوا أجمعون.
المقصود من ذلك أن يتمحض وجه الرد عليهم ويتخلص عقيدة نفوذ المشيئة وعموم تعلقها بكل كائن عن الرد وينصرف الرد إلى دعواهم سلب الاختيار لأنفسهم وإن أقامتهم الحجة بذلك خاصة ، وإذا تدبرت الآية وجدت صدرها دافعا بصدور الجبرية وعجزها معجزا للمعتزلة إذ الأول مثبت أن للعبد اختيارا وقدرة على وجه يقطع حجته وعذره في المخالفة والعصيان. والثاني مثبت نفوذ مشيئة الله تعالى في العبد وأن جميع أفعاله على وفق المشيئة الإلهية ، وبذلك تقوم الحجة البالغة لأهل السنة على المعتزلة والحمد لله رب العالمين.
ووجه القطب الآية بأن مرادهم رد دعوة الأنبياء عليهم السلام على معنى أن الله تعالى شاء شركنا وأراده منا وأنتم تخالفون إرادته حيث تدعونا إلى الإيمان فوبخهم سبحانه بوجوه عد منها قوله سبحانه : فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فإنه بتقدير الشرط أي إذا كان الأمر كما زعمتم فلله الحجة.
وقوله سبحانه : فَلَوْ شاءَ إلخ بدل منه على سبيل البيان أي لو شاء لدل كلا منكم ومن مخالفيكم على دينه فلو كان الأمر كما تزعمون لكان الإسلام أيضا بالمشيئة فيجب أن لا تمنعوا المسلمين من الإسلام كما وجب

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 296
بزعمكم أن لا يمنعكم الأنبياء عن الشرك فيلزمكم أن لا يكون بينكم وبين المسلمين مخالفة ومعاداة بل موافقة وموالاة ، ثم قال : وربما يوجه هذا الاحتجاج بأن ما خالف مذهبكم من النخل يجب أن يكون عندكم حقا لأنه بمشيئة الله تعالى فيلزم تصحيح الأديان المتناقضة ، وفيه منع لأن الصحة إنما تكون بالجريان على منهج الشرع ولا يلزم من تعليق مشيئته تعالى بشيء جريان ذلك عليه ، ولا يخفى أن التوجيه الأول كهذا التوجيه لا يخلو عن دغدغة فتدبر قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ أي احضروهم للشهادة وهو اسم فعل لا يتصرف عند أهل الحجاز وفعل يؤنث ويثنى ويجمع عند بني تميم. وهو مبني على ما اشتهر من أن ما ذكر من خصائص الأفعال.
وعن أبي علي الفارسي أن الضمائر قد تتصل بالكلمة وهي حرف كليس أو اسم فعل كهات لمناسبتها للأفعال.
وعلى هذا تكون هَلُمَّ اسم فعل مطلقا كما في شرح التسهيل وعليه الرضي حيث قال : وبنو تميم يصرفونه فيذكرونه ويؤنثونه ويجمعونه نظرا إلى أصله. وأصله عند البصريين هالم من لم إذا قصد حذفت الألف لتقدير السكون في اللام لأن أصله المم وعند الكوفيين هل أم فنقلت ضمة الهمزة إلى اللام وحذفت كما هو القياس ، واستبعد بأن هل لا تدخل الأمر. ودفع بما نقله الرضي عنهم من أن أصل هل أم هلا أم وهلا كلمة استعجال بمعنى أسرع فغير إلى هل لتخفيف التركيب ثم فعل به ما فعل. ويكون متعديا بمعنى احضر وائت ولازما بمعنى أقبل كما في قوله تعالى : هَلُمَّ إِلَيْنا [الأحزاب : 18] الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا وهم كبراؤهم الذين أسسوا ضلالهم. والمقصود من إحضارهم تفضيحهم وإلزامهم وإظهار أن لا متمسك لهم كمقلديهم ولذلك قيد الشهداء بالإضافة ووصفوا بما يدل على أنهم شهداء معرفون بالشهادة لهم وبنصر مذهبهم. وهذا إشارة إلى ما حرموه من الأنعام على ما حكته الآيات السابقة.
وقال مجاهد : إشارة إلى البحائر والسوائب فَإِنْ شَهِدُوا أي أولئك الشهداء المعرفون بالباطل بعد ما حضروا بأن الله حرم هذا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ أي فلا تصدقهم فإنه كذب بحت وبين لهم فساده لأن تسليمه منهم موافقة لهم في الشهادة الباطلة والسكوت قد يشعر بالرضا ، وإرادة هذا المعنى من «لا تشهد» إما على سبيل الاستعارة التبعية أو المجاز المرسل من ذكر اللازم وإرادة الملزوم لأن الشهادة من لوازم التسليم أو الكناية أو هو من باب المشاكلة ، ومن الناس من زعم أن ضمير شَهِدُوا للمشركين أي فإن لم يجدوا شاهدا يشهد بذلك فشهدوا بأنفسهم لأنفسهم فلا تشهد وهو في غاية البعد ، وأبعد منه بل هو للفساد أقرب قول من زعم أن المراد هلم شهداءكم من غيركم فإن لم يجدوا ذلك لأن غير العرب لا يحرمون ما ذكر وشهدوا بأنفسهم فلا تصدقهم وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا من وضع المظهر موضع المضمر للإيماء إلى أن مكذب الآيات متبع الهوى لا غير وأن متبع الحجة لا يكون إلا مصدقا بها ، والخطاب - قيل - لكل من يصلح له. وقيل : لسيد المخاطبين والمراد أمته.
وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ كعبدة الأوثان عطف على الموصول الأول بطريق عطف الصفة على الصفة مع اتحاد الموصوف فإن من يكذب بآياته تعالى لا يؤمن بالآخرة وبالعكس ، وزعم بعضهم أن المراد بالموصول الأول المكذبون مع الإقرار بالآخرة كأهل الكتابين وبالموصول الثاني المكذبون مع إنكار الآخرة ولا يخفى ما فيه وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ أي يجعلون له عديلا أي شريكا فهو كقوله تعالى : هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل : 100] وقيل :
يعدلون بأفعاله عنه سبحانه وينسبونها إلى غيره عز وجل ، وقيل : يَعْدِلُونَ بعبادتهم عنه تعالى ، والجملة عطف على لا يُؤْمِنُونَ والمعنى لا تتبع الذين يجمعون بين التكذيب بالآيات والكفر بالآخرة والإشراك بربهم عز وجل لكن لا على أن مدار النهي الجمع المذكور بل على أن أولئك جامعون لها متصفون بها ، وقيل : الجملة في موضع الحال من

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 297
ضمير لا يُؤْمِنُونَ قُلْ تَعالَوْا أمر له صلّى اللّه عليه وسلّم بعد ما ظهر بطلان ما ادعوا أن يبين لهم من المحرمات ما يقتضي الحال بيانه على الأسلوب الحكيم إيذانا بأن حقهم الاجتناب عن هذه المحرمات ، وأما الأطعمة المحرمة فقد بينت فيما تقدم ، وتعال أمر من التعالي والأصل فيه أن يقوله من هو في مكان عال لمن هو أسفل منه ثم اتسع فيه بالتعميم واستعمل استعمال المقيد في المطلق مجازا ، ويحتمل هنا - كما قيل - أن يكون على الأصل تعريضا لهم بأنهم في حضيض الجهل ولو سمعوا ما يقال لهم تراقوا إلى ذروة العلم وقمة العز.
وقوله سبحانه : أَتْلُ جواب الأمر أي إن تأتوني أتل ، و«ما في» قوله تعالى : ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ إما موصولة والعائد محذوف أي أقرأ الذي حرمه ربكم أي الآيات المشتملة عليه أو مصدرية أي تحريمه ، والمراد الآية الدالة عليه ، وهي في الاحتمالين في موضع نصب على المفعولية لأتل ، وجوز أن تكون استفهامية فهي في موضع نصب على المفعولية لحرم ، والجملة مفعول «أتل» لأن التلاوة من باب القول فيصح أن تعمل في الجملة بناء على المذهب الكوفي من أنه تحكى الجملة بكل ما تضمن معنى القول وغيرهم يقدر في ذلك قائلا ونحوه.
والمعنى هنا على الاستفهام تعالوا أقل لكم وأبين جواب أي شيء حرم ربكم ، وقوله تعالى : عَلَيْكُمْ متعلق على كل حال بحرم ، وجوز أن يتعلق بأتل ورجح الأول بأنه أنسب بمقام الاعتناء بإيجاب الانتهاء عن المحرمات المذكورة ، وهو السر في التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم ، ولا يضر في ذلك كون المتلو محرما على الكل كما لا يخفى أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً أي من الإشراك أو شيئا من الأشياء فشيئا يحتمل المصدرية والمفعولية وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في إعراب أَلَّا. وبدأ سبحانه بأمر الشرك لأنه أعظم المحرمات وأكبر الكبائر وَبِالْوالِدَيْنِ أي أحسنوا بهما إِحْساناً كاملا لا إساءة معه. وعن ابن عباس يريد البر بهما مع اللطف ولين الجانب فلا يغلظ لهما في الجواب ولا يحد النظر إليهما ولا يرفع صوته عليهما بل يكون بين يديهما مثل العبد بين يدي سيده تذللا لهما ، وثنى الله تعالى بهذا التكليف لأن نعمة الوالدين أعظم النعم على العبد بعد نعمة الله تعالى لأن المؤثر الحقيقي في وجود الإنسان هو الله عز وجل والمؤثر في الظاهر هو الأبوان. وعقب سبحانه التكليف المتعلق بالوالدين بالتكليف المتعلق بالأولاد لكمال المناسبة فقال سبحانه : وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ بالوأد مِنْ إِمْلاقٍ من أجل فقر أو من خشيته كما في قوله سبحانه : خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الإسراء : 31] وقيل : الخطاب في كل آية لصنف وليس خطابا واحدا فالمخاطب بقوله سبحانه : مِنْ إِمْلاقٍ من ابتلى بالفقر وبقوله تعالى : خَشْيَةَ إِمْلاقٍ من لا فقر له ولكن يخشى وقوعه في المستقبل ، ولهذا قدم رزقهم هاهنا في قوله عز وجل نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وقدم رزق أولادهم في مقام الخشية فقيل : «نحن نرزقهم وإياكم» وهو كلام حسن.
وأيا ما كان فجملة نَحْنُ إلخ استئناف مسوق لتعليل النهي وإبطال سببية ما اتخذوه سببا لمباشرة المنهي عنه وضمان منه تعالى لإرزاقهم أي نحن نرزق الفريقين لا أنتم فلا تقدموا على ما نهيتم عنه لذلك.
وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ أي الزنا ، والجمع إما للمبالغة أو باعتبار تعدد من يصدر عنه أو للقصد إلى النهي عن الأنواع ولذا أبدل منها قوله سبحانه : ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ أي ما يفعل منها علانية في الحوانيت كما هو دأب أراذلهم وما يفعل سرا باتخاذ الأخدان كما هو عادة أشرافهم ، وروي ذلك عن ابن عباس ، والضحاك ، والسدي ، وقيل :
المراد بها المعاصي كلها.
وفي المراد - بما ظهر منها وما بطن - على هذا أقول تقدمت الإشارة إليها واختار ذلك الإمام وجماعة. ورجح بعض المحققين الأول بأنه الأوفق بنظم المتعاطفات ، ووجه توسيط هذا النهي بين النهي عن قتل الأولاد والنهي عن

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 298
القتل مطلقا عليه باعتبار أن الفواحش بهذا المعنى مع كونها في نفسها جناية عظيمة في حكم قتل الأولاد فإن أولاد الزنا في حكم الأموات. وقد روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال في حق العزل : «ذاك وأد خفي»
وعلى القول الآخر لا يظهر وجه توسيط هذا العام بين أفراده ويكون توسيطه بين النهيين من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه ، وتعليق النهي بقربانها إما للمبالغة في الزجر عنها لقوة الدواعي إليها. وإما لأن قربانها داع إلى مباشرتها.
وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ أي حرم قتلها بأن عصمها بالإسلام أو بالعهد فيخرج الحربي ويدخل الذمي ، فما روي عن ابن جبير من كون المراد بالنفس المذكورة النفس المؤمنة ليس في محله إِلَّا بِالْحَقِّ استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا تقتلوها في حال من الأحوال إلا حال ملابستكم بالحق الذي هو أمر الشرع بقتلها ، وذلك كما ورد في الخبر بالكفر بعد الإيمان والزنا بعد الإحصان وقتل النفس المعصومة أو من أعم الأسباب أي لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق وهو ما في الخبر أو من أعم المصادر أي لا تقتلوها قتلا إلا قتلا كائنا وهو القتل بأحد المذكورات ذلِكُمْ أي ما ذكر من التكاليف الخمسة الجليلة الشأن من بين التكاليف الشرعية وَصَّاكُمْ بِهِ أي طلبه منكم طلبا مؤكدا ، والجملة الاسمية استئناف جيء به تجديدا للعهد وتأكيدا لإيجاب المحافظة على ما كلفوه. وقال الإمام : جيء بها لتقريب القبول إلى القلب لما فيها من اللطف والرحمة لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي تستعملون عقولكم التي تعقل نفوسكم وتحبسها عن مباشرة القبائح المحرمة.
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ
أي لا تتعرضوا له بوجه من الوجوه إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
أي بالفعلة التي هي أحسن ما يفعل بماله كحفظه وتثميره ، وقيل : المراد لا تقربوا ماله إلا وأنتم متصفون بالخصلة التي هي أحسن الخصال في مصلحته فمن لم يجد نفسه على أحسن الخصال ينبغي أن لا يقربه وفيه بعد والخطاب للأولياء والأوصياء لقوله تعالى : حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
فإنه غاية لما يفهم من الاستثناء لا للنهي كأنه قيل : احفظوه حتى يبلغ فإذا بلغ فسلموه إليه كما في قوله سبحانه : فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [النساء : 6] والأشد - على ما قال الفراء - جمع لا واحد له. وقال بعض البصريين : هو مفرد كآنك ولم يأت في المفردات على هذا الوزن غيرهما. وقيل : هو جمع شدة كنعمة وأنعم ، وقدر فيه زيادة الهاء لكثرة جمع فعل على أفعل كقدح وأقدح.
وقال ابن الأنباري : إنه جمع شد بضم الشين كود وأود. وقيل : جمع شد بفتحها. وأيا ما كان فهو من الشدة أي القوة أو الارتفاع من شد النهار إذا ارتفع. ومنه قول عنترة :
عهدي به شد النهار كأنما خضب البنان ورأسه بالعظلم
والمراد ببلوغ الأشد عند الشعبي. وجماعة بلوغ الحلم. وقيل : أن يبلغ ثماني عشرة سنة ، وقال السدي : أن يبلغ ثلاثين إلا أن الآية منسوخة بقوله تعالى : حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ [النساء : 6] وقيل : غير ذلك. وقد تقدم الخلاف في زمن دفع مال اليتيم إليه وأشبعنا الكلام في تحقيق الحق في ذلك فتذكر وَأَوْفُوا
أي أتموا الْكَيْلَ
أي المكيل فهو مصدر بمعنى اسم المفعول وَالْمِيزانَ
كذلك - كما قال أبو البقاء - وجوز أن يكون هناك مضاف محذوف أي مكيل الكيل وموزون الميزان بِالْقِسْطِ
أي بالعدل وهو في موضع الحال من ضمير أَوْفُوا
أي مقسطين. وقال أبو البقاء : يجوز أن يكون حالا من المفعول أي تاما. ولعل الإتيان بهذه الحال للتأكيد.
وفي التفسير الكبير فإن قيل : إيفاء الكيل والميزان هو عين القسط فما الفائدة من التكرير؟ قلنا : أمر الله تعالى المعطى بإيفاء ذي الحق حقه من غير نقصان وأمر صاحب الحق بأخذ حقه من غير طلب الزيادة فتدبر.
لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
إلا ما يسعها ولا يعسر عليها. والجملة مستأنفة جيء بها عقيب الأمر بإيفاء

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 299
الكيل والميزان بالعدل للترخيص فيما خرج عن الطاقة لما أن في مراعاة ذلك كما هو حرجا مع كثرة وقوعه فكأنه قيل :
عليكم بما في وسعكم في هذا الأمر وما وراءه معفو عنكم. وجوز أن يكون جيء بها لتهوين أمر ما تقدم من التكليفات ليقبلوا عليها كأنه قيل : جميع ما كلفناكم به ممكن غير شاق ونحن لا نكلف ما لا يطاق وَإِذا قُلْتُمْ
قولا في حكومة أو شهادة أو نحوهما فَاعْدِلُوا
فيه وقولوا الحق وَلَوْ كانَ
المقول له أو عليه ذا قُرْبى
أي صاحب قرابة منكم وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا
أي ما عهد إليكم من الأمور المعدودة أو أي عهد كان فيدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا أو ما عاهدتم الله تعالى عليه من أيمانكم ونذوركم. والجار والمجرور متعلق بما بعده ، وتقديمه للاعتناء بشأنه ذلِكُمْ
أي ما فصل من التكاليف الجليلة وَصَّاكُمْ بِهِ
أمركم به أمرا مؤكدا لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
ما في تضاعيفه وتعملون بمقتضاه. وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم «تذكرون» بتخفيف الذال. والباقون بالتشديد في كل القرآن وهما بمعنى واحد.
وختمت الآية الأولى بقوله سبحانه : لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وهذه بقوله تعالى : لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
لأن القوم كانوا مستمرين على الشرك. وقتل الأولاد. وقربان الزنا ، وقتل النفس المحرمة بغير حق غير مستنكفين ولا عاقلين قبحها فنهاهم سبحانه لعلهم يعقلون قبحها فيستنكفوا عنها ويتركوها. وأما حفظ أموال اليتامى عليهم. وإيفاء الكيل. والعدل في القول. والوفاء بالعهد فكانوا يفعلونه ويفتخرون بالاتصاف به فأمرهم الله تعالى بذلك لعلهم يذكرون إن عرض لهم نسيان قاله القطب الرازي : ثم قال فإن قلت إحسان الوالدين من قبيل الثاني أيضا فكيف ذكر من الأول؟ قلت : أعظم النعم على الإنسان نعمة الله تعالى ويتلوها نعمة الوالدين لأنهما المؤثران في الظاهر ومنهما نعمة التربية والحفظ عن الهلاك في وقت الصغر فلما نهى عن الكفر بالله تعالى نهى بعده عن الكفران في نعمة الأبوين تنبيها على أن القوم لما لم يرتكبوا الكفران فبطريق الأولى أن لا يرتكبوا الكفر.
وقال الإمام : السبب في ختم كل آية بما ختمت أن التكاليف الخمسة المذكورة في الآية الأولى ظاهرة جلية فوجب تعقلها وتفهمها والتكاليف الأربعة المذكورة في هذه الآية أمور خفية غامضة لا بد فيها من الاجتهاد والفكر الكثير حتى يقف على موضع الاعتدال وهو التذكر انتهى. ويمكن أن يقال : إن أكثر التكليفات الأول أدي بصيغة النهي وهو في معنى المنع والمرء حريص على ما منع فناسب أن يعلل الإيصاء بذلك بما فيه إيماء إلى معنى المنع والحبس وهذا بخلاف التكليفات الأخر فإن أكثرها قد أدي بصيغة الأمر وليس المنع فيه ظاهرا كما في النهي فيكون الطلب والمبالغة فيه ليستمر عليه ويتذكر إذا نسي فليتدبر.
وَأَنَّ هذا صِراطِي إشارة إلى شرعه عليه الصلاة والسلام على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ويلائمه النهي الآتي ، وعن مقاتل أنه إشارة إلى ما في الآيتين من الأمر والنهي ، وقيل : إلى ما ذكر في السورة فإن أكثرها في إثبات التوحيد والنبوة وبيان الشريعة.
وقرأ حمزة والكسائي «إن» بالكسر. وابن عامر. ويعقوب بالفتح والتخفيف ، والباقون به مشددة.
وقرأ ابن عامر «صراطي» بفتح الياء ، وقرىء وهذا صِراطِي. «وهذا صراط ربكم» وَهذا صِراطُ رَبِّكَ [الأنعام : 126] وإضافة الصراط إلى الرب سبحانه من حيث الوضع وإليه عليه الصلاة والسلام من حيث السلوك والدعوة أي هذا الصراط الذي أسلكه وأدعو إليه مُسْتَقِيماً لا اعوجاج فيه ، ونصبه على الحال فَاتَّبِعُوهُ أي اقتفوا أثره واعملوا به وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ أي الضلالات كما أخرجه ابن جرير. وابن أبي حاتم عن ابن عباس ، وفي رواية عنه أنها الأديان المختلفة كاليهودية والنصرانية ، وأخرج ابن المنذر ، وعبد ابن حميد ، وغيرهما عن مجاهد

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 300
أنها البدع والشبهات فَتَفَرَّقَ بِكُمْ نصب في جواب النهي والأصل تتفرق فحذفت إحدى التاءين والباء للتعدية أي فتفرقكم حسب تفرقها أيادي سبأ فهو كما ترى أبلغ من تفرقكم كما قيل من أن ذهب به لما فيه من الدلالة على الاستصحاب أبلغ من أذهبه عَنْ سَبِيلِهِ أي سبيل الله تعالى الذي لا اعوجاج فيه ولا حرج لما هو دين الإسلام ، وقيل : هو اتباع الوحي واقتفاء البرهان ، وفيه تنبيه على أن صراطه عليه السلام عين سبيل الله تعالى ، وقد أخرج أحمد.
وجماعة عن ابن مسعود قال : خط رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم خطا بيده ثم قال «هذا سبيل الله تعالى مستقيما ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال : وهذه السبيل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ثم قرأ وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ إلخ ،
وإنما أضيف إليه صلّى اللّه عليه وسلّم أولا لأن ذلك أدعى للاتباع إذ به يتضح كونه صراط الله عز وجل ذلِكُمْ إشارة إلى اتباع السبيل وترك اتباع السبل وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ عقاب الله تعالى بالمثابرة على فعل ما أمر به والاستمرار على الكف عما نهى عنه. قال أبو حيان : ولما كان الصراط المستقيم هو الجامع للتكاليف وأمر سبحانه باتباعه ونهى عن اتباع غيره من الطرق ختم ذلك بالتقوى التي هي اتقاء النار إذ من اتبع صراطه نجا النجاة الأبدية وحصل على السعادة السرمدية. وكرر سبحانه الوصية لمزيد التأكيد ويا لها من وصية ما أعظم شأنها ، وأوضح برهانها.
وأخرج الترمذي وحسنه. وابن المنذر. والبيهقي في الشعب وغيرهم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال :
من سره أن ينظر إلى وصية محمد عليه الصلاة والسلام بخاتمة فليقرأ هؤلاء الآيات قُلْ تَعالَوْا إلى تَتَّقُونَ وأخرج ابن حميد ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم : «أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث» ثم تلاهنّ إلى آخرهن ثم قال «فمن وفى بهن فأجره على الله تعالى ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله تعالى في الدنيا كانت عقوبته ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله تعالى إن شاء أخذه وإن شاء عفا عنه».
وأخرج أبو الشيخ عن عبيد الله بن عبد الله بن عدي قال : سمع كعب رجلا يقرأ قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ إلخ فقال :
والذي نفس كعب بيده إنها لأول آية في التوراة بسم الله الرحمن الرحيم قل تعالوا اتل ما حرم ربكم عليكم إلى آخر الآيات ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذه آيات محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب وهن محرمات على بني آدم كلهم وهن أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة ومن تركهن دخل النار.
هذا وأن في قوله سبحانه أَلَّا تُشْرِكُوا يحتمل أن تكون مفسرة وأن تكون مصدرية قال العلامة الثاني : وفي الاحتمالين إشكال فإنها إن جعلت مصدرية كانت بيانا للمحرم بدلا من ما أو عائده المحذوف. وظاهر أن المحرم هو الإشراك لا نفيه وأن الأوامر بعد معطوفة على لا تشركوا وفيه عطف الطلبي على الخبري وجعل الواجب المأمور به محرما فاحتيج إلى تكلف كجعل لا مزيدة وعطف الأوامر على المحرمات باعتبار حرمة أضدادها وتضمين الخبر معنى الطلب ، وأما جعل لا ناهية واقعة موقع الصلة المصدرية كما جوزه سيبويه إذ عمل الجازم في الفعل والناصب في لا معه فمما لا سبيل إليه هنا لأن زيادة لا الناهية مما لم يقل به أحد ولم يرد في كلام وإن جعلت أن مفسرة ولا ناهية والنواهي بيان لتلاوة المحرمات توجه إشكالان ، أحدهما عطف أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً على أَلَّا تُشْرِكُوا مع أنه لا معنى لعطفه على أن المفسرة مع الفعل. وثانيهما عطف الأوامر المذكورة فإنها لا تصلح بيانا لتلاوة المحرمات بل الواجبات ، واختار الزمخشري كونها مفسرة وعطف الأوامر لأنها معنى نواه ، ولا سبيل حينئذ لجعلها مصدرية موصولة بالنهي لما علمت.
وأجاب عن الإشكال الأول بأن قوله سبحانه : وَأَنَّ هذا صِراطِي ليس عطفا على أَلَّا تُشْرِكُوا بل

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 301
هو تعليل للاتباع متعلق باتبعوه على حذف اللام ، وجاز عود ضمير اتبعوه إلى الصراط لتقدمه في اللفظ.
فإن قيل : فعلى هذا يكون اتبعوه عطفا على لا تشركوا ويكون التقدير فاتبعوا صراطي لأنه مستقيم ، وفيه جمع بين حرفي عطف الواو والفاء وليس بمستقيم ، وإن جعلت الواو استئنافية اعتراضية قلنا : ورود الواو مع الفاء عند تقديم المعمول فصلا بينهما شائع في الكلام مثل وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً فإن أبيت الجمع البتة ومنعت زيادة الفاء فاجعل المعمول متعلقا بمحذوف والمذكور بالفاء عطفا عليه مثل عظم فكبر وادعوا الله فلا تدعوا مع الله وآثروه فاتبعوه.
وعن الإشكال الثاني بأن عطف الأوامر على النواهي الواقعة بعد أن المفسرة لتلاوة المحرمات مع القطع بأن المأمور به لا يكون محرما دل على أن التحريم راجع إلى أضدادها بمعنى أن الأوامر كأنها ذكرت وقصد لوازمها التي هي النهي عن الأضداد حتى كأنه قيل : اتلوا ما حرم أن لا تسيؤوا إلى الوالدين ولا تبخسوا الكيل والميزان ولا تتركوا العدل ولا تنكثوا العهد ، ومثل هذا وإن لم يجز بحسب الأصل لكن ربما يجوز بطريق العطف ، وأما جعل الوقف على قوله تعالى : رَبُّكُمْ وانتصاب أَلَّا تُشْرِكُوا بعليكم يعني ألزموا ترك فيأباه عطف الأوامر إلا أن تجعل لا ناهية وأن المصدرية موصولة بالأوامر والنواهي. وقال أبو حيان : لا يتعين أن يكون جميع الأوامر معطوفة على جميع ما دخل عليه لا فإنه لا يصح عطف «وبالوالدين إحسانا» على «تعالوا» ويكون ما بعده عطف عليه.
واعترض على القول بأن التحريم راجع إلى أضداد الأوامر بأنه بعيد جدا وألغاز في المعاني ولا ضرورة تدعو إلى ذلك ، ثم قال : وأما عطف هذه الأوامر فيحتمل وجهين ، أحدهما أنها معطوفة لا على المناهي قبلها فيلزم انسحاب التحريم عليها حيث كانت في حيز ان التفسيرية بل هي معطوفة على قوله سبحانه : أَتْلُ ما حَرَّمَ أمرهم أولا بأمر ترتب عليه ذكر مناه ، ثم أمرهم ثانيا بأوامر وهذا معنى واضح ، والثاني أن تكون الأوامر معطوفة على المناهي داخلة تحت حكم أن التفسيرية ، ويصح ذلك على تقدير محذوف تكون أن مفسرة له وللمنطوق قبله الذي دل على حذفه ، والتقدير وما أمركم به فحذف وما أمركم به لدلالة ما حرم عليه لأن معنى ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ما نهاكم ربكم عنه ، فالمعنى قل تعالوا اتل ما نهاكم عنه ربكم وما أمركم به ، وإذا كان التقدير هكذا صح أن تكون تفسيرية لفعل النهي الدال عليه التحريم وفعل الأمر المحذوف ألا ترى أنه يجوز أن تقول : أمرتك أن لا تكرم جاهلا وأكرم عالما ، ويجوز عطف الأمر على النهي والنهي على الأمر لقول امرئ القيس :
لا تهلك أسى وتجمل ولا نعلم في هذا خلافا بخلاف الجمل المتباينة بالخبر والاستفهام والإنشاء فإن في جواز العطف فيها خلافا مشهورا اه. وأنت تعلم أن العطف على تَعالَوْا في غاية البعد ولا ينبغي الالتفات إليه ، وما ذكره من الحذف وجعل التفسير للمحذوف والمنطوق لا يخلو عن حسن ، ونقل الطبرسي جواز كون أَلَّا تُشْرِكُوا بتقدير اللام على معنى أبين لكم الحرام لأن لا تشركوا لأنهم إذا حرموا ما أحل الله فقد جعلوا غير الله تعالى في القبول منه بمنزلة الله سبحانه وصاروا بذلك مشركين ، ولا ينبغي تخريج كلام الله تعالى على مثل ذلك كما لا يخفى ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ كلام مسوق من جهته تعالى تقريرا للوصية وتحقيقا لها وتمهيدا لما تعقبه من ذكر إنزال القرآن المجيد كما ينبىء عنه تغيير الأسلوب بالالتفات إلى التكلم معطوف على مقدر يقتضيه المقام ويستدعيه النظام كأنه قيل بعد قوله سبحانه : ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ بطريق الاستئناف تصديقا له وتقريرا لمضمونه فعلنا ذلك ثُمَّ آتَيْنا إلخ. وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام قدس سره ، وقيل : عطف على ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ. وعن الزجاج أنه عطف على معنى التلاوة

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 302
كأنه قيل : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ثم اتل عليهم ما آتاه الله تعالى موسى عليه السلام ، وقيل : عطف على قُلْ وفيه حذف أي قل تعالوا ثم قل آتينا موسى الكتاب.
وعن أبي مسلم ، واستحسنه المغربي ، أنه متصل بقوله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام : وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وذلك أنه سبحانه عد نعمته عليه بما جعل في ذريته من الأنبياء عليهم السلام ثم عطف عليه بذكر ما أنعم عليه بما آتى موسى عليه السلام من الكتاب والنبوة وهو أيضا من ذريته ، والكل كما ترى وإن اختلف مراتبه في الوهن.
وثم - كما قال الفراء - للترتيب الإخباري كما في نحو بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت اليوم أعجب. وتعقبه ابن عصفور بأنه ليس بشيء لأن ثم تقتضي تأخر الثاني عن الأول بمهلة ولا مهلة في الإخبارين فلا بد من الرجوع إلى أنها انسلخ عنها معنى الترتيب أو أنه ترتيب رتبي كما يشير إليه قوله : أعجب في المثال وهو هنا ظاهر لأن إيتاء التوراة المشتملة على الأحكام والمنافع الجمة أعظم من هذه الوصية المشهورة على الألسنة ، وبعضهم وجه الترتيب الإخباري المستدعي لتأخر الثاني عن الأول بأن الألفاظ المنقضية تنزل منزلة البعيد. وقيل : إنه باعتبار توسط جملة لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ بين المتعاطفين.
وقال بعضهم : إن ثُمَّ هنا بمعنى الواو ، وقد جاء ذلك كثيرا في الكتاب تَماماً للكرامة والنعمة وهو في موقع المفعول له ، وجاز حذف اللام لكونه في معنى إتماما ، وجوز أبو البقاء أن يكون مصدرا لقول آتَيْنا من معناه لأن إيتاء الكتاب إتمام للنعمة كأنه قيل : أتممنا النعمة إتماما فهو كنباتا في قوله تعالى : وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح : 17] وأن يكون حالا من الكتاب أي تاما عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ أي من أحسن القيام به كائنا من كان فالذي للجنس. ويؤيده قراءة عبد الله «على الذين أحسنوا» وقراءة الحسن «على المحسنين». وعن الفراء أن الذي هنا مثلها في قوله :
إن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد
وكلام مجاهد محتمل للوجهين أو على الذي أحسن تبليغه وهو موسى عليه السلام أو تماما على ما أحسنه موسى عليه السلام أي أجاده من العلم والشرائع أي زيادة على عمله على وجه التتميم. وعن ابن زيد أن المراد تماما على إحسان الله تعالى على أنبيائه عليهم السلام ، وظاهره أن الَّذِي موصول حرفي ، وقد قيل به في قوله تعالى :
وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا [التوبة : 69] وضمير أحسن حينئذ لله تعالى ، ومثله في ذلك ما نقل عن الجبائي من أن المراد على الذي أحسن الله تعالى به على موسى عليه السلام من النبوة وغيرها ، وكلاهما خلاف الظاهر. وعن أبي مسلم أن المراد بالموصول إبراهيم عليه السلام ، وهو مبني على ما زعمه من اتصال الآية بقصة إبراهيم عليه السلام.
وقرأ يحيى بن يعمر «أحسن» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف والَّذِي وصف للدين أو للوجه يكون عليه الكتب أي تماما على الدين الذي هو أحسن دين وأرضاه أو آتينا موسى الكتاب تاما كاملا على الوجه الذي هو أحسن ما يكون عليه الكتب ، والأحسنية بالنسبة إلى غير دين الإسلام وغير ما عليه القرآن.
وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ أي بيانا مفصلا لكل ما يحتاج إليه في الدين ، ولا دلالة فيه على أنه لا اجتهاد في شريعة موسى عليه السلام خلافا لمن زعم ذلك ، فقد ورد مثله في صفة القرآن كقوله تعالى في سورة [يوسف : 111] عليه السلام : وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ ولو صح ما ذكر لم يكن في شريعتنا اجتهاد أيضا وَهُدىً أي دلالة إلى الحق وَرَحْمَةً بالمكلفين. والكلام في هذه المعطوفات كالكلام في المعطوف عليه من احتمال العلية

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 303
والمصدرية والحالية والظاهر اشتمال الكتاب على التفصيل حسبما أخبر الله تعالى إلى أن حرفه أهله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال : لما ألقى موسى عليه السلام الألواح بقي الهدى والرحمة وذهب التفصيل لَعَلَّهُمْ أي بني إسرائيل المدلول عليهم بذكر موسى عليه السلام وإيتاء الكتاب ، ولا يجوز عود الضمير على الذي بناء على الجنسية أو على ما قال الفراء لأنه لا يناسب قوله سبحانه : بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ بل كان المناسب حينئذ أن يقال : لعلهم يرحمون مثلا ، والجار والمجرور متعلق بما بعده قدم لرعاية الفواصل ، والمراد من اللقاء قيل الجزاء ، وقيل : الرجوع إلى ملك الرب سبحانه وسلطانه يوم لا يملك أحد سواه شيئا. وعن ابن عباس المعنى كي يؤمنوا بالبعث ويصدقوا بالثواب والعقاب.
وَهذا الذي تليت عليكم أوامره ونواهيه أي القرآن كِتابٌ عظيم الشأن لا يقادر قدره أَنْزَلْناهُ بواسطة الروح الأمين مشتملا على فوائد الفنون الدينية والدنيوية التي فصلت عليكم طائفة منها ، والجملة صفة كِتابٌ وقوله سبحانه : مُبارَكٌ أي كثير الخير دينا ودنيا صفة أخرى ، وإنما قدمت الأولى عليها مع أنها غير صريحة لأن الكلام مع منكري الإنزال ، وجوز أن يكون هذا وما قبله خبرين عن اسم الإشارة أيضا والفاء في قوله تعالى : فَاتَّبِعُوهُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن عظم شأن الكتاب في نفسه وصفته موجب لاتباعه أي فاعملوا بما فيه أو امتثلوا أوامره وَاتَّقُوا مخالفته أو نواهيه لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي لترحموا جزاء ذلك ، وقيل : المراد اتقوا على رجاء الرحمة أو اتقوا ليكون الغرض بالتقوى رحمة الله تعالى.
أَنْ تَقُولُوا علة لمقدر دل عليه أَنْزَلْناهُ المذكور وهو العامل فيه لا المذكور خلافا للكسائي لئلا يلزم الفصل بين العامل ومعموله بأجنبي وهو بتقدير لا عند الكوفيين أي لأن لا تقولوا وعلى حذف المضاف عند البصريين أي كراهة أن تقولوا. وقيل : يحتمل أن يكون مفعول اتَّقُوا وعليه الفراء ، وأن تجعل اللام المقدرة للعاقبة أي ترتب على إنزالنا أحد القولين ترتب الغاية على الفعل فيكون توبيخا لهم على بعدهم عن السعادة ، والمتبادر ما ذكر أولا أي أن تقولوا يوم القيامة لو لم ننزله إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ الناطق بالأحكام القاطع للحجة عَلى طائِفَتَيْنِ جماعتين كائنتين مِنْ قَبْلِنا وهما - كما قال ابن عباس ، وغيره : اليهود ، والنصارى. وتخصيص الإنزال بكتابيهما لأنهما اللذان اشتهرا فيما بين الكتب السماوية بالاشتمال على الأحكام.
وَإِنْ كُنَّا إن هي المخففة من أن واللام الآتية فارقة بينها وبين النافية وهي مهملة لما حققه النحاة من أن أن المخففة إذا لزمت اللام في أحد جزأيها ووليها الناسخ فهي مهملة لا تعمل في ظاهر ولا مضمر ، لا ثابت ولا محذوف أي وانه كنا عَنْ دِراسَتِهِمْ أي قراءتهم لَغافِلِينَ غير ملتفتين لا ندري ما هي لأنها ليست بلغتنا فلم يمكننا أن نتلقى منها ما فيه نجاتنا ولعلهم عنوا بذلك التوحيد ، وقيل : تلك الأحكام المذكورة في قوله تعالى : قُلْ تَعالَوْا إلخ لأنها عامة لجميع بني آدم لا تختلف في عصر من الأعصار. وعلى هذا حمل الآية شيخ الإسلام ثم قال :
وبهذا تبين أن معذرتهم هذه مع أنهم غير مأمورين بما في الكتابين لاشتمالهما على الأحكام المذكورة المتناولة لكافة الأمم كما أن قطع تلك المعذرة بإنزال القرآن لاشتماله أيضا عليها لا على سائر الشرائع والأحكام فقط.
أَوْ تَقُولُوا عطف على تَقُولُوا. وقرىء كلاهما بالياء على الالتفات من خطاب «فاتبعوه واتقوا» ويكون الخطاب الآتي بعد التفاتا أيضا ولا يخفى موقعه. قال القطب : إنه تعالى خاطبهم أولا بما خاطبهم ثم لما وصل إلى حكاية أقوالهم الرديئة أعرض عنهم وجرى على الغيبة كأنهم غائبون ثم لما أراد سبحانه توبيخهم بعد خاطبهم فهو

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 304
التفات في غاية الحسن لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ كما أنزل عليهم لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ إلى الحق الذي هو المقصد الأقصى أو إلى ما فيه من الأحكام والشرائع لأنا أجود أذهانا وأثقب فهما فَقَدْ جاءَكُمْ متعلق بمحذوف تنبىء عنه الفاء الفصيحة إما معلل به أو شرط له أي لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم إلخ أو إن صدقتم فيما تعدون من أنفسكم على تقدير نزول الكتاب عليكم فقد حصل ما فرضتم وجاءكم بَيِّنَةٌ حجة جليلة الشأن واضحة تعرفونها لظهورها وكونها بلسانكم كائنة مِنْ رَبِّكُمْ على أن الجار متعلق بمحذوف وقع صفة بَيِّنَةٌ ويصح تعلقه بجاءكم.
وأيّا ما كان ففيه دلالة على فضلها الإضافي مع الإشارة إلى شرفها الذاتي ، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم ما لا يخفى من مزيد التأكيد لإيجاب الاتباع وَهُدىً وَرَحْمَةٌ عطف على بَيِّنَةٌ وتنوينهما كتنوينهما للتفخيم ، والمراد بجميع ذلك القرآن ، وعبر عنه بالبينة أولا إيذانا بكمال تمكنهم من دراسته وبالهدى والرحمة. ثانيا تنبيها على أنه مشتمل على ما اشتمل عليه التوراة من هداية الناس ورحمتهم بل هو عين الهداية والرحمة وفي التفسير الكبير فإن قيل البينة والهدى واحد فما الفائدة في التكرير؟ قلنا : القرآن بينة فيما يعلم سمعا وهو هدى فيما يعلم سمعا وعقلا فلما اختلفت الفائدة صح هذا العطف ولا يخفى ما فيه.
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن مجيء القرآن الموصوف بما تقدم موجب لغاية أظلمية من يكذبه ، والمراد من الموصول أولئك المخاطبون ، ووضع موضع ضميرهم بطريق الالتفات تنصيصا على اتصافهم بما في حيز الصلة وإشعارا بعلة الحكم وإسقاطا لهم عن رتبة الخطاب ، وعبر عما جاءهم بآيات الله تعالى تهويلا للأمر. وقرىء «كذب» بالتخفيف ، والجار الأول متعلق بما عنده ، والثاني يحتمل ذلك وهو الظاهر.
ويحتمل أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا ، والمعنى كذب ومعه آيات الله تعالى وَصَدَفَ عَنْها أي أعرض غير مفكر فيها كما روي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وغيرهما أو صرف الناس عنها فجمع بين الضلال والإضلال ، والفعل على الأول لازم وعلى الثاني متعد وهو الأكثر استعمالا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا وعيد لهم ببيان جزاء إعراضهم أو صدهم بحيث يفهم منه جزاء تكذيبهم ، ووضع الموصول موضع الضمير لتحقيق مناط الجزاء سُوءَ الْعَذابِ أي العذاب السيء الشديد بِما كانُوا يَصْدِفُونَ أي بسبب ما كانوا يفعلون الصدف على التجدد والاستمرار ، وهذا تصريح بما أشعر به إجراء الحكم على الموصول من علية ما في حيز الصلة له هَلْ يَنْظُرُونَ استئناف مسوق لبيان أنه لا يتأتى منهم الإيمان بإنزال ما ذكر من البينات والهدى والإيذان بأن من الآيات ما لا فائدة للإيمان عنده مبالغة في التبليغ والإنذار وإزاحة العلل والأعذار ، وهَلْ للاستفهام الإنكاري ، وأنكر الرضي مجيئها لذلك وقال : إنها للتقرير في الإثبات ، والجمهور على الأول ، والضمير لكفار أهل مكة.
وزعم الجبائي أنه للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم أي ما ينتظرون إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ لقبض أرواحهم أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ يوم القيامة في ظلل من الغمام حسبما أخبر وبالمعنى الذي أراد. وإلى هذا التفسير ذهب ابن مسعود : وقتادة ، ومقاتل ، وقيل : إتيان الملائكة لإنزال العذاب والخسف بهم. وعن الحسن إتيان الرب على معنى إتيان أمره بالعذاب. وعن ابن عباس المراد يأتي أمر ربك فيهم بالقتل ، وقيل : المراد يأتي كل آياته يعني آيات القيامة والهلاك الكلي لقوله سبحانه : أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ وأنت تعلم أن المشهور من مذهب السلف عدم تأويل مثل ذلك بتقدير مضاف ونحوه بل تفويض المراد منه إلى اللطيف الخبير مع الجزم بعدم إرادة الظاهر. ومنهم من يبقيه على الظاهر إلا أنه يدعي أن الإتيان الذي ينسب إليه تعالى ليس الإتيان الذي يتصف به الحادث ، وحاصل ذلك

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 305
أنه يقول بالظواهر وينفي اللوازم ويدعي أنها لوازم في الشاهد ، وأين التراب من رب الأرباب.
وجوز بعض المحققين حمل الكلام على الظاهر المتعارف عند الناس ، والمقصود منه حكاية مذهب الكفار واعتقادهم ، وعلى ذلك اعتمد الإمام وهو بعيد أو باطل. والمراد بالآيات عند بعض أشراط الساعة ، وهي على ما يستفاد من الأخبار كثيرة ، وصح من طرق عن حذيفة بن أسيد قال : «أشرف علينا رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم من علية ونحن نتذاكر فقال : ما تذاكرون؟ قلنا : نتذاكر الساعة قال : إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات : الدخان ، والدجال ، وعيسى ابن مريم ، ويأجوج وماجوج ، والدابة ، وطلوع الشمس من مغربها ، وثلاثة خسوف : خسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب ، وآخر ذلك نار تخرج من قعر عدن أو اليمن تطرد الناس إلى المحشر تنزل معهم إذا نزلوا وتقيل معهم إذا قالوا»
وببعضها على ما قيل : الدجال ، والدابة ، وطلوع الشمس من مغربها وهو المراد بالبعض أيضا في قوله سبحانه : يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ وروى مسلم ، وأحمد ، والترمذي ، وغيرهم عن أبي هريرة مرفوعا ما هو صريح في ذلك. واستشكل ذلك بأن خروج عيسى عليه السلام بعد الدجال عليه اللعنة وهو عليه السلام يدعو الناس إلى الإيمان ويقبله منهم وفي زمنه خير كثير دنيوي وأخروي ، وأجيب عنه بما لا يخلو عن نظر. والحق أن المراد بهذا البعض الذي لا ينفع الإيمان عنده : طلوع الشمس من مغربها.
فقد روى الشيخان «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها ثم قرأ الآية»
بل قد روي هذا التعيين عنه صلّى اللّه عليه وسلّم في غير ما خبر صحيح ، وإلى ذلك ذهب جلة المفسرين وما يروى من الأخبار التي ظاهرها المنافاة لذلك غير مناف له عند التحقيق كما لا يخفى على المتأمل ، وسبب عدم نفع الإيمان عند ذلك أنه إذا شوهد تغير العالم العلوي يحصل العلم الضروري ويرتفع الإيمان بالغيب وهو المكلف به فيكون الإيمان حينئذ كالإيمان عند الغرغرة ، ومقتضى الأخبار في هذا المطلب أنه لا يقبل الإيمان بعد ذلك أبدا لكن الظاهر على ما في الزواجر قبول ما وقع بعد ذلك منغير تقصير كمن جن وأفاق بعد أو أسلم بتبعية أبويه.
وعن البلقيني أنه إذا تراخى الحال بعد طلوع الشمس من المغرب وطال العهد حتى نسي قبل الإيمان لزوال الآية الملجئة وله وجه وجيه. وقول العراقي : إن الظاهر أنه لا يطول العهد حتى ينسى غير متجه لما رواه القرطبي في تذكرته عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ونقله الحافظ ابن حجر في شرح البخاري أن الناس يبقون بعد طلوع الشمس من مغربها مائة وعشرين سنة ، والكلام في كيفية طلوعها من المغرب مفصل في كتب الحديث ، وفي سوق العروس لابن الجوزي أن الشمس تطلع من مغربها ثلاثة أيام بلياليها ثم يقال لها : ارجعي من مطلعك ، والمشهور أنها تطلع يوما واحدا من المغرب فتسير إلى خط نصف النهار ثم ترجع إلى المغرب وتطلع بعد ذلك من المشرق كعادتها قبل. وخبر عبد الله بن أبي أوفى صريح في ذلك والكل أمر ممكن والله سبحانه على كل شيء قدير.
وروى البخاري في تاريخه ، وأبو الشيخ ، وابن عساكر في كيفية ذلك عن كعب رضي الله تعالى عنه أنه قال : إذا أراد الله تعالى أن يطلع الشمس من مغربها أدارها بالقطب فجعل مشرقها مغربها ومغربها مشرقها ، وأهل الهيئة ومن وافقهم يزعمون أن طلوع الشمس من المغرب محال ويقولون : إن الشمس وغيرها من الفلكيات بسيطة لا تختلف مقتضياتها جهة وحركة وغير ذلك ولا يتطرق إليها تغيير عما هي عليه ، وقد بنوا ذلك على مثل شفا جرف هار. وقال الكرماني : إنه على تقدير تسليم قواعدهم لا امتناع في ذلك أيضا لقولهم بجواز انطباق منطقة فلك البروج المسمى بفلك الثوابت على المعدل وهي منطقة الفلك الأعظم المسمى بفلك الأطلس بحيث يصير المشرق مغربا والمغرب مشرقا انتهى. وفيه نظر يعلم بعد بيان كيفية الانطباق وما يتبعه ويلزم منه على ما في كتب محققيهم فأقول : قال في

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 306
التذكرة وشرحها للسيد السند : الميل الكلي وهو غاية التباعد بين منطقتي المعدل وفلك البروج الموجود بالأرصاد القديمة والحديثة ليس شيئا واحدا بل كان مما وجده القدماء أكثر ما وجده المحدثون ، وقد يظن أن ما وجده من هو أحدث زمانا كان أقل مما وجده من هو أقدم زمانا مع أن أكثر ما وجدوه لم يبلغ أربعة وعشرين جزءا وأقله لم ينقص عن ثلاثة وعشرين جزءا ونصف جزء.
ثم الظاهر أن هذا الاختلاف إنما هو بسبب اختلال الآلات في استدارتها أو قسمتها أو نصبها في حقيقة نصف النهار لا بسبب تحرك إحدى المنطقتين إلى الأخرى وإلا لوجب أن يكون الاختلاف على نظام واحد ولم يوجد كذلك كما بين في محله لكنه يجوز أن يكون أصل الاختلاف بسبب التحرك وعدم الانتظام بسبب الاختلال ولما امتنع أن يكون هذا التقارب بحركة المعدل نحو منطقة البروج إذ يلزم منه أن تختلف عروض البلدان عما هي عليه وأن يكون خط الاستواء في كل زمان مكانا آخر ذهب بعضهم إلى أن منطقة البروج تتحرك في العرض فتقرب من معدل النهار فإن كان هذا حقا يجب أن يثبت فلكا آخر يحرك فلك البروج هذه الحركة ثم إن المنطقة إن تحركت في العرض أمكن أن تتم الدورة وأمكن أن لا تتمها بل تتحرك إلى غاية ما ثم تعود وتلك الغاية يمكن أن تكون بعد انطباقها على منطقة المعدل مرتين أو حال انطباقها الثاني أو فيما بين الانطباقين وذلك أما بعد قطع نصف دورتها أو حال قطع النصف أو قبله ، وإن لم تصل إلى ما بين الانطباقين فإما أن تعود حال انطباقها الأول أو قبل ذلك ثمانية احتمالات عقلية لا مزيد عليها ، وعلى التقديرات الخمس الأول يتبادل نصفا سطح البروج الشمالي والجنوبي فيصير نصف سطح فلك البروج الذي هو شمالي عن المعدل جنوبيا عنه وبالعكس مع ما يتبع النصفين من الأحكام فتثبت أحكام النصف الشمالي للنصف الجنوبي بعد صيرورته شماليا وأحكام الجنوبي للشمالي بعد صيرورته جنوبيا وفي الثلاثة الأولى منها ينطبق كل واحد من نصفي منطقة البروج على كل واحد من نصفي منطقة المعدل ، وعلى التقديرات الباقية بعد الخمسة الأولى لا يتبادل غير البعض من السطح المذكور ، وعلى التقديرات السبعة الأولى ينطبق النصف من منطقة فلك البروج على النصف المجاور له من منطقة المعدل وعند كل انطباق يتساوى الليل والنهار في جميع البقاع لأن مدار الشمس هو المعدل المنصف بالآفاق القاطعة له وتبطل
فصول السنة لأن بعد الشمس عن سمت الرأس يكون شيئا واحدا هو مقدار عرض البلد ويستمر الحال على هذا إلى أن تفترق المنطقتان بمقدار يحس به ولا يكون ذلك إلا في مدة طويلة ، وعلى التقدير الثاني لا يكون شيء من الانطباق وتساوي الملوين وبطلان الفصول إلا أن الارتفاعات ومقادير الأيام والليالي لا جزاء بعينها من فلك البروج تزيد وتنقص في بقعة بعينها انتهى ملخصا.
ولا يخفى أنه من لوازم ما ذكروه من التبادل الناشئ عن الانطباق مرتين انطباق قطب البروج الجنوبي على قطب العالم الشمالي وعكسه وصيرورة بروج الخريف بروج الربيع وعكسه وبروج الصيف بروج الشتاء وعكسه وانعكاس توالي البروج إلى خلافه فيطلع الحوت ثم الدلو ثم الجدي وهكذا إلى الحمل وتوافق حركة ما حركته من المغرب إلى المشرق لحركة الفلك الأعظم إلى غير ذلك ، وليس صيرورة المشرق مغربا والمغرب مشرقا من لوازم الانطباق المذكور بل لا يتصور أصلا ، نعم لو كان المدعي انطباق منطقة المعدل على منطقة فلك البروج بحيث تكون الحركة للمعدل نحو المنطقة لتصور ما ذكر لكنه ممتنع على ما صرح به السيد السند فيما مر وقد فرض عدم الامتناع فتدبر. والانتظار في الآية محمول على التمثيل المبني على تشبيه حال هؤلاء الكفار في الإصرار على الكفر والتمادي على العناد إلى أن تأتيهم تلك الأمور الهائلة التي لا بد لهم من الإيمان عند مشاهدتها البتة بحال المنتظرين لها وهذا هو الذي يقتضيه التفسير المأثور ولا ينبغي العدول عن ذلك التفسير بعد أن صحت نسبة بعضه إلى رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم والبعض

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 307
الآخر إلى بعض أصحابه رضي الله تعالى عنهم وليس في النظم الكريم ما يأباه ولا أن المقام إنما يساعد على ما سواه.
وقيل : المراد بإتيان الملائكة وإتيان الرب سبحانه ما اقترحوه بقولهم : لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا [الفرقان : 21] وبقولهم : أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الإسراء : 92] وبإتيان بعض الآيات غير ما ذكر كما اقترحوا بقولهم : أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً [الإسراء : 92] ونحو ذلك من عظائم الآيات التي علقوا بها إيمانهم ، وجوز حمل بعض الآيات في قوله سبحانه : يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ على ما يعم مقترحاتهم وغيرها من الدواهي العظام السالبة للاختيار الذي يدور عليه فلك التكليف وهو كلام في نفسه ليس بالدون ولكن إن صح الحديث فهو مذهبي ، والتعبير بالبعض للتهويل والتفخيم كما أن إضافة الآيات إلى اسم الرب المنبئ عن المالكية الكلية لذلك ، وإضافته إلى ضميره عليه الصلاة والسلام للتشريف. وتنكير نَفْساً للتعميم. وجملة «لم تكن آمنت» في موضع النصب صفة لنفسا فصل بينهما بالفاعل لاشتمالها على ضمير الموصوف ولا ضير فيه لأنه غير أجنبي منه لاشتراكهما في العامل ، وجوز كونها استئنافية و«يوم» منصوب بلا ينفع. وامتناع عمل ما بعد لا فيما قبلها إنما هو عند وقوعها جواب القسم.
وقرأ حمزة والكسائي «يأتيهم» بالياء لأن تأنيث الملائكة غير حقيقي. وقرىء «يوم» بالرفع على الابتداء.
والخبر هو الجملة والعائد محذوف أي لا ينفع فيه. وقرأ أبو العالية. وابن سيرين «لا تنفع» بالتاء الفوقانية ، وخرجها ابن جني على أنها من باب قطعت بعض أصابعه فالمضاف فيه قد اكتسب التأنيث من المضاف إليه لكونه شبيها بما يستغنى عنه ، وقال أبو حيان : إن التأنيث لتأويل الإيمان بالعقيدة والمعرفة مثل جاءته كتابي فاحتقرها على معنى الصحيفة.
وقوله سبحانه : أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً عطف على آمَنَتْ والكلام محمول على نفي الترديد المستلزم للعموم المفيد بمنطوقه لاشتراط عدم النفع بعدم الأمرين معا الإيمان المقدم والخير المكسوب فيه وبمفهومه لاشتراط النفع بتحقق أحدهما بطريق منع الخلو دون الانفصال الحقيقي. والمعنى أنه لا ينفع الإيمان حينئذ نفسا لم يصدر عنها من قبل أما الإيمان المجرد أو الخير المكسوب فيه فيتحقق الخير بأيهما كان حسبما تنطق به النصوص الكريمة من الآيات والأحاديث الصحيحة. والمعتزلة يقولون : إن الترديد بين النفيين ، والمراد نفي العموم لا عموم النفي.
والمعنى أنه لا ينفع الإيمان حينئذ نفسا غير مقدمة إيمانها أو مقدمة إيمانها غير كاسبة فيه خيرا. وهذا صريح فيما ذهبوا إليه من أن الإيمان المجرد عن العمل لا يعتبر ولا ينفع صاحبه. ولم يحملوا ذلك على عموم النفي كما قرروه في قوله تعالى : وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الإنسان : 24] لأن ذلك حيث لم تقم قرينة حالية أو مقالية على خلافه وهنا قد قامت قرينة على خلافه فإنه لو اعتبر عموم النفي لغي ذكر اشتراط عدم النفع بالخلو عن كسب الخير في الإيمان ضرورة أنه إذا انتفى الإيمان قبل ذلك اليوم انتفى كسب الخير فيه قطعا على أن الموجب للخلود في النار هو عدم الإيمان من غير أن يكون لعدم كسب الخير دخل ما في ذلك أصلا فيكون ذكره بصدد بيان ما يوجب الخلود لغوا من الكلام أيضا.
وأجاب شيخ الإسلام عن ذلك بأنه مبني على توهم أن المقصود بوصف النفس بالعدمين المذكورين مجرد بيان إيجابهما للخلود فيها وعدم نفع الإيمان الحادث في إنجائها عنه وليس كذلك وإلا لكفى في البيان أن يقال : لا ينفع نفسا إيمانها الحادث بل المقصود الأصلي من وصفها بذينك العدمين في أثناء عدم نفع الإيمان الحادث تحقيق أن موجب النفع إحدى ملكيتهما أعني الإيمان السابق والخير المكسوب فيه لما ذكر من الطريقة والترغيب في تحصيلهما

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 308
في ضمن التحذير من تركهما ولا سبيل إلى أن يقال : كما أن عدم الأول مستقل في إيجاب الخلود في النار فيلغو ذكر عدم الثاني كذلك وجود مستقل في إيجاب الخلاص عنها فيكون ذكر الثاني لغوا لما أنه قياس مع الفارق كيف لا والخلود فيها أمر لا يتصور فيه تعدد العلل. وأما الخلاص منها مع دخول الجنة فله مراتب بعضها مترتب على نفس الإيمان وبعضها على فروعه المتفاوتة كما وكيفا.
ولم يقتصر على إتيان ما يوجب أصل النفع وهو الإيمان السابق مع أنه المقابل بما لا يوجبه أصلا وهو الإيمان الحادث بل قرن به ما يوجب النفع الزائد أيضا إرشادا إلى تحري الأعلى وتنبيها على كفاية الأدنى وإقناطا للكفرة عما علقوا به أطماعهم الفارغة عن أعمال البر التي عملوها في الكفر مما هو من باب المكارم وأن الإيمان الحادث كما لا ينفعهم وحده لا ينفعهم بانضمام أعمالهم السابقة واللاحقة. ثم قال : ولك أن تقول : المقصود بوصف النفس بما ذكر من العدمين التعريض بحال الكفرة في تمردهم وتفريطهم في كل واحد من الأمرين الواجبين عليهم وإن كان وجوب أحدهما منوطا بالآخر كما في قوله سبحانه : فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة : 30 ، 31] تسجيلا عليهم بكمال طغيانهم وإيذانا بتضاعف عقابهم لما تقرر من أن الكفار مخاطبون بالفروع في حق المؤاخذة كما ينبىء عنه قوله تعالى : وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ [فصلت : 6 ، 7] انتهى.
وقيل في دفع اللغوية غير ذلك ، وأجاب بعضهم عن متمسك المعتزلة بأن الآية مشتملة على ما سمي في علم البلاغة باللف التقديري كأنه قيل : لا ينفع نفسا إيمانها ولا كسبها في إيمانها خيرا لم تكن آمنت من قبل أو لم تكن كسبت خيرا فاقتصر للعلم به وفيه خفاء لا يخفى ، ومثله ما تفطن له بعض المحققين وإن تم الكلام به من غير لف ولا اعتبار اقتصار وهو أن معنى الآية أنه لا ينفع الإيمان باعتبار ذاته إذا لم يحصل قبل ولا باعتبار العمل إذا لم يعمل قبل ، ونفع الإيمان باعتبار العمل أن يصير سببا لقبول العمل فإن العبارة لا تحتمله ولا يفهم منها من غير اعتبار تقدير في نظم الكلام ، وقال مولانا ابن الكمال : إن المراد بالإيمان في الآية المعرفة كما يرشد إليه قراءة لا تنفع بالتاء وبكسب الخير الإذعان ونحن معاشر أهل السنة والجماعة نقول بما هو موجب النص من أن الإيمان النافع مجموع الأمرين ولا حجة فيه للمخالف لأن مبناها حمل الإيمان على المعنى الاصطلاحي المخترع بعد نزول القرآن وتخصيص الخير بما يكون بالجوارح وكل منهما خلاف الأصل والظاهر ، ولو سلم فنقول : الإيمان النافع لا بد فيه من أمرين الاعتقاد بالقلب والإقرار باللسان وقد عبر عن الأول بقوله سبحانه : آمَنَتْ وعن الثاني بقوله تعالى : أَوْ كَسَبَتْ فالكسب يكون بالآلات البدنية ومنها اللسان فمنطوق الآية على مذهبنا انتهى.
ولا يخفى عليك أن الألفاظ المستعملة في كلام الشارع حقائق شرعية يتبادر منها ما علم بلا قرينة ، والإيمان وإن صح أنه لم ينقل عن معناه اللغوي الذي هو تصديق القلب مطلقا وإن استعمل في التصديق الخاص إلا أن المتبادر منه هذا التصديق وحينئذ فكلام هذا العلامة لا يخلو عن نظر ، وأجاب القاضي البيضاوي بيض الله تعالى غرة أحواله بأن لمن اعتبر الإيمان المجرد عن العمل وقال بأنه ينفع صاحبه حيث يخلصه عن الخلود في النار تخصيص هذا الحكم بذلك أي إن هذا الحكم - أعني عدم نفع الإيمان المجرد صاحبه - مخصوص بذلك اليوم بمعنى أنه لا ينفعه فيه ولا يلزم منه أن لا ينفعه في الآخرة في شيء من الأوقات ، وليس المراد أن المحكوم عليه بعدم النفع هو ما حدث في ذلك اليوم من الإيمان والعمل ، ولا يلزم من عدم نفع ما حدث فيه عدم نفع الإيمان السابق عليه وإن كان مجردا عن العمل كما قيل لأن هذا ليس من تخصيص الحكم في شيء بل هو تخصيص للمحكوم عليه قد يرجع حاصله إلى اشتمال الآية على اللف التقديري كما أشرنا إليه. ويرد عليه أنه يلزم منه تخصيص الحكم بعدم نفع الإيمان الحادث في

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 309
ذلك اليوم به أيضا ولا قائل به إذ هو لا ينفع صاحبه في شيء من الأوقات بالاتفاق. ويمكن دفعه بأن التخصيص في حكم عدم النفع إنما يلاحظ بالنظر إلى الإيمان المجرد وباعتباره فقط على أن يكون معنى الآية يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع الإيمان الغير السابق إليه صاحبه فيه ولا الإيمان الغير المكتسب فيه الخير وإن نفع هو بالآخرة إلا أن في هذا تخصيصا في الحكم والمحكوم به فتأمل ، وبأن له أيضا صرف قوله سبحانه : كَسَبَتْ عن أن يكون معطوفا على آمَنَتْ إلى عطفه إلى لَمْ تَكُنْ لكن بعد جعل أو بمعنى الواو وحمل الإيمان في لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها على الإيمان الحادث في ذلك اليوم وإذا لم ينفع ذلك مع كسب الخير فيه يفهم منه عدم نفعه بدونه بالطريق الأولى وأنت تعلم أن مثل هذا الاحتمال يضر بالاستدلال ونحن بصدد الطعن باستدلالهم فلا يضرنا أن فيه نوع بعد ، ومن عجيب ما وقفت عليه لبعض فضلاء الروم في الجواب أَنْ أو بمعنى إلا وبعدها مضارع مقدر مثلها في قول الحريري في المقامة التاسعة : فو الله ما تمضمضت مقلتي بنومها ولا تمخضت ليلتي عن يومها أو ألفيت أبا زيد السروجي - والأصل أو يكون كسبت أي إلا أن يكون ، والمراد من هذا الاستثناء المبالغة في نفي النفي بتعليقه بالمحال كما في قوله تعالى : وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [النساء : 22]. وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [النساء : 23] في رأي. وقول الشاعر :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
وحاصل المعنى فيما نحن فيه إذا جاء ذلك إليهم لا ينفع الإيمان نفسا لم تكن آمنت من قبل ذلك اليوم إلا أن تكون تلك النفس التي لم تكن آمنت من قبل كسبت في الإيمان خيرا قبل ذلك اليوم وكسب الخير في الإيمان قبل ذلك اليوم للنفس التي لم تكن آمنت قبل ممتنع فالنفع المطلوب أولى بأن يكون ممتنعا ، وقد أجيب عن الاستدلال بوجوه أخر ، وحاصل جميع ذلك أن الآية لما فيها من الاحتمالات لا تكون معارضة للنصوص القطعية المتون القوية التي لا يشوبها مثل ذلك الصادحة بكفاية الإيمان المجرد عن العمل في الإنجاء من العذاب الخالد ولو بعد اللتيّا والتي ، وبعد ذلك كله يرد على المعتزلة أن الخير نكرة في سياق النفي فيعم ويلزم أن يكون نفع الإيمان بمجرد الخير ولو واحدا وليس ذلك مذهبهم فإن جميع الأعمال الصالحة داخلة في الخير عندهم.
قُلِ لهم بعد بيان حقيقة الحال على وجه التهديد انْتَظِرُوا ما تنتظرونه من إتيان أحد هذه الأمور إِنَّا مُنْتَظِرُونَ لذلك وحينئذ نفوز وتهلكون ، وقيل : في هذا تأييد لكون المراد بما ينتظرونه إتيان ملائكة العذاب أو إتيان أمره تعالى به وعدة ضمنية لرسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم والمؤمنين بمعاينتهم بما يحيق بالكفرة من العقاب ، ولعل ذلك هو الذي شاهدوه يوم بدر.
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ استئناف لسان أحوال أهل الكتابين إثر بيان حال المشركين بناء على ما روي عن ابن عباس وقتادة أن الآية نزلت في اليهود والنصارى أي بددوا دينهم وبعضوه فتمسك بكل بعض منه فرقة منهم. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه ، وحمزة ، والكسائي «فارقوا»
بالألف أي باينوا فإن ترك بعضه وإن كان بأخذ بعض آخر منه ترك الكل أو مفارقة له وَكانُوا شِيَعاً أي فرقا تشيع كل فرقة إماما وتتبعه أو تقويه وتظهر أمره.
أخرج أبو داود.
والترمذي وصححه. وابن ماجة. وابن حبان وصححه الحاكم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم : «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلهم في الهاوية إلا واحدة وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة كلهم في الهاوية إلا واحدة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في الهاوية إلا واحدة»
واستثناء الواحدة من فرق كل من أهل الكتابين إنما هو بالنظر إلى العصر الماضي قبل النسخ وأما بعده فالكل في الهاوية وإن اختلفت أسباب دخولهم. ومن

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 310
غريب ما وقع أن بعض متعصبي الشيعة الإمامية من أهل زماننا واسمه حمد روى بدل إلا واحدة في هذا الخبر إلا فرقة وقال : إن فيه إشارة إلى نجاة الشيعة فإن عدد لفظ فرقة بالجمل وعدد لفظ شيعة سواء فكأنه قال عليه الصلاة والسلام :
إلا شيعة ، والمشهور بهذا العنوان هم الشيعة الإمامية فقلت له بعد عدة تزييفات لكلامه : يلزم هذا النوع من الإشارة أن تكون كلبا لأن عدد كلب وعدد حمد سواء فألقم الكلب حجرا.
لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ أي من السؤال عنهم والبحث عن تفرقهم أو من عقابهم أو أنت بريء منهم ، وقيل :
يحتمل أن يكون هذا وعدا لرسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم بالعصمة عنهم أي لست منهم في شيء من الضرر ، وعن السدي أنه نهى عن التعرض لقتالهم ثم نسخ بما في سورة براءة ، ومِنْهُمْ في موضع الحال لأنه صفة نكرة قدمت عليها إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ تعليل للنفي المذكور أي هو يتولى وحده أمر أولاهم وآخرتهم ويدبره حسبما تقتضيه الحكمة ، وقيل : المفرقون أهل البدع من هذه الأمة ،
فقد أخرج الحكيم الترمذي ، وابن جرير ، والطبراني ، والشيرازي في الألقاب ، وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في قوله سبحانه : إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا إلخ «هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة».
وأخرج الترمذي ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والطبراني ، وأبو نعيم في الحلية ، والبيهقي في الشعب وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم قال لعائشة رضي الله تعالى عنها : «يا عائشة إن الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعا هم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء وأصحاب الضلالة من هذه الأمة ليس لهم توبة يا عائشة إن لكل صاحب ذنب توبة غير أصحاب البدع وأصحاب الأهواء فإنهم ليس لهم توبة وأنا منهم بريء وهم مني برآء»
فيكون الكلام استئنافا لبيان حال المبتدعين إثر بيان حال المشركين إشارة إلى أنهم ليسوا منهم ببعيد ، ولعل جملة إِنَّما أَمْرُهُمْ إلخ على هذا ليست للتعليل وإنما هي للوعيد على ما فعلوا أي إن رجوعهم إليه سبحانه ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ يوم القيامة بِما كانُوا يَفْعَلُونَ في الدنيا على الاستمرار بالعقاب عليه مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ استئناف مبين لمقادير أجزية العاملين وقد صدر ببيان أجزية المحسنين المدلول عليهم بذكر أضدادهم أي من جاء من المؤمنين بالخصلة الواحدة من خصال الطاعة أي خصلة كانت ، وقيل : التوحيد ونسب إلى الحسن وليس بالحسن فَلَهُ عَشْرُ حسنات أَمْثالِها فضلا من الله تعالى.
وقرأ يعقوب «عشر» بالتنوين «أمثالها» بالرفع على الوصف ، وهذا أقل ما وعد من الأضعاف ، وقد جاء الوعد بسبعين وسبعمائة وبغير حساب ، ولذلك قيل : المراد بالعشر الكثرة لا الحصر في العدد الخاص.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة. وأبو الشيخ عن ابن عباس ، وعبد بن حميد ، وغيره عن ابن عمر أن الآية نزلت في الأعراب خاصة ، وأما المهاجرون فالحسنة مضاعفة لهم بسبعمائة ضعف ، والظاهر العموم.
وتجريد عَشْرُ من التاء لكون المعدود مؤنثا كما أشرنا إليه لكنه حذف وأقيمت صفته مقامه ، وقيل : إنه المذكور إلا أنه اكتسب التأنيث من المضاف إليه وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ كائنا من كان من العالمين فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها بحكم الوعد واحدة بواحدة ، وإيجاب كفر ساعة عقاب الأبد لأن الكافر على عزم أنه لو عاش أبدا لبقي على ذلك الاعتقاد أبدا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ بنقص الثواب وزيادة العقاب. فإن ذلك منه تعالى لا يعد ظلما إذ له سبحانه أن يعذب المطيع ويثيب العاصي ، وقيل : المعنى لا ينقصون في الحسنات من عشر أمثالها وفي السيئة من مثلها في مقام الجزاء.
ومن المعتزلة من استدل بهذه الآية على إثبات الحسن والقبح العقليين ، واختلف في تقريره فقيل : إنهم لما رأوا

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 311
أن أحد أدلة الأشاعرة على النفي أن العبد غير مستبد في إيجاد فعله كما بين في محله فلا يحكم العقل بالاستقلال على ترتب الثواب والعقاب عليه قالوا : إن قوله سبحانه : مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ إلخ صريح في أن العبد مستبد مختار في فعله الحسن والقبيح ، وإذا ثبت ذلك يثبت الحسن والقبح العقليان. وأجيب عنه بأن الآية لا تدل على استبداد العبد غاية ما فيها أنها تدل على المباشرة وهم لا ينكرونها ، وقيل : إن الآية دلت على أن لله تعالى فعلا حسنا ولو كان حسن الأفعال لكونها مأمورة أو مأذونا فيها لما كان فعل الله تعالى حسنا إذ هو غير مأمور ولا مأذون ، وأيضا لو تقوف معرفة الحسن والقبح على ورود الشرع لما كانت أفعاله تعالى حسنة قبل الورود وهو خروج عن الدين.
وأجيب أما عن الأول فبأنا لا ندعي أنه لا حسن إلا ما أمر به أو أذن في فعله حتى يقال : يلزم أن تكون أفعال الله تعالى غير حسنة إذ يستحيل أن يكون مأمورا بها أو مأذونا فيها بل ما أمر الشارع بفعله أو أذن فيه فهو حسن ولا ينعكس كنفسه بل قد يكون الفعل حسنا باعتبار موافقة الغرض أو باعتبار أنه مأمور بالثناء على فاعله ، وبهذا الاعتبار كان فعل الله تعالى حسنا سواء وافق الغرض أو خالف ، وأما عن الثاني فبأن الحسن والقبح وإن فسرا بورود الشرع بالمنع والإطلاق لكن لا نسلم أنه لا حسن ولا قبح إلا بالشرع حتى يلزمنا ذلك بل الحسن والقبح أعم مما ذكر كما عرف في موضعه ، ولا يلزم من تحقق معنى الحسن والقبح بغير ورود الشرع بالمنع والإطلاق أن يكون ذاتيا للأفعال ، ولا يخفى على المطلع أن قولهم : لو كان حسن الأفعال إلخ. وقولهم : لو توقف معرفة الحسن والقبح إلخ شبهتان مستقلتان من شبه عشر إلزامية ذكرها الآمدي في إبكار الأفكار وأن كلا من التقريرين السابقين لا يخلو عن بعد نظر فتدبر.
قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي أمر له صلّى اللّه عليه وسلّم بأن يبين ما هو عليه من الدين الحق الذي يدعي المفرقون أنهم عليه وقد فارقوه بالكلية ، وتصدير الجملة بحرف التحقيق لإظهار كمال العناية بمضمونها ، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لما مر غير مرة أي قل يا محمد لهؤلاء المفرقين أو للناس كافة : أرشدني ربي بالوحي وبما نصب في الآفاق والأنفس من الآيات إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل إلى الحق.
وقوله سبحانه : دِيناً بدل من محل صِراطٍ إذ المعنى فهداني صراطا نظير قوله تعالى : «وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً» أو مفعول فعل مضمر دل عليه المذكور أي هداني أو أعطاني أو عرفني دينا ، وجوز أن يكون مفعولا ثانيا للمذكور. وقوله سبحانه : قِيَماً مصدر كالصغر والكبر نعت به مبالغة. وجوز أن يكون التقدير ذا قيم ، والقياس قوما كعوض وحول فاعل تبعا لإعلال فعله أعني قام كالقيام. وقرأ كثير «قيما» وهو فيعل من قام أيضا كسيد من ساد - وهو على ما قيل - أبلغ من المستقيم باعتبار الهيئة والمستقيم أبلغ منه باعتبار مجموع المادة والهيئة ، وقيل :
أبلغية المستقيم لأن السين للطلب فتفيد طلب القيام واقتضاءه ، ولا فرق بين القيم والمستقيم في أصل المعنى عند الكثير ، وفسروا القيم بالثابت المقوم لأمر المعاش والمعاد ، وجعلوا المستقيم من استقام الأمر بمعنى ثبت وإلا لا يتأتى ما ذكر ، وقيل : المستقيم مقابل المعوج والقيم الثابت الذي لا ينسخ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ نصب بتقدير أعني أو عطف بيان لدينا بناء على جواز تخالف البيان والمبين تعريفا وتنكيرا حَنِيفاً أي مائلا عن الأديان الباطلة أو مخلصا لله تعالى في العبادة وهو حال من إبراهيم ، وقد أطبقوا على جواز مجيء الحال من المضاف إليه إذا كان المضاف جزءا منه أو بمنزلة الجزء حيث يصح قيامه مقامه. والعامل في هذه الحال هو العامل في المضاف. وقيل : معنى الإضافة لما فيه من معنى الفعل المشعر به حرف الجر ، وقد تقوى هذا المعنى هنا بما بين المتضايفين من الجزئية أو شبهها.
وجوز أن يكون مفعولا لفعل مقدر أي أعني حنيفا وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اعتراض مقرر لنزاهته عليه الصلاة والسلام عما عليه المبطلون ، وقيل : عطف على ما تقدم. وفيه رد على الذين يدعون أنهم على ملته عليه الصلاة

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 312
والسلام من أهل مكة القائلين : الملائكة بنات الله واليهود القائلين : عزير ابن الله والنصارى القائلين : عيسى ابن الله قُلْ إِنَّ صَلاتِي أي جنسها لتشمل المفروضة وغيرها. وأعيد الأمر لمزيد الاعتناء ، وقيل : لأن المأمور به متعلق بفروع الشرائع وما سبق بأصولها وَنُسُكِي أي عبادتي كلها كما قال الزجاج ، والجبائي ، وهو من عطف العام على الخاص. وعن سعيد بن جبير ، ومجاهد ، والسدي أن المراد به الذبيحة للحج والعمرة. وعن قتادة الأضحية ، وجمع بينه وبين الصلاة كما في قوله تعالى : فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر : 2] على المشهور. وقيل : المراد به الحج أي إن صلاتي وحجي وَمَحْيايَ وَمَماتِي أي ما يقارن حياتي وموتي من الإيمان والعمل الصالح.
وقيل : يحتمل أن يكون المراد بالمحيا والممات ظاهر والأول هو المناسب لقوله تعالى : لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ إذ المراد به الخلوص بحسب الظاهر. وقيل : المراد به نظرا لهذا الاحتمال أن ذلك له تعالى ملكا وقدرة لا شَرِيكَ لَهُ أي في عبادتي أو فيها وفي الإحياء والإماتة. وقرأ نافع «محياي» بإسكان الياء إجراء للوصل مجرى الوقف ، وفي رواية أنه كسر الياء ، وعلى الرواية الأولى إنما جاز التقاء الساكنين لنية الوقف وفيه يجوز ذلك فطعن بعضهم في ذلك بأن فيه الجمع بين الساكنين وهو لا يجوز ليس في محله ، وقد روى هذه القراءة عن نافع جماعة ، وما قيل : إنه رجع عنها وأنه لا يحل لأحد نقلها عنه ليس بشيء.
وَبِذلِكَ أي القول أو الإخلاص أُمِرْتُ لا بشيء غيره وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ أو المنقادين إلى امتثال ما أمر الله تعالى به ، وقيل : المستسلمين لقضاء الله تعالى وقدره ، والمراد مسلمي أمته كما قيل ، وهذا شأن كل نبي بالنسبة إلى أمته ، وقيل : هذا إشارة إلى
قوله عليه الصلاة والسلام «أول ما خلق الله تعالى نوري»
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا إنكار لبغية غيره تعالى ربا لا لبغية الرب ولهذا قدم المفعول ، وليس التقديم للاختصاص إذ المقصود أغير الله أطلب ربا وأجعله شريكا له ، وعلى تقدير الاختصاص لا يكون إشراكا للغير بل توحيد ، وقال بعض المحققين : لا يبعد أن يقال التقديم للاختصاص. وذكر في رد دعوته إلى الغير رد الاختصاص تنبيها على أن إشراك الغير بغية غير الله تعالى إذ لا بغية له سبحانه إلا بتوحيده عز وجل ، وما في النظم الكريم أبلغ من أغير الله أعبد ونحوه كما لا يخفى وَهُوَ سبحانه رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ جملة حالية مؤكدة للإنكار أي والحال أن كل ما سواه مربوب فكيف يتصور أن يكون شريكا له وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها يروى أنهم كانوا يقولون للمسلمين : «اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم» فرد عليهم بما ذكر أي إن ما كسبته كل نفس من الخطايا محمول عليها لا على غيرها حتى يصح قولكم ، وعلى هذا يكون قوله سبحانه : وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ أي نفس آثمة وِزْرَ أُخْرى تأكيدا لما قبله ، وقيل : إن قولهم ذلك يحتمل معنيين : الأول ، اتبعوا سبيلنا وليكتب علينا ما عملتم من الخطايا لا عليكم. والثاني اتبعوا لنحمل يوم القيامة ما كتب عليكم من الخطايا.
وقوله تعالى : وَلا تَكْسِبُ إلخ رد له بالمعنى الأول ، وقوله سبحانه : وَلا تَزِرُ إلخ رد له بالمعنى الثاني ، وقيل : إن جواب قولهم هو الثاني ، وأن الأول من جملة الجواب عن دعواهم إلى عبادة آلهتهم يعني لو أجبتكم إلى ما دعوتموني إليه لم أكن معذورا بأنكم سبقتموني إليه وقد فعلته متابعة لكم ومطاوعة فلا يفيدني ذلك شيئا ولا ينجيني من الله تعالى لأن كسب كل أحد وعمله عائد عليه ، ورجحه بعضهم على الأول بأن التأسيس خير من التأكيد ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ تلوين للخطاب وتوجيه له إلى الكل لتأكيد الوعد وتشديد الوعيد أي إلى مالك أمركم رجوعكم يوم القيامة فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ببيان الرشد من الغي وتمييز الحي من اللي.
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ أي يخلف بعضكم بعضا كلما مضى قرن جاء قرن حتى تقوم الساعة

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 313
ولا يكون ذلك إلا من عالم مدبر ، وإلى هذا ذهب الحسن أو جعلكم خلفاء الله تعالى في أرضه تتصرفون فيها - كما قيل - والخطاب عليهما عام ، وقيل : الخطاب لهذه الأمة ، وروي ذلك عن السدي أي جعلكم خلفاء الأمم السالفة وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ في الفضل والغنى كما روي عن مقاتل دَرَجاتٍ كثيرة متفاوتة لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ أي ليعاملكم معاملة من يبتليكم لينظر ماذا تعملون مما يرضيه وما لا يرضيه إِنَّ رَبَّكَ تجريد الخطاب لرسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم مع إضافة اسم الرب إليه عليه الصلاة والسلام لإبراز مزيد اللطف به صلّى اللّه عليه وسلّم سَرِيعُ الْعِقابِ أي عقابه سبحانه الأخروي سريع الإتيان لمن لم يراع حقوق ما آتاه لأن كل آت قريب أو سريع التمام عند إرادته لتعاليه سبحانه عن استعمال المبادئ والآلات.
وجوز أن يراد بالعقاب عقاب الدنيا كالذي يعقب التقصير من البعد عن الفطرة وقساوة القلب وغشاوة الأبصار وصم الأسماع ونحو ذلك وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لمن راعى حقوق ما آتاه الله تعالى كما ينبغي.
وفي جعل خبر هذه الجملة هذين الوصفين الواردين على بناء المبالغة مع التأكيد باللام مع جعل خبر الأولى صفة جارية على غير من هي له ما لا يخفى من التنبيه على أنه سبحانه غفور رحيم بالذات لا تتوقف مغفرته ورحمته على شيء كما يشير إليه قوله سبحانه
في الحديث القدسي «سبقت رحمتي غضبي»
مبالغ في ذلك فاعل للعقوبة بالعرض وبعد صدور ذنب من العبد يستحق به ذلك ، وما ألطف افتتاح هذه السورة بالحمد وختمها بالمغفرة والرحمة نسأل الله تعالى أن يجعل لنا الحظ الأوفر منهما إنه ولي الإنعام وله الحمد في كل ابتداء وختام.
ومن باب الإشارة في الآيات : سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بالله تعالى وأثبتوا وجودا غير وجوده لَوْ شاءَ اللَّهُ تعالى ما أَشْرَكْنا به سبحانه شيئا وَلا أشرك آباؤُنا من قبلنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ قالوا ذلك تكذيبا للرسل عليهم السلام كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وقالوا مثل قولهم حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا الذي حل بهم لتكذيبهم وهو الحجاب قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فتخرجوه لنا بالبيان إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ لأنكم محجوبون في مقام النفس قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ أي إن كان الأمر كما قلتم فليس لكم حجة بل لله تعالى الحجة عليكم لأنه تعالى لا يشاء إلا ما يعلمه في الأزل ولا يعلم الشيء إلا على ما هو عليه في نفسه فلو لم تكونوا في أنفسكم مشركين سيئي الاستعداد لما شاء الله تعالى ذلك منكم فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ لكنه لم يشأ إذ ليس في استعدادكم الأزلي ذلك.
وتحتمل الآية وجوها أخر لعلها غير خفية قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً فإن إثبات موجود غير الله تعالى ظلم عظيم وَبِالْوالِدَيْنِ أي الروح والقلب أحسنوا إِحْساناً برعاية حقوقهما وَلا تَقْتُلُوا أي تهلكوا أَوْلادَكُمْ قواكم باستعمالها في غير ما هي له مِنْ إِمْلاقٍ أي من أجل فقركم من الفيض الأقدس نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ بأن نفيض عليكم وعليهم ما تتغذون به من المعارف بمقدار إذا توجهتم إلينا وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ الأعمال الشنيعة ما ظَهَرَ مِنْها كأفعال الجوارح وَما بَطَنَ كأفعال القلب وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ تعالى قتلها إِلَّا بِالْحَقِّ أي إلا بسببه بأن تريدوا توجهها إليه أو إلا قتلا متلبسا به وهو قتلها إذا مالت إلى السوي وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ
أي ما أعد ليتيم القلب المنقطع عن علائق الدنيا والآخرة من المعارف التي هي وراء طور العقل إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
وهي التصديق بذلك إجمالا وعدم إنكاره حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
فيقوى على قبول أنواع التجليات ، وحينئذ يصح لكم أن تقربوا ما أعد الله تعالى له من هاتيك المعارف لقوة قلوبكم وتقدس أرواحكم.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 314
ومن الناس من جعل اليتيم إشارة إلى حضرة الرسالة عليه الصلاة والسلام وهو كما ترى وَأَوْفُوا الْكَيْلَ
أي كيل الشرع بمراعاة الحقوق الظاهرة وَالْمِيزانَ
أي ميزان الحقيقة بمراعاة الحقوق الباطنة بِالْقِسْطِ
بالعدل وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا
أي لا تقولوا إلا الحق وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا
وهو التوحيد وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً غير مائل إلى اليمين والشمال فَاتَّبِعُوهُ لتصلوا إلى الله تعالى ولا تتبعوا السبل التي وصفها أهل الاحتجاب «فتفرق بكم عن سبيله» فتضلوا ولا تصلوا إليه سبحانه هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ لتوفي أرواحهم أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ بالتجلي الصوري يوم القيامة كما صح في ذلك الحديث أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ وهو الكشف عن ساق يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ وهو الكشف المذكور لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها حينئذ لانقطاع التكليف.
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ أي جعلوا دينهم أهواء متفرقة كالذين غلبت عليهم صفات النفس وَكانُوا شِيَعاً فرقا مختلفة بحسب غلبة تلك الأهواء لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إذ هم أهل التفرقة والاحتجاب بالكثرة فلا تجتمع هممهم ولا تتحد مقاصدهم إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ في جزاء تفرقهم ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ عند ظهور هيئات أهوائهم المختلفة المتفرقة بِما كانُوا يَفْعَلُونَ من السيئات واتباع الهوى مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وذلك لأن السيئة من مقام النفس وهي مرتبة الآحاد والحسنة أول مقاماتها مقام القلب وهي مرتبة العشرات وأقل مراتبها عشرة ، وقد يضاعف الحسنة بأكثر من ذلك إذ كانت من مقام الروح أو مقام السر وهذا هو السر في تفاوت جزاء الحسنات التي تشير إليه النصوص قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ هو طريق التوحيد الذاتي دِيناً قِيَماً ثابتا لا تنسخه الملل والنحل مِلَّةَ إِبْراهِيمَ التي أعرض بها عن السوي حَنِيفاً مائلا عن كل دين فيه شرك قُلْ إِنَّ صَلاتِي حضوري وشهودي بالروح وَنُسُكِي تقربي بالقلب وَمَحْيايَ بالحق وَمَماتِي بالنفس لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا نصيب لأحد مني في ذلك لا شَرِيكَ لَهُ في شيء أصلا إذ لا وجود سواه وَبِذلِكَ الإخلاص وعدم رؤية الغير أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ المنقادين للفناء فيه سبحانه قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا فاطلب مستحيلا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ أي وما سواه باعتبار تفاصيل صفاته سبحانه مربوب وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلا عليها إذ كسب النفس شرك في أفعاله تعالى وكل من أشرك فوباله عليه وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى لعدم تجاوز الملائكة إلى غير صاحبها وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ بأن جعلكم
له مظهر أسمائه ورفع بعضكم فوق بعض درجات في تلك المظهرية لأنها حسب الاستعداد وهو متفاوت لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ ويظهر علمه بمن يقوم برعاية ما آتاه وبمن لا يقوم إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ لمن لم يراع وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لمن يراعي ذلك ، نسأل الله تعالى أن يوفقنا لمراضيه ويجعل مستقبل حالنا خيرا من ماضيه. «1»
___________
(1) في اصل المؤلف رحمه الله تعالى من الجزء الثاني من تقسيمه دعاء لسلطان وقته وزمانه فحذفناه لعدم الحاجة اليه الآن واسأل الله تعالى ان يقوي شوكة المسلمين وان يوفقهم للعمل بالشرع ويهديهم.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 315
سورة الأعراف
أخرج أبو الشيخ ، وابن حبان ، عن قتادة قال : هي مكية إلا آية وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ [الأعراف : 163] ، وقال غيره : إن هذا إلى وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ [الأعراف : 172] مدني : وأخرج غير واحد عن ابن عباس. وابن الزبير أنها مكية ولم يستثنيا شيئا ، وهي مائتان وخمس آيات في البصري والشامي وست في المدني والكوفي - فالمص.
وبدأكم تعودون - كوفي ومُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [الأعراف : 29] بصري شامي وضِعْفاً مِنَ النَّارِ [الأعراف :
38] والْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ [الأعراف : 137] مدني وكلها محكم ، وقيل : إلا موضعين ، الأول وَأُمْلِي لَهُمْ [الأعراف : 183] فإنه نسخ بآية السيف والثاني خُذِ الْعَفْوَ [الأعراف : 199] فإنه نسخ بها أيضا عند ابن زيد ، وادعى أيضا أن وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف : 199] كذلك وفيما ذكر نظر ، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى. ومناسبتها لما قبلها على ما قاله الجلال السيوطي عليه الرحمة أن سورة الأنعام لما كانت لبيان الخلق وفيها هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ [الأنعام : 2] وقال سبحانه في بيان القرون كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ [الأنعام : 6 ، ص : 3] وأشير إلى ذكر المرسلين وتعداد الكثير منهم وكان ما ذكر على وجه الإجمال جيء بهذه السورة بعدها مشتملة على شرحه وتفصيله فبسط فيها قصة آدم وفصلت قصص المرسلين وأممهم وكيفية هلاكهم أكمل تفصيل ويصلح هذا أن يكون تفصيلا لقوله تعالى : وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ [الأنعام :
165] ولهذا صدر السورة بخلق آدم الذي جعله في الأرض خليفة ، وقال سبحانه في قصة عاد : جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الأعراف : 69] وفي قصة ثمود جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ [الأعراف : 74] وأيضا فقد قال سبحانه فيما تقدم كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام : 12] وهو كلام موجز وبسطه سبحانه هنا بقوله تعالى :
وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأعراف : 156] إلخ ، وأما وجه ارتباط أول هذه السورة بآخر الأولى فهو أنه قد تقدم وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام : 153] وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام : 155] وافتتح هذه بالأمر باتباع الكتاب ، وأيضا لما تقدم ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [الأنعام : 108] قال جل شأنه في مفتتح هذه : فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ [الأعراف : 6] إلخ وذلك من شرح التنبئة المذكورة. وأيضا لما قال سبحانه مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ [الأنعام :
160] الآية وذلك لا يظهر إلا في الميزان افتتح هذه بذكر الوزن فقال عز من قائل : وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 316
[الأعراف : 8] ثم من ثقلت موازينه وهو من زادت حسناته على سيئاته ثم من خفت وهو على العكس ثم ذكر سبحانه بعد أصحاب الأعراف وهم في أحد الأقوال من استوت حسناتهم وسيئاته.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 1 إلى 18]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4)
فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14)
قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. المص سبق الكلام في مثله وبيان ما فيه فلا حاجة إلى الإعادة خلا أنه قيل هنا : إن معنى المصور وروي ذلك عن السدي ، وأخرج البيهقي وغيره عن ابن عباس أن المعنى أنا الله أعلم وأفصل واختاره الزجاج وروي عن ابن جبير ، وفي رواية أخرى عن الحبر أنه وكذا نظائره قسم أقسم الله تعالى به وهو من أسمائه سبحانه. وعن الضحاك أن معناه أنا الله الصادق ، وعن محمد بن كعب القرظي أن الألف واللام من الله والميم من الرحمن والصاد من الصمد ، وقيل : المراد به أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح : 1].
وذكر بعضهم أنه ما من سورة افتتحت - بالم - إلا وهي مشتملة على ثلاثة أمور : بدء الخلق. والنهاية التي هي المعاد والوسط الذي هو المعاش وإليها الإشارة بالاشتمال على المخارج الثلاثة الحلق واللسان والشفتين. وزيد في هذه الصورة على ذلك الصاد لما فيها مع ما ذكر من شرح القصص وهو كما ترى والله تعالى أعلم بمراده.
وقوله سبحانه : كِتابٌ على بعض الاحتمالات خبر لمبتدأ محذوف أي هو أو ذلك كتاب ، وقوله سبحانه :
أُنْزِلَ إِلَيْكَ أي من عنده تعالى صفة له مشرّفة لقدره وقدر من أنزل إليه صلّى اللّه عليه وسلّم. وبني الفعل للمفعول جريا على سنن الكبرياء وإيذانا بالاستغناء عن التصريح بالفاعل لغاية ظهور تعينه وهو السر في ترك ذكر مبدأ الإنزال ، والتوصيف بالماضي إن كان الكتاب عبارة كالقرآن عن القدر المشترك بين الكل والجزء ظاهر. وإن كان المجموع فلتحققه جعل

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 317
كالماضي. واختار الزمخشري ومن وافقه أن المراد بالكتاب هنا السورة وفيه من المبالغة ما لا يخفى إن قلنا : إنه لم يطلق على البعض وإذا قلنا بإطلاقه على ذلك كما في قوله : ثبت هذا الحكم بالكتاب فالأمر واضح. ومن الناس من جوز جعل كِتابٌ مبتدأ والجملة بعده خبره على معنى كتاب أي كتاب أنزل إليك. ولا يخفى أن الأول أولى لأن هدا خلاف الأصل. وحذف المبتدأ أكثر من أن يحصى فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ أي شك كما قال ابن عباس وغيره. وأصله الضيق واستعماله في ذلك مجاز - كما في الأساس - علاقته اللزوم فإن الشاك يعتريه ضيق الصدر كما أن المتيقن يعتريه انشراحه وانفساحه. والقرينة المانعة هو امتناع حقيقة الحرج والضيق من الكتاب وإن جوزتها فهو كناية. وعلى التقديرين هو قد صار حقيقة عرفية في ذلك كما قاله بعض المحققين.
وجوز أن يكون باقيا على حقيقته لكن في الكلام مضاف مقدر كخوف عدم القبول والتكذيب فإنه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يخاف قومه وتكذيبهم وإعراضهم عنه وأذاهم له. ويشهد لهذا التأويل قوله تعالى : فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ [هود : 12] الآية. وللأول قوله تعالى : فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [البقرة : 147 ، الأنعام : 114 ، يونس : 94] وقد يقال : إنه كناية عن الخوف والخوف كما يقع على المكروه يقع على سببه.
وتوجيه النهي إلى الحرج بمعنى الشرك مع أن المراد نهيه عليه الصلاة والسلام عن ذلك قيل : إما للمبالغة في تنزيه ساحة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم عن الشك فإن النهي عن الشيء مما يوهم إمكان صدور المنهي عنه عن المنهي وإما للمبالغة في النهي فإن وقوع الشك في صدره عليه الصلاة والسلام سبب لاتصافه وحاشاه به والنهي عن السبب نهي عن المسبب بالطريق البرهاني ونفي له بالمرة كما في قوله سبحانه : وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ [المائدة : 2 ، 8] وليس هذا من قبيل - لا أرينك هاهنا - فإن النهي هناك وارد على المسبب مرادا به النهي عن السبب فيكون المآل نهيه عليه الصلاة والسلام عن تعاطي ما يورث الحرج فتأمل انتهى.
والذي ذهب إليه بعض المحققين أن المراد نهي المخاطب عن التعرض للحرج بطريق الكناية وأنه من قبيل - لا أرينك هاهنا - في ذلك لما أن عدم كون الحرج في صدره من لوازم عدم كونه متعرضا للحرج كما أن عدم الرؤية من لوازم عدم الكون هاهنا فالنافي لكونه من قبيل ذلك إن أراد الفرق بينهما باعتبار أن المراد في أحدهما النهي عن السبب والمراد المسبب وفي الآخر بالعكس فلا ضير فيه. ولهذا عبر البعض باللزوم دون السببية. وإن أراد أنه ليس من الكناية أصلا فباطل. نعم جوز أن يكون من المجاز. والمشهور أن الداعي لهذا التأويل أن الظاهر يستدعي نهي الحرج عن الكون في الصدر والحرج مما لا ينهى وله وجه وجيه فليفهم.
والجملة على تقدير كون الحرج حقيقة - كما يفهمه كلام الكشاف - كناية عن عدم المبالاة بالأعداء. وأيّا ما كان فالتنوين في حَرَجٌ للتحقير ، ومن متعلقة بما عندها أو بمحذوف وقع صفة له أي حرج ما كائن منه. والفاء تحتمل العطف إما على مقدر أي بلغه فلا يكن في صدرك إلخ وإما على ما قبله بتأويل الخبر بالإنشاء أو عكسه أي تحقق إنزاله من الله تعالى إليك أولا ينبغي لك الحرج وتحتمل الجواب كأنه قيل : إذا أنزل إليك فلا يكن إلخ.
وقال الفراء إنها اعتراضية ، وقال بعض المشايخ هي لترتيب النهي أو الانتهاء على مضمون الجملة إن كان المراد لا يكن في صدرك شك ما في حقيته فإنه مما يوجب انتفاء الشك فيما ذكر بالكلية وحصول اليقين به قطعا ، ولترتيب ما ذكر على الأخبار بذلك لا على نفسه إن كان المراد لا يكن فيه شك في كونه كتابا منزلا إليك. وللترتيب على مضمون الجملة أو على الإخبار به إذا كان المراد لا يكن فيك ضيق صدر من تبليغه مخافة أن يكذبوك أو أن تقصر في

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 318
القيام بحقه فإن كلا منهما موجب للإقدام على التبليغ وزوال الخوف قطعا وإن كان إيجاب الثاني بواسطة الأول. ولا يخفى ما في أوسط هذه الشقوق من النظر فتدبر.
لِتُنْذِرَ بِهِ أي بالكتاب المنزل. والفعل قيل إما منزل منزلة اللازم أو أنه حذف مفعوله لإفادة العموم ، وقد يقال : إنه حذف المفعول لدلالة ما سيأتي عليه. واللام متعلقة بأنزل عند الفراء وجملة النهي معترضة بين العلة ومعلولها وهو المعنى بما نقل عنه أنه على التقديم والتأخير قيل : وهذا مما ينبغي التنبيه له فإن المتقدمين يجعلون الاعتراض على التقديم والتأخير لتخلله بين أجزاء كلام واحد وليس مرادهم أن في الكلام قلبا. ووجه التوسيط إما أن الترتيب على نفس الإنزال لا على الإنزال للإنذار وإما رعاية الاهتمام مع ما في ذلك - على ما قيل - من الإشارة إلى كفاية كل من الإنزال والإنذار في نفي الحرج. أما كفاية الثاني فظاهرة لأن المخوف لا ينبغي أن يخاف من يخوفه ليتمكن من الإنذار على ما يجب. وأما كفاية الأول فلأن كون الكتاب البالغ غاية الكمال منزلا عليه - عليه الصلاة والسلام - خاصة من بين سائر إخوانه الأنبياء عليهم السلام يقتضي كونه رحيب الصدر غير مبال بالباطل وأهله ، وعن ابن الأنباري أن اللام متعلقة بمتعلق الخبر أي لا يكن الحرج مستقرا في صدرك لأجل الإنذار. وقيل : إنها متعلقة بفعل النهي وهو الكون بناء على جواز تعلق الجار بكان الناقصة لدلالتها على الحدث على الصحيح ، وقيل : يجوز أن يتعلق بحرج على معنى أن الحرج للإنذار والضيق له لا ينبغي أن يكون. وقال العلامة الثاني : إنه معمول للطلب أو المطلوب أعني انتفاء الحرج وهذا أظهر لا للمنهي أي الفعل الداخل عليه النهي - كما قيل - لفساد المعنى.
وأطلق الزمخشري تعلقه بالنهي ، واعترض بأنه لا يتأتى على التفسير الأول للحرج لأن تعليل النهي عن الشك بما ذكر من الإنذار والتذكير مع إيهامه لإمكان صدوره عنه صلّى اللّه عليه وسلّم مشعر بأن المنهي عنه ليس بمحذور لذاته بل لإفضائه إلى فوات الإنذار والتذكير لا أقل من الإيذان بأن ذلك معظم غائلته ولا ريب في فساده ، وأما على التفسير الثاني فإنما يتأتى التعليل بالإنذار لا بتذكير المؤمنين إذ ليس فيه شائبة خوف حتى يجعل غاية لانتفائه وأنت خبير بأن كون المنهي عنه محذورا لذاته ظاهر ظهور نار القرى ليلا على علم فلا يكاد يتوهم نقيضه. والقول بأنه لا أقل من الإيذان بأن ذلك معظم غائلته لا فساد فيه بناء على ما يقتضيه المقام وإن كان بعض غوائله في نفس الأمر أعظم من ذلك وأن الآية ليست نصا في تعليل النهي بالإنذار والتذكير كما سيتضح لك قريبا إن شاء الله تعالى حتى يتأتى الاعتراض نظرا للتفسير الثاني ، سلمنا أنها نص لكنا نقول : لم لا يجوز أن يكون ذلك من قبيل قوله تعالى : إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ [الفتح : 1 ، 2] الآية وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ نصب بإضمار فعله عطفا على «تنذر» أي وتذكر المؤمنين تذكيرا.
ومنع الزمخشري فيما نقل عنه العطف بالنصب على محل لِتُنْذِرَ معللا بأن المفعول له يجب أن يكون فاعله وفاعل المعلل واحد حتى يجوز حذف اللام منه.
ويمكن - كما في الكشف - أن يقال : لا منع من أن يكون التذكير فعل المنزل الحق تعالى إلا أنه يفوت التقابل بين الإنذار والتذكير. نعم يحتمل الجر بالعطف على المحل أي للإنذار والتذكير. ويحتمل الرفع على أنه معطوف على «كتاب» أو خبر مبتدأ محذوف أي هو ذكرى ، والفرق بين الوجهين - على ما في الكشف - أن الأول معناه أن هذا جامع بين الأمرين كونه كتابا كاملا في شأنه بالغا حد الإعجاز في حسن بيانه وكونه ذكرى للمؤمنين يذكرهم المبدأ والمعاد والثاني يفيد أن هذا المقيد بكونه كتابا من شأنه كيت وكيت هو ذكرى للمؤمنين ويكون من عطف الجملة على الجملة فيفيد استقلاله بكل من الأمرين وهذا أولى لفظا ومعنى وتخصيص التذكير بالمؤمنين لأنهم المنتفعون به أو للإيذان باختصاص الإنذار بالكافرين. وتقديم الإنذار لأنه أهم بحسب المقام اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 319
خطاب لكافة المكلفين ، والمراد بالموصول الكتاب المنزل إليه صلّى اللّه عليه وسلّم كما روي عن قتادة إلا أنه وضع المظهر موضع المضمر وجعل منزلا إليهم لتأكيد وجوب الاتباع وقيل : المراد به ما يعم الكتاب والسنة فليس من وضع المظهر موضع المضمر. وإيثاره لفائدة التعميم وتشميم من أسلوب قول الأنمارية هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها وتتميم لشرح الصدر فإنه لما شجع أمر الجميع باتباع جميع ما يرسمه ليكون ادعى لانشراح صدره عليه الصلاة والسلام ورحب ذراعه.
ولا يخفى أن هذا الحمل بعيد. نعم يعم السنة بأقسامها الحكم بطريق الدلالة لا بطريق العبارة ، ومن متعلقة بأنزل على أنها لابتداء الغاية مجازا أو بمحذوف وقع حالا من الموصول أو من ضميره في الصلة ، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين مزيد لطف بهم وترغيب لهم في الامتثال بما أمروا به وتأكيد لوجوبه إثر تأكيد وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ الضمير المجرور عائد إلى رَبِّكُمْ والجار متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل فعل النهي أي لا تتبعوا متجاوزين ربكم الذي أنزل إليكم ما يهديكم إلى الحق أولياء من الشياطين والكهان بأن تقبلوا منهم ما يلقونه إليكم من الأباطيل ليضلوكم عن الحق بعد إذ جاءكم ويحملوكم على البدع والأهواء الزائغة.
ويجوز أن يكون الجار متعلقا بمحذوف وقع حالا من أَوْلِياءَ قدم عليه لكونه نكرة أي أولياء كائنة غيره تعالى ، وأن يكون متعلقا بالفعل قبله أي تعدلوا عنه سبحانه إلى غيره. ولما كان اتباع ما أنزله سبحانه جل وعلا اتباعا له عز شأنه عقب الأمر السابق بهذا النهي ، وقيل : الضمير لما أنزل على حذف مضاف في أَوْلِياءَ أي لا تتبعوا من دون ما أنزل أباطيل أولياء ، وكأنه قيل : ولا تتبعوا من دون دين ربكم دين أولياء ، وذلك التقدير لأنه لا يحسن وصف المنزل بكونه دونهم ، وجوز كون الضمير للمصدر أي لا تتبعوا أولياء أتباعا من دون اتباعكم ما أنزل إليكم وفيه بعد.
وقرأ مجاهد «تبتغوا» بالغين المعجمة من الابتغاء قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ أي تذكرا قليلا أو زمانا قليلا تذكرون لا كثيرا حيث لا تتأثرون بذلك ولا تعملون بموجبه وتتركون الحق وتتبعون غيره. فقليلا نعت مصدر أو زمان محذوف أقيم مقامه ونصبه بالفعل بعده وقدم عليه للقصر ، و«ما» مزيد لتأكيد القلة لأنها تفيدها في نحو أكلت أكلا ما فهي هاهنا قلة على قلة ، والظاهر من القلة معناها ، وجوز أن يراد بها العدم كما في قوله تعالى : فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ [البقرة :
88] وأجيز أن يكون قَلِيلًا نعت مصدر لتتبعوا أي اتباعا قليلا ، قيل : ويضعفه أنه لا معنى حينئذ لقوله سبحانه :
تَذَكَّرُونَ وأما النهي عن الاتباع القليل فلا يضر لأنه يفهم منه غيره بالطريق البرهاني ، وأن يكون حالا من فاعل لا تَتَّبِعُوا وما مصدريه أو موصولة فاعل له كما قيل ذلك في قوله تعالى : كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ [الذاريات : 17] والنهي متوجه إلى القيد والمقيد جميعا واعترض بأنه لا طائل تحت معناه وأن وجه بما وجه ، وأن يكون ما مصدرية أو موصولة مبتدأ ، وقَلِيلًا على معنى زمانا قليلا خبره ، وقيل : إن ما نافية وقَلِيلًا معمول لما بعده ، والكوفيون يجوزون عمل ما بعد ما النافية فيما قبلها ، والمعنى ما تذكرون قليلا فكيف تذكرون كثيرا وليس بشيء.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص «تذكرون» بحذف إحدى التاءين وذال مخففة. وقرأ ابن عامر «يتذكرون» بياء تحتية ومثناة فوقية وذال مخففة ، وفي طريق شاذة عنه بتاءين فوقيتين. وقرأ الباقون بتاء فوقية وذال مشددة على إدغام التاء المهموسة في الذال المجهورة ، والجملة - على ما قاله غير واحد - اعتراض تذييلي مسوق لتقبيح حال المخاطبين ، والالتفات على القراءة المشهورة عن ابن عامر للإيذان باقتضاء سوء حالهم في عدم الامتثال بالأمر والنهي صرف الخطاب عنهم ، وحكاية جناياتهم لغيرهم بطريق المباتة ، ولا حجة في الآية لنفاة القياس كما لا يخفى وَكَمْ

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 320
مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها
شروع في تذكيرهم وإنذارهم ما نزل بمن قبلهم من العذاب بسبب إعراضهم عن دين الله تعالى وإصرارهم على أباطيل أوليائهم ، وكَمْ خبرية للتكثير في محل رفع على الابتداء والجملة بعدها خبرها ومِنْ سيف خطيب وقَرْيَةٍ تمييز.
ويجوز أن يكون محل كَمْ نصبا على الاشتغال ، وضمير أَهْلَكْناها راجع إلى معنى كم فإن المعنى قرى كثيرة أهلكناها ، والمراد بإهلاكها إرادة إهلاكها مجازا كما في قوله تعالى : إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة :
6] الآية فلا إشكال في التعقيب الذي تفهمه الفاء في قوله سبحانه : فَجاءَها بَأْسُنا أي عذابنا ، واعترض هذا الجواب بعض المدققين بأن فيه إشكالا أصوليا ، وهو أن الإرادة إن كانت باعتبار تعلقها التنجيزي فمجيء البأس مقارن لها لا متعقب لها وبعدها ، وإن لم يرد ذلك فهي قديمة فإن كان البأس يعقبها لزم قدم العالم وإن تأخر عنها لزم العطف بثم.
وأجيب بأن المراد التعلق التنجيزي قبل الوقوع أي قصدنا إهلاكها فتدبر ، وقيل : إن المراد بالإهلاك الخذلان وعدم التوفيق فهو استعارة أو من إطلاق المسبب على السبب ، وإلى هذا يشير كلام ابن عطية. وتعقب بأنه اعتزالي وأن الصواب أن يقال : معناه خلقنا في أهلها الفسق والمخالفة فجاءها بأسنا ، وقيل : المراد حكمنا بإهلاكها فجاءها ، وقيل :
الفاء تفسيرية نحو توضأ فغسل وجهه إلخ. وقيل : إن الفاء للترتيب الذكري. وقال ابن عصفور : إن المراد أهلكناها هلاكا من غير استئصال فجاءها هلاك الاستئصال ، وقال الفراء : الفاء بمعنى الواو أو المراد فظهر مجيء بأسنا واشتهر ، وقيل : الكلام على القلب وفيه تقديم وتأخير أي أهلكناها بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ فجاءها بأسنا فالإهلاك في الدنيا ومجيء البأس في الآخرة فيشمل الكلام عذاب الدارين ، ويأباه ما بعد إباء ظاهرا فإنه يدل على أن العذاب في الدنيا ، وقدر غير واحد في النظم الكريم مضافا أي فجاء أهلها.
وجوز بعضهم الحمل على الاستخدام لأن القرية تطلق على أهلها مجازا ، ومن الناس من قدر في الأول المضاف أيضا مع أن القرية تتصف بالهلاك وهو الخراب. والبيات في الأصل مصدر بات يبيت بيتا وبيته وبياتا وبيتوتة ، وذكر الراغب : أن البينات وكذا التبييت قصد العدو ليلا. وقال الليث : البيتوتة الدخول في الليل ، ونصبه على الحال بتأويله ببائتين.
وجوز أن يكون على الظرفية وهو خلاف الظاهر ، واحتمال النصب على المفعولية له - كما زعم أبو البقاء - مما لا يلتفت إليه. وأو للتنويع وما بعدها عطف على الحال وهو في موضع الحال أيضا وأضمرت فيه الواو - كما قال ابن الأنباري - لوضوح المعنى ومن أجل أن أو حرف عطف والواو كذلك فاستثقلوا الجمع بين حرفين من حروف العطف فحذفوا الثاني ، ونقل ذلك عن الفراء أيضا. وتعقب بأن واو الحال مغايرة لواو العطف بكل حال وهي قسم من أقسام الواو كواو القسم بدليل أنها تقع حيث لا يمكن أن يكون ما قبلها حالا وكونها للعطف يقتضي أن لا تقع إلا حيث يكون ما قبلها حالا حتى تعطف حالا على حال. وقال ابن المنير : إن هذه الواو لا بد أن تمتاز عن واو العطف بمزية ألا تراها تصحب الجملة الاسمية بعد الفعلية ولو كانت عاطفة مجردة لاستقبح توسطها بين المتغايرين أو لكان الأفصح خلافه وحيث رأيناها تتوسط والكلام هو الأفصح أو المتعين علمنا امتيازها عن واو العطف وإذا ثبت ذلك فلا غرو في اجتماعهما. وإن كان فيها معنى العطف مضافا إلى تلك الخاصية فإما أن تسلبه حينئذ لغناء العاطفة عنها أو تستمر عليه وتجامع أو كما تجامع الواو لكن في الفصيح لما فيها من زيادة معنى الاستدراك وعلى هذا فالاجتماع ممكن بلا كراهية ، فلو قلت : سبح الله تعالى وأنت راكع أو وأنت ساجد لكان فصيحا لا خبث فيه ولا كراهة خلافا لأبي حيان

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 321
مدعيا أن النحويين نصوا على أن الجملة الحالية إذا دخل عليها حرف عطف امتنع دخول واو الحال عليها للمشابهة اللفظية فالمثال على هذا غير صحيح ، وظاهر كلام الزمخشري أن هذه الواو واو العطف في الأصل ثم استعيرت للحال لما فيها من الربط فقد خرجت عن العطف واستعملت لمعنى آخر لكنها أعطيت حكم أصلها في امتناع مجامعتها لعاطف آخر ، وعلى هذا ينبغي أن يحمل كلام ذينك الإمامين وهذا مذهب لهما ولمن اتبعهما.
وقال بعض النحاة : إن الضمير هنا مغن عن إضمار الواو والاكتفاء به غير شاذ كما قيل بل هو أكثر من رمل يبرين ومها فلسطين ، وقد نقل عن الزمخشري الرجوع إلى هذا القول والمسألة خلافية وفيها تفصيل. ففي البديع : الاسمية الحالية لا تخلو من أن تكون من سبب ذي الحال أو أجنبية فإن كانت من سببه لزمها العائد والواو تقول : جاء زيد وأبوه منطلق وخرج عمرو ويده على رأسه إلا ما شذ من قولهم : كلمته فوه إلى فيّ وإن كانت أجنبية لزمتها الواو ونابت عن العائد. وقد يجمع بينهما نحو قدم عمرو وبشر قام إليه وقد جاءت بلا واو ولا ضمير كما فيّ قوله :
ثم انتصينا جبال الصفد معرضة عن اليسار وعن إيماننا جدد
فإن جبال الصفد معرضة حال بلا واو ولا ضمير : وعن الشيخ عبد القاهر جعل ذلك على قسمين ما يلزمه الواو مطلقا وهو ما إذا صدر بضمير ذي الحال نحو جاء زيد وهو يسرع لأن إعادة ضميره تقتضي أن الجملة مستأنفة لئلا تلغو الإعادة فإذا لم يقصد الاستئناف فلا بد من الواو وما عداه تلزمه الواو في الفصيح إلا على طريق التشبيه بالمفرد والتأويل فإنه حينئذ قد تترك الواو وجوازا ، وقيل - ولم يسلم - : إن الضابط في ذلك أنه إذا كان المبتدأ ضمير ذي الحال تجب الواو وإلا فإن كان الضمير فيما صدر به الجملة سواء كان مبتدأ نحو فوه إلى في و«بعضكم لبعض عدو» أو خبرا نحو وجدته حاضراه الجود والكرم فلا يحكم بضعفه لكونه الرابط في أول الجملة وإلا فضعيف قليل.
وقال ابن مالك وتبعه ابن هشام ونقل عن السكاكي : إنه إذا كانت الجملة الاسمية مؤكدة لزم الضمير وترك الواو نحو هو الحق لا شبهة فيه وذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة : 2] ، واختار ابن المنير أن المصحح لوقوع هذه الجملة هنا حالا من غير واو هو العاطف إذ يقتضي مشاركة الجملة الثانية لما عطفت عليه في الحالية فيستغنى عن واو الحال كما أنك تعطف على المقسم به فتدخله في حكم القسم من غير واو نحو وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى [الليل : 1 ، 2] وقوله سبحانه : فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ [التكوير : 15 - 17] ويستغني عن تكرار حرف القسم بنيابة العاطف منابه فليفهم. وأيّا ما كان فحاصل المعنى أتاهم عذابنا تارة ليلا كقوم لوط عليه السلام وتارة وقت القيلولة كقوم شعيب عليه السلام. والقيلولة من قال يقيل فهو قائل ويقال قيلا وقائلة ومقالا ومقيلا ، وهي - كما في القاموس - نصف النهار أو هي الراحة والدعة نصف النهار وإن لم يكن معها نوم كما في النهاية ، واستدل بقوله تعالى : أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان : 24] إذ الجنة لا نوم فيها.
وقال الليث : هي نومة نصف النهار ، ودفع الاستدلال بأن ذلك مجاز ، وإنما خص إنزال العذاب عليهم في هذين الوقتين لما أن نزول المكروه عند الغفلة والدعة أفظع وحكايته للسامعين أزجر وأردع عن الاغترار بأسباب الأمن والراحة ، وفي التعبير في الحال الأولى بالمصدر وجعلها عين البيات وفي الحال الثانية بالجملة الاسمية المفيدة في المشهور للثبوت مع تقديم المسند إليه المفيد للتقوى ما لا يخفى من المبالغة ، وكذا في وصف الكل بوصف البيات والقيلولة مع أن بعض المهلكين بمعزل منهما إيذان بكمال الأمن والغفلة ، وفي هذا ذم لهم بالغفلة عما هم بصدده ، وإنما خولف بين العبارتين على ما قيل وبنيت الحال الثانية على تقوى الحكم والدلالة على قوة أمرهم فيما أسند إليهم لأن

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 322
القيلولة أظهر في إرادة الدعة وخفض العيش فإنها من دأب المترفين والمتنعمين دون من اعتاد الكدح والتعب. وفيه إشارة إلى أنهم أرباب أشر وبطر.
فَما كانَ دَعْواهُمْ أي دعاؤهم واستغاثتهم كما في قوله تعالى : وَآخِرُ دَعْواهُمْ [يونس : 10] وقول بعض العرب : فيما حكاه الخليل. وسيبويه : اللهم أشركنا في صالح دعوى المسلمين أو ادعاءهم كما هو المشهور في معنى الدعوى إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا عذابنا وشاهدوا أماراته إِلَّا أَنْ قالُوا جميعا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ أي إلا اعترافهم بظلمهم فيما كانوا عليه وشهادتهم ببطلانه تحسرا وندامة وطمعا في الخلاص وهيهات ولات حين نجاة.
وفي جعل هذا الاعتراف عين ذلك مبالغة على حد قوله :
تحية بينهم ضرب وجيع ودَعْواهُمْ يجوز فيه - كما قال أبو البقاء - أن يكون اسم كان والخبر إِلَّا أَنْ قالُوا وأن يكون هو الخبر وإِلَّا أَنْ قالُوا الاسم ، ورجح الثاني بأن جعل الأعرف اسما هو المعروف في كلامهم. والمصدر هنا يشبه المضمر لأنه لا يوصف وهو أعرف من المضاف. وأورد عليه أن الاسم والخبر إذا كانا معرفتين وإعرابهما غير ظاهر لا يجوز تقديم أحدهما على الآخر فتعين الأول. وأجيب عنه بأن ذلك عند عدم القرينة والقرينة هنا كون الثاني أعرف وترك التأنيث ، وأيضا ذاك إذا لم يكن حصر فإن كان يلاحظ ما يقتضيه. ورجح في الكشف الثاني بأنه الوجه المطابق لنظائره في القرآن.
والمعنى عليه أشد ملاءمة لأن الفرض أن قولا آخر لم يقع هذا الموقع ، فالمقصود الحكم على القول المخصوص بأنه هو الدعاء وزيد تأكيدا بإدخال أداة القصر ، وليس من التقديم في شيء لأن حق المقصور عليه التأخير أبدا فتأمل وتذكر فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ - بيان - كما قال الطبرسي - لعذابهم الأخروي إثر بيان عذابهم الدنيوي خلا أنه تعرض كما قيل لبيان مبادئ أحوال المكلفين جميعا لكونه أدخل في التهويل. والفاء عند البعض لترتيب الأحوال الأخروية على الدنيوية ذكرا حسب ترتبها عليها وجودا. وذكر العلامة الطيبي أن الفاء فصيحة على معنى فما كان دعواهم في الدنيا إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا فقطعنا دابرهم ثم لنحشرنهم فلنسألنهم ، ووضع على هذا الظاهر موضع الضمير لمزيد التقرير.
وقال في الكشف : لعل الأوجه أن يجعل هذا متعلقا بقوله تعالى : اتَّبِعُوا وَلا تَتَّبِعُوا ويجعل قوله سبحانه : وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ إلخ معترضا حثا على الاعتبار بحال السابقين ليتشمروا في الاتباع اه. والأمر عند من جعل الكلام السابق على التقديم والتأخير وادعى أن مجيء البأس في الآخرة سهل كما لا يخفى ، أي لنسألن الأمم قاطبة أو هؤلاء قائلين : ماذا أجبتم المرسلين؟ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ماذا أجيبوا ، والمراد من هذا السؤال توبيخ الكفرة وتقريعهم ، والمنفي في قوله تعالى : يوم لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ سؤال الاستعلام فلا منافاة بين الآيتين ، وجمع آخرون بينهما بأن للمثبت موقفا وللمنفي آخر. وقال الإمام : إنهم لا يسألون عن الأعمال أي ما فعلتم ولكن يسألون عن الدواعي التي دعتهم إلى الأعمال والصوارف التي صرفتم عنها أي لم كان كذا ، وقيل : معنى لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن : 39] لا يعاقب بذنبه غيره ، وقيل : المراد من الذين أرسل إليهم الأنبياء ومن المرسلين الملائكة الذين بلغوهم رسالات ربهم.
وروي ذلك عن فرقد وهو كما ترى ، وقيل : لا حاجة إلى التوفيق فإن المنفي هو السؤال عن الذنب لا مطلق

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 323
السؤال. ورد بأن عدم قبول دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام ذنب وأي ذنب فسؤالهم عنه ينافيه وفيه نظر.
وتخصيص سؤال المرسلين عليهم السلام بما ذكرنا هو الذي يشهد به الأخبار وتدل عليه الآثار ، وفي القرآن ما يؤيد ذلك فقد قال سبحانه : يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ [المائدة : 109] وتخصيص سؤال الذين أرسل إليهم بما تقدم هو الذي جرى عليه جماعة من المفسرين.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان الثوري أنه يقال للذين أرسل إليهم : هل بلغكم الرسل؟ ويقال. للمرسلين : ماذا ردوا عليكم. وأخرج أيضا عن القاسم أبي عبد الرحمن أنه تلا هذه الآية فقال : يسئل العبد يوم القيامة عن أربع خصال يقول ربك ألم أجعل لك جسدا ففيم أبليته؟ ألم أجعل لك علما ففيم عملت بما عملت؟ ألم أجعل لك مالا ففيم أنفقته في طاعتي أم في معصيتي؟ ألم أجعل لك عمرا ففيم أفنيته؟. وأخرج هو وغيره عن طاوس أنه قرأ ذلك فقال الإمام : يسئل عن الناس والرجل يسئل عن أهله والمرأة تسئل عن بيت زوجها والعبد يسئل عن مال سيده ، ولعل الظاهر أن سؤال كل من المرسل إليهم والمرسلين هنا عن أمر يتعلق بصاحبه ، ولا يأبى هذا أن المكلفين يسألون عن أمور أخر والمواقف يوم القيامة شتى ويسأل السيد ذو الجلال عبادة فيها عن مقاصد عديدة فطوبى لمن أخذ بعضده السعد فأجاب بما ينجيه.
فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ قيل أي على الرسل حين يكلون الأمر إلى علمه تعالى ويقولون لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة : 109] أو عليهم وعلى المرسل إليهم جميعا جميع أحوالهم. وعن ابن عباس أنه ينطق عليهم كتاب أعمالهم بِعِلْمٍ أي عالمين بظواهرهم وبواطنهم أو بمعلومنا منهم ، والباء على الأول للملابسة والجار والمجرور حال من فاعل «نقص» ، وعلى الثاني الباء متعلق بنقص وَما كُنَّا غائِبِينَ عنهم في حال من الأحوال ، والمراد الإحاطة التامة بأحوالهم وأفعالهم بحيث لا يشذ منها شيء عن علمه سبحانه ، والجملة إما حال أو استئناف لتأكيد ما قبله. وَالْوَزْنُ أي وزن الأعمال والتمييز بين الراجح والتمييز بين الراجح منها والخفيف والجيد والرديء. وهو مبتدأ وقوله تعالى : يَوْمَئِذٍ متعلق بمحذوف خبره ، وقوله تعالى الْحَقُّ صفته أي والوزن الحق ثابت يوم إذ يكون السؤال والقص. واختار هذا بعض من المعربين ، وقيل : الظاهر أن الْحَقُّ خبر ويَوْمَئِذٍ ظرف للوزن لئلا يقع الفصل بين الصفة والموصوف.
ولعل وجه عدم اختيار هذا أن فيه أعمال المصدر المعرف وهو قليل. وفي الكشف ليس المعنى على أن الوزن هو الحق بل أن الوزن الحق يكون يومئذ ألا يرى إلى قوله سبحانه : وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ [الأنبياء :
47]. وذكر الأصفهاني في شرح اللمع لابن جني أن الْحَقُّ بدل من الضمير المستتر في الظرف ، وهو وجه حسن إلا أن الأول رجح جانب المعنى ولم يبال بالفصل بالخبر لاتحاده من وجه بالمبتدأ لا سيما والظرف يتوسع فيه.
وجوز أبو البقاء أن يكون الْحَقُّ خبر مبتدأ محذوف كأنه قيل : ما ذلك الوزن؟ فقيل : هو الحق أي العدل السوي. وأن يكون الْوَزْنُ خبر مبتدأ محذوف أيضا أي هذا الوزن. وهو كما ترى. وقرىء الْقِسْطَ والوزن - كما قال الراغب - معرفة قدر الشيء يقال : وزنته وزنا وزنة ، والمتعارف فيه عند العامة ما يقدر بالقسطاس والقبان.
واختلف في كيفيته يوم القيامة. والجمهور - كما قال القاضي - على أن صحائف الأعمال هي التي توزن بميزان له لسان وكفتان لينظر إليه الخلائق إظهارا للمعدلة وقطعا للمعذرة كما يسألون من أعمالهم فتعترف بها ألسنتهم وجوارحهم. ولا تعرض لهم لماهية هاتيك الصحائف والله تعالى أعلم بحقيقتها.
ويؤيد ذلك ما
أخرجه أحمد ، والترمذي ، وابن ماجة ، والحاكم وصححه ، والبيهقي ، وغيرهم عن عبد الله بن

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 324
عمرو بن العاص : قال : قال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم : «يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر فيقول سبحانه : أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمك كتبتي الحافظون لا يا رب فيقول : فيقول سبحانه أفلك عذرا أو حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول لا يا رب فيقول جل شأنه : بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم فتخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقول : يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال : إنك لا تظلم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم الله تعالى شي ء»
وهذه الشهادة - على ما قاله القرطبي نقلا عن الحكيم الترمذي - ليست شهادة التوحيد لأن من شأن الميزان أن يوضع في إحدى كفتيه شيء وفي الأخرى ضده فتوضع الحسنات في كفة والسيئات في كفة ومن المستحيل أن يؤتى لعبد واحد بكفر وإيمان معا فيستحيل أن توضع شهادة التوحيد في الميزان أما بعد الإيمان فإن النطق بهذه الكلمة الطيبة حسنة فتوضع في الميزان كسائر الحسنات. وأيد ذلك بقوله جل وعلا
في الحديث : «إن لك عندنا حسنة»
دون أن يقول سبحانه : إيمانا. وجوز أن يكون المراد هذه الكلمة إذا كانت آخر كلامه في الدنيا. وجوز غيره أن تكون كلمة التوحيد ، ومنع لزوم وضع الضد في الكفة الأخرى ليلزم المحال فتدبر. وجاء في خبر آخر أخرجه ابن أبي الدنيا. والنميري في كتاب الإعلام عن عبد الله أيضا قال : إن لآدم عليه السلام من الله عز وجل موقفا في فسح من العرش عليه ثوبان أخضران كأنه نخلة سحوق ينظر إلى من ينطلق به من ولده إلى الجنة ومن ينطلق به إلى النار فبينا آدم على ذلك إذ نظر إلى رجل من أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ينطلق به إلى النار فينادي آدم عليه السلام يا أحمد يا أحمد فيقول عليه الصلاة والسلام : لبيك يا أبا البشر فيقول : هذا رجل من أمتك ينطلق به إلى النار قال صلّى اللّه عليه وسلّم : فأشد المئزر وأسرع في أثر الملائكة فأقول : يا رسل ربي قفوا فيقولون : نحن الغلاظ الشداد الذين لا نعصي الله تعالى ما أمرنا ونفعل ما نؤمر فإذا أيس النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قبض على لحيته بيده اليسرى واستقبل العرش بوجهه فيقول : يا رب قد وعدتني أن لا تخزيني في أمتي فيأتي النداء من قبل العرش أطيعوا محمدا وردوا هذا العبد إلى المقام فيخرج صلّى اللّه عليه وسلّم بطاقة بيضاء كالأنملة فيلقيها في كفة الميزان اليمنى وهو يقول بسم الله فترجح الحسنات على السيئات فينادي المنادي سعد وسعد جده وثقلت موازينه انطلقوا به إلى الجنة فيقول يا رسل ربي. قفوا حتى أسأل هذا العبد الكريم على ربه فيقول : بأبي أنت وأمي ما أحسن وجهك وأحسن خلقك من أنت؟ فقد أقلتني عثرتي ورحمت عبرتي فيقول عليه الصلاة والسلام : أنا نبيك محمد وهذه صلاتك التي كنت تصلي علي وفيتكها أحوج ما تكون إليها
انتهى.
ولعل فعل مثل هذا - إذا صح الخبر - مبالغة في إظهار كرامة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم على ربه عز وجل بين الأولين والآخرين.
وقيل : توزن الأشخاص ، واحتجوا له بما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «إنه ليؤتي العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله تعالى جناح بعوضة ولا أدري على هذا ما يوضع في الكفة الأخرى من الميزان إذا وضع المذنب في إحداهما ، ووضع شخص في مقابلة شخص لا أراه إلا كما ترى ، والخبر ليس نصا في الدعوى كما لا يخفى ، وقيل : إن هذه الأعمال الظاهرة في هذه النشأة بصور عرضية تظهر في النشأة الآخرة بصور جوهرية مناسبة لها في الحسن والقبح ، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وصححه غير واحد وقال : إن عليه الاعتقاد ، وفي الآثار ما يؤيده.
فقد أخرج ابن عبد البر عن إبراهيم النخعي قال يجاء بعمل الرجل فيوضع بكفة ميزانه يوم القيامة فيخف فيجاء بشيء أمثال الغمام فيوضع في كفة ميزانه فيرجحه فيقال له : أتدري ما هذا؟ فيقول : لا فيقال له : هذا أفضل العلم الذي كنت تعلمه الناس ، وأخرج ابن المبارك عن حماد بن أبي سليمان بمعناه.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 325
وقيل : الوزن عبارة عن القضاء السوي والحكم العادل ، واستعمال لفظ الوزن في هذا المعنى شائع في اللغة والعرف بطريق الكناية وبه قال مجاهد ، والأعمش ، والضحاك ، وإليه ذهب المعتزلة إلا أن منهم من جوز الوزن بالمعنى المتعارف عقلا وإن لم يقض بثبوته كالعلاف. وبشر بن المعتمر ، ومنهم من أحاله لأن الأعمال أعراض وهي مما لا تبقى ومما لا يمكن إعادتها ، سلمنا بقاءها أو إمكان إعادتها لكنها إعراض والإعراض يمتنع وزنها إذ لا توصف بثقل ولا خفة ، سلمنا إمكان وزنها لكن لا فائدة في ذلك إذ المقصود إنما هو العلم بتفاوت الأعمال والله تعالى عالم بذلك وما لا فائدة فيه ففعله قبيح والرب تعالى منزه عن فعل القبيح ، وجوابه يعلم مما قدمنا.
وفسر هؤلاء الميزان بالعدل والإنصاف. واعترض الآمدي على ذلك بأن الميزان موصوف بالثقل والخفة والعدل والإنصاف لا يوصفان بذلك ، وفي الأخبار ما هو صريح في أن الميزان جسماني
فقد أخرج الحاكم وصححه عن سلمان عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «يوضع الميزان يوم القيامة فلووزن فيه السماوات والأرض لوسع فتقول الملائكة : يا رب من يزن هذا؟ فيقول الله تعالى : من شئت من خلقي فتقول الملائكة سبحانك ما عبدناك حق عبادتك» وفي رواية ابن المبارك واللالكائي عنه قال : يوضع الميزان وله كفتان لو وضع في إحداهما السماوات والأرض ومن فيهن لوسعه فتقول الملائكة : من يزن هذا؟ الحديث.
وأخرج ابن مردويه عن عائشة «سمعت رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : «خلق الله تعالى كفتي الميزان مثل السماوات والأرض فقالت الملائكة : يا ربنا من تزن بهذا؟ فقال : أزن به من شئت» وفي بعض الآثار «أن الله تعالى كشف عن بصر داود عليه السلام فرأى من الميزان ما هاله حتى أغمي عليه فلما أفاق قال : يا رب من يملأ كفة هذا حسنات فقال جل شأنه : يا داود إذا رضيت عن عبد ملأتها بشق تمرة تصدق بها»
إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة. فالأولى - كما قال الزجاج - اتباع ما جاء في الأحاديث ولا مقتضى للعدول عن ذلك ، فإن قيل : إن المكلف يوم القيامة إما مؤمن بأنه تعالى حكيم منزه عن الجور فيكفيه حكمه تعالى بكيفيات الأعمال وكمياتها وإما منكر له فلا يسلم حينئذ أن رجحان بعض الأعمال على بعض لخصوصيات راجعة إلى ذوات تلك الأعمال بل يسنده إلى إظهار الله تعالى إياه على ذلك الوجه فما الفائدة في الوزن؟ أجيب بأنه ينكشف الحال يومئذ وتظهر جميع الأشياء بحقائقها على ما هي عليه وبأوصافها وأحوالها في أنفسها من الحسن والقبح وغير ذلك وتنخلع عن الصور المستعارة التي بها ظهرت في الدنيا فلا يبقى لأحد ممن يشاهدها شبهة في أنها هي التي كانت في الدنيا بعينها وإن كل واحد منها قد ظهر في هذه النشأة بصورته الحقيقية المستتبعة لصفاته ولا يخطر بباله خلاف ذلك قاله بعض المحققين والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ تفصيل للأحكام المترتبة على الوزن. والموازين إما جمع ميزان ، وجمعه - مع أن المشهور الصحيح أن الميزان مطلقا واحد - باعتبار تعدد الأوزان أو الموزونات ، وكذا إذا قلنا بأن ميزان كل شخص واحد وفي الكلام مضاف مقدر أي كفة موازينه ، وإما جمع موزون وإضافته للعهد لترتب الفلاح على ذلك فالمراد الحسنات ، والجمع على هذا ظاهر ، وكذا لو قلنا إن لكل عمل ميزانا فَأُولئِكَ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة ، والجمعية باعتبار معناه كما أن إفراد ضمير «موازينه» العائد إليه باعتبار لفظه ، وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة ، وهو مبتدأ وهُمُ إما ضمير فصل يفصل به بين الخبر والصفة ويؤكد النسبة ويفيد اختصاص المسند بالمسند إليه والْمُفْلِحُونَ أي الفائزون بالنجاة والثواب خبر ، وإما مبتدأ ثان والْمُفْلِحُونَ خبره والجملة خبر المبتدأ الأول ، وتعريف المفلحين للدلالة على أنهم الناس الذين بلغك أنهم مفلحون في الآخرة أو إشارة إلى ما يعرفه كل أحد من حقيقة المفلحين وخصائصهم.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 326
وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بتضييع فطرة الإسلام التي ما من مولود إلا يولد عليها أو فطرة الخير الذي هو أصل الجبلة.
وقوله تعالى : بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ متعلق بخسروا ، وإما مصدرية وبِآياتِنا متعلق بيظلمون وقدم عليه للفاصلة ، وعدي الظلم بالباء لتضمنه معنى التكذيب أو الجحود ، والجمع بين صيغتي الماضي والمضارع للدلالة على استمرار الظلم في الدنيا. وظاهر النظم الكريم أن الوزن ليس مختصا بالمسلمين بل الكفار أيضا توزن أعمالهم التي لا توقف لها على الإسلام وإلى ذلك ذهب البعض. وادعى القرطبي أن الصحيح أنه يخفف بها عذابهم وإن لم تكن راجحة كما ورد في حق أبي طالب. وذهب الكثير إلى أن الوزن مختص بالمسلمين. وأما الكفار فتحبط أعمالهم كيفما كانت ، وهو أحد الوجهين في قوله تعالى : فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً [الكهف : 105] ولا يخفف بها عنهم من العذاب شيء ، وما ورد من التخفيف عن أبي طالب فقد قال السخاوي : إن المعتمد أنه مخصوص به ، وعلى هذا فلا بد من ارتكاب خلاف الظاهر في الآية ، وهي على كلا التقديرين ساكتة عن بيان حال من تساوت حسناته وسيئاته وهم أهل الأعراف على قول. ومن هنا استدل بعضهم على عدم وجود هذا القسم ، ورد بأنه قد يدرج في القسم الأول لقوله سبحانه خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [التوبة : 102] وعسى من الله تعالى تحقيق كما صرحوا به وفيه نظر وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ ترغيب في قبول دعوة النبي عليه الصلاة والسلام بتذكير النعم إثر ترغيب.
وذكر الطيبي أن هذا نوع آخر من الإنذار فإنه جملة قسمية معطوفة على قوله سبحانه : اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الأعراف : 3] على تقدير قل اتبعوا وقل والله لقد مكناكم ، والمعنى جعلنا لكم في الأرض مكانا وقرارا.
وقيل : أقدرناكم على التصرف فيها فهو حينئذ كناية ورجحت هنا الحقيقة وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ أي ما تعيشون به وتحيون من المطاعم والمشارب ونحوها أو ما تتوصلون به إلى ذلك ، وهو في الأصل مصدر عاش يعيش عيشا وعيشة ومعاشا ومعيشة بوزن مفعلة ، والجمهور على التصريح بالياء فيها ، وروي عن نافع معائش بالهمز وغلّطه النحويون ومنهم سيبويه في ذلك لأنه لا يهمز عندهم بعد ألف الجمع إلا الياء الزائدة كصحيفة وصحائف وأما معايش فياؤه أصلية هي عين الكلمة لأنها من العيش وبالغ أبو عثمان فقال : إن نافعا لم يكن يدري بالعربية ، وتعقب ذلك بأن هذه القراءة وإن كانت شاذة غير متواترة مأخوذة من الفصحاء الثقات والعرب قد تشبه الأصلي بالزائد لكونه على صورته ، وقد سمع هذا عنهم فيما ذكر وفي مصائب ومنائر أيضا.
وقول سيبويه : إنها غلط يمكن أن يراد به أنها خارجة عن الجادة والقياس ، وكثيرا ما يستعمل الغلط في كتابه بهذا المعنى ، والجعل بمعنى الإنشاء والإبداع وكل واحد من الظرفين متعلق به أو بمحذوف وقع حالا من مفعوله المنكر إذ لو تأخر لكان صفة له وتقديمهما على المفعول مع أن حقهما التأخير عنه - كما قال بعض المحققين - للاعتناء بشأن المقدم والتشويق إلى المؤخر فإن النفس عند تأخير ما حقه التقديم لا سيما عند كون المقدم منبئا عن منفعة السامع تبقى مترقبة لورود المؤخر فيتمكن فيها عند الورود فضل تمكن ، وأما تقديم اللام على في فلما أنه المنبئ عما ذكر من المنفعة والاعتناء بشأنه أتم والمسارعة إلى ذكره أهم ، وقيل : إن الجعل متعد إلى مفعولين ثانيهما أحد الظرفين على أنه مستقر قدم على الأول ، والظرف الآخر إما لغو متعلق بالجعل أو بالمحذوف الواقع حالا من المفعول الأول كما مر ، واعترض بأنه لا فائدة يعتد بها في الإخبار بجعل المعايش حاصلة لهم أو حاصلة في الأرض قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ تلك النعمة الجسمية ، وهو تذييل مسوق لبيان سوء المخاطبين وتحذيرهم. قال الطيبي : والتذييل بذلك

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 327
لأن الشكر مناسب لتمكينهم في البلاد والتصرف فيها كما أن التذكر في الجملة السابقة موافق للتمييز بين اتباع دين الحق ودين الباطل ، وبقية الكلام في هذه الجملة على طرز ما مر في نظيرها فتذكر.
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ تذكير لنعمة أخرى ، وتأخيره عن تذكير ما وقع بعده من نعمة التمكن في الأرض إما لأنها فائضة على المخاطبين بالذات وهذه بالواسطة. وإما للإيذان بأن كلا منهما نعمة مستقلة ، والمراد خلق آدم عليه السلام وتصويره كما يقتضيه ظاهر العطف الآتي لكن لما كان مبدأ للمخاطبين جعل خلقه خلقا لهم ونزل منزلته فالتجوز على هذا في ضمير الجمع بجعل آدم عليه السلام كجميع الخلق لتفرعهم عنه أو في الإسناد إذ أسند ما لآدم الذي هو الأصل والسبب إلى ما تفرع عنه وتسبب.
وجعل بعضهم الكلام على تقدير المضاف ، وذهب الإمام إلى أنه كناية عن خلق آدم عليه السلام ، والمعنى خلقنا أباكم آدم عليه السلام طينا غير مصور ثم صورناه أبدع تصوير وأحسن تقويم سار ذلك إليكم. وجوز أن يكون التجوز في الفعل ، والمراد ابتدأنا خلقكم ثم تصويركم بأن خلقنا آدم ثم صورناه ، ويعود هذا إلى ابتداء خلق الجنس وابتداء خلق كل جنس بإيجاد أول أفراده. فهو نظير قوله تعالى : خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ [السجن : 7] وعلى هذين الوجهين يظهر وجه العطف بثم في قوله تعالى : ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ وزعم الأخفش أن ثُمَّ هنا بمعنى الواو ، وتعقبه الزجاج بأنه خطأ لا يجيزه الخليل وسيبويه ولا من يوثق بعلمه لأن ثم للشيء الذي يكون بعد المذكور قبله لا غيره ، وإنما المعنى إنا ابتدأنا خلق آدم عليه السلام من تراب ثم صورناه أي هذا أصل خلقكم ثم بعد الفراغ من أصلكم قلنا إلخ ، وقيل : إن ثُمَّ لترتيب الأخبار لا للترتيب الزماني حتى يحتاج إلى توجيه ، والمعنى خلقناكم يا بني آدم مضغا غير مصورة ثم صورناكم بشق السمع والبصر وسائر الأعضاء كما روي عن يمان أو خلقناكم في أصلاب الرجال ثم صورناكم في أرحام النساء كما روي عن عكرمة ثم نخبركم أنا قلنا للملائكة إلخ وإلى هذا ذهب جماعة من النحويين منهم علي بن عيسى والقاضي أبو سعيد السيرافي. وغيرهما ، وقال الطيبي : يمكن أن تحمل ثُمَّ على التراخي في الرتبة لأن مقام الامتنان يقتضي أن يقال : إن كون أبيهم مسجودا للملائكة أرفع درجة من خلقهم وتصويرهم ، وفيه تلويح إلى شرف العلم وتنبيه للمخاطبين على تحصيل ما فاز به أبوهم من تلك الفضيلة. ومن ثم عقب في البقرة الأمر بالسجود مسألة التحدي بالعلم.
وعن ابن عباس ، ومجاهد ، والربيع ، وقتادة ، والسدي أن المعنى خلقنا آدم عليه السلام ثم صورناكم في ظهره ثم قلنا إلخ. وقد تقدم الكلام في المراد بالملائكة المأمورين بالسجود ، وكذا الكلام في المراد بالسجود.
وذكر بعض المحققين أن الظاهر أن يقال : ثم أمرنا الملائكة بالسجود لآدم إلا أنه عدل عن ذلك لأن الآمر بالسجود كان قبل خلق آدم عليه السلام على ما نطق به قوله تعالى : فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ [الحجر : 29] والواقع بعد تصويره إنما هو قوله سبحانه : اسْجُدُوا لِآدَمَ وذلك لتعيين وقت السجدة المأمور بها قبل ، والحاصل أنه سبحانه أمرهم أولا أمرا معلقا ثم أمرهم ثانيا أمرا منجزا مطابقا للأمر السابق فلذا جعله حكاية له ، وفي ذلك ما لا يخفى من الاعتناء بشأن آدم عليه السلام فَسَجَدُوا أي الملائكة عليهم السلام بعد القول من غير تلعثم كلهم أجمعون إِلَّا إِبْلِيسَ استثناء متصل سواء قلنا إن إبليس من الملائكة حقيقة أم لا ، أما على الأول فظاهر ، وأما على الثاني فلأنه لما كان جنيا مفردا مغمورا بألوف من الملائكة متصفا بغالب صفاتهم غلبوا عليه في «سجدوا» ثم استثنى استثناء واحد منهم. وقيل : منقطع بناء على أنه من الجن وأنهم ليسوا من جنس الملائكة ولا تغليب ، والأول هو المختار.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 328
وذكر قوله تعالى : لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ أي ممن سجد لآدم عليه السلام مع أنه علم من الاستثناء عدم السجود لأن المعلوم من الاستثناء عدم العموم لا عموم العدم ، والمراد الثاني أي إنه لم يصدر منه السجود مطلقا لا معهم ولا منفردا. وهذا إنما يفيده التنصيص كذا قيل ، ونظر فيه بأن التنصيص المذكور لا يفيد عموم الأحوال والأوقات فلا يتم ما ذكر ، وتحقيق هذا المقام على ما ذكره المولى سري الدين أن يقال : إن القوم اختلفوا في أن الاستثناء من النفي إثبات أم لا ، فقال الشافعي : نعم فيكون نقيض الحكم ثابتا للمستثنى بطريق العبارة ، ويوافقه ظاهر عبارة الهداية.
وذهب طائفة من الحنفية إلى أنه بطريق الإشارة. وذهب آخرون إلى أن المستثنى في حكم المسكوت عنه ، وإنما يستفاد الحكم بطريق مفهوم المخالفة. واختار صاحب البحر أنه منطوق إشارة تارة وعبارة أخرى.
وإذا تقرر هذا فيمكن أن يقال في الجواب : إن المقام لما كان مقام التسجيل على إبليس بعدم السجود والتشهير والتوبيخ بتلك القبيحة الهائلة كان خليقا بالتصريح جديرا بالاحتياط لضعف التعويل على القرينة لائقا بكمال الإيضاح والتقرير فعدل عن طريق الحذف وإن كان الكلام دالا على المحذوف إلى منهج الذكر والتصريح به ، وهذا على رأي الشافعي ومن وافقه ظاهر وإليه أشار السراج الهندي في مباحث الاستثناء من شرح المغني ، وأما على باقي المذاهب فالأمر أظهر لأن الحكم على المستثنى بنقيض حكم المستثنى منه إما بطريق الإشارة أو مفهوم المخالفة ، وعلى كل فالمقام يا بني الاكتفاء بمثل ذلك ويقتضي التصريح بذكر الحكم.
وادعى مولانا ابن الكمال أن هذه الجملة إنما جيء بها لانقطاع الاستثناء وأنه لو كان الاستثناء متصلا يكون الإتيان بها ضائعا لأن عدم كون إبليس من الساجدين يفهم من الاستثناء على تقدير اتصاله. ولا يخفى ما فيه على من أحاط علما بما ذكرنا. واعترضه البعض أيضا بأنه على تقدير الانقطاع يكون ذلك ضائعا أيضا بناء على ما ظنه فإن ثبوت نقيض حكم المستثنى منه للمستثنى غير مختص بالمتصل ، ولذا لا نراهم يذكرون مع المستثنى المنقطع أيضا نقيض حكم المستثنى منه إلا قليلا ، ولو تم ما ذكره لوجب ذكر الخبر مع كل منقطع فليفهم.
قالَ استئناف مسوق للجواب عن سؤال نشأ من حكاية عدم سجوده كأنه قيل : فماذا قال الله تعالى حينئذ؟ وبه - كما قيل - يظهر وجه الالتفات إلى الغيبة إذ لا وجه لتقدير السؤال على وجه المخاطبة. وفيه فائدة أخرى هي الإشعار بعدم تعلق المحكي بالمخاطبين كما في حكاية الخلق والتصوير أي قال الله تعالى لإبليس حين لم يكن من الساجدين. ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ المشهور أن لا مزيدة بدليل قوله سبحانه في آية أخرى ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ [ص : 75] وقد جاءت كذلك في قوله سبحانه : لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ [الحديد : 29] أي ليعلم ، وهي في ذلك - كما قال غير واحد - لتأكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه.
واستشكل بأنها كيف تؤكد ثبوت الفعل مع إيهام نفيه. قال الشهاب : والذي يظهر لي أنها لا تؤكده مطلقا بل إذا صحب نفيا مقدما أو مؤخرا صريحا أو غير صريح كما في «غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ» وكما هنا فإنها تؤكد تعلق المنع به. ومن هنا قالوا : إنها منبهة على أن الموبخ عليه ترك السجود. وقيل : إنها غير زائدة بأن يكون المنع مجازا عن الإلجاء والاضطرار. فالمعنى ما اضطرك إلى أن لا تسجد. وجعله السكاكي مجازا عن الحمل ولا قرينة للمجاز أي ما حملك ودعاك إلى أن لا تسجد؟ وليس بين الجعلين كثير فرق.
وجوز أن يكون ذلك من باب التضمين ، وقال الراغب : المنع يقال في ضد العطية كرجل مانع ومناع أي بخيل ويقال في الحماية ، ومنه مكان منيع وقد منع وفلان ذو منعة أي عزيز ممتنع على من يرومه. والمنع في الآية من الثاني أي ما حماك عن عدم السجود إِذْ أَمَرْتُكَ بالسجود ، وإِذْ ظرف لتسجد ، وهذه الآية أحد أدلة القائلين بأن

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 329
الأمر للفور لأنه ذم على ترك المبادرة ولولا أن الأمر للفور لم يتوجه الذم عليه وكان له أن يجيب بأنك ما أمرتني بالبدار وسوف أسجد. وأجيب بأن الفور إنما هو من قوله تعالى : فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ [الحجر : 29] وليس من صيغة الأمر إلا أن بعضهم منع دلالة الفاء الجزائية على التعقيب من غير تراخ ، وقال آخرون : إن الاستدلال إنما هو بترتب اللوم على مخالفة الأمر المطلق حيث قال سبحانه : إِذْ أَمَرْتُكَ ولم يقل جل شأنه إذ قلت فقعوا له ساجدين فتدبر ، وفي حكاية التوبيخ هاهنا بهذه العبارة وفي سورة الحجر بقوله تعالى : يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [الحجر : 32] وفي سورة ص بقوله سبحانه : ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص : 75] إشارة إلى أن اللعين أدمج في معصية واحدة غير واحدة وقد وبخ على كل من ذلك لكن اقتصر عند الحكاية في كل موطن على ما ذكر فيه اكتفاء بما ذكر في موطن آخر وإشعارا بأن كل واحدة من هاتيك المعاصي كافية في التوبيخ وبطلان ما ارتكبه ، وقد تركت حكاية التوبيخ رأسا في سورة البقرة وسورة بني إسرائيل وسورة الكهف وسورة طه والله تعالى أعلم بحكمة كل.
قالَ استئناف كما تقدم مبني على سؤال نشأ من حكاية التوبيخ كأنه قيل : فماذا قال اللعين عند ذلك؟
فقيل : قال : أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ هو من الأسلوب الأحمق فإن الجواب المطابق للسؤال منعني كذا وهذا جواب عن أيكما خير؟ وفيه دعوى شيء بين الاستلزام المقصود بزعمه ومشعر بأن من هذا شأنه لا يحسن أن يسجد لمن دونه فكيف يحسن أن يؤمر به؟ فاللعين أول من أسس بنيان التكبر واخترع القول بالحسن والقبح العقليين.
وقوله تعالى : حكاية عنه خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ تعليل لما ادعاه عليه اللعنة من فضله عليه ، عليه السلام ، وحاصله أني مخلوق من عنصر أشرف من عنصره لأن عنصري علوي نير قوي التأثير مناسب لمادة الحياة وعنصره بضد ذلك والمخلوق من الأشراف أشرف لأن شرف الأصل يوجب شرف الفرع فأنا كذلك والأشرف لا يليق به الانقياد لمن هو دونه ، وقد أخطأ اللعين فإن كون النار أشرف من التراب ممنوع فإن كل عنصر من العناصر الأربع يختص بفوائد ليست لغيره وكل منها ضروري في هذه النشأة ولكل فضيلة في مقامه وحاله فترجيح بعضها على بعض تطويل بلا طائل ، على أن من نظر إلى أن الأرض أكثر منافع للخلق لأنها مستقرهم وفيها معايشهم وأنها متصفة بالرزانة التي هي من مقتضيات الحلم والوقار وإلى أن النار دونها في المنافع وأنها متصفة بالخفة التي هي من مقتضيات الطيش والاستكبار والترفع علم ما في كلام اللعين ، وأيضا شرف الأصل لا يوجب شرف الفرع :
إنما الورد من الشوك ولا ينبت النرجس إلا من بصل
ويكفي في ذلك أنه قد يخرج الكافر من المؤمن ، وأيضا قد خص الشرف بما هو من جهة المادة والعنصر مع أن الشيء كما يشرّف بمادته وعنصره يشرّف بفاعله وغايته وصورته ، وهذا الشرف في آدم عليه السلام دونه فإن الله تعالى خلقه بيديه ونفخ فيه من روحه وجعله خليفة في الأرض كما قص سبحانه لما أودعه فيه ، وأيضا أي قبح في خدمة الفاضل للمفضول تواضعا وإسقاط لحظ النفس على أن الخدمة في الحقيقة إنما كانت لله تعالى ، وإلى هذا أشار ظافر الإسكندري بقوله :
أنت المراد بنظم كل قصيدة بنيت على الافهام في تبجيله
كسجود أم لاك السماء لآدم وسجودهم لله في تأويله
ثم الظاهر أن هذا الجواب من اللعين كان مع تسليم أنه مأمور بالسجود وحينئذ فخطؤه أظهر من نار على علم إذ يعود ذلك إلى الاعتراض على المالك الحكيم. وقال بعضهم : إنه لم يسلم أنه كان مأمورا بل أخرج نفسه من العموم

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 330
بالقياس. واستدل أهل هذا القول بهذا التوبيخ على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس. وأجيب بأن هذا ليس من التخصيص بل هو إبطال للنص ورفع له بالكلية وفيه تأمل.
وأخرج أبو نعيم في الحلية والديلمي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنهم أن رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس قال الله تعالى له : اسجد لآدم فقال : أنا خير منه» إلخ.
قال جعفر : فمن قاس أمر الدين برأيه قرنه الله تعالى يوم القيامة بإبليس لأنه اتبعه بالقياس واستدل بهذا ونحوه من منع القياس مطلقا.
وأجيب عن ذلك بأن المذموم هو القياس والرأي في مقابلة النص أو الذي يعدم فيه شرط من الشروط المعتبرة وتحقيق ذلك في محله. وفي الآية دليل على الكون والفساد لدلالتها على خلق آدم عليه السلام وإبليس عليه اللعنة وإيجادهما ، وعلى استحالة الطين والنار عما كانا عليه من الطينية والنارية لما تركب منهما ما تركب ، وعلى أن إبليس.
ونحوه أجسام حادثة لا أرواح قديمة ، قيل : ولعل إضافة خلق آدم عليه السلام إلى الطين وخلقه إلى النار باعتبار الجزء الغالب ، وإلا فقد تقرر أن الأجسام من العناصر الأربعة وبعض الناس من وراء المنع.
قالَ استئناف كما سلف ، والفاء في قوله تعالى : فَاهْبِطْ مِنْها لترتيب الأمر على ما ظهر منه من الباطل ، وضمير مِنْها قيل للجنة ، وكونه من سكانها مشهور ، والمراد بها عند بعض الجنة التي يسكنها المؤمنون يوم القيامة. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها روضة بعدن وفيها خلق آدم عليه السلام وكانت على نشز من الأرض في قول. وأصل الهبوط الانحدار على سبيل القهر كما في هبوط الحجر. وإذا استعمل في الإنسان ونحوه فعلى سبيل الاستخفاف كما قال الراغب.
ولم يشترط بعضهم فيه سوى الانتقال من شريف إلى ما دونه لقوله تعالى : اهْبِطُوا مِصْراً [البقرة : 61] والأمر عليه واضح وإن لم نقل : إن تلك الجنة كانت على نشز ، وقيل : الضمير لزمرة الملائكة أي اخرج من زمرة الملائكة المعززين ، فإن الخروج من زمرتهم هبوط وأي هبوط. وفي سورة فَاخْرُجْ مِنْها [الحجر : 34] وقيل :
الضمير للسماء ، وإليه ذهب جماعة. ورد بأن وسوسته لآدم عليه السلام كانت بعد هذا الطرد فلا بد أن يحمل على أحد الوجهين السابقين قطعا ، ويكون وسوسته على الوجه الأول بطريق النداء من باب الجنة كما روي عن الحسن البصري. وأجيب بأنه يحتمل أن يكون المراد من ذلك الجنة أو زمرة الملائكة أيضا بناء على أن الأولى ومعظم الثانية في السماء أو يقال : إن القصة وقعت في الأرض وكانت الجنة فيها وبعد العصيان حجب اللعين من السماء التي هي مقره ومعبده ، ومعنى أمره بالخروج منها أمره بقطع علائقه عنها واتخاذها مأوى له بعد. وهذا كما تقول لمن غصب دارك مثلا عند نحو القاضي : أخرج من داري مع أنه إذ ذاك ليس فيها تريد لا تدخلها واقطع علائقك عنها وقيل :
الضمير للأرض.
فقد روي أنه أخرج منها إلى الجزائر وأمر أن لا يدخلها إلا خفية ، ويبعده أنه لا يظهر للتخصيص في قوله تعالى :
فَما يَكُونُ لَكَ أي فما يصح ولا يستقيم ولا يليق بشأنك أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها على هذا وجه إلا على بعد.
وأما على الأوجه السابقة فالوجه ظاهر وهو مزيد شرافة المخرج منه وعلو شأنه وتقدس ساحته. ومن هنا يعلم أنه لا دلالة في الآية على جواز التكبر في غير ذلك عند القائلين بالمفهوم ، والجملة تعليل للأمر بالهبوط ولا يخفى لطافة التعبير به دون الخروج في مقابلة قوله : أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ المشير إلى ارتفاع عنصره وعلو محله ، والتكبر - على ما قيل - كالكبر وهو الحالة التي يختص بها الشخص من إعجابه بنفسه. وذلك أن يرى نفسه أكبر من

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 331
غيره وأعظم ، والمراد بالتكبر هاهنا إما التكبر على الله تعالى وهو أعظم التكبر. ويكون بالامتناع من قبول الحق والإذعان له بالعبادة.
وفسره بعضهم بالمعصية. وإما التكبر على آدم عليه السلام بزعمه أنه خير منه وأكبر قدرا. وقيل : المراد ما هو أعم منه ومن التكبر على الملائكة حيث زعم أن له خصوصية ميزته عليهم وأخرجته من عمومهم وفيه تأمل. وزعم البعض أن في الآية تنبيها على أن التكبر لا يليق بأهل الجنة فكما يمنع من القرار فيها يمنع من دخولها بعد ذلك وأنه تعالى إنما طرده لتكبره لا لمجرد عصيانه ، وهو ظاهر على أحد الاحتمالات كما لا يخفى. والظرف إما متعلق بما عنده أو بمحذوف وقع حالا. وقوله تعالى : فَاخْرُجْ تأكيد للأمر بالهبوط متفرع عليه. وقوله سبحانه : إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ تعليل للأمر بالخروج مشعر بأنه لتكبره أي إنك من أهل الصغار والهوان على الله تعالى وعلى أوليائه لتكبرك.
أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : «قال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم : من تواضع لله رفعه الله تعالى ، ومن تكبر وضعه الله عز وجل»
ومن حديثه رضي الله تعالى عنه «من تواضع لله تعالى رفع الله تعالى حكمته وقال : انتعش نعشك الله ومن تكبر وعد أطواره ، وهصه الله تعالى إلى الأرض»
وقيل : المراد من الأذلاء في الدنيا بالذم واللعن. وفي الآخرة بالعذاب بسبب ما ارتكبه من المعصية والتكبر ، وإذلال الله تعالى المتكبرين يوم القيامة مما نطقت به الأخبار.
أخرج الترمذي عن عمرو بن شعيب عن جده أن رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صورة الرجال يغشاهم الذل من كل مكان يساقون إلى سجن في جهنم يقال له : بولس يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار»
وفسر بعضهم الصاغر بالراضي بالذل كما هو المشهور فيه. والمراد وصفه بأنه خسيس الطبع دنيء وأنه رأى نفسه أكبر من غيره وليس بالكبير. ولقد أبدع أبو نواس بقوله خطابا له :
سوأة يا لعين أنت اختلست الن اس غيظا عليهم أجمعينا
تهت لما أمرت في سالف الده ر وفارقت زمرة الساجدينا
عند ما قلت لا أطيق سجودا لمثال خلقته رب طينا
حسدا إذ خلقت من مارج الن ار لمن كان مبتدا العالمينا
ثم صيرت في القيادة تسعى يا مجير الزناة واللائطينا
وله أيضا من أبيات فيه :
تاه على آدم في سجدة وصار قوادا لذريته
قالَ استئناف كما مر مبني على سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل : فماذا قال اللعين بعد ما سمع ما سمع؟
فقيل : قال : أَنْظِرْنِي أي أمهلني ولا تمتني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي آدم عليه السلام وذريته وهو وقت النفخة الثانية ، وأراد بذلك أن يجد فسحة في الإغواء وأخذ الثأر ونجاة من الموت إذ لا موت بعد البعث قالَ استئناف كما مر إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ظاهره إلى يوم يبعثون حيث وقع في مقابلة كلامه لكن في سورة الحجر وص التقييد بيوم الوقت المعلوم ، واختلف في المراد منه فالمشهور أنه يوم النفخة الأولى دون يوم البعث لأنه ليس بيوم موت ، وجوز بعضهم أن يكون المراد منه يوم البعث ولا يلزم أن لا يموت فلعله يموت أول اليوم ويبعث مع الخلق في تضاعيفه :

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 332
وفي كتاب العرائس عن كعب الأحبار أن إبليس إنما يذوق طعم الموت يوم الحشر وذكر في كيفية موته وقبض عزرائيل روحه ما يقتضي منه العجب ، ولم يرتض ذلك الفاضل السفاريني وقال في كتابه البحور الزاخرة : أخرج نعيم بن حماد في الفتن والحاكم في المستدرك عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال : لا يلبثون - يعني الناس - بعد يأجوج وماجوج حتى تطلع الشمس من مغربها فتجف الأقلام وتطوى الصحف فلا يقبل من أحد توبة ويخر إبليس ساجدا ينادي إلهي مرني أن أسجد لمن شئت وتجتمع إليه الشياطين فتقول يا سيدنا إلى من نفزع؟ فيقول : إنما سألت ربي أن ينظرني إلى يوم البعث فانظرني إلى يوم الوقت المعلوم وقد طلعت الشمس من مغربها وهذا يوم الوقت المعلوم وتصير الشياطين ظاهرة في الأرض حتى يقول الرجل : هذا قريني الذي كان فالحمد لله الذي أخزاه ولا يزال إبليس ساجدا باكيا حتى تخرج الدابة فتقتله وهو ساجد
انتهى.
ومنه يعلم أن المراد باليوم المعلوم ما صرح به اللعين وهو قبل يوم النفخة الأولى بكثير ، وهذا قول لم نر أحدا من المفسرين ذكره وهو الذي ارتضاه هذا الفاضل وقال : إن الخبر في حكم المرفوع لأنه لا يقال من قبل الرأي وليس ابن مسعود ككعب الأحبار ممن يتلقى من كتب أهل الكتاب.
وأنت تعلم أنه إن صحت نسبة هذا الخبر إلى ابن مسعود ينبغي أن لا يعدل إلى القول بما يخالفه ولكن في صحة نسبته إليه رضي الله تعالى عنه عندي تردد. وقيل : المراد به وقت يعلم الله تعالى انتهاء أجله فيه وقد أخفى عنا وكذا عن اللعين ، وأوجب على هذا أن يكون قبل النفخة الثانية. واستدل له بعضهم بأن اللعين كان مكلفا والمكلف لا يجوز أن يعلم أجله لأنه يقدم على المعصية بقلب فارغ حتى إذا قرب أجله تاب فتقبل توبته وهذا كالإغراء على المعاصي فيكون قبيحا. وأجيب بأن من علم الله تعالى من حاله أنه يموت على الطهارة والعصمة كالأنبياء عليهم السلام أو على الكفر والمعاصي كإبليس وأشياعه فإن إعلامه بوقت أجله لا يكون إغراء على المعصية لأنه لا يتفاوت حاله بسبب ذلك التعريف والإعلام ، وظاهر النظم الكريم عند غير واحد أن هذه إجابة لدعائه كلا أو بعضا ، وفي ذلك دليل لمن قال : إن دعاء الكافر قد يستجاب وهو الذي ذهب إليه الدبوسي وغيره من الفقهاء خلافا لما نقله في البزازية عن البعض من أنه لا يجوز أن يقال : إن دعاء الكافر مستجاب لأنه لا يعرف الله تعالى ليدعوه ، والفتوى على الأول للظاهر ولقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «دعوة المظلوم مستجابة وإن كان كافرا».
وحمل الكفر على كفران النعمة لا كفران الدين خلاف الظاهر ، ولا يلزم من الاستجابة المحبة والإكرام فإنها قد تكون للاستدراج. وقال بعض المحققين : الجملة إخبار عن كونه من المنظرين في قضاء الله تعالى من غير ترتب على دعائه ، وادعى أن ورودها اسمية مع التعرض لشمول ما سأله اللعين الآخرين على وجه يشعر بأن السائل تبع لهم في ذلك صريح في أن ذلك إخبار بأن الإنظار المذكور لهم أزلا لا إنشاء لإنظار خاص به إجابة لدعائه ، ويعلم من ذلك أيضا أن استنظاره كان طلبا لتأخير الموت إذ به يتحقق كونه من جملتهم لا لتأخير العقوبة كما قيل ولا يخلو عن حسن ، والحكمة في أنظاره ذلك الزمن الطويل مع ما هو عليه اللعنة من الإفساد مما ينبغي أن يفوض علمها إلى خالق العباد.
وقد ذكر الشهرستاني عن شارح الأناجيل الأربعة صورة مناظرة جرت بين الملائكة وبين إبليس بعد هذه الحادثة وقد ذكرت في التوراة ، وهي أن اللعين قال للملائكة : إني أسلم أن لي إلها هو خالقي وموجدي وهو خالق الخلق لكن لي على حكمه أسئلة ، الأول : ما الحكمة في الخلق لا سيما وقد كان عالما أن الكافر لا يستوجب عند خلقه إلا النار.
الثاني : ما الفائدة في التكليف مع أنه لا يعود إليه منه نفع ولا ضرر وكل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 333
لهم من غير واسطة التكليف. الثالث : هب أنه كلفني بمعرفته وطاعته فلما ذا كلفني بالسجود لآدم. الرابع : لما عصيته في ترك السجود فلم لعنني وأوجب عقابي مع أنه لا فائدة له ولا لغيره فيه ولي فيه عظم الضرر. الخامس : أنه لما فعل ذلك لم سلطني على أولاده ومكنني من إغوائهم وإضلالهم. السادس : لما استمهلته المدة الطويلة في ذلك فلم أمهلني ، ومعلوم أن العالم لو كان خاليا من الشر لكان ذلك خيرا ، قال شارح الأناجيل : فأوحى الله تعالى إليه من سرادق العظمة والكبرياء يا إبليس أنت ما عرفتني ولو عرفتني لعلمت أنه لا اعتراض علي في شيء من أفعالي فإني أنا الله لا إله إلا أنا لا أسأل عما أفعل انتهى.
وفي السؤال السادس ما يؤيد القول الأول في الجملة. ولا يخفى أن هذه الشبهات يصعب على القائلين بالحسن والقبح العقليين الجواب عنها بل قال الإمام : إنه لو اجتمع الأولون والآخرون من الخلائق وحكموا بتحسين العقل وتقبيحه لم يجدوا من هذه الشبهات مخلصا وكان الكل لازما. ويعجبني ما يحكى أن سيف الدولة بن حمدان خرج يوما على جماعته فقال : قد عملت بيتا ما أحسب أن أحدا يعمل له ثانيا إلا إن كان أبا فراس وكان أبو فراس جالسا فقيل له : ما هو؟ فقال قولي :
لك جسمي تعله فدمي لم تطله
فابتدر أبو فراس قائلا :
قال إن كنت مالكا فلي الأمر كله
وعلل الزمخشري إجابته إلى استنظاره بأن في ذلك ابتلاء العباد وفي مخالفته أعظم الثواب وحكمه حكم ما خلق الله تعالى في الدنيا من صنوف الزخارف وأنواع الملاهي والملاذ وما ركب في الأنفس من الشهوات ليمتحن بها عباده. وتعقبه العلامة الثاني كغيره بأنه مبني على تعليل أفعاله تعالى بالأغراض وعدم إسناد خلق القبائح والشرور إليه سبحانه مع أنه ليس بشيء لأن حقيقة الابتلاء في حقه تعالى محال ومجازه لا يدفع السؤال ، ولأن ما في متابعته من أليم العقاب أضعاف ما في مخالفته من عظيم الثواب بل لو لم يكن له الإنظار والتمكين لم يكن من العباد إلا الطاعات وترك المعاصي فلم يكن إلا الثواب كالملائكة. ولا يخفى ما فيه إلا أن قوله بعد : والأولى أن لا يخوض العبد في أمثال هذه الأسرار ويفوض حقيقتها إلى الحكيم المختار مما نقول به لأن معرفة ذلك في غاية الصعوبة على أرباب القال وأهل الجدل. هذا وإنما ترك التوقيت في هذه الآية ثقة بما وقع في سورة الحجر وص كما ترك ذكر النداء والفاء في الاستنظار والإنظار تعويلا على ما ذكر فيهما.
فإن قلت : لا ريب في أن الكلام المحكي له عند صدوره عن المتكلم حالة مخصوصة تقتضي وروده على وجه خاص من وجوه النظم بحيث لو أخل بشيء من ذلك سقط الكلام عن رتبة البلاغة البتة فالكلام الواحد المحكي على وجوه شتى إن اقتضى الحال وروده على وجه معين من تلك الوجوه الواردة عند تلك الحكاية فذلك الوجه هو المطابق لمقتضى الحال والبالغ إلى رتبة البلاغة دون ما عداه من الوجوه ونقول حينئذ : لا نخفي أن استنظار اللعين إنما صدر عنه مرة واحدة لا غير فمقامه إن اقتضى إظهار الضراعة وترتيب الاستنظار على ما حاق به من اللعن والطرد على نهج استدعاء الجبر في مقابلة الكسر كما هو المتبادر من قوله : رَبِّ فَأَنْظِرْنِي [الحجر : 36 ، ص : 79] حسبما حكي عنه في السورتين فما حكي عنه هاهنا يكون بمعزل من المطابقة لمقتضى الحال فضلا عن العروج إلى معارج الإعجاز.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 334
«قلت» : أجاب مولانا شيخ الإسلام عن هذا السؤال بعد أن ساقه بأن مقام استنظاره مقتض لما ذكر من إظهار الضراعة وترتيب الاستنظار على الحرمان المدلول عليه بالطرد والرجم وكذا مقام الإنظار مقتض لترتيب الأخبار بالإنظار على الاستنظار. وقد طبق الكلام عليه في تينك السورتين وفى كل من مقامي الحكاية والمحكي جميعا حظه ، وأما هاهنا فحيث اقتضى مقام الحكاية مجرد الإخبار بالاستنظار والإنظار سيقت الحكاية على نهج الإيجاز والاختصار من غير تعرض لكيفية كل منهما عند المخاطبة والجواب. ولا يلزم أن لا يكون ذلك نقلا للكلام على ما هو عليه ولا مطابقا لمقتضى المقام. فالذي يجب اعتباره في نقل الكلام إنما هو أصل معناه ونفس مدلوله وأما كيفية الإفادة فقد تراعى وقد لا تراعى حسب الاقتضاء. ولا يقدح في أصل الكلام تجريده عنها بل قد تراعى عند نقله كيفيات لم يراعها المتكلم أصلا بل قد لا يقدر على مراعاتها. وجميع المقالات المحكية في الآيات من ذلك القبيل وإلا لما كان الكثير منها معجزا ، وملاك الأمر في المطابقة مقام الحكاية وأما مقام المحكي فإن كان مقتضاه موافقا لذلك وفي كل منهما حقه كما في السورتين وإلا لا كما فيما هنا فليفهم.
قالَ استئناف كنظائره فَبِما أَغْوَيْتَنِي الفاء لترتيب مضمون الجملة التي بعد على الأنظار. والباء أما للقسم أو للسببية. وما على التقديرين مصدرية ، والجار والمجرور متعلق بأقسم وقيل : إنه على تقدير السببية متعلق بما بعد اللام ، وفيه أن لها الصدد على الصحيح فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، وجوز بعضهم كون ما استفهامية لم يحذف ألفها وأن الجار متعلق بأغويتني ولا يخفى ضعفه. والإغواء خلق الغي. وأصل الغي الفساد ومنه غوى الفصيل وغوى إذا بشم وفسدت معدته ، وجاء بمعنى الجهل من اعتقاد فاسد كما في قوله سبحانه : ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى [النجم : 2] وبمعنى الخيبة كما في قوله :
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
ومنه قوله تعالى : «وعصى آدم ربه فغوى» واستعمل بمعنى العذاب مجازا بعلاقة السببية. ومنه قوله تعالى :
فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ولا مانع عند أهل السنة أن يراد بالإغواء هنا خلق الغي بمعنى الضلال أي بما أضللتني وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. ونسبة الإغواء بهذا المعنى إلى الله عز وجل مما يقتضيه عموم قوله سبحانه : خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام : 102 ، الرعد : 16 ، الزمر : 62] والمعتزلة يأبون نسبة مثل ذلك إليه سبحانه وقالوا في هذا تارة : إنه قول الشيطان فليس بحجة ، وأولوه أخرى بأن الإغواء النسبة إلى الغي كأكفره إذا نسبه إلى الكفر أو إنه بمعنى إحداث سبب الغي وإيقاعه وهو الآمر بالسجود.
وقال بعضهم : إن الغي هنا بمعنى الخيبة أي بما خيبته من رحمتك أو الهلاك أي بما أهلكته بلعنك إياه وطردك له ، والذي دعاهم إلى هذا كله عدم قولهم بأن الله تعالى خالق كل شيء وأنه سبحانه لا خالق غيره ولم يكفهم ذلك حتى طعنوا بأهل السنة القائلين بذلك. وما الظن بطائفة ترضى لنفسها من خفايا الشرك بما لم يسبق إبليس عليه اللعنة نعوذ بالله سبحانه وتعالى من التعرض لسخطه. نعم الإغواء بمعنى الترغيب بما فيه الغواية والأمر به كما هو مراد اللعين من قوله : لَأُغْوِيَنَّهُمْ مما لا يجوز من الله تعالى شأنه كما لا يخفى ، ثم إن كانت الباء للقسم يكون المقسم به صفة من صفات الأفعال وهو مما يقسم به في العرف وإن لم تجر الفقهاء به أحكام اليمين.
ولعل القسم وقع من اللعين بهما جميعا فحكى تارة قسمه بأحدهما وأخرى بالآخر ، وإن كانت سببية فالقسم بالعزة أي فبسبب إغوائك إياي لأجلهم أقسم بعزتك لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ أي لآدم عليه السلام وذريته ترصدا بهم كما يقعد القطاع للسابلة صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ الموصل إلى الجنة وهو الحق الذي فيه رضاك.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 335
أخرج أحمد ، والنسائي ، وابن حبان ، والطبراني ، والبيهقي في شعب الإيمان عن سبرة بن الفاكه قال : سمعت رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : «إن الشيطان قعد لابن آدم في طرقه فقعد له بطريق الإسلام فقال أتسلم وتذر دينك ودين آبائك؟ فعصاه فأسلم ثم قعد له بطريق الهجرة فقال : أتهاجر وتذر أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كالفرس في طوله؟ فعصاه فهاجر ثم قعد له بطريق الجهاد فقال : هو جهد النفس والمال فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال فعصاه فجاهد ثم قال صلّى اللّه عليه وسلّم : فمن فعل ذلك منهم فمات أو وقصته دابته فمات كان حقا على الله تعالى أن يدخله الجنة»
ولعل الاقتصار منه صلّى اللّه عليه وسلّم على هذه المذكورات للاعتناء بشأنها والتنبيه على عظم قدرها لما أن المقام قد اقتضى ذلك لا للحصر. ونظير ذلك ما روي عن ابن عباس. وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما. وغيرهما من تفسير الصراط المستقيم بطريق مكة والكلام من باب الكناية أو التمثيل ، ونصب الصراط إما على أنه مفعول به بتضمين «أقعدن» معنى ألزمن أو على نزع الخافض أي على صراطك كقولك ضرب زيد الظهر والبطن أو على الظرفية وجاء نصب ظرف المكان المختص عليها قليلا ، ومن ذلك في المشهور قوله :
لدن بهز الكف يعسل متنه فيه كما عسل الطريق الثعلب
ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ أي من الجهات الأربع التي يعتاد هجوم العدو منها ، والمراد لأسوّلن لهم ولأضلنهم بقدر الإمكان إلا أنه شبه حال تسويله ووسوسته لهم كذلك بحال إتيان العدو لمن يعاديه من أي جهة أمكنته ولذا لم يذكر الفوق والتحت إذ لا إتيان منهما فالكلام من باب الاستعارة التمثيلية ولَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ على ما قيل ترشيح لها ، وبعضهم لم يخرج الكلام على التمثيل واعتذر عن ترك جهة الفوق بأن الرحمة تنزل منها وعن ترك جهة التحت بأن الإتيان منها يوحش ، والاعتذار عن الأول بما ذكر أخرجه غير واحد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وروي أيضا عن عكرمة. والشعبي والاعتذار عن الثاني نسبه الطبرسي إلى الحبر أيضا ، ولا يبعد على ذلك أن يكون الكلام تمثيلا أيضا ويكون الفرق بين التوجيهين بأن ترك هاتين الجهتين على الأول لعدمهما في الممثل به وعلى الثاني لعدمها في الممثل.
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ من قبل الآخرة لأنها مستقبلة آتية وما هو كذلك كأنه بين الأيدي وَمِنْ خَلْفِهِمْ من قبل الدنيا لأنها ماضية بالنسبة إلى الآخرة ولأنها فانية متروكة مخلفة وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ من جهة حسناتهم وسيئاتهم ، وتفسير الإيمان بالحسنات والشمائل بالسيئات لأنهم يجعلون المحبوب في جهة اليمين وغيره في جهة الشمال كما قال :
بثين أفي يمنى يديك جعلتني فأفرح أم صيرتني في شمالك
وقال الأصمعي : يقال هو عندنا باليمين أي بمنزلة حسنة وبالشمال على عكس ذلك ، والكلام على هذا يجوز أن يكون فيه مجازات أو استعارات أو كنايات. ونظير هذا ما قيل : مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ من حيث يعلمون ويقدرون على التحرز عنه وَمِنْ خَلْفِهِمْ من حيث لا يعلمون وعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ من حيث يتيسر لهم أن يعلموا ويتحرزوا ولكن لم يفعلوا لعدم تيقظهم واحتياطهم ومن حيث لا يتيسر لهم ذلك ، وقال بعض حكماء الإسلام : إن في البدن قوى أربعا : القوة الخالية التي تجتمع فيها مثل المحسوسات وموضعها البطن المقدم من الدماغ وإليها الإشارة بقوله : مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ. والقوة الوهمية التي تحكم في غير المحسوسات بالأحكام المناسبة للمحسوسات ومحلها البطن المؤخر من الدماغ وإليها الإشارة بقوله : وَمِنْ خَلْفِهِمْ. والقوة الشهوانية ومحلها الكبد وهو عن

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 336
يمين الإنسان وإليها الإشارة بقوله : وَعَنْ أَيْمانِهِمْ. والقوة الغضبية ومحلها القلب الذي هو في الشق الأيسر وإليها الإشارة بقوله : وَعَنْ شَمائِلِهِمْ والشيطان ما لم يستعن بشيء من هذه القوى لا يقدر على إلقاء الوسوسة ، وهذا عندي نوع من الإشارة كما لا يخفى ، وقيل : غير ذلك ، وإنما عدي الفعل إلى الأولين بحرف الابتداء لأنه منهما متوجه إليهم وإلى الآخرين بحرف المجاوزة فإن الآتي منهما كالمنحرف عنهم المار على عرضهم ، ونظيره قولهم : جلست عن يمينه ، وذكر القطب في بيان وجه ذلك ما بناه على ما قاله بعض حكماء الإسلام وهو أن من للاتصال وعن الانفصال ، وأثر الشيطان في قوتي الدماغ حصول العقائد الباطلة كالشرك والتشبيه والتعطيل ، وهي مرتسمة في النفس الإنسانية متصلة بها ، وفي الشهوة والغضب حصول الأعمال السيئة الشهوانية والغضبية وهي تنفصل عن النفس وتنعدم فلهذا أورد في الجهتين الأوليين مِنْ الاتصالية وفي الآخرين عَنْ الانفصالية ، وقيل : خص اليمين والشمال بعن لأن ثمة ملكين يقتضيان التجاوز عن ذلك وفيه نظر لا يخفى ، وادعى بعضهم أن الآية كالدليل على أن اللعين لا يمكنه أن يدخل في بدن ابن آدم ويخالطه إذ لو أمكنه ذلك لذكره في باب المبالغة وحديث «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم»
من باب التمثيل. وقد يجاب بأن التمثيل اقتضى عدم الذكر فتدبر وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ أي مطيعين ، وإنما قال ذلك ظنا كما روي عن الحسن. وأبي مسلم لقوله تعالى : وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ [سبأ : 20] لما رأى أن للنفس تسع عشرة قوة الحواس الظاهرة والباطنة والشهوة والغضب. والقوى السبع النباتية الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة وأنها بأسرها تدعو النفس إلى عالم الجسم وأن ليس هناك ما يدعو إلى عالم الأرواح إلا قوة واحدة وهي العقل وما يصنع واحد مع متعدد :
أرى ألف بان لا يقوم بهادم فكيف يبان خلفه ألف هادم
وعن الجبائي أنه سمع ذلك من الملائكة فقاله على سبيل القطع ، وقيل : إنه رآه قبل في اللوح المحفوظ.
ووجد إما بمعنى صادف فينصب مفعولا واحدا وهو أَكْثَرَهُمْ وشاكرين حال ، وإما بمعنى علم فينصب مفعولين ثانيهما شاكِرِينَ والجملة إما معطوفة على المقسم عليه وإما مستأنفة ، وإنما لم يفرعها على ما تقدم لأن مضمونها بمقتضى الجبلة أيضا لا بمجرد إغوائه ، ووجه التعبير بالأكثر ظاهر قالَ استئناف كما مر غير مرة :
اخْرُجْ مِنْها أي من الجنة أو من زمرة الملائكة أو من السماء الخلاف السابق مَذْؤُماً أي مذموما كما روي عن ابن زيد أو مهانا لعينا كما روي عن ابن عباس وقتادة ، وفعله ذأم. وقرأ الزهري «مذوما» بذال مضمومة وواو ساكنة وفيه احتمالان الأول أن يكون مخففا من المهموز بنقل حركة الهمزة إلى الساكن ثم حذفها ، والثاني أن يكون من ذام بالألف كباع وكان قياسه على هذا مذيم كمبيع إلا أنه أبدلت الواو من الياء على حد قولهم. مكول في مكيل مع أنه من الكيل ، ونصبه على الحال وكذا قوله تعالى : مَدْحُوراً وهو من الدحر بمعنى الطرد والإبعاد ، وجوز في هذا أن يكون صفة ، واللام في قوله سبحانه : لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ على ما في الدر المصون موطئة للقسم ومن شرطية في محل رفع مبتدأ. وقوله عز اسمه : لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ جواب القسم وهو سادّ مسد جواب الشرط ، والخلاف في خبر المبتدأ في مثل ذلك مشهور ، وجوز أن تكون اللام لام الابتداء ومن موصولة مبتدأ صلتها تَبِعَكَ والجملة القسمية خبر. وقرأ عصمة عن عاصم «لمن» بكسر اللام فقيل : إنها متعلقة بلأملأن. ورد بأن لام القسم لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، وقيل : إنها متعلقة بالذأم والدحر على التنازع وأعمال الثاني أي أخرج بهاتين الصفتين لأجل اتباعك ، وقيل : إن الجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف يقدر مؤخرا أي لمن اتبعك هذا الوعيد. ودل عليه قوله سبحانه : لَأَمْلَأَنَّ إلخ ، ولعل ذلك مراد الزمخشري بقوله : أن لَأَمْلَأَنَّ في محل المبتدأ ولَمَنْ تَبِعَكَ

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 337
خبره كما يرشد إليه بيان المعنى. ومِنْكُمْ بمعنى منك ومنهم فغلب فيه المخاطب كما في قوله سبحانه : أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [النمل : 55] ثم إن الظاهر أن هذه المخاطبات لإبليس عليه اللعنة كانت منه عز وجل من غير واسطة وليس المقصود منها الإكرام والتشريف بل التعذيب والتعنيف ، وذهب الجبائي إلى أنها كانت بواسطة بعض الملائكة لأن الله تعالى لا يكلم الكافر وفيه نظر.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات : المص الألف إشارة إلى الذات الأحدية واللام إلى الذات مع صفة العلم والميم إلى معنى محمد وهي حقيقته والصاد إلى صورته عليه الصلاة والسلام. وقد يقال : الألف إشارة إلى التوحيد والميم إلى الملك واللام بينهما واسطة لتكون بينهما رابطة والصاد لكونه حرفا كرى الشكل قابلا لجميع الأشكال كما قال الشيخ الأكبر قدس سره : فيه إشارة إلى أن الأمر وإن ظهر بالأشكال المختلفة والصورة المتعددة أوله وآخره سواء ، ولا يخفى لطف افتتاح هذه السورة بهذه الأحرف بناء على ما ذكره الشيخ قدس سره في فتوحاته من أن لكل منها ما عدا الألف الأعراف وأما الألف فقد ذكر نفعنا الله تعالى ببركات علومه أنه ليس من الحروف عند من شم رائحة من الحقائق لكن قد سمته العامة حرفا فإذا قال المحقق ذلك فإنما هو على سبيل التجوز في العبادة والله تعالى أعلم بحقيقة الحال كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ أي ضيق من حمله فلا تسعه لعظمه فتتلاشى بالفناء والوحدة والاستغراق في عين الجمع لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أي ليمكنك الإنذار والتذكير إذ بالاستغراق لا ترى إلا الحق فلا يتأتى منك ذلك وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ من قرى القلوب أَهْلَكْناها أفسدنا استعدادها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أي بائتين على فراش الغفلة في ليل الشباب أَوْ هُمْ قائِلُونَ تحت ظلال الأمل في نهار المشيب وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ هو عند كثير من الصوفية اعتبار الأعمال.
وذكروا أن لسان ميزان الحق هو صفة العدل وإحدى كفتيه هو عالم الحس والكفة الأخرى هو عالم العقل فمن كانت مكاسبه من المعقولات الباقية والأخلاق الفاضلة والأعمال الخيرية المقرونة بالنية الصادقة ثقلت أي كانت ذا قدر وأفلح هو أي فاز بالنعيم الدائم ومن كانت مقتنياته من المحسوسات الفانية واللذات الزائلة والشهوات الفاسدة والأخلاق الرديئة خفت ولم يعتن بها وخسر هو نفسه لحرمانه النعيم وهلاكه وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ إذ جعلناكم خلفاء فيها وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ متعددة دون غيركم فإن له معيشة واحدة. وذلك لأن الإنسان فيه ملكية وحيوانية وشيطانية فمعيشة روحه معيشة الملك ومعيشة بدنه الحيوان ومعيشة نفسه الأمارة معيشة الشيطان. وله معايش غير ذلك وهي معيشة القلب بالشهود. ومعيشة السر بالكشوف. ومعيشة سر السر بالوصال قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ ولو شكرتم ما رضيتم بالدون.
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ أي ابتدأنا ذلك بخلق آدم عليه السلام وتصويره ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فإنه المظهر الأعظم ، وفي الخبر خلق الله آدم على صورته وفي رواية على صورة الرحمن
فَسَجَدُوا وانقادوا للحق إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ لنقصان بصيرته قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ أراد اللعين أنه من الحضرة الروحانية وأن آدم عليه السلام ليس كذلك قالَ فَاهْبِطْ مِنْها أي من تلك الحضرة فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها لأن الكبر ينافيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ الأذلاء بالميل إلى مقتضيات النفس قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي قسم بما هو من صفات الأفعال ولم يكن محجوبا عنها بل كان محجوبا عن الذات الأحدية لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ وهو طريق التوحيد ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ أي لأجتهدن في إضلالهم ، وقد تقدم ما قاله بعض حكماء الإسلام في ذلك ، وفي تأويلات النيسابوري كلام كثير فيه وما قاله البعض أحسنه في هذا الباب ، وذكر بعضهم لعدم التعرض لجهتي

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 338
الفوق والتحت وجها وهو أن الإتيان من الجهة الأولى غير ممكن له لأن الجهة العلوية هي التي تلي الروح ويرد منها الإلهامات الحقة والإلقاءات الملكية ونحو ذلك ، والجهة السفلية يحصل منها الأحكام الحسية والتدابير الجزئية في باب المصالح الدنيوية وذلك غير موجب للضلالة بل قد ينتفع به في العلوم الطبيعية والرياضية وفيه نظر. وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ «1» مستعملين ما خلق لهم لما خلق له. قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً حقيرا مَدْحُوراً مطرودا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ بالأنانية ورؤية غير الله تعالى وارتكاب المعاصي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ فتبقون محبوسين في سجن الطبيعة معذبين بنار الحرمان عن المراد وهو أشد العذاب وكل شيء دون فراق المحبوب سهل وهو سبحانه حسبنا ونعم الوكيل.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 19 إلى 31]
وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23)
قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25) يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28)
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)
وَيا آدَمُ اسْكُنْ اي وقلنا كما وقع في سورة البقرة فهذه القصة بتمامها معطوفة على مثلها وهو قوله سبحانه : قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا على ما ذهب إليه غير واحد من المحققين ، وإنما لم يعطفوه على ما بعد
___________
(1) إلى هنا ربع القرآن ولله الحمد اه منه.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 339
قالَ أي قال يا إبليس اخرج ويا آدم اسكن لأن ذلك في مقام الاستئناف والجزاء لما حلف عليه اللعين وهذا من تتمة الامتنان على بني آدم والكرامة لأبيهم ، ولا على ما بعد قُلْنا لأنه يؤول إلى قلنا للملائكة يا آدم.
وادعى بعضهم أن الذي يقتضيه الترتيب العطف على ما بعد قالَ وبينه بماله وجه إلا أنه خلاف الظاهر ، وتصدير الكلام بالنداء للتنبيه على الاهتمام بالمأمور به ، وتخصيص الخطاب بآدم عليه السلام للإيذان بأصالته بالتلقي وتعاطي المأمور به. واسْكُنْ من السكنى وهو اللبث والإقامة والاستقرار دون السكون الذي هو ضد الحركة ، وقد تقدم الكلام في ذلك وفي قوله سبحانه : أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وتوجيه الخطاب إليهما في قوله تعالى :
فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما لتعميم التشريف والإيذان بتساويهما في مباشرة المأمور به فإن حواء أسوة له عليه السلام في حق الأكل بخلاف السكنى فإنها تابعة له فيها ولتعليق النهي الآتي بهما صريحا ، والمعنى : فكلا منها حيث شئتما كما في البقرة ، ولم يذكر رَغَداً [البقرة : 35 ، 58] هنا ثقة بما ذكر هناك.
وقوله سبحانه : وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ مبالغة في النهي عن الأكل منها وقرىء «هذي» وهو الأصل إلا أنه حذفت الياء وعوض عنها الهاء فهي هاء عوض لا هاء سكت. قال ابن جني : ويدل على أن الأصل هو الياء قولهم في المذكر : ذا والألف بدل من الياء إذ الأصل ذي بالتشديد بدليل تصغيره على ذيا وإنما يصغر الثلاثي دون الثنائي كما ومن فحذفت إحدى اليائين تخفيفا ثم أبدلت الأخرى ألفا كراهة أن يشبه آخره آخر كي.
فَتَكُونا أي فتصيرا مِنَ الظَّالِمِينَ أي الذين ظلموا أنفسهم ، وتكونا يحتمل الجزم على العطف على تَقْرَبا والنصب على أنه جواب النهي فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ أي فعل الوسوسة لأجلهما أو ألقى إليهما الوسوسة وهي في الأصل الصوت الخفي المكرر ، ومنه قيل لصوت الحلي : وسوسة ، وقد كثرت فعللة في الأصوات كهينمة وهمهمة وخشخشة ، وتطلق على حديث النفس أيضا وفعلها وسوس وهو لازم ويقال : رجل موسوس بكسر الواو ولا تفتح على ما قاله ابن الأعرابي. وقال غيره : يقال موسوس بالفتح وموسوس إليه فيكون الأول على الحذف والإيصال والكلام في كيفية وسوسة اللعين قد تقدمت الإشارة إليه في سورة البقرة.
لِيُبْدِيَ لَهُما أي ليظليظهر لهما ، واللام إما للعاقبة لأن الشيطان لم يقصد بوسوسته ذلك ولم يخطر له ببال وإنما آل الأمر إليه. وإما للتعليل على ما هو الأصل فيها ، ولا يبعد أنه أراد بوسوسته أن يسوءهما بانكشاف عورتيهما ولذلك عبر عنهما بالسوأة ، ويكون هذا مبينا على الحدس أو العلم بالسماع من الملائكة أو الاطلاع على اللوح. قيل :
وفي ذلك دليل على أن كشف العورة في الخلوة وعند الزوج من غير حاجة قبيح مستهجن في الطباع.
ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما أي ما غطي وستر عنهما من عوراتهما وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر وكانت مستورة بالنور على ما أخرجه الحكيم الترمذي وغيره عن وهب بن منبه أو بلباس كالظفر على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي ، وجمع السوءات على حد صَغَتْ قُلُوبُكُما [التحريم : 4] واعتبار الاجزاء بعيد ، والمتبادر من هذا الكلام حقيقته : وقيل هو كناية عن إزالة الحرمة وإسقاط الجاه ، ووُورِيَ بواوين ماضي وارى كضارب وضورب أبدلت ألفه واوا فالواو الأولى فاء الكلمة والثانية زائدة.
وقرأ عبد الله «أورى» بالهمزة لأن القاعدة إذ اجتمع واوان في أول كلمة فإن تحركت الثانية أو كان لها نظيرا متحرك وجب إبدال الأولى همزة تخفيفا مثال الأول أو يصل وأواصل في تصغير واصل وتصغيره ومثال الثاني أولى أصله وولى فأبدلت الأولى لما تحركت الثانية في الجمع وهو أول فإن لم يتحرك بالفعل أو القوة جاز الإبدال وعدمه كما هنا قاله الشهاب نقلا عن النحاة. وقرىء «سوأتهما» بالإفراد والهمزة على الأصل و«سوتهما» بإبدال الهمزة واوا

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 340
وإدغام الواو في الواو ، وقرىء «سواتهما» بالجمع وطرح حركة الهمزة على ما قبلها وحذفها و«سوأتهما» بالطرح وقلب الهمزة واوا الإدغام وَقالَ عطف على وسوس بطريق البيان ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ أي الأكل منها إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ استثناء مفرغ من المفعول لأجله بتقدير مضاف أو حذف حرف النفي ليكون علة أي كراهية أن تكونا أو لئلا تكونا ملكين أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ أي لا يموتون أصلا أو الذين يخلدون في الجنة.
وقرأ ابن عباس ويحيى بن كثير مَلَكَيْنِ بكسر اللام. قال الزجاج : ويشهد لهذه القراءة قوله تعالى حكاية عن اللعين هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى [طه : 120] واستدل بالآية على أفضلية الملائكة حيث إن اللعين قال ذلك ولم ينكر عليه ، وارتكب آدم عليه السلام المنهي عنه طمعا فيما أشار إليه الشيطان من الصيرورة ملكا فلولا أنه أفضل لم يرتكبه ، وأجيب بأن رغبتهما إنما كانت في أن يحصل لهما أوصاف الملائكة من الكمالات الفطرية والاستغناء عن الأطعمة والأشربة ونحو ذلك ونحن لا نمنع أفضلية الملائكة من هذه الأوجه وإنما نمنع أفضليتهم من كل الوجوه والآية لا تدل عليه ، وأيضا قد يقال : إن رغبتهما كانت في الخلود فقط وفي آية طه ما يشير إليه حيث عقب فيها الترغيب في الخلود بالأكل ، واعترض بأن رغبتهما في الخلود تستلزم الكفر لما يلزم ذلك من إنكار البعث والقيامة ، ومن ثم قال الحسن لعمرو بن عبيد لما قال له : إن آدم وحواء هل صدقا قول الشيطان : معاذ الله تعالى لو صدقا لكانا من الكافرين ، وأجيب بأن المراد من الخلود طول المكث والتصديق به ليس بكفر ولو سلم أن المراد الدوام الأبدي فلا نسلم أن اعتقاد ذلك إذ ذاك كفر لأن العلم بالموت والبعث بعده يتوقف على الدليل السمعي ولعله لم يصل إليهما وقتئذ.
وادعى بعضهم أن المراد بالخلود الخلود العارض بعد الموت بدخول الجنة وحينئذ لا إشكال إلا أنه خلاف الظاهر. وعن السيد المرتضى في معنى الآية أنه قال : إن اللعين أوهمهما أن المنهي عن تناول الشجرة الملائكة والخالدون خاصة دونهما كما يقول أحدنا لغيره : ما نهيت عن كذا إلا أن تكون فلانا يريد أن المنهي هو فلان دونك ، وهو كما ترى وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ أقسم لهما ، وإنما عبر بصيغة المفاعلة للمبالغة لأن من يباري أحدا في فعل يجد فيه فاستعمل في لازمه ، وقيل : المفاعلة على بابها ، والقسم وقع من الجانبين لكنه اختلف متعلقه فهو أقسم لهما على النصح وهما أقسما له على القبول.
وتعقب بأن هذا إنما يتم لوجود المقاسمة عن ذكر المقسم عليه وهو النصيحة أما حيث ذكر فلا يتم إلا أن يقال :
سمي قبول النصيحة نصيحة للمشاكلة والمقابلة كما قيل في قوله تعالى : وَواعَدْنا مُوسى [الأعراف : 142] أنه سمي التزام موسى عليه السلام الوفاء والحضور للميعاد ميعادا فأسند التعبير بالمفاعلة ، وقيل : قالا له أتقسم بالله تعالى إنك لمن الناصحين؟ وأقسم لهما فجعل ذلك مقاسمة. وعلى هذا فيكون - كما قال ابن المنير - في الكلام لف لأن آدم وحواء عليهما السلام لا يقسمان بلفظ التكلم بل بلفظ الخطاب ، وقيل : إنه إلى التغليب أقرب ، وقيل : إنه لا حاجة إليه بأن يكون المعنى حلفا عليه بأن يقول لهما : إني لكما لمن الناصحين فَدَلَّاهُما أي حطهما عن درجتهما وأنزلهما عن رتبة الطاعة إلى رتبة المعصية فهو من دلى الدلو في البئر كما قاله أبو عبيدة وغيره. وعن الأزهري أن معناه أطمعهما. وأصله من تدلية العطشان شيئا في البئر فلا يجد ما يشفي غليله. وقيل : هو من الدالة وهي الجرأة في كما قال :
أظن الحلم دل على قومي وقد يستجهل الرجل الحليم

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 341
فأبدل أحد حرفي التضعيف ياء بِغُرُورٍ أي بما غرهما به من القسم أو متلبسين به ، فالباء للمصاحبة أو الملابسة. والجار والمجرور حال من الفاعل أو المفعول. وجعل بعضهم الغرور مجازا عن القسم لأنه سبب له ولا حاجة إليه ، وسبب غرورهما على ما قاله غير واحد أنهما ظنا أن أحدا لا يقسم بالله تعالى كاذبا ورووا في ذلك خبرا.
وظاهر هذا أنهما صدقا ما قاله فأقدما على ما نهيا عنه.
وذهب كثير من المحققين أن التصديق لم يوجد منهما لا قطعا ولا ظنا. وإنما أقدما على المنهي عنه لغلبة الشهوة كما نجد من أنفسنا أن نقدم على الفعل إذا زين لنا الغير ما نشتهيه وإن لم نعتقد أن الأمر كما قال : ولعل كلام اللعين على هذا من قبيل المقدمات الشعرية أثار الشهوة حتى غلبت ونسي معها النهي فوقع الإقدام من غير روية ، وقال القطب : يمكن أن يقال إن اللعين لما وسوس لهما بقوله : ما نَهاكُما إلخ فلم يقبلا منه عدل إلى اليمين على ما قال سبحانه وَقاسَمَهُما فلم يصدقاه أيضا فعدل بعد ذلك إلى شيء آخر وكأنه أشار إليه سبحانه بقوله تعالى :
فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ وهو أنه شغلهما باستيفاء اللذات حتى صارا مستغرقين بها فنسي النهي كما يشير إليه قوله تعالى :
فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه : 115] وجعل العتاب الآتي عى ترك التحفظ فتدبر فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ أي أكلا منها أكلا يسيرا بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما قال الكلبي : تهافت عنهما لباسهما فأبصر كل منهما عورة صاحبه فاستحيا وَطَفِقا أخذا وجعلا فهو من أفعال الشروع وكسر الفاء فيه أفصح من فتحها وبه قرأ أبو السمال يَخْصِفانِ أي يرقعان ويلزقان ورقة فوق ورقة ، وأصل معنى الخصف الخرز في طاقات النعال ونحوها بإلصاق بعضها ببعض. وقيل أصله الضم والجمع عَلَيْهِما أي على سوآتها أو على بدنهما ففي الكلام مضاف مقدر.
وقيل : الضمير عائد على «سوءاتهما».
مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وكان ذلك بعض ورق التين على ما روي عن قتادة. وقيل : الموز وقرأ الزهري يَخْصِفانِ من أخصف ، وأصله خصف إلا أنه - كما قال الجاربردي - نقل إلى أخصف للتعدية ، وضمن الفعل لذلك معنى التصيير فصار الفاعل في المعنى مفعولا للتصيير علا لأصل الفعل فيكون التقدير يخصفان أنفسهما أي يجعلان أنفسهما خاصفين عليهما من ورق الجنة فحذف مفعول التصيير. وجوز بعضهم كون خصف واخصف بمعنى. وقرأ الحسن «يخصّفان» بفتح الياء وكسر الخاء وتشديد الصاد من الافتعال ، وأصله يختصفان سكنت التاء وأدغمت ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين. وقرأ يعقوب بفتحها وقرىء «يخصّفان» من خصف المشدد بفتح الخاء وقد ضمت اتباعا للياء وهي قراءة عسرة النطق وَناداهُما رَبُّهُما بطريق العتاب والتوبيخ أَلَمْ أَنْهَكُما تفسير للنداء فلا محل له من الإعراب أو معمول لقول محذوف أي وقال أو قائلا : ألم أنهكما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ إشارة إلى الشجرة التي نهيا عن قربانها ، والتثنية لتثنية المخاطب.
وَأَقُلْ لَكُما عطف على «أنهكما» أي ألم أقل لكما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ أي ظاهر العداوة ، وهذا - على ما قيل : عتاب وتوبيخ على الاغترار بقول العدو كما أن الأول عتاب على مخالفة النهي. ولم يحك هذا القول هاهنا ، وقد حكي في سورة بقوله سبحانه : إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ [طه : 117] الآية ولَكُما متعلق بعدو لما فيه من معنى الفعل أو بمحذوف وقع حالا منه.
واستدل بعضهم بالآية على أن مطلق النهي للتحريم لما فيها من اللوم الشديد مع الندم والاستغفار المفهوم مما يأتي. والأكثرون على أن النهي هنا للتنزيه وندمهما واستغفارهما على ترك الأولى وهو في نظرهما عظيم وقد يلام عليه أشد اللوم إذا كان فاعله من المقربين قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا أي ضررناها بالمعصية ، وقيل : نقصناها حظها

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 342
بالتعرض للإخراج من الجنة ، وحذفا حرف النداء مبالغة في التعظيم لما أن فيه طرفا من معنى الأمر.
وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا ذلك بعدم العقاب عليه وَتَرْحَمْنا بالرضا علينا ، وقيل : المراد وإن لم تستر علينا بالحفظ عما يتسبب نقصان الحظ وترحمنا بالتفضل علينا بما يكون عوضا عما فاتنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ جواب قسم مقدر دل على جواب الشرط السابق على ما قبل. واستدل بالآية على أن الصغائر يعاقب عليها مع اجتناب الكبائر إن لم يغفر الله تعالى. وذهبت المعتزلة إلى أن اجتناب الكبائر يوجب تكفير الصغائر وإن لم يتب العبد منها ، وجعلوا لذلك ما ذكر هنا جاريا على عادة الأولياء والصالحين في تعظيمهم الصغير من السيئات وتصغيرهم العظيم من الحسنات فلا ينافي كونهما مغفورا لهما ، والكثير من أهل السنة جعلوه من باب هضم النفس بناء على أن ما وقع كان عن نسيان ولا كبيرة ولا صغيرة معه. وادعى الإمام أن ذلك الإقدام كان صغيرة ، وكان قبل نبوة آدم عليه السلام إذ لا يجوز على الأنبياء عليهم السلام بعد النبوة كبيرة ولا صغيرة ، والكلام في هذه المسألة مشهور قالَ استئناف كما مر مرارا اهْبِطُوا المأثور عن كثير من السلف أنه خطاب لآدم وحواء عليهما السلام وإبليس عليه اللعنة ، وكرر الأمر له تبعا لهما إشارة إلى عدم انفكاكه عن جنسهما في الدنيا أو أن الأمر وقع مفرقا وهذا نقل له بالمعنى وإجمال له كما في قوله تعالى يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ [المؤمنون : 51] وقيل : إن الأمر بالنسبة إلى اللعين غير ما تقدم فإنه أمر له بالهبوط من حيث وسوس.
واختار الفراء كونه خطابا لهما ولذريتهما وفيه خطاب المعدوم ، وقيل : إنه لهما فقط لقوله سبحانه : قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً [طه : 123] والقصة واحدة ، وضمير الجمع لكونهما أصل البشر فكأنهم هم ومن الناس من قال : إن مختار الفراء هو هذا ، وقيل : إنه لهما ولإبليس والحية. واعترض وأجيب بما مر في سورة البقرة ، والظاهر من النظم الكريم أن آدم عليه السلام عاجله ربه سبحانه بالعتاب والتوبيخ على فعله ولم يتخلل هناك شيء ، ونقل الأجهوري عن حجة الإسلام الغزالي أنه عليه السلام لما أكل من الشجرة تحركت معدته لخروج الفضلة ولم يكن ذلك مجعولا في الجنة في شيء من أطعمتها إلا في تلك الشجرة فلذلك نهي عن أكلها فجعل يدور في الجنة فأمر الله تعالى ملكا يخاطبه فقال له : أي شيء تريد يا آدم؟ قال : أريد أن أضع ما في بطني من الأذى فقال له : في أي مكان تضعه أعلى الفرش أم على السرر أم في الأنهار أم تحت ظلال الأشجار هل ترى هاهنا مكانا يصلح لذلك ثم أمره بالهبوط وأنا لا أرى لهذا الخبر صحة ، ومثله ما
روي عن محمد بن قيس قال : إنه عليه السلام لما أكل من الشجرة ناداه ربه يا آدم لم أكلت منها وقد نهيتك قال : أطعمتني حواء فقال سبحانه : يا حواء لم أطعمتيه؟ قالت أمرتني الحية فقال للحية : لم أمرتها؟
قالت : أمرني إبليس فقال الله تعالى : أما أنت يا حواء فلأدمينّك كل شهر كما أدميت الشجرة. وأما أنت يا حية فأقطع رجليك فتمشين على وجهك وسيشدخ وجهك كل من لقيك. وأما أنت يا إبليس فملعون.
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ في موضع الحال من فاعل «اهبطوا» وهي حال مقارنة أو مقدرة ، واختار بعض المعربين كون الجملة استئنافية كأنهم لما أمروا بالهبوط سألوا كيف يكون حالنا؟ فأجيبوا بأن بعضكم لبعض عدو ، وأمر العداوة على تقدير دخول الشيطان في الخطاب ظاهر ، وأما على تقدير التخصيص بآدم وحواء عليهما السلام فقد قيل : إنه باعتبار أن يراد بهما ذريتهما إما بالتجوز كإطلاق تميم على أولاده كلهم أو يكتفى بذكرهما عنهم ، واختار بعضهم كون العداوة هنا بمعنى الظلم أي يظلم بعضكم بعضا بسبب تضليل الشيطان فليفهم.
وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ أي استقرار أو موضع استقرار فهو إما مصدر ميمي أو اسم مكان. وجوز أن يكون اسم مفعول بمعنى ما استقر ملككم عليه وجاز تصرفكم فيه. ولا يخفى أنه خلاف الظاهر ومحتاج إلى الحذف

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 343
والإيصال ، واللفظ في نفسه يحتمل أن يكون اسم زمان إلا أنه غير محتمل هنا لأنه يتكرر مع قوله سبحانه : وَمَتاعٌ أي بلغة إِلى حِينٍ يريد به وقت الموت ، وقيل : القيامة وتجعل السكنى في القبر تمتعا في الأرض أو يقال : معنى «لكم» لجنسكم ولمجموعكم ، والظرف قيل : متعلق بمتاع أو به وبمستقر على التنازع إن كان مصدرا ، وقيل : إنه متعلق بمحذوف وقع صفة لمتاع.
قالَ أعيد للاستئناف إما للإيذان بعدم اتصال ما بعده بما قبله. وإما لإظهار العناية بما بعده وهو قوله سبحانه : فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ عند البعث يوم القيامة. وقرأ أهل الكوفة غير عاصم تُخْرَجُونَ بفتح التاء وضم الراء على البناء للفاعل يا بَنِي آدَمَ خطاب للناس كافة. واستدل به على دخول أولاد الأولاد في الوقف على الأولاد. ولا يخفى سر هذا العنوان في هذا المقام.
قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً أي خلقنا لكم ذلك بأسباب نازلة من السماء كالمطر الذي ينبت به القطن الذي يجعل لباسا قاله الحسن ، وعن أبي مسلم أن المعنى أعطيناكم ذلك ووهبنا لكم وكل ما أعطاه الله تعالى لعبده فقد أنزله عليه من غير أن يكون هناك علو أو سفل بل هو جار مجرى التعظيم كما تقول : رفعت حاجتي إلى فلان وقصتي إلى الأمير وليس هناك نقل من سفل إلى علو ، وقيل : المراد قضينا لكم ذلك وقسمناه وقضاياه تعالى وقسمه توصف بالنزول من السماء حيث كتب في اللوح المحفوظ. وعلى كل فالكلام لا يخلو عن مجاز. ويحتمل أن يكون في المسند وهو الظاهر. ويحتمل أن يكون في اللباس أو الإسناد.
وقوله سبحانه : يُوارِي أي يستر ترشيح على بعض الاحتمالات. وعن الجبائي أن الكلام على حقيقة مدعيا نزول ذلك مع آدم وحواء من الجنة حين أمرا بالهبوط إلى الأرض ولم نقف في ذلك على خبر كسته الصحة لباسا. نعم
أخرج ابن عساكر بسند ضعيف عن أنس قال : قال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم «أهبط آدم وحواء عليهما السلام عريانين جميعا عليهما ورق الجنة فأصاب آدم الحر حتى قعد يبكي ويقول لها : يا حواء قد آذاني الحر فجاءه جبرائيل عليه السلام بقطن وأمرها أن تغزله وعلمها وعلم آدم وأمره بالحياكة وعلمه.
وجاء في خبر آخر أنه عليه السلام أهبط ومعه البذور فوضع إبليس عليها يده فما أصاب يده ذهب منفعته.
وفي آخر رواه ابن المنذر عن ابن جريج أنه عليه السلام أهبط معه ثمانية أزواج من الإبل والبقر والضأن والمعز وباسنة والعلاة والكلبتان وغريسة عنب وريحان.
وكل ذلك على ما فيه لا يدل على المدعي وإن صلح بعض ما فيه لأن يكون مبدأ لما يواري سَوْآتِكُمْ أي التي قصد إبليس عليه اللعنة إبداءها من أبويكم حتى اضطر إلى خصف الأوراق وأنتم مستغنون عن ذلك. روي غير واحد أن العرب كانوا يطوفون بالبيت عرايا ويقولون : لا نطوف بثياب عصينا الله تعالى فيها فنزلت هذه الآية ، وقيل : إنهم كانوا يطوفون كذلك تفاؤلا بالتعري عن الذنوب والآثام ، ولعل ذكر قصة آدم عليه السلام حينئذ للإيذان بأن انكشاف العورة أول سوء أصاب الإنسان من قبل الشيطان وأنه أغواهم في ذلك كما فعل بأبويهم.
وفي الكشاف أن هذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقيب ذكر بدء السوءات وخصف الورق عليها إظهارا للمنة فيما خلق من اللباس ولما في العري وكشف العورة من المهانة والفضيحة وإشعارا بأن التستر باب عظيم من أبواب التقوى وَرِيشاً أي زينة أخذا من ريش الطير لأنه زينة له. وعطفه على هذا من عطف الصفات فيكون اللباس موصوفا بشيئين مواراة السوأة والزينة. ويحتمل أن يكون من عطف الشيء على غيره.
أنزلنا لباسين لباس مواراة ولباس زينة فيكون مما حذف فيه الموصوف أي لباسا ريشا أي ذا ريش. وتفسير الريش

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 344
بالزينة مروي عن ابن زيد. وذكر بعض المحققين أنه مشترك بين الاسم والمصدر. وعن ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي أن المراد به المال ومنه تريش الرجل أي تمول ، وعن الأخفش أنه الخصب والمعاش ، وقال الطبرسي : إنه جميع ما ويحتاج إليه.
وقرأ عثمان رضي الله تعالى عنه «ورياشا» وهو إما مصدر كاللباس أو جمع ريش كشعب وشعاب.
وَلِباسُ التَّقْوى أي العمل الصالح كما روي عن ابن عباس أو خشية الله تعالى كما روي عن عروة بن الزبير. أو الحياء كما روي عن الحسن أو الإيمان كما روي عن قتادة. والسدي أو ما يستر العورة وهو اللباس الأول كما روي عن ابن زيد أو لباس الحرب الدرع والمغفر والآلات التي يتقى بها من العدو كما روي عن زيد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم ، واختاره أبو مسلم أو ثياب النسك والتواضع كلباس الصوف والخشن من الثياب كما اختاره الجبائي. فاللفظ إما مشاكلة وإما مجاز وإما حقيقة ، ورفعه بالابتداء وخبره جملة ذلِكَ خَيْرٌ والرابط اسم الإشارة لأنه يكون رابطا كالضمير.
وجوز أن يكون الخبر خَيْرٌ وذلِكَ صفة لباس ، وإليه ذهب الزجاج وابن الأنباري وغيرهما. واعترض بأن الأسماء المبهمة أعرف من المعرف باللام ومما أضيف إليه والنعت لا بد أن يساوي المنعوت في رتبة التعريف أو يكون أقل منه. ولا يجوز أن يكون أعرف منه فلذا قيل : إن «ذلك» بدل أو بيان لا نعت. وأجيب بأن ذلك غير متفق عليه فإن تعريف اسم الإشارة لكونه بالإشارة الحسية الخارجة عن الوضع قيل : إنه أنقص من ذي اللام ، وقيل : إنهما في مرتبة واحدة ، وعن أبي علي وهو غريب أن ذلك لا محل له من الإعراب وهو فصل كالضمير. وقرىء «ولباس» التقوى بالنصب عطفا على «لباسا» قال بعض المحققين : وحينئذ يكون اللباس المنزل ثلاثة أو يفسر لِباسُ التَّقْوى بلباس الحرب أو يجعل الإنزال مشاكلة ، وذكر على القراءة المشهورة أن «ذلك» إن كان إشارة للباس المواري فلباس التقوى حقيقة والإضافة لأدنى ملابسة ، وإن كان للباس التقوى فهو استعارة مكنية تخييلية أو من قبيل - لجين الماء - وعلى كل تكون الإشارة بالبعيد للعظيم بتنزيل البعد الرتبي منزلة البعد الحسي فتأمل ولا تغفل.
ذلِكَ أي إنزال اللباس المتقدم كله أو الأخير مِنْ آياتِ اللَّهِ الدالة على عظيم فضله وعميم رحمته لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فيعرفون نعمته أو يتعظون فيتورعون عن القبائح يا بَنِي آدَمَ تكرير النداء للإيذان بكمال الاعتناء بمضمون ما صدر به لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ أي لا يوقعنكم في الفتنة والمحنة بأن يوسوس لكم بما يمنعكم به عن دخول الجنة فتطيعوه وقرىء «يفتننكم» بضم حرف المضارعة من أفتنه حمله على الفتنة ، وقرىء «يفتنكم» بغير توكيد ، وهذا نهي للشيطان في الصورة والمراد نهي المخاطبين عن متابعته وفعل ما يقود إلى الفتنة كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ أي كما فتن أبويكم ومحنهما بأن أخرجهما منها فوضع السبب موضع المسبب ، وجوز أن يكون التقدير لا يفتننكم فتنة مثل فتنة إخراج أبويكم أو لا يخرجنكم بفتنته إخراجا مثل إخراجه أبويكم ، ونسبة الإخراج إليه لأنه كان بسبب إغوائه وكذا نسبه النزع إليه في قوله سبحانه. يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما والجملة حال من أَبَوَيْكُمْ أو من فاعل أَخْرَجَ ولفظ المضارع - على ما قاله القطب لحكاية الحال الماضية لأن النزع السلب وهو ماض بالنسبة إلى الإخراج وإن كان العري باقيا.
وقوله جل شأنه : إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ تعليل للنهي كما هو معروف في الجملة المصدرة بأن في أمثاله وتأكيد للتحذير لأن العدو إذا أتى من حيث لا يرى كان أشد وأخوف ، والضمير في إِنَّهُ للشيطان.
وجوز أن يكون للشأن وهو تأكيد للضمير المستتر في يَراكُمْ وقبيله عطف عليه لا على البارز لأنه لا

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 345
يصلح للتأكيد. وجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر ومِنَ لابتداء الغاية وحَيْثُ ظرف لمكان انتفاء الرؤية وجملة لا تَرَوْنَهُمْ في محل جر بالإضافة : وعن أبي إسحاق أن حَيْثُ موصولة وما بعد صلة لها. ولعل مراده أن ذلك كالموصول وإلا فلا قائل به غيره كما قال أبو علي الفارسي والقبيل الجماعة فإن كانوا من أب واحد فهم قبيلة. والمراد بهم هنا جنوده من الجن. وقرأ اليزيدي «وقبيله» بالنصب وهو عطف على اسم إن ، ويتعين كون الضمير للشيطان ، ولا يصح كونه للشأن خلافا لمن وهم فيه لأنه لا يصلح العطف عليه ولا يتبع بتابع.
والقضية مطلقة لا دائمة فلا تدل على ما ذهب إليه المعتزلة من أن الجن لا يرون ولا يظهرون للإنس أصلا ولا يتمثلون.
ويشهد لما قلنا ما صح من رؤية النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لمقدّمهم حين رام أن يشغله عليه الصلاة والسلام عن صلاته فأمكنه الله تعالى منه وأراد أن يربطه إلى سارية من سواري المسجد يلعب به صبيان المدينة فذكر دعوة سليمان عليه السلام فتركه. ورؤية ابن مسعود لجن نصيبين وما نقل عن الشافعي رضي الله تعالى عنه من أن من زعم أنه رآهم ردت شهادته وعزر لمخالفته القرآن محمول - كما قال البعض - على زاعم رؤية صورهم التي خلقوا عليها إذ رؤيتهم بعد التشكل الذي أقدرهم الله تعالى عليه مذهب أهل السنة وهو رضي الله تعالى عنه من ساداتهم. وما نوزع به القول بقدرتهم على التشكل من استلزامه رفع الثقة بشيء فإن من رأى ولو ولده يحتمل أنه رأى جنيا تشكل به مردود بأن الله تعالى تكفل لهذه الأمة بعصمتها عن أن يقع فيها ما يؤدي لمثل ذلك المترتب عليه الريبة في الدين ورفع الثقة بعالم وغيره فاستحال شرعا الاستلزام المذكور. وقول العلامة البيضاوي بعد تعريف الجن في سورتهم بما عرف. وفيه دليل على أنه صلّى اللّه عليه وسلّم ما رآهم ولم يقرأ عليهم وإنما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته فسمعوها فأخبر الله تعالى بذلك ناشىء من عدم الاطلاع على الأحاديث الصحيحة الكثيرة المصرحة برؤيته صلّى اللّه عليه وسلّم لهم وقراءته عليهم وسؤالهم منه الزاد لهم ولدوابهم على كيفيات مختلفة. وعندي أنه لا مانع من رؤيته صلّى اللّه عليه وسلّم للجن على صورهم التي خلقوا عليها فقد رأى جبرائيل عليه السلام بصورته الأصلية مرتين وليست رؤيتهم بأبعد من رؤيته. ورؤية كل موجود عندنا في حيز الإمكان. واللطافة المانعة من رؤيتهم عند المعتزلة لا توجب الاستحالة ولا تمنع الوقوع خرقا للعادة.
وكذا تعليل الأشاعرة عدم الرؤية بأن الله تعالى لم يخلق في عيون الأنس قوة الإدراك لا يقتضي الاستحالة أيضا لجواز أن يخلق الله تعالى في عين رسوله عليه الصلاة والسلام الرائي له جل شأنه بعيني رأسه على الأصح ليلة المعراج تلك القوة فيراهم ، بل لا يبعد القول برؤية الأولياء رضي الله تعالى عنهم لهم كذلك لكن لم أجد صريحا ما يدل على وقوع هذه الرؤية. وأما رؤية الأولياء بل سائر الناس لهم متشكلين فكتب القوم مشحونة بها ودفاتر المؤرخين والقصاص ملأى منها. وعلى هذا لا يفسق مدعي رؤيتهم في صورهم الأصلية إذا كان مظنة للكرامة. وليس في الآية أكثر من نفي رؤيتهم كذلك بحسب العادة. على أنه يمكن أن تكون الآية خارجة مخرج التمثيل لدقيق مكرهم وخفي حيلهم وليس المقصود منها نفي الرؤية حقيقة. ومن هذا يعلم أن القول بكفر مدعي تلك الرؤية خارج عن الإنصاف فتدبر.
إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ أي قرناء لهم مسلطين عليهم متمكنين من إغوائهم بما أوجدنا بينهم من المناسبة أو بإرسالهم عليهم وتمكينهم منهم ، والجملة إما تعليل آخر للنهي وتأكيد للتحذير إثر تأكيد وإما فذلكة لحكاية السابقة. وقوله سبحانه : وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً جملة مبتدأة لا محل لها من الإعراب. وجوز عطفها على الصلة. والفاحشة الفعلة القبيحة المتناهية في القبح. والتاء إما لأنها مجراة على الموصوف المؤنث أي فعلة فاحشة وإما للنقل من الوصفية إلى الاسمية. والمراد بها هنا عبادة الأصنام وكشف العورة في الطواف ونحو ذلك.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 346
وعن الفراء تخصيصها بكشف العورة. وفي الآية - على ما قاله الطبرسي - حذف ، أي وإذا فعلوا فاحشة فنهوا عنها قالُوا جواب للناهين وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها محتجين بأمرين : تقليد الآباء والافتراء على الله سبحانه. وتقديم المقدم للإيذان بأنه المعول عليه عندهم أو للإشارة منهم إلى أن آباءهم إنما كانوا يفعلونها بأمر الله تعالى على أن ضمير أَمَرَنا كما قيل لهم ولآبائهم. وحينئذ يظهر وجه الإعراض عن الأول في رد مقالتهم بقوله تعالى : قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ فإن عادته تعالى جرت على الأمر بمحاسن الأعمال والحث على مكارم الخصال وهو اللائق بالحكمة المقتضية أن لا يتخلف ، وقال الإمام : لم يذكر سبحانه جوابا عن حجتهم الأولى لأنها إشارة إلى محض التقليد وقد تقرر في العقول أنه طريقة فاسدة لأن التقليد حاصل في الأديان المتناقضة فلو كان التقليد حقا لزم القول بحقية الأديان المتناقضة وأنه محال فلما كان فساد هذا الطريق ظاهرا لم يذكر الله تعالى الجواب عنه ، وذكر بعض المحققين أن الاعراض إنما هو عن التصريح برده وإلا فقوله سبحانه : إِنَّ اللَّهَ إلخ متضمن للرد لأنه سبحانه إذا أمر بمحاسن الأعمال كيف يترك أمره لمجرد اتباع الآباء فيما هو قبيح عقلا والمراد بالقبح العقلي هنا نفرة الطبع السليم واستنقاص العقل المستقيم لا كون الشيء متعلق الذم قبل ورود النهي عنه وهو المتنازع فيه بيننا وبين المعتزلة دون الأول كما حقق في الأصول فلا دلالة في الآية على ما زعموه ، وقيل : إن المذكور جوابا سؤالين مترتبين كأنه قيل لهم لما فعلوها لم فعلتم؟ قالوا وجدنا آباءنا فقيل : ومن أين أخذ آباؤكم؟ فقالوا : الله أمرنا بها والكلام حينئذ على تقدير مضاف أي أمر آباءنا وقيل : لا تقدير والعدول عن أمرهم الظاهر حينئذ للإشارة إلى ادعاء أن أمر آبائهم أمر لهم.
وعلى الوجهين يمتنع التقليد إذا قام الدليل على خلافه فلا دلالة في الآية على المنع من التقليد مطلقا.
أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ من تمام القول المأمور به ، والهمزة لإنكار الواقع واستقباحه والإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يكون ، وتوجيه الإنكار إلى قولهم عليه تعالى ما لا يعلمون صدوره منه عز شأنه مع أن منهم من يقول عليه سبحانه ما يعلم عدم صدوره مبالغة في إنكار تلك الصورة ، ولا دليل في الآية لمن نفى القياس بناء على أن ما يثبت به مظنون لا معلوم لأن ذلك مخصوص من عمومها بإجماع الصحابة ومن يعتد به أو بدليل آخر ، وقيل : المراد بالعلم ما يشمل الظن قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ بيان للمأمور به إثر نفي ما أسند أمره إليه تعالى من الأمور المنهي عنها والقسط على ما قال غير واحد العدل ، وهو الوسط من كل شيء المتجافي عن طرفي الإفراط والتفريط.
وقال الراغب : هو النصيب بالعدل كالنصف والنصفة. ويقال : القسط لأخذ قسط غيره وذلك جور والأقساط لإعطاء قسط غيره وذلك إنصاف ولذلك يقال : قسط الرجل إذا جار وأقسط إذا عدل. وهذا أولى مما قاله الطبرسي من أن أصله الميل فإن كان إلى جهة الحق فعدل. ومنه قوله سبحانه : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [المائدة : 42 ، الحجرات : 9 ، الممتحنة : 8] وإن كان إلى جهة الباطل فجور ، ومنه قوله تعالى : أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
[الجن : 15] والمراد به هنا - على ما نقل عن أبي مسلم - جميع الطاعات والقرب.
وروي عن ابن عباس ، والضحاك أنه التوحيد وقول لا إله إلا الله ، ومجاهد ، والسدي ، وأكثر المفسرين على أنه الاستقامة والعدل في الأمور وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ أي توجهوا إلى عبادته تعالى مستقيمين غير عادلين إلى غيرها عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أي في وقت كل سجود كما قال الجبائي أو مكانه كما قال غيره فعند بمعنى في والمسجد اسم زمان أو مكان بالمعنى اللغوي ، وكان حقه فتح العين لضمها في المضارع إلا أنه مما شذ عن القاعدة ، وزعم بعضهم أنه مصدر ميمي والوقت مقدر قبله ، والسجود مجاز عن الصلاة. وقال غير واحد : المعنى توجهوا إلى الجهة التي أمركم الله تعالى بالتوجه إليها في صلاتكم وهي جهة الكعبة ، والأمر على القولين للوجوب.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 347
واختار المغربي أن المعنى إذا أدركتم الصلاة في أي مسجد فصلوا ولا تؤخروها حتى تعودوا إلى مساجدكم ، والأمر على هذا للندب. والمسجد بالمعنى المصطلح ولا يخفى ما فيه من البعد. ومثله ما قيل : إن المعنى اقصد المسجد في وقت كل صلاة على أنه أمر بالجماعة ندبا عند بعض ووجوبا عند آخرين. والواو للعطف وما بعده قيل :
معطوف على الأمر الذي ينحل إليه المصدر مع أن أي أن أقسطوا. والمصدر ينحل إلى الماضي والمضارع والأمر ، وقال الجرجاني : إنه عطف على الخبر السابق المقول لقل وهو إنشاء معنى. وإن أبيت فالكلام من باب الحكاية.
وجوز أن يكون هناك قل مقدرا معطوفا على نظيره. وأَقِيمُوا مقول له. وأن يكون معطوفا على محذوف تقديره قل أقبلوا وأقيموا وَادْعُوهُ أي اعبدوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي الطاعة فالدعاء بمعنى العبادة لتضمنها له.
والدين بالمعنى اللغوي. وقيل : إن هذا أمر بالدعاء والتضرع إليه سبحانه على وجه الإخلاص أي ارغبوا إليه في الدعاء بعد إخلاصكم له في الدين كَما بَدَأَكُمْ أي أنشأكم ابتداء تَعُودُونَ إليه سبحانه فيجازيكم على أعمالكم فامتثلوا أوامره أو فأخلصوا له العبادة فهو متصل بالأمر قبله. وقال الزجاج : إنه متصل بقوله تعالى : فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ ولا يخفى بعده. ولم يقل سبحانه : يعيدكم كما هو الملائم لما قبله إشارة إلى أن الإعادة دون البدء من غير مادة بحيث لو تصور الاستغناء عن الفاعل لكان فيها دونه فهو كقوله تعالى : وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم : 27] سواء كانت الإعادة الإيجاد بعد الإعدام بالكلية أو جمع متفرق الأجزاء. وإنما شبهها سبحانه بالإبداء تقريرا لإمكانها والقدرة عليها. وقال قتادة : المعنى كما بدأكم من التراب تعودون إليه كما قال سبحانه : مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ [طه : 55] وقيل : المعنى كما بدأكم لا تملكون شيئا كذلك تبعثون يوم القيامة.
وعن محمد بن كعب أن المراد أن من ابتدأ الله تعالى خلقه على الشقوة صار إليها وإن عمل بأعمال أهل السعادة ومن ابتدأ خلقه على السعادة صار إليها وإن عمل بعمل أهل الشقاوة. ويؤيد ذلك ما
رواه الترمذي عن عمرو بن العاص قال : «خرج علينا رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم وفي يده كتابان فقال : أتدرون ما هذان الكتابان؟ قلنا : لا يا رسول الله فقال للذي في يده اليمنى هذا الكتاب «1» من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل «2» على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا ثم قال للذي في شماله هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا فقال أصحابه : ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه؟ فقال عليه الصلاة والسلام : سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل ثم قال أي أشار - رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم بيديه فنبذهما ثم قال : فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير».
وقريب من هذا ما روي عن ابن جبير من أن المعنى : كما كتب عليكم تكونون. وروي عن الحبر أن المعنى كما بدأكم مؤمنا وكافرا يعيدكم يوم القيامة فهو كقوله تعالى : هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن : 2] وعليه يكون قوله سبحانه : فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ بيانا وتفصيلا لذلك ، ونظيره قوله تعالى : خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران : 95] بعد قوله عز شأنه : «إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم» قيل وهو الأنسب بالسياق.
___________
(1) الظاهر ان هذا صادر عن طريق التمثيل اه منه.
(2) هو من قولهم : أجمل الحساب إذا تم ورد من التفصيل إلى الجملة فاثبت في آخر الورقة مجموع ذلك وجملته وقوله : «فرغ ربكم» فذلكة الكلام ونتيجته.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 348
وذكر الطيبي أن هاهنا نكتة سرية وهي أن يقال : إنه تعالى قدم في قوله سبحانه : «كما بدأكم تعودون» المشبه به على المشبه لينبه العاقل على أن قضاء الشؤون لا يخالف القدر والعلم الأزلي البتة وكما روعي هذه الدقيقة في المفسر روعيت في التفسير. وزيد أخرى عليها وهي أنه سبحانه قدم مفعول هَدى للدلالة على الاختصاص وأن فريقا آخر ما أراد هدايتهم. وقرر ذلك بأن عطف عليه وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ وأبرزه في صورة الإضمار على شريطة التفسير أي أضل فريقا حق عليهم الضلالة وفيه مع الاختصاص التوكيد كما قرره صاحب المفتاح لتنقطع ريبة المخالف ولا يقول : إن علم الله تعالى لا أثر له في ضلالتهم انتهى.
وكأنه يشير بذلك إلى رد قول الزمخشري في قوله تعالى : إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي تولوهم بالطاعة فيما أمروهم به ، وهذا دليل على أن علم الله تعالى لا أثر له في ضلالهم وإنهم هم الضالون باختيارهم وتوليتهم الشياطين دون الله تعالى فجملة إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا على هذا تعليل لقوله سبحانه : «وفريقا حق عليهم الضلالة» ويؤيد ذلك أنه قرىء «أنهم» بالفتح. ويحتمل أن تكون تأكيدا لضلالهم وتحقيقا له وأنا - الحق أحق بالاتباع - مع القائل : إن علم الله تعالى لا يؤثر في المعلوم وأن من علل الجبر به مبطل كيف والمتكلمون عن آخرهم قائلون : إن العلم يتعلق بالشيء على ما هو عليه إنما الكلام في أن قدرة الله تعالى لا أثر لها على زعم الضلّال أصحاب الزمخشري ونحن مانعون لذلك أشد المنع ، ولا منع من التعليل بالاتخاذ عند الأشاعرة لثبوت الكسب والاختيار ويكفي هذه المدخلية في التعليل. والزمخشري قدر الفعل في قوله سبحانه وَفَرِيقاً حَقَّ خذل ووافقه بعض الناس وما فعله الطيبي هو المختار عند بعض المحققين لظهور الملاءمة فيه وخلوه عن شبهة الاعتزال.
واختير تقديره مؤخرا لتتناسق الجملتان ، وهما عند الكثير في موضع الحال من ضمير تَعُودُونَ بتقدير قد أو مستأنفتان ، وجوز نصب فَرِيقاً الأول وفَرِيقاً الثاني على الحال والجملتان بعدهما صفتان لهما ، ويؤيد ذلك قراءة أبي «تعودون فريقين فريقا هدى وفريقا» إلخ ، والمنصوب على هذه القراءة إما بدل أو مفعول به لأعني مقدرا. ولم تلحق تاء التأنيث - لحق - للفصل أو لأن التأنيث غير حقيقي ، والكلام على تقدير مضاف عند بعض أي حق عليهم كلمة الضلالة وهي قوله سبحانه : «ضلوا» وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ عطف على ما قبله داخل معه في حيز التعليل أو التأكيد.
ولعل الكلام من قبيل - بنو فلان قتلوا فلانا والأول لكونه في مقابلة من هداه الله تعالى شامل للمعاند والمخطئ والثاني مختص بالثاني وهو صادق على المقصر في النظر والباذل غاية الوسع فيه ، واختلف في توجه الذم على الأخير وخلوده في النار. ومذهب البعض أنه معذور ولم يفرقوا بين من لا عقل له أصلا ومن له عقل لم يدرك به الحق بعد أن لم يدع في القوس منزعا في طلبه فحيث يعذر الأول لعدم قيام الحجة عليه يعذر الثاني لذلك ، ولا يرون مجرد المالكية وإطلاق التصرف حجة ولله تعالى الحجة البالغة ، والتزام أن كل كافر معاند بعد البعثة وظهور أمر الحق كنار على علم وأنه ليس في مشارق الأرض ومغاربها اليوم كافر مستدل ، إلا يقدم عليه إلا مسلم معاند أو مسلم مستدل بما هو أوهن من بيت العنكبوت وإنه لأوهن البيوت. وادعى بعضهم أن المراد من المعطوف عليه المعاند ومن المعطوف المخطئ والظاهر ما قلنا. وجعل الجملة حالية على معنى اتخذوا الشياطين أولياء وهم يحسبون أنهم مهتدون في ذلك الاتخاذ لا يخفى ما فيه يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ أي ثيابكم لمواراة عوراتكم لأن المستفاد من الأمر الوجوب والواجب إنما هو ستر العورة عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أي طواف أو صلاة ، وإلى ذلك ذهب مجاهد وأبو الشيخ وغيرهما ، وسبب النزول على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان أناس من الأعراب

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 349
يطوفون بالبيت عراة حتى كانت المرأة لتطوف بالبيت وهي عريانة فتعلق على سفلها سيورا مثل هذه السيور التي تكون على وجه الحمر من الذباب وهي تقول :
اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله
فأنزل الله تعالى هذه الآية : وحمل بعضهم الزينة على لباس التجمل لأنه المتبادر منه ونسب للباقر رضي الله تعالى عنه ، وروي عن الحسن السبط رضي الله تعالى عنه أنه كان إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه فقيل له : يا ابن رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم لم تلبس أجود ثيابك؟ فقال : إن الله تعالى جميل يحب الجمال فأتجمل لربي وهو يقول خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ فأحب أن ألبس أجمل ثيابي ،
ولا يخفى أن الأمر حينئذ لا يحمل على الوجوب لظهور أن هذا التزين مسنون لا واجب ، وقيل : إن الآية على الاحتمال الأول تشير إلى سنية التجمل لأنها لما دلت على وجوب أخذ الزينة لستر العورة عند ذلك فهم منه في الجملة حسن التزين بلبس ما فيه حسن وجمال عنده ، ونسب بيت الكذب إلى الصادق رضي الله عنه تعالى أن أخذ الزينة التمشط كأنه قيل : تمشطوا عند كل صلاة ، ولعل ذلك من باب الاقتصار على بعض أنواع الزينة وليس المقصود حصرها فيما ذكر. ومثل ذلك ما
أخرجه ابن عدي وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : «قال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم خذوا زينة الصلاة قالوا : وما زينة الصلاة؟ قال : البسوا نعالكم فصّلوا فيها».
وأخرج ابن عساكر. وغيره عن أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : في قوله سبحانه : خُذُوا زِينَتَكُمْ إلخ «صلوا في نعالكم»
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا مما طاب لكم.
قال الكلبي : كان أهل الجاهلية لا يأكلون من الطعام إلا قوتا ولا يأكلون دسما في أيام حجهم يعظمون بذلك حجهم فقال المسلمون : يا رسول الله من أحق بذلك فأنزل الله تعالى الآية ،
ومنه يظهر وجه ذكر الأكل والشرب هنا وَلا تُسْرِفُوا بتحريم الحلال كما هو المناسب لسبب النزول أو بالتعدي إلى الحرام كما روي عن ابن زيد أو بالإفراط في الطعام والشره كما ذهب إليه كثير ، وأخرج أبو نعيم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : إياكم والبطنة من الطعام والشراب فإنها مفسدة للجسد مورثة للسقم مكسلة عن الصلاة وعليكم بالقصد فيهما فإنه أصلح للجسد وأبعد من السرف وإن الله تعالى ليبغض الحبر السمين وإن الرجل لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه.
وقيل : المراد الإسراف ومجاوزة الحد بما هو أعم مما ذكر وعد منه أكل الشخص كلما اشتهى وأكله في اليوم مرتين ،
فقد أخرج ابن ماجة والبيهقي عن أنس قال : «قال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم : إن من الإسراف أن تأكل كل ما اشتهيت»
وأخرج الثاني وضعفه عن عائشة قالت : «رآني النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وقد أكلت في اليوم مرتين فقال يا عائشة أما تحبين أن يكون لك شغل إلا في جوفك الأكل في اليوم مرتين من الإسراف».
وعندي أن هذا مما يختلف باختلاف الأشخاص ، ولا يبعد أن يكون ما ذكر من الإفراط في الطعام وعد منه طبخ الطعام بماء الورد وطرح نحو المسك فيه مثلا من غير داع إليه سوى الشهوة ، وذهب بعضهم إلى أن الإسراف المنهي عنه يعم ما كان في اللباس أيضا ، وروي ذلك عن عكرمة ، وأخرج ابن أبي شيبة ، وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة. ورواه البخاري عنه تعليقا وهو لا ينافي ما ذكره الثعالبي وغيره من الأدباء أنه ينبغي للإنسان أن يأكل ما يشتهي ويلبس ما يشتهيه الناس كما قيل :
نصحته نصيحة قالت بها الأكياس كل ما اشتهيت والبس ما تشتهيه الناس
فإنه لترك ما لم يعتد بين الناس وهذا لإباحة كل ما اعتادوه. وفي العجائب للكرماني قال طبيب نصراني لعلي

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 350
ابن الحسين بن واقد : ليس في كتابكم من علم الطب شيء والعلم علمان علم الأبدان وعلم الأديان فقال له : قد جمع الله تعالى الطب كله في نصف آية من كتابه قال : وما هي؟ قال : كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا فقال النصراني : ولا يؤثر من رسولكم شيء في الطب فقال : قد جمع رسولنا صلّى اللّه عليه وسلّم الطب في ألفاظ يسيرة قال : وما هي؟
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء وأعط كل بدن ما عودته»
فقال : ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طلبا انتهى. وما نسبه إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم هو من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب ولا يصح رفعه إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، وفي الإحياء مرفوعا «البطنة أصل الداء والحمية أصل الدواء وعود وأكل جسد ما اعتاد».
وتعقبه العراقي قائلا : لم أجد له أصلا.
وفي شعب الإيمان للبيهقي ولقط المنافع لابن الجوزي عن أبي هريرة مرفوعا أيضا «المعدة حوض البدن والعروق إليها واردة فإذا صحت المعدة صارت العروق بالصحة وإذا فسدت المعدة صارت العروق بالقسم».
وتعقبه الدارقطني قائلا : لا نعرف هذا من كلام النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وإنما هو من كلام عبد الملك بن سعيد بن أبجر.
وفي الدر المنثور أخرج محمد الخلال عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم دخل عليها وهي تشتكي فقال لها : «يا عائشة الأزم دواء والمعدة بيت الأدواء وعودوا البدن ما اعتاد»
ولم أر من تعقبه ، نعم رأيت في النهاية لابن الأثير سأل عمرو الحارث بن كلدة ما الدواء؟ قال : الأزم يعني الحمية وإمساك الأسنان بعضها على بعض ، نعم الأحاديث الصحيحة متظافرة في ذم الشبع وكثرة الأكل ، وفي ذلك إرشاد للأمة إلى كل الحكمة.
إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ بل يبغضهم ولا يرضى أفعالهم. والجملة في موضع التعليل للنهي ، وقد جمعت هذه الآية - كما قيل - أصول الأحكام الأمر والإباحة والنهي والخبر.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 32 إلى 53]
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)
وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51)
وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53)

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 351
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ من الثياب وكل ما يتجمل به الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ أي خلقها لنفعهم من النبات كالقطن ، والكتان ، والحيوان كالحرير ، والصوف ، والمعادن كالخواتم والدروع وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ أي المستلذات ، وقيل : المحللات من المآكل والمشارب كلحم الشاة وشحمها ولبنها. واستدل بالآية على أن الأصل في المطاعم والملابس وأنواع التجملات الإباحة لأن الاستفهام في «من» لإنكار تحريمها على أبلغ وجه. ونقل عن ابن الفرس أنه قال : استدل بها من أجاز لبس الحرير والخز للرجال. وروي عن زين العابدين رضي الله تعالى عنه أنه كان يشتري كساء الخز بخمسين دينارا فإذا أصاف تصدق به لا يرى بذلك بأسا و«يقول» قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 352
وروي أن الحسين رضي الله تعالى عنه أصيب وعليه جبة خز.
وأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما بعثه علي كرم الله تعالى وجهه إلى الخوارج لبس أفضل ثيابه وتطيب بأطيب طيبه وركب أحسن مراكبه فخرج إليهم فوافقهم فقالوا : يا ابن عباس بينا أنت خير الناس إذ أتيتنا في لباس الجبابرة ومراكبهم فتلا هذه الآية لكن روي عن طاوس أنه قرأ هذه الآية وقال : لم يأمرهم سبحانه بالحرير ولا الديباج ولكنه كان إذا طاف أحدهم وعليه ثيابه ضرب وانتزعت منه فأنكر عليه ذلك ، والحق أن كل ما لم يقم الدليل على حرمته داخل في هذه الزينة لا توقف في استعماله ما لم يكن فيه نحو مخيلة كما أشير إليه فيما تقدم.
وقد روي أنه صلّى اللّه عليه وسلّم خرج وعليه رداء قيمته ألف درهم ،
وكان أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يرتدي برداء قيمته أربعمائة دينار وكان يأمر أصحابه بذلك ، وكان محمد يلبس الثياب النفيسة ويقول : إن لي نساء وجوار فأزين نفسي كي لا ينظرن إلى غيري. وقد نص الفقهاء على أنه يستحب التجمل
لقوله عليه الصلاة والسلام «إن الله تعالى إذا أنعم على عبد أحب أن يرى أثر نعمته عليه ،
وقيل لبعضهم : أليس عمر رضي الله تعالى عنه كان يلبس قميصا عليه كذا رقعة فقال : فعل ذلك لحكمة هي أنه كان أمير المؤمنين وعماله يقتدون به وربما لا يكون لهم مال فيأخذون من المسلمين.
نعم كره بعض الأئمة لبس المعصفر والمزعفر وكرهوا أيضا أشياء أخر تطلب من محالها.
قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي هي لهم بالأصالة لمزيد كرامتهم على الله تعالى والكفرة وإن شاركوهم فيها فبالتبع فلا إشكال في الاختصاص المستفاد من اللام خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ لا يشاركهم فيها غيرهم. وعن الجبائي أن المعنى : هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا غير خالصة من الهموم والأحزان والمشقة وهي خالصة يوم القيامة من ذلك وانتصاب خالِصَةً على الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور والعامل فيه متعلقه. وقرأ نافع بالرفع على أنه خبر بعد خبر أو هو الخبر ولِلَّذِينَ متعلق به قدم لتأكيد الخلوص والاختصاص كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي مثل تفصيلنا هذا الحكم نفصل سائر احكام لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ما في تضاعيفها من المعاني الرائقة.
وجوز أن يكون هذا التشبيه على حد قوله تعالى : وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة : 143] ونظائره مما تقدم تحقيقه.
قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ أي ما تزايد قبحه من المعاصي وقيل : ما يتعلق بالفروج ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ بدل من الْفَواحِشَ أي جهرها وسرها. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما ظهر الزنا علانية وما بطن الزنا سرا وقد كانوا يكرهون الأول ويفعلون الثاني فنهوا عن ذلك مطلقا.
وعن مجاهد ما ظهر التعري في الطواف وما بطن الزنا وقيل : الأول طواف الرجال بالنساء. والثاني طواف النساء بالليل عاريات وَالْإِثْمَ أي ما يوجب الإثم. وأصله الذم فأطلق على ما يوجبه من مطلق الذنب. وذكر للتعميم بعد التخصيص بناء على ما تقدم من معنى الفواحش. وقيل : إن الإثم هو الخمر كما نقل عن ابن عباس ، والحسن البصري.
وذكره أهل اللغة كالأصمعي وغيره وأنشدوا له قول الشاعر :
نهانا رسول الله أن نقرب الزنا وأن نشرب الإثم الذي يوجب الوزرا
وقول الآخر :
شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم يذهب بالعقول
وزعم ابن الأنباري أن العرب لا تسمي الخمر إثما في جاهلية ولا إسلام وأن الشعر موضوع. والمشهور أن ذلك

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 353
من باب المجاز لأن الخمر سبب الإثم. وقال أبو حيان وغيره : إن هذا التفسير غير صحيح هنا لأن السورة مكية ولم تحرم الخمر إلا بالمدينة بعد أحد وأيضا يحتاج حينئذ إلى دعوى أن الحصر إضافي فتدبر.
وَالْبَغْيَ الظلم والاستطالة على الناس. وأفرد بالذكر بناء على التعميم فيما قبله أو دخوله في الفواحش للمبالغة في الزجر عنه بِغَيْرِ الْحَقِّ متعلق بالبغي لأن البغي لا يكون إلا كذلك.
وجوز أن يكون حالا مؤكدة وقيل : جيء به ليخرج البغي على الغير في مقابلة بغيه فإنه يسمى بغيا في الجملة لكنه بحق وهو كما ترى وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً أي حجة وبرهانا. والمعنى على نفي الإنزال والسلطان معا على أبلغ وجه كقوله :
لا ترى الضب بها ينجحر وفيه من التهكم بالمشركين ما لا يخفى وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ بالإلحاد في صفاته والافتراء عليه كقولهم : وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها [الأعراف : 28] ولا يخفى ما في توجيه التحريم إلى قولهم عليه سبحانه ما لا يعلمون وقوعه دون ما يعلمون عدم وقوعه من السر الجليل وَلِكُلِّ أُمَّةٍ من الأمم المهلكة أَجَلٌ أي وقت معين مضروب لاستئصالهم - كما قال الحسن - : وروي ذلك عن ابن عباس ومقاتل ، وهذا كما قيل وعيد لأهل مكة بالعذاب النازل في أجل معلوم عند اللّه تعالى كما نزل بالأمم قبلهم ورجوع إلى الحث على الاتباع بعد الاستطراد الذي قاله البعض.
وقد روعي نكتة في تعقيبه تحريم الفواحش حيث ناسبه أيضا. وفسر بعضهم الأجل هنا بالمدة المعينة التي أمهلوها لنزول العذاب ، وفسره آخرون بوقت الموت وقالوا : التقدير ولكل أحد من أمة ، وعلى الأول لا حاجة إلى التقدير فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ الضمير - كما قال بعض المحققين - إما للأمم المدلول عليها بكل أمة وإما لكل أمة ، وعلى الأول فإظهار الأجل مضافا إلى ذلك الضمير لإفادة المعنى المقصود الذي هو بلوغ كل أمة أجلها الخاص بها ومجيئه إياها بواسطة اكتساب الأجل بالإضافة عموما يفيده معنى الجمعية كأنه قيل : إذا جاء آجالهم بأن يجيء كل واحد من تلك الأمم أجلها الخاص بها. وعلى الثاني وهو الظاهر فالإظهار في موقع الإضمار لزيادة التقرير. والإضافة لإفادة أكمل التمييز. وقرأ ابن سيرين «آجالهم» بصيغة الجمع ، واستظهرها ابن جني وجعل الأفراد لقصد الجنسية والجنس من قبيل المصدر وحسنه الإضافة إلى الجماعة والفاء قيل : فصيحة وسقطت في آية يونس لما سنذكره إن شاء الله تعالى هناك.
والمراد من مجيء الأجل قربه أو تمامه أي إذا حان وقرب أو انقطع وتم لا يَسْتَأْخِرُونَ عنه ساعَةً قطعة من الزمن في غاية القلة. وليس المراد بها الساعة في مصطلح المنجمين المنقسمة إلى ساعة مستوية وتسمى فلكية هي زمان مقدار خمس عشرة درجة أبدا ومعوجة وتسمى زمانية هي زمان مقدار نصف سدس النهار أو الليل أبدا. ويستعمل الأول أهل الحساب غالبا. والثانية الفقهاء وأهل الطلاسم ونحوهم. وجملة الليل والنهار عندهم أربع وعشرون ساعة أبدا. سواء كانت الساعة مستوية أو معوجة إلا أن كلا من الليل والنهار لا يزيد على اثنتي عشرة ساعة معوجة أبدا.
ولهذا تطول وتقصر وقد تساوي الساعة المستوية وذلك عند استواء الليل والنهار. والمراد لا يتأخرون أصلا. وصيغة الاستغفار للإشعار بعجزهم وحرمانهم عن ذلك مع طلبهم له وَلا يَسْتَقْدِمُونَ أي ولا يتقدمون عليه.
والظاهر أنه عطف على «لا يستأخرون» كما أعربه الحوفي وغيره. واعترض بأنه لا يتصور الاستقدام عند مجيئه فلا فائدة في نفيه بل هو من باب الأخبار بالضروري كقولك : إذا قمت فيما يأتي لم يتقدم قيامك فما مضى ،

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 354
وقيل : إنه معطوف على الجملة الشرطية لا الجزائية فلا يتقيد بالشرط. فمعنى الآية لكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون عنه ولكل أمة أجل لا يستقدمون عليه. وتعقبه مولانا العلامة السالكوتي بأنه لا يخفى أن فائدة تقييد قوله تعالى : «لا يستأخرون» فقط بالشرط غير ظاهرة وإن صح بل المتبادر إلى الفهم السليم ما تقدم. وفيه تنبيه على أن الأجل كما يمتنع التقدم عليه بأقصر مدة هي الساعة كذلك يمتنع التأخر عنه وإن كان ممكنا عقلا فإن خلاف ما قدره الله تعالى وعلمه محال والجمع بين الأمرين فيما ذكر كالجمع بين من سوّف التوبة إلى حضور الموت ومن مات على الكفر في نفي التوبة عنه في قوله تعالى : وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ [النساء : 18] الآية. ولعل هذا مراد من قال : إنه عطف على الجزاء بناء على أن يكون معنى قوله تعالى : لا يَسْتَأْخِرُونَ وَلا يَسْتَقْدِمُونَ لا يستطيعون تغييره على نمط قوله تعالى : وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ [الأنعام : 59] وقولهم : كلمته فما رد على سوداء ولا بيضاء فلا يرد ما قيل ، أنت خبير بأن هذا المعنى حاصل بذكر الجزاء بدون ذكر وَلا يَسْتَقْدِمُونَ والحق العطف على الجملة الشرطية ، وفي شرح المفتاح القيد إذا جعل جزءا من المعطوف عليه لم يشاركه المعطوف فيه ومثل بالآية ، وعليه لا محذور في العطف على لا يَسْتَأْخِرُونَ لعدم المشاركة في القيد وأنت تعلم أنهم ذكروا في هذا الباب أنه إذا عطف شيء على شيء وسبقه قيد يشارك المعطوف المعطوف عليه في ذلك القيد لا محالة ، وأما إذا عطف على ما لحقه قيد فالشركة محتملة فالعطف على المقيد له اعتباران : الأول أن يكون القيد سابقا في الاعتبار والعطف لاحقا فيه.
والثاني أن يكون العطف سابقا والقيد لاحقا ، فعلى الأول لا يلزم اشتراك المعطوفين في القيد المذكور إذ القيد جزء من أجزاء المعطوف عليه ، وعلى الثاني يجب الاشتراك إذ هو حكم من أحكام الأول يجب فيه الاشتراك وبعضهم بني العطف هنا على أن المراد بالمجيء الدنو بحيث يمكن التقدم في الجملة كمجيء اليوم الذي ضرب لهلاكهم ساعة منه وليس بذاك ، وتقديم بيان انتفاء الاستئخار - كما قيل - لما أن المقصود بالذات بيان عدم خلاصهم من العذاب ، وأما في قوله تعالى : ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ [الحجر : 5 ، المؤمنون : 43] من سبق السبق في الذكر فلما أن المراد هناك بيان سر تأخير إهلاكهم مع استحقاقهم له حسبما ينبىء عنه قوله سبحانه : ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر : 3] فالأهم هناك بيان انتفاء السبق يا بَنِي آدَمَ خطاب لكافة الناس. ولا يخفى ما فيه من الاهتمام بشأن ما في حيزه. وقد أخرج ابن جرير عن أبي يسار السلمي قال : إن الله تبارك وتعالى جعل آدم وذريته في كفه فقال : يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ - حتى بلغ. فاتقون ثم بثهم. والذي ذهب إليه بعض المحققين أن هذا حكاية لما وقع مع كل قوم. وقيل : المراد ببني آدم أمة نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم وهو خلاف الظاهر. ويبعده جمع الرسل في قوله سبحانه : إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ أي من جنسكم. والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لرسل. و«أما» هي إن الشرطية ضمت إليها - ما - لتأكيد معنى الشرط فهي مزيدة للتأكيد فقط ، وقيل : إنها تفيد العموم أيضا فمعنى إما تفعلن مثلا إن اتفق منك فعل بوجه من الوجوه.
ولزمت الفعل بعد هذا الضم نون التأكيد فلا تحذف على ما ذهب إليه المبرد والزجاج ومن تبعهما إلا ضرورة.
ومن ذلك قوله :
فأما تريني ولي لمة فإن الحوادث أودى بها
ورد بأن كثرة سماع الحذف تبعد القول بالضرورة. ووجه هذا اللزوم عند بعض حذار انحطاط رتبة فعل الشرط عن حرفه ، وقيل : إن نون التوكيد لا تدخل الفعل المستقبل المحض إلا بعد أن يدخل على أول الفعل ما يدل على التأكيد كلام القسم أو ما المزيدة ليكون ذلك توطئة لدخول التأكيد. وعليه فأمر الاستتباع بعكس ما تقدم. وفي الإتيان

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 355
بأن تنبيه على أن إرسال الرسل أمر جائز لا واجب وهو الذي ذهب إليه أهل السنة وقالت المعتزلة : إنه واجب على الله تعالى لأنه سبحانه بزعمهم يجب عليه فعل الأصلح.
وقوله سبحانه : يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي صفة أخرى لرسل. وجوز أن يكون في موضع الحال منه أو من الضمير في الظرف أي يعرضون عليكم أحكامي وشرائعي ويخبرونكم بها ويبينونها لكم وقوله تعالى : فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ جواب الشرط. ومن إما شرطية أو موصولة ومنكم مقدر في نظم الكلام ليرتبط الجواب بالشرط. والمراد فمن اتقى منكم التكذيب وأصلح عمله فلا خوف إلخ. وتوحيد الضمير وجمعه لمراعاة لفظ من ومعناه وَالَّذِينَ كَذَّبُوا منكم بِآياتِنا التي تقص وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها ولم يقبلوها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ لتكذيبهم واستكبارهم.
وهذه الجملة عطف على الجملة السابقة. وإيراد الاتقاء فيها للإيذان بأن مدار الفلاح ليس مجرد عدم التكذيب بل هو الاتقاء والاجتناب عنه. وإدخال الفاء في الوعد دون الوعيد للمبالغة في الأول والمسامحة في الثاني فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي تعمد الكذب عليه سبحانه ونسب إليه ما لم يقل أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أو كذب ما قاله جل شأنه. والاستفهام للإنكار وقد مر تحقيق ذلك أُولئِكَ إشارة إلى الموصول. والجمع باعتبار المعنى كما أن الإفراد في الضمير المستكن في الفعلين باعتبار اللفظ. وما فيه من معنى البعد للإيذان بتماديهم في سوء الحال أي أولئك الموصوفون بما ذكر من الافتراء والتكذيب يَنالُهُمْ أي يصيبهم نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ أي مما كتب لهم وقدر من الأرزاق والآجال مع ظلمهم وافترائهم لا يحرمون ما قدر لهم من ذلك إلى انقضاء أجلهم فالكتاب بمعنى المكتوب. وتخصيصه بما ذكر مروي عن جماعة من المفسرين. وعن ابن عباس أن المراد ما قدر لهم من خير أو شر ومثله عن مجاهد.
وعن أبي صالح ما قدر من العذاب ، وعن الحسن مثله. وبعضهم فسر الكتاب بالمكتوب فيه وهو اللوح المحفوظ ومن لابتداء الغاية. وجوز فيها التبيين والتبعيض والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من «نصيبهم» أي كائنا من الكتاب حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا أي ملك الموت وأعوانه يَتَوَفَّوْنَهُمْ أي حال كونهم متوفين لأزواجهم وحتى غاية نيلهم. وهي حرف ابتداء غير جارة بل داخلة على الجمل كما في قوله :
وحتى الجياد ما يقدن بأرسان وقيل : إنها جارة. وقيل : لا دلالة لها على الغاية وليس بشيء. وعن الحسن أن المراد حتى إذا جاءتهم الملائكة يحشرونهم إلى النار يوم القيامة وهو خلاف الظاهر. وكان الذي دعاه إلى ذلك قوله تعالى : قالُوا أي الرسل لهم أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي أين الآلهة التي كنتم تعبدونها في الدنيا وتستعينون بها في المهمات قالُوا ضَلُّوا أي غابوا عَنَّا لا ندري أين مكانهم. فإن هذا السؤال والجواب وكذا ما يترتب عليهما مما سيأتي إنما يكون يوم القيامة لا محالة ولعله على الظاهر أريد بوقت مجيء الرسل وحال التوفي الزمان الممتد من ابتداء المجيء والتوفي إلى نهاية يوم الجزاء بناء على تحقيق المجيء والتوفي في ذلك الزمان بقاء وإن كان حدوثهما في أوله فقط أو قصد بيان غاية سرعة وقوع البعث والجزاء كأنهما حاصلان عند ابتداء التوفي وما وصلت بأين في المصحف العثماني وحقها الفصل لأنها موصولة ولو كانت صلاة لاتصلت.
وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أي اعترفوا على أنفسهم. وليس في النظم ما يدل على أن اعترافهم كان بلفظ الشهادة فالشهادة مجاز عن الاعتراف أَنَّهُمْ كانُوا في الدنيا كافِرِينَ عابدين لما لا يستحق العبادة أصلا

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 356
حيث اتضح لهم حاله ، والجملة يحتمل أن تكون استئناف إخبار من الله تعالى باعترافهم على أنفسهم بالكفر ويحتمل أن تكون عطفا على قالُوا وعطفها على المقول لا يخفى ما فيه والاستفهام - على ما ذهب إليه غير واحد - غير حقيقي بل للتوبيخ والتقريع وعليه فلا جواب. وما ذكر إنما هو للتحسر والاعتراف بما هم عليه من الخيبة والخسران ولا تعارض بين ما في الآية وقوله تعالى : وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام : 23] لأن الطوائف مختلفة أو المواقف عديدة أو الأحوال شتى قالَ أي الله عز وجل لأولئك الكاذبين المكذبين يوم القيامة بالذات أو بواسطة الملك :
ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ أي مع أمم ، والجار والمجرور في موضع الحال أي مصاحبين لأمم قَدْ خَلَتْ أي مضت مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يعني كفار الأمم من النوعين ، وقدم الجن لمزيد شرّهم فِي النَّارِ متعلق بادخلوا ، وجوز أن يتعلق فِي أُمَمٍ به ويحمل فِي النَّارِ على البدلية أو على أنه صفة أُمَمٍ وجوز بعض المفسرين أن يكون هذا إخبارا عن جعله سبحانه إياهم في جملة أولئك من غير أن يكون هناك قول مطلقا أي إنه تعالى جعلهم كذلك وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ من الأمم تابعة أو متبوعة في النار لَعَنَتْ أُخْتَها أي دعت على نظيرها في الدين فتلعن التابعة المتبوعة التي أضلتها وتلعن المتبوعة التابعة التي زادت في ضلالها ، وعن أبي مسلم يلعن الاتباع القادة يقولون : أنتم أوردتمونا هذه الموارد فلعنكم الله تعالى.
حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً غاية لما قبله أي يدخلون فوجا فوجا لاعنا بعضهم بعضا إلى انتهاء تلاحقهم باجتماعهم في النار. وأصل ادَّارَكُوا تداركوا فأدغمت التاء في الدال بعد قلبها دالا وتسكينها ثم اجتلبت همزة الوصل.
وعن أبي عمرو أنه قرأ «اداركوا» بقطع ألف الوصل وهو - كما قيل : مبني على أنه وقف مثل وقفة المستذكر ثم ابتدأ فقطع وإلا فلا مساغ لذلك في كلام الله تعالى الجليل ، وقرأ «إذا أدركوا» بألف واحدة ساكنة ودال بعدها مشددة وفيه جمع بين ساكنين وجاز لما كان الثاني مدغما ولا فرق بين المتصل والمنفصل قالَتْ أُخْراهُمْ منزلة وهم الاتباع والسفلة لِأُولاهُمْ منزلة وهم القادة والرؤساء أو قالت أخراهم دخولا لأولاهم كذلك ، وتقدم أحد الفريقين على الآخر في الدخول مروي عن مقاتل ، واللام في لِأُولاهُمْ للتعليل لا للتبليغ كما في قولك : قلت لزيد افعل كذا لأن خطابهم مع الله تعالى لا معهم كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عنهم : رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا أي دعونا إلى الضلال وأمرونا به حيث سنوه فاقتدينا بهم فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً أي مضاعفا كما روي عن مجاهد مِنَ النَّارِ والضعف - على ما قال أبو عبيد ونص عليه الشافعي في الوصايا - مثل الشيء مرة واحدة ، وعن الأزهري أن هذا معنى عرفي والضعف في كلام العرب وإليه يرد كلام الله تعالى المثل إلى ما زاد ولا يقتصر على مثلين بل هو غير محصور واختاره هنا غير واحد.
وقال الراغب : الضعف بالفتح مصدر وبالكسر اسم كالثني والثني وضعف الشيء هو الذي يثنيه ومتى أضيف إلى عدد اقتضى ذلك العدد مثله نحو أن يقال ضعف عشرة وضعف مائة فذلك عشرون ومائتان بلا خلاف وعلى ذلك قول الشاعر :
جزيتك ضعف الود لما اشتكيته وما إن جزاك الضعف من أحد قبلي
وإذا قيل : أعطه ضعفي واحد اقتضى ذلك الواحد ومثليه وذلك ثلاثة لأن معناه الواحد واللذان يزاوجانه ، هذا إذا كان الضعف مضافا فإذا لم يكن مضافا فقلت : الضعفين فقد قيل : يجري مجرى الزوجين في أن كل واحد منهما يزاوج الآخر فيقتضي ذلك اثنين لأن كل واحد منهما يضاعف الآخر فلا يخرجان منهما اه.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 357
ونصب ضِعْفاً على أنه صفة لعذاب ، وجوز أن يكون بدلا منه ومِنَ النَّارِ صفة العذاب أو الضعف قالَ سبحانه وتعالى : لِكُلٍّ منكم ومنهم عذاب ضِعْفٌ من النار ، أما القادة فلضلالهم وإضلالهم وذلك سبب الدعاء السابق ، وأما الاتباع فلذلك أيضا عند بعض ، وكونهم ضالين ظاهر وأما كونهم مضلين فلأن اتخاذهم إياهم رؤساء يصدرون عن أمرهم يزيد في طغيانهم كما قال سبحانه وتعالى : وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً [الجن : 6] ، واعترض بعدم اطراده فإن اتباع كثير من الاتباع غير معلوم للقادة إلا أن يقال : إنه مخصوص ببعضهم وقيل : الأحسن أن يقال : إن ضعف الاتباع لإعراضهم عن الحق الواضح وتولي الرؤساء لينالوا عرض الدنيا اتباعا للهوى ، ويدل عليه قوله تعالى : وقالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ [سبأ : 32] وفيه ما فيه. والأولى أن يقال : إن ذلك في الاتباع لكفرهم وتقليدهم ولا شك أن التقليد في الهدى ضلال يستحق فاعله العذاب ، ونقل الراغب عن بعضهم في الآية أن المعنى لكل منكم ومنهم ضعفت ما يرى الآخر فإن من العذاب ظاهرا وباطنا وكل يدرك من الآخر الظاهر دون الباطن فيقدر أن ليس له العذاب الباطن ، واختار أن المعنى لكن منهم ضعف ما لكم من العذاب والظاهر ما عولنا عليه.
وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ ما لكم أو ما لكل فريق فلذا تكلمتم بما يشعر باعتقادكم استحقاق الرؤساء الضعف دونكم فالخطاب على التقديرين للاتباع كما هو الظاهر.
وقيل : إنه على الأول للاتباع ، وعلى الثاني للفريقين بتغليب المخاطبين الذين هم الاتباع على الغيب الذين هم القادة وقرأ عاصم «لا يعلمون» بالياء التحتية على انفصال هذا الكلام عما قبله بأن يكون تذييلا لم يقصد به إدراجه في الجواب ، ومن ادعى أن الخطاب للفريقين على سبيل التغليب قال : إن هذه القراءة على انفصال القادة من الاتباع إذ عليها لا يمكن القول بالتغليب إذ لا يغلب الغائب على المخاطب.
وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ حين سمعوا جواب الله تعالى لهم ، واللام هنا يجوز أن تكون للتبليغ لأن خطابهم لهم بدليل قوله سبحانه وتعالى : فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ أي إنا وإياكم متساوون في استحقاق العذاب وسببه ، وهذا مرتب على كلام الله تعالى على وجه التسبب لأن إخباره سبحانه بقوله جل وعلا : لِكُلٍّ ضِعْفٌ سبب لعلمهم بالمساواة فالفاء جوابية لشرط مقدر أي إذا كان كذلك فقد ثبت أن لا فضل لكم علينا. وقيل : إنها عاطفة على مقدر أي دعوتم الله تعالى فسوى بيننا وبينكم «فما كان» إلخ وليس بشيء.
وأيا ما كان فقد عنوا بالفضل تخفيف العذاب ووحدة السبب ، وأما ما قيل من أن المعنى ما كان لكم علينا من فضل في الرأي والعقل وقد بلغكم ما نزل بنا من العذاب فلم اتبعتمونا فكما ترى. وقيل : المعنى ما كان لكم علينا في الدنيا فضل بسبب اتباعكم إيانا بل اتباعكم وعدم اتباعكم سواء عندنا فاتباعكم إيانا كان باختياركم دون حملنا لكم عليه ، وعليه فليس مرتبا على كلام الله تعالى وجوابه كما في الوجه الأولى فَذُوقُوا الْعَذابَ والمضاعف بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي بسبب كسبكم أو الذي تكسبونه. والظاهر أن هذا من كلام القادة قالوه لهم على سبيل التشفي.
وترتبه على ما قبله على القول الأخير في معنى الآية في غاية الظهور. وجوز أن يكون من كلام الله تعالى للفريقين على سبيل التوبيخ والوقف على فَضْلٍ : وقيل : هو من مقول الفريقين أي قالت كل فرقة للأخرى ذوقوا إلخ وهو خلاف الظاهر جدا.
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على أصول الدين وأحكام الشرع كالأدلة الدالة على وجود الصانع ووحدته والدالة على النبوة والمعاد ونحو ذلك وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أي بالغوا في احتقارها وعدم الاعتناء بها ولم يلتفتوا إليها

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 358
وضموا أعينهم عنها ونبذوها وراء ظهورهم ولم يكتسوا بحلل مقتضاها ولم يعملوا به لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أي لأرواحهم إذا ماتوا أَبْوابُ السَّماءِ كما تفتح لأرواح المؤمنين.
أخرج أحمد ، والنسائي ، والحاكم وصححه ، والبيهقي ، وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «الميت تحضره الملائكة فإذا كان الرجل صالحا قال : اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب راض غير غضبان فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال : من هذا؟ فيقولون : فلان بن فلان فيقال : مرحبا بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب ادخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب راض غير غضبان فلا تزال يقال لها ذلك حتى تنتهي إلى السماء السابعة وإذا كان الرجل سوأ قالت اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال : من هذا؟ فيقولون : فلان بن فلان. فيقال : لا مرحبا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث ارجعي ذميمة لا تفتح لك أبواب السماء فترسل من السماء ثم تصير إلى القبر»
والأخبار في ذلك كثيرة وقيل : لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم أبواب السماء.
وروي ذلك عن الحسن ، ومجاهد ، وقيل : لا تفتح لأرواحهم ولا لأعمالهم. وروي ذلك عن ابن جريج. وقيل :
المراد لا يصعد لهم عمل ولا تنزل عليهم البركة. وكون السماء لها أبواب تفتح للأعمال الصالحة والأرواح الطيبة قد تفتحت له أبواب القبول للنصوص الواردة فيه وهو أمر ممكن أخبر به الصادق فلا حاجة إلى تأويله. وكون السماء كروية لا تقبل الخرق والالتئام مما لا يتم له دليل عندنا. وظاهر كلام أهل الهيئة الجديد جواز الخرق والالتئام على الأفلاك. وزعم بعضهم أن القول بالأبواب لا ينافي القول بامتناع الخرق والالتئام وفيه نظر كما لا يخفى. والتاء في تُفَتَّحُ لتأنيث الأبواب والتشديد لكثرتها لا لكثرة الفعل لعدم مناسبة المقام. وقرأ أبو عمرو بالتخفيف ، وحمزة ، والكسائي به وبالياء التحتية ، وروي ذلك عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم لأن التأنيث غير حقيقي والفعل مقدم مع وجود الفاصل.
وقرىء على البناء للفاعل ونصب الأبواب بالتاء الفوقية على أن الفعل مسند إلى الآيات مجازا لأنها سبب لذلك. وبالياء على أنه مسند إلى الله تعالى : وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يوم القيامة حَتَّى يَلِجَ أي يدخل الْجَمَلُ هو البعير إذا بزل. وجمعه جمال وأجمال وجمالة ويجمع الأخير على جمالات. وعن ابن مسعود أنه سئل عن الجمل فقال : هو زوج الناقة.
وعن الحسن أنه قال : ابن الناقة الذي يقوم في المربد على أربع قوائم. وفي ذلك استجهال للسائل وإشارة إلى أن طلب معنى آخر تكلف. والعرب تضرب به المثل في عظم الخلقة فكأنه قيل : حتى يدخل ما هو مثل في عظم الجرم فِي سَمِّ الْخِياطِ أي ثقبة الإبرة وهو مثل عندهم أيضا في ضيق المسلك وذلك مما لا يكون فكذا ما توقف عليه بل لا تتعلق به القدرة لعدم إمكانه ما دام العظيم على عظمه والضيق على ضيقه. وهي إنما تتعلق بالممكنات الصرفة. والممكن الولوج بتصغير العظيم أو توسيع الضيق. وقد كثر في كلامهم مثل هذه الغاية فيقولون : لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب وحتى يبيض القار وحتى يؤوب القارظان ومرادهم لا أفعل كذا أبدا. وقرأ ابن عباس وابن جبير ، ومجاهد ، وعكرمة ، والشعبي الْجَمَلُ بضم الجيم وفتح الميم المشددة كالقمل.
وقرأ عبد الكريم ، وحنظلة ، وابن عباس ، وابن جبير في رواية أخرى الْجَمَلُ بالضم والفتح مع التخفيف كنغر.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 359
وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قرأ الْجَمَلُ بضم الجيم وسكون الميم كالقفل والْجَمَلُ بضمتين كالنصب ، وقرأ أبو السمال «الجمل» بفتح الجيم وسكون الميم كالحبل ، وفسر في جميع ذلك بالحبل الغليظ من القنب. وقيل : هو حبل السفينة. وقرىء «في سم» بضم السين وكسرها وهما لغتان فيه والفتح أشهر ، ومعناه الثقب الصغير مطلقا. وقيل : أصله ما كان في عضو كأنف وأذن ، وقرأ عبد الله «في سم الخياط» بكسر الميم وفتحها وهو والخياط ما يخاط به كالحزام والمحزم والقناع والمقنع وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء الفظيع نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ أي جنسهم وأولئك داخلون فيه دخولا أوليا ، وأصل الجرم قطع الثمرة عن الشجرة ، ويقال :
أجرم صار ذا جرم كأتمر وأثمر ، ويستعمل في كلامهم لاكتساب المكروه ، ولا يكاد يقال للكسب المحمود.
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ أي فراش من تحتهم ، وتنوينه للتفخيم وهو فاعل الظرف أو مبتدأ ، والجملة إما مستأنفة أو حالية ، ومن تجريدية ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من مِهادٌ لتقدمه وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ أي أغطية جمع غاشية ، وعن ابن عباس ، ومحمد بن كعب القرظي أنها اللحف. والآية - على ما قيل - مثل قوله تعالى لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر : 16] والمراد أن النار محيطة به من جميع الجوانب وأخرج ابن مردويه عن عائشة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم تلا هذه الآية ثم قال : «هي طبقات من فوقه وطبقات من تحته لا يدري ما فوقه أكثر أو ما تحته غير أنه ترفعه الطبقات السفلى وتضعه الطبقات العليا ويضيق فيما بينهما حتى يكون بمنزلة الزج في القدح»
وتنوين غَواشٍ عوض عن الحرف المحذوف أو حركته ، والكسرة ليست للإعراب وهو غير منصرف لأنه على صيغة منتهى الجموع ، وبعض العرب يعربه بالحركات الظاهرة على ما قبل الياء لجعلها محذوفة نسيا منسيا ، ولذا قرىء «غواش» بالرفع كما في قوله تعالى : وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ [الرحمن : 24] في قراءة عبد الله.
وَكَذلِكَ أي ومثل ذلك الجزاء الشديد نَجْزِي الظَّالِمِينَ عبر عنهم بالمجرمين تارة وبالظالمين أخرى للتنبيه على أنهم بتكذيبهم بالآيات واستكبارهم عنها جمعوا الصفتين. وذكر الجرم مع الحرمان من الجنة والظلم مع التعذيب بالنار تنبيها على أنه أعظم الإجرام. ولا يخفى على المتأمل في لطائف القرآن العظيم ما في إعداد المهاد والغواشي لهؤلاء المستكبرين عن الآيات ومنعهم من العروج إلى الملكوت وتقييد عدم دخولهم الجنة بدخول البعير بخرق الإبرة من اللطافة فليتأمل وَالَّذِينَ آمَنُوا أي بآياتنا ولم يكذبوا بها وَعَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ ولم يستكبروا عنها لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أي ما تقدر عليه بسهولة دون ما تضيق به ذرعا ، والجملة اعتراض وسط بين المبتدأ وهو الموصول والخبر الذي هو جملة أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ للترغيب في اكتساب ما يؤدي إلى النعيم المقيم ببيان سهولة مناله وتيسر تحصيله.
وقيل : المعنى لا نكلف نفسا إلا ما يثمر لها السعة أي جنة عرضها السماوات والأرض وهو خلاف الظاهر وإن كانت الآية عليه لا تخلو عن ترغيب أيضا. وجوز أن يكون اسم الإشارة بدلا من الموصول وما بعده خبر المبتدأ ، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الفضل والشرف.
وجوز أيضا أن تكون جملة لا نُكَلِّفُ إلخ خبر المبتدأ بتقدير العائد أي منهم وقوله سبحانه : هُمْ فِيها خالِدُونَ حال من أَصْحابُ الْجَنَّةِ ، وجوز كونه حالا من الْجَنَّةِ لاشتماله على ضميرها أيضا. والعامل فيها معنى الإضافة أو اللام المقدرة ، وقيل. خبر لأولئك على رأي من جوزه. وفِيها متعلق بخالدون قدم عليه رعاية للفاصلة.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 360
وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ أي قلعنا ما في قلوبهم من حقد مخفي فيها وعداوة كانت بمقتضى الطبيعة لأمور جرت بينهم في الدنيا أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن السدي قال : إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة فبلغوها وجدوا عند بابها شجرة أصل ساقها عينان فيشربون من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غل فهو الشراب الطهور ويغتسلون من الأخرى فتجري عليهم نضرة النعيم فلن يشعثوا ولن يشحبوا بعدها أبدا. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : بلغني أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «يحبس أهل الجنة بعد ما يجوزون الصراط حتى يؤخذ لبعضهم من بعض ظلاماتهم في الدنيا فيدخلون الجنة وليس في قلوب بعض على بعض غل»
وقيل : المراد طهرنا قلوبهم وحفظناها من التحاسد على درجات الجنة ومراتب القرب بحيث لا يحسد صاحب الدرجة النازلة صاحب الدرجة الرفيعة. وهذا في مقابلة ما ذكره سبحانه من لعن أهل النار بعضهم بعضا. وأيا ما كان فالمراد ننزع لأنه في الآخرة إلا أن صيغة الماضي للإيذان بتحققه.
وقيل : إن هذا النزع إنما كان في الدنيا ، والمراد عدم اتصافهم بذلك من أول الأمر إلا أنه عبر عن عدم الاتصاف به مع وجود ما يقتضيه حسب البشرية أحيانا بالنزع مجازا ، ولعل هذا بالنظر إلى كمل المؤمنين كأصحاب رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم فإنهم رحماء بينهم يحب بعضهم بعضا كمحبته لنفسه أو المراد إزالته بتوفيق الله تعالى قبل الموت بعد أن كان بمقتضى الطباع البشرية.
ويحتمل أن يخرج على الوجهين ما
أخرجه غير واحد عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في هذه الآية إني لأرجو أن أكون أنا ،
وعثمان ، وطلحة ، والزبير منهم ، ويقال على الثاني فيما وقع مما ينبىء بظاهره عن الغل. إنه لم يكن إلا عن اجتهاد إعلاء لكلمة الله تعالى ولا يخفى بعد هذا المعنى وإن ساعدة ظاهر الصيغة ومِنْ غِلٍّ على سائر الاحتمالات حال من ما وقوله سبحانه : تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ حال أيضا إما من الضمير في صُدُورِهِمْ لأن المضاف جزء من المضاف إليه والعامل معنى الإضافة أو العامل في المضاف ، وإما من ضمير نَزَعْنا على ما قيل والعامل الفعل. واختار بعضهم أن الجملة مستأنفة للإخبار عن صفة أحوالهم. والمراد تجري من تحت غرفها مياه الأنهار زيادة في لذتهم وسرورهم وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا الفوز العظيم والنعيم المقيم. والمراد الهداية لما أدى إليه من الأعمال القلبية والقالبية مجازا وذلك بالتوفيق لها وصرف الموانع عن الاتصاف بها.
وقيل : المراد من الهداية لما هم فيه من النعيم مجاوزة الصراط إلى أن وصلوا إليه. ومن الناس من جعل الإشارة إلى نزع الغل من الصدور ولا أراه شيئا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ أي لهذا أو لمطلب من المطالب التي هذا من جملتها لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ وفقنا له ، واللام لتأكيد النفي وهي المسماة بلام الجحود وجواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه ، وليس إياه لامتناع تقدم الجواب على الصحيح ومفعول لِنَهْتَدِيَ وهَدانا الثاني محذوف لظهور المراد أو لإرادة التعميم كما أشير إليه ، والجملة حالية أو استئنافية ، وفي مصاحف أهل الشام ما كُنَّا بدون واو وهي قراءة ابن عامر فالجملة كالتفسير للأولى ، وهذا القول من أهل الجنة لإظهار السرور بما نالوا والتلذذ بالتكلم به لا للتقرب والتعبد فإن الدار ليست لذلك وهذا كما ترى من رزق خيرا في الدنيا يتكلم بنحو هذا ولا يتمالك أن لا يقوله للفرح لا للقرابة ، وقوله سبحانه : لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ جملة قسمية لم يقصد بها التقرب أيضا وهي بيان لصدق وعد الرسل عليهم السلام إياهم بالجنة على ما نص عليه بعض الفضلاء ، وقيل : تعليل لهدايتهم.
والباء إما للتعدية فهي متعلقة بجاءت أو للملابسة فهي متعلقة بمقدر وقع حالا من الرسل ، ولا يخفى ما في هذه الآية من الرد الواضح على القدرية الزاعمين أن كل مهتد خلق لنفسه الهدى ولم يخلق الله تعالى له ذلك ، ودونك

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 361
فأعرض قول المعتزلة في الدنيا المهتدي من اهتدى بنفسه على قول الله تعالى حكاية عن قول الموحدين في مقعد صدق وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ واختر لنفسك أي الفريقين تقتدي به ولا أراك أيها العاقل تعدل بما نوه الله تعالى به قول ضال يتذبذب مع هواه وتعصبه. ولما رأى الزمخشري هذه الآية كافحة في وجوه قومه فسر الهدى باللطف الذي بسببه يخلق العبد الاهتداء لنفسه ، وهو لعمري كلام من حرم اللطف نسأل الله تعالى العفو والعافية وَنُودُوا أي نادتهم الملائكة ، وجوز بعضهم احتمال أن المنادي هو الله ، والآثار تؤيد الأول.
أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أي أي تلكم على أن أَنْ مفسرة لما في النداء من معنى القول ، ويجوز أن تكون مخففة من أن وحرف الجر مقدر واسمها ضمير شأن محذوف أي بأنها أو بأنه تلكم ، وأوجب البعض الثاني بناء على أنه يجب أن يؤنث ضمير الشأن إذا كان المسند إليه في الجملة المفسرة مؤنثا ، والصحيح عدم الوجوب على ما صرح به ابن الحاجب وابن مالك ، ومعنى البعد في اسم الإشارة إما لرفع منزلتها وبعد مرتبتها ، وإما لأنهم نودوا عند رؤيتهم إياها من مكان بعيد ، وإما للإشعار بأنها تلك الجنة التي وعدوها في الدنيا وإليه يشير كلام الزجاج.
والظاهر أن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ مبتدأ وخبر وقوله سبحانه : أُورِثْتُمُوها حال من الجنة والعامل فيها معنى الإشارة ويجوز أن تكون الْجَنَّةُ نعتا لتلكم أو بدلا وأُورِثْتُمُوها الخبر ، ولا يجوز أن يكون حالا من المبتدأ ولا من - كم - كما قاله أبو البقاء وهو ظاهر والتزم بعضهم في توجيه البعد أن تِلْكُمُ خبر مبتدأ محذوف أي هذه تلكم الجنة الموعودة لكم قبل أو مبتدأ حذف خبره أي تلك الجنة التي أخبرتم عنها أو وعدتم بها في الدنيا هي هذه ولا حاجة إليه.
والمنادى له أولا وبالذات كونها موروثة لهم وما قبله توطئة له ، والميراث مجاز عن الإعطاء أي أعطيتموها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا من الأعمال الصالحة ، والباء للسببية وتجوز بذلك عن الإعطاء إشارة إلى أن السبب فيه ليس موجبا وإن كان سببا بحسب الظاهر كما أن الإرث ملك بدون كسب وإن كان النسب مثلا سببا له ، والباء
في قوله صلّى اللّه عليه وسلّم على ما في بعض الكتب : «لن يدخل أحدكم الجنة بعمله»
وكذا
في قوله عليه الصلاة والسلام على ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وجابر «لن ينجو أحد منكم بعمله»
للسبب التام فلا تعارض ، وجوز أن تكون الباء فيما نحن فيه للعوض أي بمقابلة أعمالكم ، وقيل : تلك الإشارة إلى منازل في الجنة هي لأهل النار لو كانوا أطاعوا جعلها الله تعالى إرثا للمؤمنين ،
فقد أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن السدي قال : ما من مؤمن ولا كافر إلا وله في الجنة والنار منزل مبين فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ودخلوا منازلهم رفعت الجنة لأهل النار فنظروا إلى منازلهم فيها فقيل هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله تعالى ثم يقال : يا أهل الجنة رثوهم بما كنتم تعملون فيقتسم أهل الجنة منازلهم ،
وأنت تعلم أن القول بهذا الإرث الغريب لا يدفع الحاجة إلى المجاز.
وزعم المعتزلة أن دخول الجنة بسبب الأعمال لا بالتفضل لهذه الآية ، ولا يخفى أنه لا محيص لمؤمن عن فضل الله تعالى لأن اقتضاء الأعمال لذاتها دخول الجنة أو إدخال الله تعالى ذويها فيها مما لا يكاد يعقل ، وقصارى ما يعقل أن الله تعالى تفضل فرتب عليها دخول الجنة فلولا فضله لم يكن ذلك ، وأنا لا أرى أكثر جرأة من المعتزلة في هذا الباب ككثير من الأبواب فإن مآل كلامهم فيه أن الجنة ونعيمها الذي لا يتناهى إقطاعهم بحق مستحق على الله تعالى الذي لا ينتفع بشيء ولا يتضرر بشيء لا تفضل له عليهم في ذلك بل هو بمثابة دين أدي إلى صاحبه سبحانه هذا بهتان عظيم وتكذيب لغير ما خبر صحيح.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 362
وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ بعد الاستقرار فيها كما هو الظاهر ، وصيغة الماضي لتحقق الوقوع ، والمعنى ينادي ولا بد كل فريق من أهل الجنة أَصْحابَ النَّارِ أي من كان يعرفه في الدنيا من أهلها تبجحا بحالهم وشماتة بأعدائهم وتحسيرا لهم لا لمجرد الإخبار والاستخبار أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا على ألسنة رسله عليهم السلام من النعيم والكرامة حَقًّا حيث نلنا ذلك فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ أي ما وعدكم من الخزي والهوان والعذاب حَقًّا وحذف المفعول تخفيفا وإيجازا واستغناء بالأول ، وقيل : لأن ما ساءهم من الوعود لم يكن بأسره مخصوصا بهم وعده كالبعث ، والحساب ونعيم أهل الجنة فإنهم قد وجدوا جميع ذلك حقا وإن لم يكن وعده مخصوصا بهم.
وتعقب بأنه لا خفاء في كون أصحاب الجنة مصدقين بالكل والكل مما يسرهم فكان ينبغي أن يطلق وعدهم أيضا ، فالوجه الحمل على ما تقدم ، ونصب حَقًّا في الموضعين على الحالية ، وجوز أن يكون على أنه مفعول ثان ويكون وجد بمعنى علم ، والتعبير بالوعد قيل : للمشاكلة ، وقيل : للتهكم. ومن الناس من جوز أن يكون مفعول وعد المحذوف - نا - وحينئذ فلا مشاكلة ولا تهكم. وأيا ما كان لا يستبعد هذا النداء هناك وأن بعد ما بين الجنة والنار من المسافة كما لا يخفى.
قالُوا في جواب أصحاب الجنة نَعَمْ قد وجدنا ذلك حقا. قرأ الكسائي «نعم» بكسر العين وهي لغة فيه نسبت إلى كنانة وهذيل ، ولا عبرة بمن أنكره مع القراءة به وإثبات أهل اللغة له بالنقل الصحيح.
نعم ما روي من أن عمر رضي الله تعالى عنه سأل قوما عن شيء فقالوا : نعم فقال عمر : أما النعم فالإبل قولوا :
نعم لا أراه صحيحا لما فيه من المخالفة لأصح الفصيح فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ هو على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه صاحب الصور عليه السلام ، وقيل : مالك خازن النار. وقيل : ملك من الملائكة غيرهما يأمره الله تعالى بذلك. ورواية الإمامية عن الرضا وابن عباس أنه علي كرم الله تعالى وجهه
مما لم يثبت من طريق أهل السنة وبعيد عن هذا الإمام أن يكون مؤذنا وهو إذ ذاك في حظائر القدس بَيْنَهُمْ أي الفريقين لا بين القائلين نعم كما قيل ، ولا يراد أن الظاهر أن يقال : بينهما لأنه غير متعين أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ بأن المخففة أو المفسرة ، والمراد الإعلام بلعنة الله تعالى لهم زيادة لسرور أصحاب الجنة وحزن أصحاب النار أو ابتداء لعن.
وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي «أنّ لعنة الله» بالتشديد والنصب : وقرأ الأعمش بكسر الهمزة على إرادة القول بالتضمين أو التقدير أو على الحكاية بإذن لأنه في معنى القول فيجري مجراه.
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي يصدون بأنفسهم عن دينه سبحانه ويعرضون عنه ، فالموصول صفة مقررة للظالمين لأن هذا الإعراض لازم لكل ظالم ، وجوز القطع بالرفع أو النصب وكلاهما على الذم وأمر الوقف ظاهر ، وفسر الإمام النسفي الصد هنا بمنع الغير وعليه فلا تقرير ، والمعنى يمنعون الناس عن دين الله تعالى بالنهي عنه وإدخال الشبه في دلائله وَيَبْغُونَها عِوَجاً أي يطلبون اعوجاجها ويذمونها فلا يؤمنون بها أو يطلبون لها تأويلا وإمالة إلى الباطل ، فالعوج إما على أصله وهو الميل وإما بمعنى التعويج والإمالة ونصبه قيل : على الحالية. وقيل : على المفعولية.
وجوز الطبرسي أن يكون نصبا على المصدر كرجع القهقرى واشتمل الصماء ، وذكر أن العوج بالكسر يكون في الدين والطريق وبالفتح في الخلقة فيقال في ساقه عوج بالفتح وفي دينه عوج بالكسر ، وقال الراغب : العوج يقال فيما يدرك بالبصر كالخشب المنتصب ونحوه. والعوج يقال فيما يدرك بفكر وبصيرة كما يكون في أرض بسيط وكالدين والمعاش ، وسيأتي لذلك تتمة إن شاء الله تعالى.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 363
وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ أي غير معترفين بالقيامة وما فيها ، والجار متعلق بما بعده ، والتقديم لرعاية الفواصل ، والعدول عن الجملة الفعلية إلى الاسمية للدلالة على الدوام والثبات إشارة إلى رسوخ الكفر فيهم.
وَبَيْنَهُما حِجابٌ أي بين الفريقين كقوله تعالى : فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ [الحديد : 13] أو بين الجنة والنار حجاب عظيم ليمنع وصول أثر إحداهما إلى الأخرى وإن لم يمنع وصول النداء وأمور الآخرة لا تقاس بأمور الدنيا.
وَعَلَى الْأَعْرافِ أي أعراف الحجاب أي أعاليه ، وهو السور المضروب بينهما أجمع عرف مستعار من عرف الدابة والديك. وقيل : العرف ما ارتفع من الشيء أي أعلى موضع منه لأنه أشرف وأعرف مما انخفض منه.
وقيل : ذاك جبل أحد.
فقد روي عنه صلّى اللّه عليه وسلّم «أحد يحبنا ونحبه - و- أنه يوم القيامة يمثل بين الجنة والنار يحبس عليه أقوام يعرفون كلا بسيماهم وهم إن شاء الله تعالى من أهل الجنة».
وقيل : هو الصراط. وروي ذلك عن الحسن بن المفضل ، وحكي عن بعضهم أنه لم يفسر الأعراف بمكان وأنه قال : المعنى وعلى معرفة أهل الجنة والنار رِجالٌ والحق أنه مكان والرجال طائفة من الموحدين قصرت بهم سيئاتهم عن الجنة وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار جعلوا هناك حتى يقضى بين الناس فبينما هم كذلك إذا اطلع عليهم ربهم فقال لهم : قوموا ادخلوا الجنة فإني غفرت لكم.
أخرجه أبو الشيخ ، والبيهقي ، وغيرهما عن حذيفة ، وفي رواية أخرى عنه «يجمع الله تعالى الناس ثم يقول لأصحاب الأعراف : ما تنتظرون؟ قالوا : ننتظر أمرك فيقال : إن حسناتكم تجاوزت بكم النار أن تدخلوها وحالت بينكم وبين الجنة خطاياكم فادخلوها بمغفرتي ورحمتي».
وإلى هذا ذهب جمع من الصحابة والتابعين. وقيل : هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أجلسهم الله تعالى على أعالي ذلك السور تمييزا لهم على سائر أهل القيامة وإظهارا لشرفهم وعلو مرتبتهم.
وروى الضحاك عن ابن عباس أنهم العباس ، وحمزة ، وعلي ، وجعفر ذو الجناحين رضي الله تعالى عنهم يجلسون على موضع من الصراط يعرفون محبيهم ببياض الوجوه ومبغضيهم بسوادها. وقيل : إنهم عدول القيامة الشاهدون على الناس بأعمالهم وهو من كل أمة حكاه الزهري ، وأخرج البيهقي ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبو الشيخ ، والطبراني ، وغيرهم أن رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم سئل عن أصحاب الأعراف فقال : «هم أناس قتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم فمنعهم من دخول الجنة معصية آبائهم ومنعهم من دخول النار قتلهم في سبيل الله».
وقيل : هم أناس رضي عنهم أحد أبويهم دون الآخر.
وقال الحسن البصري : إنهم قوم كان فيهم عجب. وقال مسلم بن يسار : هم قوم كان عليهم دين ، وقيل : هم أهل الفترة ، وقيل : أولاد المشركين ، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم أولاد الزنا ، وعنه أيضا أنهم مساكين أهل الجنة.
وعن أبي مسلم أنهم ملائكة ويرون في صورة الرجال لا أنهم رجال حقيقة لأن الملائكة لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة. وقيل وقيل وأرجح الأقوال - كما قال القرطبي - الأول وجمع بعضهم بينها بأنه يجوز أن يجلس الجميع ممن ورد فيهم أنهم أصحاب الأعراف هناك مع تفاوت مراتبهم على أن من هذه الأقوال ما لا يخفى تداخله.
ومنالناس من استظهر القول بأن أصحاب الأعراف قوم علت درجاتهم لأن المقالات الآتية وما تتفرغ هي عليه لا تليق بغيرهم يَعْرِفُونَ كُلًّا من أهل الجنة والنار بِسِيماهُمْ بعلامتهم التي أعلمهم الله تعالى بها كبياض

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 364
الوجوه بالنسبة إلى أهل الجنة وسوادها بالنسبة إلى أهل النار. ووزنه فعلى من سام إبله إذا أرسلها في المرعى معلمة أو من وسم على القلب كالجاه من الوجه فوزنه عفلى ، ويقال : سيماء بالمد وسيمياء ككبرياء. وقال الشاعر :
له سيمياء ما تشق على البصر ومعرفتهم أن كذا علامة الجنة وكذا علامة النار تكون بالإلهام أو بتعليم الملائكة. وهذا كما روي عن أبي مجلز رضي الله تعالى عنه قبل أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. واستظهره بعضهم إذ لا حاجة بعد الدخول للعلامة. ويشعر كلام آخرين أنه بعده والباء للملابسة وَنادَوْا أي رجال الأعراف أَصْحابَ الْجَنَّةِ حين رأوهم وعرفوهم أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بطريق الدعاء والتحية أو بطريق الإخبار بنجاتهم من المكاره لَمْ يَدْخُلُوها حال من فاعل نادَوْا أو من مفعوله.
وقوله سبحانه : وَهُمْ يَطْمَعُونَ حال من فاعل يَدْخُلُوها أي نادوهم وهم لم يدخلوها حال كونهم طامعين في دخولها مترقبين له أي لم يدخلوها وهم في وقت عدم الدخول طامعون قاله بعضهم.
وفسر الطمع باليقين الحسن وأبو علي وبه فسر في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام : وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي [الشعراء : 82]. وفي الكشاف أن جملة لَمْ يَدْخُلُوها إلخ لا محل لها لأنها استئناف كأن سائلا سأل عن حال أصحاب الأعراف فقيل : لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ. وجوز أن يكون في محل الرفع صفة لرجال وضعف بالفصل.
وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ أي إلى جهتهم وهو في الأصل مصدر وليس في المصادر وما هو على وزن تفعال بكسر التاء غيره وغير تبيان وزلزال ثم استعمل ظرف مكان بمعنى جهة اللقاء والمقابلة ويجوز عند السبعة إثبات همزته وهمزة «أصحاب» وحذف الأولى وإثبات الثانية. وفي عدم التعرض لتعلق أنظارهم بأصحاب الجنة والتعبير عن تعلق أبصارهم بأصحاب النار بالصرف إشعار - كما قال غير واحد - بأن التعلق الأول بطريق الرغبة والميل والثاني بخلافه. فمن زعم أن في الكلام الأول شرطا محذوفا لم يأت بشيء قالُوا متعوذين بالله سبحانه من سوء ما رأوا من حالهم رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي لا تجمعنا وإياهم في النار. وفي وصفهم بالظلم دون ما هم عليه حينئذ من العذاب وسوء الحال الذي هو الموجب للدعاء إشعار بأن المحذور عندهم ليس نفس العذاب فقط بل ما يؤدي إليه من الظلم. وفي الآية - على ما قيل - إشارة إلى أنه سبحانه لا يجب عليه شيء. وزعم بعضهم أنه ليس المقصود فيها الدعاء بل مجرد استعظام حال الظالمين. وقرأ الأعمش «وإذا قلبت أبصارهم». وعن ابن مسعود وسالم مثل ذلك.
وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ كرر ذكرهم مع كفاية الإضمار لزيادة التقرير. وقيل : لم يكتف بالإضمار للفرق بين المراد منهم هنا. والمراد منهم فيما تقدم فإن المنادى هناك الكل وهنا البعض. وفي إطلاق أصحاب الأعراف على أولئك الرجال بناء على أن مآلهم إلى الجنة دليل على أن عنوان الصحبة للشيء لا يستدعي الملازمة له كما زعمه البعض رِجالًا من رؤساء الكفرة كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل حتى رأوهم فيما بين أصحاب النار يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ بعلامتهم التي أعلمهم الله تعالى بها من سواد الوجه وتشويه الخلق وزرقة العين كما قال الجبائي أو بصورهم التي كانوا يعرفونهم بها في الدنيا كما قال أبو مسلم أو بعلامتهم الدالة على سوء حالهم يومئذ وعلى رياستهم في الدنيا كما قيل ولعله الأولى. وأيا ما كان فالجار والمجرور متعلق بما عنده - ويفهم من كلام

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 365
بعضهم ، وفيه بعد ، أنه متعلق بنادى. والمعنى نادوا رجالا يعرفونهم في الدنيا بأسمائهم وكناهم وما يدعون به من الصفات.
قالُوا بيان لنادى أو بدل منه ما أَغْنى عَنْكُمْ استفهام للتقريع والتوبيخ ويجوز أن يراد النفي أي ما كفاكم ما أنتم فيه جَمْعُكُمْ أتباعكم وأشياعكم أو جمعكم المال فهو مصدر مفعوله مقدر وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أي واستكباركم المستمر عن قبول الحق أو على الخلق وهو الأنسب مما بعده.
وقرىء «تستكثرون» من الكثرة. وما على هذه القراءة تحتمل أن تكون اسم موصول على معنى ما أغنى عنكم أتباعكم والذي كنتم تستكثرونه من الأموال.
ويحتمل عندي أن تكون في القراءة السبعية كذلك. والمراد بها حينئذ الأصنام. ومعنى استكبارهم إياها اعتقادهم عظمها وكبرها أي ما أغنى عنكم جمعكم وأصنامكم التي كنتم تعتقدون كبرها وعظمها.
أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ من تتمة قولهم للرجال فهو في محل نصب مفعول القول أيضا أي قالوا : ما أغنى وقالوا : أهؤلاء ، والإشارة إلى ضعفاء أهل الجنة الذين كان الكفرة يحتقرونهم في الدنيا ويحلفون أنهم لا يصيبهم الله تعالى برحمة وخير ولا يدخلهم الجنة كسلمان ، وصهيب ، وبلال رضي الله تعالى عنهم أو يفعلون ما ينبىء عن ذلك كما قيل ذلك في قوله تعالى : أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ [إبراهيم : 44].
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ من كلام أصحاب الأعراف أيضا أي فالتفتوا إلى أولئك المشار إليهم من أهل الجنة وقالوا لهم : دوموا في الجنة غير خائفين ولا محزونين على أكمل سرور وأتم كرامة.
وقيل : هو أمر بأصل الدخول بناء على أن يكون كونهم على الأعراف وقولهم هذا قبل دخول بعض أهل الجنة الجنة.
وقال غير واحد : إن قوله سبحانه : أَهؤُلاءِ إلخ استئناف وليس من تتمة قول أصحاب الأعراف ، والمشار إليهم أهل الجنة والقائل هو الله تعالى أو بعض الملائكة والمقول له أهل النار في قول ، وقيل : المشار إليهم هم أهل الأعراف وهم القائلون أيضا والمقول لهم أهل النار ، وادْخُلُوا الْجَنَّةَ من قول أهل الأعراف أيضا أي يرجعون فيخاطب بعضهم بعضا ويقول : ادخلوا الجنة ، ولا يخفى بعده ، وقيل : لما عير أصحاب الأعراف أصحاب النار أقسم أصحاب النار أن أصحاب الأعراف لا يدخلون الجنة فقال الله تعالى أو بعض الملائكة خطابا لأهل النار : أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة اليوم مشيرا إلى أصحاب الأعراف ثم وجه الخطاب إليهم فقيل : ادخلوا الجنة إلخ وقرىء «ادخلوا». و«دخلوا» بالمزيد المجهول وبالمجرد المعلوم ، وعليها فلا بد أن يكون لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ إلخ مقولا لقول محذوف وقع حالا ليتجه الخطاب ويرتبط الكلام أي ادخلوا أو دخلوا الجنة مقولا لهم لا خوف إلخ.
وقرىء أيضا «ادخلوا» بأمر المزيد للملائكة. والظاهر أنها تحتاج إلى زيادة تقدير.
وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ بعد أن استقر بكل من الفريقين القرار واطمأنت به الدار : أَنْ أَفِيضُوا أي صبوا عَلَيْنا شيئا مِنَ الْماءِ نستعين به على ما نحن فيه ، وظاهر الآية يدل على أن الجنة فوق النار أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي أو من الذي رزقكموه الله تعالى من سائر الأشربة ليلائم الإفاضة أو من الأطعمة كما روي عن السدي ، وابن زيد ، ويقدر في المعطوف عامل يناسبه أو يؤول العامل الأول بما يلائم المتعاطفين أو يضمن ما يعمل في الثاني أو يجعل ذلك من المشاكلة ويكون في الآية دليل على نهاية عطشهم وشدة جوعهم وأن ما هم فيه==

12. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ( نسخة محققة )
المؤلف : شهاب الدين محمود ابن عبد الله الحسيني الآلوسي

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 366
من العذاب لا يمنعهم عن طلب أكل وشرب. وبهذا رد موسى الكاظم رضي الله تعالى عنه - فيما يروي - على هارون الرشيد إنكاره أكل أهل المحشر محتجا بأن ما هم فيه أقوى مانع لهم عن ذلك.
واختلف العلماء في أن هذا السؤال هل كان مع رجاء الحصول أو مع اليأس منه حيث عرفوا دوام ما هم فيه وإلى كل ذهب بعض قالُوا استئناف مبني على السؤال كأنه قيل : فماذا قالوا؟ فقيل قالوا : في جوابهم : إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ أي منع كلا منهما أو منعهما منع المحرم عن المكلف فلا سبيل إلى ذلك قطعا ، ولا يحمل التحريم على معناه الشائع لأن الدار ليست بدار تكليف الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ الذي أمرهم الله تعالى به أو الذي يلزمهم التدين به لَهْواً وَلَعِباً فلم يتدينوا به أو فحرموا ما شاؤوا واستحلوا ما شاؤوا ، واللهو - كما قيل - صرف الهم إلى ما لا يحسن أن يصرف إليه ، واللعب طلب الفرح بما لا يحسن أن يطلب ، وقد تقدم تفصيل الكلام فيهما فتذكر وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا شغلتهم بزخارفها العاجلة ومواعيدها الباطلة وهذا شأنها مع أهلها قاتلها الله تعالى تغر وتضر وتمر فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ نفعل بهم فعل الناسي بالمنسي من عدم الاعتداد بهم وتركهم في النار تركا كليا فالكلام خارج مخرج التمثيل ، وقد جاء النسيان بمعنى الترك كثيرا ويصح أن يفسر به هنا فيكون استعارة أو مجازا مرسلا ، وعن مجاهد أنه قال : المعنى نؤخرهم في النار ، وعليه ، فالظاهر أن ننساهم من النسء لا من النسيان. والفاء في قوله تعالى فَالْيَوْمَ فصيحة ، وقوله عز وعلا.
كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا قيل : في محل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي ننساهم نسيانا مثل نسيانهم لقاء هذا اليوم العظيم الذي لا ينبغي أن ينسى. وليس الكلام على حقيقته أيضا لأنهم لم يكونوا ذاكري ذلك حتى ينسوه بل شبه عدم إخطارهم يوم القيامة ببالهم وعدم استعدادهم له بحال من عرف شيئا ثم نسيه.
وعن ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن أن المعنى كما نسوا العمل للقاء يومهم هذا وليس هذا التقدير ضروريا كما لا يخفى ، وذهب غير واحد إلى أن الكاف للتعليل متعلق بما عنده لا للتشبيه إذ يمنع منه قوله تعالى : وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ لأنه عطف على ما نسوا وهو يستدعي أن يكون مشبها به النسيان مثله.
وتشبيه النسيان بالجحود غير ظاهر ، ومن ادعاه قال : المراد نتركهم في النار تركا مستمرا كما كانوا منكرين أن الآيات من عند الله تعالى إنكارا مستمرا. وقال القطب : الجحود في معنى النسيان ، وظاهر كلام كثير من المفسرين أن كلام أهل الجنة إلى وغرتهم الحياة الدنيا لا أن الله حرمهما على الكافرين فقط. وقال بعضهم : إنه ذلك لا غير ، وعليه فيجوز أن يكون الَّذِينَ مبتدأ وجملة اليوم ننساهم خبره ، والفاء فيه مثلها في قولك : الذي يأتيني فله درهم كما قيل.
وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ بينا معانيه من العقائد ، والأحكام ، والمواعظ مفصلة والضمير للكفرة قاطبة ، وقيل : لهم وللمؤمنين ، والمراد بالكتاب الجنس ، وقيل : للمعاصرين من الكفرة أو منهم ومن المؤمنين. والكتاب هو القرآن وتنوينه للتفخيم. وقد نظم بعضهم ما اشتمل عليه من الأنواع بقوله :
حلال حرام محكم متشابه بشير نذير قصة عظة مثل
والمراد منع الخلو كما لا يخفى عَلى عِلْمٍ منا بوجه تفصيله وهو في موضع الحال من فاعل فَصَّلْناهُ وتنكيره للتعظيم أي عالمين على أكمل وجه بذلك حتى جاء حكيما متقنا ، وفي هذا - كما قيل - دليل على أنه سبحانه

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 367
يعلم بصفة زائدة على الذات وهي صفة العلم وليس علمه سبحانه عين ذاته كما يقوله الفلاسفة ومن ضاهاهم وللمناقشة فيه مجال ، ويجوز أن يكون موضع الحال من المفعول أي مشتملا على علم كثير. وقرأ ابن محيصن «فضلناه» بالضاد المعجمة ، وظاهر كلام البعض أن الجار والمجرور على هذه القراءة في موضع الحال من الفاعل ولا يجعل حالا من المفعول أي فضلناه على سائر الكتب عالمين بأنه حقيق بذلك ، وجوز بعضهم أن يجعل حالا من المفعول على نحو ما مر وقيل : إن عَلى للتعليل كما في قوله سبحانه : وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ [البقرة : 185] وهي متعلقة بفضلناه أي فضلناه على سائر الكتب لأجل علم فيه أي لاشتماله على علم يشتمل عليه غيره منها ، وقيل : إن عَلى في القراءتين متعلقة بمحذوف وقع حالا من مفعول جِئْناهُمْ أي جئناهم بذلك حال كونهم من ذوي العلم القابلين لفهم ما جئناهم به فتأمل.
هُدىً وَرَحْمَةً حال من مفعول فَصَّلْناهُ وجوز أن يكون مفعولا لأجله وأن يكون حالا من الكتاب لتخصيصه بالوصف ، والكلام في وقوع مثل ذلك حالا مشهور. وقرىء بالجر على البدلية من عِلْمٍ وبالرفع على إضمار المبتدأ أي هو هدى عظيم ورحمة كذلك لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأنهم المقتبسون من أنواره المنتفعون بنواره هَلْ يَنْظُرُونَ أي ما ينتظر هؤلاء الكفرة بعدم إيمانهم به شيئا إِلَّا تَأْوِيلَهُ أي عاقبته وما يؤول إليه أمره من تبين صدقه بظهور ما أخبر به من الوعد والوعيد ، والمراد أنهم بمنزلة المنتظرين وفي حكمهم من حيث إن ما ذكر يأتيهم لا محالة ، وحينئذ فلا يقال : كيف ينتظرونه وهم جاحدون غير متوقعين له؟.
وقيل : إن فيهم أقواما يشكون ويتوقعون فالكلام من قبيل - بنو فلان قتلوا زيدا يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ وهو يوم القيامة ، وقيل : هو ويوم بدر يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ أي تركوه ترك المنسي فأعرضوا عنه ولم يعملوا به مِنْ قَبْلُ أي من قبل إتيان تأويله قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ أي قد تبين أنهم قد جاؤوا بالحق ، وإنما فسر بذلك لأنه الواقع هناك ولأنه الذي يترتب عليه طلب الشفاعة المفهوم من قوله سبحانه : فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا اليوم ويدفعوا عنا ما نحن فيه أَوْ نُرَدُّ عطف على الجملة قبله داخل معه في حكم الاستفهام ، ومِنْ مزيدة في المبتدأ.
وجوز أن تكون مزيدة في الفاعل بالظرف كأنه قيل : هل لنا من شفعاء أو هل نرد إلى الدنيا ، ورافعه وقوعه موقعا يصلح للاسم كما تقول. ابتداء : هل يضرب زيد ، ولا يطلب له فعل آخر يعطف عليه فلا يقدر هل يشفع لنا شافع أو نرد قاله الزمخشري ، وأراد - كما في الكشف - لفظا لأن الظرف مقدر بجملة ، وهل مما له اختصاص بالفعل ، والعدول للدلالة على أن تمني الشفيع أصل وتمني الرد فرع لأن ترك الفعل إلى الاسم مع استدعاء هل للفعل يفيد ذلك فلو قدر لفاتت نكتة العدول معنى مع الغنى عنه لفظا. وقرأ ابن أبي إسحاق أَوْ نُرَدُّ بالنصب عطفا على فَيَشْفَعُوا لَنا المنصوب في جواب الاستفهام أو لأن أَوْ بمعنى إلى أن أو حتى أن على ما اختاره الزمخشري إظهارا لمعنى السببية ، قال القاضي : فعلى الرفع المسئول أحد الأمرين الشفاعة. والرد إلى الدنيا ، وعلى النصب المسئول أن يكون لهم شفعاء إما لأحد الأمرين من الشفاعة في العفو عنهم والرد إن كانت أَوْ عاطفة وإما لأمر واحد إذا كانت بمعنى إلى أن إذ معناه حينئذ يشفعون إلى الرد ، وكذا إذا كانت بمعنى حتى إن أي يشفعون حتى يحصل الرد فَنَعْمَلَ بالنصب جواب الاستفهام الثاني أو معطوف على نُرَدُّ مسبب عنه على قراءة ابن أبي إسحاق.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 368
وقرأ الحسن بنصب «نرّد» ورفع «نعمل» أي فنحن نعمل غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أي في الدنيا من الشرك والمعصية قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بصرف أعمارهم التي هي رأس مالهم إلى الشرك والمعاصي وَضَلَّ عَنْهُمْ غاب وفقد ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي الذي كانوا يفترونه من الأصنام شركاء لله سبحانه وشفعاءهم يوم القيامة ، والمراد أنه ظهر بطلانه ولم يفدهم شيئا.
ومن باب الإشارة في الآيات : وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ أي النفس وسميت حواء لملازمتها الجسم الظلماني إذ الحوة اللون الذي يغلب عليه السواد. وبعضهم يجعل آدم إشارة إلى القلب لأنه من الآدمة وهي السمرة وهو لتعلقه بالجسم دون النفس سمي بذلك ولشرف آدم عليه السلام وجه النداء إليه وزوجه تبع له في السكنى الجنة هي عندهم إشارة إلى سماء عالم الأرواح التي هي روضة القدس فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما لا حجر عليكما في تلقي المعاني والمعارف والحكم التي هي الأقوات القلبية والفواكه الروحانية وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ أي شجرة الطبيعة والهوى التي بحضرتكما فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ الواضعين النور في محل الظلمة أو الناقصين من نور استعدادكما. وأول بعضهم الشجرة بشجرة المحبة المورقة بأنواع المحبة أي لا تقرباها فتظلما أنفسكما لما فيها من احتراق أنانية المحب وفناء هويته في هوية المحبوب ثم قال : إن هذه الشجرة غرسها الرحمن بيده لآدم عليه السلام كما خمر طينته بيده لها :
فلم تك تصلح إلا له ولم يك يصلح إلا لها
وأن المنع كان تحريضا على تناولها فالمرء حريص على ما منع ، واختار هذا النيسابوري وتكلف في باقي الآية ما تكلف فإن أردته فارجع إليه فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما أي ليظهر لهما بالميل إلى شجرة الطبيعة ما حجب عنهما عند التجرد من الأمور الرذيلة التي هي عورات عند العقل قالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ أو همهما أن في الاتصاف بالطبيعة الجسمانية لذات ملكية وخلودا فيها أو ملكا ورياسة على القوى بغير زوال إن قرىء «ملكين» بكسر اللام.
فَدَلَّاهُما فنزلهما من غرف القدس إلى التعلق بها والركون إليها بِغُرُورٍ بما غرهما من كأس القسم الترعة من حميا ذكر الحبيب فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما والقليل منهما بالنسبة إليهما كثير وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ أي يكتمان هاتيك السوءات والفواحش الطبيعية بالآداب الحسنة والعادات الجميلة التي هي من تفاريع الآراء العقلية ومستنبطات القوة العاقلة العلمية ويخفيانها بالحيل العملية وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما بما أودعت في عقولكما من الميل إلى التجرد وإدراك المعقولات عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ وذلك القول بما ألهم العقل من منافاة أحكام الوهم ومضادة مدركاته والوقوف على مخالفاته ومكابراته إياه قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا بالميل إلى جهة الطبيعة وانطفاء نورها وانكسار قوتها وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا بإلباسنا الأنوار الروحانية وإفاضتها عليها وَتَرْحَمْنا بإفاضة المعارف الحقيقية لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ الذين أتلفوا الاستعداد الذي هو مادة السعادة وحرموا عن الكمال التجردي بملازمة النقص الطبيعي قالَ اهْبِطُوا إلى الجهة السفلى التي هي العالم الجسماني بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ لأن مطالب الجهة السفلية جزئية لا تحتمل الشركة فكلما حظي بها أحد حرم منها غيره فيقع بينهما العداوة والبغضاء بخلاف المطالب الكلية.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 369
وجمع الخطاب لأنه في قوة خطاب النوع يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً وهو لباس الشريعة يُوارِي سَوْآتِكُمْ يستر قبائح أوصافكم وفواحش أفعالكم بشعاره ودثاره وَرِيشاً زينة وجمالا في الظاهر والباطن تمتازون به عن سائر الحيوانات وَلِباسُ التَّقْوى أي صفة الورع والحذر من صفات النفس ذلِكَ خَيْرٌ من سائر أركان الشرائع والحمية رأس الدواء. ويقال : لباس التقوى هو لباس القلب والروح والسر والخفي ولباس الأول منها الصدق في طلب المولى ويتوارى به سوءة الطمع في الدنيا وما فيها. ولباس الثاني محبة ذي المجد الأسنى ويتوارى به سوءة التعلق بالسوي. ولباس الثالث رؤية العلي الأعلى ويتوارى به سورة رؤية غيره في الأولى والأخرى. ولباس الرابع بالبقاء بهوية ذي القدس الأسنى ويتوارى به سوءة هوية ما في السماوات وما في الأرض وما تحت الثرى قيل : وهذا إشارة إلى الحقيقة ، وربما يقال : اللباس المواري للسوءات إشارة إلى الشريعة والريش إشارة إلى الطريقة لما أن مدارها على حسن الأخلاق وبذلك يتزين الإنسان ولباس التقوى إشارة إلى الحقيقة لما فيها من ترك السوي وهو أكمل أنواع التقوى ذلك أي لباس التقوى من آيات الله أي من أنوار صفاته سبحانه إذ التوقي من صفات النفس لا يتيسر إلا بظهور تجليات صفات الحق أو إنزال الشريعة والحقيقة مما يدل على الله سبحانه وتعالى لعلكم تذكرون «1» عند ظهور تلك الأنوار لباسكم الأصلي النوري أو تذكرون معرفتكم له عند أخذ العهد فتتمسكون بأذيالها اليوم يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ بنزع لباس الشريعة والتقوى فتحرموا من دخول الجنة كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما الفطري النوري إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ وذلك بمقتضى البشرية وقد يرون بواسطة النور الرباني.
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ بالعدل وهو الصراط المستقيم وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ أي ذواتكم بمنعها عن الميل إلى أحد طرفي الإفراط والتفريط عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أي مقام سجود أو وقته ، والسجود عندهم كما قاله البعض أربعة أقسام سجود الانقياد والطاعة وإقامة الوجه عنده بالإخلاص وترك الالتفات إلى السوء ومراعاة موافقة الأمر وصدق النية والامتناع عن المخالفة في جميع الأمور ، وسجود الفناء في الأفعال وإقامة الوجه عنده بأن لا يرى مؤثرا غير الله تعالى أصلا. وسجود الفناء في الصفات وإقامة الوجه عنده بأن لا يكره شيئا من غير أن يميل إلى الإفراط بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا التفريط بالتسخط على المخالف والتعبير له والاستخفاف به. وسجود الفناء في الذات وإقامة الوجه عنده بالغيبة عن البقية والانطماس بالكلية والامتناع عن إثبات الآنية فلا يطغى بحجاب الآنية ولا يتزندق بالإباحة وترك الإطاعة.
وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ بتخصيص العمل لله سبحانه أو برؤية العمل منه أو به جل شأنه كَما بَدَأَكُمْ أظهركم بإفاضة هذه التعينات عليكم تَعُودُونَ إليه أو كما بدأكم لطفا أو قهرا تعودون إليه فيعاملكم حسبما بدأكم فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ كما ثبت ذلك في علمه إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ من القوى النفسانية الوهمية والتخيلية أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ للمناسبة التامة بين الفريقين وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ لقوة سلطان الوهم يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ فأخلصوا العمل لله تعالى وتوكلوا عليه وقوموا بحق الرضا وتمكنوا في التحقق بالحقيقة ومراعاة الاستقامة ولكل مقام مقال وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ولا تسرفوا بالإفراط والتفريط فإن العدالة صراط الله تعالى المستقيم.
___________
(1) قوله لعلكم تذكرون كذا بخطه والتلاوة لعلهم يذكرون اه.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 370
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ أي منع عنها وقال : لا يمكن التزين بها وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ كعلوم الإخلاص.
ومقام التوكل ، والرضا ، والتمكين قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ الكبرى عن التلون وظهور شيء من بقايا الأفعال والصفات والذات قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ رذائل القوة البهيمة ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ رذائل القوة السبعية وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ رذائل القوة النطقية وكل ذلك من موانع الزينة وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ينتهون عنده إلى مبدئهم فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ لأن وقوع ما يخالف العلم محال يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ من جنسكم ، وقيل : هي العقول ، وقال النيسابوري : التأويل إما يأتينكم إلهامات من طريق قلوبكم وأسراركم ، وفيه أن بني آدم كلهم مستعدون لإشارات الحق وإلهاماته فَمَنِ اتَّقى في الفناء وَأَصْلَحَ بالاستقامة عند البقاء فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لوصولهم إلى مقام الولاية وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أخفوا صفاتنا بصفات أنفسهم وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها بالاتصاف بالرذائل أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ نار الحرمان وهُمْ فِيها خالِدُونَ لسوء ما طبعوا عليه فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن قال : أكرمني الله تعالى بالكرامات وهو الذي بالكرى مات أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ بأن أنكر على أولياء الله سبحانه الفائزين من الله تعالى بالحظ الأوفى أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ مما كتب لهم في لوح القضاء والقدر.
وقيل : الكتاب الإنسان الكامل ونصيبهم منه نصيب الغرض من السهم إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة علينا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها ولم يلتفتوا إليها لوقوفهم مع أنفسهم لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ فلا تعرج أرواحهم إلى الملكوت وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ أي جنة المعرفة والمشاهدة والقربة حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ أي جمل أنفسهم المستكبرة فِي سَمِّ الْخِياطِ أي خياط أحكام الشريعة الذي به يخاط ما شقته يد الشقاق ، وسمه آداب الطريقة لأنها دقيقة جدا ، وقد يقال : الخياط إشارة إلى خياط الشريعة ، والطريقة وسمه ما يلزمه العمل به من ذلك وولوج ذلك الجمل لا يمكن مع الاستكبار بل لا بد من الخضوع والانقياد وترك الحظوظ النفسانية وحينئذ يكون الجمل أقل من البعوضة بل أدق من الشعرة فحينئذ يلج في ذلك السم لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ الحرمان مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ أي إن الحرمان أحاط بهم ، وقيل : لهم من جهنم المجاهدة والرياضة فراش ومن فوقهم من مخالفات النفس وقطع الهوى لحاف فتذيبهم وتحرق أنانيتهم.
وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ المرحومون أَصْحابَ النَّارِ المحرمون أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا من القرب حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم من البعد حَقًّا فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ وهو مؤذن العزة والعظمة بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الواضعين الشيء في غير موضعه الذين يصدون السالكين عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي الطريق الموصلة إليه سبحانه ، وقيل : يصدون القلب والروح عن ذلك وَيَبْغُونَها عِوَجاً بأن يصفوها بما ينفر السالك عنها من الزيغ والميل عن الحق ، وقيل : يطلبون صرف وجوههم إلى الدنيا وما فيها وَهُمْ بِالْآخِرَةِ أي الفناء بالله تعالى أو بالقيامة الكبرى كافِرُونَ لمزيد احتجابهم بما هم فيه وَبَيْنَهُما أي بين أهل الجنة وهي جنة ثواب الأعمال من العباد والزهاد وبين أهل النار حجاب فكل منهم محجوب عن صاحبه وَعَلَى الْأَعْرافِ أي أعالي ذلك الحجاب الذي هو حجاب القلب رِجالٌ وأي رجال وهم العرفاء أهل الله سبحانه وخاصته. قيل : وإنما سموا رجالا لأنهم يتصرفون بإذن الله تعالى فيما سواه عز وجل تصرف الرجل بالنساء ولا يتصرف فيهم شيء من ذلك يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ لما أعطوا من نور الفراسة وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أي جنة ثواب الأعمال أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بما من الله تعالى عليكم به من الخلاص من النار ، وقيل : إن سلامهم على أهل الجنة

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 371
بإمدادهم بأسباب التزكية والتخلية والأنوار القلبية وإفاضة الخيرات والبركات عليهم لَمْ يَدْخُلُوها أي لم يدخل أولئك الرجال الجنة لعدم احتياجهم إليها وَهُمْ يَطْمَعُونَ في كل وقت بما هو أعلى وأغلى ، وقيل : هم أي أهل الجنة يطمعون في دخول أولئك الرجال ليقتبسوا من نورهم ويستضيئوا بأشعة وجوههم ويستأنسوا بحضورهم وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ ليعتبروا قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ بأن تحفظ قلوبنا من الزيغ وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا من رؤساء أهل النار ، وإطلاق الرجال عليهم وعلى أصحاب الأعراف كإطلاق المسيح على الدجال اللعين وعلى عيسى عليه السلام.
أَهؤُلاءِ إشارة إلى أهل الجنة وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أي الحياة التي أنتم فيها أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي النعيم الذي من الله تعالى به عليكم أو أفيضوا علينا من العلم أو العمل لننال به ما نلتم قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما في الأزل عَلَى الْكافِرِينَ لسوء استعدادهم ، وقيل : إن الكفار لما كانوا عبيد البطون حراصا على الطعام والشراب فماتوا على ما عاشوا وحشروا وأدخلوا النار على ما ماتوا طلبوا الماء أو الطعام وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ وهو النبي صلّى اللّه عليه وسلّم الجامع لكل شيء والمظهر الأعظم لنا فَصَّلْناهُ أي أظهرنا منه ما أظهرنا عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأنهم المنتفعون منه وإن كان من جهة أخرى رحمة للعالمين هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ أي ما يؤول إليه عاقبة أمره ، وقيل : الكتاب الذي فصل على علم إشارة إلى البدن الإنساني المفصل إلى أعضاء وجوارح وآلات وحواس تصلح للاستكمال على ما يقتضيه العلم الإلهي وتأويله ما يؤول إليه أمره في العاقبة من الانقلاب إلا ما لا يصلح لذلك عند البعث من هيئات وصور وأشكال تناسب صفاتهم وعقائدهم على مقتضى قوله سبحانه «سيجزيهم وصفهم» وكما قال سبحانه : «ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما» انتهى.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 54 إلى 72]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64) وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68)
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72)

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 372
ويحتمل أن يكون الكتاب المذكور إشارة إلى الآفاق والأنفس وما يؤول إليه كل ظاهر والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ شروع في بيان مبدأ الفطرة إثر بيان معاد الكفرة ، ويحتمل أنه سبحانه لما ذكر حال الكفار وأشار إلى عبادتهم غيره سبحانه احتج عليهم بمقدوراته ومصنوعاته جل شأنه ودلهم بذلك على أنه لا معبود سواه فقال مخاطبا بالخطاب العام إِنَّ رَبَّكُمُ أي خالقكم ومالككم الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ السبع وَالْأَرْضَ بما فيها كما يدل عليه ما في سورة السجدة على ما يأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه في ستة أوقات كقوله تعالى : وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ [الأنفال : 16] أو في مقدار ستة أيام كقوله سبحانه لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا.
فإن المتعارف أن اليوم من طلوع الشمس إلى غروبها ولم تكن هي حينئذ ، نعم العرش وهو المحدد على المشهور موجود إذ ذاك على ما يدل عليه بعض الآيات ، وليس بقديم كما يقوله من ضل عن الصراط المستقيم لكن ذاك ليس نافعا في تحقق اليوم العرفي ، وإلى حمل اليوم على المتعارف وتقدير المضاف ذهب جمع من العلماء وادعوا - وهو قول عبد الله بن سلام ، وكعب الأحبار ، والضحاك ، ومجاهد ، واختاره ابن جرير الطبري - أن ابتداء الخلق كان يوم الأحد ولم يكن في السبت خلق أخذا له من السبت بمعنى القطع لقطع الخلق فيه ولتمام الخلق في يوم الجمعة واجتماعه فيه سمي بذلك. وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عباس أنه سمي تلك الأيام بأبو جاد وهواز وحطى وكلمون وسعفص وقريشات. وقال محمد بن إسحاق وغيره : إن ابتداء الخلق في يوم السبت ، وسمي سبتا لقطع بعض خلق الأرض فيه على ما قال ابن الأنباري أو لما أن الأمر كأنه قطع وشرع فيه على ما قيل ، واستدل لهذا القول بما
أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة قال : «أخذ رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم بيدي فقال : خلق الله تعالى التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وخلق فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق وفي آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 373
العصر إلى الليل»
ولا يخفى أن هذا الخبر مخالف للآية الكريمة فهو إما غير صحيح وإن رواه مسلم وأما مؤول ، وأنا أرى أن أول يوم وقع فيه الخلق يقال له الأحد وثاني يوم الاثنين وهكذا ويوم جمع فيه الخلق فافهم ، وإلى حمله على اللغوي وعدم التقدير ذهب آخرون وقالوا : كان مقدار كل يوم ألف سنة وروي ذلك عن زيد بن أرقم ، وفي خلقه سبحانه الأشياء مدرجا على ما روي عن ابن جبير للخلق التثبت والتأني في الأمور كما
في الحديث «التأني من الله تعالى والعجلة من الشيطان»
وقال غير واحد : إن في خلقها مدرجا مع قدرته سبحانه على إبداعها دفعة دليل على الاختيار واعتبار للنظار. واعترض عليه بأنه يجوز أن يكون الفاعل موجبا ويكون وجود المعلول مشروطا بشرائط توجد وقتا فوقتا ، وبأن ذلك يتوقف على ثبوت تقدم خلق الملائكة على خلق السماوات والأرض وليس ذلك بالمحقق.
وأجيب بأن الأول مبني على الغفلة عن قوله مع القدرة على إبداعها دفعه وبيانه أن الفاعل إذا كان مختارا - كما يقوله أهل الحق - يتوقف وجود المعلول على تعلق الإرادة به فهو جزء العلة التامة حينئذ فيجوز أن يتخلف المعلول عن الفاعل لانتفاء تعلق الإرادة فلا يلزم من قدمه قدم المعلول ، وأما إذا كان الفاعل موجبا مقتضيا لذاته فيضان الوجود على ما تم استعداده فإن كان المعلول تام الاستعداد في ذاته كالكبريت بالنسبة إلى النار يجب وجوده ويمتنع تخلفه وإلا لزم التخلف عن العلة التامة فيلزم من قدم الفاعل حينئذ قدمه ، والأجرام الفلكية من هذا القبيل عند الفلاسفة وإن توقف تمام استعداده على أمر متجدد فما لم يحصل يمتنع إيجاده كالحطب الرطب فإنه ما لم ييبس لم تحرقه النار والحوادث اليومية من هذا القبيل عندهم ، ولهذا أثبتوا برزخا بين عالمي القدم والحدوث ليتأتى ربط الحوادث بالمبادىء القديمة ففي صورة كون الفاعل موجبا مشروطا وجود معلوله بشرائط متعاقبة يمتنع الإبداع دفعه.
فإمكان وجود هذه الأشياء المنبئ عن عدم التوقف على شيء آخر أصلا دفعة مع الخلق التدريجي المستلزم لتأخر وجود المعلول عن وجود الفاعل لا يجامع الوجوب المستلزم لامتناع التأخر حينئذ ويستلزم الاختيار المصحح لذلك التأخر كما علمت ، بأن الإيداع التدريجي للأشياء عبارة عن إيجادات يتعلق كل منها بشيء فيدل على تعلق العلم والإرادة والقدرة بكل منها تفصيلا بخلاف الإيجاد الدفعي لها فإنه إيجاد واحد متعلق بالمجموع فيدل على تعلق ما ذكر بالمجموع من حيث هو مجموع إجمالا ، واستوضح ذلك من الفرق بين ضرب الخاتم على نحو القرطاس وبين أن تكتب تلك الكلمات فإنك في الصورة الثانية تتخيلها كلمة فكلمة بل حرفا فحرفا وتريدها كذلك فتوقعها في الصحيفة بخلاف الصورة الأولى وهو ظاهر ، فالنظار يعتبرون من الخلق التدريجي ويفهمون شمول علمه سبحانه وإرادته وقدرته للأشياء تفصيلا قائلين :
سبحان من لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، وأيضا قالوا : إنا إذا فعلنا شيئا تصورناه أولا ثم اعتقدنا له فائدة ثم تحصل لنا حال شوقية ثم ميلان نفساني هي الإرادة ثم تنبعث القوة الباعثة للقوة المحركة للأعضاء نحو إيجاده فيحصل لنا ذلك الشيء فلكل واحد من تلك الأمور دخل في وجود ذلك الشيء ، ثم قالوا : فكما لا بد في صدور الأفعال الاختيارية فينا من هذه الأمور كذلك لا بد في صدور الأفعال الاختيارية للواجب من نحو ذلك مما لا يمتنع عليه سبحانه فأثبتوا له تعالى علما ، وإرادة ، وقدرة ، وفائدة لأفعاله ، واستدلوا على ذلك من كونه سبحانه مختارا فالخلق التدريجي لما كان دالا على الاختيار الدال على ما ذكر صدق أن فيه اعتبارا للنظار.
وحاصل هذا أن المراد من النظار أصحاب النظر والبصيرة من العقلاء فلا يتوقف ما ذكر على تقدم خلق الملائكة على أن من قال بتقدم خلق العرش والكرسي على خلق الأرض والسماوات قائل بتقدم خلق الملائكة بل قيل : إن من الناس من قال بتقدم خلق نوع من الملائكة قبل العرش والكرسي وسماهم المهيمين.
وأنت تعلم أن هذا لا يفيدنا لأن المهيمين عند هذا القائل لا يشعرون بسماء ولا أرض بل هم مستغرقون فيه

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 374
سبحانه على أن ذلك ليس بالمحقق كما يقوله المعترض أيضا ، وقيل : إن الشيء إذا حدث دفعة واحدة فلعله يخطر بالبال أن ذلك الشيء إنما وقع على سبيل الاتفاق فإذا أحدث شيئا فشيئا على سبيل المصلحة والحكمة كان ذلك أبلغ في القدرة وأقوى في الدلالة ، وقيل : إن التعجيل في الخلق أبلغ في القدرة والتثبت أبلغ في الحكمة فأراد الله تعالى إظهار حكمته في خلق الأشياء بالتثبت كما أظهر قدرته في خلق الأشياء بكن.
ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وهو في المشهور الجسم المحيط بسائر الأجسام وهو فلك الأفلاك سمي به إما لارتفاعه أو للتشبيه بسرير الملك فإنه يقال له عرش ومنه قوله تعالى : وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ [يوسف : 100] لأن الأمور والتدبيرات تنزل منه ، ويكنى به عن العز والسلطان والملك فيقال : فلان ثل عرشه أي ذهب عزه وملكه وأنشدوا قوله :
إذا ما بنو مروان ثلث عروشهم وأودت كما أودت إياد وحمير
وقوله :
إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم بعيينة بن الحارث بن شهاب
وذكر الراغب أن العرش مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم ، وليس هو كما تذهب إليه أوهام العامة فإنه لو كان كذلك لكان حاملا له تعالى عن ذلك ، وليس كما قال قوم. إنه الفلك الأعلى والكرسي فلك الكواكب وفيه نظر ، والناس في الكلام على هذه الآية ونحوها مختلفون. فمنهم من فسر العرش بالمعنى المشهور ، وفسر الاستواء بالاستقرار. وروي ذلك عن الكلبي ، ومقاتل ، ورواه البيهقي في كتابه : الأسماء والصفات بروايات كثيرة عن جماعة من السلف وضعفها كلها. وما روي عن مالك رضي الله تعالى عنه أنه سئل كيف استوى؟ فأطرق رأسه مليا حتى علته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال : الاستواء غير مجهول. والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ثم قال للسائل : وما أظنك إلا ضالا ثم أمر به فأخرج ليس نصا في هذا المذهب لاحتمال أن يكون المراد من قوله : غير مجهول أنه ثابت معلوم الثبوت لا أن معناه وهو الاستقرار غير مجهول ومن قوله : والكيف غير معقول أن كل ما هو من صفة الله تعالى لا يدرك العقل له كيفية لتعاليه عن ذلك فكف الكيف عنه مشلولة.
ويدل على هذا ما جاء في رواية أخرى عن عبد الله بن وهب أن مالكا سئل عن الاستواء فأطرق وأخذه الرحضاء ثم قال : الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه : 5] كما وصف نفسه ولا يقال له : كيف وكيف عنه مرفوع إلى آخر ما قال ، ثم إن هذا القول إن كان مع نفي اللوازم فالأمر فيه هين ، وإن كان مع القول بها والعياذ بالله تعالى فهو ضلال وأي ضلال وجهل وأي جهل بالملك المتعال ، وما أعرف ما قاله بعض العارفين الذين كانوا من تيار المعارف غارفين على لسان حال العرش موجها الخطاب إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ليلة المعراج حين أشرقت شمسه عليه الصلاة والسلام في الملأ الأعلى فتضاءل معها كل نور وسراج كما نقله الإمام القسطلاني معرضا بضلال مثل أهل هذا المذهب الثاني ولفظه مع حذف ، ولما انتهى صلّى اللّه عليه وسلّم إلى العرش تمسك بأذياله وناداه بلسان حاله يا محمد أنت ونصيبي يا حبيبي أن تشهد بالبراءة مما نسبه أهل الزور إلي وتقوله أهل الغرور علي زعموا أني أسمع من لا مثل له وأحيط بمن لا كيفية له يا محمد من لا حد لذاته ولا عد لصفاته كيف يكون مفتقرا إلي ومحمولا علي إذا كان الرحمن اسمه والاستواء صفته وصفته متصلة بذاته كيف يتصل بي أو ينفصل عني؟ يا محمد وعزته لست بالقريب منه وصلا ولا بالبعيد عنه فصلا ولا بالمطبق له حملا أوجدني منه رجمة وفضلا ولو محقني لكان حقا منه وعدلا يا محمد أنا محمول قدرته ومعمول حكمته اه.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 375
وذهب المعتزلة وجماعة من المتكلمين إلى أن العرش على معناه واستوى بمعنى استولى. واحتجوا عليه بقوله :
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
وخص العرش بالأخبار عنه بالاستيلاء عليه لأنه أعظم المخلوقات ، ورد هذا المذهب بأن العرب لا تعرف استوى بمعنى استولى وإنما يقال : استولى فلان على كذا إذا لم يكن في ملكه ثم ملكه واستولى عليه والله تعالى لم يزل مالكا للأشياء كلها ومستوليا عليها ونسب ذلك للأشعرية. وبالغ ابن القيم في ردهم ثم قال : إن لام الأشعرية كنون اليهودية وهو ليس من الدين القيم عندي. وذهب الفراء واختاره القاضي إلى أن المعنى ثم قصد إلى خلق العرش ، ويبعده تعدى الاستواء بعلى ، وفيه قول بأن خلق العرش بعد خلق السماوات والأرض وهو كما ترى. وذهب القفال إلى أن المراد نفاذ القدرة وجريان المشيئة واستقامة الملك لكنه أخرج ذلك على الوجه الذي ألفه الناس من ملوكهم واستقر في قلوبهم ، قيل : ويدل على صحة ذلك قوله سبحانه في سورة [يونس : 3] ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فإن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ جرى مجرى التفسير لقوله : اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى ، وذكر أن القفال يفسر العرش بالملك ويقول ما يقول ، واعترض بأن الله تعالى لم يزل مستقيم الملك مستويا عليه قبل خلق السماوات والأرض وهذا يقتضي أنه سبحانه لم يكن كذلك تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وأجيب بأن الله تعالى كان قبل خلق السماوات والأرض مالكها لكن لا يصح أن يقال : شبع زيدا إلا بعد أكله الطعام فإذا فسر العرش بالملك صح أن يقال : إنه تعالى إنما استوى ملكه بعد خلق السماوات والأرض ، ومنهم من يجعل الإسناد مجازيا ويقدر فاعلا في الكلام أي استوى أمره ولا يضر حذف الفاعل إذا قام ما أضيف إليه مقامه ، وعلى هذا لا يكون الاستواء صفة له تعالى وليس بشيء. ومن فسره بالاستيلاء أرجعه إلى صفة القدرة.
ونقل البيهقي عن أبي الحسن الأشعري أن الله تعالى فعل في العرش فعلا سماه استواء كما فعل في غيره فعلا سماه رزقا ونعمة وغيرهما من أفعاله سبحانه لأن ثم للتراخي وهو إنما يكون في الأفعال ، وحكى الأستاذ أبو بكر بن فورك عن بعضهم أن اسْتَوى بمعنى علا ولا يراد بذلك العلو بالمسافة والتحيز والكون في المكان متمكنا فيه ولكن يراد معنى يصح نسبته إليه سبحانه. وهو على هذا من صفات الذات وكلمة ثُمَّ تعلقت بالمستوى عليه لا بالاستواء أو أنها للتفاوت في الرتبة وهو قول متين.
وأنت تعلم أن المشهور من مذهب السلف في مثل ذلك تفويض المراد منه إلى الله تعالى فهم يقولون : استوى على العرش على الوجه الذي عناه سبحانه منزها عن الاستقرار والتمكن ، وأن تفسير الاستواء بالاستيلاء تفسير مرذول إذ القائل به لا يسعه أن يقول كاستيلائنا بل لا بد أن يقول : هو استيلاء لائق به عز وجل فليقل من أول الأمر هو استواء لائق به جل وعلا.
وقد اختار ذلك السادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم وهو أعلم وأسلم وأحكم خلافا لبعضهم. ولعل لنا عودة إلى هذا البحث إن شاء الله تعالى : يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أي يغطي سبحانه النهار بالليل ، ولما كان المغطى يجتمع مع المغطي وجودا وذلك لا يتصور هنا قالوا : المعنى يلبسه مكانه فيصير الجو مظلما بعد ما كان مضيئا فيكون التجوز في الإسناد بإسناد ما لمكان الشيء إليه ومكانه هو الجو على معنى أنه مكان للضوء الذي هو لازمه لا أنه مكان لنفس النهار لأن الزمان لا مكان له وجوز أن يكون هناك استعارة بأن يجعل غشيان مكان النهار وإظلامه بمنزلة غشيانه للنهار نفسه فكأنه لف عليه لف الغشاء أو يشبه تغييبه له بطريانه عليه بستر اللباس لملابسة. وجوز أن يكون المعنى يغطي سبحانه الليل بالنهار.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 376
ورجح الوجه الأول بأن التغشية بمعنى الستر وهي أنسب بالليل من النهار. وبأنه يلزم على الثاني أن يكون الليل مفعولا ثانيا والنهار مفعولا أولا. وقد ذكر أبو حيان أن المفعولين إذا تعدى إليهما فعل وأحدهما فاعل من حيث المعنى يلزم أن يكون هو الأول منهما عندهم كما لزم ذلك في ملكت زيدا عمرا ، ورتبة التقديم هي الموضحة لأنه الفاعل معنى كما لزم في ضرب موسى عيسى بخلاف أعطيت زيدا درهما فإن تعين المفعول الأول لا يتوقف على التقديم. ورجح الثاني بأن حميد بن قيس قرأ «يغشى الليل النهار» بفتح الياء ونصب «الليل» ورفع «النهار» ، ويلزم عليها أن يكون الطالب النهار والليل ملحق به. وتوافق القراءتين أولى من تخالفهما.
وبأن قوله تعالى : وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس : 37] يعلم منه - على ما قال المرزوقي - أن الليل قبل النهار لأن المسلوخ منه يكون قبل المسلوخ فالنهار بالإدراك أولي ، وبأن قوله سبحانه : يَطْلُبُهُ حَثِيثاً أي محمولا على السرعة ففعيل بمعنى مفعول أوفق بهذا الوجه فإن هذا الطلب من النهار أظهر ، وقد قالوا : إن ضوء النهار هو الهاجم على ظلمة الليل. وأنشد بعضهم :
كأنا وضوء الصبح يستعجل الدجى نطير غرابا ذا قوادم جون
ولبعض المتأخرين من أبيات :
وكأن الشرق باب للدجى ماله خوف هجوم الصبح فتح
وحديث أن التغشية أنسب بالليل قيل. مسلم لو كان المراد بالتغشية حقيقتها لكن ليس المراد ذلك بل المراد اللحوق والإدراك وهذا أنسب بالنهار كما علمت. والقاعدة المذكورة لا تخلو عن كلام. على أنه لا يبعد على ما نقرر أن يكون الكلام من قبيل أعطيت زيدا درهما. والقول بأن معنى الآية أنه سبحانه يجعل الليل أغشى بالنهار أي مبيضا بنور الفجر بناء على ما في الصحاح من أن الأغشى من الخيل وغيره ما ابيض رأسه كله من بين جسده كالأرخم مما لا يكاد يقدم عليه ، وذكر سبحانه أحد الأمرين ولم يذكرهما معا كما في قوله تعالى : يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ [الحج : 61 ، لقمان : 29 ، فاطر : 13 ، الحديد : 6] للعلم بالآخر من المذكور لأنه يشير إليه أو لأن اللفظ يحتمله - على ما قيل ، وقال بعض المحققين : إن الليل والنهار بمعنى كل ليل ونهار وهو بتعاقب الأمثال مستمر الاستبدال فيدل على تغيير كل منهما بالآخر بأخصر عبارة من غير تكلف ومخالفة لما اشتهر من قواعد العربية.
وجملة يُغْشِي - على ما قاله ابن جني - على قراءة حميد حال من الضمير في قوله سبحانه : ثُمَّ اسْتَوى والعائد محذوف أي يغشى الليل النهار بأمره أو بإذنه ، وقوله جل وعلا : يَطْلُبُهُ حَثِيثاً بدل من يُغْشِي إلخ للتوكيد. وعلى قراءة الجماعة حال من اللَّيْلَ أي يغشى الليل النهار طالبا له حثيثا ، وحَثِيثاً حال من الضمير في يَطْلُبُهُ وجوز غيره أن تكون الجملة حالا من النَّهارَ على تقدير قراءة حميد أيضا.
وجوز أبو البقاء الاستئناف في الجملة الأولى. وقال بعضهم : يجوز في حَثِيثاً أن يكون حالا من الفاعل بمعنى حاثا أو من المفعول أي محثوثا ، وأن يكون صفة مصدر محذوف أي طلبا حثيثا ، وإنما وصف الطلب بذلك لأن تعاقب الليل والنهار - على ما قال الإمام وغيره - إنما يحصل بحركة الفلك الأعظم وهي أشد الحركات سرعة فإن الإنسان إذا كان في أشد عدوة بمقدار رفع رجله ووضعها يتحرك الفلك ثلاثة آلاف ميل وهي ألف فرسخ. واعترض بأن الفلك الأعظم إن كان هو العرش كما قالوا فحركته غير مسلمة عند جمهور المحدثين بل هم لا يسلمون حركة شيء من سائر الأفلاك أيضا وهو الكرسي والسماوات السبع بل ادعوا أن النجوم بأيدي ملائكة تسير بها حيث شاء الله تعالى

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 377
وكيف شاء ، وقال الشيخ الأكبر قدس سره. إنها تجري في ثخن الأفلاك جري السمك في الماء كل في فلك يسبحون ، وفسر - فيما نقل عنه - قوله سبحانه : يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ بيجعله غاشيا له غشيان الرجل المرأة وقال :
ذكر سبحانه الغشيان هنا والإيلاج في آية أخرى وهذا هو التناكح المعنوي وجعله ساريا في جميع الموجودات ، وإن صح هذا فما أصح قولهم : الليلة حبلى وما ألطفه ، وأمر الحث عليه ظاهر لمن ذاق عسيلة النكاح. والحاصل من هذا الغشيان عند من يقول به ما في هذا العالم من معدن وثبات وحيوان وهي المواليد الثلاث أو من الحوادث مطلقا ، ويقرب من هذا قوله :
أشاب الصغير وأفنى الكبير كر الغداة ومر العشى
وأنت تعلم أن لا مؤثر في الوجود على الحقيقة إلا الله تعالى ، ووجه ذكره سبحانه هذا بعد ذكره الاستواء - على ما نقل عن القفال - إنه جل شأنه لما أخبر العباد باستوائه أخبر عن استمرار أمور المخلوقات على وفق مشيئته وأراهم ذلك فيما يشاهدونه لينضم العيان إلى الخبر وتزول الشبهة من كل الجهات ، ولا يخفى أن هذا قد يحسن وجها لذكر ذلك وما بعده بعد ذكر الاستواء وأما لذكره بخصوصه هناك دون تسخير الشمس والقمر فلا ، وذكر صاحب الكشف في توجيه اختيار صاحب الكشاف هنا أن الغاشي هو النهار وفي الرعد هو الليل ، وتفسيره التغشية هناك بالإلباس وهنا بالإلحاق نظرا إلى الخلاصة ما يفهم منه وجه تقديم التغشية على التسخير الآتي في هذه الآية وعكسه في آية الرعد حيث قال : والنكتة في ذلك أن تسخير الشمس والقمر ذكر هنالك من قبل في تعديد الآيات فلما فرغ ذكر إدخال الليل على النهار ليطابقه ولأنه أظهر في الآية وأن الشمس مسخرة مأمورة وهاهنا جاء به على أسلوب آخر تمهيدا لقوله سبحانه : ادْعُوا رَبَّكُمْ أي من هذه ألطافه وآياته في شأنكم فرجح جانب اللفظ على الأصل ، وللجمع بين القراءتين أيضا اه فتدبر ولا تغفل.
وقرىء «يغشّى» بالتشديد للدلالة على التكرار وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أي خلقهن حال كونهن مذللات تابعات لتصرفه سبحانه فيهن بما شاء غير ممتنعات عليه جل شأنه كأنهن مميزات أمرن فانقدن فتسمية ذلك أمرا على سبيل التشبيه والاستعارة ، ويصح حمل الأمر على الإرادة كما قيل أي هذه الأجرام العظيمة والمخلوقات البديعة منقادة لإرادته. ومنهم من حمل الأمر على الأمر الكلامي وقال : إنه سبحانه أمر هذه الأجرام بالسير الدائم والحركة المستمرة على الوجه المخصص إلى حيث شاء. ولا مانع من أن يعطيها الله تعالى إدراكا وفهما لذلك بل ادعى بعضهم أنها مدركة مطلقا ، وفي بعض الأخبار ما يدل على أن لبعضها إدراكا لغير ما ذكر ، وإفراد الشمس والقمر بالذكر مع دخولهما في النجوم لإظهار شرفهما عليها لما فيهما من مزيد الإشراق والنور وبسيرهما في المنازل تعرف الأوقات. وقدم الشمس على القمر رعاية للمطابقة مع ما تقدم وهي من البديع ولأنها أسنى من القمر وأسمى مكانة ومكانا بناء على ما قيل من أنها في السماء الرابعة وأنه في السماء الأولى ، وليس بمسلم عند المحدثين كالقول بأن نوره مستفاد من نورها لاختلاف تشكلاته على أنحاء متفاوتة بحسب وضعه من الشمس في القرب والبعد عنها مع ما يلحقه من الخسوف لا لاختلاف التشكلات وحده فإنه لا يوجب الحكم بأن نور القمر مستفاد من الشمس قطعا لجواز أن يكون نصفه مضيئا من ذاته ونصفه مظلما ويدور على نفسه بحركة مساوية لحركة فلكه فإذا تحرك بعد المحاق يسيرا رأيناه هلالا ويزداد فنراه بدرا ثم يميل نصفه المظلم شيئا فشيئا إلى أن يؤول إلى المحاق. وفي كونها مسخرات دلالة على أنها لا تأثير لها بنفسها في شيء أصلا. وقرأ جميعها ابن عامر بالرفع على الابتداء والخبر.
والنصب بالعطف على السَّماواتِ والحالية كما أشرنا إليه ، وجوز تقدير جعل وجعل الشَّمْسَ مفعولا أولا.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 378
مُسَخَّراتٍ مفعولا ثانيا أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ كالتذييل للكلام السابق أي إنه تعالى هو الذي خلق الأشياء ويدخل في ذلك السماوات والأرض دخولا أوليا وهو الذي دبرها وصرفها على حسب إرادته ويدخل في ذلك ما أشير إليه بقوله سبحانه : مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ لا أحد غيره كما يؤذن به تقديم الظرف.
وفسر بعضهم الأمر هنا بالإرادة أيضا ، وفسر آخرون الأمر بما هو مقابل النهي والخلق بالمخلوق أي له تعالى المخلوقون لأنه خلقهم وله أن يأمرهم بما أراد واستخرج سفيان بن عيينة من هذا أن كلام الله تعالى شأنه ليس بمخلوق فقال : إن الله تعالى فرّق بين الخلق والأمر فمن جمع بينهما فقد كفر يعني من جعل الأمر الذي هو كلامه سبحانه من جملة من خلقه فقد كفر لأن المخلوق لا يقوم إلا بمخلوق مثله كذا في تفسير الخازن وليس بشيء كما لا يخفى.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان أن الخلق ما دون العرش والأمر ما فوق ذلك ، وشاع عند بعضهم إطلاق عالم الأمر على عالم المجردات تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ.
ففي ذلك إشارة إلى أنهما طبق الحكمة وفي غاية الكمال ولا يقال ذلك في غيره تعالى بل هو صفة خاصة به سبحانه في القاموس. وقال الإمام : إن البركة لها تفسيران : أحدهما البقاء والثبات ، والثاني كثرة الآثار الفاضلة. فإن حملته على الأول فالثابت الدائم هو الله تعالى ، وإن حملته على الثاني فكل الخيرات والكمالات من الله تعالى فهذا الثناء لا يليق إلا بحضرته جل وعلا. واختار الزجاج أنه من البركة بمعنى الكثرة من كل خير ولم يجىء منه مضارع ولا أمر ولا اسم فاعل مثلا ، وقال البيضاوي : المعنى تعالى بالوحدانية والألوهية وتعظم بالتفرد بالربوبية ، وعلى هذا فهو ختام لوحظ فيه مطلعه ثم حقق الآية بما لا يخلو عن دغدغة ومخالفة لما عليه سلف الأمة. ثم إنه تعالى بعد أن بين التوحيد وأخبر أنه المتفرد بالخلق والأمر أمر عباده أن يدعوه مخلصين متذللين فقال عز من قائل : ادْعُوا رَبَّكُمْ الذي عرفتم شؤونه الجليلة والمراد من الدعاء - كما قال غير واحد - السؤال والطلب وهو مخ العبادة لأن الداعي لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف من نفسه الحاجة إلى غير ذلك المطلوب وأنه عاجز عن تحصيله وعرف أن ربه تبارك وتعالى يسمع الدعاء ويعلم الحاجة وهو قادر على إيصالها إليه. ولا شك أن معرفة العبد نفسه بالعجز والنقص ومعرفته ربه بالقدرة والكمال من أعظم العبادات.
وقيل : المراد منه هنا العبادة لأنه عطف عليه ادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً والمعطوف يجب أن يكون مغاير للمعطوف عليه وفيه نظر. أما أولا فلأن المغايرة تكفي باعتبار المتعلقات كما تقول ضربت زيدا وضربت عمرا.
وأما ثانيا فلأنها لا تستدعي حمل الدعاء هنا على العبادة بل حمله على ذلك إما هناك أو هنا وأما ثالثا فلأنه خلاف التفسير المأثور كما ستعلمه إن شاء الله تعالى تَضَرُّعاً أي ذوي تضرع أو متضرعين فنصبه على الحال من الفاعل بتقدير أو تأويل ، وجوز نصبه على المصدرية. وكذا الكلام فيما بعد وهو من الضراعة وهي الذل والاستكانة يقال ضرع فلان لفلان إذا ذل له واستكان ، وقال الزجاج : التضرع التملق وهو قريب مما قالوا أي ادعوه تذللا ، وقيل :
التضرع مقابل الخفية. واختاره أبو مسلم أي ادعوه علانية وَخُفْيَةً أي سرا.
أخرج ابن المبارك ، وابن جرير ، وأبو الشيخ عن الحسن قال : لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم وذلك أنه تعالى يقول : ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً وأنه سبحانه ذكر عبدا صالحا فرضي له فعله فقال تعالى : إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا [مريم : 3] وفي رواية عنه أنه قال :
بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا. وجاء من حديث أبي موسى الأشعري أنه صلّى اللّه عليه وسلّم قال لقوم يجهرون : «أيها

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 379
الناس اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا بصيرا وهو معكم وهو أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته»
والمعنى ارفقوا بأنفسكم واقصروا من الصياح في الدعاء.
ومن هنا قال جمع بكراهة رفع الصوت به. وفي الانتصاف حسبك في تعين الاسرار فيه اقترانه في الآية بالتضرع فالإخلال به كالإخلال بالضراعة إلى الله تعالى وإن دعاء لا تضرع فيه ولا خشوع لقليل الجدوى فكذلك دعاء لا خفية فيه ولا وقار بصحبه ، وترى كثيرا من أهل زمانك يعتمدون الصراخ في الدعاء خصوصا في الجوامع حتى يعظم اللغط ويشتد وتستك المسامع وتستد ولا يدرون أنهم جمعوا بين بدعتين رفع الصوت في الدعاء وكون ذلك في المسجد.
وروى ابن جرير عن ابن جريج أن رفع الصوت بالدعاء من الاعتداء المشار إليه بقوله سبحانه : إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وأخرج ابن أبي حاتم مثله عن زيد بن أسلم. وذهب بعضهم إلى أنه مما لا بأس به ، ودعاء المعتدين الذي لا يحبه الله تعالى هو طلب ما لا يليق بالداعي كرتبة الأنبياء عليهم السلام والصعود إلى السماء. وإن منه ما ذهب جمع إلى أنه كفر كطلب دخول إبليس وأبي جهل وأضرابهما الجنة وطلب نزول الوحي والتبني ونحو ذلك من المستحيلات لما فيه من طلب إكذاب الله تعالى نفسه. وأخرج أحمد في مسنده وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص قال : سمعت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : «سيكون قوم يعتدون في الدعاء وحسب المرء أن يقول اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ثم قرأ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ.
وفصل آخرون فقالوا : الإخفاء أفضل عند خوف الرياء والإظهار أفضل عند عدم خوفه ، وأولى منه القول بتقديم الإخفاء على الجهر فيما إذا خيف الرياء أو كان في الجهر تشويش على نحو مصل أو نائم أو قارئ أو مشتغل بعلم شرعي ، وبتقديم الجهر على الإخفاء فيما إذا خلا عن ذلك وكان فيه قصد تعليم جاهل أو نحو إزالة وحشة عن مستوحش أو طرد نحو نعاس أو كسل عن الداعي نفسه أو إدخال سرور على قلب مؤمن أو تنفير مبتدع عن بدعة أو نحو ذلك ، ومنه الجهر بالترضي عن الصحابة والدعاء لإمام المسلمين في الخطبة. وقد سن الشافعية الجهر بآمين بعد الفاتحة وهو دعاء ويجهر بها الإمام والمأمون عندهم.
وفرق بعضهم بين رفع الصوت جدا كما يفعله المؤذنون في الدعاء بالفرج على المآذن وبين رفعه بحيث يسمعه من عنده فقال : لا بأس في الثاني غالبا ولا كذلك الأول. والظاهر أن المراد بالمعتدين المجاوزون ما أمروا به في كل شيء ويدخل فيها المعتدون في الدعاء دخولا أوليا. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن المعنى في الآية ادعوا ربكم في كل حاجاتكم من أمر الدنيا والآخرة ولا تعتدوا فتدعوا على مؤمن ومؤمنة بشرّ كالخزي واللعن. وقد اختلف العلماء في كفر من دعا على آخر بسلب الإيمان أو الموت كافرا وهو من أعظم أنواع الاعتداء والمفتي به عدم الكفر. وذكروا للدعاء آدابا كثيرة ، منها الكون على طهارة واستقبال القبلة وتخلية القلب من الشواغل وافتتاحه واختتامه بالتصلية على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم. ورفع اليدين نحو السماء وإشراك المؤمنين فيه ، وتحري ساعات الإجابة ، ومنها يوم الجمعة عند كثير ساعة الخطبة ويدعو فيها بقلبه كما نص عليه أفضل متأخري مصره الفاضل الطحطاوي في حواشيه على الدر المختار فيما نقله عنه أفقه المعاصرين ابن عابدين الدمشقي. ووقت نزول الغيث والإفطار وثلث الليل الأخير وبعد ختم القرآن ، وغير ذلك مما هو مبسوط في محله.
وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ نهي عن سائر أنواع الإفساد كإفساد النفوس ، والأموال ، والأنساب ، والعقول ،

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 380
والأديان بَعْدَ إِصْلاحِها أي إصلاح الله تعالى لها وخلقها على الوجه الملائم لمنافع الخلق ومصالح المكلفين وبعث فيها الأنبياء بما شرعه من الأحكام وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً أي ذوي خوف من الرد لقصوركم عن أهلية الإجابة وطمع في إجابته تفضلا منه ، وقيل : خوفا من عقابه وطمعا في جزيل ثوابه.
وقال ابن جريج : المعنى خوف العدل وطمع الفضل. وعن عطاء خوفا من الميزان وطمعا في الجنان. وأصل الخوف انزعاج القلب لعدم أمن الضرر ، وقيل : توقع مكروه يحصل فيما بعد ، والطمع توقع محبوب يحصل به ، ونصبهما على الحالية كما أشير إليه.
وجوز أن يكون على المفعولية لأجله. قيل : ولما كان الدعاء من الله تعالى بمكان كرره وقيده أولا بالأوصاف الظاهرة وآخرا بالأوصاف الباطنة ، وقيل : الأمر السابق من قبيل بيان شرط الدعاء والثاني من قبيل بيان فائدته ، وقيل : لا تكرار فما تقدم أمر بالدعاء بمعنى السؤال وهذا أمر بالدعاء بمعنى العبادة ، والمعنى اعبدوه جامعين في أنفسكم الخوف والرجاء في عبادتكم القلبية والقالبية وهو كما ترى ، ومن الناس من أبقى الدعاء على المعنى الظاهر وعمم في متعلق الخوف والطمع ، والمعنى عنده ادعوه وأنتم جامعون في أنفسكم الخوف والرجاء في أعمالكم كلها ، وليس بشيء والمختار عند جلة المفسرين ما تقدم.
إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ أعمالهم ، ومن الإحسان في الدعاء أن يكون مقرونا بالخوف والطمع ، وقد كثر الكلام في توجيه تذكير قَرِيبٌ مع أنه صفة مخبر بها عن المؤنث ، وقد نقل ابن هشام في ذلك وجوها ذاكرا ما لها وما عليها. الأول أن الرحمة في تقدير الزيادة والعرب قد تزيد المضاف قال سبحانه وتعالى : سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى : 1] أي سبح ربك ألا ترى أنه يقال في التسبيح سبحان ربي ولا يقال سبحان اسم ربي والتقدير إن الله تعالى قريب فالخبر في الحقيقة عن الاسم الأعظم ، وتعقبه بأن هذا لا يصح عند علماء البصرة لأن الأسماء لا تزاد في رأيهم وإنما تزاد الحروف ، ومعنى الآية عندهم نزه أسماء ربك عما لا يليق بها فلا تجر عليه سبحانه اسما لا يليق بكماله أو اسما غير مأذون فيه فلا زيادة ، والثاني أن ذلك على حذف مضاف أي إن مكان رحمة الله تعالى قريب فالإخبار إنما هو عن المكان وهو مذكر ، ونظير ذلك
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم مشيرا إلى الذهب والفضة «إن هذين حرام»
فإن الإخبار بالمفرد لأن التقدير أن استعمال هذين. وقول حسان :
يسقون من ورد البريص عليهم بردى يصفق بالرحيق السلسل
فإنه بتقدير ماء بردى فلذا قال : يصفق بالتذكير مع أن بردى مؤنث. وتعقب بأن هذا المضاف بعيد جدا لا قريب والأصل عدم الحذف والمعنى مع تركه أحسن منه مع وجوده. والثالث أنه على حذف الموصوف أي شيء قريب كما قال الشاعر :
قامت تبكيه على قبره من لي من بعدك يا عامر
تركتني في الدار ذا غربة قد ذل من ليس له ناصر
أي شخصا ذا غربة. وعلى ذلك يخرج قول سيبويه قولهم : امرأة حائض أي شخص ذو حيض. وقول الشاعر أيضا :
فلو أنك في يوم الرخاء سألتني طلاقك لم أبخل وأنت صديق
وتعقب بأنه أشد ضعفا من سابقه لأن تذكير صفة المؤنث باعتبار إجرائها على موصوف مذكر محذوف شاذ ينزع كلام الله تعالى عنه ، على أنه لا فصاحة في قولك : رحمة الله شيء قريب ولا لطافة بل هو عند ذي الذوق كلام

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 381
مستهجن ، ونحو حائض من الصفات المختصة لا يحتاج إلى العلامة لأنها لدفع اللبس ولا لبس مع الاختصاص وسيبويه وإن كان جوادا في مثل هذا المضمار إلا أن الجواد قد يكبو. وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك. ألا تراه كيف جوز في باب الصفة المشبهة مررت برجل حسن وجهه بإضافة حسن إلى الوجه وإضافة الوجه إلى ضمير الرجل وخالفه في ذلك جميع البصريين والكوفيين لأنه قد أضاف الشيء إلى نفسه وقد علمت أيضا أن الأصل عدم الحذف. الرابع أن العرب تعطي المضاف حكم المضاف إليه في التذكير والتأنيث إذا صح الاستغناء عنه وهو أمر مشهور فالرحمة لإضافتها إلى الاسم الجليل قد اكتسبت ما صحح الأخبار عنها بالمذكر. وتعقبه أبو علي الفارسي في تعاليقه على الكتاب بأن هذا التقدير والتأويل في القرآن بعيد فاسد وإنما يجوز هذا في ضرورة الشعر. وقال الروذراوري : أن اكتساب التأنيث في المؤنث قد صح بكلام من يوثق به. وأما العكس فيحتاج إلى الشواهد. ومن ادعى الجواز فعليه البيان.
الخامس أن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث كرجل جريح وامرأة جريح. وتعقب بأنه خطأ فاحش لأن فعيلا هنا بمعنى فاعل. واعترض أيضا بأن هذا لا ينقاس خصوصا من غير الثاني. السادس أن فعيلا بمعنى فاعل قد يشبه بفعيل بمعنى مفعول فيمنع من التاء في المؤنث كما قد يشبهون فعيلا بمعنى مفعول بفعيل بمعنى فاعل فيلحقونه التاء.
فالأول كقوله تعالى : مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس : 78] ومنه الآية الكريمة. والثاني كقولهم : خصلة ذميمة ، وصفة حميدة حملا على قولهم : قبيحة وجميلة ولم يتعقب هذا بشيء. وتعقبه الروذراوري بأنه مجرد دعوى لا دليل عليه وإن قاله النحويون. ويرد عليه أن أحد الفعلين مشتق من لازم والآخر من متعد فلو أجري على أحدهما حكم الآخر لبطل الفرق بين المتعدي واللازم إن كان على وجه العموم وإن كان على وجه الخصوص فأين الدليل عليه. وفيه نظر.
السابع أن العرب قد تخبر عن المضاف إليه وتترك المضاف كقوله تعالى : فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ [الشعراء :
4] فإن خاضِعِينَ خبر عن الضمير المضاف إليه الأعناق لا عن الأعناق. ألا ترى أنك إذا قلت : الأعناق خاضعون لا يجوز لأن الجمع المذكر السالم إنما يكون من صفات العقلاء فلا يقال أيد طويلون ولا كلاب نابحون. وتعقب بأنه لعل هذا راجع إلى القول بالزيادة وقد علمت ما فيه. وقد قيل : إن المراد بالأعناق الرؤساء والمعظمون. وقيل : الجماعة كما يقال : جاء زيد في عنق من الناس أي في جماعة. وقال الروذراوري : إنه لو ساغ الإعراض عن المضاف والحكم على المضاف إليه لساغ أن يقال : كان صاحب الدرع سابغة. ومالك الدار متسعة وليس فليس. الثامن أن الرحمة والرحم متقاربان لفظا وهو واضح المعنى بدليل النقل عن أئمة اللغة فأعطى أحدهما حكم الآخر. وتعقب بأنه ليس بشيء ، لأن الوعظ والموعظة تتقارب أيضا فينبغي أن يجيز هذا القائل أن يقال : موعظة نافع ، وعظة حسن. وكذلك الذكر والذكرى فينبغي أن يقال : ذكرى نافع كما يقال : ذكر نافع. التاسع أن فعيلا هنا بمعنى النسب فقريب معناه ذات قرب كما يقول الخليل في حائض : إنه بمعنى ذات حيض. وتعقب بأنه باطل لأن اشتمال الصفات على معنى النسب مقصور على أوزان خاصة. وهي فعال ، وفعل ، وفاعل.
العاشر : ما قاله الروذراوري : أن فعيلا مطلقا يشترك فيه المؤنث والمذكر. وتعقب بأنه من أفسد ما قيل لأنه خلاف الواقع من كلام العرب فإنهم يقولون : امرأة ظريفة ، وعليمة ، وحليمة ، ورحيمة. ولا يجوز التذكير في شيء من ذلك. ولهذا قال أبو عثمان المازني في قوله تعالى : وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [مريم : 28] أن بَغِيًّا فعول والأصل بغوي ثم قلبت الواو ياء والضمة كسرة وأدغمت الياء في الياء ، وأما قوله :
فتور القيام قطيع الكلام تفتر عن در عروب حصر
فالجواب عنه من أوجه : أحدها أنه نادر. الثاني أن أصله قطيعة ثم حذف التاء للإضافة كقوله تعالى : وَأَقامَ

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 382
الصَّلاةَ
[الأنبياء : 73 ، النور : 37] والإضافة مجوزة لحذف التاء كما توجب حذف النون والتنوين. وقد نص على ذلك غير واحد من القراء. الثالث أنه إنما جاز ذلك لمناسبة فتور لأنه فعول. وهو يستوي فيه المذكر والمؤنث. الحادي عشر أنهم يقولون في قرب النسب : قريب وإن أجري على مؤنث نحو فلانة قريب مني ويفرقون بينه وبين قرب المسافة. وتعقب بأنه مبني على أن يقال في القرب النسبي : فلان قرابتي. وقد نص جمع على أن ذلك خطأ وأن الصواب أن يقال فلان ذو قرابتي كما قال :
يبكي الغريب عليه ليس يعرفه وذو قرابته في الحيّ مسرور
الثاني عشر : من تأويل المؤنث بمذكر موافق له في المعنى. واختلف القائلون بذلك فمنهم من يقدر أن إحسان الله قريب ، ومنهم من يقدر لطف الله قريب. ومن ذلك قوله :
أرى رجلا منهم أسيفا كأنما يضم إلى كشحيه كفا مخضبا
فأول الكف على معنى العضو. وتعقب بأنه باطل لأن ذلك إنما يقع في الشعر. وقد تقدم أنه لا يقال : موعظة حسن مع أن الموعظة بمنزلة الوعظ في المعنى ويقاربه في اللفظ أيضا. وأما البيت فنص النحاة على أنه ضرورة وما هذه سبيله لا يخرج عليه كلام الله سبحانه وتعالى ، على أن بعضهم قال : إن الكف قد يذكّر.
الثالث عشر : أن المراد بالرحمة هنا المطر - ونقل ذلك عن الأخفش - والمطر مذكر. وأيد بأن الرحمة فيما بعد بمعنى المطر. واعترض عليه من أوجه ، أحدها أنه لو كانت الرحمة الثانية هي الرحمة الأولى لم تذكر ظاهرة على ما هو الظاهر إذ الموضع للضمير. ثانيها أنه إذا أمكن الحمل على العام لا يعدل إلى الخاص ولا ضرورة هنا إلى الحمل كما لا يخفى ، ثالثها أن الرحمة التي هي المطر لا تختص بالمحسنين لأن الله سبحانه يرزق الطائع والعاصي. وإنما المختص في عرف الشرع هو الرحمة التي هي الغفران والتجاوز والثواب.
والجواب عن هذا بأنه كما جاز تخصيص الخطاب بالرحمة بالمعنى الشرعي بالمحسنين على سبيل الترغيب كذلك يجوز تخصيص المطر الذي هو سبب الأرزاق بهم ترغيبا في الإحسان ليس بشيء عندي. رابعها أنك لو قلت :
مطر الله قريب لوجدت هذه الإضافة مما تمجها الأسماع وتنبو عنها الطباع بخلاف إن رحمة الله فدل على أنه ليس بمنزلته في المعنى.
وأجيب عنه بأن مجموع رَحْمَةِ اللَّهِ استعمل مرادا به المطر ، وبأن الإضافة في مطر الله إنما لم تحسن للعلم بالاختصاص ولا كذلك رحمة الله تعالى ، وهذا كما يحسن أن يقال : كلام الله تعالى ولا يحسن أن يقال : قرآن الله سبحانه ، والإنصاف أن هذا القول ليس بشيء كما لا يخفى على ذي ذهن طري. وقال ابن هشام : لا بعد في أن يقال : إن التذكير في الآية الكريمة لمجموع أمور من الأمور المذكورة. واختار أنه لما كان المضاف يكتسب من المضاف إليه التذكير وكانت الرحمة مقاربة للرحم في اللفظ وكان قريب على صيغة فعيل وفعيل الذي بمعنى فاعل قد يحمل على فعيل بمعنى مفعول جاء التذكير. وادعى أنه لا يناقض ما قدمه من الاعتراضات لأنه لا يلزم من انتفاء اعتبار شيء من هذه الأمور مستقلا انتفاء اعتباره مع غيره اه. ولا يخلو عن حسن سوى أنه إذا أخذ في المجموع كون الرحمة بمعنى المطر يفسد الزرع ، وقد جرى في هذه الآية بحث طويل بين ابن مالك والروذراوري وفي كلام كل حق وصواب ، وفي نقل ذلك ما يورث السآمة. وأجاب الجوهري بأن الرحمة مصدر والمصادر لا تجمع ولا تؤنث وهو كما ترى.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 383
وقيل : التذكير لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي ولا يخفى بعده لأن المتضمن لضمير المؤنث ولو كان غير حقيقي لم يحسن تذكيره على المشهور ، وقيل : إن فعيلا هنا محمول على فعيل الوارد في المصادر فإنه للمؤنث والمذكر كفعيل بمعنى مفعول كالنقيض بالنون والقاف والضاد المعجمة وهو صوت الرجل ونحوه والضغيب بالضاد والغين المعجمة والياء المثناة من تحت والباء الموحدة صوت الأرنب. وأنت تعلم أن حمله على فعيل بمعنى مفعول أولى من هذا الحمل وهو الذي أميل إليه ، نعم ربما يدعي أن في ذلك إشارة ما إلى مزيد قرب الرحمة لكنه بعيد جدا وقد لا يسلم. والذي اختاره أن فعيلا هنا بمعنى فاعل لا بمعنى مفعول كما زعم الكرماني لما مرت الإشارة إليه ، ولأن الرحمة صفة ذات عند جمع وصفات الذات سواء قلنا بعينيتها أو بغيريتها أو بأنها لا ولا لا يحسن الإخبار عنها بأنها مقربة ، وذلك على القولين الأخيرين ظاهر وعلى الأول أظهر ، والقول بأن في ذلك ترغيبا في الإحسان حيث أشير إلى أنه كالفاعل وقد أثر فيما لا يقبل التأثر مما لا يكاد يسلم ، وأنه قد حمل على فعيل بمعنى مفعول كما حمل على ذلك في خصوصية قريب في قول جرير :
أتنفعك الحياة وأم عمرو قريب لا تزور ولا تزار
وإنما لم يقل قريبة على الأصل للإشارة لأرباب الأذهان السليم إلى أنها قريبة جدا من المحسنين كما لا يخفى على المتأمل. واختار بعضهم تفسير الرحمة هنا بالإحسان لمكان المحسنين وهَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ [الرحمن : 60] ولعله يعتبر شاملا للإحسان الدنيوي والأخروي. ووجه القرب - على ما قيل - وجود الأهلية بحسب الحكمة مع ارتفاع الموانع بالكلية. وفسرها ابن جبير بالثواب ، والمتبادر منه الإحسان الأخروي.
ووجه القرب عليه بأن الإنسان في كل ساعة من الساعات في إدبار عن الدنيا وإقبال على الآخرة ، وإذا كان كذلك كان الموت أقرب إليه من الحياة فلا يكون بين المحسن والثواب في الآخرة إلا الموت وكل آت قريب.
وجعل الزمخشري الآية من قبيل قوله تعالى : وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ [طه : 82] إلخ أي علق فيها الرحمة بإحسان الأعمال كما علق الغفران فيه بالتوبة والإيمان والعمل الصالح فكأن «من تاب وآمن» إلخ تفسير للمحسنين وهو إشارة إلى ما يزعمه قومه من أن الآية تدل على أن صاحب الكبيرة لا يخلص من النار لأنه ليس من المحسنين والتخليص من النار بعد الدخول فيها رحمة.
وأجيب بأن صاحب الكبيرة مؤمن بالله تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم ومن يكون كذلك فهو محسن بدليل أن الصبي إذا بلغ ضحى وآمن ومات قبل الظهر فقد اجتمعت الأمة على أنه داخل تحت قوله تعالى : لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى [يونس : 26] فهو محسن بمجرد الإيمان ، والقول بأن المحسنين هم الذين أتوا بجميع أنواع الإحسان على ما يؤذن به الآية الممثل بها أول البحث أول المسألة. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس أنه فسر الْمُحْسِنِينَ بالمؤمنين.
وعن بعضهم تفسيره بالداعين خوفا وطمعا لقرينة السباق على ذلك ونظر فيه وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ عطف على الجملة السابقة أو على حديث خلق السماوات والأرض. وقرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي ، «الريح» على الوحدة وهو متحمل لمعنى الجنسية فيطلق على الكثير. وخبر «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا»
مخرج على قراءة الأكثرين بُشْراً بضم الموحدة وسكون الشين مخفف بُشْراً بضمتين جمع بشيء كنذر ونذير أي مبشرات وهي قراءة عاصم. وروي عنه أيضا «بشرا» على الأصل. وقرىء بفتح الباء على أنه مصدر بشره بالتخفيف بمعنى بشره المشدد. والمراد باشرات أو للبشارة. وقرىء «بشرى» كحبلى وهو مصدر أيضا من البشارة. وقرأ أهل

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 384
المدينة والبصرة «نشرا» بضم النون والشين جمع نشور بفتح النون بمعنى ناشر ، وفعول بمعنى فاعل يطرد جمعه كذلك كصبور وصبر ، ولم يجعل جمع ناشر كبازل وبزل لأن جمع فاعل على فعل شاذ.
واختلف في معنى ناشر ففي الحواشي الشهابية قيل : هو على النسب إما إلى النشر ضد الطي وإما إلى النشور بمعنى الإحياء لأن الريح توصف بالموت والحياة كقوله :
إني لأرجو أن تموت الريح فأقعد اليوم وأستريح
كما يصفها المتأخرون بالعلة والمرض. ومما يحكي النسيم من ذلك قول بعضهم في شدة الحر :
أظن نسيم الروض مات لأنه له زمن في الروض وهو عليل
وقيل : هو فاعل من نشر مطاوع أنشر الله تعالى الميت فنشر وهو ناشر كقوله :
حتى يقول الناس مما رأوا يا عجبا للميت الناشر
قيل : ناشر بمعنى أي محيي ، وقيل : فعول هنا بمعنى مفعول كرسول ورسل وقد جوز ذلك أبو البقاء إلا أنه نادر مفرده وجمعه. وقرأ ابن عامر «نشرا» بضم النون وسكون الشين حيث وقع. والتخفيف في فعل مطرد ، وقرأ حمزة ، والكسائي «نشرا» بفتح النون حيث وقع على أنه مصدر في موقع الحال بمعنى ناشرات أو مفعول مطلق فإن الإرسال والنشر متقاربان بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي قدام رحمته وهو من المجاز كما نقل عن أبي بكر الأنباري ، والمراد بالرحمة كما ذهب إليه غالب المفسرين المطر. وسمي رحمة لما يترتب عليه بحسب جري العادة من المنافع. ولا يخفى أن الرحمة في المشهور عامة فإطلاقها على ذلك إن كان من حيث خصوصه مجاز لكونه استعمال اللفظ في غير ما وضع له إذا اللفظ لم يوضع لذلك الخاص بخصوصه وإن كان إطلاقها عليه لا بخصوصه بل باعتبار عمومه.
وكونه فردا من أفراد ذلك العام فهو حقيقة لأنه استعمال اللفظ فيما وضع له على ما بين في شرح التلخيص وغيره.
وادعى الشهاب إثبات بعض أهل اللغة كون المطر من معاني الرحمة ، وقول ابن هشام في رسالته التي ألفها في بيان وجه تذكير «قريب» المار عن قريب. إنا لا نجد أهل اللغة حيث يتكلمون على الرحمة يقولون : ومن معانيها المطر فلو كانت موضوعة له لذكروه قصارى ما فيه عدم الوجدان وهو لا يستدعي عدم الوجود ، ومما اشتهر أن المثبت مقدم على النافي ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ، والمقام ظاهر في إرادة هذا المعنى ، وبيان كون الرياح مرسلة أمام ذلك ما قيل : إن الصبا تثير السحاب والشمال تجمعه والجنوب تدره والدبور تفرقه وهذه أحد أنواع الريح المشهورة عند العرب ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن الرياح ثمانية : أربع منها عذاب وهي القاصف ، والعاصف ، والصرصر ، والعقيم وأربع منها رحمة وهي الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات.
والريح من أعظم منن الله تعالى على عباده ، وعن كعب الأحبار لو حبس الله تعالى الريح عن عباده ثلاثة أيام لأنتن أكثر أهل الأرض ، وفي بعض الآثار أن الله تعالى خلق العالم وملأه هواء ولو أمسك الهواء ساعة لأنتن ما بين السماء والأرض ،
وذكر غير واحد من العلماء أنه يكره سب الريح ،
فقد روى الشافعي عن أبي هريرة قال : أخذت الناس ريح بطريق مكة وعمر رضي الله تعالى عنه حاج فاشتدت فقال عمر لمن حوله : ما بلغكم في الريح؟ فلم يرجعوا إليه شيئا وبلغني الذي سأل عمر عنه من أمر الريح فاستحثثت راحلتي حتى أدركت عمر وكنت مؤخر الناس فقلت : يا أمير المؤمنين أخبرت أنك سألت عن الريح فإني سمعت رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : «الريح من روح الله تعالى تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب فإذا رأيتموها فلا تسبوها واسألوا الله تعالى من خيرها واستعيذوا بالله سبحانه من شرها»
ولا منافاة بين

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 385
الآية وهذا الخبر إذ ليس فيها أنه سبحانه لا يرسلها إلا بين يدي الرحمة ولئن سلم فهو خارج مجرى الغالب فإن العذاب بالريح نادر ، وقيل : ما في الخبر إنما هو الإيتاء بالرحمة والإيتاء بالعذاب لا الإرسال بين يدي كل حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ غاية لقوله سبحانه يُرْسِلُ والإقلال - كما في مجمع البيان - حمل الشيء بأسره واشتقاقه من القلة وحقيقة أقله - كما قال بعض المحققين - جعله قليلا أو وجده قليلا ، والمراد ظنه كذلك كأكذبه إذا جعله كاذبا في زعمه ثم استعمل بمعنى حمله لأن الحامل يستقل ما يحمله أي يعده قليلا ، ومن ذلك قولهم : جهد المقل أي الحامل سَحاباً أي غيما سمي بذلك لانسحابه في الهواء وهو اسم جنس جمعي يفرق بينه وبين واحدة بالتاء كتمر وتمرة وهو يذكر ويؤنث ويفرد وصفه ويجمع.
وأهل اللغة كالجوهري وغيره تسميه جمعا فلذا روعي فيه الوجهان في وصفه وضميره ، وجاء في الجمع سحب وسحائب ثِقالًا من الثقل كعنب ضد الخفة يقال : ثقل ككرم ثقلا وثقالة فهو ثقيل ، وثقل السحاب بما فيه من الماء سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ أي لأجله ومنفعته أو لإحيائه أو لسقيه كما قيل.
وفي البحر أن اللام للتبليغ كما في قلت لك ، وفرق بين سقت لك مالا وسقت لأجلك مالا بأن الأول معناه أوصلت لك ذلك وأبلغتكه. والثاني لا يلزم منه وصوله إليه ، والبلد - كما قال الليث - كل موضع من الأرض عامر أو غير عامر خال أو مسكون والطائفة منه بلدة والجمع بلاد ، وتطلق البلدة على المفازة ومنه قول الأعشى :
وبلدة مثل ظهر الترس موحشة للجن بالليل في حافاتها زجل
فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ أي بالبلد أو السحاب كما قال الزجاج وابن الأنباري أو بالسوق أو الرياح كما قيل ، والتذكير بتأويل المذكور. وكذلك قوله تعالى : فَأَخْرَجْنا بِهِ ويحتمل أن يعود الضمير إلى الماء وهو الظاهر لقربه لفظا ومعنى ، ومطابقة النظائر وانفكاك الضمائر لا بأس به إذا قام الدليل عليه وحسن الملاءمة.
وإذا كان للبلد فالباء للظرفية في الثاني وللإلصاق في الأول لأن الإنزال ليس في البلد بل المنزل ، وجوز الظرفية أيضا كما في رميت الصيد في الحرم على ما علمت فيما مر ، وإذا كان لغيره فهي للسببية وتشمل القريبة والبعيدة.
مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي من كل أنواعها لأن الاستغراق غير مراد ولا واقع ، وهذا أبلغ في إظهار القدرة المراد ، وقيل : إن الاستغراق عرفي والظاهر أن المراد التكثير ، وجوز بعضهم أن تكون مِنْ للتبعيض وأن تكون لتبيين الجنس كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى إشارة إلى إخراج الثمرات أو إلى إحياء البلد الميت أي كما نحييه بإحداث القوى النامية فيه وتطريتها بأنواع النبات والثمرات نخرج الموتى من الأرض ونحييها برد النفوس إلى مواد أبدانها بعد جمعها وتطريتها بالقوى والحواس كذا قالوا ، وهو إشارة - كما قيل - إلى طريقي القائلين بالمعاد الجسماني وهما إيجاد البدن بعد عدمه ثم إحياؤه وضم بعض أجزائه إلى بعض على النمط السابق بعد تفرقها ثم إحياؤه.
واستظهر الأول بأن المتبادر من الآية كون التشبيه بين الإخراجين من كتم العدم ، والثاني يحتاج إلى تمحل تقدير الإحياء واعتبار جمع الأجزاء مع أنه غير معتبر في جانب المشبه به ، وجوز أن يرجع ما في الشق الثاني من الإحياء برد النفوس إلخ إلى الأول ، وأنت تعلم أنه لا مانع من الإخراج من كتم العدم ، وأدلة استحالة ذلك مما لا تقوم على ساق وقدم إلا أن الأدلة النقلية على كل من الطريقين متجاذبة ، وإذا صح القول بالمعاد الجسماني فلا بأس بالقول بأي كان منهما ، وكون إخراج الثمرات من كتم العدم قد لا يسلم فإن لها أصلا في الجملة على أن إخراج الموتى عند القائلين بالطريق الأول إعادة وليس إخراج الثمرات كذلك إذ لم يكن لها وجود قبل ، نعم كون الأظهر أن التشبيه بين الإخراجين

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 386
مما لا مرية ، فيه ، وفي الخازن اختلفوا في وجه التشبيه فقيل : إن الله تعالى كما يخلق النبات بواسطة إنزال المطر كذلك يحي الموتى بواسطة إنزال المطر أيضا ، فقد روي عن أبي هريرة وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أن الناس إذا ماتوا في النفخة الأولى أمطر عليهم ماء من تحت العرش يدعى ماء الحياة أربعين سنة فينبتون كما ينبت الزرع من الماء. وفي رواية أربعين يوما فينبتون في قبورهم نبات الزرع حتى إذا استكملت أجسادهم تنفخ فيهم الروح ثم يلقى عليهم النوم فينامون في قبورهم فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية عاشوا ثم يحشرون في قبورهم ويجدون طعم النوم في رؤوسهم وأعينهم كما يجد النائم حين يستيقظ من نومه فعند ذلك يقولون : يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا؟ فيناديهم المنادي : هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [يس : 52].
وأخرج غير واحد عن مجاهد أنه إذا أراد الله تعالى أن يخرج الموتى أمطر السماء حتى تشقق عنهم الأرض ثم يرسل سبحانه الأرواح فتعود كل روح إلى جسدها ، فكذلك يحيي الله تعالى الموتى بالمطر كإحيائه الأرض.
وقيل : إنما وقع التشبيه بأصل الإحياء من غير اعتبار كيفية فيجب الإيمان به ولا يلزمنا البحث عن الكيفية ويفعل الله سبحانه ما يشاء لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فتعلمون أن من قدر على ذلك فهو قادر على هذا من غير شبهة. والأصل «تتذكرون» فطرحت إحدى التاءين ، والخطاب قيل : للنظار مطلقا ، وقيل : لمنكري البعث.
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ أي الأرض الكريمة التربة التي لا سبخة ولا حرة ، واستعمال البلد بمعنى القرية عرف طار ، ومن قبيل ذلك إطلاقه على مكة المكرمة يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ بمشيئته وتيسيره ، وهو في موضع الحال ، والمراد بذلك أن يكون حسنا وافيا غزير النفع لكونه واقعا في مقابلة قوله : وَالَّذِي خَبُثَ من البلاد كالسبخة والحرة لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً أي قليلا لا خير فيه ، ومن ذلك قوله :
لا تنجز الوعد إن وعدت وإن أعطيت أعطيت تافها نكدا
ونصبه على الحال أو على أنه صفة مصدر محذوف ، وأصل الكلام لا يخرج نباته فحذف المضاف إليه وأقيم المضاف مقامه فصار مرفوعا مستترا ، وجوز أن يكون الأصل ونبات الذي خبث ، والتعبير أولا بالطيب وثانيا بالذي خبث دون الخبيث للإيذان بأن أصل الأرض أن تكون طيبة منبتة وخلافه طار عارض. وقرىء «يخرج نباته» ببناء «يخرج» لما لم يسم فاعله ورفع «نبات» على النيابة عن الفاعل ، و«يخرج نباته» ببناء «يخرج» للفاعل من باب الإخراج ، ونصب «نباته» على المفعولية ، والفاعل ضمير البلد ، وقيل ضمير الله تعالى أو الماء ، وكذا قرىء في «يخرج» المنفي ونصب نَكِداً حينئذ على المفعولية. وقرأ أبو جعفر «نكدا» بفتحتين على زنة المصدر ، وهو نصب على الحال أو على المصدرية أي ذا نكد أو خروجا نكدا. وقرأ «نكدا» بالإسكان للتخفيف كنزه في قوله :
فقال لي قول ذي رأي ومقدرة مجرب عاقل نزه عن الريب
كَذلِكَ مثل ذلك التصريف البديع نُصَرِّفُ الْآياتِ أي نردد الآيات الدالة على القدرة الباهرة ونكررها. وأصل التصريف تبديل حال بحال ومنه تصريف الرياح لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ نعم الله تعالى ومنها تصريف الآيات وشكر ذلك بالتفكر فيها والاعتبار بها ، وخص الشاكرين لأنهم المنتفعون بذلك.
وقال الطيبي : ذكر لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ بعد لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ من باب الترقي لأن من تذكر آلاء الله تعالى عرف حق النعمة فشكر ، وهذا - كما قال غير واحد - مثل لمن ينجع فيه الوعظ والتنبيه من المكلفين ولمن لا يؤثر فيه شيء من ذلك.
أخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس أن قوله سبحانه وتعالى : وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ إلخ مثل ضربه الله تعالى

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 387
للمؤمنين يقول : هو طيب وعمله طيب والذي خبث إلخ مثل للكافر يقول : هو خبيث وعمله خبيث.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد أن هذا مثل ضربه الله تعالى لآدم عليه السلام وذريته كلهم إنما خلقوا من نفس واحدة فمنهم من آمن بالله تعالى وكتابه فطاب ومنهم من كفر بالله تعالى وكتابه فخبث.
أخرج أحمد ، والشيخان ، والنسائي عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم «مثل ما بعثني الله تعالى به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله تعالى بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا وأصاب منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله تعالى به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله تعالى الذي أرسلت به»
وإيثار خصوص التمثيل بالأرض الطيبة والخبيثة استطراد عقيب ذكر المطر وإنزاله بالبلد وموازنة بين الرحمتين كما في الكشف ، ولقربه من الاعتراض جيء بالواو في قوله سبحانه وتعالى :
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ وفيه إشارة إلى معنى ما
ورد في صحيح مسلم عن عياض المجاشعي رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم قال في خطبته عن الله عز وجل : «إني خلقت عبادي حنفاء كلهم وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم».
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم : «ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه»
ووجه الإشارة قد مرت الإشارة إليه ، ثم إنه سبحانه وتعالى عقب ذلك بما يحققه ويقرره من قصص الأمم الخالية والقرون الماضية. وفي ذلك أيضا تسلية لرسوله عليه الصلاة والسلام فقال جل شأنه :
لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ وهو جواب قسم محذوف أي والله لقد أرسلنا إلخ ، واطّرد استعمال هذه اللام مع قد في الماضي - على ما قال الزمخشري - وقل الاكتفاء بها وحدها نحو قوله :
حلفت لها بالله حلفة فاجر لناموا فما إن من حديث ولا صالي
والسر في ذلك أن الجملة القسمية لا تساق إلا تأكيدا للجملة المقسم عليها التي هي جوابها فكانت مظنة لتوقع المخاطب حصول المقسم عليه لأن القسم دل على الاهتمام فناسب ذلك إدخال قد ، ونقل عن النحاة أنهم قالوا : إذا كان جواب القسم ماضيا مثبتا متصرفا فإما أن يكون قريبا من الحال فيؤتى بقد وإلا أثبت باللام وحدها فجوزوا الوجهين باعتبارين ، ولم يؤت هنا بعاطف وأتي به في هود والمؤمنين. على ما قال الكرماني. لتقدم ذكر نوح صريحا في هود وضمنا في المؤمنين حيث ذكر فيها قبل عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
[المؤمنون : 22] وهو عليه السلام أول من صنعها بخلاف ما هنا. ونوح بن لمك بفتحتين. وقيل : بفتح فسكون ، وقيل : ملكان بميم مفتوحة ولام ساكنة ونون آخره. قيل : لامك كمهاجر بن متوشلخ بضم الميم وفتح التاء الفوقية والواو وسكون الشين المعجمة على وزن المفعول كما ضبطه غير واحد. وقيل : بفتح الميم وضم المثناة الفوقية المشددة وسكون الواو ولام مفتوحة وخاء معجمة - ابن - أخنوخ بهمزة مفتوحة أوله وخاء معجمة ساكنة ونون مضمومة وواو ساكنة وخاء أيضا ، ومعناه في تلك اللغة على ما قيل القراء. وقيل : خنوخ بإسقاط الهمزة. وهو إدريس عليه السلام. أخرج ابن إسحاق. وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : بعث نوح عليه السلام في الألف الثاني وإن آدم عليه السلام لم يمت حتى ولد له نوح في آخر الألف الأول. وأخرجا عن مقاتل وجوبير أن آدم عليه السلام حين كبر ودق عظمه قال : يا رب إلى متى أكد وأسعى؟ قال يا آدم حتى يولد لك ولد مختون فولد له نوح بعد عشر أبطن. وهو يومئذ ابن ألف سنة إلا ستين عاما. وبعث على ما روي عن ابن عباس على رأس أربعمائة سنة ، وقال مقاتل : وهو ابن مائة سنة. وقيل : وهو ابن

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 388
خمسين سنة. وقيل : وهو ابن مائتين وخمسين سنة ومكث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة. وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين فكان عمره ألفا وأربعمائة وخمسين سنة.
وبعث - كما روى ابن أبي حاتم وابن عساكر عن قتادة - من الجزيرة. وهو أول نبي عذب الله تعالى قومه. وقد لقي منهم ما لم يلقه نبي من الأنبياء عليهم السلام.
واختلف في عموم بعثته عليه السلام ابتداء مع الاتفاق على عمومها انتهاء حيث لم يبق بعد الطوفان سوى من كان معه في السفينة ، ولا يقدح القول بالعموم في كون ذلك من خواص نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم لأن ما هو من خواصه عليه الصلاة والسلام عموم البعثة لكافة الثقلين الجن والإنس. وذلك مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة فيكفر منكره بل وكذا الملائكة كما رجحه جمع محققون كالسبكي ومن تبعه وردوا على من خالف ذلك وصريح آية لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان : 1] إذ العالم ما سوى الله تعالى ، وخبر مسلم وأرسلت إلى الخلق كافة يؤيد ذلك بل قال البارزي :
إنه صلّى اللّه عليه وسلّم أرسل حتى للجمادات بعد جعلها مدركة.
وفائدة الإرسال للمعصوم وغير المكلف طلب إذعانهما لشرفه ودخولهما تحت دعوته واتباعه تشريفا على سائر المرسلين ولا كذلك بعثة نوح عليه السلام : والفرق مثل الصبح ظاهر. وهو - كما في القاموس - اسم أعجمي صرف لخفته ، وجاء عن ابن عباس ، وعكرمة ، وجوبير ، ومقاتل أنه عليه السلام إنما سمي نوحا لكثرة ما ناح على نفسه.
واختلف في سبب ذلك فقيل : هو دعوته على قومه بالهلاك. قيل مراجعته ربه في شأن ابنه كنعان : وقيل : إنه مر بكلب مجذوم فقال له : اخسأ يا قبيح. فأوحى الله إليه أعبتني أم عبت الكلب. وقيل : هو إصرار قومه على الكفر فكان كلما دعاهم وأعرضوا بكى وناح عليهم. قيل : وكان اسمه قبل السكن لسكون الناس إليه بعد آدم عليه السلام. وقيل : عبد الجبار ، وأنا لا أعول على شيء من هذه الأخبار والمعول عليه عندي ما هو الظاهر من أنه اسم وضع له حين ولد ، وليس مشتقا من النياحة. وأنه كما قال صاحب القاموس فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي وحده ، وترك التقييد به للإيذان بأنها العبادة حقيقة وأما العبادة مع الإشراك فكلا عبادة ولدلالة قوله سبحانه وتعالى : ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ أي مستحق للعبادة غَيْرُهُ عليه ، وهو استئناف مسوق لتعليل العبادة المذكورة أو الأمر بها ومِنْ صلة وغَيْرُهُ بالرفع - وهي قراءة الجمهور - صفة إِلهٍ أو بدل منه باعتبار محله الذي هو الرفع على الابتداء أو الفاعلية.
وقرأ الكسائي بالجر باعتبار لفظه ، وقرىء شاذا بالنصب على الاستثناء ، وحكم غير - كما في المفصل - حكم الاسم الواقع بعد إلا وهو المشهور أي ما لكم إله إلا إياه كقوله : ما في الدار أحد إلا زيدا وغير زيدا ، وإِلهٍ أن جعل مبتدأ - فلكم - خبره أو خبره محذوف ولَكُمْ للتخصيص والتبيين أي ما لكم في الوجود أو في العالم إله غير الله تعالى إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إن لم تعبدوا حسبما أمرت به. وتقدير إن لم تؤمنوا لما أن عبادته سبحانه وتعالى تستلزم الإيمان به وهو أهم أنواعها وإنما قال عليه السلام : أَخافُ ولم يقطع حنوا عليهم واستجلابا لهم بلطف.
عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ هو يوم القيامة أو يوم الطوفان لأنه أعلم بوقوعه إن لم يمتثلوا ، والجملة - كما قال شيخ الإسلام - تعليل للعبادة ببيان الصارف عن تركها أثر تعليلها ببيان الداعي إليها ، ووصف اليوم بالعظم لبيان عظم ما يقع فيه وتكميل الإنذار قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ استئناف مبنى على سؤال نشأ من حكاية قوله عليه السلام ونصحه لقومه كأنه قيل : فماذا قالوا بعد ما قيل لهم ذلك؟ فقيل : قال إلخ. والملأ - على ما قال الفراء - الجماعة من الرجال خاصة.
وفسره غير واحد بالإشراف الذين يملؤون القلوب بجلالهم والأبصار بجمالهم والمجالس بأتباعهم ، وقيل : سموا ملأ

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 389
لأنهم مليون قادرون على ما يراد منهم من كفاية الأمور إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ أي ذهاب عن طريق الحق ، والرؤية قلبية ومفعولاها الضمير والظرف وقيل : بصرية فيكون الظرف في موضع الحال مُبِينٍ أي بين كونه ضلالا قالَ استئناف على طراز سابقه : يا قَوْمِ ناداهم بإضافتهم إليه استمالة لهم نحو الحق لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ نفي للضلال عن نفسه الكريمة على أبلغ وجه فإن التاء للمرة لأن مقام المبالغة في الجواب لقولهم الأحمق يقتضي ذلك والوحدة المستفادة منه باعتبار أقل ما ينطلق فيرجع حاصل المعنى ليس بي أقل قليل من الضلال فضلا عن الضلال المبين ، وما يتخايل من أن نفي الماهية أبلغ فإن نفي الشيء مع قيد الوحدة قد يكون بانتفاء الوحدة إلى الكثرة مضمحل بما حقق أن الوحدة ليست صفة مقيدة بل اللفظ موضوع للجزء الأقل وهو الواحد المتحقق مع الكثرة ودونها على أن ملاحظة قيد الوحدة في العام في سياق النفي مدفوع ، وكفاك لا رجل شاهدا فإنه موضوع للواحد من الجنس وبذلك فرق بينه وبين أسامة فإذا وقع عاما لا يلحظ ذلك. ولو سلم جواز أن يقال ليس به ضلالة أي ضلالة واحدة بل ضلالات متنوعة ابتداء لكن لا يجوز في مقام المقابلة كما نحن فيه قاله في الكشف وبه يندفع ما أورد على الكشاف في هذا المقام.
وفي المثل السائر الأسماء المفردة الواقعة على الجنس التي تكون بينها وبين واحدها تاء التأنيث متى أريد النفي كان استعمال واحدها أبلغ ومتى أريد الإثبات كان استعمالها أبلغ كما في هذه الآية ، ولا يظن أنه لما كان الضلال والضلالة مصدرين من قولك : ضل يضل ضلالا وضلالة كان القولان سواء لأن الضلالة هنا ليست عبارة عن المصدر بل عن المرة والنفي كما علمت ، وإنما بالغ عليه السلام في النفي لمبالغتهم في الإثبات حيث جعلوه وحاشاه مستقرا في الضلال الواضع كونه ضلالا ، وقوله سبحانه وتعالى : وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ استدراك على ما قبله رافع لما يتوهم منه ، وذلك - على ما قيل - أن القوم لما أثبتوا له الضلال أرادوا به ترك دين الآباء ودعوى الرسالة فحين نفى الضلالة توهم منه أنه على دين آبائه وترك دعوى الرسالة فوقع الإخبار بأنه رسول وثابت على الصراط المستقيم استدراكا لذلك ، وقيل : هو استدراك مما قبله باعتبار ما يستلزمه من كونه في أقصى مراتب الهداية فإن رسالته من رب العالمين مستلزمة له لا محالة كأنه قيل : ليس بي شيء من الضلالة لكني في الغاية القاصية من الهداية ، وحاصل ذلك - على ما قرره الطيبي - أن لكن حقها أن تتوسط بين كلامين متغايرين نفيا وإثباتا والتغاير هنا حاصل من حيث المعنى كما في قولك : جاءني زيد لكن عمرا غاب ، وفائدة العدول عن الظاهر إرادة المبالغة في إثبات الهداية على أقصى ما يمكن كما نفي الضلالة كذلك ، وسلك طريق الإطناب لأن هذا الاستدراك زيادة على الجواب إذ قوله : لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ كان كافيا فيه فيكون من الأسلوب الحكيم الوارد على التخلص إلى الدعوة على وجه الترجيع المعنوي لأنه بدأ بالدعوة إلى إثبات التوحيد وإخلاص العبادة لله تعالى فلما أراد إثبات الرسالة لم يتمكن لما اعترضوا عليه من قولهم : إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فانتهز الفرصة وأدمج مقصوده في الجواب على أحسن
وجه حيث أخرجه مخرج الملاطفة والكلام المنصف يعني دعوا نسبة الضلال إلي وانظروا ما هو أهم لكم من متابعة ناصحكم وأمينكم ورسول رب العالمين ألا ترى أن صالحا عليه السلام لما لم يعترضوا عليه عقب بإثبات الرسالة إثبات التوحيد ففي هذه الآية خمسة من أنواع البديع فإذا اقتضى المقام هذا الإطناب كان الاقتصار على العبارة الموجزة تقصيرا انتهى.
ولا يخفى أن هذا الاستدراك غير الاستدراك بالمعنى المشهور. وقد ذكر غير واحد من علماء العربية أن الاستدراك في لكن أن تنسب لما بعدها حكما مخالفا لما قبلها سواء تغاير إثباتا ونفيا أو لا ، وفسره صاحب البسيط وجماعة برفع ما توهم ثبوته ، وتمام الكلام فيه في المغني ، واعتبار اللازم لتحصيل الاستدراك بالمعنى الثاني مما لا يكاد

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 390
يقبل لأنه لا يذهب وهم واهم من نفي الضلالة إلى نفي الهداية حتى يحتاج إلى تداركه ، ووجهه بعضهم من دون اعتبار اللازم بأنه عليه السلام لما نفى الضلالة عن نفسه فربما يتوهم الخاطب انتفاء الرسالة أيضا كما انتهى الضلالة فاستدركه بلكن كما في قولك : زيد ليس بفقيه لكنه طبيب ، وأنت تعلم أن هذا إن لم يرجع إلى ما قرر أولا فليس بشيء ، وقيل : إنه إذا انتفى أحد المتقابلين يسبق الوهم إلى انتفاء المقابل الآخر لا إلى انتفاء الأمور التي لا تعلق لها به ، ولهذا يؤول ما وقع في معرض الاستدراك بما يقابل الضلال مثلا يقال : زيد ليس بقائم لكنه قاعد ولا يقال : لكنه شارب إلا بعد التأويل بأن الشارب يكون قاعدا ، وقال بعض فضلاء الروم : النظر الصائب في هذا الاستدراك أن يكون مثل قوله :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
وقوله :
هو البدر إلا أنه البحر زاخرا سوى أنه الضرغام لكنه الوبل
كأنه قيل : ليس بي ضلالة وعيب سوى أني رسول من رب العالمين ، وأنت تعلم أن هذا النوع يقال له عندهم :
تأكيد المدح بما يشبه الذم وهو قسمان ما يستثنى فيه من صفة ذم منفية عن الشيء صفة مدح لذلك الشيء بتقدير دخولها في صفة الذم المنفية. وما يثبت فيه لشيء صفة مدح ويتعقب ذلك بأداة استثناء يليها صفة مدح أخرى لذلك ، والظاهر أن ما في الآية من القسم الأول إلا أنه غير غني عن التأويل فتأمل.
ومِنْ فيها لابتداء الغاية مجازا متعلقة بمحذوف وقع صفة لرسول مؤكدة ما يفيده التنوين من الفخامة الذاتية كأنه قيل : إني رسول وأي رسول كائن من رب العالمين أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي استئناف مسوق لتقرير رسالته وتفصيل أحكامها وأحوالها. وجوز أبو البقاء وغيرها أن يكون صفة أخرى لرسول على المعنى لأنه عبارة عن الضمير في إِنِّي وهذا
كقول علي كرم الله تعالى وجهه حين بارز مرحبا اليهودي يوم خيبر :
أنا الذي سمتني أمي حيدره كليث غابات كريه المنظرة
أو فيهم بالصاع كيل السندره
حيث لم يقل سمته حملا له على المعنى لا من اللبس ، وأوجب بعضهم الحمل على الاستئناف زعما منه أن ما ذكر قبيح حتى قال المازني : لولا شهرته لرددته ، وتعقب ذلك الشهاب بأن ما ذكره المازني في صلة الموصول لا في وصف النكرة فإنه وارد في القرآن مثل بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [النمل : 55] وقد صرح بحسنه في كتب النحو والمعاني ، على أن ما ذكره في الصلة أيضا مردود عند المحققين وإن تبعه فيه ابن جني حتى استرذل قول المتنبي :
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وفي الانتصاف أنه حسن في الاستعمال وكلام أبي الحسن أصدق شاهد على ما قال وعلى حسن كلام ابن الحسين ، وهذا - كما قال الشهاب - إذا لم يكن الضمير مؤخرا نحو الذي قرى الضيوف أنا أو كان للتشبيه نحو أنا في الشجاعة الذي قتل مرحبا.
وقرأ أبو عمرو «أبلغكم» بتسكين الباء وتخفيف اللام من الإبلاغ ، وجمع الرسالات مع أن رسالة كل نبي واحدة وهو مصدر والأصل فيه أن لا يجمع رعاية لاختلاف أوقاتها أو تنوع معاني ما أرسل عليه السلام به أو أنه أراد رسالته ورسالة غيره ممن قبله من الأنبياء كإدريس عليه السلام وقد أنزل عليه ثلاثون صحيفة ، وشيث عليه السلام وقد أنزل عليه خمسون صحيفة ، ووضع الظاهر موضع الضمير وتخصيص ربوبيته تعالى له عليه السلام بعد بيان عمومها

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 391
للعالمين للإشعار بعلة الحكم الذي هو تبليغ رسالته تعالى إليهم فإن ربوبيته تعالى له من موجبات امتثاله بأمره تعالى بتبليغ رسالته وَأَنْصَحُ لَكُمْ أي أتحرى ما فيه صلاحكم بناء على أن النصح تحري ذلك قولا أو فعلا ، وقيل : هو تعريف وجه المصلحة مع خلوص النية من شوائب المكروه ، والمعنى هنا أبلغكم أوامر الله تعالى ونواهيه وأرغبكم في قبولها وأحذركم عقابه إن عصيتموه ، وأصل النصح في اللغة الخلوص يقال : نصحت العسل إذا خلصته من الشمع ، ويقال : هو مأخوذ من نصح الرجل ثوبه إذا خاطه شبهوا فعل الناصح فيما يتحراه من صلاح المنصوص له بفعل الخياط فيما يسد من خلل الثوب ، وقد يستعمل لخلوص المحبة للمصوح له والتحري فيما يستدعيه حقه ، وعلى ذلك حمل ما
أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي عن تميم الداري أن رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «إن الدين النصيحة قلنا : لمن يا رسول الله؟ قال : لله تعالى ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»
ويقال : نصحته ونصحت له كما يقال : شكرته وشكرت له ، قيل : وجيء باللام هنا ليدل الكلام على أن الغرض ليس غير النصح وليس النصح لغيرهم بمعنى أن نفعه يعود عليهم لا عليه عليه السلام كقوله : ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الفرقان : 57 ، وغيرها] وهذا مبني على أن اللام للاختصاص لا زائدة ، وظاهر كلام البعض يشعر بأنها مع ذلك زائدة : وفيه خفاء.
وصيغة المضارع للدلالة على تجدد نصحه عليه السلام لهم كما يفصح عنه قوله : رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً [نوح : 5]. وقوله تعالى : وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ عطف على ما قبله وتقرير لرسالته عليه السلام أي أعلم من قبله تعالى بالوحي أشياء لا علم لكم بها من الأمور الآتية. فمن لابتداء الغاية مجازا أو أعلم من شؤونه عز وجل وقدرته القاهرة وبطشه الشديد على من لم يؤمن به ويصدق برسله ما لا تعلمونه. فمن إما للتبعيض أو بيانية لما ، ولا بد في الوجهين من تقدير المضاف ، قيل : كانوا لم يسمعوا بقوم حل بهم العذاب قبلهم فكانوا آمنين غافلين لا يعلمون ما علمه نوح عليه السلام فهم أول قوم عذبوا على كفرهم أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ رد لما هو منشأ لقولهم : إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ والاستفهام للإنكار أي لم كان ذلك ولا داعي له. والواو للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام ، ويقدر عند الزمخشري وأتباعه بين الهمزة وواو العطف كأنه قيل : استبعدتم وعجبتم. ومذهب سيبويه والجمهور أن الهمزة من جملة أجزاء المعطوف إلا أنها قدمت على العاطف تنبيها على أصالتها في التصدير. وضعف قول الأولين بما فيه من التكلف لدعوى حذف الجملة فإن قوبل بتقديم بعض المعطوف فقد يقال : إنه أسهل منه لأن المتجوز فيه أقل لفظا. وفيه تنبيه على أصالة شيء في شيء وبأنه غير مطرد في نحو «أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت». وتحقيقه في محله و«أن جاءكم» بتقدير بأن لأن الفعل السابق يتعدى بها ، والمراد بالذكر ما أرسل به كما قيل للقرآن ذكر ويفسر بالموعظة. ومن للابتداء والجار والمجرور متعلق بحاء أو بمحذوف وقع صفة لذكر أي ذكر كائن من مالك أموركم ومربيكم.
عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ أي من جملتكم تعرفون مولده ومنشأه أو من جنسكم فمن تبعيضية أو بيانية كما قيل.
و«على» متعلقة بجاء بتقدير مضاف أي على يد أو لسان رجل منكم أي بواسطته ، وقيل : على بمعنى مع فلا حاجة إلى التقدير ، وقيل : تعلقه به لأن معناه أنزل كما يشير إليه كلام أبي البقاء أو لأنه ضمن معناه. وجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا من ذِكْرٌ أي نازلا على رجل منكم لِيُنْذِرَكُمْ علة للمجيء أي ليحذركم العذاب والعقاب على الكفر والمعاصي وَلِتَتَّقُوا عطف على «لينذركم» وكذا قوله تعالى : وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ على ما هو الظاهر فالمجيء معلل بثلاثة أشياء وليس من توارد العلل على معلول واحد الممنوع وبينها ترتب في نفس الأمر فإن الإنذار سبب للتقوى والتقوى سبب لتعلق الرحمة بهم ، وليس في الكلام دلالة على سببية كل من الثلاثة لما بعده

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 392
ولو أريدت السببية لجيء بالفاء. وبعضهم اعتبر عطف لِتَتَّقُوا على لينذركم وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ على لتتقوا مع ملاحظة الترتيب أي لتتقوا بسبب الإنذار ولعلكم ترحمون بسبب التقوى والتأمل.
وجيء بحرف الترجي على عادة العظماء في وعدهم أو للتنبيه على عزة المطلب وأن الرحمة منوطة بفضل الله تعالى فلا اعتماد إلا عليه فَكَذَّبُوهُ أي استمروا على تكذيبه وأصروا بعد أن قال لهم ما قال ودعاهم إلى الله تعالى ليلا ونهارا فَأَنْجَيْناهُ من الغرق ، والإنجاء في الشعراء من قصد أعداء الله تعالى وشؤم ما أضمروه له عليه السلام وَالَّذِينَ مَعَهُ من المؤمنين. وكانوا على ما قيل : أربعين رجلا وأربعين امرأة. وقيل : كانوا عشرة أبناؤه الثلاثة وستة ممن آمن به عليه السلام ، والفاء للسببية باعتبار الإغراق لا فصيحة ، وقوله سبحانه وتعالى : فِي الْفُلْكِ أي السفينة متعلق بما تعلق به الظرف الواقع صلة أي استقروا معه في الفلك.
وجوز أن يكون هو الصلة مَعَهُ متعلق بما تعلق به. وأن يكون متعلقا بأنجينا وفي ظرفية أو سببية. وأن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا من الَّذِينَ نفسه أو من ضميره وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي استمروا على تكذيبها ، والمراد به ما يعم أولئك الملأ وغيرهم من المكذبين المصرّين. وتقديم الإنجاء على الإغراق للمسارعة إلى الإخبارية والإيذان بسبق الرحمة على الغضب إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ أي عمي القلوب عن معرفة التوحيد ، والنبوة ، والمعاد كما روي عن ابن عباس أو عن نزول العذاب بهم كما نقل عن مقاتل. وقرىء «عامين» والأول أبلغ لأنه صفة مشبهة فتدل على الثبوت وأصله عميين فخفف ، وفرق بعضهم بين عم وعام بأن الأول لعمى البصيرة والثاني لعمى البصر. وأنشدوا قول زهير :
واعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عمي
وقيل : هما سواء فيهما وَإِلى عادٍ متعلق بمضمر معطوف على أَرْسَلْنا فيما سبق وهو الناصب لقوله تعالى : أَخاهُمْ أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم ، وقيل : لا إضمار والمجموع معطوف على المجموع السابق والعامل الفعل المتقدم. وغير الأسلوب لأجل ضمير أَخاهُمْ إذ لو أتى به على سنن الأول عاد الضمير على متأخر لفظا ورتبة. وعاد في الأصل اسم لأبي القبيلة ثم سميت به القبيلة أو الحي فيجوز فيه الصرف وعدمه كما ذكره سيبويه ، وقوله تعالى : هُوداً بدل من أَخاهُمْ أو عطف بيان له. واشتهر أنه اسم عربي ، وظاهر كلام سيبويه أنه أعجمي وأيد بما قيل. إن أول العرب يعرب. وهو هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح وعليه محمد بن إسحاق. وبعض القائلين بهذا قالوا : إن نوحا ابن عم أبي عاد ، وقيل : ابن عوص بن ارم سام بن نوح ، وقيل : ابن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن أرم به سام بن نوح عليه السلام.
ومعنى كونه عليه السلام أخاهم أنه منهم نسبا وهو قول الكثير من النسابين. ومن لا يقول به يقول : إن المراد صاحبهم وواحد في جملتهم وهو كما يقال يا أخا العرب. وحكمة كون النبي يبعث إلى القوم منهم أنهم أفهم لقوله من قول غيره وأعرف بحاله في صدقه وأمانته وشرف أصله قالَ استئناف بياني كأنه قيل : فماذا قال لهم حين أرسل إليهم؟ فقيل : قال إلخ. ولم يؤت بالفاء كما أتي بها في قصة نوح لأن نوحا كان مواظبا على دعوة قومه غير مؤخر لجواب شبهتهم لحظة واحدة وهود عليه السلام لم يكن مبالغا إلى هذا الحد فلذا جاء التعقيب في كلام نوح ولم يجىء هنا. وذكر صاحب الفرائد في التفرقة بين القصتين أن قصة نوح عليه السلام ابتداء كلام فالسؤال غير مقتضى الحال وأما قصة هود فكانت معطوفة على قصة نوح فيمكن أن يقع في خاطر السامع أقال هود ما قال نوح أم قال غيره؟ فكان مظنة أن يسأل ماذا قال لقومه؟ فقيل : قال إلخ.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 393
وقيل : اختير الفصل هنا لإرادة استقلال كل من الجمل في معناه حيث إن كفر هؤلاء أعظم من كفر قوم نوح من حيث إنهم علموا ما فعل الله تعالى بالكافرين وأصروا وقوم نوح لم يعلموا. ويدل على علمهم بذلك ما سيأتي في ضمن الآيات وفيه نظر.
يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وجده كما يدل عليه قوله تعالى : ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ فإنه استئناف جار مجرى البيان للعبادة المأمور بها والتعليل لها أو للأمر كأنه قيل : خصوه بالعبادة ولا تشركوا به شيئا إذ ليس لكم إله سواه.
وقرىء «غير» بالحركات الثلاث كالذي قبل أَفَلا تَتَّقُونَ إنكار واستبعاد لعدم اتقائهم عذاب الله تعالى بعد ما علموا ما حل بقوم نوح عليه السلام ، وقيل : الاستفهام للتقرير والفاء للعطف ، وقد تقدم الكلام فيه آنفا وفي سورة أَفَلا تَعْقِلُونَ [هود : 51] ولعله عليه السلام - كما قال شيخ الإسلام - خاطبهم بكل منهما واكتفى بحكاية كل منهما في موطن عن حكايته في موطن آخر كما لم يذكر هاهنا ما ذكر هناك من قوله إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ [هود :
50] وقس على ذلك حال بقية ما ذكروا ما لم يذكر من أجزاء القصة بل حال نظائره في سائر القصص لا سيما في المحاورات الجارية في الأوقات المتعددة.
وقال غير واحد : إنما قيل هاهنا : أَفَلا تَتَّقُونَ وفيما تقدم من مخاطبة نوح عليه السلام قومه إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ لأن هؤلاء قد علموا بما حل بغيرهم من نظرائهم ولم يكن قبل واقعة قوم نوح عليه السلام واقعة ، وقيل : لأن هؤلاء كانوا أقرب إلى الحق وإجابة الدعوة من قوم نوح عليه السلام وهذا دون إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إلخ في التخويف ، ويرشد إلى ذلك ما تقدم مع قوله تعالى : قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ حيث قيد هنا الملأ المعاند بمن كفر وأطلق هناك ، وقد صرحوا بأن هذا الوصف لأنه لم يكن كلهم على الكفر بل من أشرافهم من آمن به عليه السلام كمرثد بن سعد الذي كان يكتم إيمانه ولا كذلك قوم نوح ومن آمن به عليه السلام منهم لم يكن من الأشراف كما هو الغالب في اتباع الرسل عليهم السلام ، وقيل : إنهوقت مخاطبة نوح عليه السلام لقومه لم يكونوا آمنوا بخلاف قوم هود ومثله - كما قال الشهاب - يحتاج إلى نقل. واعترض المولى بهاء الدين على تلك التفرقة بين القومين بأنه قد جاء في سورة المؤمنين وصف قوم نوح بما وصف به قوم هود هنا فكيف تتأتى هذه التفرقة ، وأجيب بأن الوصف هناك محمول على أنه للذم لا للتمييز وإنما لم يذم هاهنا للإشارة إلى التفرقة. وقال الطيبي :
يمكن أن يقال : إن الوصف هنا للذم أيضا ومقتضى المقام يقتضي ذمهم لشدة عنادهم كما يدل عليه جوابهم بما حكاه الله تعالى من قولهم : إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ أي متمكنا في خفة عقل راسخا فيها حيث فارقت دين آبائك وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ حيث ادعيت الرسالة وهو أبلغ من كاذبا كما مرت الإشارة إليه. والظن إما على ظاهره كما قال الحسن والزجاج وإما بمعنى العلم كما قيل ، وذلك لأنه قالوا ما قالوا ما قالوا مع كونه عليه السلام معروفا بينهم بضد ذلك ولا يقتضي ذم قوم نوح عليه السلام وحيث اقتضى في سورة المؤمنين ذمهم ذمهم لأنهم قالوا كما قصة سبحانه وتعالى هناك ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ [المؤمنون : 25] وقال بعضهم : إن الظاهر أن ما نقل هنا عن قوم نوح عليه السلام مقالتهم في مجلس أو مقالة بعضهم وما نقل في سورة المؤمنين مقالتهم في مجلس آخر أو مقالة آخرين فروعي في المقامين مقتضى كل من المقالتين قالَ عليه السلام مستعطفا لهم أو مستميلا لقلوبهم : يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ أي شيء منها فضلا عن تمكني فيها كما زعمتم وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ والرسالة من قبله تعالى تقتضي الاتصاف بغاية الرشد والصدق ، ولم يصرح عليه السلام بنفي الكذب اكتفاء بما في حيز الاستدراك.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 394
وقيل : الكذب نوع من السفاهة فيلزم من نفيها نفيه ، ومِنْ لابتداء الغاية مجازا وهي متعلقة بمحذوف وقع صفة لرسول مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية. وقوله تعالى : أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي على طرز ما في قصة نوح عليه السلام.
وقرأ أبو عمرو «أبلغكم» بالتخفيف من الأفعال وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ معروف بالنصح والأمانة مشهور بين الناس بذلك فما حقي أن أتهم بشيء مما ذكرتموه وعلى هذا لا يقدر للوصفين متعلق ، ويحتمل تقديرهما أي ناصح لكم فيما أدعوكم إليه أمين على ما أقول لكم لا أكذب فيه ، وعلى الأول - كما قال الطيبي - فالجملة مستأنفة وقعت معترضة ، وعلى الثاني حالية ، وفي العدول عن الفعلية إلى الاسمية ما لا يخفى. ولعل التعبير بها هنا وبالفعلية فيما تقدم لتجدد النصح من نوح دون هود عليهما السلام.
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ الكلام فيه الكلام في سابقه. وفي إجابة الأنبياء عليهم السلام من يشافههم من الكفرة بالكلمات الحمقاء بما حكي عنهم والإعراض عن مقابلتهم بمثل كلامهم كمال النصح والشفقة وهضم النفس وحسن المجادلة ، وفي حكاية ذلك تعليم للعباد كيف يخاطبون السفهاء وكيف يغضون عنهم ويسلبون أذيالهم على ما يكون منهم ، وفي الآية دلالة على جواز مدح الإنسان نفسه للحاجة إليه.
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ شروع في بيان ترتيب أحكام النصح والأمانة والإنذار وتفصيلها ، وإذا على ما يفهم من كلام البعض وصرح به آخرون ظرف منصوب بآلاء المحذوف هنا بقرينة ما بعده لتضمنه معنى الفعل ، واختار غير واحد تبعا للزمخشري أنه مفعول لا ذكروا أي اذكروا هذا الوقت المشتمل على هذا النعم الجسام ، وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه مع أنه المقصود بالذات للمبالغة في إيجاب ذكره ولأنه إذا استحضر الوقت كان هو حاضرا بتفاصيله ، وهذا مبني على الاتساع في الظرف أو أنه غير لازم للظرفية على خلاف المشهور عند النحويين ، والواو للعطف وما بعده قيل : معطوف على قوله تعالى : اعْبُدُوا ولا يخفى بعده.
وقال شيخ الإسلام : لعله معطوف على مقدر كأنه قيل : لا تعجبوا من ذلك أو تدبروا في أمركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ أي في مساكنهم أو في الأرض بأن جعلكم ملوكا فإن شداد بن عاد ممن ملك معمورة الأرض فالإسناد على هذا مجاز ، وفي ذكر نوح على ما قيل إشارة إلى رفع التعجب يعني هذا الذي جئت به ليس ببدع فاذكروا نوحا وإرساله إلى قومه وإلى الوعيد والتهديد أي اذكروا إهلاك قومه لتكذيبهم رسول ربهم وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ أي الإبداع والتصوير أو في المخلوقين أي زادكم في الناس على أمثالكم بَصْطَةً قوة وزيادة جسم ، قال الكلبي : كانت قامة الطويل منهم مائة ذراع وقامة القصير ستين ذراعا.
وأخرج ابن عساكر عن وهب أنه قال : كانت هامة الرجل منهم مثل القبة العظيمة وعينه يفرخ فيها السباع ، وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه قال : ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر ذراعا ، وعن الباقر رضي الله تعالى عنه كانوا كأنهم النخل الطوال وكان الرجل منهم يأتي الجبل فيهدم منه بيده القطعة العظيمة.
وأخرج عبد الله بن أحمد وابن أبي حاتم عن أبي هريرة إن كان الرجل منهم ليتخذ المصراع من الحجارة لو اجتمع عليه خمسمائة من هذه الأمة لم يستطيعوا أن يقلوه وإن كان أحدهم ليدخل قدمه في الأرض فتدخل فيها.
وعن بعضهم أن أحدهم كان أطول من سائر الخلق بمقدار ما يمد الإنسان يده فوق رأسه باسطا لها فطول كل منهم قامة وبسطة وهذا أقرب عند ذوي العقول القصيرة عن إدراك يد القدرة.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 395
وأخرج إسحاق بن بشر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هودا عليه السلام كان أصبحهم وجها وكان في مثل أجسامهم أبيض جعدا بادي العنفقة طويل اللحية صلّى اللّه عليه وسلّم ،
ونصب بَصْطَةً على أنه مفعول به للفعل قبله ، وقيل : تمييز وفِي الْخَلْقِ متعلق بالفعل ، وجوز أبو البقاء تعلقه بمحذوف وقع حالا من بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ أي نعمه سبحانه وتعالى وهي جمع - إلى - بكسر فسكون كحمل وإحمال أو - ألى - بضم فسكون كقفل وأقفال أو - إلى - بكسر ففتح مقصورا كمعى وأمعاء أو بفتحتين مقصورا كقفا وأقفاء وبهما ينشد قول الأعشى :
أبيض لا يرهب الهزال ولا يقطع رحما ولا يخون إلا
وقيل : إن ما في البيت إلا المشددة لكنها خففت ومعناها العهد وفيه بعد ، وهذا تكرير للتذكير لزيادة التقرير وتعميم أثر تخصيص أي اذكروا الآلاء التي من جملتها ما تقدم لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لكي يفضي بكم ذكر النعم إلى شكرها الذي من جملته العمل بالأركان والطاعة المؤدي إلى النجاة من الكروب والفوز بالمطلوب وهذا لأن الفلاح لا يترتب على مجرد الذكر. ومن الناس من فسر ذكر الآلاء بشكرها وأمر الترتب عليه ظاهر.
قالُوا مجيبين عن تلك النصائح العظيمة المتضمنة للإنذار على ما أشير إليه : أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ أي لنخصه بالعبادة وَنَذَرَ أي نترك ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا من الأوثان ، وهذا إنكار واستبعاد لمجيئه عليه السلام بذلك ومنشؤه انهماكهم في التقليد والحب لما ألفوه ألفوا عليه أسلافهم ، ومعنى المجيء إما مجيئه عليه السلام من مكان كان يتحنث فيه كما كان رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم يفعل بحراء قبل المبعث أو مجيئه من السماء أي أنزلت علينا من السماء ومرادهم التهكم والاستهزاء ، وجاء ذلك من زعمهم أن المرسل من الله تعالى لا يكون إلا ملكا من السماء أو هو مجاز عن القصد إلى الشيء والشروع فيه فإن جاء ، وقام ، وقعد ، وذهب - كما قال جماعة - تستعملها العرب لذلك تصويرا للحال فتقول قعد يفعل كذا وقام يشتمني وقعد يقرأ وذهب يسبني ، ونصب وَحْدَهُ على الحالية ، وهو عند جمهور النحويين ومنهم الخليل وسيبويه اسم موضوع موضع المصدر أعني إيحاد الموضوع موضع الحال أعني موحدا. واختلف هؤلاء فيما إذا قلت : رأيت زيدا وحده مثلا فالأكثرون يقدرون في حال إيجاد له بالرؤية فيجعلونه حالا من الفاعل ، والمبرد يقدره في حال أنه مفرد بالرؤية فيجعله حالا من المفعول.
ومنع أبو بكر بن طلحة جعله حالا من الفاعل وأوجب كونه حالا من المفعول لا غير لأنهم إذا أرادوا الحال من الفاعل قالوا رأيته وحدي ومررت به وحدي كما قال الشاعر :
والذئب أخشاه إن مررت به وحدي وأخشى الرياح والمطرا
وهذا الذي قاله في البيت صحيح ولا يمتنع من أجله أن يأتي الوجهان المتقدمان في رأيت زيدا وحده فإن المعنى يصح معهما ، ومنهم من يقول : إنه مصدر موضوع موضع الحال ولم يوضع له فعل عند بعضهم.
وحكى الأصمعي وحد يحد ، وذهب يونس وهشام في أحد قوليه إلى أنه منتصب انتصاب الظروف فجاء زيد وحده في تقدير جاء على وحده ثم حذف الجار وانتصب على الظرف وقد صرح بعلى في كلام بعض العرب ، وإذا قيل زيد وحده فالتقدير زيد موضع التفرد ، ولعل القائل بما ذكر يقول : إنه مصدر وضع موضع الظرف. وعن البعض أنه في هذا منصوب بفعل مضمر كما يقال : زيد إقبالا وإدبارا هذا خلاصة كلامهم في هذا المقام ، وإذا أحطت به خبرا

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 396
فاعلم أن لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ في تقدير موحدين إياه بالعبادة عند سيبويه على أنه حال من الفاعل ، والحاء في موحدين مكسورة وعلى رأي ابن طلحة موحدا هو والحاء مفتوحة وهو من أوحد الرباعي والتقدير على رأي هشام نعبد الله تعالى على انفراد وهو من وحد الثلاثي ، والمعنى في التقادير الثلاثة لا يختلف إلا يسيرا ، والكلام الذي هو فيه متضمن للإيجاب والسلب وله احتمالات نفيا وإثباتا وتفصيل ذلك في رسالة في مولانا تقي الدين السبكي المسماة بالرفدة في معنى وحده وفيها يقول الصفدي :
خل عنك الرقدة وانتبه للرفدة تجن منها علما فاق طعم الشهدة
وأراد - بما - في قوله تعالى : فَأْتِنا بِما تَعِدُنا العذاب المدلول عليه بقوله تعالى : أَفَلا تَتَّقُونَ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ بالإخبار بنزوله ، وقيل : بالإخبار بأنك رسول الله تعالى إلينا ، وجواب «إن» محذوف لدلالة المذكور عليه أي فأت به قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ أي وجب وثبت. وأصل استعمال الوقوع في نزول الأجسام واستعماله هنا فيما ذكر مجاز من إطلاق السبب على المسبب. ويجوز أن يكون في الكلام استعارة تبعية والمعنى قد نزل عليكم ، واختار بعضهم أن وَقَعَ بمعنى قضي وقدر لأن المقدرات تضاف إلى السماء وحرف الاستعلاء على ذلك ظاهر ، وفي الكشف أن الوقوع بمعنى الثبوت وحرف الاستعلاء إما لأنه ثبوت قوي آكد ما يكون «1» واجبه أو لأنه ثبوت حسي لأمر نازل من علو وعذاب الله تعالى. موصوف بالنزول من السماء فتدبر. والتعبير بالماضي لتنزيل المتوقع منزلة الواقع كما في قوله تعالى : أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النحل : 1] مِنْ رَبِّكُمْ أي من قبل مالك أمركم سبحانه وتعالى. والجار والمجرور قيل : متعلق بمحذوف وقع حالا مما بعد ، والظاهر أنه متعلق بالفعل قبله ، وتقديم الظرف الأول عليه مع أن المبدأ متقدم على المنتهى - كما قال شيخ الإسلام - للمسارعة إلى بيان إصابة المكروه لهم ، وكذا تقديمهما على الفاعل وهو قوله تعالى : رِجْسٌ مع ما فيه من التشويق إلى المؤخر ولأن فيه نوع طول بما عطف عليه من قوله تعالى : وَغَضَبٌ فربما يخل تقديمهما بتجاوب النظم الكريم ، والرجس العذاب وهو بهذا المعنى في كل القرآن عند ابن زيد من الارتجاس وهو الارتجاز بمعنى حتى قيل : إن أصله ذلك فأبدلت الزاي سينا كما أبدلت السين تاء في قوله :
ألا لحى الله بني السعلات عمرو بن يربوع شرار النات
ليسوا بإعفاف ولا أكيات
فإنه أراد الناس وأكياس. وأصل معناه الاضطراب ثم شاع فيما ذكر لاضطراب من حل به ، وعليه فالعطف في قوله :
إذا سنة كانت بنجد محيطة وكان عليهم رجسها وعذابها
للتفسير والغضب عند كثير بمعنى إرادة الانتقام. وعن ابن عباس أنه فسر الرجس باللعنة والغضب بالعذاب وأنشد له البيت السابق وفيه خفاء. والذاهبون إلى ما تقدم إنما لم يفسروه بالعذاب لئلا يتكرر مع ما قبله ، ولا يبعد أن يفسر «الرجس» بالعذاب والغضب باللعن والطرد على عكس ما نسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ويكون في الكلام حينئذ إشارة إلى حالهم في الأولى والأخرى. ويمكن إرجاع ما ذكره الكثير من المفسرين إلى هذا وإلا فالظاهر أنه لا لطافة في قولك : وقع عليهم عذاب وإرادة انتقام على ظاهر كلامهم. وأيا ما كان فالتنوين للتفخيم والتهويل
___________
(1) قوله واجبة كذا بخط المؤلف وتأمل.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 397
أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ إنكار واستقباح لإنكارهم مجيئه عليه السلام داعيا لهم إلى عبادة الله تعالى وحده وترك ما كان يعبد آباؤهم من الأصنام.
والأسماء عبارة عن تلك الأصنام الباطلة. وهذا كما يقال لما لا يليق ما هو إلا مجرد اسم. والمعنى أتخاصمونني في مسميات وضعتم لها أسماء لا تليق بها فسميتموها آلهة من غير أن يكون فيها من مصداق الإلهية شيء ما لأن المستحق للمعبودية ليس إلا من أوجد الكل وهي بمعزل عن إيجاد ذرة وأنها لو استحقت لكان ذلك بجعله تعالى إما بإنزال آية أو نصب حجة وكلاهما مستحيل وذلك قوله تعالى : ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي حجة ودليل وحيث لم يكن ذلك في حيز الإمكان تحقق بطلان ما هم عليه. والذم الذي يفهمه الكلام متوجه إلى التسمية الخالية عن المعنى المشحونة بمزيد الضلالة والغواية والافتراء العظيم ، وقيل : إنهم سموها خالقة ورازقة ومنزلة المطر ونحو ذلك. والضمير المنصوب في سَمَّيْتُمُوها راجع لأسماء وهو - على ما قيل - المفعول الأول والمفعول الثاني محذوف حسبما أشير إليه. وقيل : المفعول الأول محذوف والضمير هو المفعول الثاني والمراد سميتم أصنامكم بها.
وقيل : المراد من سميتموها وصفتموها فلا حاجة له إلى مفعولين ، وحمل الآية على ما ذكر أولا في تفسيرها هو الذي اختاره جمع وجوز بعضهم أن يكون الكلام على حذف مضاف أي أتجادلونني في ذوي أسماء.
وادعى آخرون جواز أن يكون فيه صنعة الاستخدام. واستدل بالآية من قال إن الاسم عين المسمى. ومن قال : إن اللغات توقيفية إذ لو لم تكن كذلك لم يتوجه الإنكار والإبطال بأنها أسماء مخترعة لم ينزل الله تعالى بها سلطانا ، ولا يخفى عليك ما في ذلك من الضعف. فَانْتَظِرُوا نزول العذاب الذي طلبتموه بقولكم : «فأتنا بما تعدنا» لما وضح الحق وأنت مصرون على العناد والجهالة إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ لنزوله بكم. والفاء في «فانتظروا» للترتيب على ما تقدم وفي قوله تعالى : فَأَنْجَيْناهُ فصيحة أي فوقع ما وقع فأنجيناه وَالَّذِينَ مَعَهُ أي متابعيه في الدين بِرَحْمَةٍ عظيمة لا يقادر قدرها مِنَّا أي من جهتنا والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع نعتا لرحمة مؤكدا لفخامتها على ما تقدم غير مرة وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا كناية عن الاستئصال. والدابر الآخر أي أهلكناهم بالكلية ودمرناهم عن آخرهم. واستدل به بعضهم على أنه لا عقب لهم.
ما كانُوا مُؤْمِنِينَ عطف على كَذَّبُوا داخل معه في حكم الصلة أي أصروا على الكفر والتكذيب ولم يرعووا عن ذلك أصلا. وفائدة هذا النفي عند الزمخشري التعريض بمن آمن منهم. وبيانه - على ما قال الطيبي - إنه إذا سمع المؤمن أن الهلاك اختص بالمكذبين وعلم أن سبب النجاة هو الإيمان تزيد رغبته فيه ويعظم قدره عنده ، ونظيره في اعتبار شرف الإيمان الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ [غافر : 7] الآية ، وقال بعضهم : فائدة ذلك بيان أنه كان المعلوم من حالهم أنه سبحانه لو لم يهلكهم ما كانوا ليؤمنوا كما قال جل شأنه في آية أخرى : وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا [يونس : 13] فهو كالعذر عن عدم إمهالهم والصبر عليهم.
وسر تقديم حكاية الإنجاء على حكاية الإهلاك يعلم مما تقدم. وقصتهم - على ما ذكره السدي ومحمد بن إسحاق. وغيرهما - أن عادا قوم كانوا بالأحقاف وهي رمال بين عمان وحضرموت وكانوا قد فشوا في الأرض كلها وقهروا أهلها وكانت لهم أصنام يعبدونها وهي : صداء ، وصمود ، والهباء فبعث الله تعالى إليهم هودا عليه السلام نبيا وهو من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا فأمرهم بالتوحيد والكف عن الظلم فكذبوه وازدادوا عتوا وتجبرا وقالوا : من أشد

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 398
منا قوة فأمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك وكان الناس إذ ذاك إذا نزل بهم بلاء طلبوا رفعه من الله تعالى عند بيته الحرام مسلمهم ومشركهم ، وأهل مكة يومئذ العمالقة أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح وسيدهم معاوية بن بكر وكانت أمه كهلدة من عاد فجهزت عاد إلى الحرم من أماثلهم سبعين رجلا منهم قيل بن عنز ولقيم بن هزال ، ولقمان بن عاد الأصغر ، ومرثد بن سعد الذي كان يكتم إسلامه ، وجلهمة خال معاوية بن بكر فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية وكان خارجا من الحرم فأنزلهم وأكرمهم إذ كانوا أحواله وأصهاره فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم قينتان لمعاوية اسم إحداهما وردة والأخرى جرادة ويقال لهما : الجرادتان على التغليب فلما رأى طول مقامهم وذهولهم باللهو عما قدموا له شق ذلك عليه وقال : هلك أصهاري وأخوالي وهؤلاء على ما هم عليه وكان يستحي أن يكلمهم خشية أن يظنوا به ثقل مقامهم عنده فشكا ذلك لقينتيه فقالتا : هل شعرا نغنيهم به ولا يدرون من قاله لعل ذلك أن يحركهم فقال :
ألا يا قيل ويحك قم فهينم لعل الله يسقينا غماما
فتسقى أرض عاد إن عادا قد أمسوا ما يبينون الكلاما
من العطش الشديد فليس نرجو به الشيخ الكبير ولا الغلاما
وقد كانت نساؤهم بخير فقد أمست نساؤهم عياما
وإن الوحش تأتيهم جهارا ولا تخشى لعادي سهاما
وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم نهاركم وليلكم التماما
فقبح وفدكم من وفد قوم ولا لقوا التحية والسلاما
فلما غنتا بذلك قال بعضهم لبعض : يا قوم إنما بعثكم قومكم يتغوثون بكم من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم فادخلوا هذا الحرم واستسقوا لقومكم فقال مرثد بن سعد : والله لا تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وأنبتم إلى ربكم سقيتم فأظهر إسلامه عند ذلك وقال :
عصت عاد رسولهم فأمسوا عطاشا ما تبلهم السماء
لهم صنم يقال له صمود يقابله صداء والهباء
فبصرنا الرسول سبيل رشد فأبصرنا الهدى وخلا العماء
وإن إله هود هو إلهي على الله التوكل والرجاء
فقالوا لمعاوية : أحبسن عنا مرثدا فلا يقدمن معنا مكة فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا ثم دخلوا مكة يستسقون فخرج مرثد من منزل معاوية حتى أدركهم قبل أن يدعوا بشيء مما خرجوا له فلما انتهى إليهم قام يدعو الله تعالى ويقول : اللهم سؤلي وحدي فلا تدخلني في شيء مما يدعوك به وفد عاد وكان قيل رأس الوفد فدعا وقال : اللهم اسق عادا ما كنت تسقيهم وقال القوم : اللهم أعط قيلا ما سألك واجعل سؤلنا مع سؤله فأنشأ الله تعالى سحائب ثلاثا بيضاء ، وحمراء ، وسوداء ثم نادى مناد من السماء : يا قيل اختر لنفسك ولقومك من هذه السحائب ما شئت قيل وكذلك يفعل الله تعالى بمن دعاه إذ ذاك فقال قيل : اخترت السوداء فإنها أكثرهن ماء. فناداه مناد اخترت رمادا رمدا لا تبقي من آل عاد أحدا وساق الله تعالى تلك السحابة بما فيها من النقمة إلى عاد حتى خرجت عليهم من واد يقال له المغيث فلما رأوها استبشروا وقالوا : هذا عارض ممطرنا فجاءتهم منا ريح عقيم ، وأول من رأى ذلك امرأة منهم يقال لها مهدر ولما رأته صفقت فلما أفاقت قالوا : ما رأيت قالت : رأيت ريحا فيها كشهب النار أمامها رجال يقودونها

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 399
فسخرها الله تعالى عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فلم تدع منهم أحدا إلا أهلكته واعتزل هود عليه السلام ومن معه في حظيرة ما يصيبهم من الريح إلا ما تلين به الجلود وتلتذ به الأنفس ، ثم إنه عليه السلام أتى هود ومن معه مكة فعبدوا الله تعالى فيها إلى أن ماتوا وقبره عليه السلام قيل هناك في البقعة التي بين الركن والمقام وزمزم ، وفيها - كما أخرج ابن عساكر عن عبد الرحمن بن سابط - قبور تسعة وسبعين نبيا منهم أيضا نوح ، وشعيب ، وصالح ، وإسماعيل عليهم السلام ، وأخرج البخاري في تاريخه ، وابن جرير وغيرهما عن علي كرم الله تعالى وجهه أن قبره عليه السلام بحضرموت في كثيب أحمر عند رأسه سدرة ،
وأخرج ابن عساكر عن ابن أبي العاتكة قال : قبلة مسجد دمشق قبر هود عليه السلام ، وعمر كما أخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أربعمائة واثنتين وسبعين سنة والله تعالى أعلم.
ومن باب الإشارة في الآيات : على ما قاله القوم رضي الله تعالى عنهم إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ أي سماوات الأرواح وَالْأَرْضَ أي أرض الأبدان فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وهي ستة آلاف سنة وإن يوما عند ربكم كألف سنة مما تعدون وهي من لدن خلق آدم عليه السلام إلى زمان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهي في الحقيقة من ابتداء دور الخفاء إلى ابتداء الظهور الذي هو زمان ختم النبوة وظهور الولاية ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وهو القلب المحمدي بالتجلي التام وهو التجلي باسمه تعالى الجامع لجميع الصفات. وللصوفية عدة عروش نبهنا عليها في كتابنا - الطراز المذهب في شرح قصيدة الباز الأشهب - .
وتمام الكلام عليها في شمس المعارف للإمام البوني قدس سره يُغْشِي اللَّيْلَ أي ليل البدن النَّهارَ أي نهار الروح يَطْلُبُهُ بالتهيؤ والاستعداد لقبوله باعتدال مزاجه حَثِيثاً أي سريعا وَالشَّمْسَ أي شمس الروح وَالْقَمَرَ أي قمر القلب وَالنُّجُومَ أي نجوم الحواس مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ الذي هو الشأن المذكور في قوله تعالى : كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ادْعُوا رَبَّكُمْ أي اعبدوه تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إشارة إلى طريق الجلوة والخلوة أو ادعوه بالجوارح والقلب أو بأداء حق العبودية ومطالب حق الربوبية إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ المتجاوزين عما أمروا به بترك الامتثال أو الذين يطلبون منه سواه وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ أي أرض البدن بَعْدَ إِصْلاحِها بالاستعداد وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً لئلا يلزم إهمال إحدى صفتي الجلال والجمال وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ أي رياح العناية بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي تجلياته حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ حملت سَحاباً ثِقالًا بأمطار المحبة سُقْناهُ لِبَلَدٍ قلب مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ ماء المحبة فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ من المشاهدات والمكاشفات كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى القلوب الميتة من قبور الصدور لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أيام حياتكم في عالم الأرواح حيث كنتم في رياض القدس وحياض الأنس وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ وهو ما طاب استعداده يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ حسنا غزيرا نفعه وَالَّذِي خَبُثَ وهو ما ساء استعداده لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً لأخير فيه لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً أي نوح الروح إِلى قَوْمِهِ من القلب وأعوانه والنفس وأعوانها فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ كالقلب وأعوانه فِي الْفُلْكِ وهو سفينة الاتباع وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا في بحار الدنيا ومياه الشهوات
إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ عن طريق الوصول ورؤية الله تعالى ، وعلى هذا المنوال ينسج الكلام في باقي الآيات.
ولمولانا الشيخ الأكبر قدس سره في هؤلاء القوم ونحوهم كلام تقف الأفكار دونه حسرى فمن أراده فليرجع إلى الفصوص يرى العجب العجاب والله تعالى الهادي إلى سبيل الرشاد.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 400
[سورة الأعراف (7) : الآيات 73 إلى 87]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)
فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87)
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً عطف على ما سبق من قوله تعالى : «وإلى عاد أخاهم» موافق له في تقديم المجرور على المنصوب ، وثَمُودَ قبيلة من العرب كانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وسميت باسم أبيهم الأكبر ثمود بن عامر بن إرم بن سام بن نوح ، وقيل : ابن عاد بن عوص بن إرم إلخ وهو المنقول عن الثعلبي.
وقال عمرو بن العلاء : إنما سموا بذلك لقلة مائهم فهو من ثمد الماء إذا قل ، والثمد الماء القليل وورد فيه

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 401
الصرف وعدمه ، أما الأول فباعتبار الحي أو لأنه لما كان في الأصل اسما للجد أو للقليل من الماء كان مصروفا لأنه علم مذكر أو اسم جنس فبعد النقل حكى أصله ، وأما الثاني فباعتبار أنه اسم القبيلة ففيه العلمية والتأنيث.
وصالح عليه السلام من ثمود فالأخوة نسبية ، وهو على ما قال محيي السنة البغوي بن عبيد بن أسف بن ماشح ابن عبيد بن حاذر بن ثمود وهو أخو طسم. وجديس فيما قيل ، وقال وهب : هو ابن عبيد بن جابر بن ثمود بن جابر بن سام بن نوح بعث إلى قومه حين راهق الحلم وكان رجلا أحمر إلى البياض سبط الشعر فلبث فيهم أربعين عاما. وقال الشامي : إنه بعث شابا فدعا قومه حتى شمط وكبر ، ونقل النووي أنه أقام فيهم عشرين سنة ومات بمكة وهو ابن ثمان وخمسين سنة.
قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قد مر الكلام في نظائره قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ أي آية ومعجزة ظاهرة الدلالة شاهدة بنبوتي وهي من الألفاظ الجارية مجرى الأبطح والأبرق في الاستغناء عن ذكر موصوفاتها حالة الأفراد والجمع ، والتنوين للتفخيم أي بينة عظيمة مِنْ رَبِّكُمْ متعلق بمحذوف وقع صفة لبينة على ما مر غير مرة أو بجاءتكم ، ومِنْ لابتداء الغاية مجازا أو للتبعيض أن قدر من بينات ربكم ، والمراد بهذه البينة الناقة وليس هذا الكلام منه عليه السلام أول ما خاطبهم به إثر الدعوة إلى التوحيد بل إنما قاله بعد ما نصحهم وذكرهم بنعم الله تعالى فلم يقبلوا كلامه وكذبوه كما ينبىء عن ذلك ما في سورة هود. وقوله تعالى : هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً استئناف نحوي مسوق لبيان البينة والمعجزة وجوز أن يكون استئنافا بيانيا جوابا لسؤال مقدر تقديره أين هي؟ وعلى التقديرين لا محل للجملة من الإعراب. وجوز أن يكون بدلا من بَيِّنَةٌ بدل جملة من مفرد للتفسير. ولا يخفى بعده ، وإضافة الناقة إلى الاسم الجليل لتعظيمها كما يقال : بيت الله للمسجد بيد أن الإضافة فيه لأدنى ملابسة ولا كذلك ما نحن فيه أو لأنها ليست بواسطة نتاج معتاد وأسباب معهودة كما سيتضح إن شاء الله تعالى لك ولذلك كانت آية وأي آية. وقيل :
لأنها لم يملكها أحد سواه سبحانه. وقيل : لأنها كانت حجة الله على قوم صالح. وانتصاب آيَةً على الحالية من ناقَةُ والعامل فيها معنى الإشارة وسماه النحاة العامل المعنوي ولَكُمْ بيان لمن هي آية له كما في سقيا لك فيتعلق بمقدر. وجوز أن يكون ناقَةُ بدل من هذِهِ أو عطف بيان له أو مبتدأ ثانيا ولَكُمْ خبرا فآية حينئذ حال من الضمير المستتر فيه والعامل هو أو متعلقة فَذَرُوها تفريغ على كونها آية من آيات الله تعالى. وقيل : على كونها ناقة له سبحانه فإن ذلك مما يوجب عدم التعرض لها أي فاتركوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ العشب وحذف للعلم به والفعل مجزوم لأنه جواب الأمر.
وقرأ أبو جعفر في رواية عنه تَأْكُلْ بالرفع فالجملة حالية أي أكلة. والجار والمجرور متعلق بما عنده أو بالأمر السابق فهما متنازعان. وأضيفت الأرض إلى الله سبحانه قطعا لعذرهم في التعرض كأنه قيل : الأرض أرض الله تعالى والناقة ناقة الله تعالى فذروا ناقة الله تأكل في أرضه فليست الأرض لكم ولا ما فيها من النبات من أنباتكم فأي عذر لكم في منعها. وعدم التعرض للشرب للاكتفاء عنه بذكر الأكل. وقيل : لتعميمه له أيضا كما في قوله :
علفتها تبنا وماء باردا وقد ذكر ذلك بقوله سبحانه : لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشعراء : 155] وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ نهي عن المس الذي هو مقدمة الإصابة بالشر الشامل لأنواع الأذى مبالغة في الزجر فهو كقوله تعالى : وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ
[الأنعام : 152 ، الإسراء : 34]. والجار والمجرور متعلق بالفعل. والتنكير للتعميم أي لا تتعرضوا لها بشيء مما يسوؤها أصلا كالطرد والعقر وغير ذلك. وقيل : الجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل الفعل. والمعنى لا تمسوها مع قصد السوء بها فضلا عن الإصابة فهو كقوله تعالى : لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النساء : 43].

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 402
فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ منصوب في جواب النهي. والمعنى لا تجمعوا بين المس وأخذ العذاب إياكم.
والأخير وإن لم يكن من صنيعهم حقيقة لكن لتعاطيهم أسبابه كأنه من صنيعهم.
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ أي خلفاء في الأرض أو خلفاء لهم قيل : ولم يقل : خلفاء عاد مع أنه أخصر إشارة إلى أن بينهما زمانا طويلا وَبَوَّأَكُمْ أي أنزلكم وجعل لكم مباءة فِي الْأَرْضِ أي أرض الحجر بين الحجاز والشام تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً أي تبنون في سهولها مساكن رفيعة. فمن بمعنى في كما في قوله تعالى : إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الجمعة : 9] ويجوز أن تكون ابتدائية أو تبعيضية أي تعملون القصور من مادة مأخوذة من السهل كاللبن والآجر المتخذين من الطين - والجار والمجرور - على ما قال أبو البقاء - يجوز أن يتعلق بمحذوف وقع حالا مما بعده. وأن يكون مفعولا ثانيا لتتخذون. وأن يكون متعلقا به وهو متعد لواحد.
والسهل خلاف الحزن وهو موضع الحجارة والجبال. والجملة استئناف مبين لكيفية التبوئة فإن هذا الاتخاذ بأقداره سبحانه وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ أي تنجرونها ، والنحت معروف في كل صلب ومضارعه مكسور الحاء.
وقرأ الحسن بالفتح لحرف الحلق ، وفي القاموس عنه أنه قرأ «تنحاتون» بالإشباع كينباع ، وانتصاب الْجِبالَ على المفعولية ، وقوله سبحانه : بُيُوتاً نصب على أنه حال مقدرة منها لأنها لم تكن حال النحت بيوتا كخطت الثوب جبة ، والحالية - كما قال الشهاب - باعتبار أنها بمعنى مسكونة إن قيل بالاشتقاق فيها ، وقيل :
انتصاب الْجِبالَ ينزع الخافض أي من الجبال ، ويرجحه أنه وقع في آية أخرى كذلك ، ونصب بُيُوتاً على المفعولية ، وجوز أن يضمن النحت معنى الاتخاذ فانتصابهما على المفعولية. روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم اتخذوا القصور في السهول ليصيفوا فيها ونحتوا من الجبال بيوتا ليشتّوا فيها ، وقيل : إنهم نحتوا الجبال بيوتا لطول أعمارهم وكانت الأبنية تبلى قبل أن تبلى أعمارهم فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ أي نعمه التي أنعم بها عليكم مما ذكر أو جميع نعمه ويدخل فيها ما ذكر دخولا أوليا ، وليس المراد مجرد الذكر باللسان كما علمت.
وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فإن حق آلائه تعالى أن تشكروا ولا يغفل عنها فكيف بالكفر ، والعثي الإفساد فمفسدين حال مؤكدة كما في وَلَّوْا مُدْبِرِينَ قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ [النمل : 80 ، والروم : 52] أي الأشراف الذين عتوا وتكبروا ، والجملة استئناف كما مر غيره مرة. وقرأ ابن عامر «وقال» بالواو عطفا على ما قبله من قوله تعالى : قالَ يا قَوْمِ إلخ ، واللام في قوله سبحانه : لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أي عدوا ضعفاء أذلاء للتبليغ كما في أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ [البقرة : 33 ، يوسف : 96 ، القلم : 28] ، وقوله تعالى : لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من الموصول بإعادة العامل بدل الكل من الكل كقولك مررت بزيد بأخيك. والضمير المجرور راجع إلى قومه.
وجوز أن يكون بدل بعض من كل على أن الضمير للذين استضعفوا فيكون المستضعفون قسمين مؤمنين وكافرين ، ولا يخفى بعده ، والاستفهام في قوله جل شأنه. أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ للاستهزاء لأنهم يعلمون أنهم عالمون بذلك ولذلك لم يجيبوهم على مقتضى الظاهر كما حكى سبحانه عنهم بقوله : قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ فإن الجواب الموافق لسؤالهم نعم أو نعلم أنه مرسل منه تعالى. ومن هنا قال غير واحد إنه من الأسلوب الحكيم فكأنهم قالوا : العلم بإرساله وبما أرسل به ما لا كلام فيه ولا شبهة تدخله لوضوحه وإنارته وإنما الكلام في وجوب الإيمان به فنخبركم أنا به مؤمنون.
واختار في الانتصاف أن ذلك ليس إخبارا عن وجوب الإيمان به بل عن امتثال الواجب فإنه أبلغ من ذلك فكأنهم قالوا : العلم بإرساله وبوجوب الإيمان به لا نسئل عنه وإنما الشأن في امتثال الواجب والعمل به ونحن قد امتثلنا قالَ

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 403
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا
استئناف كما تقدم ، وأعيد الموصول مع صلته مع كفاية الضمير إيذانا بأنهم قالوا ما قالوه بطريق العتو والاستكبار إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ عدول عن مقتضى الظاهر أيضا وهو أنا بما أرسل به كافرون ، وفائدته - كما قالوا - الرد جعله المؤمنون معلوما وأخذوه مسلما كأنهم قالوا : ليس ما جعلتموه معلوما مسلما من ذلك القبيل ، وقال في الانتصاف : عدلوا عن ذلك حذرا مما في ظاهره من إثابتهم لرسالته وهم يجحدونها ، وليس هذا موضع التهكم ليكون كقول فرعون إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون فإن الغرض إخبار كل واحد من المؤمنين والمكذبين عن حاله فلذا خلص الكافرون قولهم عن إشعار الإيمان بالرسالة احتياطا للكفر وغلوا في الإصرار فَعَقَرُوا النَّاقَةَ أن نحروها. قال الأزهري : أصل العقر عند العرب قطع عرقوب البعير ثم استعمل في النحر لأن ناحر البعير يعقره ثم ينحره وإسناده إلى الكل مع أن المباشر البعض مجاز لملابسة الكل لذلك الفعل لكونه بين أظهرهم وهم متفقون على الضلال والكفر أو لرضا الكل به أو لأمرهم كلهم به كما ينبىء عنه قوله تعالى : فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ [القمر : 29] ، وقيل : إن العقر مجاز لغوي عن الرضا بالنسبة إلى غير فاعله وليس بشيء.
وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ أي استكبروا عن امتثاله وهو ما بلغهم صالح عليه السلام من الأمر السابق فالأمر واحد الأوامر ، وجوز أن يكون واحد الأمور أي استكبروا عن شأن الله تعالى ودينه وهو بعيد.
وأوجب بعضهم على الأول أن يضمن عَتَوْا معنى التولي أي تولوا عن امتثال أمره عاتين أو معنى الإصدار أي صدر عتوهم عن أمرهم ربهم وبسببه لأنه تعالى لما أمرهم بقوله : فَذَرُوها إلخ ابتلاهم فما امتثلوا فصاروا عاتين بسببه ولولا الأمر ما ترتب العقر والداعي للتأول بتولوا أو صدر أن عتا لا يتعدى بعن فتعديته به لذلك كما في قوله تعالى : وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف : 82] وبعضهم لا يقول بالتضمين بناء على أن عتا بمعنى استكبر كما في القاموس وهو يتعدى بعن فافهم وَقالُوا مخاطبين له عليه السلام بطريق التعجيز والإفحام على زعمهم الفاسد : يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب وأطلق للعلم به إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فإن كونك منهم يقتضي صدق ما تقول من الوعد والوعيد فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قال الفراء والزجاج : أي الزلزلة الشديدة.
وقال مجاهد والسدي : هي الصيحة ، وجمع بين القولين بأنه يحتمل أنه أخذتهم الزلزلة من تحتهم والصيحة من فوقهم ، وقال بعضهم : الرجفة خفقان القلب واضطرابه حتى ينقطع ، وجاء في موضع آخر الصيحة وفي آخر بالطاغية ولا منافاة بين ذلك كما زعم بعض الملاحدة فإن الصيحة العظيمة الخارقة للعادة حصل منها الرجفة لقلوبهم ولعظمها وخروجها عن الحد المعتاد تسمى الطاغية لأن الطغيان مجاوزة الحد ، ومنه قوله تعالى : إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ أو يقال : إن الإهلاك بذلك بسبب طغيانهم وهو معنى بالطاغية وهذا الأخذ ليس أثر ما قالوا ما قالوا بل بعد ما جرى عليهم ما جرى من مبادئ العذاب في الأيام الثلاث كما ستعلمه إن شاء الله تعالى والفاء لا تأبى ذلك.
فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ هامدين موتى لا حراك بهم ، وأصل الجثوم البروك على الركب.
وقال أبو عبيدة : الجثوم للناس والطير بمنزلة البروك للإبل فجثوم الطير هو وقوعه لاطئا بالأرض في حال سكونه بالليل ، وأصبح يحتمل أن تكون تامة فجاثمين حال وأن تكون ناقصة فجاثمين خبر ، والظرف على التقديرين متعلق به. وقيل : وهو خبر وجاثِمِينَ حال وليس بشيء لإفضائه إلى كون الإخبار بكونهم في دارهم مقصودا بالذات ، والمراد من الدار البلد كما في قولك دار الحرب ودار الإسلام وقد جمع في آية آخري بإرادة منزل كل واحد الخاص به ، وذكر النيسابوري أنه حيث ذكرت الرجفة وجدت الدار وحيث ذكرت الصيحة جمعت لأن الصيحة كانت من السماء كما في غالب الروايات لا من الأرض كما قبل فبلوغها أكثر وأبلغ من الزلزلة فقرن كل منهما بما هو أليق به فتدبر.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 404
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ بعد أن جرى عليهم ما جرى على ما هو الظاهر مغتما متحسرا على ما فاتهم من الإيمان متحزنا عليهم وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ بالترغيب والترهيب ولم آل جهدا فلم يجد نفعا ولم تقبلوا مني. وصيغة المضارع في قوله سبحانه : وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ حكاية حال ماضية أي شأنكم الاستمرار على بغض الناصحين وعداوتهم ، وخطابه عليه السلام لهم كخطاب رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم قتلى المشركين حين ألقوا في قليب بدر حين نادى يا فلان بأسمائهم إنا وجدنا ما عدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم وذلك مبني على أن الله تعالى برد أرواحهم إليهم فيسمعون وذلك مما خص به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ويحتمل أنه عليه السلام ذكر ذلك على سبيل التحزن والتحسر كما تخاطب الديار والأطلال ، وجوز عطف فَتَوَلَّى على فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فيكون الخطاب لهم حين أشرفوا على الهلاك لكنه خلاف الظاهر ، وأبعد من ذلك ما قيل إن الآية على التقديم والتأخير فتقديرها : فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين.
وقصة ثمود على ما ذكر ابن إسحاق. وغيره أن عادا لما هلكوا عمرت ثمود بعدها واستخلفوا في الأرض وعمروا حتى جعل أحدهم يبني المسكن من المدر فينهدم والرجل حي فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتا وكانوا في سعة من معاشهم فعتوا في الأرض وعبدوا غير الله تعالى فبعث الله تعالى إليهم صالحا وكانوا قوما عربا وكان صالح عليه السلام من أوسطهم نسبا وبعث إليهم وهو شاب فدعاهم إلى الله تعالى حتى شمط وكبر ولم يتبعه منهم إلا قليل مستضعفون فلما ألح عليهم بالدعاء والتخويف سألوه أن يريهم آية تصدق ما يقول فقال لهم : أية آية تريدون؟
فقالوا : تخرج غدا معنا إلى عيدنا وكان لهم عيد يخرجون فيه بأصنامهم فتدعو إلهك وندعوا آلهتنا فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا فقال لهم صالح : نعم فخرجوا وخرج معهم فدعوا أوثانهم وسألوها أن لا يستجاب لصالح في شيء مما يدعو به ثم قال جندع بن عمرو بن حراش وهو يومئذ سيد ثمود : يا صالح أخرج لنا من هذه الصخرة - الصخرة منفردة ناحية الحجر يقال لها الكاثبة - ناقة مخترجة أي تشاكل البخت أو مخرجة على خلقة الجمل جوفاء وبراء فإن فعلت صدقناك وآمنا بك فأخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن فعلت لتصدقني ولتؤمنن بي قالوا : نعم فصلى ركعتين ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله تعالى عظما وهم ينظرون ثم نتجت ولدا مثلها في العظم فآمن به جندع ورهط من قومه وأراد أشرافهم أن يؤمنوا به فمنعهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد والحباب صاحب أوثانهم ورباب بنصعر كاهنهم فلما خرجت الناقة قال لهم : هذه ناقة الله لها شرب ولكم شرب يوم معلوم فمكثت الناقة ومعها سقبها في أرضهم ترعى الشجر وتشرب الماء وكانت ترده غبا فإذا كان يومها وضعت رأسها في بئر في الحجر يقال له الآن بئر الناقة فما ترفع رأسها حتى تشرب كل ما فيها ثم ترفع رأسها وتتفحج لهم فيحلبون ما شاؤوا من اللبن فيشربون ويدخرون ثم تصدر من غير الفج الذي وردت منه لا تقدر تصدر من حيث ترد لضيقه عنها حتى إذا كان الغد يومهم فيشربون ما شاؤوا ويدخرون ما شاؤوا ليوم الناقة ولم يزالوا في سعة ورغد وكانت الناقة تصيف إذا كان الحر بظهر الوادي فتهرب منها مواشيهم وتهبط إلى بطن الوادي في حره وجدبه وتشتو في بطن الوادي فتهرب مواشيهم إلى ظهره في برد وجدب فأضر ذلك بمواشيهم للأمر الذي يريده الله تعالى بهم والبلاء والاختبار فكبر ذلك عليهم فعتوا عن أمر ربهم فأجمعوا على عقرها وكانت امرأتان من
ثمود يقال لأحداهما عنيزة بنت غنم بن مجلز وتكنى بأم غنم وكانت امرأة ذؤاب بن عمرو وكانت عجوزا مسنة ذات بنات حسان وذات مال من إبل ، وبقر ، وغنم ويقال للأخرى : صدوق بنت المختار وكانت جميلة غنية ذات مواش كثيرة وكانت من أشد الناس عداوة لصالح : عليه السلام وكانتا يحبان عقر الناقة لما

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 405
أضرت من مواشيهما فدعت صدوق رجلا يقال له الحباب لعقر الناقة وعرضت عليه نفسها إن هو فعل فأبى فدعت ابن عم لها يقال له مصدع ابن مهرج وجعلت له نفسها إن هو فعل فأجابها إلى ذلك ودعت عنيزة أم غنم قدار بن سالف وكان رجلا أحمر أزرق قصيرا يزعمون إنه لزانية ولم يكن لسالف لكنه ولد على فراشه فقالت : أعطيك أي بناتي شئت على أن تعقر الناقة وكان عزيزا منيعا في قومه فرضي وانطلق وهو ومصدع فاستغويا غواة ثمود فاتبعهم سبعة فكانوا تسعة رهط فانطلقوا ورصدوا الناقة حتى صدرت عن الماء وقد كمن لها قدار في أصل صخرة على طريقها وكمن لها مصدع في أصل أخرى فمرت على مصدع فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها وخرجت أم غنم فأمرت إحدى بناتها وكانت من أحسن الناس وجها فسفرت عن وجهها ليراها قدار ثم حثته على عقرها فشد على الناقة بالسيف فكشف عن عرقوبها فخرت ورغت رغاة واحدة فتحدر سقبها من الجبل ثم طعن قدار في لبتها فنحرها فخرج أهل البلدة فاقتسموا لحمها فلما رأى سقبها ذلك انطلق هاربا حتى أتى جبلا منيعا يقال له قارة فرغا ثلاثا وكان صالح عليه السلام قال لهم : أدركوا الفصيل عسى أن يدفع عنكم العذاب فخرجوا في طلبه فرأوا على الجبل وراموه فلم ينالوه وانفجت الصخرة بعد رغائه فدخلها فقال لهم صالح : لكل رغوة أجل يوم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب.
وعن ابن إسحاق أنه تبع السقب من التسعة أربعة وفيهم مصدع فرماه بسهم فأصاب قلبه ثم جر برجله فأنزله وألقوا لحمه مع لحم أمه وقال لهم صالح : انتهكتم حرمة الله تعالى فأبشروا بعذابه ونقمته فكانوا يهزؤأون به ويقولون متى هو وما آيته؟ فقال : تصبحون غدا وكان يوم الخميس ووجوهكم مصفرة وبعد غد ووجوهكم محمرة واليوم الثالث ووجوهكم مسودة ثم يصبحكم العذاب فهم أولئك الرهط بقتله فأتوه ليلا فدمغتهم الملائكة بالحجارة فلما أبطؤوا على أصحابهم أتوا منزل صالح فوجدوهم قد رضخوا بالحجارة فقالوا لصالح : أنت قتلتهم ثم هموا به فمنع عنه عشيرته ثم لما رأوا العلامات طلبوه ليقتلوه فهرب ولحق بحي من ثمود يقال لهم : بنو غنم فنزل على سيدهم واسمه نفيل ويكنى بأبي هدب فطلبوه منه فقال : ليس لكم إليه سبيل فتركوه وشغلهم ما نزل بهم ثم خرج عليه السلام ومن معه إلى الشام فنزل رملة فلسطين ولما كان اليوم الرابع وارتفع الضحى تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالأنطاع فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم وهلكوا جميعا إلا جارية مقعدة يقال لها ذريعة بنت سلف وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح عليه السلام فأطلق الله تعالى رجليها بعد أن عاينت العذاب فخرجت مسرعة حتى أتت وادي القرى فأخبرتهم الخبر ثم استسقت ماء فسقيت فلما شربت ماتت وكان رجل منهم يقال له : أبو رغال وهو أبو ثقيف في حرم الله تعالى فمنعه الحرم من عذاب الله تعالى فلما خرج أصابه ما أصابهم فدفن ومعه غصن من ذهب. وروي أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مر بقبره فأخبر بخبره فابتدره الصحابة رضي الله تعالى عنهم بأسيافهم فحفروا عنه واستخرجوا ذلك الغصن.
وروي أنه عليه السلام خرج في مائة وعشرين من المسلمين وهو يبكي فالتفت فرأى الدخان ساطعا فعلم أنهم قد هلكوا وكانوا ألفا وخمسمائة دار.
وروي أنه رجع بمن معه فسكنوا ديارهم.
وأخرج أبو الشيخ عن وهب قال : إن صالحا لما نجا هو والذين معه قال : يا قوم إن هذه دار قد سخط الله تعالى عليها وعلى أهلها فأظعنوا وألحقوا بحرم الله تعالى وأمنه فأهلوا من ساعتهم بالحج وانطلقوا حتى وردوا مكة فلم يزالوا بها حتى ماتوا فتلك قبورهم في غربي الكعبة.
وروى ابن الزبير عن جابر أن نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم لما مر بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه : «لا يدخلن أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائها ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل الذي أصابهم»
وذكر محيي السنة البغوي أن المؤمنين الذين مع صالح كانوا أربعة آلاف وأنه خرج بهم إلى حضرموت فلما دخلها مات عليه السلام فسميت لذلك حضرموت ثم بني الأربعة آلاف مدينة يقال لها حاضوراء ، ثم نقل عن قوم من أهل العلم أنه توفي بمكة وهو ابن ثمان وخمسين سنة ولعله المعول عليه ، وجاء أن أشقى

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 406
الأولين عاقر الناقة وأشقى الآخرين قاتل علي كرم الله تعالى وجهه وقد أخبر صلّى اللّه عليه وسلّم بذلك عليا رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه.
وعندي أن أشقى الآخرين أشقى من أشقى الأولين. والفرق بينهما كالفرق بين علي كرم الله تعالى وجهه والناقة. وقد أشارت الأخبار بل نطقت بأن قاتل الأمير كان مستحلا قتله بل معتقدا الثواب عليه وقد مدحه أصحابه على ذلك فقال عمران بن حطان غضب الله تعالى عليه :
يا ضربة من تقى ما أراد بها ألا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوما فأحسبه أوفى البرية عند الله ميزانا
ولله در من قال :
يا ضربة من شقي أوردته لظى فسوف يلقى بها الرحمن غضبانا
كأنه لم يرد شيئا بضربته إلا ليصلى غدا في الحشر نيرانا
إني لأذكره يوما فألعنه كذاك ألعن عمران بن حطانا
وكون فعله كان عن شبهة تنجيه مما لا شبهة في كونه ضربا من الهذيان ولو كان مثل تلك الشبهة منجيا من عذاب مثل هذا الذنب فليفعل الشخص ما شاء سبحانك هذا بهتان عظيم. وقد ضربت بقدار عاقر الناقة الأمثال ، وما ألطف قول عمارة اليمني :
لا تعجبا لقدار ناقة صالح فلكل عصر ناقة وقدار
وفي هذه القصة روايات أخر تركناها اقتصارا على ما تقدم لأنه أشهر وَلُوطاً نصب بفعل مضمر أي أرسلنا معطوف على ما سبق أو به من غير حاجة إلى تقدير ، وإنما لم يذكر المرسل إليهم على طرز ما سبق وما لحق لأن قومه - على ما قيل - لم يعهدوا باسم معروف يقتضي الحال ذكره عليه السلام مضافا إليهم كما في القصص من قبل ومن بعد وهو ابن هاران بن تارخ. وابن إسحاق ذكر بدل تاريخ آزر وأكثر النسابين على أنه عليه السلام ابن أخي إبراهيم صلّى اللّه عليه وسلّم ورواه في المستدرك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وأخرج ابن عساكر عن سليمان بن صرد أن أبا لوط عليه السلام عم إبراهيم عليه السلام ، وقيل : إن لوطا كان ابن خالة إبراهيم وكانت سارة زوجته أخت لوط وكان في أرض بابل من العراق مع إبراهيم فهاجر إلى الشام ونزل فلسطين وأنزل لوطا الأردن وهو كرة بالشام فأرسله الله تعالى إلى أهل سدوم وهي بلدة بحمص.
وأخرج إسحاق بن بشر ، وابن عساكر عن ابن عباس قال : أرسل لوط إلى المؤتفكات وكانت قرى لوط أربع مدائن سدوم ، وأمورا ، وعامورا ، وصبوير وكان في كل قرية مائة ألف مقاتل وكانت أعظم مدائنهم سدوم وكان لوط يسكنها وهي من بلاد الشام ومن فلسطين مسيرة يوم وليلة ، وهذا اللفظ - على ما قال الزجاج - اسم أعجمي غير مشتق ضرورة أن العجمي لا يشتق من العربي وإنما صرف لخفته بسكون وسطه ، وقيل : إنه مشتق من لطت الحوض إذا ألزقت عليه الطين ، ويقال : هذا لوط بقلبي من ذلك أي ألصق به ولاط الشيء أخفاه. وقوله تعالى : إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ ظرف لأرسلنا كما قال غير واحد. واعترض بأن الإرسال قبل وقت القول لا فيه كما تقتضيه هذه الظرفية ، ودفع بأنه يعتبر الظرف ممتدا كما يقال زيد في أرض الروم فهو ظرف غير حقيقي يعتبر وقوع المظروف في بعض أجزائه كما قرره القطب ، وجوز أن يكون لُوطاً منصوبا با ذكر محذوفا فيكون من عطف القصة على القصة ، وإِذْ بدل من لوط بدل اشتمال بناء على أنها لا تلزم الظرفية ، وقال أبو البقاء : إنه ظرف الرسالة محذوفا أي واذكر رسالة لوط إذ قال :
أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ استفهام على سبيل التوبيخ والتقريع أي أتفعلون تلك الفعلة التي بلغت أقصى القبح وغايته

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 407
ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ أي ما عملها أحد قبلكم في زمن من الأزمان فالباء للتعدية كما في الكشاف من قولك : سبقته بالكرة «1» إذا ضربتها قبله ، ومنه ما صح من
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم «سبقك بها عكاشه»
وتعقبه ابن حيان بأن معنى التعدية هنا قلق جدا لأن الباء المعدية في الفعل المعدي إلى واحد تجعل المفعول الأول يفعل ذلك الفعل بما دخلت عليه الباء فهي كالهمزة فإذا قلت : صككت الحجر بالحجر كان معناه أصككت الحجر الحجر أي جعلت الحجر يصك الحجر وكذلك دفعت زيدا بعمرو عن خالد معناه أدفعت زيدا عمرا عن خالد أي جعلت زيدا يدفع عمرا عن خالد فللمفعول الأول تأثير في الثاني ولا يصح هذا المعنى فيما ذكر إلا بتكلف فالظاهر أن الباء للمصاحبة أي ما سبقكم أحد مصاحبا وملتبسا بها ، ودفع بأن المعنى على التعدية ، ومعنى سبقته بالكرة أسبقت كرتي كرته لأن السبق بينهما لا بين الشخصين أو الضربين وكذا في الآية ومثله يفهم من غير تكلف ، وقال القطب الرازي : إن المعنى سبقت ضربه الكرة بضربي الكرة أي جعلت ضربي الكرة سابقا على ضربه الكرة. ثم استظهر جعل الباء للظرفية لعدم احتياجه إلى ما يحتاجه جعلها للتعدية أي ما سبقكم في فعل الفاحشة أحد ولعل الأمر كما قال ، ومِنْ الأولى صلة لتأكيد النفي وإفادة معنى الاستغراق والثانية للتبعيض ، والجملة مستأنفة استئنافا نحويا مسوقة لتأكيد النكير وتشديد التقريع والتوبيخ ، وجوز أن يكون بيانا كأنه قيل : لم لا نأتيها؟ فقال : ما سبقكم بها أحد فلا تفعلوا ما لم تسبقوا إليه من المنكرات لأنه أشد ، ولا يتوهم أن سبب إنكار الفاحشة كونها مخترعة ولولاه لما أنكرت إذ لا مجال له بعد كونها فاحشة. ووجه كون هذه الجملة مؤكدة للنكير أنها مؤذنة باختراع السوء ولا شك أن اختراعه أسوأ إذ لا مجال للاعتذار عنه كما اعتذروا عن عبادتهم الأصنام مثلا بقولهم : إنا وجدنا آباءنا.
وجوز أبو البقاء كون الجملة في موضع الحال من المفعول أو الفاعل ، والنيسابوري جوز كونها صفة للفاحشة على حد :
ولقد أمر على اللئيم يسبني ورد بأن الفاحشة هنا متعينة دون اللئيم ، وكيفما كان فالمراد من نفي سبق أحد بها إياهم كونهم سابقين بها كل أحد ممن عداهم من العالمين لا مساواتهم الغير بها فقد أخرج البيهقي وغيره عن عمرو بن دينار قال ما نزا ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط ، والذي حملهم على ذلك - كما أخرج ابن عساكر. وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - أنهم كانت لهم ثمار في منازلهم وحوائطهم وثمار خارجة على ظهر الطريق وأنهم أصابهم قحط وقلة من الثمار فقال بعضهم لبعض : إنكم إن منعتم ثماركم هذه الظاهرة من أبناء السبيل كان لكم فيها عيش قالوا : بأي شيء نمنعها؟
قالوا : اجعلوا سنتكم أن تنكحوا من وجدتم في بلادكم غريبا وتغرموه أربعة دراهم فإن الناس لا يظهرون ببلادكم إذا فعلتم ذلك ففعلوه واستحكم فيهم. وفي بعض الطرق أن إبليس عليه اللعنة جاءهم عند ذكرهم ما ذكروا في هيئة صبي أجمل صبي رآه الناس فدعاهم إلى نفسه فنكحوه ثم جرؤوا على ذلك. وجاء من رواية ابن أبي الدنيا عن طاوس أن قوم لوط إنما أتوا أولا النساء في أدبارهن ثم أتوا الرجال. وفي قوله : مِنَ الْعالَمِينَ دون من الناس مبالغة لا تخفى.
وقوله سبحانه : إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ يحتمل الاستئناف البياني والنحوي وهو مبين لتلك الفاحشة ، والإتيان هنا بمعنى الجماع ، وقرأ ابن عامر. وجماعة أإنكم بهمزتين صريحتين ، ومنهم من قرأ بتليين الثانية بغير مد ، ومنهم من مد وهو حينئذ تأكيدا للإنكار السابق وتشديد للتوبيخ ، وفي الإتيان بأن واللام مزيد تقبيح وتقريع كأن ذلك أمر لا
___________
(1) قوله كرة بخطه والصواب كورة وهي معروفة حاكمها الآن الأمير عبد الله بوساطة الانكليز.

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 408
يتحقق صدوره عن أحد فيؤكد تأكيدا قويا ، وفي إيراد لفظ الرِّجالَ دون الغلمان والمردان ونحوهما - كما قال شيخ الإسلام - مبالغة في التوبيخ كأنه قال : لتأتون أمثالكم شَهْوَةً نصب على أنه مفعول له أي لأجل الاشتهاء لا غير أو على الحالية بتأويل مشتهين ، وجوز أن يكون منصوبا على المصدرية وناصبة تأتون لأنه بمعنى تشتهون ، وفي تقييد الجماع الذي لا ينفك عن الشهوة بها إيذان بوصفهم بالبهيمية الصرفة وأن ليس غرضهم قضاء الشهوة ، وفيه تنبيه على أنه ينبغي للعاقل أن يكون الداعي إلى المباشرة طلب الولد وبقاء النوع لإقضاء الشهوة ، وجوز أن يكون المراد الإنكار عليهم وتقريعهم على اشتهائهم تلك الفعلة القذرة الخبيثة كما ينبىء عنه قوله تعالى : مِنْ دُونِ النِّساءِ أي متجاوزين النساء اللاتي هن محل الاشتهاء عند ذوي الطباع السليمة كما يؤذن به قوله سبحانه : بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ فالجار والمجرور في موضع الحال من ضمير تأتون ، وجوز أن يكون حالا من الرجال - على ما قاله أبو البقاء - أي تأتونهم منفردين عن النساء ، وأن يكون في موضع الصفة لشهوة - على ما قيل - واستبعد تعلقه به ، و«بل» للإضراب وهو إضراب انتقالي عن الإنكار المذكور إلى الإخبار بما أدى إلى ذلك وهو اعتياد الإسراف في كل شيء أو إلى بيان استجماعهم للعيوب كلها.
ويحتمل أن يكون إضرابا عن غير مذكور وهو ما توهموه من العذر في ذلك أي لا عذر لكم فيه بل أنتم قوم عادتكم الإسراف والخروج عن الحدود ، وهذا في معنى ذمهم بالجهل كما في سورة النمل إلا أنه عبر بالاسم هنا وبالفعل هناك لموافقة رؤوس الآي المتقدمة في كل والله تعالى أعلم بأسرار كلامه وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ أي المستكبرين منهم المتصدين للعقد والحل إِلَّا أَنْ قالُوا استثناء مفرغ من أعم الأشياء أي ما كان جوابهم شيء من الأشياء إلا قولهم أي لبعضهم الآخرين المباشرين للأمور أو ما كان جواب قومه الذين خاطبهم بما خاطبهم شيء من الأشياء إلا قول بعضهم لبعض معرضين عن مخاطبته عليه السلام أَخْرِجُوهُمْ أي لوطا ومن معه مِنْ قَرْيَتِكُمْ أي بلدتكم التي أجمعتم فيها وسكنتم بها. والنظم الكريم من قبيل :
تحية بينهم ضرب وجيع والقصد منه نفي الجواب على أبلغ وجه لأن ما ذكر في حيز الاستثناء لا تعلق له بكلامه عليه السلام من إنكار الفاحشة وتعظيم أمرها ووسمهم بما هو أصل الشر كله. ولو قيل : وقالوا أخرجوهم لم يكن بهذه المثابة من الإفادة.
وقوله سبحانه : إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ تعليل للأمر بالإخراج. ومقصود الأشقياء بهذا الوصف السخرية بلوط ومن معه وبتطهرهم من الفواحش وتباعدهم عنها وتنزههم عما في المحاش والافتخار بما كانوا فيه من القذارة كما يقول الشطار من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم : أخرجوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتزهد. وقرىء برفع «جواب» على أنه اسم كان ، و«إلا أن قالوا» إلخ خبر قيل : وهو أظهر وإن كان الأول أقوى في الصناعة لأن الأعراف أحق بالاسمية. وقد تقدم ما ينفعك هنا فتذكر.
وأيا ما كان فليس المراد أنهم لم يصدر عنهم في مقابلة كلام لوط عليه السلام ومواعظه إلا هذه المقالة الباطلة كما ينساق إلى الذهن بل إنه لم يصدر عنهم في المرة الأخيرة من مرات المحاورات الجارية بينه عليه السلام وبينهم إلا هذه الكلمة الشنيعة ، وإلا فقد صدر عنهم قبل ذلك كثير من الترهات كما حكي عنهم في غير موضع من الكتاب الكريم وكذا يقال في نظائره ، قيل : وإنما جيء بالواو في وَما كانَ إلخ دون الفاء كما في النمل. والعنكبوت لوقوع الاسم قبل هنا والفعل هناك والتعقيب بالفعل بعد الفعل حسن دون التعقيب به بعد الاسم وفيه تأمل.
ولعل ذكر أَخْرِجُوهُمْ هنا وأَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ في [النمل : 56] إشارة إلى أنهم قالوا مرة هذا وأخرى

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 409
ذاك أو أن بعضا قال كذا وآخر قال كذا. وقال النيسابوري : إنما جاء في النمل أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ ليكون تفسيرا لهذه الكناية ، وقيل : إن تلك السورة نزلت قبل الأعراف. وقد صرح في الأولى ، وكني في الثانية اه. ولعل ما ذكرناه أولى فتأمل فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ أي من اختص به واتبعه من المؤمنين سواء كانوا من ذوي قرابته عليه السلام أم لا؟. وقيل :
ابنتاه ريثا ويغوثا. وللأهل معان ولكل مقام مقال. وهو عند الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه في باب الوصية الزوجة للعرف. ولقوله سبحانه : «قال لأهله امكثوا. وسار بأهله» فتدفع الوصية لها إن كانت كتابية أو مسلمة وأجازت الورثة.
وعند الإمامين أهل الرجل كل من في عياله ونفقته غير مماليكه وورثته ، وقولهما - كما في شرح التكملة - استحسان.
وأيده ابن الكمال بهذه الآية لأنه لا يصح فيها أن يكون بمعنى الزوجة أصلا لقوله سبحانه : إِلَّا امْرَأَتَهُ فإنه استثناء من أهله وحينئذ لا يصح الاستثناء ، وأنت تعلم أن الكلام في المطلق على القرينة لا في الأهل مطلقا واسم امرأته عليه السلام وأهله. وقيل : وآلهة كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ أي بعضا منهم فالتذكير للتغليب ولبيان استحقاقهما لما يستحقه المباشرون للفاحشة وكانت تسر الكفر وتوالي أهله فهلكت كما هلكوا.
وجوز أن يكون المعنى كانت مع القوم الغابرين فلا تغليب والغابر بمعنى الباقي ومنه قول الهذلي :
فغبرت بعدهم بعيش ناصب ويجيء بمعنى الماضي والذاهب ومنه قول الأعشى : في الزمن الغابر فهو من الأضداد كما في الصحاح. وغيره ، ويكون بمعنى الهالك أيضا. وفي بقاء امرأته مع أولئك القوم روايتان ثانيتهما أنه عليه السلام أخرجها مع أهله ونهاهم عن الالتفات فالتفتت هي فأصابها حجر فهلكت. والآية هنا محتملة للأمرين. والحسن وقتادة يفسران الغبور هنا بالبقاء في عذاب الله تعالى. وسيأتي إن شاء اللّه تعالى تتمة لهذا الكلام. والجملة استئناف وقع جوابا نشأ عن الاستثناء كأنه قيل :
فما كان حالها؟ فقيل : كانت من الغابرين.
وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً أي نوعا من المطر عجيبا وقد بينه قوله سبحانه : وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [الحجر : 74]. وفي الخازن أن تلك الحجارة كانت معجونة بالكبريت والنار. وظاهر الآية أنه أمطر عليهم كلهم. وجاء في بعض الآثار أنه خسف بالمقيمين منهم وأمطرت الحجارة على مسافريهم وشذاذهم حتى إن تاجرا منهم كان في الحرم فوقفت له حجر أربعين يوما حتى قضى تجارته وخرج من الحرم فوقع عليه. وفرق بين مطر وأمطر فعن أبي عبيدة أن الثلاثي في الرحمة والرباعي في العذاب ومثله عن الراغب ، وفي الصحاح عن أناس أن مطرت السماء وأمطرت بمعنى ، وفي القاموس لا يقال أمطرهم الله تعالى إلا في العذاب. وظاهر كلام الكشاف في الأنفال الترادف كما في الصحاح لكنه قال : وقد كثر الإمطار في معنى العذاب وذكر هنا أنه يقال : مطرتهم السماء وواد ممطور ويقال :
أمطرت عليهم كذا أي أرسلته إرسال المطر. وحاصل الفرق - كما في الكشف - ملاحظة معنى الإصابة في الأول والإرسال في الثاني ولهذا عدّي بعلى ، وذكر ابن المنير أن مقصود الزمخشري الرد على من يقول : إن مطرت في الخير وأمطرت في الشر ويتوهم أنها تفرقة وضعية فبين أن أمطرت معناه أرسلت شيئا على نحو المطر وإن لم يكن إياه حتى لو أرسل الله تعالى من السماء أنواعا من الخير لجاز أن يقال فيه : أمطرت السماء خيرا أي أرسلته إرسال المطر فليس للشر خصوصية في هذه الصيغة الرباعية ولكن اتفق أن السماء لم ترسل شيئا سوى المطر إلا وكان عذابا فظن أن الواقع اتفاقا مقصود في الوضع وليس به انتهى. ويعلم منه - كما قال الشهاب - أن كلام أبي عبيدة. وإضرابه مؤول وأن رد بقوله تعالى : عارِضٌ مُمْطِرُنا [الأحقاف : 24] فإنه عنى به الرحمة. ولا يخفى أنه لو قيل : إن التفرقة الاستعمالية إنما هي بين الفعلين دون متصرفاتهما لم يتأت هذا الرد إلا أن كلامهم غير صريح في ذلك ، ولعل البعض صرح بما يخالفه ثم إن مطرا إما مفعول به أو مفعول مطلق فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ أي مآل أولئك الكافرين

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 410
المقترفين لتلك الفعلة الشنعاء. وهذا خطاب لكل من يتأتى منه التأمل والنظر تعجيبا من حالهم وتحذيرا من أفعالهم.
وقد مكث لوط عليه السلام فيهم - على ما في بعض الآثار - ثلاثين سنة يدعوهم إلى ما فيه صلاحهم فلم يجيبوه وكان إبراهيم عليه السلام يركب على حماره فيأتيهم وينصحهم فيأبون أن يقبلوا فكان يأتي بعد أن أيس منهم فينظر إلى سدوم ويقول : سدوم أي يوم لك من الله تعالى سدوم حتى بلغ الكتاب أجله فكان ما قص الله تعالى على نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم. وسيأتي إن شاء الله تعالى تفصيل ذلك.
ثم إن لوطا عليه السلام - كما أخرج إسحاق بن بشر. وابن عساكر عن الزهري - لما عذب قومه لحق بإبراهيم عليه السلام فلم يزل معه حتى قبضه الله تعالى إليه. وفي هذه الآيات دليل أن اللواطة من أعظم الفواحش. وجاء في خبر أخرجه البيهقي في الشعب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وصححه الحاكم عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «لعن الله تعالى سبعة من خلقه فوق سبع سماوات فردد لعنة على واحد منها ثلاثا ولعن بعد كل واحد لعنة فقال : ملعون ملعون ملعون من عمل عمل قوم لوط» الحديث.
وجاء أيضا أربعون يصبحون في غضب الله تعالى ويمسون في سخط الله تعالى وعد منهم من يأتي الرجل.
وأخرج ابن أبي الدنيا. وغيره عن مجاهد رضي الله تعالى عنه إن الذي يعمل ذلك العمل لو اغتسل بكل قطرة من السماء وكل قطرة من الأرض لم يزل نجسا أي إن الماء لا يزيل عنه ذلك الإثم العظيم الذي بعده عن ربه. والمقصود تهويل أمر تلك الفاحشة.
وألحق بها بعضهم السحاق وبدا أيضا في قوم لوط عليه السلام فكانت المرأة تأتي المرأة فعن حذيفة رضي الله تعالى عنه إنما حق القول على قوم لوط عليه السلام حين استغنى النساء بالنساء والرجال بالرجال.
وعن أبي حمزة رضي الله تعالى عنه قلت لمحمد بن علي : عذب الله تعالى نساء قوم لوط بعمل رجالهم فقال :
الله تعالى أعدل من ذلك استغنى الرجال بالرجال والنساء بالنساء. وآخرون إتيان المرأة في عجيزتها واستدل بما
أخرج غير واحد عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال على المنبر : سلوني؟ فقال ابن الكواء : تؤتى النساء في أعجازهن؟
فقال كرم الله تعالى وجهه : سفلت سفل الله تعالى بك ألم تسمع قوله تعالى : أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ الآية.
ولا يخفى أن ذلك لا يتم إلا بطريق القياس وإلا فالفاحشة في الآية مبينة بما علمت. نعم جاء في آثار كثيرة ما يدل على حرمة إتيان الزوجة في عجيزتها والمسألة كما تقدم خلافية والمعتمد فيها الحرمة.
ولا فرق في اللواطة بين أن تكون بمملوك أو تكون بغيره. واختلاف في كفر مستحل وطء الحائض ووطء الدبر.
وفي التتار خانية نقلا عن السراجية اللواطة بمملوكة أو مملوكته أو امرأته حرام إلا أنه لو استحله لا يكفر وهذا بخلاف اللواطة بأجنبي فإنه يكفر مستحلها قولا واحدا. وما ذكر مما يعلم ولا يعلم كما في الشرنبلالية لئلا يتجرأ الفسقة عليهم بظنهم حله.
واختلف في حد اللواطة فقال الإمام : لا حد بوطء الدبر مطلقا وفيه التعزير ويقتل من تكرر منه على المفتى به كما في الأشباه. والظاهر على ما قال البيري أنه يقتل في المرة الثانية لصدق التكرار عليه وقال الإمامان : إن فعل في الأجانب حد كحد الزنا وإن في عبده أو أمته أو زوجته بنكاح صحيح أو فاسد فلا حد إجماعا كما في الكافي وغيره بل يعزر في ذلك كله ويقتل من اعتاده. وفي الحاوي القدسي وتكلموا في هذا التعزير من الجلد ورميه من أعلى موضع وحبسه في أنتن بقعة وغير ذلك الإخصاء والجب والجلد أصح. وفي الفتح يعزر ويسجن حتى يموت أو يتوب ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حد اللواطة القتل للفاعل والمفعول ورواه مرفوعا ، وفي رواية أخرى عنه أنه سئل ما حد اللوطي فقال : ينظر أعلى بناء في القرية فيلقى منه منكسا ثم يتبع بالحجارة. قال في الفتح : وكأن مأخذ هذا أن قوم لوط أهلكوا بذلك حيث حملت قراهم ونكست بهم ولا شك في اتباع الهدم بهم وهم نازلون. وعن علي كرم الله

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 411
تعالى وجهه أنه رجم لوطيا وهو أشبه شيء بما قص الله تعالى من إهلاك قوم لوط عليه السلام بإمطار الحجارة عليهم.
وصححوا أنها لا تكون في الجنة لأنه سبحانه استقبحها وسماها فاحشة والجنة منزهة عن ذلك. وفي الأشباه أن حرمتها عقلية فلا وجود لها في الجنة ، وقيل : سمعية فتوجد أي فيمكن أن توجد. وكأنه أراد بالحرمة هنا القبح إطلاقا لاسم السبب على المسبب أي إن قبحها عقلي بمعنى أنه يدرك بالعقل وإن لم يرد به الشرع. وليس هذا مذهب المعتزلة كما لا يخفى ونقل الجلال السيوطي عن ابن عقيل الحنبلي قال : جرت هذه المسألة بين أبي علي ابن الوليد المعتزلي وبين أبي يوسف القزويني فقال ابن الوليد : لا يمنع أن يجعل ذلك من جملة اللذات في الجنة لزوال المفسدة لأنه إنما منع في الدنيا لما فيه من قطع النسل وكونه محلا للأذى وليس في الجنة ذلك ولهذا أبيح شرب الخمر لما ليس فيه من السكر والعربدة وزوال العقل بل اللذة الصرفة فقال أبو يوسف رضي اللّه تعالى عنه. الميل إلى الذكور عاهة وهو قبيح في نفسه لأنه محل لم يخلق للوطء ولهذا لم يبح في شريعة بخلاف الخمر فقال ابن الوليد : هو قبيح وعاهة للتلويث بالأذى ولا أذى في الجنة فلم يبق إلا مجرد الالتذاذ انتهى. وأنا أرى أن إنكار قبح اللواطة عقلا مكابرة ولهذا كانت الجاهلية تعير بها ويقولون في الذم فلان مصفر استه ولا أدري هل يرضى ابن الوليد لنفسه أن يؤتى في الجنة أم لا فإن رضي اليوم أن يؤتى غدا فغالب الظن أن الرجل مأبون أو قد ألف ذلك وإن لم يرض لزمه الإقرار بالقبح العقلي.
وإن ادعى أن عدم رضائه لأن الناس قد اعتادوا التعبير به وذلك مفقود في الجنة قلنا له : يلزمك الرضا به في الدنيا إذا لم تعيّر ولم يطلع عليك أحد فإن التزمه فهو كما ترى ولا ينفعه ادعاء الفرق بين الفاعل والمفعول كما لا يخفى على الأحرار. وصرحوا بأن حرمة اللواطة أشد من حرمة الزنا لقبحها عقلا وطبعا وشرعا والزنا ليس بحرام كذلك وتزول حرمته بتزويج وشراء بخلافها وعدم الحد عند الإمام لا لخفتها بل للتغليظ لأنه مطهر على قول كثير من العلماء وإن كان خلاف مذهبنا ، وبعض الفسقة اليوم دمرهم الله تعالى يهونون أمرها ويتمنون بها ويفتخرون بالإكثار منها. ومنهم من يفعلها أخذا للثأر ولكن من أين ، ومنهم يحمد الله سبحانه عليها مبنية للمفعول وذلك لأنهم نالوا الصدارة بإعجازهم نسأل الله تعالى العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. واعلم أن للواطة أحكاما أخر فقد قالوا : إنه لا يجب بها المهر ولا العدة في النكاح الفاسد ولا في المأتي بها لشبهة ولا يحصل بها التحليل للزوج الأول ولا تثبت بها الرجعة ولا حرمة المصاهرة عند الأكثر ولا الكفارة في رمضان في رواية ولو قذف بها لا يحد ولا يلاعن خلافا لهما في المسألتين كما في البحر أخذا من المجتبي. وفي الشرنبلالية عن السراج يكفي في الشهادة عليها عدلان لا أربعة خلافا لهما أيضا. هذا ولم أقف للسادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم على ما هو من باب الإشارة في قصة قوم لوط عليه السلام ، وذكر بعضهم في قصة قوم صالح عليه السلام بعد الإيمان بالظاهر أن الناقة هي مركب النفس الإنسانية لصالح عليه السلام ونسبتها إليه سبحانه لكونه مأمورة بأمره عز وجل مختصة به في طاعته وقربه. وما قيل : إن الماء قسم بينها وبينهم لها شرب يوم ولهم شرب يوم إشارة إلى أن مشربهم من القوة العاقلة النظرية.
وما روي أنها يوم شربها كانت تتفحج فيحلب منها اللبن حتى تملأ الأواني إشارة إلى أن نفسه تستخرج بالفكر من علوم الكلية الفطرية العلوم النافعة للناقصين من علوم الأخلاق والشرائع. وخروجها من الجبل خروجها من بدن صالح عليه السلام.
وقال آخرون : إن الناقة كانت معجزة صالح عليه السلام وذلك أنهم سألوه أن يخرج لهم من حجارة القلب ناقة السر فخرجت فسقيت سر السر فأعطت بلد القالب من القوى والحواس لبن الواردات الإلهية ثم قال لهم. ذروها ترتع في رياض القدس وحياض الإنس وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ من مخالفات الشريعة ومعارضات الطريقة فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وهو عذاب الانقطاع عن الوصول إلى الحقيقة وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ أي مستعدين للخلافة وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي أرض القلب تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها وهي المعاملات بالصدق قُصُوراً تسكنون

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 412
فيها وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ وهي جبال أطوار القلب بُيُوتاً هي مقامات السائرين إلى الله.
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا وهي الأوصاف البشرية والأخلاق الذميمة لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا من أوصاف القلب والروح أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ ليدعو إلى الأوصاف النورانية فَعَقَرُوا النَّاقَةَ بسكاكين المخالفة فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ لضعف قلوبهم وعدم قوة علمه فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ موتى لا حراك بهم إلى حظيرة القدس.
وذكر البعض أن الناقة والسقب صورتا الإيمان بالله تعالى والإيمان برسوله عليه الصلاة والسلام وقد ظهرا بالذات وبالواسطة من الحجر الذي تشبهه قلوب القوم وعقرهم للناقه من قبيل ذبح يحيى عليه السلام للموت الظاهر في صورة الكبش يوم القيامة. وفي ذلك دليل على أنهم من أسوأ الناس استعدادا وأتمهم حرمانا. ويدل على سوء حالهم. أن الشيخ الأكبر قدس سره لم ينظمهم في فصوص الحكم في سلك قوم نوح عليه السلام حيث حكم لهم بالنجاة على الوجه الذي ذكره. وكذا لم ينظم في ذلك السلك قوم لوط عليه السلام وكأن ذلك لمزيد جهلهم وبعدهم عن الحكمة وإتيانهم البيوت من غير أبوابها وقذارتهم ودناءة نفوسهم. والذي عليه المتشرعون أن أولئك الأقوام كلهم حصب جهنم لا ناجي فيهم والله تعالى أحكم الحاكمين.
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً عطف على ما مر. والمراد أرسلنا إلى مدين إلخ. ومدين وسمع مديان في الأصل علم لابن إبراهيم الخليل عليه السلام ومنع صرفه للعلمية والعجمة ثم سميت به القبيلة ، وقيل : هو عربي اسم لماء كانوا عليه ، وقيل : اسم بلد ومنع صرفه للعلمية والتأنيث فلا بد من تقدير مضاف حينئذ أي أهل مدين مثلا أو المجاز. والياء على هذا عند بعض زائدة. وعن ابن بري الميم زائدة إذ ليس في كلامهم فعيل وفيه مفعل.
وقال آخرون : إنه شاذ كمريم إذ القياس إعلاله كمقام. عند المبرد ليس بشاذ قيل وهو الحق لجريانه على الفعل وشعيب قيل تصغير شعب بفتح فسكون اسم جبل أو شعب بكسر فسكون الطريق في الجبل. واختير أنه وضع مرتجلا هكذا. والقول بأن القول بالتصغير باطل لأن أسماء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يجوز تصغيرها فيه نظر لأن الممنوع التصغير بعد الوضع لا المقارن له ومدعي ذلك قد يدعي هذا وهو على ما وجد بخط النووي في تهذيبه ابن ميكيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم عليه السلام ، وقيل : ابن ميكيل بن يشجر بن لاوي بن يعقوب ، وبعضهم يقول :
ميكائيل بدل ميكيل ، ونقل ذلك عن خط الذهبي في اختصار المستدرك. وآخر يقول ملكاني بدله.
وذكر ابن أم ميكيل بنت لوط عليه السلام. وأخرج ابن عساكر من طريق إسحاق بن بشر عن الشرقي ابن القطامي - وكان نسابة - أن شعيبا هو يثروب بالعبرانية وهو ابن عيفاء بن يوبب - بمثناة تحتية أوله وواو وموحدتين بوزن جعفر - بن إبراهيم عليه السلام ، وقيل في نسبه غير ذلك ، وكان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كما أخرج ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إذ ذكر شعيب يقول : «ذلك خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه»
أي محاورته لهم ، وكأنه - كما قيل - عنى عليه الصلاة والسلام ما ذكر في هذه السورة كما يعلم بالتأمل فيه. وبعث رسولا إلى أمتين مدين وأصحاب الأيكة ، قال السدس : وعكرمة رضي الله تعالى عنهما. ما بعث الله تعالى نبيا مرتين إلا شعيبا مرة إلى مدين فأخذهم الله تعالى بالصيحة ، ومرة إلى أصحاب الأيكة فأخذهم الله تعالى بعذاب يوم الظلة.
وأخرج ابن عساكر في تاريخه من حديث عبد الله بن عمر مرفوعا أن قوم مدين. وأصحاب الأيكة آيتان بعث الله تعالى إليهما شعيبا. وهو - كما قال ابن كثير - غريب وفي رفعه نظر واختار أنهما أمة واحدة ، واحتج له بأن كلا

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 413
منهما وعظ بوفاء الميزان والمكيال وهو يدل على أنهما واحدة وفيه ما لا يخفى. ومن الناس من زعم أنه عليه السلام بعث إلى ثلاث أمم ، والثالثة أصحاب الرس. والقول بأنه عليه السلام كان أعمى لا عكاز له يعتمد عليه بل قد نص العلماء ذوو البصيرة على أن الرسول لا بد أن يكون سليما من منفر ومثلوه بالعمى ، والبرص ، والجذام ، ولا يرد بلاء أيوب. وعمى يعقوب بناء على أنه حقيقي لطروئه بعد الأنباء والكلام فيما قارنه ، والفرق أن هذا منفر بخلافه فيمن استقرت نبوته. وقد يقال : إن صح ذلك فهو من هذا القبيل.
قالَ استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية إرساله إليهم كأنه قيل : فماذا قال لهم؟ فقيل قال : يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ مر تفسيره قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي معجزة عظيمة ظاهرة من مالك أموركم.
ولم تذكر معجزته عليه السلام في القرآن العظيم كما لم تذكر أكثر معجزات نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم والأنبياء عليهم السلام فيه.
والقول بأنه لم يكن له عليه السلام معجزة غلط لأن الفاء في قوله سبحانه : فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ لترتيب الأمر على مجيء البينة ، واحتمال كونها عاطفة على اعْبُدُوا بعيد ، وإن كانت عبادة الله تعالى موجبة للاجتناب عن المناهي التي معظمها بعد الكفر البخس فكأنه قيل : قد جاءتكم معجزة شاهدة بصحة نبوتي أوجبت عليكم الإيمان بها والأخذ بما أمرتكم به فأوفوا إلخ ولو ادعى مدع النبوة بغير معجزة لم تقبل منه لأنها دعوى أمر غير ظاهر وفيه إلزام للغير ومثل ذلك لا يقبل من غير بينة ومن الناس من زعم أن البينة نفس شعيب. ومنهم من زعم أن المراد بالبينة الموعظة وأنها نفس فَأَوْفُوا إلخ وليس بشيء كما لا يخفى. وقال الزمخشري : إن من معجزاته عليه السلام ما روي من محاربة عصا موسى عليه السلام التنين حين دفع إليه غنمه وولادة الغنم. الدرع خاصة حين وعده أن يكون له الدرع من أولادها ووقوع عصا آدم عليه السلام على يده في المرات السبع وغير ذلك من الآيات لأن هذه كلها كانت قبل أن يستنبأ موسى عليه السلام فكانت معجزات لشعيب اه.
وفيه نظر لأن ذلك متأخر عن المقاولة فلا يصح تفريع الأمر عليه ، ولأنه يحتمل أن يكون كرامة لموسى عليه السلام أو إرهاصا لنبوته بل في الكشف أن هذا متعين لأن موسى أدرك شعيبا عليه السلام بعد هلاك قومه ولأن ذلك لم يكن معرض التحدي.
وزعم الإمام أن الإرهاص غير جائز عند المعتزلة ، ولهذا جعل ذلك معجزة لشعيب عليه السلام نظر فيه الطيبي بأن الزمخشري قال في آل عمران في تكليم الملائكة عليهم السلام لمريم. إنه معجزة لزكريا أو إرهاص لنبوة عيسى عليهما السلام ، والمراد بالكيل ما يكاد به مجازا كالعيش بمعنى ما يعاش به. ويؤيده أنه قد وقع في سورة الْمِكْيالَ [هود : 84 ، 85] ، وكذا عطف الْمِيزانَ عليه هنا ، فإن المتبادر منه الآلة وإن جاز كونه مصدرا بمعنى الوزن كالميعاد بمعنى الوعد ، وقيل : إن الكيل وما عطف عليه مصدران والكلام على الإضمار أي أوفوا آلة الكيل والوزن وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أي لا تنقصوهم يقال بخسه حقه إذا نقصه إياه ومنه قيل للمكس البخس. وفي أمثالهم تحسبها حمقاء وهي باخس أي ذات بخس. وتعدى إلى مفعولين أولهما النَّاسَ والثاني أَشْياءَهُمْ أي الكائنة في المبايعات من الثمن والمبيع ، وفائدة التصريح بالنهي عن النقص بعد الأمر بالإيفاء تأكيد ذلك الأمر وبيان قبح ضده ، وقد يراد بالأشياء الحقوق مطلقا فإنهم كانوا مكّاسين لا يدعون شيئا إلا مكسوه.
وقد جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا قوما طغاة بغاة يجلسون على الطريق فيبخسون الناس أموالهم وكانوا إذا دخل عليهم الغريب يأخذون دراهمه الجياد ويقولون دارهمك هذه زيوف فيقطعونها ثم يشترونها منه بالبخس. وروي أنه يعطونه أيضا بدلها زيوفا فكأنه لما نهوا عن البخس في الكيل والوزن نهوا عن البخس والمكس في كل شيء قيل : ويدخل في ذلك بخس الرجل حقه من حسن المعاملة والتوقير اللائق به وبيان فضله على ما هو عليه

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 414
للسائل عنه. وكثير ممن انتسب إلى أهل العلم اليوم مبتلون بهذا البخس وليتهم قنعوا به بل جمعوا حشفا وسوء كيلة فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وبدأ عليه السلام بذكر هذه الواقعة - على ما قال الإمام - لأن عادة الأنبياء عليهم السلام أنهم إذا رأوا قومهم مقبلين على نوع من أنواع المفاسد إقبالا أكثر من إقبالهم على سائر الأنواع بدؤوا بمنعهم عن ذلك النوع ، وكان قومه عليه السلام مشغولين بالبخس والتطفيف أكثر من غيره ، والمراد من الناس ما يعمهم وغيرهم أي لا تبخسوا غيركم ولا يبخس بعضكم بعضا وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالجور أو به وبالكفر بَعْدَ إِصْلاحِها أي إصلاح أمرها أو أهلها بالشرائع ، فالإضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله بحذف المضاف ، والفاعل الأنبياء وأتباعهم.
وجوز أن لا يقدر مضاف ويعتبر التجوز في النسبة الإيقاعية لأن إصلاح من في الأرض إصلاح لها ، وأن تكون الإضافة من إضافة المصدر إلى الفاعل على الإسناد المجازي للمكان ، وأن تكون على معنى في أي بعد إصلاح الأنبياء فيها. ويأبى الحمل على الظاهر لأن الإصلاح يتعلق بالأرض نفسها كتعميرها وإصلاح طرقها لا تفسدوا في الأرض ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إشارة إلى ما ذكر من الوفاء بالكيل والميزان وترك البخس والإفساد أو إلى العمل بما أمرهم به ونهاهم عنه ، وأيا ما كان فإفراد اسم الإشارة وتذكيره ظاهر.
ومعنى الخيرية إما الزيادة مطلقا أو في الإنسانية وحسن الأحدوثة وما يطلبونه من التكسب والتربح لأن الناس إذا عرفوهم بالأمانة رغبوا في معاملتهم ومتاجرتهم ، وقيل : ليس المراد من خَيْرٌ هنا معنى الزيادة لأنه ليس للتفضيل بل المعنى ذلكم نافع لكم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قيل : المراد بالإيمان معناه اللغوي ، وتخص الخيرية بأمر الدينا أي إن كنتم مصدقين لي في قولي ، ومثل هذا الشرط - على ما قال الطيبي - إنما يجاء به في آخر الكلام للتأكيد ، ويعلم من هذا أن شعيبا عليه السلام كان مشهورا عندهم بالصدق والأمانة كما كان نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم مشهورا عند قومه بالأمين ، وقال بعض الذاهبين إلى ما ذكر : إن تعليق الخيرية على هذا التصديق بتأويل العلم بها وإلا فهو خير مطلقا.
وقال القطب الرازي : إن ذلك ليس شرطا للخيرية نفسها بل لفعلهم كأنه قيل : فأتوا بهم إن كنتم مصدقين بي فلا يرد أنه لا توقف للخيرية في الإنسانية على تصديقهم به. قيل : المراد به مقابل الكفر وبالخيرية ما يشمل أمر الدنيا والآخرة أي ذلكم خير لكم في الدارين بشرط أن تؤمنوا ، وشرط الإيمان لأنّ الفائدة من حصول الثواب مع النجاة من العقاب ظاهرة مع الإيمان خفية مع فقده للانغماس في غمرات الكفر ، وبنى بعضهم نفع ترك البخس ونحوه في الآخرة على أن الكفار يعذبون على المعاصي كما يعذبون على الكفر فيكون الترك خيرا لهم بلا شبهة لكن لا يخفى أنه إذا فسر الإفساد في الأرض بالإفساد فيها بالكفر لا يكون لهذا التعليق على الإيمان معنى كما لا يخفى ، وإخراجه من حيز الإشارة بعيد جدا.
وزعم الخيالي أن الأظهر أن ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ معترضة والشرط متعلق بما سبق من الأوامر والنواهي ، وكأنه التزم ذلك لخفاء أمر الشرطية عليه. وقد فر من هرة وقع في أسد وهرب من القطر ووقف تحت الميزاب فاعتبروا يا أولي الألباب.
وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ أي طريق من الطرق الحسية تُوعِدُونَ أي تخوفون من آمن بالقتل كما نقل عن الحسن ، وقتادة ، ومجاهد ، وروي عن ابن عباس أن بلادهم كانت يسيرة وكان الناس يمتارون منهم فكانوا يقعدون على الطريق ويخوفون الناس أن يأتوا شعيبا ويقولون لهم : إنه كذاب فلا يفتنكم عن دينكم.
ويجوز أن يكون القعود على الصراط خارجا مخرج التمثيل كما فيما حكي عن قول الشيطان : لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الأعراف : 16] أي ولا تقعدوا بكل طريق من طرق الدين كالشيطان ، وإليه يشير ما روي عن مجاهد أيضا. والكلية مع أن دين الله الحق واحد باعتبار تشعبه إلى معارف وحدود. وأحكام وكانوا إذا رأوا أحدا يشرع

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 415
في شيء منها منعوه بكل ما يمكن من الحيل. وقيل : كانوا يقطعون الطريق فنهوا عن ذلك. وروي عن أبي هريرة. وعبد الرحمن بن زيد. ولعل المراد به ما يرجع إلى أحد القولين الأولين وإلا ففيه خفاء وإن قيل : إن في الآية عليه مبالغة في الوعيد وتغليظ ما كانوا يرومونه من قطع السبيل.
وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي الطريق الموصلة إليه وهي الإيمان أو السبيل الذي قعدوا عليه فوضع المظهر موضع المضمر بيانا لكل صراط دلالة على عظم ما تصدق عليه وتقبيحا لما كانوا عليه ، وقوله سبحانه : مَنْ آمَنَ بِهِ مفعول تَصُدُّونَ على أعمال الأقرب لا تُوعِدُونَ خلافا لما يوهمه كلام الزمخشري إذ يجب عند الجمهور في مثل ذلك حينئذ إظهار ضمير الثاني. ولا يجوز حذفه إلا في ضرورة الشعر فيلزم أن يقال : تصدونهم وإذا جعل تَصُدُّونَ بمعنى تعرضون يصير لازما ولا يكون مما نحن فيه. وضمير بِهِ لله تعالى أو لكل صراط أو سبيل الله تعالى لأن السبيل يذكر ويؤنث كما قيل ، وجملة تُوعِدُونَ وما عطف عليه في موضع الحال من ضمير تَقْعُدُوا أي موعدين وصادين : وقيل : هي على التفسير الأول استئناف بياني ، والأظهر ما ذكرنا وَتَبْغُونَها عِوَجاً أي وتطلبون لسبيل الله تعالى عوجا بإلقاء الشبه أو بوصفها للناس بما ينقصها وهي أبعد من شائبة الاعوجاج :
وهذا أخبار فيه معنى التوبيخ وقد يكون تهكما بهم حيث طلبوا ما هو محال إذ طريق الحق لا يعوج. وفي الكلام ترق كأنه قيل : ما كفاكم أنكم توعدون الناس على متابعة الحق وتصدونهم عن سبيل الله تعالى حتى تصفونه بالاعوجاج ليكون الصد بالبرهان والدليل. وعلى ما روي عن أبي هريرة. وابن زيد جاز أن يراد يبتغونها عوجا عيشهم في الأرض واعوجاج الطريق عبارة عن فوات أمنها.
وذكر الطيبي أن معنى هذا الطلب حينئذ معنى اللام في قوله سبحانه : لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص :
8] سائر الأوجه في الكلام الحذف والإيصال.
وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا عددكم فَكَثَّرَكُمْ فوفر عددكم بالبركة في النسل كما روي عن ابن عباس.
وحكي أن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط فولدت فرمى الله تعالى في نسلها البركة والنماء فكثروا وفشوا.
وجوز الزجاج أن يكون المعنى إذ كنتم مقلين فقراء فجعلكم مكثرين موسرين ، أو كنتم أقلة أذلة فأعزكم بكثرة العدد والعدد. وإِذْ مفعول اذْكُرُوا أو ظرف لمقدر كالحادث أو النعم أي اذكروا ذلك الوقت أو ما فيه وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أي آخر أمر من أفسد قبلكم من الأمم كقوم نوح ، وعاد ، وثمود واعتبروا بهم وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ من الشرائع والأحكام وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا به أو لم يفعلوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا خطاب للكفار ووعيد لهم أي تربصوا لترواحكم الله تعالى بيننا وبينكم فإنه سبحانه سينصر المحق على المبطل ويظهره عليه أو هو خطاب للمؤمنين وموعظة لهم وحث على الصبر واحتمال ما كان يلحقهم من أذى المشركين إلى أن يحكم الله تعالى بينهم وينتقم لهم منهم. ويجوز أن يكون خطابا للفريقين أي ليصبر المؤمنون على أذى الكفار وليصبر الكفار على ما يسوؤهم من إيمان من آمن منهم حتى يحكم فيميز الخبيث من الطيب ، والظاهر الاحتمال الأول. وكان المقصود إن أيمان البعض لا ينفعكم في دفع بلاء الله تعالى وعذابه وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ إذ لا معقب لحكمه ولا حيف فيه فهو في غاية السداد. «1»
___________
(1) تم والحمد لله رب العالمين الجزء الثامن من تفسير روح المعاني للعلامة الألوسي ويتلوه إن شاء الله تعالى الجزء التاسع وأوله (قال الملأ)

روح المعاني ، ج 4 ، ص : 416
فهرس المجلد الثالث من روح المعاني
تتمة تفسير سورة المائدة الآيات : 82 - 96 3 الآيات : 97 - 120 34 تفسير سورة الأنعام الآيات : 1 - 12 74 الآيات : 13 - 35 103 الآيات : 36 - 53 134 الآيات : 54 - 73 158 الآيات : 74 - 83 183 الآيات : 84 - 110 199 الآيات : 111 - 129 247 الآيات : 130 - 142 270 الآيات : 143 - 147 283 الآيات : 148 - 165 292 تفسير سورة الأعراف الآيات : 1 - 18 316 الآيات : 19 - 31 338 الآيات : 32 - 53 350 الآيات : 54 - 72 371 الآيات : 73 - 87 400
اص في الآية ، وقيل : إنه مبني على أن مثل هذا التركيب كما يفيد التقوى قد يفيد الاختصاص نحو اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ [الرعد : 26] والقرينة عليه هنا أنه سبحانه ذكر فيما سبق المؤمنين والكافرين ولم يذكر هنا إلا هلاك المكذبين ، ويرجع حاصل المعنى بالآخرة إلى أنهم عوقبوا بتوعدهم السابق بالإخراج وصاروا هم المخرجين من القرية إخراجا لا دخول بعده دون شعيب عليه السلام ومن معه ، وقوله تعالى : الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ استئناف آخر لبيان ابتلائهم بعقوبة قولهم الأخير ، واستفادة الحصر هنا أوضح من استفادته فيما تقدم ، أي الذين كذبوه عليه السلام عوقبوا بقولهم لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ فصاروا هم الخاسرين للدنيا والدين لتكذيبهم لا المتبعون له عليه السلام المصدقون إياه عليه السلام ، وبهذا القصر اكتفى عن التصريح بالانجاء كما وقع في سورة [هود : 94] من قوله تعالى : وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ إلخ ، وفي الكشاف أن في هذا الاستئناف وتكرير الموصول والصلة مبالغة في رد مقالة الملأ لأشياعهم وتسفيه لرأيهم واستهزاء بنصحهم بقومهم واستعظام لما جرى عليهم. وأنت تعلم أن في استفادة ذلك كله من نفس هذه الآية خفاء ، والظاهر أن مجموع الاستئنافين مؤذن به. وبين الطيبي ذلك بأنه تعالى لما رتب العقاب بأخذ الرجفة وتركهم هامدين لا حراك بهم علي التكذيب والعناد اتجه لسائل أن يسأل إلى ماذا صار مآل أمرهم بعد الجثوم؟
فقيل : الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أي إنهم استؤصلوا وتلاشت جسومهم كأن لم يقيموا فيها. ثم سأل

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 3
[الجزء الخامس ]
[تتمة سورة الأعراف ]
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
[سورة الأعراف (7) : الآيات 88 الى 108]
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89) وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92)
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93) وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102)
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107)
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 4
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ استئناف مبني على سؤال ينساق إليه المقال كأنه قيل له : فماذا قالوا له عليه السلام بعد ما سمعوا منه هذه المواعظ؟ فقيل : قال أشراف قومه المستكبرون متطاولين عليه عليه السلام غير مكتفين بمجرد الاستعصاء بل بالغين من العتو مبلغا عظيما لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا بغضا لكم ودفعا لفتنتكم المترتبة على المساكنة والجوار ، والتأكيد القسمي للمبالغة والاعتناء بالحكم ومَعَكَ متعلق بالإخراج لا بالإيمان ، ونسبة الإخراج إليه عليه السلام أولا وإلى المؤمنين ثانيا للتنبيه على أصالته عليه السلام في ذلك وتبعيتهم له فيه ، وتوسيط النداء باسمه العلي بين المعطوفين لزيادة التقرير والتهديد الناشئة عن غاية الوقاحة والطغيان ، وقوله تعالى : أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا عطف على جواب القسم أي واللّه ليكونن أحد الأمرين البتة الإخراج أو العود على أن المقصد الأهم هو العود وإنما ذكر الأول لمجرد القسر والإلجاء كما يفصح عنه عدم تعرضه عليه السلام بجواب الإخراج ، والمتبادر من العود الرجوع إلى الحالة الأولى وهذا مما لا يمكن في حق شعيب عليه السلام لأن الأنبياء عليهم السلام معصومون عما دون الكفر بمراتب. نعم هو ممكن في حق من آمن به فإسناده إليه عليه السلام من باب التغليب ، قيل : وقد غلب عليه المؤمنون هنا كما غلب هو عليهم في الخطاب فيكون في الآية حينئذ تغليبان ، وقال غير واحد : إن تعود بمعنى تصير كما أثبته بعض النحاة واللغويين فلا يستدعي العود إلى حالة سابقة وعلى ذلك قوله :
فإن لم تك الأيام تحسن مرة اليّ فقد عادت لهنّ ذنوب
فكأنهم قالوا : لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتصيرن مثلنا فحينئذ لا إشكال ولا تغليب ، وكذا يقال فيما بعد وهو حسن ولا يأباه إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها لاحتمال أن يقال بالتغليب فيه أو يقال إن التنجية لا يلزم أن تكون بعد الوقوع في المكروه ، ألا ترى إلى قوله سبحانه : فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ [الأعراف : 83] وأمثاله.
وقال ابن المنير : على احتمال تسليم استعمال العود بمعنى الرجوع إلى أمر سابق يجاب بأنه على نهج قوله تعالى : اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [البقرة : 257] فإن الإخراج يستدعي دخولا سابقا فيما وقع الإخراج منه ، وهو غير متحقق في المؤمن والكافر الأصليين ، لكن لما كان الإيمان والكفر من الأفعال الاختيارية التي خلق اللّه تعالى العبد ميسرا لكل واحد منهما متمكنا منه لو أراده عبر عن تمكن المؤمن من الكفر ، ثم عدوله عنه إلى الإيمان اختيارا بالإخراج من الظلمات إلى النور توفيقا من اللّه تعالى له ولطفا به وبالعكس في حق الكافر ويأتي نظير ذلك في قوله تعالى : أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى [البقرة : 16 ، 175] وهذا من المجاز المعبر فيه عن السبب بالمسبب. وفائدة اختياره في هذه المواضع تحقيق التمكن والاختيار لإقامة حجة اللّه تعالى على عباده.
وقيل : إن هذا القول كان جاريا على ظنهم أنه عليه السلام كان في ملتهم لسكوته قبل البعثة عن الإنكار عليهم أو أنه صدر عن رؤسائهم تلبيسا على الناس وإيهاما لأنه كان على دينهم ، وما صدر عنه عليه السلام في أثناء المحاورة وقع على طريق المشاكلة ، وذكر الشهاب احتمالا آخر في الجواب وهو أن الظاهر أن العود هو المقابل للخروج إلى ما

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 5
خرج منه وهو القرية ، والجار والمجرور في موضع الحال أي ليكن منكم الخروج من قريتنا أو العود إليها كائنين في ملتنا فينحل الاشكال من غير حاجة إلى ما تقدم ، ولا يخفى بعده. وإنما لم يقولوا أو لنعيدنكم على طريقة ما قبله لما أن مرادهم أن يعودوا بصورة الطواعية حذر الإخراج عن الوطن باختيار أهون الشرين لا إعادتهم بسائر وجوه الإكراه والتعذيب ، ومن الناس من زعم أن تعودن لا يصلح أن يكون جوابا للقسم لأنه ليس فعل المقسم ، وجعل ما أشرنا إليه أولى في بيان المعنى مخلصا من ذلك وهو باطل لأنه يقتضي أن القسم لا يكون على فعل الغير ولم يقل أحد به ، وقد شاع نحو واللّه ليضربن زيد من غير نكير وعدي العود بفي إيماء إلى أن الملة لهم بمنزلة الوعاء المحيط بهم قالَ استئناف كنظائره أي قال شعيب عليه السلام ردا لمقالتهم الباطلة وتكذيبا لهم في أيمانهم الفاجرة : أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ على أن الهمزة لإنكار الوقوع ونفيه ، والواو للعطف على محذوف ، وقد يقال : لها في مثل هذا الموضع واو الحال أيضا ولَوْ هي التي يؤتى بها لبيان ما يفيده الكلام السابق بالذات أو بالواسطة من الحكم الموجب أو المنفي على كل حال مفروض من الأحوال المقارنة له على الإجمال بإدخالها على أبعدها منه وأشدها منافاة له ليظهر بثبوته أو انتفائه مع ثبوته أو انتفاؤه مع ما عداه من الأحوال بطريق الأولوية ، والكلام هاهنا في تقدير أنعود فيها لو لم نكن كارهين ولو كنا كارهين غير مبالين بالإكراه ، فالجملة في موضع الحال من ضمير الفعل المقدر والمآل أنعود فيها حال عدم الكراهة وحال الكراهة إنكارا لما تفيده كلمتهم الشنيعة بإطلاقها من العود على أي حالة غير أنه اكتفى بذكر الحالة التي هي أشد الأحوال منافاة للعود وأكثرها بعدا منه تنبيها على أنها هي الواقعة في نفس الأمر وثقة باغنائها عن ذكر الأولى إغناء واضحا لأن العود الذي تعلق به الإنكار حين تحقق مع
الكراهة على ما يوجبه كلامهم فلأن يتحقق مع عدمها أولى ، وهذا بعض مما ذكره شيخ الإسلام في هذا المقام ، وقد أطنب فيه الكلام وأتى بالنقض والإبرام فارجع إليه ، وقد جوز أن يكون الاستفهام باقيا على حاله ، وجعل بعضهم الهمزة بمعنى كيف ، ووجه التعجب إلى العود أي كيف نعود فيها ونحن كارهون لها وتقدير فعل العود لقوة دلالة الكلام عليه أولى من تقدير فعل الإعادة كما فعل الزمخشري ، وفي التيسير تقدير فعل الإخراج أي تخرجوننا من غير ذنب ونحن كارهون لمفارقة الأوطان ، وقد وجه بأن العود مفروغ عنه لا يتصور من عاقل فلا يكون إلا الإخراج ، ولا يخفى ضعف هذا التقدير.
وذكر أبو البقاء أن لَوْ هنا بمعنى إن لأنها للمستقبل ، وجوز أن تكون على أصلها وما أشار إليه شيخ الإسلام في هذا المقام أبعد مغزى فليتأمل قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً عظيما لا يقادر قدره.
إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ التي هي الشرك وزعمنا كما زعمتم أن للّه سبحانه ندا تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وعلمنا بطلانها وأن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له ، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي إن عدنا في ملتكم فقد افترينا ، واستشكل ذلك بأن الظاهر فيما إذا كان الجواب مثل ما ذكر أن يتعلق ظهوره والعلم به بالشرط نحو إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ [يوسف : 77] وإِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ [التوبة : 40] وإن أكرمتني اليوم فقد أكرمتك أمس ، والمقصود هنا تقييد نفس الافتراء بالعود ، ولفظ قد وصيغة الماضي يمنعانه ، والجواب ما أشار إليه الزمخشري من أنه من باب الإخراج لا على مقتضى الظاهر وإيثار قد والماضي الدالين على التأكيد إما لأنه جواب قسم مقدر أو لأنه تعجب على معنى ما أكذبنا إن عدنا إلخ. ووجه التعجب أن المرتد أبلغ في الافتراء من الكافر لأن الكافر مفتر على اللّه تعالى الكذب حيث يزعم أن للّه سبحانه ندا ولا ند له والمرتد مثله في ذلك وزائد عليه حيث يزعم أنه قد تبين له ما خفي عليه من التمييز بين الحق والباطل والحمل على التعجب على ما في الكشف أولى لأن حذف اللام ضعيف ، وجوز أبو حيان تبعا لابن عطية أن يكون الفعل المذكور

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 6
قسما كما يقال : برئت من اللّه تعالى إن فعلت كذا ، وكقول مالك بن الأشتر النخعي :
أبقيت وفري وانحرفت عن العلا ولقيت أضيافي بوجه عبوس
إن لم أشن على ابن هند غارة لم تخل يوما من ذهاب نفوس
وهذا نوع من أنواع البديع وقد ذكره غير واحد من أصحاب البديعيات ، ومثله عز الدين الموصلي بقوله :
برئت من سلفي والشم من هممي إن لم أدن بتقى مبرورة القسم
والباغونية بقولها :
لا مكنتنى المعالي من سيادتها إن لم أكن لهم من جملة الخدم
وَما يَكُونُ لَنا أي ما يصح لنا وما يقع فيكون تامة ، وقد يأتي ذلك بمعنى ما ينبغي وما يليق.
أَنْ نَعُودَ فِيها في حال من الأحوال أو وقت من الأوقات إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا أي إلا حال أو وقت مشيئة اللّه لعودنا ، والتعرض لعنوان الربوبية للتصريح بأنه المالك الذي لا يسأل عما يفعل.
وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً فهو سبحانه يعلم كل حكمة ومصلحة ومشيئته على موجب الحكمة فكل ما يقع مشتمل عليها ، وهذا إشارة إلى عدم الأمن من مكر اللّه سبحانه فإنه لا يأمن مكر اللّه إلا القوم الكافرون ، وفيه من الانقطاع إلى اللّه تعالى ما لا يخفى ، ويؤكد ذلك قوله تعالى : عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا فإن التوكل عليه سبحانه إظهار العجز والاعتماد عليه جل شأنه ، وإظهار الاسم الجليل للمبالغة ، وتقديم المعمول لإفادة الحصر. وفي الآية دلالة على أن للّه تعالى أن يشاء الكفر.
وادعى شيخ الإسلام أن المراد استحالة وقوع ذلك كأنه قيل : وما كان لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء اللّه تعالى العود وهيهات ذلك ، ولا يكاد يكون كما ينبى ء عنه التعرض لعنوان الربوبية ، وقولهم : بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ فإن تنجيته تعالى إياهم منها من دلائل عدم مشيئته سبحانه لعودهم فيها ، وفرع على قوله تعالى : وَسِعَ إلخ بعد أن فسره بما فسره محالية مشيئته العود لكن لطفا وهو وجه في الآية ، ولعل ما ذهبت إليه فيها أولى ، ولا يرد على تقدير العود مفعولا للمشيئة أنه ليس لذكر سعة العلم بعد حينئذ كبير معنى ، بل كان المناسب ذكر شمول الإرادة وأن الحوادث كلها بمشيئة اللّه تعالى لما لا يخفى ، ولا يحتاج إلى القول بأن ذلك منه عليه السلام رد لدعوى الحصر باحتمال قسم ثالث ، والزمخشري بنى تفسيره على عقيدته الفاسدة من وجوب رعاية الصلاح والأصلح وأن اللّه تعالى لا يمكن أن يشاء الكفر بوجه لخروجه عن الحكمة ، واستدل بقوله سبحانه : وَسِعَ إلخ ، ورده ابن المنير بأن موقع ما ذكر الاعتراف بالقصور عن علم العاقبة والاطلاع على الأمور الغائبة. ونظير ذلك قول إبراهيم عليه السلام : وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً [الأنعام : 80] فإنه عليه السلام لما رد الأمر إلى المشيئة وهي مغيبة مجد اللّه تعالى بالانفراد بعلم الغائبات انتهى ، وإلى كون المراد من الاستثناء التأبيد ذهب جعفر بن الحارث والزجاج أيضا وجعلوا ذلك كقول الشاعر :
إذا شاب الغراب أتيت أهلي وصار القار كاللبن الحليب
وأنت خبير بأن ذلك مخالف للنصوص النقلية والعقلية وللعبارة والإشارة ، وقال الجبائي ، والقاضي : المراد بالملة الشريعة وفيها ما لا يرجع إلى الاعتقاد ، ويجوز أن يتعبد اللّه تعالى عباده به ومفعول المشيئة العود إلى ذلك أي ليس لنا أن نعود إلى ملتكم إلا أن يشاء اللّه بأن يتعبدنا بها وينقلنا وينسخ ما نحن فيه من الشريعة ، وقيل : المراد إلا أن

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 7
يشاء اللّه تعالى أن يمكنكم من إكراهنا ويخلي بينكم وبينه فنعود إلى اظهار ملتكم مكرهين ، وقوي بسبق أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ.
وقيل : إن الهاء في قوله سبحانه فِيها يعود إلى القرية لا الملة فيكون المعنى أنا سنخرج من قريتكم ولا نعود فيها إلا أن يشاء اللّه بما ينجزه لنا من الوعد في الإظهار عليكم والظفر بكم فنعود فيها وقيل : إن التقدير إلا أن يشاء اللّه أن يردكم إلى الحق فنكون جميعا على ملة واحدة ، ولا يخفى أن كل ذلك مما يضحك الثكلى ، وبالجملة الآية ظاهرة فيما ذهب إليه أهل السنة وسبحان من سد باب الرشد عن المعتزلة.
رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ إعراض عن مفاوضتهم إثر ما ظهر من عتوهم وعنادهم وإقبال على اللّه تعالى بالدعاء والفتح بمعنى الحكم والقضاء لغة لحمير أو لمراد. والفتاح عندهم القاضي والفتاحة بالضم الحكومة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال : الفتح القضاء لغة يمانية. وأخرج البيهقي وجماعة عن ابن عباس قال :
ما كنت أدري ما قوله رَبَّنَا افْتَحْ حتى سمعت ابنة ذي يزن وقد جرى بيني وبينها كلام فقالت أفاتحك تريد أقاضيك وبَيْنَنا منصوب على الظرفية والتقييد بالحق لإظهار النصفة ، وجوز أن يكون مجازا عن البيان والإظهار وإليه ذهب الزجاج ، ومنه فتح المشكل لبيانه وحله تشبيها له بفتح الباب وإزالة الاغلاق حتى يوصل إلى ما خلفها وبيننا على ما قيل مفعول به بتقدير ما بيننا وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ أي الحاكمين لخلو حكمك عن الجور والحيف أو المظهرين لمزيد علمك وسعة قدرتك والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله.
وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ عطف على قالَ الْمَلَأُ إلخ والمراد من هؤلاء الملأ يحتمل أن يكون أولئك المستكبرين وتغيير الصلة لما أن مناط قولهم السابق هو الاستكبار ويكون هذا حكاية لإضلالهم بعد حكاية ضلالهم على ما قيل ، ويحتمل أن يكون غيرهم ودونهم في الرتبة شأنهم الوساطة بينهم وبين العامة والقيام بأمورهم حسبما يراه المستكبرون ، أي قالوا لأهل ملتهم تنفيرا لهم وتثبيطا عن الإيمان بعد أن شاهدوا صلابة شعيب عليه السلام ومن معه من المؤمنين فيه وخافوا أن يفارقوهم لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً ودخلتم في ملته وفارقتم ملة آبائكم إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ أي مغبونون لاستبدالكم الضلالة بالهدى ولفوات ما يحصل لكم بالبخس والتطفيف فالخسران على الأول استعارة وعلى الثاني حقيقة وإلى تفسير الخاسرين بالمغبونين ذهب ابن عباس ، وعن عطاء تفسيره بالجاهلين ، وعن الضحاك تفسيره بالفجرة ، وإذا حرف جواب وجزاء معترض كما قال غير واحد بين اسم إن وخبرها.
وقيل : هي إذا الظرفية الاستقبالية وحذفت الجملة المضاف إليها وعوض عنها التنوين ، ورده أبو حيان بأنه لم يقله أحد من النحاة ، والجملة جواب للقسم الذي وطأته اللام بدليل عدم الاقتران بالفاء وسادة مسد جواب الشرط وليست جوابا لهما معا كما يوهمه كلام بعضهم لأنه كما قيل مع مخالفته للقواعد النحوية يلزم فيه أن يكون جملة واحدة لها محل من الاعراب ولا محل لها وان جاز باعتبارين فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي الزلزلة كما قال الكلبي وفي سورة [هود : 94] وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ أي صيحة جبريل عليه السلام ، ولعلها كانت من مبادئ الرجفة فأسند إهلاكهم إلى السبب القريب تارة وإلى البعيد أخرى ، وقال بعضهم : إن القصة غير واحدة فإن شعيبا عليه السلام بعث إلى أمتين أهل مدين وأهل الأيكة فأهلكت إحداهما بالرجفة والأخرى بالصيحة ، وفيه أنه إنما يتم لو لم يكن هلاك أهل مدين بالصيحة ، والمروي عن قتادة أنهم الذين أهلكوا بها وأن أهل الأيكة أهلكوا بالظلة.
وجاء في بعض الآثار أن أهل مدين أهلكوا بالظلة والرجفة ،
فقد روي عن ابن عباس وغيره في هذه الآية أن اللّه تعالى فتح عليهم بابا من جهنم فأرسل عليهم حرا شديدا فأخذ بأنفاسهم ولم ينفعهم ظل ولا ماء فكانوا يدخلون

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 8
الأسراب فيجدونها أشد حرا من الظاهر فخرجوا إلى البرية فبعث اللّه تعالى سحابة فيها ريح طيبة فأظلتهم فوجدوا لها بردا فنادى بعضهم بعضا حتى اجتمعوا تحتها رجالهم ونساؤهم وصبيانهم فألهبها عليهم نارا ورجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلي وصاروا رمادا. ويشكل على هلاكهم جميعا نساء ورجالا ما نقل عن عبد اللّه البجلي قال : كان أبو جاد وهوز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت ملوك مدين وكان ملكهم في زمن شعيب عليه السلام كلمن فلما هلك يوم الظلة رثته ابنته بقولها :
كلمن قد هد ركني هلكه وسط المحلة
سيد القوم أتاه الح تف نار تحت ظله
جعلت نار عليهم دارهم كالمضمحله
اللهم إلا أن يقال : إنها كانت مؤمنة فنجت ، وقد يقال : إن هذا الخبر مما ليس له سند يعوّل عليه.
فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ تقدم نظيره الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً استئناف لبيان ابتلائهم بشؤم قولهم :
لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا والموصول مبتدأ خبره قوله تعالى : كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أي لم يقيموا في دارهم ، وقال قتادة : المعنى كأن لم يعيشوا فيها مستغنين ، وذكر غير واحد أنه يقال : غني بالمكان يغنى غنى وغنيانا إذا أقام به دهرا طويلا ، وقيده بعضهم بالإقامة في عيش رغد ، وقال ابن الأنباري كغيره : إنه من الغنى ضد الفقر كما في قول حاتم :
غنينا زمانا بالتصعلك والغنى فكلّا سقاناه بكأسهما الدهر
فما زادنا بغيا على ذي قرابة غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر
وعلى هذا تفسير قتادة ، ورد الراغب غني بمعنى أقام إلى هذا المعنى فقال : غني بالمكان طال مقامه فيه مستغنيا به عن غيره ، وقول بعضهم في بيان الآية : إنهم استؤصلوا بالمرة بيان لحاصل المعنى ، وفي بناء الخبر على الموصول إيماء إلى أن علة الحكم هي الصلة فكأنه قيل : الذين كذبوا شعيبا هلكوا لتكذيبهم إياه هلاك الأبد ، ويشعر ذلك هنا بأن مصدقيه عليه السلام نجوا نجاة الأبد ، وهذا مراد من قال بالاختصاص في الآية ، وقيل : إنه مبني على أن مثل هذا التركيب كما يفيد التقوى قد يفيد الاختصاص نحو اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ [الرعد : 26] والقرينة عليه هنا أنه سبحانه ذكر فيما سبق المؤمنين والكافرين ولم يذكر هنا إلا هلاك المكذبين ، ويرجع حاصل المعنى بالآخرة إلى أنهم عوقبوا بتوعدهم السابق بالإخراج وصاروا هم المخرجين من القرية إخراجا لا دخول بعده دون شعيب عليه السلام ومن معه ، وقوله تعالى : الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ استئناف آخر لبيان ابتلائهم بعقوبة قولهم الأخير ، واستفادة الحصر هنا أوضح من استفادته فيما تقدم ، أي الذين كذبوه عليه السلام عوقبوا بقولهم لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ فصاروا هم الخاسرين للدنيا والدين لتكذيبهم لا المتبعون له عليه السلام المصدقون إياه عليه السلام ، وبهذا القصر اكتفى عن التصريح بالانجاء كما وقع في سورة [هود : 94] من قوله تعالى : وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ إلخ ، وفي الكشاف أن في هذا الاستئناف وتكرير الموصول والصلة مبالغة في رد مقالة الملأ لأشياعهم وتسفيه لرأيهم واستهزاء بنصحهم بقومهم واستعظام لما جرى عليهم. وأنت تعلم أن في استفادة ذلك كله من نفس هذه الآية خفاء ، والظاهر أن مجموع الاستئنافين مؤذن به.
وبين الطيبي ذلك بأنه تعالى لما رتب العقاب بأخذ الرجفة وتركهم هامدين لا حراك بهم علي التكذيب والعناد اتجه لسائل أن يسأل إلى ماذا صار مآل أمرهم بعد الجثوم؟
فقيل : الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أي إنهم استؤصلوا وتلاشت جسومهم كأن لم يقيموا فيها. ثم سأل

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 9
أخصص الدمار بهم أم تعدى إلى غيرهم؟ فقيل : الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ أي اختص بهم الدمار فجعلت الصلة الأولى ذريعة إلى تحقيق الخبر كقوله :
إن التي ضربت بيتا مهاجرة بكوفة الجند غالت ودها غول
وكذلك بولغ في الإخبار عن دمار القوم وجيء بتقوى الحكم والتخصيص وجعلت الصلة الثانية علة لوجود الخبر ، وجاء تسفيه الرأي من الرد عليهم بعين ما تلفظوا به في نصح قومهم ، والاستهزاء من الإشارة إلى أن ما جعلوه نصيحة صار فضيحة وانعكس الحال الذي زعموه ويستفاد عظم الخسران من تعريف الخبر بلام الجنس. وأما استعظام ما جرى فمن قوله سبحانه : كَأَنْ لَمْ إلخ وكذا من مجموع الكلام ، ولا يخفى أن القول بالاستئناف من غير عطف جار على عادة العرب في مثل هذا المقام فإن عادتهم الاستئناف كذلك في الذم والتوبيخ فيقولون :
أخوك الذي نهب مالنا أخوك الذي هتك سترنا أخوك الذي ظلمنا ، وجوز أبو البقاء أن يكون الموصول الثاني بدلا من الضمير في يَغْنَوْا وأن يكون في محل نصب بإضمار أعنى ، وأن يكون الأول مبتدأ والخبر الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا وكَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا حال من ضمير كَذَّبُوا وأن يكون الأول صفة للذين كفروا أو بدلا منه وعلى الوجهين يكون كَأَنْ لَمْ إلخ حالا ، وما اخترناه هو الأولى كما هو ظاهر فليتدبر وقوله سبحانه : فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ تقدم الكلام على نظيره ، بيد أن هذا القول يحتمل أن يكون تأنيبا وتوبيخا لهم وقوله سبحانه : فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ إنكار لمضمونه ، أي لقد أعذرت لكم في الإبلاغ والنصيحة والتحذير مما حل بكم فلم تسمعوا قولي ولم تصدقوني فَكَيْفَ آسى أي لا آسى عليكم لأنكم لستم أحقاء بالأسى وهو الحزن كما في الصحاح والقاموس أو شدة الحزن كما في الكشاف ومجمع البيان ، ويحتمل أن يكون تأسفا بهم لشدة حزنه عليهم ، وقوله سبحانه : فَكَيْفَ إلخ إنكار على نفسه لذلك ، وفيه تجريد والتفات على ما قيل حيث جرد عليه السلام من نفسه شخصا وأنكر عليه حزنه على قوم لا يستحقونه والتفت من الخطاب إلى التكلم ، وذكر بعض المحققين أن الظاهر أنه ليس من الالتفات والتجريد في شيء فإن قال يقتضي صيغة التكلم وهي تنافي التجريد ، وإنما هو نوع من البديع يسمى الرجوع وهو العود على الكلام السابق بالنقض لأنه إذا كان قد أبلغتكم تأسفا ينافي ما بعده فكأنه بدا له ورجع عن التأسف منكرا لفعله الأول ، وقد جاء ذلك كثيرا في كلامهم ومن ذلك قول زهير :
قف بالديار التي لم يعفها القدم بلى وغيرها الأرواح والديم
والنكتة فيه الاشعار بالتوله والذهول من شدة الحيرة لعظم الأمر بحيث لا يفرق بين ما هو كالمتناقض من الكلام وغيره ، وابن حجة لا يفرق بين هذا النوع ونوع السلب والإيجاب وكأن منشأ ذلك اعتماده في النوع الأخير على تعريف أبي هلال العسكري له ولو اعتمد على تعريف إمام الصناعة ابن أبي الإصبع لما اشتبه عليه الفرق ، وعلى الاحتمالين في قوله سبحانه : عَلى قَوْمٍ إلخ إقامة الظاهر مقام الضمير للاشعار بعدم استحقاقهم التأسف عليهم لكفرهم ، وقرأ يحيى بن ثابت «فكيف إيسى» بكسر الهمزة وقلب الألف ياء على لغة من يكسر حرف المضارعة كقوله :
قعيدك أن لا تسمعيني ملامة ولا تنكئي جرح الفؤاد فييجعا
وإمالة الألف الثانية ، هذا ثم إن شعيبا عليه السلام بعد هلاك من أرسل إليهم نزل مع المؤمنين به بمكة حتى ماتوا

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 10
هناك وقبورهم على ما روي عن وهب بن منبه في غربي الكعبة بين دار الندوة وباب سهم. وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما قبر إسماعيل وقبر شعيب عليهما السلام أما قبر إسماعيل ففي الحجر وأما قبر شعيب فمقابل الحجر الأسود ، وروي عنه أيضا أنه عليه السلام كان يقرأ الكتب التي كان اللّه تعالى أنزلها على إبراهيم عليه السلام ،
ومن الغريب ما نقل الشهاب أن شعيبا اثنان وأن صهر موسى عليهما الصلاة والسلام من قبيلة من العرب تسمى عنزة وعنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان وبينه وبين من تقدم دهر طويل فتبصر واللّه تعالى أعلم.
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إشارة إجمالية إلى بيان أحوال سائر الأمم المذكورة تفصيلا ، وفيه تخويف لقريش وتحذير ، و«من» جيء بها لتأكيد النفي ، وفي الكلام حذف صفة نبي أي كذب أو كذبه أهلها إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها استثناء مفرغ من أعم الأحوال وأَخَذْنا في موضع نصب على الحال من فاعل أَرْسَلْنا وفي الرضى أن الماضي الواقع حالا إذا كان بعد إلا فاكتفاؤه بالضمير من دون الواو ، وقد كثر نحو ما لقيته إلا وأكرمني لأن دخول إلا في الأغلب الأكثر على الاسم فهو بتأويل إلا مكرما لي فصار كالمضارع المثبت وما في هذه الآية من هذا القبيل ، وقد يجيء مع الواو وقد نحو ما لقيته إلا وقد أكرمني ، ومع الواو وحدها نحو ما لقيته إلا وأكرمني لأن الواو مع إلا تدخل في خبر المبتدأ فكيف بالحال ولم يسمع فيه قد من دون الواو ، وقال المرادي في شرح الألفية : إن الحال المصدرة بالماضي المثبت إذا كان تاليا ل إلا يلزمها الضمير والخلو من الواو ويمتنع دخول قد وقوله :
متى يأت هذا الموت لم تلف حاجة لنفسي إلا قد قضيت قضاءها
نادر ، وقد نص على ذلك الأشموني وغيره أيضا ، والظاهر أن امتناع قد بعد إلا فيما ذكر إذا كان الماضي حالا لا مطلقا ، وإلا فقد ذكر الشهاب أن الفعل الماضي لا يقع بعد إلا إلا بأحد شرطين إما تقدم فعل كما هنا. وإما مع قد نحو ما زيد إلا قد قام ، ولا يجوز ما زيد إلا ضرب ، ويعلم مما ذكرنا أن ما وقع في غالب نسخ تفسير مولانا شيخ الإسلام من أن الفعل الماضي لا يقع بعد إلا إلا بأحد شرطين إما تقدير قد كما في هذه الآية أو مقارنة قد كما في قولك : ما زيد إلا قد قام ليس على ما ينبغي بل هو غلط ظاهر كما لا يخفى ، والمعنى فيما نحن فيه وما أرسلنا في قرية من القرى المهلكة نبيا من الأنبياء عليهم السلام في حال من الأحوال إلا حال كوننا آخذين أهلها بِالْبَأْساءِ أي بالبؤس والفقر وَالضَّرَّاءِ بالضر والمرض ، وبذلك فسرهما ابن مسعود وهو معنى قول من قال : البأساء في المال والضراء في النفس وليس المراد أن ابتداء الإرسال مقارن للأخذ المذكور بل إنه مستتبع له غير منفك عنه لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ أي كي يتضرعوا ويخضعوا ويتوبوا من ذنوبهم وينقادوا لأمر اللّه تعالى ثُمَّ بَدَّلْنا عطف على أخذنا داخل في حكمه مَكانَ السَّيِّئَةِ التي أصابتهم لما تقدم الْحَسَنَةَ وهي السعة والسلامة ، ونصب مَكانَ كما قيل على الظرفية بدل متضمن معنى أعطى الناصب لمفعولين وهما هنا الضمير المحذوف والحسنة أي أعطيناهم الحسنة في مكان السيئة ، ومعنى كونها في مكانها أنها بدل منها. وقال بعض المحققين : الأظهر أن مكان مفعول به لبدلنا لا ظرف ، والمعنى بدلنا مكان الحال السيئة الحال الحسنة فالحسنة هي المأخوذة الحاصلة في مكان السيئة المتروكة والمتروك هو الذي تصحبه الباء في نحو بدلت زيدا بعمرو حَتَّى عَفَوْا أي كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم ، وبذلك فسره ابن عباس وغيره من عفا النبات وعفا الشحم والوبر إذا كثرت ، ومنه
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم «أحفوا الشوارب واعفوا اللحى»
وقول الحطيئة :
بمستأسد القريان عاف نباته تساقطني والرحل من صوت هدهد

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 11
وقوله
ولكنا نعض السيف منها بأسوق عافيات الشحم كوم
وتفسير أبي مسلم له بالاعراض عن الشكر ليس بيانا للمعنى اللغوي كما لا يخفى ، وحَتَّى هذه الداخلة على الماضي ابتدائية لا غائية عند الجمهور ، ولا محل للجملة بعدها كما نقل ذلك الجلال السيوطي في شرح جمع الجوامع له عن بعض مشايخه ، وأما زعم ابن مالك أنها جارة غائية وأن مضمرة بعدها على تأويل المصدر فغلطه فيه أبو حيان وتبعه ابن هشام فقال : لا أعرف له في ذلك سلفا ، وفيه تكلف إضمار من غير ضرورة ، ولا يشكل عليه ولا على من يقول : إن معنى الغاية لازم لحتى ولو كانت ابتدائية أن الماضي لمضيه لا يصلح أن يكون غاية لما قبل لتأخر الغاية عن ذي الغاية لأن الفعل وإن كان ماضيا لكنه بالنسبة إلى ما صار غاية له مستقبل فافهم.
وَقالُوا غير واقفين على أن ما أصابهم من الأمرين ابتلاء منه سبحانه قَدْ مَسَّ آباءَنَا كما مسنا.
الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ وما ذلك إلا من عادة الدهر يعاقب في الناس بين الضراء والسراء ويداولهما بينهم من غير أن يكون هناك داعية إليهما أو تبعة تترتب عليهما وليس هذا كقول القائل :
ثمانية عمت بأسبابها الورى فكل امرئ لا بد يلقى الثمانية
سرور وحزن واجتماع وفرقة وعسر ويسر ثم سقم وعافية
كما لا يخفى ولعل تأخير السراء للإشعار بأنها تعقب الضراء فلا ضير فيها فَأَخَذْناهُمْ عطف على مجموع عفوا وقالوا أو على قالوا لأنه المسبب عنه أي فأخذناهم إثر ذلك بَغْتَةً أي فجأة.
وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بشيء من ذلك ولا يخطرون ببالهم شيئا من المكاره ، والجملة حال مؤكدة لمعنى لبغتة ، وهذا أشد أنواع الأخذ كما قيل : وأنكأ شيء يفجؤك البغت ، وقيل : المراد بعدم الشعور عدم تصديقهم بأخبار الرسل عليهم السلام بذلك لا خلو أذهانهم عنه ولا عن وقته لقوله تعالى : ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ [الأنعام : 131] ولا يخفى ما فيه من الغفلة عن معنى الغفلة وعن محل الجملة.
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى أي القرى المهلكة المدلول عليها بقوله سبحانه : فِي قَرْيَةٍ فاللام للعهد الذكري والقرية وإن كانت مفردة لكنها في سياق النفي فتساوي الجمع ، وجوز أن تكون اللام للعهد الخارجي إشارة إلى مكة وما حولها. وتعقب ذلك بأنه غير ظاهر من السياق ، ووجه بأنه تعالى لما أخبر عن القرى الهالكة بتكذيب الرسل وأنهم لو آمنوا سلموا وغنموا انتقل إلى إنذار أهل مكة وما حولها مما وقع بالأمم والقرى السابقة.
وجوز في الكشاف أن تكون للجنس ، والظاهر أن المراد حينئذ ما يتناول القرى المرسل إلى أهلها من المذكورة وغيرها لا ما لا يتناول قرى أرسل إليها نبي وأخذ أهلها بما أخذ وغيرها كما قيل لإباء ظاهر ما في حيز الاستدراك الآتي عنه آمَنُوا أي بما أنزل على أنبيائهم وَاتَّقَوْا أي ما حرم اللّه تعالى عليهم كما قال قتادة ويدخل في ذلك ما أرادوه من كلمتهم السابقة.
لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي ليسرنا عليهم الخير من كل جانب ، وقيل : المراد بالبركات السماوية المطر وبالبركات الأرضية النبات. وأيا ما كان ففي فتحنا استعارة تبعية. ووجه الشبه بين المستعار منه والمستعار له الذي أشرنا إليه سهولة التناول ، ويجوز أن يكون هناك مجاز مرسل والعلاقة اللزوم ويمكن أن يتكلف

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 12
لتحصيل الاستعارة التمثيلية ، وفي الآية على ما قيل إشكال وهو أنه يفهم بحسب الظاهر منها أنه لم يفتح عليهم بركات من السماء والأرض ، وفي [الأنعام : 44] فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ وهو يدل على أنه فتح عليهم بركات من السماء والأرض وهو معنى قوله سبحانه : أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ لأن المراد منها الخصب والرخاء والصحة والعافية لمقابلة أخذناهم بالبأساء والضراء ، وحمل فتح البركات على ادامته أو زيادته عدول عن الظاهر وغير ملائم لتفسيرهم الفتح بتيسير الخير ولا المطر والنبات. وأجاب عنه الخيالي بأنه ينبغي أن يراد بالبركات غير الحسنة أو يراد آمنوا من أول الأمر فنجوا من البأساء والضراء كما هو الظاهر ، والمراد في سورة الأنعام بالفتح ما أريد بالحسنة هاهنا فلا يتوهم الاشكال انتهى. وأنت خبير بأن إرادة آمنوا من أول الأمر إلى آخره غير ظاهرة بل الظاهر أنهم لو أنهم آمنوا بعد أن ابتلوا ليسرنا عليهم ما يسرنا مكان ما أصابهم من فنون العقوبات التي بعضها من السماء كإمطار الحجارة وبعضها من الأرض كالرجفة وبهذا ينحل الاشكال لأن آية الأنعام لا تدل على أنه فتح لهم هذا الفتح كما هو ظاهر لتاليها ، وما ذكر من أن المراد بالفتح هناك ما أريد بالحسنة هاهنا إن كان المراد به أن الفتح هناك واقع.
وقع إعطاء الحسنة بدل السيئة هنا حيث كان ذكر كل منهما بعد ذكر الأخذ بالبأساء والضراء وبعده الأخذ بغتة فربما يكون له وجه لكنه وحده لا يجدي نفعا ، وإن كان المراد به أن مدلول ذلك العام المراد به التكثير هو مدلول الحسنة فلا يخفى ما فيه فتدبر ، وقيل : المراد بالبركات السماوية والأرضية الأشياء التي تحمد عواقبها ويسعد في الدارين صاحبها وقد جاءت البركة بمعنى السعادة في كلامهم فلتحمل هنا على الكامل من ذلك الجنس ولا يفتح ذلك إلا للمؤمن بخلاف نحو المطر والنبات والصحة والعافية فإنه يفتح له وللكافر أيضا استدراجا ومكرا ، ويتعين هذا الحمل على ما قيل إذا أريد من القرى ما يتناول قرى أرسل إليها نبي وأخذ أهلها بما أخذ وغيرها ، وقيل : البركات السماوية إجابة الدعاء والأرضية قضاء الحوائج فليفهم.
وقرأ ابن عامر «لفتّحنا» بالتشديد وَلكِنْ كَذَّبُوا أي ولكن لم يؤمنوا ولم يتقوا ، وقد اكتفى بذكر الأول لاستلزامه الثاني للإشارة إلى أنه أعظم الأمرين فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من أنواع الكفر والمعاصي التي من جملتها قولهم السابق ، والظاهر أن هذا الأخذ والمتقدم في قوله سبحانه : فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ واحد وليس عبارة عن الجدب والقحط كما قيل : لأنهما قد زالا بتبديل الحسنة مكان السيئة ، وحمل أحد الأخذين على الأخذ الأخروي والآخر على الدنيوي بعيد ، ومن ذهب إلى حمل أل على الجنس على الوجه الأخير فيه يلزمه أن يحمل كذبوا فأخذناهم على وقوع التكذيب والأخذ فيما بينهم ولا يخفى بعده أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى الهمزة لانكار الواقع واستقباحه ، وقيل : لانكار الوقوع ونفيه ، وتعقب بأن فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلخ يأباه ، والفاء للتعقيب مع السبب ، والمراد بأهل القرى قيل : أهل القرى المذكورة على وضع المظهر موضع المضمر للايذان بأن مدار التوبيخ أمن كل طائفة ما أتاهم من البأس لا أمن مجموع الأمم ، وقيل : المراد بهم أهل مكة وما حواليها ممن بعث إليه نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم وهو الأولى عندي وإلى ذلك ذهب محيي السنة ، والعطف على القولين على فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً لا على محذوف ويقدر بما يناسب المقام كما وقع نحو ذلك في القرآن كثيرا ، وأمر صدارة الاستفهام سهل ، وقوله سبحانه : وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا إلخ اعتراض توسط بينهما للمسارعة إلى بيان أن الأخذ المذكور مما كسبته أيديهم نظرا للأول ولأنه يؤيد ما ذكر من أن الأخذ بغتة ترتب على الإيمان والتقوى ، ولو عكس لانعكس الأمر نظرا للثاني ، ولو جعلت اللام فيما تقدم للجنس أكد كذا هذا الاعتراض المعطوف والمعطوف عليها وشملهما شمولا سواء على ما في الكشف ولم يجعل العطف على فأخذناهم الأقرب لأنه لم يسق
لبيان القرى وقصة هلاكها قصدا كالذي قبله فكان العطف عليه

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 13
دونه أنسب وهذا إذا أريد بالقرى القرى المدلول عليها بما سبق ، وأما إذا أريد بها مكة وما حولها فوجه ذلك أظهر لأن منشأ الإنكار ما أصاب الأمم السالفة لا ما أصاب أهل مكة ومن حولها من القحط وضيق الحال ، وربما يقال : إذا كان المراد بأهل القرى في الموضعين أهل مكة وما حولها يكون العطف على الأقرب أنسب ، والمعنى أبعد ذلك الأخذ لمن استكبر وتعزز وخالف الرسل عليهم السلام وشيوعه والعلم به يأمن أهل القرى المشاركون لهم في ذلك أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا أي عذابنا بَياتاً أي وقت بيات وهو مراد من قال ليلا ، وهو مصدر بات ونصبه على الظرفية بتقدير مضاف ، ويجوز أن يكون حالا من المفعول أي بائتين ، وجوز أن يكون مصدر بيت ونصبه على أنه مفعول مطلق ليأتيهم من غير لفظه أي تبييتا أو حال من الفاعل بمعنى مبيتا بالكسر أو من المفعول بمعنى مبيتين بالفتح ، واختار غير واحد الظرفية ليناسب ما سيأتي وَهُمْ نائِمُونَ حال من ضميرهم البارز أو المستتر في بياتا لتأويله بالصفة كما سمعت وهو حال متداخلة حينئذ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى انكار بعد إنكار للمبالغة في التوبيخ والتشديد ، ولم يقصد الترتيب بينهما فلذا لم يؤت بالفاء.
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر. أَوَبسكون الواو وهي لأحد الشيئين والمراد الترديد بين أن يأتيهم العذاب بياتا وما دل عليه قوله سبحانه : أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى أي ضحوة النهار وهو في الأصل ارتفاع الشمس أو شروقها وقت ارتفاعها ثم استعمل للوقت الواقع فيه ذلك وهو أحد ساعات النهار عندهم وهي الذرور والبزوغ والضحى والغزالة والهاجرة والزوال والدلوك والعصر والأصيل والصنوت والحدور والغروب وبعضهم يسميها البكور والشروق والإشراق والراد والضحى والمنوع والهاجرة والأصيل والعصر والطفل والحدور والغروب ، ويكون كما قال الشهاب متصرفا إن لم يرد به وقت من يوم بعينه وغير متصرف إن أريد به ضحوة يوم معين فيلزم النصب على الظرفية وهو مقصور فإن فتح مد ، وقد عدوا لفظ الضحى مما يذكر ويؤنث.
وَهُمْ يَلْعَبُونَ أي يلهون من فرط الغفلة وهو مجاز مرسل في ذلك ، ويحتمل أن يكون هناك استعارة أي يشتغلون بما لا نفع فيه كأنهم يلعبون أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ تكرير لمجموع الانكارين السابقين جمعا بين التفريق قصدا إلى زيادة التحذير والإنذار ، وذكر جمع من جلة المحققين أنه لو جعل تكرير له ولما سلف من غرة أهل القرى السابقة أيضا على معنى أن الكل نتيجة الأمن من مكر اللّه تعالى لجاز إلا أنه لما جعل تهديدا للموجودين كان الأنسب التخصيص ، وفيه تأمل. والمكر في الأصل الخداع ويطلق على الستر يقال : مكر الليل أي ستر بظلمته ما هو فيه ، وإذا نسب إليه سبحانه فالمراد به استدراجه العبد العاصي حتى يهلكه في غفلته تشبيها لذلك بالخداع ، وتجوز هذه النسبة إليه سبحانه من غير مشاكلة خلافا لبعضهم ، وهو هنا إتيان البأس في الوقتين والحالين المذكورين ، وهل كان تبديل مكان السيئة الحسنة المذكور قبل مكرا واستدراجا أو ملاطفة ومراوحة؟ فيه خلاف والكل محتمل فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ أي الذين خسروا أنفسهم فأضاعوا فطرة اللّه التي فطر الناس عليها والاستعداد القريب المستفاد من النظر في الآيات والفاء هنا متعلق كما قال القطب الرازي وغيره بمقدر كأنه قيل فلما آمنوا خسروا فلا يأمن إلخ.
وقال أبو البقاء إنها للتنبيه على تعقيب العذاب أمن مكر اللّه تعالى ، وقد يقال : إنها لتعليل ما يفهمه الكلام من ذم الأمن واستقباحه أو يقال إنها فصيحة ، ويقدر ما يستفاد من الكلام شرطا أي إذا كان الأمن في غاية القبح فلا يرتكبه إلا من خسر نفسه ، واستدلت الحنفية بالآية على أن الأمن من مكر اللّه تعالى وهو كما في جميع الجوامع الاسترسال في المعاصي اتكالا على عفو اللّه تعالى كفر ، ومثله اليأس من رحمة اللّه تعالى لقوله تعالى : إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ [يوسف : 87] وذهبت الشافعية إلى أنهما من الكبائر لتصريح ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 14
بذلك «1» وروى ابن أبي حاتم. والبزار عن ابن عباس أنه صلّى اللّه عليه وسلّم سئل ما الكبائر؟ فقال : الشرك باللّه تعالى واليأس من روح اللّه والأمن من مكر اللّه وهذا أكبر الكبائر
قالوا : وماورد من أن ذلك كفر محمول على التغليظ وآية لا ييأس إلخ كقوله تعالى الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ [النور : 3] ولا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ [المجادلة : 22] في قوله. وقال بعض المحققين : إن كان في الأمن اعتقاد أن اللّه تعالى لا يقدر على الانتقام منه وكذا إذا كان في اليأس اعتقاد عدم القدرة على الرحمة والإحسان أو نحو ذلك فذلك مما لا ريب في أنه كفر وإن خلا عن نحو هذا الاعتقاد ولم يكن فيه تهاون وعدم مبالاة باللّه تعالى فذلك كبيرة وهو كالمحاكمة بين القولين أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أي يخلفون من خلا قبلهم من الأمم ، والمراد بهم كما روي عن السدي المشركون وفسروا بأهل مكة ومن حولها ، وعليه لا يبعد أن يكون في الآية إقامة الظاهر مقام الضمير إذا كان المراد بأهل القرى سابقا أهل مكة وما حولها ، وتعدية فعل الهداية باللام لأنها كما روي عن ابن عباس. ومجاهد بمعنى التبيين وهو على ما قيل : إما بطريق المجاز أو التضمين أو لتنزيله منزلة اللازم كأنه قيل : أغفلوا ولم يفعل الهداية لهم أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ أي بجزاء ذنوبهم كما أصبنا من قبلهم ، وإذا ضمن أصبنا معنى أهلكنا لا يحتاج إلى تقدير مضاف. وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن مقدر وخبره الجملة الشرطية والمصدر المؤول فاعل يَهْدِ ومفعوله على احتمال التضمين محذوف أي أو لم يتبين لهم مآل أمرهم أو نحو ذلك. وجوز أن يكون الفاعل ضمير اللّه تعالى وأن يكون ضميرا عائدا على ما يفهم مما قبل ، أي أو لم يهد لهم ما جرى على الأمم السابقة. وقرأ عبد الرحمن السلمي وقتادة ، وروي عن مجاهد.
ويعقوب «نهد» بالنون فالمصدر حينئذ مفعول ، ومن الناس من خص اعتبار التضمين أو المجاز بهذه القراءة واعتبار التنزيل منزلة اللازم بقراءة الياء ، وفيه بحث ، وقوله تعالى : وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ جملة معترضة تذييلية أي ونحن من شأننا وسنتنا أن نطبع على قلب من لم نرد منه الايمان حتى لا يتعظ بأحوال من قبله ولا يلتفت إلى الأدلة ، ومن أراد من أهل القرى فيما تقدم أهل مكة جعله تأكيدا لما نعى عليهم من الغرة والأمن والخسران أي ونحن نطبع على قلوبهم فلذلك اقتفوا آثار من قبلهم ولم يعتبروا بالآيات وأمنوا من البيات لمستخلفيهم حذو النعل بالنعل. وجوز عطفه على مقدر دل عليه قوله تعالى أَوَلَمْ يَهْدِ وعطفه عليه أيضا وهو وإن كان إنشاء إلا أن المقصود منه الإخبار بغفلتهم وعدم اهتدائهم أي لا يهتدون أو يغفلون عن الهداية أو عن التأمل والتفكر ونطبع إلخ.
وجوز أن يكون عطفا على يرثون ، واعترض بأنه صلة والمعطوف على الصلة صلة ففيه الفصل بين أبعاض الصلة بأجنبي وهو أَنْ لَوْ نَشاءُ سواء كانت فاعلا أو مفعولا ، ونقل أبو حيان عن الأنباري أنه قال : يجوز أن يكون معطوفا على أَصَبْناهُمْ إذ كان بمعنى نصيب فوضع الماضي موضع المستقبل عند وضوح معنى الاستقبال كما في قوله تعالى :
تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ [الفرقان : 10] أي إن يشأ ، يدل عليه وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً [الفرقان : 10] فجعل لو شرطية بمعنى إن ولم يجعلها التي هي لما كان سيقع لوقوع غيره وجعل أصبنا بمعنى نصيب ، وقد يرتكب التأويل في جانب المعطوف فيؤول «نطبع» بطبعنا ، ورد الزمخشري هذا العطف بأنه لا يساعد عليه المعنى لأن القوم كانوا مطبوعا على قلوبهم موصوفين بصفة من قبلهم من اقتراف الذنوب والإصابة بها وذلك يؤدي إلى خلوهم عن هذه الصفة وأن اللّه تعالى لو شاء لا تصفوا بها ، وتعقبه ابن المنير بأنه لا يلزم أن يكون المخاطبون موصوفين بالطبع ولا بد وهم وإن كانوا كفارا ومقترفين للذنوب فليس الطبع من لوازم الاقتراف البتة إذ هو التمادي على الكفر
___________
(1) قيل الأشبه أن يكون الخبر مرفوعا ا ه منه

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 15
والإصرار والغلو في التصميم حتى يكون الموصوف به مأيوسا من قبوله للحق ولا يلزم أن يكون كل كافر بهذه المثابة بلى إن الكافر يهدد لتماديه على الكفر بأن يطبع اللّه تعالى على قلبه فلا يؤمن أبدا وهو مقتضى العطف على أَصَبْناهُمْ فتكون الآية قد هددتهم بأمرين الإصابة بذنوبهم والطبع على قلوبهم والثاني أشد من الأول وهو أيضا نوع من الإصابة بالذنوب والعقوبة عليها ولكنه أنكى أنواع العذاب وأبلغ صنوف العقاب ، وكثيرا ما يعاقب اللّه تعالى على الذنوب بالإيقاع في ذنب أكبر منه ، وعلى الكفر بزيادة التصميم عليه والغلو فيه كما قال سبحانه : فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التوبة : 125] كما زادت المؤمنين إيمانا إلى إيمانهم وهذا النوع من الثواب والعقاب مناسب لما كان سببا فيه وجزاء عليه فثواب الإيمان إيمان وثواب الكفر كفر ، وإنما الزمخشري يحاذر من هذا الوجه دخول الطبع في مشيئة اللّه تعالى وذلك عنده محال لأنه بزعمه قبيح واللّه سبحانه عنه متعال ، وفي التقريب نحو ذلك فإنه نظر فيما ذكره الزمخشري بأن المذكور كونهم مذنبين دون الطبع وأيضا جاز أن يراد لو شئنا زدنا في طبعهم أو لأمناه ، والحق كما قال غير واحد من المحققين أن منعه من هذا العطف ليس بناء على أنه لا يوافق رأيه فقط بل لأن النظم لا يقتضيه فإن قوله سبحانه : فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ أي سماع تفهم واعتبار يدل على أنهم مطبوع على قلوبهم لأن المراد استمرار هذه الحال لا أنه داخل في حكم المشيئة لأن عدم السماع كان حاصلا ولو كان كذلك لوجب أن يكون منفيا ، وأيضا التحقيق لا يناسب الغرض ، وكَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ ظاهر الدلالة على أن الوارثين والموروثين كل من أهل الطبع وكذا قوله سبحانه : فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا يدل على أن حالهم منافية للإيمان وأنه لا يجيء منه البتة وأيضا إدامة الطبع أو زيادته لا يصلح عقوبة للكافرين
بل قد يكون عقوبة ذنب المؤمن كما ورد في الصحيح وما يورد من الدغدغة على هذا مما لا يلتفت إليه تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها جملة مستأنفة جارية مجرى الفذلكة مما قبلها منبئة عن غاية غواية الأمم المذكورة وتلك إشارة إلى قرى الأمم المحكية من قوم نوح وعاد وثمود وأضرابهم ، واللام للعهد وجوز أن تكون للجنس ، وهو مبتدأ والقرى صفته والجملة بعده خبر.
وجوز الزمخشري أن تكون تلك مبتدأ ، والقرى خبر ، والجملة خبر بعد خبر على رأي من يرى جواز كون الخبر الثاني جملة ، وأن تكون الجملة حالا ، وإفادة الكلام بالتقييد بها ، واعترضه في التقريب بأنه جعل شرط الإفادة التقييد بالحال وعلى تقدير كون ذلك خبرا بعد خبر ينتفي الشرط إلا أن يريد تلك القرى المعلومة حالها أو صفتها على أن اللام للعهد لكنه يوجب الاستغناء عن اشتراط إفادته بالحال انتهى ، وفيه أن حديث الاستغناء ممنوع فإن المعنى كما في الكشف على التقديرين مختلف لأنه إذا جعل حالا يكون المقصود تقييده بالحال كما ذكره الزجاج في نحو هذا زيد قائما إذا جعل قيدا للخبر إن الكلام إنما يكون مع من يعلم أنه زيد وإلا جاء الاحالة لأنه يكون زيد قائما كان أو لا ، وإذا جعل خبرا بعد خبر فتلك القرى على أسلوب ذلك الكتاب على أحد الوجوه ونَقُصُّ خبر ثان تفخيما على تفخيم حيث نبه على أن لها قصصا وأحوالا أخرى مطوية.
وقال الطيبي : إن الحال لما كانت فضلة كان الاشكال قائما في عدم إفادة الخبر فأجيب بأنها ليست فضلة من كل وجه وأما الخبر فلا عجب من كونه كالجزء من الأول كما في قولك هذا حلو حامض ، وهو بمنزلته ، وفيه أن عد ما نحن فيه من ذلك القبيل حامض ومستغنى عنه بالحلو ، ومثله ، بل أدهى وأمر. الجواب بأنه لما اشترك الحلوان في ذات المبتدأ كفى إفادة أحدهما وصيغة المضارع للإيذان بعدم انقضاء القصة بعد ومِنْ للتبعيض أي بعض أخبارها التي فيها عظة وتذكير ، وتصدير الكلام بذكر القرى وإضافة الأنباء أي الأخبار العظيمة الشأن إليها مع أن المقصود أنباء أهلها وبيان أحوالهم حسبما يؤذن به قوله سبحانه : وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ لما ذكره شيخ الإسلام من أن

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 16
حكاية هلاكهم بالمرة على وجه الاستئصال بحيث يشمل أماكنهم أيضا بالخسف والرجفة وبقائها خاوية معطلة أهول وأفظع ، والباء في قوله تعالى : بِالْبَيِّناتِ متعلقة إما بالفعل المذكور على أنها للتعدية ، وإما بمحذوف وقع حالا من فاعله أي متلبسين بالبينات على معنى أن رسول كل أمة من الأمم المهلكة الخاص بهم جاءهم بالمعجزات البينة الجمة لا أن كل رسول جاء بينة واحدة ، وما ذكروه من أن مقابلة الجمع بالجمع تقتضي انقسام الآحاد على الآحاد لا يقتضي كما قال المولى المدقق أبو القاسم السمرقندي في تعليقاته على المطول أن يلزم في كل مقابلة مقارنة الواحد للواحد لأن انقسام الآحاد على الآحاد كما يجوز أن يكون على السواء يجوز أن يكون على التفاوت ، مثلا إذا قيل : باع القوم دوابهم يفهم أن كلّا منهم باع ما له من دابة ، ويجوز أن تتعدد دابة البعض ، ولهذا قيل في قوله سبحانه : فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ [المائدة : 6] إن غسل يدي كل شخص ثابت بالكتاب والمقام هنا يقتضي ما ذكرناه فإن الجملة مستأنفة مبينة لكمال عتوهم وعنادهم ، وقوله عز شأنه : فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بيان لاستمرار عدم إيمانهم في الزمان الماضي لا لعدم استمرار إيمانهم ، ونظير ذلك فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [المائدة : 69] ، وترتيب حالهم هذه على مجيء الرسل بالبينات بالفاء لما أن الاستمرار على فعل بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه يعد بحسب العنوان فعلا جديدا وصنعا حادثا كما في وعظته فلم ينزجر ودعوته فلم يجب ، واللام لتأكيد النفي أي فما صح وما استقام لقوم من أولئك الأقوام في وقت من الأوقات ليؤمنوا بل كان ذلك ممتنعا منهم إلى أن لقوا ما لقوا لغاية عتوهم وشدة شكيمتهم في الكفر والطغيان ثم إن كان المحكيّ آخر حال كل قوم منهم فالمراد بعدم إيمانهم هو إصرارهم على ذلك بعد اللتيا والتي وبما أشير إليه بقوله تعالى : بِما كَذَّبُوا مِنْ
قَبْلُ تكذيبهم من لدن مجيء الرسل عليهم السلام إلى وقت الإصرار والعناد ، وهذا معنى كلام الزجاج فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية تلك المعجزات بما كذبوا قبل رؤيتها ، يعني أول ما جاؤوهم فاجاؤهم بالتكذيب فأتوا بالمعجزات فأصروا على التكذيب وإلى هذا ذهب الحسن أيضا ، وإنما لم يجعل ذلك مقصودا بالذات كالأول بل جعل صلة للموصول المحذوف عائده أي الذي كذبوه إيذانا بأنه بين في نفسه ، وإنما المحتاج إلى البيان عدم إيمانهم بعد تواتر البينات الباهرة وتظاهر المعجزات الظاهرة التي كانت تضطرهم إلى القبول لو كانوا من ذوي العقول ، والموصول الذي تعلق به الإيمان والتكذيب إيجابا وسلبا عبارة عن جميع الشرائع التي جاء بها كل رسول أصولها وفروعها وإن كان المحكي أحوال كل قوم منهم فالمراد على ما قيل بما ذكر أولا كفرهم المستمر من حين مجيء الرسل عليهم السلام إلى آخر أمرهم وبما أشير إليه آخرا تكذيبهم قبل مجيئهم فلا بد من جعل الموصول عبارة عن أصول الشرائع التي لا تقبل التبدل والتغير واجتمعت الرسل قاطبة عليها ودعوا الأمم إليها كلمة التوحيد ولوازمها ومعنى تكذيبهم بها قبل مجيء الرسل أنهم كانوا يسمعونها من بقايا من قبلهم فيكذبونها لا أن العقل يرشد إليها ويحكم بها ويخالفونه ثم كانت حالهم بعد مجيء الرسل إليهم كحالهم قبل كأن لم يبعث إليهم أحد وتخصيص التكذيب وعدم الإيمان بما ذكر من الأصول لظهور حال الباقي بدلالة النص فانهم حين لم يؤمنوا بما اجتمعت عليه كافة الرسل فلأن لا يؤمنوا بما تفرد به بعضهم أولى ، وعدم جعل هذا التكذيب مقصودا بالذات لما أنه ليس مدار العذاب بل مداره التكذيب بعد البعثة كما يفصح عنه
قوله تعالى : وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء : 15] وإنما ذكر ما وقع قبلها بيانا لعراقتهم في الكفر والتكذيب ، وقيل : المراد بما أشير إليه آخرا تكذيبهم الذي أسروه يوم الميثاق ، وروي ذلك عن أبي بن كعب والربيع والسدي ومقاتل واختاره الطبري.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما عن مجاهد أن الآية على حد قوله تعالى : وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الأنعام : 28] فالمعنى ما كانوا لو أهلكناهم ثم أحييناهم ليؤمنوا بما كذبوا قبل إهلاكهم ، وعلى هذا فالمراد

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 17
بالموصول جميع الشرائع أصولها وفروعها وفيه من المبالغة في إصرارهم وعتوهم ما لا يخفى إلا أنه في غاية الخفاء ، وأيّا ما كان فالضمائر الثلاثة متوافقة في المرجع ، وقيل ضمير كَذَّبُوا راجع إلى أسلافهم ، والمعنى فما كان الأبناء ليؤمنوا بما كذب به الآباء ، ولا يخفى ما فيه من التعسف ، وذهب الأخفش إلى أن الياء سببية وما مصدرية والمعنى عليه كما قيل : فما كانوا ليؤمنوا الآن أي عند مجيء الرسل لما سبق منهم من التكذيب الذي ألفوه وتمرنوا عليه قبل مجيئهم أو لم يؤمنوا قط واستمروا على تكذيبهم لما حصل منهم من التكذيب حين مجيء الرسل.
كَذلِكَ أي مثل ذلك الطبع الشديد المحكم يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ أي قلوبهم فوضع المظهر موضع المضمر ليدل على أن الطبع بسبب الكفر وإلى هذا يشير كلام الزجاج وصرح به بعضهم ، ويجوز ولعله الأولى أن يراد بالكافرين ما يشمل المذكورين وغيرهم وفي ذلك من تحذير السامعين ما لا يخفى ، وإظهار الاسم الجليل بطريق الالتفات لتربية المهابة وإدخال الروعة وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ أي أكثر الأمم المذكورين ، ووجد متعدية لواحد واللام متعلقة بها كما في قولك : ما وجدت لزيد مالا أي ما صادفت له مالا ولا لقيته أو بمحذوف كما قال أبو البقاء وقع حالا من قوله تعالى : مِنْ عَهْدٍ لأنه في الأصل صفة للنكرة فلما قدمت عليها انتصبت حالا ومن مزيدة للاستغراق وجوز أن تكون وجد علمية والأول أظهر ، والكلام على تقدير مضاف أي ما وجدنا وفاء عهد كائن لأكثرهم فانهم نقضوا ما عاهدوا عليه اللّه تعالى عند مساس البأساء والضراء قائلين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ، وإلى هذا ذهب قتادة ، وتخصيص هذا الشأن بأكثرهم ليس لأن بعضهم كانوا يوفون بالعهد بل لأن بعضهم كانوا لا يعهدون ولا يوفون ، وقيل : المراد بالعهد ما وقع يوم أخذ الميثاق ، وروي ذلك عن أبي بن كعب. وأبي العالية ، وقيل : المراد به ما عهد اللّه تعالى إليهم من الإيمان والتقوى بنصب الدلائل والحجج وإنزال الآيات ، وفسره ابن مسعود بالإيمان كما في قوله تعالى : اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً [مريم : 78] ، وقيل : هو بمعنى البقاء أي ما وجدنا لهم بقاء على فطرتهم ، والمراد بالأكثر في الكل الكل ، وذهب كثير من الناس إلى أن ضمير أكثرهم للناس وهو معلوم لشهرته ، والجملة إلى فاسقين اعتراض لأنه لا اختصاص له بما قبله لكن لعمومه يؤكده.
وعلى الأول تتميم على ما نص عليه الطيبي وغيره وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ أي أكثر الأمم أو أكثر الناس أي علمناهم كقولك : وجدت زيدا فاضلا وبين وجد هذه ووجد السابق على المعنى الأول فيه الجناس التام المماثل وإِنْ مخففة من الثقيلة وضمير الشأن محذوف ولا عمل لها فيه لأنها ملغاة على المشهور ، وتعين تفسير وجد بعلم الناصبة للمبتدأ والخبر لدخولها عليهما ، فقد صرح الجمهور أنها لا تدخل إلا على المبتدأ أو على الأفعال الناسخة وخالف في ذلك الأخفش فلا يرى ذلك.
وجوز دخولها على غيرهما ، وذهب الكوفيون إلى أن إن نافية ، واللام في قوله سبحانه : لَفاسِقِينَ اللام الفارقة وعند الكوفيين أن إن نافية واللام بمعنى إلا أي ما وجدنا أكثرهم الا خارجين عن الطاعة ويدخل في ذلك نقض العهد ، وذكر الطيبي أنه إذا فسر الفاسقون بالناكثين يكون في الآية الطرد والعكس ، وهو أن يؤتى بكلامين يقرر الأول بمنطوقه مفهوم الثاني وبالعكس ، وهو كقوله تعالى : لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النور : 58] إلى قوله سبحانه : لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ [النور : 58] فمنطوق الأمر بالاستئذان في الأوقات الثلاثة خاصة مقرر لمفهوم رفع الجناح فيما عداها وبالعكس ، وكذا قوله تعالى : لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [التحريم : 6] وهذا النوع من الإطناب يقابله في الإيجاز نوع الاحتباك ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى أي أرسلناه عليه السلام بعد الرسل أو بعد الأمم والأول متقدم في قوله سبحانه : وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ والثاني مدلول عليه بتلك القرى والاحتمال الأول أولى ، والتصريح بالبعدية مع ثم الدالة عليها قيل للتنصيص على أنها للتراخي الزماني

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 18
فانها كثيرا ما تستعمل في غيره ، وقيل : للايذان بأن بعثه عليه السلام جرى على سنن السنة الإلهية من إرسال الرسل تترى ، ومِنْ لابتداء الغاية ، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ، وقوله سبحانه : بِآياتِنا متعلق بمحذوف وقع حالا من مفعول بعثنا أو صفة لمصدره أي بعثناه عليه السلام ملتبسا بها أو بعثناه بعثا ملتبسا بها وأريد بها الآيات التسع المفصلة إِلى فِرْعَوْنَ هو علم شخص ثم صار لقبا لكل من ملك مصر من العمالقة ، كما أن كسرى لقب من ملك فارس ، وقيصر لقب من ملك الروم ، والنجاشي لقب من ملك الحبشة ، وتبع لقب من ملك اليمن ، وقيل : إنه من أول الأمر لقب لمن ذكر ، واسمه الوليد بن مصعب بن الريان ، وقيل : قابوس وكنيته أبو العباس ، وقيل : أبو مرة ، وقيل : أبو الوليد ، وعن جماعة أن قابوسا والوليد اسمان لشخصين أحدهما فرعون موسى والآخر فرعون يوسف عليهما السلام ، وعن النقاش. وتاج القراء أن فرعون موسى هو والد الخضر عليه السلام ، وقيل : ابنه وذلك من الغرابة بمكان ، ويلقب به كل عات ويقال فيه فرعون كزنبور ، وحكى ابن خالويه عن الفراء ضم فائه وفتح عينه وهي لغة نادرة ، ويقال فيه : فريع كزبير وعليه قول أمية بن الصلت :
حي داود بن عاد وموسى وفريع بنيانه بالثقال
وقيل : هو فيه ضرورة شعر ومنع من الصرف لأنه أعجمي ، وحكى أبو الخطاب بن دحية في مروج البحرين عن أبي النصر القشيري في التيسير أنه بلغة القبط اسم للتمساح ، والقول بأنه لم ينصرف لأنه لا سميّ له كإبليس عند من أخذه من أبلس ليس بشيء ، وقيل : هو وأضرابه السابقة أعلام أشخاص وليست من علم الجنس لجمعها على فراعنة وقياصرة وأكاسرة ، وعلم الجنس لا يجمع فلا بد من القول بوضع خاص لكل من تطلق عليه. وتعقب بأنه ليس بشيء لأن الذي غره قول الرضي إن علم الجنس لا يجمع لأنه كالنكرة شامل للقليل والكثير لوضعه للماهية فلا حاجة لجمعه ، وقد صرح النحاة بخلافه وممن ذكر جمعه السهيلي في الروض الأنف فكأن مراد الرضي أنه لا يطرد جمعه وما ذكره تعسف نحن في غنى عنه وَمَلَائِهِ أي أشراف قومه وتخصيصهم بالذكر مع عموم بعثته عليه السلام لقومه كافة لأصالتهم في تدبير الأمور واتباع غيرهم لهم في الورود والصدور فَظَلَمُوا بِها أي بالآيات ، وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه وهو يتعدى بنفسه لا بالباء إلا أنه لما كان هو والكفر من واد واحد عدّي تعديته أو هو بمعنى الكفر مجازا أو تضمينا أو هو مضمن معنى التكذيب أي ظلموا كافرين بها أو مكذبين بها ، وقول بعضهم : إن المعنى كفروا بها مكان الإيمان الذي هو من حقها لوضوحها ظاهر في التضمين كأنه قيل كفروا بها واضعين الكفر في غير موضعه حيث كان اللائق بهم الإيمان.
وقيل : الباء للسببية ومفعول ظلموا محذوف أي ظلموا الناس بصدهم عن الإيمان أو أنفسهم كما قال الحسن.
والجبائي بسببها ، والمراد به الاستمرار على الكفر بها إلى أن لقوا من العذاب ما لقوا.
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أي آخر أمرهم ، ووضع المفسدين موضع ضميرهم للايذان بأن الظلم مستلزم للافساد ، والفاء لأنه كما أن ظلمهم بالآيات مستتبع لتلك العاقبة الهائلة كذلك حكايته مستتبع للأمر بالنظر إليها ، والخطاب إما للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم أو لكل من يتأتى منه النظر ، وكَيْفَ كما قال أبو البقاء وغيره خبر كان قدم على اسمها لاقتضائه الصدارة ، والجملة في حيز النصب بإسقاط الخافض كما ، قيل : أي فانظر بعين عقلك إلى كيفية ما فعلنا بهم وَقالَ مُوسى كلام مبتدأ مسوق لتفصيل ما أجمل فيما قبله.
يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ أي إليكم كما يشعر به قد جئتكم أو إليك كما يشعر به فأرسل مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 19
أي سيدهم ومالك أمرهم حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ جواب لتكذيبه عليه السلام المدلول عليه بقوله سبحانه : فَظَلَمُوا بِها ، وحقيق صفة رسول أو خبر بعد خبر.
وقيل : خبر مبتدأ محذوف أي أنا حقيق وهو بمعنى جدير وعَلى بمعنى الباء كما قال الفراء أو بمعنى حريص «1» وعَلى على ظاهرها ، قال أبو عبيدة : أو بمعنى واجب ، واستشكل بأن قول الحق هو الواجب على موسى عليه السلام لا العكس والكلام ظاهر فيه ، وأجيب بأن أصله «حقيق عليّ» بتشديد الياء كما في قراءة نافع.
ومجاهد أَنْ لا أَقُولَ إلخ فقلب لأمن الالتباس كما في قول خراش بن زهير :
كذبتم وبيت اللّه حتى تعالجوا قوادم حرب لا تلين ولا تمري
هي وطن آبائهم ، وكان عدو اللّه تعالى والقبط قد استبعدوهم بعد انقراض الأسباط يستعملونهم ويكلفونهم الأفاعيل الشاقة كالبناء وحمل الماء فأنقذهم اللّه تعالى بموسى عليه السلام ، وكان بين اليوم الذي دخل فيه يوسف عليه السلام مصر واليوم الذي دخل فيه موسى عليه السلام على ما روي عن وهب أربعمائة سنة ، واستعمال الإرسال بما أشير إليه على ما يظهر من كلام الراغب حقيقة ، وقيل : إنه استعارة من إرسال الطير من القفص تمثيلية أو تبعية ، ولا يخفى أنه ساقط عن وكر القبول ، والفاء لترتيب الإرسال أو الأمر به على ما قبله من رسالته عليه السلام ومجيئه بالبينة قالَ استئناف بياني كأنه قيل : فما قال فرعون؟ فقيل : قال :
إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ من عند من أرسلك كما تدعيه فَأْتِ بِها أي فأحضرها عندي ليثبت بها صدقك في دعواك ، فالمغايرة بين الشرط والجزاء مما لا غبار عليه ، ولعل الأمر غني عن التزام ذلك لحصوله بما لا أظنه يخفى عليك إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك فإن كونك من جملة المعروفين بالصدق يقتضي إظهار الآية لا محالة فَأَلْقى عَصاهُ وكانت كما روى ابن المنذر. وابن أبي حاتم من عوسج. وروي عن علي كرم اللّه تعالى وجهه أنها كانت من لوز.
وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة أنه قال : ذكر لنا أنها عصا آدم عليه السلام أعطاها لموسى ملك حين توجه إلى مدين فكانت تضيء له بالليل ويضرب بها الأرض بالنهار فيخرج له رزقه ويهش بها على غنمه ، والمشهور أنها كانت من آس الجنة وكانت لآدم عليه السلام ثم وصلت إلى شعيب فأعطاه إياها ، وجاء عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن اسمها مأشا فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ أي حية ضخمة طويلة. وعن الفراء أن الثعبان هو الذكر العظيم من الحيات. وقال آخرون : إنه الحية مطلقا.
وفي مجمع البيان أنه مشتق من ثعب الماء إذا انفجر ، فكأنه سمي بذلك لأنه يجري كعنق الماء إذا انفجر مُبِينٌ أي ظاهر أمره لا يشك في كونه ثعبانا فهو إشارة إلى أن الصيرورة حقيقية لا تخييلية ، وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على كمال سرعة الانقلاب وثبات وصف الثعبانية فيها كأنها في الأصل كذلك ، وروي عن ابن عباس.
والسدي أنه عليه السلام لما ألقاها صارت حية صفراء شعراء فاغرة فاها بين لحييها ثمانون ذراعا وارتفعت من الأرض بقدر ميل وقامت على ذنبها واضعة لحيها الأسفل في الأرض ولحيها الأعلى على سور القصر وتوجهت نحو فرعون لتأخذه فوثب عن سريره هاربا وأحدث ، وفي بعض الروايات أنه أحدث في ذلك اليوم أربعمائة مرة ، وفي أخرى أنه
___________
(1) أي تضمينا ا ه منه

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 20
استمر معه داء البطن حتى غرق ، وقيل : إنها أخذت قبة فرعون بين أنيابها وأنها حملت على الناس فانهزموا مزدحمين فمات منهم خمسة وعشرون ألفا ، فصاح فرعون يا موسى أنشدك بالذي أرسلك أن تأخذها وأنا أؤمن بك وأرسل معك بني إسرائيل ، فأخذها فعادت عصا كما كانت ،
وعن معمر أنها كانت في العظم كالمدينة ، وقيل : كان طولها ثمانين ذراعا ، وعن وهب بن منبه أن بين لحييها اثني عشر ذراعا ، وعلى جميع الروايات لا تعارض بين ما هنا وقوله سبحانه :
كَأَنَّها جَانٌّ [النمل : 10 ، القصص : 31] بناء على أن الجان هي الحية الصغيرة لما قالوا : إن القصة غير واحدة ، أو أن المقصود من ذلك تشبيهها في خفة الحركة بالجان لا بيان جثتها ، أو لما قيل : إنها انقلبت جانا وصارت ثعبانا فحكيت الحالتان في آيتين ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى.
وتلحق خيل لا هوادة بينها وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر
وضعف بأن القلب سواء كان قلب الألفاظ بالتقديم والتأخير كخرق الثوب المسمار أم قلب المعنى فقط كما هنا إنما يفصح إذا تضمن نكنة كما في البيت ، وهي فيه الإشارة إلى كثرة الطعن حتى شقيت الرماح بهم لتكسرها بسبب ذلك ، وقد أفصح عن هذا المتنبي بقوله :
والسيف يشقى كما تشقى الضلوع به وللسيوف كما للناس آجال
وبأن بين الواجب ومن يجب عليه ملازمة فعبر عن لزومه للواجب بوجوبه على الواجب كما استفاض العكس ، وليس هو من الكناية الإيمائية كقول البحتري :
أو ما رأيت الجود ألقى رحله في آل طلحة ثم لم يتحول
وقول ابن هانىء :
فما جازه جود ولا حل دونه ولكن يسير الجود حيث يسير
بل هو تجوز فيه مبالغة حسنة ، وبان ذلك من الإغراق في الوصف بالصدق بأن يكون قد جعل قول الحق بمنزلة رجل يجب عليه شيء ثم جعل نفسه أي قابليته لقول الحق وقيامه به بمنزلة الواجب على قول الحق فيكون استعارة مكنية وتخييلية ، والمعنى أنا واجب على الحق أن يسعى في أن أكون قائله والناطق به فكيف يتصور مني الكذب ، واعترضه القطب الرازي وغيره بأنه إنما يتم لو كان هو حقيقا على قول الحق وليس كذلك بل على قوله الحق ، وجعل قوله الحق بحيث يجب عليه أن يسعى في أن يكون قائله لا معنى له.
وأجيب بأن مبنى ذلك على أن المصدر المؤول لا بد من إضافته إلى ما كان مرفوعا به وليس بمسلم فإنه قد يقطع النظر عن ذلك.
وقد صرح بعض النحاة بأنه قد يكون نكرة نحو وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى [يونس : 37] أي افتراء ، وهاهنا قد قطع النظر فيه عن الفاعل إذ المعنى حقيق على قول الحق وهو محصل مجموع الكلام فلا إشكال ، وذكر ابن مقسم في توجيه الآية على قراءة الجمهور وادعى أنه الأولى أن عَلى أَنْ لا أَقُولَ متعلق برسول إن قلنا بجواز إعمال الصفة إذا وصفت وإن لم نقل به وهو المشهور فهو متعلق بفعل يدل عليه أي أرسلت على أن لا أقول إلخ ، والأولى عندي كون على بمعنى الباء ، ويؤيده قراءة أبي بأن لا أقول.
وقرأ عبد اللّه «أن لا أقول» بتقدير الجار وهو على أو الباء ، وقد تقدم يقدر على بياء مشددة ، وقوله سبحانه : قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ استئناف مقرر لما قبله ، ولم يكن هذا وما بعده من جواب فرعون إثر ما ذكر هاهنا بل بعد ما جرى بينهما من المحاورات التي قصها اللّه تعالى في غير ما موضع ، وقد طوى ذكرها هنا للايجاز ومِنْ متعلقة

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 21
إما بجئتكم على أنها لابتداء الغاية مجازا وإما بمحذوف وقع صفة لبينة مفيدة لفخامتها الإضافية مؤكدة لفخامتها الذاتية المستفادة من التنوين التفخيمي كما مر غير مرة ، وإضافة اسم الرب إلى ضمير المخاطبين بعد إضافته فيما قبل إلى العالمين لتأكيد وجوب الإيمان بها ، وذكر الاسم الجليل الجامع في بيان كونه جديرا بقول الحق عليه سبحانه تهويلا لأمر الافتراء عليه تعالى شأنه مع الإشارة إلى التعليل بما ليس وراءه غاية فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي خلهم حتى يذهبوا معي إلى الأرض المقدسة التي تحقيق ذلك. والآية من أقوى أدلة جواز انقلاب الشيء عن حقيقته كالنحاس إلى الذهب ، إذ لو كان ذلك تخييلا لبطل الاعجاز ، ولم يكن لذكر مبين معنى مبين ، وارتكاب غير الظاهر غير ظاهر ، ويدل لذلك أيضا أنه لا مانع في القدرة من توجه الأمر التكويني إلى ما ذكر وتخصيص الإرادة له ، والقول بأن قلب الحقائق محال والقدرة لا تتعلق به فلا يكون النحاس ذهبا رصاص مموه ، والحق جواز الانقلاب إما بمعنى أنه تعالى يخلق بدل النحاس ذهبا على ما هو رأي المحققين ، أو بأن يسلب عن أجزاء النحاس الوصف الذي صار به نحاسا ويخلق فيه الوصف الذي يصير به ذهبا على ما هو رأي بعض المتكلمين من تجانس الجواهر واستوائها في قبول الصفات ، والمحال إنما هو انقلابه ذهبا مع كونه نحاسا لامتناع كون الشيء في الزمن الواحد نحاسا وذهبا ، وعلى أحد هذين الاعتبارين توكأ أئمة التفسير في أمر العصا وَنَزَعَ يَدَهُ أي أخرجها من جيبه لقوله تعالى : أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ [النمل : 12] أو من تحت أبطه لقوله سبحانه : وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ [طه : 22] والجمع بينهما ممكن في زمان واحد ، وكانت اليد اليمنى كما صرح به في بعض الآثار فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ أي بيضاء بياضا نورانيا خارجا عن العادة يجتمع عليه النظار.
فقد روي أنه أضار له ما بين السماء والأرض ،
وجاء في رواية أنه أرى فرعون يده ، وقال عليه السلام : ما هذه؟ فقال : يدك. ثم أدخلها جيبه وعليه مدرعة صوف ونزعها فإذا هي بيضاء بياضا نورانيا غلب شعاعه شعاع الشمس ،
وقيل : المعنى بيضاء لأجل النظار لا أنها بيضاء في أصل خلقتها لأنه عليه السلام كان آدم شديد الأدمة ،
فقد أخرج البخاري عن ابن عمر قال : «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأما موسى فآدم جثيم سبط كأنه من رجال الزط»
وعنى عليه الصلاة والسلام بالزط جنسا من السودان والهنود ، ونص البعض على أن ذلك البياض إنما كان في الكف وإطلاق اليد عليها حقيقة.
وفي القاموس اليد الكف أو من أطراف الأصابع إلى الكف ، وأصلها يدي بدليل جمعها على أيدي ولم ترد اليد عند الإضافة إلى الضمير لما تقرر في محله ، وجاء في كلامهم يد بالتشديد وهو لغة فيه.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 109 إلى 142]
قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113)
قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118)
فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123)
لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)
قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133)
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)
إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 22

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 23
قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أي الأشراف منهم وهم أهل مشورته ورؤساء دولته.
إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ أي مبالغ في علم السحر ماهر فيه يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ أي من أرض مصر فَما ذا تَأْمُرُونَ أي تشيرون في أمره كما فسره بذلك ابن عباس ، فهو من الأمر بمعنى المشاورة ، يقال : آمرته فآمرني أي شاورته فأشار علي ، وقيل من الأمر المعهود ، وما ذا في محل نصب على أنه مفعول لتأمرون بحذف الجار ، أي بأي شيء تأمرون ، وقيل : فَما خبر مقدم وذا اسم موصول مبتدأ مؤخر ، أي ما الذي تأمرون به قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ أي أخر أمرهما وأصدرهما عنك ولا تعجل في أمرهما حتى ترى رأيك فيهما ، وقيل : احبسهما ، واعترض بأنه لم يثبت منه الحبس.
وأجيب بأن الأمر به لا يوجب وقوعه ، وقيل عليه أيضا : إنه لم يكن قادرا على الحبس بعد أن رأى ما رأى ، وقوله : لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ في الشعراء [29] كان قبل هذا ، وأجيب بأن القائلين لعلهم لم يعلموا ذلك منه ، وقال أبو منصور : الأمر بالتأخير دل على أنه تقدم منه أمر آخر وهم الهم بقتله ، فقالوا : أخره ليتبين حاله للناس ، وليس بلازم كما لا يخفى وأصل أرجه أرجئه بهمزة ساكنة وهاء مضمومة دون واو ثم حذفت الهمزة وسكنت الهاء لتشبيه المنفصل بالمتصل ، وجعل أرجه كإبل في إسكان وسطه ، وبذلك قرأ أبو عمرو. وأبو بكر. ويعقوب على أنه من أرجات ، وكذلك قراءة ابن كثير وهشام وابن عامر «أرجئهو» بهمزة ساكنة وهاء متصلة بواو الإشباع.
وقرأ نافع في رواية ورش وإسماعيل والكسائي «أرجهي» بهاء مكسورة بعدها ياء من أرجيت ، وفي رواية قالون «أن أرجه» بحذف الياء للاكتفاء عنها بالكسرة ، وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان «أرجئه» بالهمزة وكسر الهاء ، وقد ذكر بعضهم أن ضم الهاء وكسرها والهمز وعدمه لغتان مشهورتان ، وهل هما مادتان أو الياء بدل من الهمزة كتوضأت وتوضيت؟ قولان ، وطعن في القراءة على رواية ابن ذكوان ، فقال الحوفي : إنها ليست بجيدة ، وقال الفارسي : إن ضم الهاء مع الهمزة لا يجوز غيره وكسرها غلط لأن الهاء لا تكسر إلا بعد ياء ساكنة أو كسرة ، وأجيب كما قال الشهاب عنه بوجهين : أحدهما أن الهمزة ساكنة والحرف الساكن حاجز غير حصين فكأن الهاء وليت الجيم المكسورة فلذا كسرت ، والثاني أن الهمزة عرضة للتغيير كثيرا بالحذف وإبدالها ياء إذا سكنت بعد كسرة فكأنها وليت ياء ساكنة فلذا كسرت. وأورد على ذلك أبو شامة أن الهمزة تعد حاجزا وأن الهمزة لو كانت ياء كان المختار الضم نظرا لأصلها وليس بشيء بعد أن قالوا : إن القراءة متواترة وما ذكر لغة ثابتة عن العرب ، هذا واستشكل الجمع بين ما هنا وما في الشعراء فإن فيها قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ وهو صريح في أن إِنَّ هذا لَساحِرٌ إلى فَما ذا تَأْمُرُونَ كلام فرعون وما هنا صريح في نسبة قول ذلك للملأ والقصة واحدة فكيف يختلف القائل في الموضعين وهل هذا إلا منافاة؟ وأجيب بأنه لا منافاة لاحتمالين. الأول أن هذا الكلام قال فرعون والملأ من قومه فهو كوقع الحافر على الحافر فنقل في الشعراء كلامه وهنا كلامهم ، والثاني أن هذا الكلام قاله فرعون ابتداء ثم قاله الملأ إما بطريق الحكاية لأولادهم وغيرهم وإما بطريق التبليغ لسائر الناس فما في الشعراء كلام فرعون ابتداء وما هنا كلام الملأ نقلا عنه.
واختار الزمخشري أن ما هنا هو قال الملأ نقلا عن فرعون بطريق التبليغ لا غير لأن القوم لما سمعوه خاطبوا فرعون بقولهم : أرجه إلخ ، ولو كان ذلك كلام الملأ ابتداء لكان المطابق أن يجيبوهم بأرجئوا ، ولا سبيل إلى أنه كان نقلا بطريق الحكاية لأنه حينئذ لم يكن مؤامرة ومشاورة مع القوم فلم يتجه جوابهم أصلا ، فتعين أن يكون بطريق التبليغ فلذا خاطبوه بالجواب. بقي أن يقال هذا الجواب بالتأخير في الشعراء كلام الملأ لفرعون وهاهنا كلام سائر القوم. لكن

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 24
لا منافاة لجواز تطابق الجوابين. وقول شيخ الإسلام : إن كون ذلك جواب العامة يأباه أن الخطاب لفرعون وأن المشاورة ليست من وظائفهم ليس بشيء ، لأن الأمر العظيم الذي تصيب تبعته أهل البلد يشاور فيه الملك الحازم عوامهم وخواصهم ، وقد يجمعهم لذلك ويقول لهم : ماذا ترون فهذا أمر لا يصيبني وحدي ورب رأي حسن عند من لم يظن به على أن في ذلك جمعا لقلوبهم عليه وعلى الاحتفال بشأنه ، وقد شاهدنا أن الحوادث العظام يلتفت فيها إلى العوام ، وأمر موسى عليه السلام كان من أعظم الحوادث عند فرعون بعد أن شاهد منه ما شاهده ثم أنهم اختلفوا في قوله تعالى : فَما ذا تَأْمُرُونَ فقيل : إنه من تتمة كلام الملأ ، واستظهره غير واحد لأنه مسوق مع كلامهم من غير فاصل ، فالأنسب أن يكون من بقية كلامهم ، وقال الفراء. والجبائي : إن كلام الملأ قد تم عند قوله سبحانه : يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ ثم قال فرعون : فماذا تأمرون قالوا : أرجه ، وحينئذ يحتمل كما قال القطب أن يكون كلام الملأ مع فرعون وخطاب الجمع في يخرجكم إما لتفخيم شأنه أو لاعتباره مع خدمه وأعوانه. ويحتمل أن يكون مع قوم فرعون والمشاورة منه. ثم قال : وإنما التزموا هذا التعسف ليكون مطابقا لما في الشعراء في أن قوله : فَما ذا تَأْمُرُونَ من كلام فرعون وقوله : أَرْجِهْ وَأَخاهُ كلام الملأ. لكن ما ارتفعت المخالفة بالمرة لأن قوله : إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ كلام فرعون للملأ. وفي هذه السورة على ما وجهوه كلام الملأ لفرعون ، ولعلهم يحملون على أنه قاله لهم مرة وقالوه له أخرى انتهى.
ويمكن أن يقال : إن الملأ لما رأوا من موسى عليه السلام ما رأوا قال بعضهم لبعض : إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تشيرون وما تستحسنون في أمره؟ ولما رآهم فرعون أنهم مهتمون من ذلك قال لهم تنشيطا لهم وتصويبا لما هم عليه قبل أن يجيب بعضهم بعضا بما عنده مثل ما قالوه فيما بينهم فالتفتوا إليه وقالوا : أرجه وأخاه ، فحكى سبحانه هنا مشاورة بعضهم لبعض وعرض ما عندهم على فرعون أول وهلة قبل ذكره فيما بينهم ، وحكى في الشعراء كلامه لهم ومشاورته إياهم التي هي طبق مشاورة بعضهم بعضا المحكية هنا وجوابهم له بعد تلك المشاورة ، وعلى هذا لا يدخل العوام في الشورى ، ويكون هاهنا أبلغ في ذم الملأ فليتدبر واللّه تعالى أعلم بأسرار كلامه وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ أي البلاد جمع مدينة ، وهي من مدن بالمكان كنصر إذا أقام به ، ولكون الياء زائدة كما قال غير واحد تقلب همزة في الجمع ، وأريد بها مطلق المدائن ، وقيل : مدائن صعيد مصر حاشِرِينَ أي رجالا يجمعون السحرة ، وفسره بعضهم بالشرط وهم أعوان الولاة لأنهم يجعلون لهم علامة ، ويقال للواحد شرطي بسكون الراء نسبة للشرطة ، وحكى في القاموس فتحها أيضا ، وفي الأساس أنه خطأ لأنه نسبة إلى الشرط الذي هو جمع ، ونصب الوصف على أنه صفة المحذوف ومفعوله محذوف أيضا كما أشير إليه ، وقد نص على ذلك الاجهوري يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ أي ماهر في السحر والفعل مجزوم في جواب الطلب.
وقرأ حمزة والكسائي «سحار» وجاء فيه الإمالة وعدمها وهو صيغة مبالغة ، وفسره بعضهم بأنه الذي يديم السحر والساحر من أن يكون قد سحر في وقت دون وقت ، وقيل : الساحر هو المبتدئ في صناعة السحر والسحار هو المنتهي الذي يتعلم منه ذلك وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ بعد ما أرسل إليهم الحاشرين وإنما لم يصرح به للايذان بمسارعة فرعون بالإرسال ومبادرة الحاشرين والسحرة إلى الامتثال.
واختلف في عدتهم. فعن كعب أنهم اثنا عشر ألفا ، وعن ابن إسحاق خمسة عشر ألفا ، وعن أبي ثمامة سبعة عشر ألفا ، وفي رواية تسعة عشر ألفا وعن السدي بضعة وثلاثون ألفا ، وعن أبي بزة أنهم سبعون ألفا ، وعن محمد بن كعب ثمانون ألفا. وأخرج أبو الشيخ عن ابن جرير قال : السحرة ثلاثمائة من قومه وثلاثمائة من العريش ويشكون في ثلاثمائة من الاسكندرية.

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 25
وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنهم كانوا سبعين ساحرا وقد أخذوا السحر من رجلين مجوسيين من أهل نينوى مدينة يونس عليه السلام ، وروي نحو ذلك عن الكلبي ، والظاهر عدم صحته لأن المجوسية ظهرت زمن زرادشت على المشهور ، وهو إنما جاء بعد موسى عليه السلام ، واسم رئيسهم كما قال مقاتل : شمعون وقال ابن جريج :
هو يوحنا ، وقال ابن الجوزي نقلا عن علماء السير : إن رؤساءهم سابور وعازور وحطحط ومصفى قالُوا استئناف بياني ولذا لم يعطف كأنه قيل : فماذا قالوا له عند مجيئهم إياه؟ فقيل : قالوا إلخ ، وهذا أولى مما قيل إنه حال من فاعل جاؤوا أي جاؤوا قائلين إِنَّ لَنا لَأَجْراً أي عوضا وجزاء عظيما.
إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ والمقصود من الإخبار إيجاب الأجر واشتراطه كأنهم قالوا : بشرط أن تجعل لنا أجرا إن غلبنا ، ويحتمل أن يكون الكلام على حذف أداة الاستفهام وهو مطرد ويؤيد ذلك أنه قرأ ابن عامر وغيره «أئن» بإثبات الهمزة وتوافق القراءتين أولى من تخالفهما ومن هنا رجح الواحدي هذا الاحتمال ، وذكر الشرط لمجرد تعيين مناط ثبوت الأجر لا لترددهم في الغلبة ، وقيل : له ، وتوسيط الضمير وتحلية الخبر باللام للقصر ، أي كنا نحن الغالبين لا موسى عليه السلام قالَ نَعَمْ إن لكم لأجرا.
وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عطف على مقدر هو عين الكلام السابق الدال عليه حرف الإيجاب ، ويسمى مثل هذا عطف التلقين ، ومن قال إنه معطوف على السابق أراد ما ذكرنا ، والمعنى إن لكم لأجرا وإنكم مع ذلك لمن المقربين ، أي إني لا أقتصر لكم على العطاء وحده وإن لكم معه ما هو أعظم منه وهو التقريب والتعظيم لأن من أعطى شيئا إنما يتهنأ به ، ويغتبط إذا نال معه الكرامة والرفعة ، وفي ذلك من المبالغة في الترغيب والتحريض ما لا يخفى ، وروي عن الكلبي أنه قال لهم : تكونون أول من يدخل مجلسي وآخر من يخرج عنه قالُوا استئناف كنظيره السابق يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ ما تلقي أولا وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ لما نلقي أولا أو الفاعلين للإلقاء أو لا خيروه عليه السلام بالبدء بالإلقاء مراعاة للأدب ولذلك كما قيل منّ اللّه تعالى عليهم بما منّ ، أو إظهارا للجلادة وأنه لا يختلف عليهم الحال بالتقديم والتأخير ، ولكن كانت رغبتهم في التقديم كما ينبىء عنه تغييرهم للنظم بتعريف الخبر وتوسيط ضمير الفصل وتوكيد الضمير المستتر ، والظاهر أنه وقع في المحكي كذلك بما يرادفه ، وقول الجلال السيوطي : إن الضمير المنفصل إما أن يكون فصلا أو تأكيدا ولا يمكن الجمع بينهما لأنه على الأول لا محل له من الإعراب وعلى الثاني له محل كالمؤكد وهم كما لا يخفى.
وفرق الطيبي بين كون الضمير فصلا وبين كونه توكيدا بأن التوكيد يرفع التجوز عن المسند إليه فيلزم التخصيص من تعريف الخبر ، أي نحن نلقي البتة لا غيرنا ، والفصل يخصص الإلقاء بهم لتخصيص المسند بالمسند إليه فيعرى عن التوكيد ، وتحقيق ذلك يطلب من محله قالَ أي موسى عليه السلام وثوقا بشأنه وتحقيرا لهم وعدم مبالاة بهم أَلْقُوا أنتم ما تلقون أولا ، وبما ذكرنا يعلم جواب ما يقال : إن القاءهم معارضة للمعجزة بالسحر وهي كفر والأمر به مثله فكيف أمرهم وهو هو؟ وحاصل الجواب أنه عليه السلام علم أنهم لا بد وأن يفعلوا ذلك ، وإنما وقع التخيير في التقديم والتأخير كما صرح به في قوله سبحانه في آية أخرى : أَوَّلَ مَنْ أَلْقى [طه : 65] فجوز لهم التقديم لا لإباحة فعلهم بل لتحقيرهم ، وليس هناك دلالة على الرضا بتلك المعارضة ، وقد يقال أيضا : إنه عليه السلام إنما أذن لهم ليبطل سحرهم فهو إبطال للكفر بالآخرة وتحقيق لمعجزته عليه السلام ، وعلى هذا يحمل ما جاء في بعض الآثار من أنهم لما قالوا سمع موسى عليه السلام مناديا يقول :
بل ألقوا أنتم يا أولياء اللّه تعالى فأوجس في نفسه خيفة من ذلك حتى أمر عليه السلام ، وسيجيء إن شاء اللّه تعالى تحقيق ذلك فَلَمَّا أَلْقَوْا ما ألقوا وكان مع كل واحد منهم حبل وعصا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ بأن خيلوا إليها ما

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 26
الحقيقة بخلافه ، ولذا لم يقل سبحانه سحروا فالآية على حد قوله جل شأنه : يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى [طه : 66] وَاسْتَرْهَبُوهُمْ أي أرهبوهم إرهابا شديدا كأنهم طلبوا إرهابهم وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ في بابه ،
يروى أنهم ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا فإذا حيات كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا.
وفي بعض الآثار أن الأرض كان سعتها ميلا في ميل وقد امتلأت من الحيات والأفاعي ، ويقال : إنهم طلوا تلك الحبال بالزئبق ولونوها وجعلوا داخل العصيّ زئبقا أيضا وألقوها على الأرض فلما أثر حر الشمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض حتى تخيل للناس أنها حيات. واستدل بالآية من قال كالمعتزلة إن السحر لا حقيقة له وإنما هو مجرد تخييل ، وفيه أنهم إن أرادوا أن ما وقع في القصة من السحر كان كذلك فمسلم والآية تدل عليه وإن أرادوا أن كل سحر تخييل فممنوع والآية لا تدل عليه ، والذي ذهب إليه جمهور أهل السنة أن السحر أقسام وأن منه ما لا حقيقة له ومنه ما له حقيقة كما يشهد بذلك سحر اللعين لبيد بن الأعصم اليهودي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وسحر يهود خيبر ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما حين ذهب ليخرص تمرهم.
وذكروا أنه قد يصل السحر إلى حد المشي على الماء والطيران في الهواء ونحو ذلك ، وترتب ذلك عليه كترتب الشبع على الأكل والري على الشرب والإحراق على النار ، والفاعل الحقيقي في كل ذلك هو اللّه تعالى. نعم قال القرطبي : أجمع المسلمون على أنه ليس من السحر ما يفعل اللّه تعالى عنده إنزال الجراد والقمل والضفادع وفلق الحجر وقلب العصا وإحياء الموتى وإنطاق العجماء وأمثال ذلك من آيات الرسل عليهم الصلاة والسلام. ومن أنكر حقيقته استدل بلزوم الالتباس بالمعجزة ، وتعقب بأن الفرق مثل الصبح ظاهر وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى بواسطة الملك كما هو الظاهر أَنْ أَلْقِ عَصاكَ التي علمت من أمرها ما علمت وأَنْ تفسيرية لتقدم ما فيه معنى القول دون حروفه ، وجوز أن تكون مصدرية فالمصدر مفعول الإيحاء ، والفاء في قوله سبحانه :
فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ فصيحة أي فألقاها فصارت حية فإذا هي إلخ ، وإنما حذف للإيذان بمسارعة موسى عليه السلام إلى الإلقاء وبغاية سرعة الانقلاب كأن لقفها لما يأفكون قد حصل متصلا بالأمر بالإلقاء ، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة الغريبة ، واللقف كاللقفان التناول بسرعة ، وفسره الحسن هنا بالسرط والبلع ، والافك صرف الشيء وقلبه عن الوجه المعتاد ويطلق على الكذب وبذلك فسره ابن عباس. ومجاهد لكونه مقلوبا عن وجهه واشتهر ذلك فيه حتى صار حقيقة ، وما موصولة أو موصوفة والعائد محذوف أي ما يأفكونه ويكذبونه أو مصدرية وهي مع الفعل بمعنى المفعول أي المأفوك لأنه المتلقف ، وقرأ الجمهور «تلّقف» بالتشديد وحذف إحدى التاءين فَوَقَعَ أي ظهر وتبين كما قال الحسن ومجاهد والفراء الْحَقُّ وهو أمر موسى عليه السلام ، وفسر بعضهم وقع بثبت على أنه قد استعير الوقع للثبوت والحصول أو للثبات والدوام لأنه في مقابل بطل والباطل زائل ، وفائدة الاستعارة كما قيل : الدلالة على التأثير لأن الوقع يستعمل في الأجسام ، وقيل : المراد من وقع الحق صيرورة العصا حية في الحقيقة وليس بشيء وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي ظهر بطلان ما كانوا مستمرين على عمله فَغُلِبُوا أي فرعون وقومه هُنالِكَ أي في ذلك المجمع العظيم وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ أي صاروا أذلاء أو رجعوا إلى المدينة كذلك فالانقلاب إما مجاز عن الصيرورة والمناسبة ظاهرة أو بمعنى الرجوع فصاغرين حال ورجح الأول بقوله سبحانه :
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ لأن ذلك كان بمحضر من فرعون قطعا ، وجوز رجوع ضمير غلبوا وانقلبوا على الاحتمال الأول إلى السحرة أيضا ، وتعقب بأنهم لا ذلة لهم والحمل على الخوف من فرعون أو على ما قبل الإيمان لا يخفى ما فيه ، والمراد من أُلْقِيَ السَّحَرَةُ إلخ أنهم خروا ساجدين ، وعبر بذلك دونه تنبيها على أن الحق بهرهم

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 27
واضطرهم إلى السجود بحيث لم يبق لهم تمالك فكأن أحدا دفعهم وألقاهم أو أن اللّه تعالى ألهمهم ذلك وحملهم عليه فالملقي هو اللّه تعالى بإلهامه لهم حتى ينكسر فرعون بالذين أراد بهم كسر موسى عليه السلام وينقلب الأمر عليه ، ويحتمل أن يكون الكلام جاريا مجرى التمثيل مبالغة في سرعة خرورهم وشدته وإليه يشير كلام الأخفش ، وجوز أن يكون التعبير بذلك مشاكلة لما معه من الإلقاء إلا أنه دون ما تقدم ، يروى أن اجتماع القوم كان بالاسكندرية وأنه بلغ ذنب الحية من وراء البحر وأنها فتحت فاها ثمانين ذراعا فابتلعت ما صنعوا واحدا بعد واحد وقصدت الناس ففزعوا ووقع الزحام فمات منهم لذلك خمسة وعشرون ألفا ثم أخذها موسى عليه السلام فعادت في يده عصا كما كانت وأعدم اللّه تعالى بقدرته تلك الأجرام العظام ، ويحتمل أنه سبحانه فرقها أجزاء لطيفة فلما رأى السحرة ذلك عرفوا أنه من أمر السماء وليس من السحر في شيء فعند ذلك خروا سجدا ، والمتبادر من السجود حقيقته ولا يبعد أنهم كانوا عالمين بكيفيته ، وقيل : إن موسى وهارون عليهما السلام سجدا شكرا اللّه تعالى على ظهور الحق فاقتدوا بهما وسجدوا معهما ، وحمل السجود على الخضوع أي أنهم خضعوا لما رأوا ما رأوا خلاف الظاهر الذي نطقت به الآثار من غير داع إلى ارتكابه قالُوا استئناف.
وجوز أبو البقاء كونه حالا من ضمير انقلبوا وليس بشيء ، وقيل : هو حال من السحرة أو من ضميرهم المستتر في ساجدين أي أنهم ألقوا ساجدين حال كونهم قائلين آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ أي مالك أمرهم والمتصرف فيهم رَبِّ مُوسى وَهارُونَ بدل مما قبل وإنما أبدلوا لئلا يتوهم أنهم أرادوا فرعون ولم يقتصروا على موسى عليه السلام إذ ربما يبقى للتوهم رائحة لأنه كان ربّى موسى عليه السلام في صغره ، ولذا قدم هارون في محل آخر لأنه أدخل في دفع التوهم أو لأجل الفاصلة أو لأنه أكبر سنا منه ، وقدم موسى هنا لشرفه أو للفاصلة ، وأما كون الفواصل في كلام اللّه تعالى لا في كلامهم فقد قيل : إنه لا يضر ، وروي أنهم لما قالوا : آمنا برب العالمين قال فرعون : أنا رب العالمين فقالوا ردا عليه : رب موسى وهارون ، وإضافة الرب إليهما كإضافته إلى العالمين ، وقيل : إن تلك الإضافة على معنى الاعتقاد أي الرب الذي يعتقد ربوبيته موسى وهارون ويكون عدم صدقه على فرعون بزعمه أيضا ظاهرا جدا إلا أن ذلك خلاف الظاهر من الإضافة ، ويعلم مما قدمنا سر تقديم السجود على هذا القول.
وقال الخازن في ذلك : إن اللّه تعالى لما قذف في قلوبهم الإيمان خروا سجدا للّه تعالى على ما هداهم إليه وألهمهم من الإيمان ثم أظهروا بذلك إيمانهم ، وقيل : إنهم بادروا إلى السجود تعظيما لشأنه تعالى لما رأوا من عظيم قدرته ثم إنهم أظهروا الإيمان ، ومن جعل الجملة حالا قال بالمقارنة فافهم ، وأول من بادر بالإيمان كما روي عن ابن إسحاق الرؤساء الأربعة الذين ذكرهم ابن الجوزي ثم اتبعتهم السحرة جميعا قالَ فِرْعَوْنُ منكرا على السحرة موبخا لهم على ما فعلوه آمَنْتُمْ بِهِ أي برب موسى وهارون أو باللّه تعالى لدلالة ذلك عليه أو بموسى عليه السلام قيل لقوله تعالى في آية أخرى : آمَنْتُمْ لَهُ [الشعراء : 49] فإن الضمير فيها له عليه السلام لقوله سبحانه : إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ [الشعراء : 49] إلخ ، والمقصود من الجملة الخبرية التوبيخ لأن الخبر إذا لم يقصد به فائدته ولا لازمها تولد منه بحسب المقام ما يناسبه ، وهنا لما خاطبهم الجبار بما فعلوا مخبرا لهم بذلك مع ظهور عدم قصد إفادة أحد الأمرين والمقام هو المقام أفاد التوبيخ والتقريع ، ويجوز أن تقدر فيه الهمزة بناء على اطراد ذلك والاستفهام للإنكار بمعنى أنه لا ينبغي ذلك ، ويؤيد ذلك قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر عن عاصم : وروح عن يعقوب «أآمنتم» بهمزتين محققتين وتحقيق الأولى وتسهيل الثانية بين بين مما قرىء به أيضا.
قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ أي قبل أن آمركم أنا بذلك وهو على حد قوله تعالى : لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 28
رَبِّي
[الكهف : 109] لا أن الإذن منه ممكن في ذلك وأصل آذن أأذن بهمزتين الأولى للتكلم ، والثانية من صلب الكلمة قلبت ألفا لوقوعها ساكنة بعد همزة إِنَّ هذا الصنيع لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ لحيلة احتلتموها أنتم وموسى وليس مما اقتضى الحال صدوره عنكم لقوة الدليل وظهور المعجزة ، وهذا تمويه منه على القبط يريهم أنهم ما غلبوا ولا انقطعت حجتهم ، قيل : وكذا قوله : قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ فِي الْمَدِينَةِ أي في مصر قبل أن تخرجوا إلى الميعاد.
أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن مسعود وناس من الصحابة قال : التقى موسى عليه السلام وأمير السحرة فقال له موسى : أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي وتشهد أن ما جئت به حق فقال الساحر : لآتين غدا بسحر لا يغلبه سحر فو اللّه لئن غلبتني لأؤمنن بك ولأشهدن أنك حق وفرعون ينظر إليهم
وهو الذي نشأ عنه هذا القول لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها أي القبط وتخلص لكم ولبني إسرائيل فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة ما فعلتم ، وهذا وعيد ساقه بطريق الإجمال للتهويل ثم عقبه بالتفصيل فقال : لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ أي من كل جانب عضوا مغايرا للآخر كاليد من جانب والرجل من آخر ، والجار في موضع الحال أي مختلفة ، والقول بأن مِنْ تعليلية متعلقة بالفعل أي لأجل خلافكم بعيد ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ تفضيحا لكم وتنكيلا لأمثالكم ، والتصليب مأخوذ من الصلب وهو الشد على خشبة أو غيرها وشاع في تعليق الشخص بنحو حبل في عنقه ليموت وهو المتعارف اليوم ، ورأيت في بعض الكتب أن الصلب الذي عناه الجبار هو شد الشخص من تحت الإبطين وتعليقه حتى يهلك ، وهو كقطع الأيدي والأرجل أول من سنه فرعون على ما أخرجه ابن المنذر وغيره عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وشرعه اللّه تعالى لقطاع الطريق تعظيما لجرمهم ، ولهذا سماه سبحانه محاربة للّه ولرسوله قالُوا استئناف بياني إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ أي إلى رحمته سبحانه وثوابه عائدون إن فعلت بنا ذلك فيا حبذاه.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن السحرة حين خروا سجدا رأوا منازلهم تبنى لهم ، وأخرج عن الأوزاعي أنهم رفعت لهم الجنة حتى نظروا إليها ، ويحتمل أنهم أرادوا أنا ولا بد ميتون فلا ضير فيما تتوعدنا به والأجل محتوم لا يتأخر عن وقته :
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد
ويحتمل أيضا أن المعنى أنا جميعا ننقلب إلى اللّه تعالى فيحكم بيننا :
إلى ديان يوم الدين نمضي وعند اللّه تجتمع الخصوم
وضمير الجمع على الأول للسحرة فقط ، وعلى الثاني لهم ولفرعون ، وعلى الثاني يحتمل الأمرين وَما تَنْقِمُ أي ما تكره ، وجاء في الماضي نقم ونقم على وزن ضرب وعلم مِنَّا معشر من آمن :
إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا وذلك أصل المفاخر وأعظم المحاسن ، والاستثناء مفرغ ، والمصدر في موضع المفعول به ، والكلام على حد قوله :
ولا عيب فيهم غير أن ضيوفهم تعاب بنسيان الأحبة والوطن
وقيل : إن تَنْقِمُ مضارع نقم بمعنى عاقب ، يقال : نقم منه نقما وتنقاما وانتقم إذا عاقبه ، وإلى هذا يشير ما روي عن عطاء ، وعليه فيكون أَنْ آمَنَّا في موضع المفعول له ، والمراد على التقديرين حسم طمع فرعون في نجع تهديده إياهم ، ويحتمل أن يكون على الثاني تحقيقا لما أشاروا إليه أولا من الرحمة والثواب. ثم أعرضوا عن مخاطبته وفزعوا والتجئوا إليه سبحانه وقالوا : رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أي أفض علينا صبرا يغمرنا كما يفرغ الماء ، أو صب علينا ما يطهرنا من الآثام وهو الصبر على وعيد فرعون ، «فأفرغ» على الأول استعارة تبعية تصريحية وصَبْراً قرينتها ،

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 29
والمراد هب لنا صبرا تاما كثيرا ، وعلى الثاني يكون صَبْراً استعارة أصلية مكنية وأَفْرِغْ تخييلية ، وقيل :
الكلام على الأول كالكلام على الثاني إلا أن الجامع هناك الغمر وهاهنا التطهير ، وليس بذاك وإن جل قائله وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ أي ثابتين على ما رزقتنا من الإسلام غير مفتونين من الوعيد. عن ابن عباس والكلبي والسدي أنه فعل بهم ما أوعدهم به ، وقيل : لم يقدر عليه لقوله تعالى : فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ [القصص : 35].
وأجاب الأولون عن ذلك بأن المراد الغلبة بالحجة أو في عاقبة الأمر ونهايته وهذا لا ينافي قتل البعض وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ مخاطبين له بعد ما شاهدوا من أمر موسى عليه السلام ما شاهدوا أَتَذَرُ مُوسى أي أتتركه وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ أي في أرض مصر.
والمراد بالإفساد ما يشمل الديني والدنيوي ، ومفعول الفعل محذوف للتعميم أو أنه منزل منزلة اللازم أو يقدر يفسدوا الناس بدعوتهم إلى دينهم والخروج عليك. أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : لما آمنت السحرة أتبع موسى عليه السلام ستمائة ألف من بني إسرائيل وَيَذَرَكَ عطف على يفسدوا المنصوب بأن ، أو منصوب على جواب الاستفهام كما ينصب بعد الفاء ، وعلى ذلك قول الحطيئة :
ألم أك جاركم ويكون بيني وبينكم المودة والإخاء
والمعنى كيف يكون الجمع بين تركك موسى عليه السلام وقومه مفسدين في الأرض وتركهم إياك إلخ أي لا يمكن وقوع ذلك. وقرأ الحسن. ونعيم بن ميسرة بالرفع على أنه عطف على تَذَرُ أو استئناف أو حال بحذف المبتدأ ، أي وهو يذرك لأن الجملة المضارعية لا تقترن بالواو على الفصيح ، والجملة على تقدير الاستئناف معترضة مؤكدة لمعنى ما سبق ، أي تذره وعادته تركك ، ولا بد من تقدير هو على ما قال الطيبي كما في احتمال الحال ليدل على الدوام ، وعلى تقدير الحالية تكون مقررة لجهة الاشكال. وعن الأشهب أنه قرأ بسكون الراء ، وخرج ذلك ابن جني على أنه تركت الضمة للتخفيف كما في قراءة أبي عمرو يَأْمُرُكُمْ بإسكان الراء استقلالا للضمة عند توالي الحركات ، واختاره أبو البقاء ، وقيل : إنه عطف على ما تقدم بحسب المعنى ، ويقال له في غير القرآن عطف التوهم ، كأنه ، قيل : يفسدوا ويذرك كقوله تعالى : فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقين : 10] وَآلِهَتَكَ أي معبوداتك. يروى أنه كان يعبد الكواكب فهي آلهته وكان يعتقد أنها المربية للعالم السفلي مطلقا وهو رب النوع الإنساني ، وعن السدي أن فرعون كان قد اتخذ لقومه أصناما وأمرهم بأن يعبدوها تقربا إليه ، ولذلك قال : أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات : 24] وقيل : إنه كانت له بقرة يعبدها وكان إذا رأى بقرة حسنة أمر قومه بعبادتها ، ولذلك أخرج السامري لبني إسرائيل عجلا وهو رواية ضعيفة عن ابن عباس ، وقال سليمان التيمي : بلغني أنه كان يجعل في عنقه شيئا يعبده ، وأمر الجمع عليه يحتاج إلى عناية وقرأ ابن مسعود والضحاك ومجاهد والشعبي و«إلهتك» كعبادتك لفظا ومعنى فهو مصدر.
وأخرج غير واحد عن ابن عباس أنه كان ينكر قراءة الجمع بالجمع ويقرأ بالمصدر ويقول : إن فرعون كان يعبد ولا يعبد ، ألا ترى قوله : ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص : 38] ومن هنا قال بعضهم : الأقرب أنه كان دهريا منكرا للصانع ، وقيل : الإلهة اسم للشمس وكان يعبدها وأنشد أبو علي :
وأعجلنا الإلهة أن تؤبا قالَ مجيبا لهم سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ كما كنا نفعل بهم ذلك من قبل ليعلم أنا على ما كنا عليه من القهر والغلبة ، ولا يتوهم أنه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملكنا على يده. وقرأ ابن

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 30
كثير. ونافع سَنُقَتِّلُ بالتخفيف والتضعيف كما في موتت الإبل.
وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ أي غالبون كما كنا لم يتغير حالنا وهم مقهورون تحت أيدينا ، وكان فرعون قد انقطع طمعه عن قتل موسى عليه السلام فلم يعد الملأ بقتله لما رأى من علو أمره وعظم شأنه وكأنه لذلك لم يعد بقتل قومه أيضا ، والظاهر على ما قيل : إن هذا من فرعون بيان لأنهم لا يقدرون على أن يفسدوا في الأرض وإيذان بعدم المبالاة بهم وأن أمرهم فيما بعد كأمرهم فيما قبل وأن قتلهم عبث لا ثمرة فيه ، وذكر الطيبي أنه من الأسلوب الحكيم وإن صدر من الأحمق ، وأن الجملة الاسمية كالتذييل لما قبلها فافهم.
قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ تسلية لهم حين تضجروا مما سمعوا بأسلوب حكيم اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا على ما سمعتم من الأقاويل الباطلة إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ أي أرض مصر أو الأرض مطلقا وهي داخلة فيها دخولا أوليا يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ الذين أنتم منهم ، وحاصله أنه ليس الأمر كما قال فرعون : إِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ فإن القهر والغلبة لمن صبر واستعان باللّه ولمن وعده اللّه تعالى توريث الأرض وأنا ذلكم الموعود الذي وعدكم اللّه تعالى النصرة به وقهر الأعداء وتوريث أرضهم ، وقوله : «والعاقبة» إلخ تقرير لما سبق.
وقرأ أبيّ وابن مسعود «والعاقبة» بالنصب عطفا على اسم أن قالُوا أي قوم موسى له عليه السلام أُوذِينا من جهة فرعون مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا بالرسالة يعنون بذلك قتل الجبار أولادهم قبل مولده وبعده إذ قيل له : يولد لبني إسرائيل غلام يسلبك ملكك ويكون هلاكك على يديه وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا أي رسولا يعنون به ما توعدهم به من إعادة قتل الأبناء وسائر ما كان يفعل بهم لعداوة موسى عليه السلام من فنون الجور والعذاب ، وقيل : إن نفس ذلك الإيعاد إيذاء ، وقيل : جعل إيعاده بمنزلة فعله لكونه جبارا.
وقيل : أرادوا الإيذاء بقتل الأبناء قبل مولد موسى عليه السلام وبعد مولده ، وقيل : المراد ما كانوا يستعبدون به ويمتهنون فيه من أنواع الخدم والمهن ، وتعقب بأن ذلك ليس مما يلحقهم بواسطة موسى عليه السلام فليس لذكره كثير ملاءمة بالمقام ، والظاهر أنه لا فرق بين الإتيان والمجيء وأن الجمع بينهما للتفنن والبعد عن التكرار اللفظي فإن الطباع مجبولة على معاداة المعادات ، ولذلك جيء بأن المصدرية أولا وبما أختها ثانيا.
وذكر الجلال السيوطي في الفرق بينهما أن الإتيان يستعمل في المعاني والأزمان والمجيء في الجواهر والأعيان وهو غير ظاهر هنا إلا أن يتكلف ، ونقل عن الراغب في الفرق بينهما أن الإتيان هو المجيء بسهولة فهو أخص من مطلق المجيء وهو كسابقه هنا أيضا ، وهذا منهم جار مجرى التحزن لعدم الاكتفاء بما كنى لهم عليه السلام لفرط ما عراهم وفظاعة ما اعتراهم ، والمقام يقتضي الإطناب فإن شأن الحزين الشاكي إطالة الكلام رجاء أن يطفىء بذلك بعض الأوام ، وقيل : هو استبطاء منهم لما وعدهم عليه السلام من النجاة والظفر والأول أولى فقوله تعالى : قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ الذي فعل بكم ما فعل وتوعدكم بما توعد.
وَيَسْتَخْلِفَكُمْ أي يجعلكم خلفاء فِي الْأَرْضِ أي أرض مصر تصريح بما كنى عنه وتوكيد للتسلية على أبلغ وجه ، وفيه ادماج معنى من عادى أولياء اللّه تعالى فقد بارزه بالمحاربة وحق له الدمار والخسار. وعسى في مثله قطع في إنجاز الموعود والفوز بالمطلوب ، ونص غير واحد على أن التعبير به للجري على سنن الكرماء.
وقيل : تأدبا مع اللّه تعالى وإن كان الأمر مجزوما به بوحي وإعلام منه سبحانه وتعالى ، وقيل : إن ذلك لعدم الجزم منه عليه السلام بأنهم المستخلفون بأعيانهم أو أولادهم ، فقد روي أن مصر إنما فتحت في زمن داود عليه السلام.

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 31
وتعقب بأنه لا يساعده قوله تعالى : وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا [الأعراف : 137] فإن المتبادر استخلاف المستضعفين أنفسهم لا استخلاف أولادهم ، والمجاز خلاف الأصل. نعم المشهور أن بني إسرائيل بعد أن خرجوا مع موسى عليه السلام من مصر لم يرجعوا إليها في حياته ، وفي قوله سبحانه :
فَيَنْظُرَ أي يرى أو يعلم كَيْفَ تَعْمَلُونَ أحسنا أم قبيحا فيجازيكم حسبما يظهر منكم من الأعمال إرشاد لهم إلى الشكر وتحذير لهم عن الوقوع في مهاوي الكفر ، وقيل : فيه إشارة إلى ما وقع منهم بعد ذلك.
وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ شروع في تفصيل مبادئ الهلاك الموعود به وإيذان بأنهم لم يمهلوا حتى تحولوا من حال إلى حال إلى أن حل بهم عذاب الاستئصال ، وتصدير الجملة بالقسم لإظهار الاعتناء بمضمونها ، والمراد بآل فرعون أتباعه من القبط ، وإضافة الآل إليه وهو لا يضاف إلا إلى الأشراف لما فيه من الشرف الدنيوي الظاهر وإن كان في نفس الأمر خسيسا ، وعن الخطيب أن المراد فرعون وآله ، والسنين جمع سنة والمراد بها عام القحط وقد غلبت في ذلك حتى صارت كالعلم له لكثرة ما يذكر ويؤرخ به ولا كذلك العام الخصب ، ولامها واو أو هاء ، وقد اشتقوا منها فقالوا : أسنت القوم إذا قحطوا ، وقلبوا اللام تاء ليفرقوا بين ذلك وقولهم أسنى القوم إذا لبثوا في موضع سنة ، قال المازني : وهو شاذ لا يقاس عليه ، وقال الفراء : توهموا أن الهاء أصلية إذ وجدوها أصلية فقلبوها تاء وجاء أصابتنا سنية حمراء أي جدب شديد فالتصغير للتعظيم وإجراء الجمع مجرى سائر الجموع السالمة المعربة بالحروف هو اللغة المشهورة واللغة الأخرى إجراء الاعراب على النون لكن مع الياء خاصة فيسلك فيه مسلك حين في الاعراب بالحركات الثلاث مع التنوين عند بني عامر وبنو تميم لا ينونون تخفيفا وحينئذ لا تحذف النون للإضافة وعلى ذلك جاء قول الشاعر :
دعاني من نجد فإن سنينه لعبن بنا شيبا وشيبننا مردا
ومنه
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم «اللهم اجعلها عليهم سنينا كسنين يوسف عليه السلام» وجاء في رواية أخرى «اللهم أعني عليهم بسنين كسني يوسف عليه السلام»
وهو على اللغة المشهورة وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ بكثرة عاهات الثمار وخروج اليسير منها حتى لا تحمل النخلة كما روي عن رجاء بن حيوة إلا بسرة واحدة وكان القحط على ما أخرج عبد بن حميد وغيره عن قتادة في باديتهم وأهل ماشيتهم والنقص في أمصارهم وقراهم ، وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال : لما أخذ اللّه تعالى آل فرعون بالسنين يبس كل شيء لهم وذهبت مواشيهم حتى يبس نيل مصر فاجتمعوا إلى فرعون وقالوا له : إن كنت كما تزعم فائتنا في نيل مصر بماء فقال : غدوة يصبحكم الماء فلما خرجوا من عنده قال أي شيء صنعت؟ أنا لا أقدر على ذلك فغدا يكذبونني ، فلما كان جوف الليل قام واغتسل ولبس مدرعة صوف ثم خرج حافيا حتى أتى النيل فقام في بطنه فقال : اللهم إنك تعلم أني أعلم أنك تقدر على أن تملأ نيل مصر ماء فاملأه ماء فما علم إلا بخرير الماء يقبل فخرج وأقبل النيل مترعا بالماء لما أراد اللّه تعالى بهم من الهلكة ، وهذا إن صح يدل على أن الرجل لم يكن دهريا نافيا للصانع كما قال البعض لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أي لكي يتعظوا فيتركوا ما هم عليه أو لكي يذكروا اللّه تعالى فيتضرعوا له ويلتجئوا إليه رغبة فيما عنده ، وقيل : لكي يتذكروا أن فرعون لو كان إلها لدفع ذلك الضر.
وعن الزجاج أنهم إنما أخذوا بالضراء لأن أحوال الشدة ترقق القلوب وترغب فيما عند اللّه تعالى ألا ترى قوله تعالى وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ [فصلت : 51] فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ إلخ بيان لعدم تذكرهم

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 32
وتماديهم في الغي ، والمراد بالحسنة كما يفهمه ظاهر كلام البعض الخصب والرخاء ، وفسرها مجاهد بالرخاء والعافية وبعضهم بأعم من ذلك أي إذا جاءهم ما يستحسنونه قالُوا لَنا هذِهِ أي إنا مستحقوها بيمن الذات وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي ضيقة وجدب أو جدب ومرض أو عقوبة وبلاء يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أي يتشاءموا بهم ويقولوا : ما أصابنا ذلك إلا بشؤمهم ، وأصل إطلاق التطير على التشاؤم على ما قال الأزهري إن العرب كانت تزجر الطير فتتشاءم بالبارح وتتيمن بالسانح. وفي المثل من لي بالسانح بعد البارح ، قال أبو عبيدة : سأل يونس رؤبة وأنا شاهد عن السانح والبارح فقال : السانح ما ولاك ميامنه والبارح ما ولاك مياسره ، وقيل : البارح ما يأتي من جهة الشمال والسانح ما يأتي من جهة اليمين وانشدوا :
زجرت لها طير الشمال فإن يكن هواك الذي تهوى يصبك اجتنابها
ثم إنهم سموا الشؤم طيرا وطائرا والتشاؤم تطيرا ، وقد يطلقون الطائر على الحظ والنصيب خيرا أو شرا حتى قيل : إن أصل التطير تفريق المال وتطييره بين القوم فيطير لكل أحد نصيبه من خير أو شر ثم غلب في الشر. وفي الآية إغراق في وصفهم بالغباوة والقساوة فإن الشدائد ترقق القلوب وتذلل العرائك وتزيل التماسك لا سيما بعد مشاهدة الآيات وقد كانوا بحيث لم يؤثر فيهم شيء منها بل ازدادوا عتوا وعنادا ، وتعريف الحسنة وذكرها بأداة التحقيق كما قال غير واحد لكثرة وقوعها وتعلق الإرادة بأحداثها بالذات لأن العناية الإلهية اقتضت سبق الرحمة وعموم النعمة قبل حصول الأعمال ، وتنكير السيئة وذكرها بأداة الشك لندورها وعدم تعلق الإرادة بأحداثها إلا بالتبع فإن النقمة بمقتضى تلك العناية إنما تستحق بالأعمال.
والزمخشري بين الحسنة بالخصب والرخاء ثم قال في تعليل ما ذكر : لأن جنس الحسنة وقوعه كالواجب لكثرته واتساعه وأما السيئة فلا تقع إلا في الندرة ولا يقع إلا شيء منها. وقال صاحب الكشف : ذلك إشارة إلى أن التعريف للعهد الخارجي التقريري بدليل أنه ذكر في مقابلة قوله سبحانه : وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وقوله :
لأن الجنس إلخ أي جنس الخصب والرخاء وفيه مبالغة أي أنه لكثرة الوقوع كأن الجنس كله واجب الوقوع ، ولهذا لا يزال يتكاثر حتى يستغرق الجنس. وقوله : وأما السيئة إلخ في مقابلة ذلك دليل بين على إرادة هذا المعنى فلا تخالف بين كلاميه ولم يرد بالجنس العهد الذهني وهذا مراد صاحب المفتاح وبه يندفع ما توهمه صاحب الإيضاح انتهى.
وفيه تعريض بشيخه الطيبي حيث حمل الجنس على العهد الذهني وقال ما قال والبحث طويل الذيل فليطلب من شروح المفتاح وشرح التلخيص للعلامة الثاني وحواشيه ، وقوله سبحانه وتعالى : أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ استئناف مسوق من قبله تعالى لرد مقالتهم الباطلة وتحقيق للحق في ذلك وتصديره بكلمة التنبيه لإبراز كمال العناية بمضمونه أي ليس شؤمهم إلا عند اللّه أي من قبله وحكمه كما قال ابن عباس ، وقال الزجاج : المعنى ليس الشؤم الذي يلحقهم إلا الذي وعدوا به من العقاب عنده لا ما ينالهم في الدنيا ، وقال الحسن : المعنى الا أن ما تشاءموا محفوظ عليهم حتى يجازيهم اللّه تعالى به يوم القيامة ، وفسر بعضهم الطائر هنا بالحظ أي إنما حظهم وما طار إليهم من القضاء والقدر بسبب شؤمهم عند اللّه ، وقرأ الحسن «إنما طيرهم» وهو اسم جمع طائر على الصحيح لأنه على أوزان المفردات ، وقال الأخفش هو جمع له ، وروي عن قطرب أن الطير يكون واحدا وجمعا وكذا الطائر ، وأنشد ابن الأعرابي :
كأنه تهتان يوم ماطر على رؤوس كرؤوس الطائر
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ذلك فيقولون ما يقولون ، وإسناد عدم العلم إلى أكثرهم للإشعار بأن بعضهم يعلم ولكن لا يعمل بمقتضى علمه وَقالُوا شروع في بيان بعض آخر مما أخذوا به من فنون العذاب التي هي في

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 33
أنفسها آيات بينات وعدم ارعوائهم عما هم عليه من الكفر والعناد أي قالوا بعد ما رأوا ما رأوا من العصا والسنين ونقص الثمرات مَهْما تَأْتِنا بِهِ كلمة مهما مما اختلف فيها فقيل هي كلمة برأسها موضوعة لزيادة التعميم. وقيل : هي مركبة من مه اسم فعل للكف إما باق على معناه أو مجرد عنه وما الشرطية. وقال الخليل : أصلها ما ما على أن الأولى شرطية والثانية إبهامية متصلة بها لزيادة التعميم فقلبت ألف ما الأولى هاء فرارا من بشاعة التكرار ، وأسلم الأقوال كما قال غير واحد القول بالبساطة. وفي حاشية التسهيل لابن هشام ينبغي لمن قال بالبساطة أن يكتب مهما بالياء ولمن قال أصلها ما ما أن يكتبها بالألف ، وفي الشرح وكذا إذا قيل أصلها مه ما. وتعقب ذلك الشمني بأن القائلين بالأصلين المذكورين متفقون على أن مهما أصل آخر فما ينبغي في كتب آخرها على القول الأول ينبغي على القول الثاني ، وفيه نظر.
وهي اسم شرط لا حرف على الصحيح ، ومحلها الرفع هنا على الابتداء وخبرها إما الشرط أو الجزاء أو هما على الخلاف أو النصب على أنها مفعول به لفعل يفسره ما بعد أي أي شيء تحضره لدينا تأتنا به ، ومن الناس من جوز مجيئها في محل نصب على الظرفية ، وشدد الزمخشري الإنكار عليه في الكشاف ، وذكر ابن المنير أنه غر القائل بظرفيتها كلام الخليل أو شبهها بمتى ما ، وخالف ابن مالك في ذلك وقال : إنه مسموع عن العرب كقوله :
وإنك مهما تعط بطنك سؤله وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
ويوافقه كما قال الشهاب استعمال المنطقيين لها بمعنى كلما وجعلها سور الكلية فإنها تفيد العموم كما صرحوا به وليس من مخترعاتهم كما توهم ، وأنت تعلم أن كونها هنا ظرفا مما لا ينبغي الاقدام عليه بوجه لإباء قوله تعالى :
مِنْ آيَةٍ عنه لأنه بيان لمهما وليس بزمان ، وتسميتهم إياها آية من باب المجاراة لموسى عليه السلام والاستهزاء بها مع الاشعار بأن هذا العنوان لا يؤثر فيهم وإلا فهم ينكرون كونها آية في نفس الأمر ويزعمون أنها سحر كما ينبىء قولهم لِتَسْحَرَنا بِها والضميران المجروران راجعان إلى مهما ، وتذكير الأول لرعاية جانب اللفظ لإبهامه ، وتأنيث الثاني للمحافظة على جانب المعنى لأنه إنما رجع إليه بعد ما بين بآية ، وادعى ابن هشام أن الأولى عود الضمير الثاني إلى آية ، ولعله راعى القرب والذاهب إلى الأول راعى أن آيَةٍ مسوقة للبيان فالأولى رجوع الضمير على المفسر المقصود بالذات وإن كان المآل واحدا أي لتسحر بتلك الآية أعيننا وتشبه علينا فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ أي بمصدقين لك ومؤمنين بنبوتك أصلا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ عقوبة لجرائمهم لا سيما قولهم هذا الطُّوفانَ أي ما طاف بهم وغشى أماكنهم وحروثهم من مطر أو سيل فهو اسم جنس من الطواف ، وقيل : إنه في الأصل مصدر كنقصان ، وهو اسم لكل شيء حادث يحيط بالجهات ويعم كالماء الكثير والقتل الذريع والموت الجارف ، وقد اشتهر في طوفان الماء وجاء تفسيره هنا بذلك في عدة روايات عن ابن عباس ، وجاء عن عطاء ومجاهد تفسيره بالموت ، وأخرج ذلك ابن جرير وغيره عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها مرفوعا ، وعن وهب بن منبه أنه الطاعون بلغة اليمن وعن أبي قلابة أنه الجدري ، وهم أول من عذبوا به ، وهذان القولان ينجران إلى الخبر المرفوع وَالْجَرادَ هو المعروف واحده جرادة سمي به لجرده ما على الأرض ، وهو جند من جنود اللّه تعالى يسلطه على من يشاء من عباده ، وأخرج أبو داود وابن ماجه والطبراني وغيرهم عن أبي زهير النميري مرفوعا النهي عن مقاتلته معللا بما ذكر ، وذكر البيهقي أن ذلك إن صح مراد به إذا لم يتعرض لإفساد المزارع فإذا تعرض له جاز دفعه بما يقع به الدفع من القتال والقتل أو أريد به الإشارة إلى تعذر مقاومته بذلك ، وأخرج أبو داود ومن معه عن سلمان قال : «سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن الجراد فقال :
أكثر جنود اللّه تعالى لا آكله ولا أحرمه»
وزعم أنه مخلوق من ذنوب ابن آدم مؤول وَالْقُمَّلَ بضم القاف وتشديد

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 34
الميم قيل : هو الدبى وهو الصغار من الجراد ولا يسمى جرادا إلا بعد نبات أجنحته ، وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي ، وقيل : هو القردان جمع القراد المعروف ، وقيل : صغار الذر ، وعن حبيب بن أبي ثابت أنها الجعلان ، وعن ابن زيد قال : زعم بعض الناس أنها البراغيث ، وعن سعيد بن جبير أنها السوس وهي الدابة التي تكون في الحنطة وغيرها ، ويسمى قملا بفتح فسكون وبذلك قرأ الحسن وَالضَّفادِعَ جمع ضفدع كزبرج وجعفر وجندب ودرهم وهذا أقل أو مردود الدابة المائية المعروفة وَالدَّمَ معروف وتشديد «1» داله لغة.
وروي أن موسى عليه السلام لما رأى من فرعون وقومه العناد والإصرار دعا وقال : يا رب إن فرعون علا في الأرض وإن قومه قد نقضوا العهد رب فخذهم بعقوبة تجعلها عليهم نقمة ولقومي عظة ولمن بعدهم آية وعبرة فأرسل اللّه تعالى عليهم المطر ثمانية أيام في ظلمة شديدة لم يستطع أحد لها أن يخرج من بيته فدخل الماء بيوتهم حتى قاموا فيه إلى تراقيهم ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منه قطرة وكانت مشتبكة في بيوتهم وفاض الماء على أرضهم وركد فمنعهم من الحرث والتصرف ودام ذلك الماء عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت فقالوا : يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا ذلك ونحن نؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه فكشف عنهم فنبت من العشب والكلأ ما لم يعهد مثله قبله ، فقالوا : ما كان هذا الماء إلا نعمة علينا فلم يؤمنوا. فبعث اللّه تعالى عليهم الجراد فأكل زروعهم وثمارهم وأبوابهم وسقوفهم وثيابهم وأمتعتهم حتى أكل مسامير الحديد التي في الأبواب ولم يصب بني إسرائيل من ذلك شيء فعجوا وضجوا إلى موسى عليه السلام ، وقالوا له كما قالوا أولا فخرج عليه السلام إلى الصحراء فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجع إلى النواحي التي جاء منها ،
وقيل : جاءت ريح فألقته في البحر فلم يؤمنوا ، فسلط اللّه تعالى عليهم القمل فأكل ما أبقى الجراد وكان يدخل بين ثوب أحدهم وجلدهم فيمصه وإذا أراد أن يأكل طعاما امتلأ قملا ، وقال ابن المسيب : ابتلوا بالسوس فكان الرجل منهم يخرج بعشرة أجربة إلى الرحى فلا يرد إلا بثلاثة أقفزة منها وأخذ حواجبهم وأشفار عيونهم وسائر شعورهم وفعل في جلودهم ما يفعله الجدري ومنعهم النوم والقرار ففزعوا إلى موسى عليه السلام فرفع عنهم ، فقالوا : قد تحققنا الآن أنك ساحر ، فأرسل اللّه تعالى عليهم الضفادع فامتلأت بيوتهم وأفنيتهم وأمتعتهم وآنيتهم منها فلا يكشف أحد إناء إلا وجدها فيه ، وكان الرجل يجلس في الضفادع فتبلغ إلى حلقه فإذا أراد أن يتكلم يشب الضفدع فيدخل في فيه وكانت تشب في قدورهم فتفسد عليهم طعامهم وتطفئ نيرانهم ، وإذا اضطجع أحدهم ركبته حتى تكون عليه ركاما فلا يستطيع أن ينقلب وإذا أراد أن يأكل سبقته إلى فيه ولا يعجن عجينا إلا امتلأ منها ففزعوا إليه عليه السلام وتضرعوا فأخذ عليهم العهود والمواثيق ودعا فكشف اللّه تعالى عنهم ذلك فنقضواالعهد ، فأرسل اللّه تعالى عليهم الدم فسال النيل عليهم دما عبيطا وصارت مياههم دماء فكان فرعون يجمع بين القبطي والإسرائيلي في إناء واحد فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء وما يلي القبطي دما ويقومان إلى الجرة فيها الماء فيخرج للقبطي دم وللإسرائيلي ماء حتى إن المرأة من آل فرعون تأتي المرأة من بني إسرائيل فتقول لها اسقيني ماء فتصب لها من قربتها فيصير في الإناء دما حتى كانت تقول : اجعليه في فيك ثم مجيه في فيّ فتفعل ذلك فيصير دما.
وقال ابن أسلم : إن الدم الذي سلط عليهم كان الرعاف آياتٍ حال من الأشياء المتقدمة.
مُفَصَّلاتٍ مبينات لا يشك عاقل أنها آيات إلهية لا سحر كما يزعمون ، أو مميزا بعضها من بعض منفصلة بالزمان لامتحان أحوالهم وكان بين كل اثنين منها شهر وكان امتداد كل واحدة منها شهرا كما أخرج ذلك ابن المنذر
___________
(1) قوله وتشديد داله لغة كذا بخطه اه.

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 35
عن ابن عباس ، وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال : كانت الآيات التسع في تسع سنين في كل سنة آية ، وأخرج أحمد في الزهد وغيره عن نوف الشامي قال : مكث موسى عليه السلام في آل فرعون بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم الآيات الجراد والقمل إلخ ... فأبوا أن يسلموا.
وفي رواية أبي الشيخ عن ابن عباس أنه مكث عليه السلام بعد أن غلب أربعين سنة يريهم ما ذكر ، ورأيت في مسامرات الشيخ ابن العربي قدس سره أن موسى عليه السلام مكث ينذر آل فرعون ستة عشر شهرا إلى أن أغرقوا فأدخلوا نارا ولم ينتفعوا بما رأوا من الآيات فَاسْتَكْبَرُوا عن الإيمان بها.
وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ جملة معترضة مقررة لمضمون ما قبلها وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ أي العذاب المذكور على التفصيل كما روي عن الحسن وقتادة ومجاهد ولَمَّا لا تنافي التفصيل والتكرير كما لا يخفى.
وعن أبي عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنه أنه أصابهم ثلج أحمر لم يروه قبل فهلك منهم كثير ،
وعن ابن جبير أنه الطاعون ، وقد ورد إطلاقه عليه في حديث أسامة بن زيد المرفوع «وهو الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل أو على من كان قبلكم فإذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه» وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : أمر موسى عليه السلام بني إسرائيل فقال : ليذبح كل منكم كبشا ثم ليخضب كفه في دمه ثم ليضرب على بابه ففعلوا ، فقال القبط لهم : لم تجعلون هذا الدم على أبوابكم؟ قالوا : إن اللّه تعالى يريد أن يرسل عليكم عذابا فنسلم وتهلكون ، قال القبط : فما يعرفكم اللّه تعالى إلا بهذه العلامة؟ قالوا : هكذا أمرنا نبينا ، فأصبحوا وقد طعن من قوم فرعون سبعون ألفا فأمسوا وهم لا يتدافنون ، والمعنى على الأول أنهم كلما وقع عليهم عقوبة من العقوبات المذكورة.
قالُوا يا مُوسَى في كل مرة على القول بأن المراد بالرجز غير ما تقدم أنه لما وقع عليهم الثلج المهلك أو الطاعون الجارف قالوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أي بعهده سبحانه عندك وهو النبوة كما قال أبو مسلم «فما» مصدرية ، وسميت النبوة عهدا كما قال العلامة الثاني : لأن اللّه تعالى عهد إكرام الأنبياء عليهم السلام بها وعهدوا إليه تحمل أعبائها ، أو لأن لها حقوقا تحفظ كما تحفظ العهود ، أو لأنها بمنزلة عهد ومنشور منه جل وعلا أو بالذي عهد إليك أن تدعوه به فيجيبك كما أجابك في آياتك ، «فما» موصولة والجار والمجرور صلة - لادع - أو حال من الضمير فيه ، يعني ادع اللّه تعالى متوسلا بما عهد عندك ، ويحتمل أن تكون الباء للقسم الاستعطافي كما يقال : بحياتك افعل كذا ، فالمراد استعطافه عليه السلام لأن يدعو ، وأن تكون للقسم الحقيقي وجوابه لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ الذي وقع علينا لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي أقسمنا بعهد اللّه تعالى عندك لَئِنْ كَشَفْتَ إلخ ، وخلاصة ما ذكروه في الباء هنا أنها إما للالصاق أو للسببية أو للقسم بقسميه فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ أي إلى حد من الزمان هم واصلون إليه ولا بد فمعذبون فيه أو مهلكون ، وهو وقت الغرق كما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، أو الموت كما روي عن الحسن ، والمراد أنجيناهم من العذاب إلى ذلك الوقت ، ومن هنا صح تعلق الغاية بالكشف ، ولا حاجة إلى جعل الجار والمجرور متعلقا بمحذوف وقع حالا من الرجز خلافا لزاعمه.
وقيل : المراد بالأجل ما عينوه لإيمانهم إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ أي ينقضون العهد ، وأصل النكث فل طاقات الصوف المغزول ليغزل ثانيا فاستعير لنقض العهد بعد إبرامه ، وجواب فَلَمَّا فعل مقدر يؤذن به إذا الفجائية لا الجملة المقترنة بها ، وإن قيل به فتساهل ، أي فلما كشفنا عنهم ذلك فاجؤوا بالنكث من غير توقف وتأمل كذا قيل ، وعليه فكلا الاسمين أعني لما وإذا معمول لذلك الفعل على أن الأول ظرفه ، والثاني مفعوله قاله العلامة ، والداعي لذلك

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 36
المحافظة على ما ذهبوا إليه من أن ما يلي كلمة لما من الفعلين يجب أن يكون ماضيا لفظا أو معنى ، إلا أن مقتضى ما ذكروا من أن إذا وإذا المفاجأة في موقع المفعول به للفعل المتضمنين هما إياه أن يكون التقدير فاجؤوا زمان النكث أو مكانه.
وقد يقال أيضا : تقدير الفعل تكلف مستغنى عنه إذ قد صرحوا بأن لما تجاب بإذا المفاجأة الداخلة على الجملة الاسمية ، نعم هم يذكرون ما يوهم التقدير وليس به بل هو بيان حاصل المعنى وتفسير له فتدبر.
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ أي فأردنا الانتقام منهم ، وأول بذلك ليتفرع عليه قوله سبحانه : فَأَغْرَقْناهُمْ وإلا فالاغراق عين الانتقام فلا يصح تفريعه عليه.
وجوز أن تكون الفاء تفسيرية وقد أثبتها البعض كما في قوله تعالى : وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ [هود : 45] إلخ وحينئذ لا حاجة إلى التأويل فِي الْيَمِّ أي البحر كما روي عن ابن عباس. والسدي رضي اللّه تعالى عنهم ، ويقع على ما كان ملحا زعافا وعلى النهر الكبير العذب الماء ولا يكسر ولا يجمع جمع السلامة ، وقال الليث : هو البحر الذي لا يدرك قعره ، وقيل : هو لجة البحر وهو عربي في المشهور. وقال ابن قتيبة : إنه سرياني وأصله كما قيل يما فعرب إلى ما ترى والقول بأنه اسم للبحر الذي غرق فيه فرعون غريق في يم الضعف بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا تعليل للإغراق يعني أن سبب الإغراق وما استوجبوا به ذلك العقاب هو التكذيب بالآيات العظام وهو الذي اقتضى تعلق إرادة اللّه تعالى به تعلقا تنجيزيا وهذا لا ينافي تفريع الإرادة على النكث لأن التكذيب هو العلة الأخيرة والسبب القريب ولا مانع من تعدد الأسباب وترتب بعضها على بعض قاله الشهاب ونور الحق ساطع منه ، وقال شيخ الإسلام : الفاء وإن دلت على ترتب الإغراق على ما قبله من النكث لكنه صرح بالتعليل إيذانا بأن مدار جميع ذلك تكذيب آيات اللّه تعالى وما عطف عليه ليكون مزجرة للسامعين عن تكذيب الآيات الظاهرة على يد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم انتهى ، وفيه مناقشة لا تخفى.
وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ الضمير المجرور للآيات ، والغفلة مجاز عن عدم الذكر والمبالاة أي بسبب تكذيبهم بالآيات وعدم مبالاتهم بها وتفكرهم فيها بحيث صاروا كالغافلين عنها بالكلية وإلا فالمكذب بأمر لا يكون غافلا عنه للتنافي بين الأمرين ، وفي ذلك إشارة إلى أن من شاهد مثلها لا ينبغي له أن يكذب بها مع علمه بها ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن الضمير للنقمة وأريد بها الغرق كما يدل عليه ما قبله ، وعليه فيجوز أن تكون الجملة حالية بتقدير قد ، ولا مجاز في الغفلة حينئذ والأول أولى كما لا يخفى.
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ بالاستعباد وذبح الأبناء ، والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرار الاستضعاف وتجدده ، والمراد بهم بنو إسرائيل ، وذكروا بهذا العنوان إظهارا لكمال اللطف بهم وعظم الإحسان إليهم حيث رفعوا من حضيض المذلة إلى أوج العزة ، ولعل فيه إشارة إلى أن اللّه سبحانه عند القلوب المنكسرة. ونصب القوم على أنه مفعول أول لأورثنا والمفعول الثاني قوله سبحانه :
مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا أي جميع جهاتها ونواحيها ، والمراد بها على ما روي عن الحسن وقتادة وزيد ابن أسلم أرض الشام ، وذكر محيي السنة البغوي أنها أرض الشام ومصر ، وفي رواية أنها أرض مصر التي كانت بأيدي المستضعفين ، وإلى ذلك ذهب الجبائي ، ورواه أبو الشيخ عن الليث بن سعد ، أي أورثنا المستضعفين أرض مستضعفيهم وملكهم ، ومعنى توريثهم إياها على القول بأنهم لم يدخلوها بعد أن خرجوا منها مع موسى عليه السلام

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 37
إدخالها تحت ملكهم وعدم وجود مانع لهم عن التصرف فيها أو تمكين أولادهم فيها وذلك في زمن داود وسليمان عليهما السلام ، ولا يخفى أنه خلاف المتبادر كما مرت الإشارة إليه. على أن أرض مصر بعد أن فتحت في زمن داود عليه السلام لم يكن لبني إسرائيل تمكن فيها واستقرار وإنما كان ملك وتصرف وكان التمكن في الأرض المقدسة ، والسوق على ما قيل يقتضي ذكر ما تمكنوا فيه لا ما ملكوه ، وأقول قد يقال المراد بالأرض هنا وفيما تقدم من قوله سبحانه : عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ الأرض المقدسة التي طلب موسى عليه السلام من فرعون بني إسرائيل ليذهب بهم إليها فإنها موطن آبائهم فيكون موسى عليه السلام قد وعدهم هلاك عدوهم المانع لهم من الذهاب إليها وجعل اللّه تعالى إياهم خلفاء فيها بعد آبائهم وأسلافهم أو بعد من هي في يده إذ ذاك من العمالقة ثم أخبر سبحانه هنا أن الوعد قد نجز وقد أهلكنا أعداء أولئك الموعودين وأورثناهم الأرض التي منعوهم عنها ومكناهم فيها وفي حصول بغية موسى عليه السلام وما ألطف توريث الأبناء مساكن الآباء الَّتِي بارَكْنا فِيها بالخصب وسعة الأرزاق أو بذلك وبكونها مساكن الأنبياء عليهم السلام والصالحين وذلك ظاهر على تقدير أن يراد بمشارق الأرض ومغاربها الشام ونواحيها. فقد أخرج ابن أبي شيبة عن أبي أيوب الأنصاري قال ليهاجرن الرعد والبرق والبركات إلى الشام.
وأخرج ابن عساكر عن ضمرة بن ربيعة قال : سمعت أنه لم يبعث نبي إلا من الشام فإن لم يكن منها أسري به إليها ، وأخرج أحمد عن عبد اللّه بن حوالة الأزدي أنه قال : «يا رسول اللّه خر لي بلدا أكون فيه قال عليك بالشام فإنه خيرة اللّه تعالى من أرضه يجتبي إليه خيرته من عباده» ،
وأخرج ابن عساكر عن واثلة بن الأسقع قال : «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول عليكم بالشام فإنها صفوة بلاد اللّه تعالى يسكنها خيرته من عباده» ،
وأخرج الحاكم وصححه عن عبد اللّه ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما قال : «يأتي على الناس زمان لا يبقى فيه مؤمن إلا لحق بالشام» وجاء من حديث أحمد والترمذي والطبراني وابن حبان والحاكم أيضا وصححه عن زيد بن ثابت. أنه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : طوبى للشام فقيل له : ولم؟
قال : «إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها»
والأحاديث في فضل الشام كثيرة وقد جمعها غير واحد إلا أن في الكثير منها مقالا وسبب الوضع كان قويا ، وهو اسم لأحد الأقاليم العرفية ، وفي القاموس أنها بلاد عن مشأمة القبلة وسميت بذلك لأن قوما من بني كنعان تشاءموا إليها أي تياسروا أو سمي بسام بن نوح فإنه بالشين بالسريانية أو لأن أرضها شامات بيض وحمر وسود وعلى هذا لا تهمز.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي الأغبش وكان قد أدرك أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه سئل عما بورك من الشام أين مبلغ حده؟ فقال : أول حدوده عريش مصر والحد الآخر طرف الثنية والحد الآخر الفرات والحد الآخر جعل فيه قبر هود النبي عليه السلام ، وليس المراد بها ما هو متعارف الناس اليوم أعني دمشق نعم هي داخلة فيها ، وقد تكلمنا على حدودها بأبسط من هذا في حواشينا على شرح مختصر السمرقندية لابن عصام ، وقد ولع الناس في دمشق مدحا وذما فقال بعضهم :
تجنب دمشق ولا تأتها وإن شاقك الجامع الجامع
فسوق الفسوق بها نافق وفجر الفجور بها طالع
وقال آخر :
دمشق غدت جنة للورى زها وصفا العيش في ظلها
وفيها لدى النفس ما تشتهي ولا عيب فيها سوى أهلها

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 38
وقال آخر في الشام ولعله عنى متعارف الناس :
قيل لي ما يقول في الشام حبر شام من بارق الهنا ما شامه
قلت ماذا أقول في وصف أرض هي في وجنة المحاسن شامه
وأنا أقول إذا صح الحديث فهو مذهبي ونعوذ باللّه تعالى من اتباع الهوى ، والموصول صفة المشارق والمغارب ، وقيل : صفة الأرض وضعفه أبو البقاء بأن فيه العطف على الموصوف قبل الصفة وهو نظير قولك : قام أم هند وأبوها العاقلة ، وجوز أن يكون المفعول الثاني لأورثنا أي الأرض التي فعلى هذا يكون نصب المشارق وما عطف عليه بيستضعفون على معنى يستضعفون فيها وأن يكون المشارق منصوبة بيستضعفون والتي صفة كما في الوجه الأول والمفعول الثاني لأورثنا محذوف أي الأرض أو الملك ، ولا يخفى بعده وأن المتبادر هو الأول.
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أي مضت عليهم واستمرت من قولهم : مضى على الأمر إذا استمر ، والمراد من الكلمة وعده تعالى لهم بالنصر والتمكين على لسان نبيهم عليه السلام وهو قوله السابق عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ إلخ ، وذهب غير واحد إلى أنه الوعد الذي يؤذن به قوله سبحانه : وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ [القصص : 5] ، وقيل : المراد بها علمه تعالى الأزلي ، والمعنى مضى واستمر عليهم ما كان مقدرا من إهلاك عدوهم وتوريثهم الأرض ، والْحُسْنى تأنيث الأحسن صفة للكلمة ووصفت بذلك لما فيها من الوعد بما يحبون ويستحسنون ، وعن الحسن أنه أريد بالكلمة عدته سبحانه وتعالى لهم بالجنة ولا يخفى أنه يأباه السباق والسياق ، والتفت من التكلم إلى الخطاب في قوله سبحانه : رَبِّكَ على ما قال الطيبي لأن ما قبله من القصص كان غير معلوم له صلّى اللّه عليه وسلّم. وأما كونه جل شأنه منجزا لما وعد ومجريا لما قضى وقدر فهو معلوم له عليه الصلاة والسلام ، وذكر في الكشف أنه ادمج في هذا الالتفات أنه ستتم كلمة ربك في شأنك أيضا. وقرأ عاصم في رواية «كلمات» بالجمع لأنها مواعيد ، والوصف بالحسنى لتأويله بالجماعة ، وقد ذكروا أنه يجوز وصف كل جمع بمفرد مؤنث إلا أن الشائع في مثله التأنيث بالتاء وقد يؤنث بالألف كما في قوله سبحانه : مَآرِبُ أُخْرى [طه : 18] بِما صَبَرُوا أي بسبب صبرهم على الشدائد التي كابدوها من فرعون وقومه وحسبك بهذا حاثا على الصبر ودالا على أن من قابل البلاء بالجزع وكله اللّه تعالى إليه ومن قابله بالصبر ضمن اللّه تعالى له الفرج.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن الحسن قال : لو أن الناس إذا ابتلوا من قبل سلطانهم بشيء صبروا ودعوا اللّه تعالى لم يلبثوا أن يرفع اللّه تعالى ذلك عنهم ولكنهم يفزعون إلى السيف فيوكلون إليه ثم تلا هذه الآية ، وفي رواية أخرى عنه قال : ما أوتيت بنو إسرائيل ما أوتيت إلا بصبرهم وما فزعت هذه الأمة إلى السيف قط فجاءت بخير ، وأقول قد شاهدنا الناس سنة الألف والمائتين والثمان والأربعين قد فزعوا إلى السيف فما أغناهم شيئا ولا تم لهم مراد ولا حمد منهم أمر ، بل وقعوا في حرة رحيلة ، ووادي خدبات ، وأم حبوكر ، ورموا لعمر اللّه بثالثة الاثافي ، وقص من جناح عزهم القدامى والخوافي ولم يعلموا أن عيش المضر حلوه مر مقر وأن الفرج إنما يصطاد بشباك الصبر. وما أحسن قول الحسن :
عجبت ممن خف كيف خف وقد سمع قوله سبحانه : وتلا الآية ، ويعلم منها أن التحزن لا ينافي الصبر لأن اللّه سبحانه وصف بني إسرائيل به مع قولهم السابق لموسى عليه السلام أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا وَدَمَّرْنا أي خربنا وأهلكنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ في أرض مصر من العمارات والقصور أي دمرنا الذي كان هو يصنعه فرعون على أن ما موصولة واسم كان ضمير راجع إليها وجملة يصنع فرعون من الفعل والفاعل خبر كان والجملة صلة الموصول

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 39
والعائد إليه محذوف ، وجوز أن يكون فرعون اسم كان ويصنع خبر مقدم والجملة الكونية صلة ما والعائد محذوف أيضا. وتعقبه أبو البقاء بأن يصنع يصلح أن يعمل في فرعون فلا يقدر تأخيره كما لا يقدر تأخير الفعل في قولك : قام زيد وفيه غفلة عن الفرق بين المثال وما نحن فيه وهو مثل الصبح ظاهر وقيل : ما مصدرية وكان سيف خطيب والتقدير ما يصنع فرعون إلخ ، وقيل : كان كما ذكر وما موصولة اسمية والعائد محذوف والتقدير ودمرنا الذي يصنعه فرعون إلخ أي صنعه ، والعدول إلى صيغة المضارع على هذين القولين لاستحضار الصورة وَما كانُوا يَعْرِشُونَ من الجنات أو ما كانوا يرضونه من البنيان كصرح هامان ، وإلى الأول يشير كلام الحسن وإلى الثاني كلام مجاهد.
وقرأ ابن عامر وأبو بكر هنا وفي [النحل : 68] «يعرشون» بضم الراء والباقون بالكسر وهما لغتان فصيحتان والكسر على ما ذكر اليزيدي وأبو عبيدة أفصح ، وقرىء في الشواذ «يغرسون» من غرس الأشجار. وفي الكشاف أنها تصحيف وليس به. «وهذا ومن باب الإشارة في الآيات» ما وجدته لبعض أرباب التأويل من العارفين أن العصا إشارة إلى نفسه التي يتوكأ عليها أي يعتمد في الحركات والأفعال الحيوانية ويهش بها على غنم القوة البهيمية السليمة ورق الملكات الفاضلة والعادات الحميدة من شجرة الفكر وكانت لتقدسها منقادة لأوامره مرتدعة عن أفعالها الحيوانية إلا بإذنه كالعصا وإذا أرسلها عند الاحتجاج على الخصوم صارت كالثعبان تلقف ما يأفكون من الأكاذيب ويظهرون من حبال الشبهات وعصا المغالطات فيغلبهم ويقهرهم. وأن نزع اليد إشارة إلى إظهار القدرة الباهرة الساطعة منها أنوار الحق. وجعل بعضهم فرعون إشارة إلى النفس الأمّارة وقومه إشارة إلى صفاتها وكذا السحرة وموسى إشارة إلى الروح وقومه بنو إسرائيل العقل والقلب والسر وعلى هذا القياس. وأوّل النيسابوري الطوفان بالعلم الكثير والجراد بالواردات والقمل بالإلهامات والضفادع بالخواطر والدم بأصناف المجاهدات والرياضات وهو كما ترى.
وقد ذكر غير واحد أن السحر كان غالبا في زمن موسى عليه السلام فلهذا كانت معجزته ما كانت ، والطب ما كان غالبا في زمن عيسى عليه السلام فلهذا كانت معجزته من جنس الطب والفصاحة كانت غالبا في زمن نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم والتفاخر بها أشهر من «قفا نبك» فلهذا كانت معجزته القرآن ، وإنما كانت معجزة كل نبي من جنس ما غلب على زمانه ليكون ذلك ادعى إلى إجابة دعواه.
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ شروع بعد انتهاء قصة فرعون في قصة بني إسرائيل وشرح ما أحدثوه بعد أن منّ اللّه تعالى عليهم بما منّ وأراهم من الآيات ما أراهم تسلية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عما رآه من اليهود بالمدينة فانهم جروا معه على دأب أسلافهم مع أخيه موسى عليه السلام وإيقاظا للمؤمنين أن لا يغفلوا عن محاسبة أنفسهم ومراقبة نعم اللّه تعالى عليهم فإن بني إسرائيل وقعوا فيما وقعوا لغفلتهم عما منّ اللّه تعالى به عليهم ، وجاوز بمعنى جاز وقرىء «جوزنا» بالتشديد وهو أيضا بمعنى جاز فعدى بالباء أي قطعنا البحر بهم ، والمراد بالبحر بحر القلزم.
وفي مجمع البيان أنه نيل مصر وهو كما في البحر خطأ ، وعن الكلبي أن موسى عليه السلام عبر بهم يوم عاشوراء بعد مهلك فرعون وقومه فصاموه شكرا للّه تعالى فَأَتَوْا أي مروا بعد المجاوزة.
عَلى قَوْمٍ قال قتادة : كانوا من لخم اسم قبيلة ينسبون كما صححه ابن عبد البر إلى لخم بن عدي بن عمرو بن سبأ ، وقيل : كانوا من العمالقة الكنعانيين الذين أمر موسى عليه السلام بقتالهم.
يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ أي يواظبون على عبادتها ويلازمونها ، وكانت كما أخرج ابن المنذر. وغيره عن ابن جريج تماثيل بقر من نحاس ، وهو أول شأن العجل ، وقيل : كانت من حجارة ، وقيل : كانت بقرا حقيقة وقرأ حمزة

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 40
والكسائي يَعْكُفُونَ بكسر الكاف قالُوا عند ما شاهدوا ذلك يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً مثالا نعبده كَما لَهُمْ آلِهَةٌ الكاف متعلقة بمحذوف وقع صفة لإلها وما موصولة ولَهُمْ صلتها وآلِهَةٌ بدل من الضمير المستتر فيه ، والتقدير اجعل لنا إلها كائنا كالذي استقر هو لهم.
وجوز أبو البقاء أن تكون ما كافة للكاف ، ولذا وقع بعدها الجملة الاسمية وأن تكون مصدرية ، ولهم متعلق بفعل أي كما ثبت لهم قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ تعجب عليه السلام من قولهم هذا بعد ما شاهدوه من الآية الكبرى والبينة العظمى فوصفهم بالجهل على أتم وجه حيث لم يذكر له متعلقا ومفعولا لتنزيله منزلة اللازم أو لأن حذفه يدل على عمومه أي تجهلون كل شيء فيدخل فيه الجهل بالربوبية بالطريق الأولى ، وأكد ذلك بأن ، وتوسيط قوم وجعل ما هو المقصود بالأخبار وصفا له ليكون كما قال العلامة كالمتحقق المعلوم وهذه كما ذكر الشهاب نكتة سرية في الخبر الموطئ لادعاء أن الخبر لظهور أمره وقيام الدليل عليه كأنه معلوم متحقق فيفيد تأكيده وتقريره ولولاه لم يكن لتوسيط الموصوف وجه من البلاغة إِنَّ هؤُلاءِ أي القوم الذين يعكفون على هذه الأصنام مُتَبَّرٌ أي مدمر مهلك كما قال ابن عباس ما هُمْ فِيهِ من الدين يعني يدمر اللّه تعالى دينهم الذي هم عليه على يدي ويهلك أصنامهم ويجعلها فتاتا وَباطِلٌ أي مضمحل بالكلية ، وهو أبلغ من حمله على خلاف الحق ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي ما استمروا على عمله من عبادتها وإن قصدوا بذلك التقرب إلى اللّه تعالى وأن المراد أن ذلك لا ينفعهم أصلا ، وحمل ما كانُوا يَعْمَلُونَ على الأصنام لأنها معمولة لهم خلاف الظاهر جدا ، والجملة تعليل لإثبات الجهل المؤكد للقوم ، وفي إيقاع اسم الإشارة كما في الكشاف اسما لأن وتقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبرا لها وسم لعبدة الأصنام بأنهم هم المعرضون للتبار وأنه لا يعدوهم البتة وأنه لهم ضربة لازب ليحذرهم عاقبة ما طلبوا ويبغض إليهم ما أحبوا ، ووجه ذلك على ما في الكشف أن اسم الإشارة بعد إفادة الإحضار وأكمل التمييز يفيد أنهم أحقاء بما أخبر عنه به بواسطة ما تقدم من العكوف ، والتقديم يؤذن بأن حال ما هم فيه ليست غير التبار وحال عملهم ليست
إلا البطلان فهم لا يعدونهما فهما لهم ضربة لازب.
وجوز أبو البقاء أن يكون ما هُمْ فِيهِ فاعل متبر لاعتماده على المسند إليه وهو في نفسه مساو لاحتمال أن يكون ما هم فيه مبتدأ ومتبر خبر له أو أرجح منه إلا أن المقام كما قال القطب وغيره اقتضى ذلك فليفهم.
قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً قيل : هذا هو الجواب وما تقدم مقدمة وتمهيد له ، ولعله لذلك أعيد لفظ قال :
وقال شيخ الإسلام : هو شروع في بيان شؤون اللّه تعالى الموجبة لتخصيص العبادة به سبحانه بعد بيان أن ما طلبوا عبادته مما لا يمكن طلبه أصلا لكونه هالكا باطلا أصلا ولذلك وسط بينهما قال مع كون كل منهما كلام موسى عليه السلام ، وقال الشهاب : أعيد لفظ قال مع اتحاد ما بين القائلين لأن هذا دليل خطابي بتفضيلهم على العالمين ، ولم يستدل بالتمانع العقلي لأنهم عوام انتهى ، وفي إقامة برهان التمانع على الوثنية القائلين إنما نعبدهم ليقربونا إلى اللّه زلفى والمجيبين إذا سئلوا من خلق السموات والأرض بخلقهن اللّه خفاء ، والظاهر إقامته على التنويه كما لا يخفى ، والاستفهام للإنكار وانتصاب (غير) على أنه مفعول أبغيكم وهو على الحذف والإيصال ، والأصل أبغي لكم ، وعلى ذلك يخرج كلام الجوهري وإن كان ظاهره أن الفعل متعد لمفعولين والهاء تمييز ، وجوز أن البقاء أن يكون مفعولا به لأبغي وغير صفة له قدمت فصارت حالا ، وأيا ما كان فالمقصود هنا اختصاص الإنكار بغيره تعالى دون إنكار الاختصاص ، والمعنى أغير المستحق للعبادة أطلب لكم معبودا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ أي عالمي زمانكم أو جميع العالمين ، وعليه يكون المراد تفضيلهم بتلك الآيات لا مطلقا حتى يلزم تفضيلهم على أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، وأما

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 41
الأنبياء والملائكة عليهم السلام فلا يدخلون في المفضل عليهم بوجه بل هم خارجون عن ذلك بقرينة عقلية ، والجملة حالية مقررة لوجه الإنكار ، أي والحال أنه تعالى خص التفضيل بكم فأعطاكم نعما لم يعطها غيركم ، وفيه تنبيه على ما صنعوا من سوء المعاملة حيث قابلوا التفضل بالتفضيل والاختصاص بأن قصدوا أن يشركوا به أخس مخلوقاته وهذا الاختصاص مأخوذ من معنى الكلام وإلا فليس فيه ما يفيد ذلك ، وتقديم الضمير على الخبر لا يفيده وإن كان اختصاصا آخر على ما قيل ، أي هو المخصوص بأنه فضلكم على من سواكم ، وجوز أبو البقاء كون الجملة مستأنفة وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ بإهلاكهم وتخليصكم منهم ، وإذا إما مفعول به لاذكروا محذوفا بناء على القول بأنها تخرج عن الظرفية أي اذكروا ذلك الوقت ويكون ذلك كناية عن ذكر ما فيه وإما ظرف لمفعول اذكروا المحذوف أي اذكروا صنيعنا معكم في ذلك الوقت ، وهو تذكير من جهته تعالى بنعمته العظيمة وقرىء «نجيناكم» من التنجية ، وقرأ ابن عامر «أنجاكم» فيكون من مقول موسى عليه السلام ، وقال بعضهم : إنه على قراءة الجمهور أيضا كذلك على أن ضمير أنجينا لموسى وأخيه عليهما السلام أو لهما ولمن معهما أوله وحده عليه السلام مشيرا بالتعظيم إلى تعظيم أمر الإنجاء وهو خلاف الظاهر ، وقيل : إنه من كلام اللّه تعالى تتميما لكلام موسى عليه السلام كما في قوله تعالى : فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً [طه : 53] بعد قوله سبحانه : هو الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً [طه : 53] وهو كالتفسير لقوله سبحانه : وَهُوَ فَضَّلَكُمْ.
وقوله تعالى : يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ أي يولونكم ذلك ويكلفونكم إياه إما استئناف بياني ، كأنه قيل : ما فعل بهم أو مم أنجوا؟ فأجيب بما ذكر ، وإما حال من ضمير المخاطبين أو من آل فرعون أو منهما معا لاشتماله على ضميرهما. وقوله عزّ اسمه : يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ بدل من يسومونكم مبين له ، ويحتمل الاستئناف أيضا وَفِي ذلِكُمْ الإنجاء أو سوء العذاب بَلاءٌ نعمة أو محنة ، وقيل : المراد به ما يشملهما مِنْ رَبِّكُمْ أي مالك أموركم عَظِيمٌ لا يقادر قدره. وفي الآية التفات على بعض ما تقدم ، ثم إن هذا الطلب لم يكن كما قال محيي السنة البغوي عن شك منهم بوحدانية اللّه تعالى وإنما كان غرضهم إلها يعظمونه ويتقربون بتعظيمه إلى اللّه تعالى وظنوا أن ذلك لا يضر بالديانة وكان ذلك لشدة جهلهم كما أذنت به الآيات ، وقيل : إن غرضهم عبادة الصنم حقيقة فيكون ذلك ردة منهم ، وأيا ما كان فالقائل بعضهم لا كلهم ، وقد اتفق في هذه الأمة نجو ذلك
فقد أخرج الترمذي وغيره عن أبي واقد الليثي «أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خرج في غزوة حنين فمر بشجرة للمشركين كانوا يعلقون عليها أسلحتهم ويعكفون حولها يقال لها ذات أنواط فقالوا يا رسول اللّه اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم «سبحان اللّه» وفي رواية «اللّه أكبر» هذا كما قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام «اجعل لنا إلها كما لهم آلهة والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم»
وأخرج الطبراني وغيره من طريق كثير بن عبد اللّه بن عوف عن أبيه عن جده «قال غزونا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عام الفتح ونحن ألف ونيف ففتح اللّه تعالى مكة وحنينا حتى إذا كنا بين حنين والطائف في أرض فيها سدرة عظيمة كان يناط بها السلاح فسميت ذات أنواط فكانت تعبد من دون اللّه فلما رآها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم صرف عنها في يوم صائف إلى ظل هو أدنى منها فقال له رجل : يا رسول اللّه اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إنها السنن قلتم - والذي نفس محمد بيده - كما قالت بنو إسرائيل اجعل لنا إلها كما لهم آلهة»
وفي هذا الخبر تصريح بأن القائل رجل واحد ، ولعل ذلك كان عن جهل يعذر به ولا يكون به كافرا وإلا لأمره صلّى اللّه عليه وسلّم بتجديد الإسلام ولم ينقل ذلك فيما وقفت عليه ، والناس اليوم قد اتخذوا من قبيل ذات الأنواط شيئا كثيرا لا يحيط به نطاق الحصر ، والآمر بالمعروف أعز من بيض الأنوق والامتثال بفرض الأمر منوط بالعيوق والأمر للّه الواحد

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 42
القهار وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً
روي أن موسى عليه السلام وعد بني إسرائيل وهم بمصر إن أهلك اللّه عدوهم أتاهم بكتاب فيه بيان ما يأتون وما يذرون فلما هلك فرعون سأل موسى عليه السلام ربه الكتاب فأمره أن يصوم ثلاثين وهو شهر ذي القعدة فلما أتم الثلاثين أنكر خلوف فمه فتسوك فقالت الملائكة كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك فأمره اللّه تعالى أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة.
وأخرج الديلمي عن ابن عباس يرفعه لما أتى موسى عليه السلام ربه عزّ وجلّ وأراد أن يكلمه بعد الثلاثين وقد صام ليلهن ونهارهن كره أن يكلم ربه سبحانه وريح فمه ريح فم الصائم فتناول من نبات الأرض فمضغه فقال له ربه : لم أفطرت؟ وهو أعلم بالذي كان ، قال : أي رب كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيّب الريح ، قال : أو ما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم عندي أطيب من ريح المسك؟ ارجع فصم عشرة أيام ائتني ففعل موسى عليه السلام الذي أمره ربه
وذلك قوله سبحانه : وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ والتعبير عنها بالليالي كما قيل لأنها غرر الشهور.
وقيل : إنه عليه السلام أمره اللّه تعالى أن يصوم ثلاثين يوما وأن يعمل فيها بما يقربه من اللّه تعالى ثم أنزلت عليه التوراة وكلم فيها ، وقد أجمل ذكر الأربعين في البقرة وفصل هنا ، وَواعَدْنا بمعنى وعدنا ، وبذلك قرأ أبو عمرو ويعقوب ، ويجوز أن تكون الصيغة على بابها بناء على تنزيل قبول موسى عليه السلام منزلة الوعد ، وقد تقدم تحقيقه.
وثَلاثِينَ كما قال أبو البقاء مفعول ثان لواعدنا بحذف المضاف أي إتمام ثلاثين ليلة أو إتيانها فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً من قبيل الفذلكة لما تقدم ، وكأن النكتة في ذلك أن إتمام الثلاثين بعشر يحتمل المعنى المتبادر وهو ضم عشرة إلى ثلاثين لتصير بذلك أربعين ، ويحتمل أنها كانت عشرين فتمت بعشرة ثلاثين كما يقال أتممت العشرة بدر همين على معنى أنها لولا الدرهمان لم تصر عشرة فلدفع توهم الاحتمال الثاني جيء بذلك ، وقيل : إن الإتمام بعشر مطلق يحتمل أن يكون تعيينها بتعيين اللّه تعالى أو بإرادة موسى عليه السلام فجيء بما ذكر ليفيد أن المراد الأول ، وقيل : جيء به رمزا إلى أنه لم يقع في تلك العشر ما يوجب الجبر ، والميقات بمعنى الوقت ، وفرق جمع بينهما بأن الوقت مطلق والميقات وقت قدر فيه عمل من الأعمال ومنه مواقيت الحج ، ونصب أَرْبَعِينَ قيل : على الحالية أي بالغا أربعين ، ورده أبو حيان بأنه على هذا يكون معمولا للحال المحذوف لا حالا ، وأجيب بأن النحويين يطلقون الحكم الذي للعامل لمعموله القائم مقامه فيقولون في زيد في الدار إن الجار والمجرور خبر مع أن الخبر إنما هو متعلقه. وتعقب بأن الذي ذكره النحاة في الظرف دون غيره فالأحسن أنه حال بتقدير معدودا ، وفيه أن دعوى تخصيص الذكر في الظرف خلاف الواقع كما لا يخفى على المتتبع ، وأن ما زعمه أحسن مما تقدم يرد عليه ما يرد عليه ، وقيل :
إنه تمييز ، وقيل : إنه مفعول به بتضمين تم معنى بلغ ، وقيل : إن تم من الأفعال الناقصة وهذا خبره وهو خبر غريب ، وقيل : إنه منصوب على الظرفية. وأورد عليه أنه كيف تكون الأربعين ظرفا للتمام والتمام إنما هو بآخرها إلا أن يتجوز فيه.
وَقالَ مُوسى حين توجه إلى المناجاة حسبما أمر به لِأَخِيهِ هارُونَ اسم أعجمي عبراني لم يقع في كلام العرب بطريق الأصالة ، ويكتب بدون ألف ، وهو هنا بفتح النون على أنه مجرور بدلا من أخيه أو بيانا له ، أو منصوب مفعولا به لمقدر أعني أعني وقرىء شاذا بالضم على أنه خبر مبتدأ محذوف هو هو أو منادى حذف منه حرف النداء أي يا هارون اخْلُفْنِي أي كن خليفتي فِي قَوْمِي وراقبهم فيما يأتون وما يذرون ، واستخلافه عليه السلام لأخيه مع أنه عليه السلام كان نبيا مرسلا مثله قيل : لأن الرياسة كانت له دونه ، واجتماع الرياسة مع الرسالة والنبوة ليس أمر لازما كما يرشد إلى ذلك سير قصص أنبياء بني إسرائيل ، وذكر الشيخ الأكبر قدس سره في فتوحاته أن

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 43
هارون ذكر له أنه نبي بحكم الأصالة ورسول بحكم التبعية فلعل هذا الاستخلاف من آثار تلك التبعية ، وقيل : إن هذا كما يقول أحد المأمورين بمصلحة للآخر إذا أراد الذهاب لأمر : كن عوضا عني على معنى ابذل غاية وسعك ونهاية جهدك بحيث يكون فعلك فعل شخصين وَأَصْلِحْ ما يحتاج إلى الإصلاح من أمور دينهم ، أو كن مصلحا على أنه منزل منزلة اللازم من غير تقدير مفعول.
وعن ابن عباس أنه يريد الرفق بهم والإحسان إليهم ، وقيل : المراد احملهم على الطاعة والصلاح وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ أي ولا تتبع سبيل من سلك الإفساد بدعوة وبدونها ، وهذا من باب التوكيد كما لا يخفى.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 143 إلى 153]
وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147)
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)
وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا أي لوقتنا الذي وقتناه أي لتمام الأربعين ، واللام للاختصاص كما في قوله

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 44
سبحانه : لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء : 78] وهي بمعنى عند عند بعض النحويين وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ من غير واسطة بحرف وصوت ومع هذا لا يشبه كلام المخلوقين ولا محذور في ذلك كما أوضحناه في الفائدة الرابعة ، وإلى ما ذكره ذهب السلف الصالح ، وقد أخرج البزار وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية. والبيهقي في الأسماء والصفات عن جابر قال : قال «رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : لما كلم اللّه تعالى موسى يوم الطور كلمه بغير الكلام الذي كلمه يوم ناداه فقال له موسى : يا رب أهذا كلامك الذي كلمتني به؟ قال يا موسى : أنا كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ولي قوة الألسن كلها وأقوى من ذلك فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا : يا موسى صف لنا كلام الرحمن ، فقال : لا تستطيعونه ألم تروا إلى صوت الصواعق الذي يقبل في أحلى حلاوة سمعتوه فذاك قريب منه وليس به».
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن أبي الحويرث عبد الرحمن بن معاوية قال : «إنما كلم اللّه تعالى موسى بقدر ما يطيق من كلامه ولو تكلم بكلامه كله لم يطقه شي ء» وأخرج جماعة عن كعب قال : «لما كلم اللّه تعالى موسى كلمه بالألسنة كلها فجعل يقول : يا رب لا أفهم حتى كلمه آخر الألسنة بلسانه بمثل صوته» الخبر ، وأخرجوا عن ابن كعب القرظي أنه قال : قيل لموسى عليه السلام ما شبهت كلام ربك مما خلق؟ فقال عليه السلام : بالرعد الساكن ، وأخرج الديلمي عن أبي هريرة مرفوعا لما خرج أخي موسى إلى مناجاة ربه كلمه ألف كلمة ومائتي كلمة فأول ما كلمه بالبربرية ،
ونقل عن الأشعري أن موسى عليه السلام إنما سمع الكلام النفسي القائم بذات اللّه تعالى ولم يكن ما سمعه مختصا بجهة من الجهات ، وحمله إلى سماع بالفعل مشكل مع الأخبار الدالة على خلافه والظاهر أن ذلك إن صح نقله فهو قول رجع عنه إلى مذهب السلف الذي أبان عن اعتقاده له في الإبانة قالَ رَبِّ أَرِنِي أي ذاتك أو نفسك فالمفعول الثاني محذوف لأنه معلوم ، ولم يصرح به تأدبا أَنْظُرْ إِلَيْكَ مجزوم في جواب الدعاء ، واستشكل بأن الرؤية مسببة عن النظر متأخرة عنه كما يريك ذلك النظر إلى قولهم : نظرت إليه فرأيته ، ووجهه أن النظر تقليب الحدقة نحو الشيء التماسا لرؤيته والرؤية الإدراك بالباصرة بعد التقليب وحينئذ كيف يجعل النظر جوابا لطلب الرؤية مسببا عنه وهو عكس القضية.
وأجيب بأن المراد بالإراءة ليس إيجاد الرؤية بل التمكن منها مطلقا أو بالتجلي والظهور وهو مقدم على النظر وسبب له ، ففي الكلام ذكر الملزوم وإرادة اللازم أي مكنى من رؤيتك أو تجل لي فأنظر إليك وأراك قالَ استئناف بياني كأنه قيل : فماذا قال رب العزة حين قال موسى عليه السلام ذلك ، فقيل : قال : لَنْ تَرانِي أي لا قابلية لك لرؤيتي وأنت على ما أنت عليه ، وهو نفي للإراءة المطلوبة على أتم وجه وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ استدراك لبيان أنه عليه السلام لا يطيق الرؤية ، والمراد من الجبل طور سيناء كما ورد في غير ما خبر ، وفي تفسير الخازن وغيره أن اسمه زبير بزاي مفتوحة وباء موحدة مكسورة وراء مهملة بوزن أمير فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ ولم يفتته التجلي فَسَوْفَ تَرانِي إذا تجليت لك فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ أي ظهر له على الوجه اللائق بجنابه تعالى بعد جعله مدركا لذلك جَعَلَهُ دَكًّا أي مدكوكا متفتتا ، والدك والدق اخوان كالشك والشق. وقال شيخنا الكوراني : إن الجبل مندرج في الأشياء التي تسبح بحمد اللّه بنص وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء : 44] المحمول على ظاهره عند التحقيق المستلزم لكونه حيا مدركا حياة وإدراكا لائقين بعالمه ونشأته ، وقيل : هذا مثل لظهور اقتداره سبحانه وتعلق إرادته بما فعل بالجبل لا أن ثم تجليا وهو نظير ما قرر في قوله تعالى : أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس :
82] من أن المراد أن ما قضاه سبحانه وأراد كونه يدخل تحت الوجود من غير توقف لا أن ثمة قولا. وتعقبه صاحب الفرائد بأن هذا المعنى غير مفهوم من الآية لأن تجلى مطاوع جليته أي أظهرته يقال : جليته فتجلى أي أظهرته فظهر

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 45
ولا يقدر تجلي اقتداره لأنه خلاف الأصل ، على أن هذا الحمل بعيد عن المقصود بمراحل. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي والحاكم وصححاه. والبيهقي وغيرهم من طرق عن أنس بن مالك «أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قرأ هذه الآية فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ إلخ قال هكذا وأشار بإصبعيه ووضع طرف إبهامه على أنملة الخنصر - وفي لفظ - على المفصل الأعلى من الخنصر فساخ الجبل»
وعن ابن عباس أنه قال ما تجلى منه سبحانه للجبل إلا قدر الخنصر فجعله ترابا ، وهذا كما لا يخفى من المتشابهات التي يسلك فيها طريق التسليم وهو أسلم وأحكم أو التأويل بما يليق بجلال ذاته تعالى. وقرأ حمزة والكسائي «دكاء» بالمد أي أرضا مستوية ، ومنه قولهم ناقة دكاء للتي لم يرتفع سنامها. وقرأ يحيى بن وثاب «دكا» بضم الدار والتنوين جمع دكاء كحمر وحمراء أي قطعا دكا فهو صفة جمع ، وفي شرح التسهيل لأبي حيان أنه أجري مجرى الأسماء فأجري على المذكر وَخَرَّ مُوسى أي سقط من هول ما رأى ، وفرق بعضهم بين السقوط والخرور بأن الأول مطلق والثاني سقوط له صوت كالخرير صَعِقاً أي صاعقا وصائحا من الصعقة ، والمراد أنه سقط مغشيا عليه عند ابن عباس والحسن رضي اللّه تعالى عنهم وميتا عند قتادة.
روي أنه بقي كذلك مقدار جمعة ، وعن ابن عباس أنه عليه السلام أخذته الغشية عشية يوم الخميس يوم عرفة إلى عشية يوم الجمعة ، ونقل بعض القصاصين أن الملائكة كانت تمر عليه حينئذ فيلكزونه بأرجلهم ويقولون يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزة وهو كلام ساقط لا يعول عليه بوجه ، فإن الملائكة عليهم السلام مما يجب تبرئتهم من إهانة الكليم بالوكز بالرجل والغض في الخطاب فَلَمَّا أَفاقَ بأن عاد إلى ما كان عليه قبل وذلك بعود الروح إليه على ما قال قتادة أو بعود الفهم والحس على ما قال غيره ، والمشهور أن الافاقة رجوع العقل والفهم إلى الإنسان بعد ذهابهما عنه بسبب من الأسباب ، ولا يقال للميت إذا عادت إليه روحه أفاق وإنما يقال ذلك للمغشي عليه ولهذا اختار الأكثرون ما قاله الحبر قالَ تعظيمالأمر اللّه سبحانه سُبْحانَكَ أي تنزيها لك من مشابهة خلقك في شيء ، أو من أن يثبت أحد لرؤيتك على ما كان عليه قبلها ، أو من أن أسألك شيئا بغير إذن منك تُبْتُ إِلَيْكَ من الإقدام على السؤال بغير إذن ، وقيل : من رؤية وجودي والميل مع إرادتي وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بعظمتك وجلالك أو بأنه لا يراك أحد في هذه النشأة فيثبت على ما قيل ، وأراد كما قال الكوراني أنه أول المؤمنين بذلك عن ذوق مسبوق بعين اليقين في نظره ، وقيل : أراد أول المؤمنين بأنه لا يجوز السؤال بغير إذن منك.
واستدل أهل السنة المجوزون لرؤيته سبحانه بهذه الآية على جوازها في الجملة ، واستدل بها المعتزلة النفاة على خلاف ذلك وقامت الحرب بينهما على ساق ، وخلاصة الكلام في ذلك أن أهل السنة قالوا : إن الآية تدل على إمكان الرؤية من وجهين. الأول أن موسى عليه السلام سألها بقوله : رَبِّ أَرِنِي إلخ ، ولو كانت مستحيلة فإن كان موسى عليه السلام عالما بالاستحالة فالعاقل فضلا عن النبي مطلقا فضلا عمن هو من أولي العزم لا يسأل المحال ولا يطلبه ، وإن لم يكن عالما لزم أن يكون آحاد المعتزلة ومن حصل طرفا من علومهم أعلم باللّه تعالى وما يجوز عليه وما لا يجوز من النبي الصفي ، والقول بذلك غاية الجهل والرعونة ، وحيث بطل القول بالاستحالة تعين القول بالجواز ، والثاني أن فيها تعليق الرؤية على استقرار الجبل وهو ممكن في نفسه وما علق على الممكن ممكن. واعترض الخصوم الوجه الأول بوجوه. الأول أنا لا نسلم أن موسى عليه السلام سأل الرؤية وإنما سأل العلم الضروري به تعالى إلا أنه عبر عنه بالرؤية مجازا لما بينهما من التلازم. والتعبير بأحد المتلازمين عن الآخر شائع في كلامهم ، وإلى هذا ذهب أبو الهذيل بن العلاف وتابعه عليه الجبائي وأكثر البصريين. الثاني أنا سلمنا أنه لم يسأل العلم بل سأل الرؤية حقيقة لكنا نقول : إنه سأل رؤية علم من أعلام الساعة بطريق حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه فمعنى

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 46
أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ أرني أنظر إلى علم من أعلامك الدالة على الساعة ، وإلى هذا ذهب الكعبي والبغداديون ، الثالث أنا سلمنا أنه سأل رؤية اللّه تعالى نفسه حقيقة ولكن لم يكن ذلك لنفسه عليه السلام بل لدفع قومه لقائلي أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء : 153] وإنما أضاف الرؤية إليه دونهم ليكون منعه أبلغ في دفعهم وردعهم عما سألوه تنبيها بالأعلى على الأدنى ، وإلى هذا ذهب الجاحظ ومتبعوه ، الرابع أنا سلمنا أنه سأل لنفسه لكن لا نسلم أن ذلك ينافي العلم بالإحالة إذ المقصود من سؤالها إنما هو أن يعلم الإحالة بطريق سمعي مضاف إلى ما عنده من الدليل العقلي لقصد التأكيد ، وذلك جائز كما يدل عليه طلب إبراهيم عليه السلام اراءة كيفية إحياء الموتى ، وقوله : وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة : 260] وإلى ذلك ذهب أبو بكر الأصم ، الخامس أنا سلمنا أن سؤال الرؤية ينافي العلم بالإحالة لكنا نلتزم القول بعدم العلم وهو غير قادح في نبوته عليه السلام فإن النبوة لا تتوقف على العلم بجميع العقائد الحقة أو جميع ما يجوز عليه تعالى وما لا يجوز بل على ما يتوقف عليه الغرض من البعثة والدعوة إلى اللّه تعالى وهو وحدانيته وتكليف عباده بالأوامر والنواهي تحريضا لهم على النعيم المقيم ، وليس امتناع الرؤية من هذا القبيل ، ويؤيد ذلك أنه سأل وقوع الرؤية في الدنيا وهي غير واقعة عندنا وعندكم ، ونسب هذا القول إلى الحسن منا وهو غريب منه.
السادس أنا سلمنا العلم بالإحالة لكن لا نسلم امتناع السؤال وإنما يمتنع أن لو كان محرما في شرعه لم لا يجوز أن لا يكون محرما؟ ، السابع أنا سلمنا الحرمة لكن لا نسلم أن ذلك كبيرة لم لا يجوز أن يكون صغيرة وهي غير ممتنعة على الأنبياء عليهم السلام؟. وتكلموا على الوجه الثاني من وجهين : الأول أنا لا نسلم أنه علق الرؤية على أمر ممكن لأن التعليق لم يكن على استقرار الجبل حال سكونه وإلا لوجدت الرؤية ضرورة وجود الشرط لأن الجبل حال سكونه كان مستقرا بل على استقراره حال حركته وهو محال لذاته ، والثالث أنا وإن سلمنا أن استقرار الجبل ممكن لكن لا نسلم أن المعلق بالممكن ممكن فإنه يصح أن يقال : إن انعدم المعلول انعدمت العلة ، والعلة قد تكون ممتنعة العدم مع إمكان المعلول في نفسه كالصفات بالنسبة إلى الذات عند المتكلمين ، والعقل الأول بالنسبة إليه تعالى عند الحكماء ، فيجوز أن تكون الرؤية الممتنعة متعلقة بالاستقرار الممكن ، والسر في جواز ذلك أن الارتباط بين المعلق والمعلق عليه إنما هو بحسب الوقوع بمعنى أنه إن وقع عدم المعلول وقع عدم العلة ، والممكن الذاتي قد يكون ممتنع الوقوع الذاتي فيجوز التعليق بينهما وليس الارتباط بينهما بحسب الإمكان حتى يلزم إمكان المعلق عليه إمكان المعلق ، ثم إنا وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه من الوجهين على جواز الرؤية فهو معارض بما يدل على عدم الجواز فإن لَنْ في الآية لتأبيد النفي وتأكيده وأيضا قول موسى عليه السلام : تُبْتُ إِلَيْكَ دليل كونه مخطئا في سؤاله ولو كانت الرؤية جائزة لما كان مخطئا ، والزمخشري عامله اللّه تعالى بعدله زعم أن الآية أبلغ دليل على عدم إمكان الرؤية ، وذكر في كشافه ما ذكر وقال : ثم أعجب من المتسمين بالإسلام المسمين بأهل السنة والجماعة كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهبا ولا يغرنك تسترهم بالبلكفة فإنه من منصوبات أشياخهم ، والقول ما قال بعض العدلية فيهم :
وجماعة سموا هواهم سنة لجماعة حمر لعمري موكفه
قد شبهوه بخلقه وتخوفوا شنع الورى فتستروا بالبلكفه
وأجيب عن قولهم : إنه عليه السلام إنما سأل العلم الضروري بأنه لو كانت الرؤية بمعنى العلم الضروري لكان النظر المذكور بعد أيضا بمعناه وليس كذلك ، فإن النظر الموصول بإلى نص في الرؤية لا يحتمل سواه فلا يترك للاحتمال. وفي شرح المواقف أن طلب العلم الضروري لمن يخاطبه ويناجيه غير معقول ، وأورد عليه أن المراد هو العلم بهويته الخاصة ، والخطاب لا يقتضي إلا العلم بوجه كمن يخاطبنا من وراء الجدار ، والمراد بالعلم بالهوية

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 47
الخاصة انكشاف هويته تعالى على وجه جزئي بحيث لا يمكن عند العقل صدقه على كثيرين كما في المرئي بحاسة البصر ، ولا شك في كونه ممكنا في حقه تعالى لأنه قادر على أن يخلق في العبد علما ضروريا بهويته الخاصة على الوجه الجزئي بدون استعمال الباصرة كما يخلق بعده ، وفي عدم لزومه الخطاب فإنه إنما يقتضي العلم بالمخاطب بأمور كلية يمكن صدقها على كثيرين عند العقل وإن كانت في الخارج منحصرة في شخص واحد فهو من قبيل التعقل ، وبهذا التحرير يعلم رصانة الإيراد ودفع ما أورد عليه ، ويظهر منه ركاكة ما قاله الآمدي. من أن حمل الرؤية على العلم يلزم منه أن يكون موسى عليه السلام غير عالم بربه لئلا يلزم تحصيل الحاصل ، ونسبة ذلك إلى الكليم من أعظم الجهالات لأنا نقول العلم بالهوية الخاصة على ما ذكرنا ليس من ضروريات النبوة ولا المكالمة كما لا يخفى. نعم يأبى هذا الحمل التعدية كما علمت ويبعده الجواب بلن تراني ولكن انظر إلخ كما هو ظاهر وإن تكلف له الزمخشري بما تمجه الأسماع.
وقيل : إنه لو ساغ هذا التأويل لساغ مثله في أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء : 153] لتساوي الدلالة وهو ممتنع بالإجماع وجهرة لا يزيد على كون النظر موصولا بإلى. وأجيب عن قولهم : إنما سأله أن يريه علما من أعلام الساعة بأنه لا يستقيم لثلاثة أوجه.
أحدها أنه خلاف الظاهر من غير دليل. ثانيها أنه أجيب بلن تراني وهو إن كان محمولا على نفي ما وقع السؤال عنه من رؤية بعض الآيات فهو خلف فإنه قد أراه سبحانه أعظم الآيات وهو تدكدك الجبل ، وإن كان محمولا على نفي الرؤية لزم أن لا يكون الجواب مطابقا للسؤال. ثالثها أن قوله سبحانه : فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي إن كان محمولا على رؤية الآية فهو محال لأن الآية ليس في استقرار الجبل بل في تدكدكه ، وإن كان محمولا على الرؤية لا يكون مرتبطا بالسؤال ، فإذن لا ينبغي حمل ما في الآية على رؤية الآية ، وعن قولهم : إن الرؤية وقعت لدفع قومه بأن ذلك خلاف الظاهر من غير دليل ، وكون الدليل أخذ الصعقة ليس بشيء.
وأيضا كان يجب عليه عليه السلام أن يبادر إلى ردعهم وزجرهم عن طلب ما لا يليق بجلال اللّه تعالى كما قال إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ عند قولهم : اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ وقولهم : إن المقصود ضم الدليل السمعي إلى العقلي ليس بشيء إذ ذلك كان يمكن بطلب إظهار الدليل السمعي له من غير أن يطلب الرؤية مع إحالتها ، وقصته تقدم الكلام فيها ، وما ذكروه في الوجه الخامس ظاهر رده من تقرير الوجه الأول من الوجهين اللذين ذكرهما أهل السنة ، وحاصله أنه يلزمهم أن يكون الكليم عليه السلام دون آحاد المعتزلة علما ودون من حصل طرفا من الكلام في معرفة ما يجوز عليه تعالى وما لا يجوز ، وهذه كلمة حمقاء وطريقة عوجاء لا يسلكها أحد من العقلاء ، فإن كون الأنبياء عليهم السلام أعلم ممن عداهم بذاته تعالى وصفاته العلا مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان ، وكون الرؤية في الدنيا غير واقعة عند الفريقين إن أريد به أنها غير ممكنة الوقوع فهو أول المسألة وإن أريد أنها ممكنة لكنها لا تقع لأحد فلا نسلم أنه أجمع على ذلك الفريقان ، أما المعتزلة فلأنهم لا يقولون بإمكانها ، وأما أهل السنة فلأن كثيرا منهم ذهب إلى أنها وقعت لنبينا صلّى اللّه عليه وسلّم ليلة الإسراء ، وهو قول ابن عباس. وأنس وغيرهما ، وقول عائشة رضي اللّه تعالى عنها : من زعم أن محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم ليلة الإسراء ، وهو قول ابن عباس. وأنس وغيرهما ، وقول عائشة رضي اللّه تعالى عنها : من زعم أن محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم رأى ربه فقد أعظم على اللّه سبحانه الفرية مدفوع أو مؤول بأن المراد من زعم أن محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم في نوره الذي هو نوره أعني النور الشعشعاني الذي يذهب بالأبصار ، وهو المشار إليه
في حديث «لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره»
فقد أعظم الفرية ، ومن هذا يعلم ما في احتمال إرادة عدم الوقوع مع قطع النظر عن الإمكان وعدمه. وقولهم : إنه يجوز أن لا يكون ذلك الطلب محرما في شرعه فلا يمتنع يرد عليه أن دليل الحرمة ظاهر ، فإن طلب المحال لو لم يكن حراما في شرعه عليه السلام لما بلغ في التشنيع على قومه حين طلبوا ما طلبوا على أنا لو سلمنا أنه ليس بحرام يقال : إنه لا فائدة فيه وما

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 48
كان كذلك فمنصب النبوة منزه عنه ، ومن هذا يعلم ما في قولهم الأخير.
وأجيب عن قولهم : إن المعلق عليه هو استقرار الجبل حال حركته بأنهم إن أرادوا أن الشرط هو الاستقرار حال وجود الحركة مع الحركة فهو زيادة إضمار وترك لظاهر اللفظ من غير دليل فلا يصح ، وإن أرادوا أن الشرط هو الاستقرار في الحالة التي وجدت فيها الحركة بدلا عن الحركة فلا يخفى جوازه ، فكيف يدعى أنه محال لذاته؟ ، وبعضهم قال في الرد : إن المعلق عليه استقرار الجبل بعد النظر بدليل الفاء ، وحين تعلقت إرادة اللّه تعالى بعدم استقراره عقيب النظر استحال استقراره وإن كان بالغير فعدل عن القول بالمحال بالذات إلى القول بالمحال بالغير لأن الغرض يتم به أيضا ، وتعقبه السالكوتي وغيره بأنه ليس بشيء لأن استقرار الجبل حين تعلق إرادته تعالى بعدم استقراره أيضا ممكن بأن يقع بدله الاستقرار إنما المحال استقراره مع تعلق إرادته سبحانه بعدم الاستقرار ، ولبعض فضلاء الروم هاهنا كلام نقله الشهاب لا تغرنك قعقعته فإن الظواهر لا تترك لمجرد الاحتمال المرجوح ، وأجيب عن قولهم لا نسلم أن المعلق بالممكن ممكن إلخ بأن المراد بالممكن المعلق عليه الممكن الصرف والخالي عن الامتناع مطلقا ، ولا شك أن إمكان المعلول فيما امتنع عدم علته ليس كذلك بل التعليق بينهما إنما هو بحسب الامتناع بالغير فإن استلزام عدم الصفات وعدم العقل الأول عدم الواجب من حيث إن وجود كل منهما واجب وعدمه ممتنع بوجود الواجب ، وأما بالنظر إلى ذاته مع قطع النظر عن الأمور الخارجة فلا استلزام بخلاف استقرار الجبل فإنه ممكن صرف غير ممتنع لا بالذات ولا بالعرض كما لا يخفى ، على أن بعضهم نظر في صحة المثال لغة وإن كان فيه ما فيه ، وما قيل : إنه ليس المقصود في الآية بيان جواز الرؤية وعدم جوازها إذ هو غير مسؤول عنه بل المقصود إنما هو بيان عدم وقوعها وعدم الشرط متكفل بذلك كلام لا طائل تحته ، إذ الجواز وعدم الجواز من مستتبعات التعليق بإجماع جهابذة الفريقين ، وما ذكروه
في المعارضة من أن «لن» تفيد تأبيد النفي غير مسلم ، ولو سلّم فيحتمل أن ذلك بالنسبة إلى الدنيا كما في قوله تعالى : وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً [البقرة : 95] فإن إفادة التأبيد فيه أظهر ، وقد حملوه على ذلك أيضا لأنهم يتمنونه في الآخرة للتخلص من العقوبة ، ومما يهدي إلى هذا أن الرؤية المطلوبة إنما هي الرؤية في الدنيا وحق الجواب أن يطابق السؤال ، وقد ورد عنه صلّى اللّه عليه وسلّم ما يدل على أن نفي الرؤية مقيد لا مطلق فليتبع بيانه عليه الصلاة والسلام ،
فقد أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول. وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال «تلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم هذه الآية رَبِّ أَرِنِي إلخ فقال : قال اللّه تعالى يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده ولا رطب إلا تفرق وإنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم ولا تبلى أجسادهم»
وهذا ظاهر في أن مطلوب موسى عليه السلام كان الرؤية في الدنيا مع بقائه على حالته التي هو عليها حين السؤال من غير أن يعقبها صعق لأن قوله عزّ وجلّ : إنه لن يراني حي إلخ لا ينفي إلا الرؤية في الدنيا مع الحياة لا الرؤية مطلقا ، فمعنى لَنْ تَرانِي في الآية لن تراني وأنت باق على هذه الحالة لا لن تراني في الدنيا مطلقا فضلا عن أن يكون المعنى لن تراني مطلقا لا في الدنيا ولا في الآخرة. نعم إن هذا الحديث مخصص بما
صح مرفوعا وموقوفا أنه صلّى اللّه عليه وسلّم رأى ربه ليلة الإسراء مع عدم الصعق ،
ولعل الحكمة في اختصاصه صلّى اللّه عليه وسلّم بذلك أن نشأته عليه الصلاة والسلام أكمل نشأة وأعدلها صورة ومعنى لجامعيته صلّى اللّه عليه وسلّم للحقائق على وجه الاعتدال وهي فيه متجاذبة ومقتضى ذلك الثبات بإذن اللّه تعالى ومع ذلك فلم يقع له التجلي إلا في دار البقاء فاجتمع مقتضى الموطن مع مقتضى كمال اعتدال النشأة ، وقد يقال أيضا على سبيل التنزيل : لو سلمنا دلالة لن على التأبيد مطلقا لكان غاية ذلك انتفاء وقوع الرؤية ولا يلزم منه انتفاء الجواز ، والمعتزلة يزعمون ذلك وقولهم : قوله عليه السلام تُبْتُ إِلَيْكَ يدل على كونه مخطئا ليس بشيء لأن التوبة قد تطلق بمعنى الرجوع وإن لم يتقدمها ذنب ، وعلى هذا فلا يبعد أن يكون المراد من تبت إليك أي رجعت إليك عن طلب الرؤية.

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 49
وذكر ابن المنير أن تسبيح موسى عليه السلام لما تبين له من أن العلم قد سبق بعدم وقوع الرؤية في الدنيا واللّه تعالى مقدس عن وقوع خلاف معلومه ، وأما التوبة في حق الأنبياء عليهم السلام فلا يلزم أن تكون عن ذنب لأن منزلتهم العلية تصان عن كل ما يحط عن مرتبة الكمال ، وكان عليه عليه السلام نظرا إلى علو شأنه أن يتوقف في سؤال الرؤية على الإذن فحيث سأل من غير إذن كان تاركا الأولى بالنسبة إليه ، وقد ورد «حسنات الأبرار سيئات المقربين» ،
وذكر الإمام الرازي نحو ذلك. وقال الآمدي : إن التوبة وإن كانت تستدعي سابقية الذنب إلا أنه ليس هناك ما يدل قطعا على أن الذنب في سؤاله بل جاز أن تكون التوبة عما تقدم قبل السؤال مما يعده هو عليه السلام ذنبا والداعي لذلك ما رأى من الأهوال العظيمة من تدكدك الجبل على ما هو عادة المؤمنين الصلحاء من تجديد التوبة عما سلف إذا رأوا آية وأمرا مهولا ، وذكر أن قوله عليه السلام : وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ليس المراد منه ابتداء الإيمان في تلك الحالة بل المراد به إضافة الأولية إليه لا إلى الإيمان ، ولعل المراد من ذلك الإخبار الاستعطاف لقبول توبته عليه السلام عما هو ذنب عنده ، وأراد بالمؤمنين قومه على ما روي عن مجاهد ، وما يشير إليه كلام الزمخشري من أن الآية أبلغ دليل على عدم إمكان الرؤية لا يخفى ما فيه على من أحاط خبرا بما ذكرناه ، ومن المحققين من استند في دلالة الآية على إمكانها بغير ما تقدم أيضا ، وهو أنه تعالى أحال انتفاء الرؤية على عجز الرائي وضعفه عنها حيث قال له : لَنْ تَرانِي ولو كانت رؤيته تعالى غير جائزة لكان الجواب لست بمرئي ، ألا ترى لو قال : أرني أنظر إلى صورتك ومكانك لم يحسن في الجواب أن يقال لن ترى صورتي ولا مكاني بل الحسن لست بذي صورة ولا مكان.
وقال بعضهم بعد أن بين كون الآية دليلا على أن الرؤية جائزة في الجملة ببعض ما تقدم : ولذلك رده سبحانه بقوله : لَنْ تَرانِي دون لن أرى ولن أريك ولن تنظر إلي تنبيها على أنه عليه السلام قاصر عن رؤيته تعالى لتوقفها على معد في الرائي ولم يوجد فيه بعد ، وذلك لأن لن أرى يدل على امتناع الرؤية مطلقا ولن أريك يقتضي أن المانع من جهته تعالى ، وليس في لن تنظر تنبيه على المقصود لأن النظر لا يتوقف على معد وإنما المتوقف عليه الرؤية والإدراك ، وعلل النيسابوري عدم كون الجواب لن تنظر إلى المناسب لأنظر إليك بأن موسى عليه السلام لم يطلب النظر المطلق وإنما طلب النظر الذي معه الإدراك بدليل أرني. وانتصر بعضهم للمعتزلة بأن لهم أن يقولوا : إن طلب الاراءة متضمن لطلب رفع الموانع من الرؤية وإيجاد ما تتوقف هي عليه لأن معنى ذلك مكني من الرؤية والتمكين إنما يتم بما ذكر من الرفع والإيجاد ، وكان الظاهر في رد هذا الطلب لن أمكنك من رؤيتي لكن عدل عنه إلى لن تراني إشارة إلى استحالة الرؤية وعدم وقوعها بوجه من الوجوه ، كأنه قيل : إن رؤيتك لي أمر محال في نفسه وتمكيني إنما يكون من الممكن ، ولو لم يكن المراد ذلك بل كان المراد أنك لا قابلية لك لرؤيتي لكان لموسى عليه السلام أن يقول يا رب أنا أعلم عدم القابلية لكني سألتك التمكين وهو متضمن لسؤال إيجادها لأنها مما تتوقف الرؤية عليه ، فعلى هذا لا يكون الجواب مفيدا لموسى عليه السلام ولا مقنعا له بخلافه على الأول ، فيكون حينئذ هو المتعين. فإن قيل : القابلية وعدم القابلية من توابع الاستعداد وعدم الاستعداد وهما غير مجعولين ، قلنا : هذا على ما فيه من الكلام العريض والنزاع الطويل مستلزم لمطلوبنا من امتناع الرؤية كما لا يخفى على من له أدنى استعداد لفهم الحقائق.
وأجيب بأن طلب التمكين من شيء إنما يتضمن طلب رفع الموانع التي في جانب المطلوب منه فقط على ما هو الظاهر لا مطلقا بحيث يشمل ما كان في جانب المطلوب منه وما كان في جانب الطالب ، ويرشد إلى ذلك أن قولك :
لم يمكنّي زيد من قتل عمرو مثلا ظاهر في أنه حال بينك وبين قتله مع تهيئك له وارتفاع الموانع التي من قبلك عنه ، فكأن موسى عليه السلام لما كلمه ربه هاج به الشوق إلى الرؤية كما قال الحسن : لأن عدو اللّه إبليس غاص في

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 50
الأرض حتى خرج من بين قدميه فوسوس إليه أنّ مكلمك شيطان فعند ذلك سألها كما قال السدي : وأعوذ باللّه من اعتقاده فذهل عن نفسه وما فيها من الموانع فلم يخطر بباله إلا طلب رفع الموانع عنها من قبل الرب سبحانه فنبهه جل شأنه بقوله : لَنْ تَرانِي على وجود المانع فيه عن الرؤية وهو الضعف عن تحملها وأراه ضعف من هو أقوى منه عن ذلك بدك الجبل عند تجليه له ، ففائدة الاستدراك على هذا أن يتحقق عنده عليه السلام أنه أضعف من أن يقوم لتجلي الرؤية ، وهو على ما هو عليه ، ويمكن أن تكون التوبة منه عليه السلام بعد أن أفاق من هذه الغفلة ، وحينئذ لا شك أن الجواب ب لَنْ تَرانِي إلخ مفيد مقنع.
هذا وذكر بعض المحققين أن حاصل الكلام في هذا المقام أن موسى عليه السلام كان عالما بإمكان الرؤية ووقوعها في الدنيا لمن شاء اللّه تعالى من عباده عقلا والشروط التي تذكر لها ليست شروطا عقلية وإنما هي شروط عادية ولم يكن عالما بعدم الوقوع مع عدم تغير الحال حتى سمع ذلك من الرب المتعال ، وليس في عدم العلم بما ذكر نقص في مرتبته عليه السلام لأنه من الأمور الموقوفة على السمع ، والجهل بالأمور السمعية لا يعد نقصا ، فقد صح أن أعلم الخلق على الإطلاق نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم سئل عن أشياء فقال : سأسأل جبريل عليه السلام ، وأن جبريل عليه السلام سئل فقال : سأسأل رب العزة ، وقد قالت الملائكة : سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا [البقرة : 32] وأن الآية لا تصلح دليلا على امتناع الرؤية على ما يقوله المعتزلة بل دلالتها على إمكانها في الجملة أظهر وأظهر ، بل هي ظاهرة في ذلك دون ما يقوله الخصوم وما رواه أبو الشيخ عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال في تفسير لَنْ تَرانِي : إنه لا يكون ذلك أبدا لا حجة لهم فيه لأنه غير واف بمطلوبهم ، مع أن التأبيد فيه بالنسبة إلى عدم تغير الحال كما يدل عليه الخبر المروي عنه سابقا ، وكذا ما رواه عنه أبو الشيخ إذ فيه : يا موسى إنه لا يراني أحد فيحيا قال موسى : رب إن أراك ثم أموت أحب إلي من أن لا أراك ثم أحيا ، وما ذكره الزمخشري عن الأشياخ أنهم قالوا : إنه تعالى يرى بلا كيف هو المشهور.
ونقل المناوي أن الكمال بن الهمام سئل عما
رواه الدارقطني وغيره عن أنس من قوله صلّى اللّه عليه وسلّم «رأيت ربي في أحسن صورة»
بناء على حمل الرؤية في اليقظة فأجاب بأن هذا حجاب الصورة انتهى ، وهو التجلي الصوري الشائع عند الصوفية ، ومنه عندهم تجلي اللّه تعالى في الشجرة لموسى عليه السلام ، وتجليه جل وعلا للخلق يوم يكشف عن ساق ، وهو سبحانه وإن تجلى بالصورة لكنه غير متقيد بها واللّه من ورائهم محيط ، والرؤية التي طلبها موسى عليه السلام غير هذه الرؤية ، وذكر بعضهم أن موسى كان يرى اللّه تعالى إلا أنه لم يعلم أن ما رآه هو - هو - وعلى هذا الطرز يحمل ما جاء في بعض الروايات المطعون بها ، رأيت ربي في صورة شاب ، وفي بعضها زيادة له نعلان من ذهب ، ومن الناس من حمل الرؤية في رواية الدارقطني على الرؤية المنامية ، وظاهر كلام السيوطي أن الكيفية فيها لا تضر وهو الذي سمعته من المشايخ قدس اللّه تعالى أسرارهم ، والمسألة خلافية ، وإذا صح ما قاله المشايخ وأفهمه كلام السيوطي فأنا ، وللّه تعالى الحمد ، قد رأيت ربي مناما ثلاث مرات وكانت المرة الثالثة في السنة السادسة والأربعين والمائتين والألف بعد الهجرة ، رأيته جل شأنه وله من النور ما له متوجها جهة المشرق فكلمني بكلمات أنسيتها حين استيقظت ، ورأيت مرة في منام طويل كأني في الجنة بين يديه تعالى وبيني وبينه ستر حبيك بلؤلؤ مختلف ألوانه فأمر سبحانه أن يذهب بي إلى مقام عيسى عليه السلام ثم مقام محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فذهب بي إليهما فرأيت ما رأيت وللّه تعالى الفضل والمنة.
ومنهم من حمل الصورة على ما به التميز والمراد بها ذاته تعالى المخصوصة المنزهة عن مماثلة ما عداه من

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 51
الأشياء البالغة إلى أقصى مراتب الكمال ، وما ذكره من البيتين لبعض العدلية فهو في ذلك عثيثة تقرم جلدا أملسا والقول ما قاله تاج الدين السبكي فيهم :
عجبا لقوم ظالمين تلقبوا بالعدل ما فيهم لعمري معرفه
قد جاءهم من حيث لا يدرونه تعطيل ذات اللّه مع نفي الصفة
وتلقبوا عدلية قلنا نعم عدلوا بربهم فحسبهم سفه
وقال ابن المنير :
وجماعة كفروا برؤية ربهم هذا ووعد اللّه ما لن يخلفه
وتلقبوا عدلية قلنا أجل عدلوا بربهم فحسبوهم سفه
وتنعتوا الناجين كلا إنهم إن لم يكونوا في لظى فعلى شفه
وبعد هذا كله نقول : إن الناس قد اختلفوا في أن موسى عليه السلام هل رأى ربه بعد هذا الطلب أم لا ، فذهب أكثر الجماعة إلى أنه عليه السلام لم يره لا قبل الصعق ولا بعده. وقال الشيخ الأكبر قدس سره : إنه رآه بعد الصعق وكان الصعق موتا ، وذكر قدس سره أنه سأل موسى عن ذلك فأجابه بما ذكر ، والآية عندي غير ظاهرة في ذلك ، وإلى الرؤية بعد الصعق ذهب القطب الرازي في تقرير كلام للزمخشري ، إلا أن ذلك على احتمال أن تفسر بالانكشاف التام الذي لا يحصل إلا إذا كانت النفس فانية مقطوعة النظر عن وجودها فضلا عن وجود الغير فانه قال : إن موسى عليه السلام لما طلب هذه المرتبة من الانكشاف وعبر عن نفسه بأنا دل على أن نظره كان باقيا على نفسه وهي لا تكون كذلك إلا متعلقة بالعلائق الجسمانية مشوبة بالشوائب المادية لا جرم منع عنه هذه المرتبة وأشير إلى أن منعها إنما كان لأجل بقاء أنا وأنت في قوله : أرني ولن تراني ، ثم لما لم يرد حرمانه عن حصول هذه المرتبة مع استعداده وتأهله لها علم طريق المعرفة بقوله سبحانه : وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فإن الجبل مع عدم تعلقه لما لم يطق نظرة من نظرات التجلي فموسى عليه السلام مع تعلقه كيف يطيق ذلك فلما أدرك الرمز خر صعقا مغشيا عليه متجردا عن العلائق فانيا عن نفسه فحصل له المطلوب فلما أفاق علم أن طلبه الرؤية في تلك الحالة التي كان عليها كان سوء أدب فتاب عنه.
وذهب الشيخ إبراهيم الكوراني إلى أنه عليه السلام رأى ربه سبحانه حقيقة قبل الصعق فصعق لذلك كما دك الجبل للتجلي ، وأيده بما
أخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «لما تجلى اللّه تعالى لموسى عليه السلام كان يبصر دبيب النملة على الصفا في الليلة الظلماء من مسيرة عشرة فراسخ ،
وبما
أخرجه عن أبي معشر أنه قال : مكث موسى عليه السلام أربعين ليلة لا ينظر إليه أحد إلا مات من نور رب العالمين»
وجمع بين هذا وبين
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم «إن اللّه تعالى أعطى موسى الكلام وأعطاني الرؤية وفضلني بالمقام المحمود والحوض المورود»
بأن الرؤية التي أعطاها لنبينا صلّى اللّه عليه وسلّم هي الرؤية مع الثبات والبقاء من غير صعق كما أن الكلام الذي أعطاه موسى كذلك بخلاف رؤية موسى عليه السلام فإنها لم تجمع له مع البقاء. وعلى هذا فمعنى
قوله عليه الصلاة والسلام في حديث الدجال «إنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت هو أن أحدا لا يراه في الدنيا مع البقاء ولا يجمع له في الدنيا بينهما»
وفسر الآية بما لا يخلو عن خفاء.
والذاهبون إلى عدم الرؤية مطلقا يجيبون عما ذكره من حديث أبي هريرة وخبر أبي معشر بأن الثاني ليس فيه أكثر من إثبات سطوع نور اللّه تعالى على وجه موسى عليه السلام وليس في ذلك إثبات الرؤية لجواز أن يشرق نور منه

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 52
تعالى على وجهه عليه السلام من غير رؤية فإنه لا تلازم بين الرؤية وإشراق النور وبأن الأول ليس نصا في ثبوت الرؤية المطلوبة له عليه السلام لأنها كما قال غير واحد عبارة عن التجلي الذاتي وللّه تعالى تجليات شتى غير ذلك فلعل التجلي الذي أشار إليه الحديث على تقدير صحة واحد منها ، وقد يقطع بذلك فإنه سبحانه تجلى عليه عليه السلام بكلامه واصطفائه وقربه منه على الوجه الخاص اللائق به تعالى ، ولا يبعد أن يكون هذا سببا لذلك الإبصار ، وهذا أولى مما قيل : إن اللام في لموسى للتعليل ومتعلق تجلى محذوف أي لما تجلى اللّه تعالى للجبل لأجل إرشاد موسى كان عليه السلام يبصر بسبب إشراق بعض أنواره تعالى عليه حين التجلي للجبل ما يبصر.
تضوع مسكا بطن نعمان إذ مشت به زينب في نسوة خفرات
فالحق الذي لا ينبغي المحيص عنه أن موسى عليه السلام لم يحصل له ما سأل في هذا الميقات ، والذي أقطع به أنه نال مقام قرب النوافل والفرائض الذي يذكره الصوفية قدس اللّه تعالى أسرارهم بالمعنى الذي يذكرونه كيفما كان ، وحاشا للّه من أن أفضل أحدا من أولياء هذه الأمة وإن كانوا هم - هم - على أحد من أنبياء بني إسرائيل فضلا عن رسلهم مطلقا فضلا عن أولي العزم منهم «وقد ذكر بعض العارفين من باب الإشارة في هذه الآيات» أن اللّه تعالى واعد موسى عليه السلام ثلاثين ليلة للتخلص من حجاب الأفعال والصفات والذات كل عشرة للتخلص من حجاب ، واختيرت العشرة لأنها عدد كامل كما تقدم الكلام عليه عند قوله سبحانه : تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ، لكن بقيت منه بقية ما خلص عنها ، واستعمال السواك في الثلاثين الذي نطقت به بعض الآثار إشارة إلى ذلك فضم إلى الثلاثين عشرة أخرى للتخلص من تلك البقية ، وجاء أنه عليه السلام أمر بأن يتقرب إليه سبحانه بما يتقرب به في ثلاثين ، وأنزلت عليه التوراة في العشرة التي ضمت إليها لتكمل أربعين ، وهو إشارة إلى أنه بلغ الشهود الذاتي التام في الثلاثين بالسلوك إلى اللّه تعالى ولم يبق منه شيء بل فني بالكلية وفي العشرة الرابعة كان سلوكه في اللّه تعالى حتى رزق البقاء بعد الفناء بالإفاقة ، قالوا : وعلى هذا ينبغي أن يكون سؤال الرؤية في الثلاثين والإفاقة بعدها ، وكان التكليم في مقام تجلي الصفات وكان السؤال عن افراط شوق منه عليه السلام إلى شهود الذات في مقام فناء الصفات مع وجود البقية ، ولَنْ تَرانِي إشارة إلى استحالة الاثنينية وبقاء الإنية في مقام المشاهدة ، وهذا معنى قول من قال : رأيت ربي بعين ربي ، وقوله سبحانه : وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ إشارة إلى جبل الوجود ، أي انظر إلى جبل وجودك فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي وهو من باب التعليق بالمحال عنده فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ
لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا أي متلاشيا لا وجود له وَخَرَّ مُوسى عن درجة الوجد صَعِقاً أي فانيا فَلَمَّا أَفاقَ بالوجود الموهوب الحقاني قالَ سُبْحانَكَ أن تكون مرئيا لغيرك تُبْتُ إِلَيْكَ عن ذنب البقية ، أو رجعت إليك بحسب العلم والمشاهدة إذ ليس في الوجود سواك وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بحسب الرتبة ، أي أنا في الصف الأول من صفوف مراتب الأرواح الذي هو مقام أهل الوحدة ، وقد يقال : إن موسى إشارة إلى موسى الروح ارتاض أربعين ليلة لتظهر منه ينابيع الحكمة وقال لأخيه هارون القلب اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي من الأوصاف البشرية وَأَصْلَحَ ذات بينهم على وفق الشريعة وقانون الطريقة وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ من القوى الطبيعية ، ولما حصل الروح على بساط القرب بعد هاتيك الرياضة وتتابعت عليه في روضات الأنس كاسات المحبة غرد بلبل لسانه في قفص فم وجوده فقال : رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ فقال له : هيهات ذاك وأين الثريا من يد المتناول؟ أنت بعد في بعد الاثنينية وحجاب جبل الأنانية فإن أردت ذلك فخل نفسك وائتني.
وجانب جناب الوصل هيهات لم يكن وها أنت حي ان تكن صادقا مت

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 53
هو الحب إن لم تقض لم تقض مأربا من الحب فاختر ذاك أو خل خلتي
فهان عليه الفناء في جانب رؤية المحبوب ولم يعز لديه كل شيء إذ رأى عزة المطلوب.
ونادي :
فقلت لها : روحي لديك وقبضها إليك ومن لي أن تكون بقبضتي
وما أنا بالشاني الوفاء على الهوى وشأني الوفا تأبى سواه سجيتي
فبذل وجوده وأعطى موجوده فتجلى ربه لجبل أنانيته ثم منّ عليه برؤيته وكان ما كان وأشرقت الأرض بنور ربها وطفىء المصباح إذ طلع الصباح وصدح هزار الأنس في رياض القدس بنغم.
ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا سر أرقّ من النسيم إذا سرى
وأباح طرفي نظرة أملتها فغدوت معروفا وكنت منكرا
فدهشت بين جماله وجلاله وغدا لسان الحال عني مخبرا
هذا والكلام في الرؤية طويل ، وقد تكفل علم الكلام بتحقيق ذلك على الوجه الأكمل ، والذي علينا إنما هو كشف القناع عما يتعلق بالآية ، والذي نظنه أنا قد أدينا الواجب ، ويكفي من القلادة ما أحاط بالجيد ، واللّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل قالَ يا مُوسى استئناف مسوق لتسليته عليه السلام من عدم الإجابة إلى سؤاله على ما اقتضته الحكمة كأنه قيل : إن منعتك الرؤية فقد أعطيتك من النعم العظام ما أعطيتك فاغتنمه وثابر على شكره إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ أي اخترتك وهو افتعال من الصفوة بمعنى الخيار والتأكيد للاعتناء بشأن الخبر عَلَى النَّاسِ الموجودين في زمانك وهذا كما فضل قومه على عالمي زمانهم في قوله سبحانه : يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [البقرة : 47 ، 122] بِرِسالاتِي أي بأسفار التوراة. وقرأ أهل الحجاز وروح برسالتي وَبِكَلامِي أي بتكليمي إياك بغير واسطة.
أو الكلام على حذف مضاف أي بإسماع كلامي والمراد فضلتك بمجموع هذين الأمرين فلا يرد هارون عليه السلام لأنه لم يكن كليما على أن رسالته كانت تبعية أيضا وكان مأمورا باتباع موسى عليه السلام وكذلك لا يرد السبعون الذين كانوا معه عليه السلام في هذا الميقات في قول لأنهم وإن سمعوا الخطاب إلا أنهم ليس لهم من الرسالة شيء على أن المقصود بالتكليم الموجه إليه الخطاب هو موسى عليه السلام دونهم وبتخصيص الناس بما علمت خرج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فلا يرد أن مجموع الرسالة والتكليم بغير واسطة وجد له عليه الصلاة والسلام أيضا على الصحيح ، على أنا لو قلنا بأن التكليم بغير واسطة مخصوص به عليه السلام من بين الأنبياء صلّى اللّه عليه وسلّم لا يلزم منه تفضيله من كل الوجوه على غيره كنبينا عليه الصلاة والسلام فقد يوجد في الفاضل ما لا يوجد في الأفضل وإنما كان الكلام بلا واسطة سببا للشرف بناء على العرف الظاهر وقد قالوا شتان بين من اتخذه الملك لنفسه حبيبا وقربه إليه بلطفه تقريبا وبين من ضرب له الحجاب والحجاب وحال بينه وبين المقصود بواب ونواب ، على أن من ذاق طعم المحبة ولو بطرف اللسان يعلم ما في تكليم المحبوب بغير واسطة من اللطف العظيم والبر الجسيم ، وكلامه جل شأنه لموسى عليه السلام في ذلك الميقات كثير على ما دلت عليه الآثار ، وقد سبق لك ما يدل على كميته من حديث أبي هريرة. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، والبيهقي من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «إن اللّه تعالى شأنه ناجى موسى عليه السلام بمائة ألف وأربعين ألف كلمة في ثلاثة أيام فلما سمع كلام الآدميين مقتهم لما وقع في مسامعه من كلام الرب عزّ وجلّ فكان فيما ناجاه أن قال : يا موسى إنه لم يتصنع المتصنعون بمثل الزهد في الدنيا ولم يتقرب إلي المتقربون بمثل الورع عما حرمت عليهم

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 54
ولم يتعبد المتعبدون بمثل البكاء من خشيتي فقال موسى : يا رب وإله البرية كلها ويا مالك يوم الدين ويا ذا الجلال والإكرام ماذا أعددت لهم وماذا جزيتهم؟ قال : أما الزاهدون في الدنيا فإني أبيحهم جنتي حتى يتبؤوا فيها حيث شاؤوا وأما الورعون عما حرمت عليهم فإذا كان يوم القيامة لم يبق عبد إلا ناقشته الحساب وفتشت عما في يديه إلا الورعون فإني أجلّهم وأكرمهم وأدخلهم الجنة بغير حساب ، وأما الباكون من خشيتي فأولئك لهم الرفيق الأعلى لا يشاركهم فيه أحد».
وأخرج آدم بن أبي إياس في كتاب العلم عن ابن مسعود قال : لما قرب اللّه تعالى موسى نجيا أبصر في ظل العرش رجلا فغبطه بمكانه فسأله عنه فلم يخبره باسمه وأخبره بعلمه فقال له : هذا رجل كان لا يحسد الناس على ما أتاهم اللّه تعالى من فضله ، برا بالوالدين ، لا يمشي بالنميمة ثم قال اللّه تعالى : يا موسى ما جئت تطلب؟ قال : جئت أطلب الهدى يا رب. قال : قد وجدت يا موسى. فقال : رب اغفر لي ما مضى من ذنوبي وما غبر وما بين ذلك وما أنت أعلم به مني وأعوذ بك من وسوسة نفسي وسوء عملي فقيل له : قد كفيت يا موسى. قال : يا رب أي العمل أحب إليك أن أعمله؟ قال : اذكرني يا موسى. قال : رب أي عبادك أتقى؟ قال : الذي يذكرني ولا ينساني. قال : رب أي عبادك أغنى؟ قال : الذي يقنع بما يؤتى. قال : رب أي عبادك أفضل؟ قال : الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى. قال : رب أي عبادك أعلم؟ قال : الذي يطلب علم الناس إلى علمه لعله يسمع كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردى. قال : رب أي عبادك أحب إليك عملا؟ قال : الذي لا يكذب لسانه ، ولا يزني فرجه ، ولا يفجر قلبه. قال : رب ثم أي على أثر هذا؟ قال : قلب مؤمن في خلق حسن. قال : رب أي عبادك أبغض إليك؟ قال : قلب كافر في خلق سيء. قال : رب ثم أي على أثر هذا؟ قال : جيفة بالليل بطال بالنهار ،
وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات. وأبو يعلى وابن حبان والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : قال موسى : يا رب علمني شيئا أذكرك به وأدعوك به؟ قال : قل يا موسى لا إله إلا اللّه. قال : يا رب كل عبادك يقول هذا. قال : قل لا إله إلا اللّه. قال : لا إله إلا أنت يا رب. إنما أريد شيئا تخصني به. قال : يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا اللّه في كفة مالت بهن لا إله إلا اللّه.
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي هريرة قال : لما ارتقى موسى طور سينا رأى الجبار في أصبعه خاتما فقال : هل مكتوب عليه شيء من أسمائي أو كلامي؟ قال : لا. قال فاكتب عليه لكل أجل كتاب.
وأخرج ابن أبي حاتم عن العلاء بن كثير قال : إن اللّه تعالى قال : يا موسى أتدري لم كلمتك؟ قال : لا يا رب قال : لأني لم أخلق خلقا تواضع لي تواضعك.
وللقصاص أخبار كثيرة موضوعة في أسئلة موسى عليه السلام ربه وأجوبته جل شأنه له لا ينبغي لمسلم التصديق بها فَخُذْ ما آتَيْتُكَ أي أعطيتك من شرف الاصطفاء وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ أي معدودا في عدادهم بأن يكون لك مساهمة كاملة فيهم ، وحاصله كن بليغ الشكر فإن ما أنعمت به عليك من أجلّ النعم.
أخرج ابن أبي شيبة عن كعب أنه قال : قال موسى عليه السلام : يا رب دلني على عمل إذا عملته كان شكرا لك فيما اصطنعت إلي ، قال : يا موسى قل لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
قال : فكأن موسى أراد من العمل ما هو أنهك لجسمه مما أمر به فقال له : يا موسى لو أن السموات السبع الخبر وهو في معنى ما في خبر أبي سعيد.
وَكَتَبْنا لَه ُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ
يحتاجون إليه من الحلال والحرام والمحاسن والقبائح على ما قال الرازي وغيره وما أخرجه الطبراني والبيهقي في الدلائل عن محمد بن يزيد الثقفي قال : اصطحب قيس بن خرشة

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 55
وكعب الأحبار حتى إذا بلغا صفين وقف كعب ثم نظر ساعة ثم قال : ليهراقن بهذه البقعة من دماء المسلمين شيء لا يهراق ببقعة من الأرض مثله فقال قيس : ما يدريك فإن هذا من الغيب الذي استأثر اللّه تعالى به؟ فقال كعب : ما من الأرض شبر إلا مكتوب في التوراة التي أنزل اللّه تعالى على موسى ما يكون عليه وما يخرج منه إلى يوم القيامة ظاهر في أن كل شيء أعم مما ذكر ، ولعل ذكر ذلك من باب الرمز كما ندعيه في القرآن مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ بدل من الجار والمجرور ، أي كتبنا له كل شيء من المواعظ وتفصيل الأحكام ، وإلى هذا ذهب غير واحد من المعربين ، وهو مشعر بأن مِنْ مزيدة لا تبعيضية ، وفي زيادتها في الإثبات كلام ، قيل : ولم تجعل ابتدائية حالا من موعظة وموعظة مفعول به لأنه ليس له كبير معنى ، ولم تجعل موعظة مفعول له وإن استوفى شرائطه لأن الظاهر عطف تفصيلا عن موعظة ، وظاهر أنه لا معنى لقولك كتبنا له من كل شيء لتفصيل كل شيء ، وأما جعله عطفا على محل الجار والمجرور فبعيد من جهة اللفظ والمعنى.
والطيبي اختار هذا العطف وأن مِنْ تبعيضية وموعظة وحدها بدل ، والمعنى كتبنا بعض كل شيء في الألواح من نحو السور والآيات وغيرهما موعظة وكتبنا فيها تفصيل كل شيء يحتاجون إليه من الحلال والحرام ونحو ذلك ، وفي ذلك اختصاص الإجمال والتفصيل بالموعظة للإيذان بأن الاهتمام بهذا أشد والعناية بها أتم ، ولكونها كذلك كثر مدح النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بالبشير النذير ، وإشعار بأن الموعظة مما يجب أن يرجع إليه في كل أمر يذكر به ، ألا يرى إلى أن أكثر الفواصل التنزيلية والردود على هذا النمط نحو أَفَلا تَتَّقُونَ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ وإلى سورة الرحمن كيف أعيد فيها ما أعيد وذلك ليستأنف السامع به ادكارا واتعاظا ويجدد تنبيها واستيقاظا ، وأنت تعلم أن البعد الذي أشرنا إليه باق على حاله ، وقوله سبحانه : لِكُلِّ شَيْءٍ إما متعلق بما عنده أو بمحذوف كما قال السمين وقع صفة له ، واختلف في عدد الألواح وفي جوهرها ومقدارها وكاتبها فقيل كانت عشرة ألواح ، وقيل : لوحين ، قال الزجاج : ويجوز أن يقال في اللغة للوحين ألواح وأنها كانت من زمرد أخضر ، أمر الرب تعالى جبريل عليه السلام فجاء بها من عدن ، وروي ذلك عن مجاهد ، وأخرج أبو الشيخ عن ابن جريج قال : أخبرت أن الألواح كانت من زبرجد ، وعن سعيد بن جبير قال : كانوا يقولون إنها كانت من ياقوتة وأنا أقول : إنها كانت من زمرد ، وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : «الألواح التي أنزلت على موسى كانت من سدر الجنة كان طول اللوح اثني عشر ذراعا»
وعن الحسن أنها كانت من خشب نزلت من السماء ، وأن طول كل عشرة أذرع ، وقيل : أمر اللّه تعالى موسى عليه السلام بقطعها من صخرة صماء لينهاله فقطعها بيده وسقفها بأصابعه ولا يخفى أن أمثال هذا يحتاج إلى النقل الصحيح وإلا فالسكوت أولى إذ ليس في الآية ما يدل عليه ، والمختار عندي أنها من خشب السدر إن صح السند إلى سلسلة الذهب ، والمشهور عن ابن جريج أن كاتبها جبريل عليه السلام كتبها بالقلم الذي كتب به الذكر ، والمروي عن علي كرم اللّه تعالى وجهه ومجاهد وعطاء وعكرمة وخلق كثير أن اللّه تعالى كتبها بيده وجاء أنها كتبت وموسى عليه السلام يسمع صريف الأقلام التي كتبت بها
وهو المأثور عن الأمير كرم اللّه تعالى وجهه. وجاء عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : خلق اللّه تعالى آدم بيده وخلق جنة عدن بيده وكتب التوراة بيده ، ثم قال لأشياء كوني فكانت ، وأخرج عبد بن حميد عن وردان بن خالد قال : خلق اللّه تعالى آدم بيده وخلق جبريل بيده وخلق القلم بيده وخلق عرشه بيده وكتب الكتاب الذي عنده لا يطلع عليه غيره بيده وكتب التوراة بيده وهذا كله من قبيل المتشابه ، وفي بعض الآثار أنها كتبت قبل الميقات وأنزلت على ما قيل وهي سبعون وقر بعير يقرأ الجزء منه في سنة لم يقرأها إلا أربعة نفر موسى ويوشع وعزير وعيسى عليهم السلام. ومما كتب فيها كما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 56
ذكر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وذكر أمته وما ادخر لهم عنده وما يسر عليهم في دينهم وما وسع عليهم فيما أحل لهم حتى إنه جاء أن موسى عليه السلام عجب من الخير الذي أعطاه اللّه تعالى محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم وأمته وتمنى أن يكون منهم.
وأخرج ابن مردويه. وأبو نعيم في الحلية وغيرهما عن جابر بن عبد اللّه قال : «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : كان فيما أعطى اللّه تعالى موسى في الألواح يا موسى لا تشرك بي شيئا فقد حق القول مني لتلفحن وجوه المشركين النار ، واشكر لي ولوالديك أقك المتالف وأنسئك في عمرك وأحيك حياة طيبة وأقلبك إلى خير منها ، ولا تقتل النفس التي حرم اللّه تعالى إلا بالحق فتضيق عليك الأرض برحبها والسماء بأقطارها وتبوء بسخطي والنار ، ولا تحلف باسمي كاذبا ولا آثما فإني لا أطهر ولا أزكى من لم ينزهني ويعظم أسمائي ، ولا تحسد الناس على ما أعطيتهم من فضلي ولا تنفس عليه نعمتي ورزقي فإن الحاسد عدو نعمتي راد لقضائي ساخط لقسمتي التي أقسم بين عبادي ومن يكون كذلك فلست منه وليس مني ، ولا تشهد بما لم يع سمعك ويحفظ عقلك ويعقد عليه قلبك فإني واقف أهل الشهادات على شهاداتهم يوم القيامة ثم سائلهم عنها سؤالا حثيثا ، ولا تزن ولا تسرق ، ولا تزن بحليلة جارك فأحجب عنك وجهي وتغلق عنك أبواب السماء ، وأحب للناس ما تحب لنفسك ، ولا تذبحن لغيري فإني لا أقبل من القربان إلا ما ذكر عليه اسمي وكان خالصا لوجهي ، وتفرغ لي يوم السبت وفرغ لي نفسك وجميع أهل بيتك ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : إن اللّه تعالى جعل السبت لموسى عليه السلام عيدا ، واختار لنا الجمعة فجعلها عيدا»
فَخُذْها بِقُوَّةٍ أي بجد وحزم قال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، والجملة على إضمار القول عطفا على كتبنا وحذف القول كثير مطرد ، والداعي لهذا التقدير كما قال العلامة الثاني رعاية المناسبة لكتبنا له لأنه جاء على الغيبة ، ولو كان بدله كتبنا لك لم يحتج إلى تقدير ، وأما حديث عطف الإنشاء على الأخبار فلا ضير فيه لأنه يجوز إذا كان بالفاء.
وقيل : هو بدل من قوله سبحانه : فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وضعف بأن فيه الفصل بأجنبي وهو جملة كتبنا المعطوفة على جملة قالَ وهو تفكيك للنظم والضمير المنصوب للألواح أو لكل شيء فإنه بمعنى الأشياء والعموم لا يكفي في عود ضمير الجماعة بدون تأويله بالجمع ، وجوز عوده للتوراة بقرينة السياق ، والقائل بالبدلية جعله عائدا إلى الرسالات والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من الفاعل أي ملتبسا بقوة ، وجوز أن يكون حالا من المفعول أي ملتبسة بقوة براهينها ، والأول أوضح ، وأن يكون صفة مفعول مطلق أي أخذا بقوة.
وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها أي أحسنها فالباء زائدة كما في قوله :
سود المحاجر لا يقرأن بالسور ويحتمل أن تكون بالباء أصلية وهو الظاهر ، وحينئذ فهي إما متعلقة بيأخذوا بتضمينه معنى يعملوا أو هو من الأخذ بمعنى السيرة ، ومنه أخذ أخذهم أي سار سيرهم وتخلق بخلائقهم كما نقول وإما متعلقة بمحذوف وقع حالا ومفعول يأخذوا محذوف أي أنفسهم كما قيل ، والظاهر أنه مجزوم في جواب الأمر فيحتاج إلى تأويل لأنه لا يلزم من أمرهم أخذهم ، أي إن تأمرهم ويوفقهم اللّه تعالى يأخذوا ، وقيل : بتقدير لام الأمر فيه بناء على جواز ذلك بعد أمر من القول أو ما هو بمعناه كما هنا ، وإضافة أفعل التفضيل هنا عند غير واحد كإضافته في زيد أحسن الناس وهي على المشهور محضة على معنى اللام ، وقيل : إنها لفظية ويوهم صنيع بعضهم أنها على معنى في وليس به ، والمعنى بأحسن الأجزاء التي فيها ، ومعنى أحسنيتها اشتمالها على الأحسن كالصبر فإنه أحسن بالإضافة إلى الانتصار ، أي مرهم يأخذوا بذلك على طريقة الندب والحث على الأفضل كقوله تعالى : وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ [الزمر : 55] أو المعنى بأحسن أحكامها والمراد به الواجبات فانها أحسن من المندوبات والمباحات أو هي والمندوبات على ما قيل فإنها أحسن من المباحات.

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 57
وقيل : إن الأحسن بمعنى البالغ في الحسن مطلقا لا بالإضافة وهو المأمور به ومقابله المنهي عنه ، وإلى هذا يشير كلام الزجاج حيث قال : أمروا بالخير ونهوا عن الشر وعرفوا ما لهم وما عليهم فقيل : وَأْمُرْ قَوْمَكَ إلخ فافعل نظيره في قولهم : الصيف أحر من الشتاء فانه بمعنى الصيف في حره أبلغ من الشتاء في برده إذ تفضيل حرارة الصيف على حرارة الشتاء غير مرادة بلا شبهة ويقال هنا : المأمور به أبلغ في الحسن من المنهي عنه في القبح.
وتفصيل ما في المقام على ما ذكره الدماميني في تعليقه على المصابيح ونقله عنه الشهاب أن لأفعل أربع حالات. إحداها وهي الحالة الأصلية أن يدل على ثلاثة أمور : الأول اتصاف من هو له بالحدث الذي اشتق منه وبهذا كان وصفا ، الثاني مشاركة مصحوبة في تلك الصفة ، الثالث مزية مرصوفة على مصحوبة فيها ، وبكل من هذين الأمرين فارق غيره من الصفات ، وثانيتها أن يخلع عنه ما امتاز به من الصفات ويتجرد للمعنى الوصفي ، وثالثتها أن تبقى عليه معانيه الثلاثة ولكن يخلع عنه قيد المعنى الثاني ويخلفه قيد آخر ، وذلك أن المعنى الثاني وهو الاشتراك كان مقيدا بتلك الصفة التي هي المعنى الأول فيصير مقيدا بالزيادة التي هي المعنى الثالث ، ألا ترى أن المعنى في قولهم العسل أحلى من الخل أن للعسل حلاوة وأن تلك الحلاوة ذات زيادة وأن زيادة حلاوة العسل أكثر من زيادة حموضة الخل ، وقد قال ذلك ابن هشام في حواشي التسهيل وهو بديع جدا ، ورابعتها أن يخلع عنه المعنى الثاني وهو المشاركة وقيد المعنى الثالث وهو كون الزيادة على مصاحبه فيكون للدلالة على الاتصاف بالحدث وعلى زيادة مطلقة لا مقيدة وذلك في نحو يوسف أحسن إخوته انتهى. وعدم اشتراك المأمور به والمنهي عنه في الحسن المراد مما لا شبهة فيه وإن كان الحسن مطلقا كما في البحر مشتركا فإن المأمور به أحسن من حيث الامتثال وترتب الثواب عليه والمنهي عنه حسن باعتبار الملاذ والشهوة. وقال قطرب كما نقله عنه محيي السنة : المعنى يأخذوا بحسنها وكلها حسن ، وهو ظاهر في حمل أفعل على الحالة الثانية ، وقيل : المعنى يأخذوا بها وأحسن صلة وليس له من القبول عائد.
وقال الجبائي : المراد يأخذوا بالناسخ دون المنسوخ ، وقيل : الأخذ بالأحسن هو أن تحمل الكلمة المحتملة لمعنيين أو لمعان على أشبه محتملاتها بالحق وأقربها للصواب ، ولا ينبغي أن يحمل الأخذ على الشروع كما في قولك أخذ زيد يتكلم أي شرع في الكلام ، والأحسن على العقائد فيكون المراد أمرهم ليشرعوا بالتحلي بالعقائد الحقة وهي لكونها أصول الدين وموقوفة عليها صحة الأعمال أحسن من غيرها من الفروع وهو متضمن لأمرهم بجميع ما فيها كما لا يخفى فإن أخذ بالمعنى المعنى من أفعال الشروع ليس هذا استعمالها المعهود في كلامهم على أن فيه بعد ما فيه ، ومثل هذا كون ضمير أحسنها عائدا إلى قوة على معنى مرهم يأخذوها بأحسن قوة وعزيمة فيكون أمرا منه سبحانه أن يأمرهم بأخذها كما أمره به ربه سبحانه إلا أنه تعالى اكتفى في أمره عن ذكر الأحسن بما أشار إليه التنوين فإن ذلك خلاف المأثور المنساق إلى الفهم مع أنا لم نجد في كلامهم أحسن قوة ومفعول يأخذوا عليه محذوف كما في بعض الاحتمالات السابقة غير أنه فرق ظاهر بين ما هنا وما هناك.
سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ توكيد لأمر القوم بالأخذ بالأحسن وبعث عليه على نهج الوعيد والترهيب بناء على ما روي عن قتادة وعطية العوفي من أن المراد بدار الفاسقين دار فرعون وقومه بمصر ورأى بصرية ، وجوز أن تكون علمية والمفعول الثالث محذوف أي سأريكم إياها خاوية على عروشها لتعتبروا وتجدوا ولا تهاونوا في امتثال الأمر ولا تعملوا أعمال أهلها ليحل بكم ما حل بهم ، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب ، وحسن موقعه قصد المبالغة في الحث وفي وضع الاراءة موضع الاعتبار إقامة السبب مقام المسبب مبالغة أيضا كقوله تعالى : قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ [النمل : 69] وفي وضع دار الفاسقين موضع أرض مصر الاشعار بالعلية والتنبيه على أن

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 58
يحترزوا ولا يستنوا بسنتهم من الفسق ، والسين للاستقبال لأن ذلك قبل الرجوع إلى مصر كما في الكشف.
وقال الكلبي : المراد بدار الفاسقين منازل عاد وثمود والقرون الذين هلكوا ، وعن الحسن وعطاء أن المراد بها جهنم ، وأيا ما كان فالكلام على النهج الأول أيضا ، ويجوز أن يكون على نهج الوعد والترغيب بناء على ما روي عن قتادة أيضا من أن المراد بدار الفاسقين أرض الجبابرة والعمالقة بالشام فإنها مما أبيح لبني إسرائيل وكتب لهم حسبما ينطق به قوله عزّ وجلّ : يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة : 21] ومعنى الإراءة الإدخال بطريق الايراث ، ويؤيده قراءة بعضهم «سأورثكم» وجوز على هذا أن يراد بالدار مصر ، وفي الكلام على هذه القراءة وإرادة أرض مصر من الدار تغليب لأن المعنى سأورثك وقومك أرض مصر ، ولا يصح ذلك عليها إذا أريد من الدار أرض الجبابرة بناء على أن موسى عليه السلام لم يدخلها وإنما دخلها مع القوم بعد وفاته عليه السلام ، ويصح بناء على القول بأن موسى عليه السلام دخلها ويوشع على مقدمته ، وجوز اعتبار التغليب على القراءة المشهورة أيضا ، وقرأ الحسن «سأوريكم» بضم الهمزة وواو ساكنة وراء خفيفة مكسورة وهي لغة فاشية في الحجاز ، والمعنى سأبين لكم ذلك وأنوره على أنه من أوريت الزند ، واختار ابن جني في تخريج هذه القراءة ولعله الأظهر أنها على الإشباع كقوله :
من حيثما سلكوا ادنو فانظروا سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ استئناف مسوق على ما قال شيخ الإسلام لتحذيرهم عن التكبر الموجب لعدم التفكر في الآيات التي كتبت في ألواح التوراة المتضمنة للمواعظ والأحكام أو ما يعمها وغيرها من الآيات التكوينية التي من جملتها ما وعدوا إراءته من دار الفاسقين ، ومعنى صرفهم عنها منعهم بالطبع على قلوبهم فلا يكادون يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها لإصرارهم على ما هم عليه من التكبر والتجبر كقوله سبحانه : فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف : 5] أي سأطبع على قلوب الذين يعدون أنفسهم كبراء ويرون أن لهم ارتفاعا في العالم السفلي ومزية على الخلق فلا ينتفعون بآياتي ولا يغتنمون مغانم آثارها فلا تسلكوا مسلكهم فتكونوا أمثالهم. وقيل : هو جواب سؤال مقدر ناشىء من الوعد بإدخال أرض الجبابرة والعمالقة على أن المراد بالآيات ما تلي آنفا ونظائره وبالصرف عنها إزالة المتكبرين عن مقام معارضتها وممانعتها لوقوع أخبارها وظهور أحكامها وظهور أحكامها وآثارها بإهلاكهم على يد موسى أو يوشع عليهما السلام ، كأنه قيل : كيف ترى دارهم وهم فيها؟ فقيل لهم : سأهلكهم ، وإنما عدل إلى الصرف ليزدادوا ثقة بالآيات واطمئنانا بها وعلى هذين القولين يكون الكلام مع موسى عليه السلام ، والآية متعلقة إما بقوله سبحانه : سَأُرِيكُمْ وإما بما تقدمه على الوجه الذي أشير إليه آنفا ، وجوز الطيبي كونها متصلة بقوله تعالى : وَأْمُرْ إلخ على معنى الأمر كذلك وأما الإرادة فإني سأصرف عن الأخذ بآياتي أهل الطبع والشقاوة ، وقيل :
الكلام مع كافري مكة والآية متصلة بقوله عن شأنه : أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها [الأعراف :
100] الآية ، وإيراد قصة موسى عليه السلام وفرعون للاعتبار أي سأصرف المتكبرين عن إبطال الآيات وإن اجتهدوا كما فعل فرعون فعاد عليه فعله بعكس ما أراد ، وقيل : إن الآية على تقدير كون الكلام مع قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم اعتراض في خلال ما سيق للاعتبار ومن حق من ساق قصة له أن ينبه على مكانه كلما وجد فرصة التمكن منه ، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لإظهار الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر مع أن في المؤخر نوع طول يخل تقديمه بتجاوب أطراف النظم الجليل ، واحتج بالآية بعض أصحابنا على أن اللّه تعالى قد يمنع عن الإيمان ويصد عنه وهو ظاهر على تقدير أن يراد بالصرف المنع عن الإيمان وليس بمتعين كما علمت ، وقد خاض المعتزلة في تأويلها فأولوها بوجوه ذكرها الطبرسي بِغَيْرِ الْحَقِّ إما صلة للتكبر على معنى يتكبرون ويتعززون بما ليس بحق وهو دينهم الباطل

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 59
وظلمهم المفرط أو متعلق بمحذوف هو حال من فاعله أي يتكبرون ملتبسين بغير الحق وما له يتكبرون غير محقين لأن التكبر بحق ليس إلا للّه تعالى كما
في الحديث القدسي الذي أخرجه أبو داود عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني في واحد منهما قذفته في النار».
وقيل : المراد أنهم يتكبرون على من لا يتكبر كالأنبياء عليهم السلام لأنه الذي يكون بغير حق ، وأما التكبر على المتكبر صدقة ، وأنت تعلم أن هذا صورة تكبر لا تكبر حقيقة فلعل مراد هذا القائل : إن التقييد بما ذكر لاظهار أنهم يتكبرون حقيقة.
وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها عطف على يتكبرون داخل معه في حكم الصلة ، والمراد بالآية إما المنزلة فالمراد برؤيتها مشاهدتها والإحساس بها بسماعها أو ما يعمها وغيرها من المعجزات ، فالمراد برؤيتها مطلق المشاهدة المنتظمة للسماع والإبصار ، وفسر بعضهم الآيات فيما تقدم بالمنصوبة في الآفاق والأنفس ، والآية هنا بالمنزلة أو المعجزة لئلا يتوهم الدور على ما قيل فليفهم ، وجوز أن يكون عطفا على سأصرف للتعليل على منوال قوله سبحانه :
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ [النمل : 15] على رأي صاحب المفتاح ، وأيا ما كان فالمراد عموم النفي لا نفي العموم أي كفروا بكلّ أية آية وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ أي طريق الهدى والسداد لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا أي لا يتوجهون إليه ولا يسلكونه أصلا لاستيلاء الشيطنة عليهم.
وقرأ حمزة والكسائي «الرّشد» بفتحتين ، وقرىء «الرشاد» وثلاثها لغات كالقسم والسقم والسقام ، وفرق أبو عمرو كما قال الجبائي بين الرشد والرشد بأن الرشد بالضم الصلاح في الأمر والرشد بالفتح الاستقامة في الدين ، والمشهور عدم الفرق وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ أي طريق الضلال يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا أي يختارونه لأنفسهم مسلكا مستمرا لا يكادون يعدلون عنه لموافقته لأهوائهم وإفضائه بهم إلى شهواتهم ذلِكَ أي المذكور من التكبر وعدم الإيمان بشيء من الآيات وإعراضهم عن سبيل الهدى وإقبالهم التام إلى سبيل الضلال حاصل بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة علىبطلان ما اتصفوا به من القبائح وعلى حقية أضدادها وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ غير معتدين بها فلا يتكفرون فيها وإلا لما فعلوا ما فعلوا من الأباطيل ، وجوز غير واحد أن يكون ذلك إشارة إلى الصرف ، وما فيه البحث يدفع بأدنى عناية كما لا يخفى على من مدت إليه العناية أسبابها ، وأيا ما كان فاسم الإشارة مبتدأ والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبرا عنه كما أشرنا إليه.
وقيل : محل اسم الإشارة النصب على المصدر أي سأصرفهم ذلك الصرف بسبب تكذيبهم بآياتنا وغفلتهم عنها ، ولا مانع من كون العامل أصرف المقدم لأن الفاصل ليس بأجنبي وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ أي لقائهم الدار الآخرة على أنه من إضافة المصدر إلى المفعول وحذف الفاعل أو لقائهم ما وعده اللّه تعالى في الآخرة من الجزاء على أن الإضافة إلى الظرف على التوسع. والمفعول مقدر كالفاعل ومحل الموصول في الاحتمالين الرفع على الابتداء ، وقوله تعالى : حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ خبره أي ظهر بطلان أعمالهم التي كانوا عملوها من صلة الأرحام وإغاثة الملهوفين بعد ما كانت مرجوة النفع على تقدير إيمانهم بها ، وحاصله أنهم لا ينتفعون بأعمالهم وإلا فهي أعراض لا تحبط حقيقة هَلْ يُجْزَوْنَ أي لا يجزون يوم القيامة.
إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي إلا جزاء ما استمروا على عمله من الكفر والمعاصي وتقدير هذا المضاف لظهور أن المجزى ليس نفس العمل ، وقيل : إن أعمالهم تظهر في صور ما يجزون به فلا حاجة إلى التقدير ، وهذه الجملة مستأنفة ، وقيل : هي الخبر والجملة السابقة في موضع الحال بإضمار قد ، واحتجت الأشاعرة على ما قيل بهذه الآية

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 60
على فساد قول أبي هاشم أن تارك الواجب يستحق العقاب وإن لم يصدر عنه فعل الضد لأنها دلت على أنه لا جزاء إلا على عمل وترك الواجب ليس به.
وأجاب أبو هاشم بأني لا أسمي ذلك العقاب جزاء ، ورد بأن الجزاء ما يجزي أي يكفي في المنع عن المنهي عنه والحث على المأمور به والعقاب على ترك الواجب كاف في الزجر عن ذلك الترك فكان جزاء.
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد ذهابه إلى الجبل لمناجاة ربه سبحانه مِنْ حُلِيِّهِمْ جمع حلي كثدي وثدي وهو ما يتخذ للزينة ويتحلى به من الذهب والفضة ، والجار والمجرور متعلق باتخذ كمن بعده من قبله ولا ضير في ذلك لاختلاف معنى الجارين فإن الأول للابتداء والثاني للتبعيض ، وقيل : للابتداء أيضا ، وتعلقه بالفعل بعد تعلق الأول به واعتباره معه ، وقيل : الجار الثاني متعلق بمحذوف وقع حالا مما بعده إذ لو تأخر لكان صفة له ، وإضافة الحلي إلى ضمير القوم لأدنى ملابسة لأنها كانت للقبط فاستعاروها منهم قبيل الغرق فبقيت في أيديهم وقيل : إنها على ما يتبادر منها بناء على أن القوم ملكوها بعد أن ألقاها البحر على الساحل بعد غرق القبط أو بعد أن استعاروها منهم وهلكوا. قال الإمام : روي أنه تعالى لما أراد إغراق فرعون وقومه لعلمه أنه لا يؤمن أحد منهم أمر موسى عليه السلام بني إسرائيل أن يستعيروا حلي القبط ليخرجوا خلفهم لأجل المال أو لتبقى أموالهم في أيديهم.
واستشكل ذلك بكونه أمرا بأخذ مال الغير بغير حق ، وإنما يكون غنيمة بعد الهلاك مع أن الغنائم لم تكن حلالا لهم
لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي أحلت لي الغنائم» الحديث
على أن ما نقل عن القوم في سورة [طه : 87] من قولهم : حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ يقتضي عدم الحل أيضا.
وأجيب بأن ذلك أن تقول : إنهم لما استعبدوهم بغير حق واستخدموهم وأخذوا أموالهم وقتلوا أولادهم ملكهم اللّه تعالى أرضهم وما فيها ، فالأرض للّه تعالى يورثها من يشاء من عباده ، وكان ذلك بوحي من اللّه تعالى لا على طريق الغنيمة ، ويكون ذلك على خلاف القياس وكم في الشرائع مثله ، والقول المحكي سيأتي إن شاء اللّه تعالى ما فيه ، وهذه الجملة كما قال الطيبي عطف على قوله سبحانه : وَواعَدْنا مُوسى عطف قصة على قصة.
وقرأ حمزة والكسائي «حليهم» بكسر الحاء اتباعا لكسر اللام كدلي وبعض «حليهم» على الافراد وقوله سبحانه :
عِجْلًا مفعول اتخذ بمعنى صاغ وعمل ، أخر عن المجرور لما مر آنفا ، وقيل : إن اتخذ متعد إلى اثنين وهو بمعنى صير والمفعول الثاني محذوف أي إلها ، والعجل ولد البقر خاصة وهذا كما يقال لولد الناقة حوار ولولد الفرس مهر ولولد الحمار جحش ولولد الشاة حمل ولولد العنز جدي ولولد الأسد شبل ولولد الفيل دغفل ولولد الكلب جرو ولولد الظبي خشف ولولد الاروية غفر ولولد الضبع فرغل ولولد الدب ديسم ولولد الخنزير خنوص ولولد الحية حربش ولولد النعام رأل ولولد الدجاجة فروج ولولد الفأر درص ولولد الضب حسل إلى غير ، والمراد هنا ما هو على صورة العجل.
وقوله تعالى : جَسَداً بدل من عجلا أو عطف بيان أو نعت له بتأويل متجسدا ، وفسر ببدن ذي لحم ودم ، قال الراغب : الجسد كالجسم لكنه أخص منه ، وقيل : إنه يقال لغير الإنسان من خلق الأرض ونحوه ، ويقال أيضا لما له لون والجسم لما لا يبين له لون كالهواء ، ومن هنا على ما قيل قيل للزعفران الجساد ولما أشبع صبغه من الثياب مجسد ، وجاء المجسد أيضا بمعنى الأحمر ، وبعض فسر الجسد به هنا فقال : أي أحمر من ذهب لَهُ خُوارٌ هو صوت البقر خاصة كالثغاء للغنم واليعار للمعز والنبيب للتيس والنباح للكلب والزئير للأسد والعواء والوعوعة للذئب والضباح للثعلب والقباع للخنزير والمواء للهرة ، والنهيق والسحيل للحمار والصهيل والضبح والقنع والحمحمة للفرس والرغاء للناقة والصنى للفيل والبتغم للظبي والضغيب للأرنب والعرار للظليم والصرصرة للبازي والعقعقة للصقر والصفير

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 61
للنسر والهدير للحمام والسجع للقمري والسقسقة للعصفور والنعيق والنعيب للغراب والصقاء والزقاء للديك والقوقاء والنقيقة للدجاجة والفحيح للحية والنقيق للضفدع والصئي للعقرب والفأرة والصرير للجراد إلى غير ذلك.
وعن علي كرم اللّه تعالى وجهه أنه قرأ «جؤار»
بجيم مضمومة وهمزة ، وهو الصوت الشديد ، ومثله الصياح والصراخ. والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبرا مقدما وخوار مبتدأ ، والجملة في موضع النعت لعجلا.
روي أن السامري لما صاغ العجل ألقى في فمه من تراب أثر فرس جبريل عليه السلام فصار حيا ،
وذكر بعضهم في سر ذلك أن جبريل عليه السلام لكونه الروح الأعظم سرت قوة منه إلى ذلك التراب أثرت ذلك الأثر بإذن اللّه تعالى لأمر يريده عزّ وجلّ ، ولا يلزم من ذلك أن يحيا ما يطؤه بنفسه عليه السلام لأن الأمر مربوط بالإذن وهو إنما يكون بحسب الحكم التي لا يعلمها إلا الحكيم الخبير فتدبر. وإلى القول بالحياة ذهب كثير من المفسرين ، وأيد بأن الخوار إنما يكون للبقر لا لصورته ، وبأن ما سيأتي إن شاء اللّه تعالى في سورة طه كالصريح فيما دل عليه الخبر. وقال جمع من مفسري المعتزلة : إن العجل كان بلا روح وكان السامري قد صاغه مجوفا ووضع في جوفه أنابيب على شكل مخصوص وجعله في مهب الريح فكانت تدخل في تلك الأنابيب فيسمع لها صوت يشبه خوار العجل ولذلك سمي خوارا. وما في طه سيأتي إن شاء اللّه تعالى الكلام فيه. واختلف في هذا الخوار فقيل : كان مرة واحدة ، وقيل :
كان مرات كثيرة ، وكانوا كلما خار سجدوا له وإذا سكت رفعوا رؤوسهم. وعن السدي أنه كان يخور ويمشي. وعن وهب نفى الحركة ، والآية ساكتة عن إثباتها ، وليس في الأخبار ما يعول عليه فالتوقف عن إثبات المشي أولى ، وليست هذه المسألة من المهمات ، وإنما نسب الاتخاذ إلى قوم موسى عليه السلام وهو فعل السامري لأنهم رضوا به وكثيرا ما ينسب الفعل إلى قوم مع وقوعه من واحد منهم فيقال : قتل بنو فلان قتيلا والقاتل واحد منهم ، وقيل : لأن المراد اتخاذهم إياه إلها ، فالمعنى صيروه إلها وعبدوه ، وحينئذ لا تجوز في الكلام لأن العبادة له وقعت منهم جميعا.
قال الحسن : كلهم عبدوا العجل إلا هارون عليه السلام ، واستثنى آخرون غيره معه ، وعلى القول قيل : لا بد من تقدير فعبدوه ليكون ذلك مصب الإنكار لأن حرمة التصوير حدثت في شرعنا على المشهور ولأن المقصود إنكار عبادته أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا تقريع لهم وتشنيع على فرط ضلالهم وإخلالهم بالنظر ، أي ألم يروا أنه لا يقدر على ما يقدر عليه آحاد البشر من الكلام وإرشاد السبيل بوجه من الوجوه فكيف عدلوه بخالق الأجسام والقوى والقدر ، وجعله بعضهم تعريضا بالإله الحق وكلامه الذي لا ينفد وهدايته الواضحة التي لا تجحد ، وقيل : إنه تعريض باللّه تعالى وبكلامه مع موسى عليه السلام وهدايته لقومه اتَّخَذُوهُ تكرار لجميع ما سلف من الاتخاذ على الوجه المخصوص المشتمل على الذم ، وهو من باب الكناية على أسلوب. أن يرى مبصر ويسمع واع أي أقدموا على ما أقدموا عليه من الأمر المنكر.
وَكانُوا ظالِمِينَ اعتراض تذييلي أي إن دأبهم قبل ذلك الظلم ووضع الأشياء في غير موضعها فليس ببدع منهم هذا المنكر العظيم ، وكرر الفعل ليبني عليه ذلك ، وقيل : الجملة في موضع الحال أي اتخذوه في هذه الحالة المستمرة لهم وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ أي ندموا كما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وجعله غير واحد كناية عن شدة الندم وغايته لأن النادم إذا اشتد نومه عض يده غما فتصير يده مسقوطا فيها ، وأصله سقط فوه أو عضه في يده أي وقع ثم حذف الفاعل وبني الفعل للمفعول به فصار سقط في يده كقولك : مر بزيد ، وقرأ ابن السميفع سقط بالبناء للفاعل على الأصل ، واليد على ما ذكر حقيقة ، وقال الزجاج : معناه سقط الندم في أنفسهم وجعل القطب ذلك من باب الاستعارة التمثيلية حيث شبه حال الندم في النفس بحال الشيء في اليد في التحقيق والظهور ثم عبر عنه بالسقوط في

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 62
اليد ولا لطف للاستعارة التصريحية فيه ، وقال الواحدي : إنه يقال لما يحصل وإن لم يكن في اليد وقع في يده وحصل في يده مكروه فيشبه ما يحصل في النفس وفي القلب بما يرى بالعين ، وخصت اليد لأن مباشرة الأمور بها كقوله تعالى :
ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ [الحج : 10] أو لأن الندم يظهر أثره بعد حصوله في القلب في اليد لعضها والضرب بها على أختها ونحو ذلك فقد قال سبحانه في النادم : فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ [الكهف : 42] وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ [الفرقان :
27] ، وقيل : من عادة النادم أن يطأطىء رأسه ويضع ذقنه على يده بحيث لو أزالها سقط على وجهه فكأن اليد مسقوط فيها ، وفِي بمعنى على ، وقيل : هو من السقاط وهو كثرة الخطأ ، وقيل : من السقيط وهو ما يغشى الأرض بالغدوات شبه الثلج لا ثبات له ، فهو مثل لمن خسر في عاقبته ولم يحصل على طائل من سعيه ، وعد بعضهم سقط من الأفعال التي لا تتصرف كنعم وبئس.
وقرأ ابن أبي عبلة «أسقط» على أنه رباعي مجهول وهي لغة نقلها الفراء والزجاج ، وذكر بعضهم أن هذا التركيب لم يسمع قبل نزول القرآن ، ولم تعرفه العرب ، ولم يوجد في أشعارهم وكلامهم فلذا خفي على الكثير وأخطؤوا في استعماله كأبي حاتم وأبي نواس ، وهو العالم النحرير ولم يعلموا ذلك ولو علموه لسقط في أيديهم وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا أي تبينوا ضلالهم باتخاذ العجل وعبادته تبينا كأنهم قد أبصروه بعيونهم قيل : وتقديم ذكر ندمهم على هذه الرؤية مع كونه متأخرا عنها للمسارعة إلى بيانه والإشعار بغاية سرعته كأنه سابق على الرؤية.
وقال القطب في بيان تأخر تبين الضلال عن الندم مع كونه سابقا عليه : إن الانتقال من الجزم بالشيء إلى تبين الجزم بالنقيض لا يكون دفعيا في الأغلب بل إلى الشك ثم الظن بالنقيض ثم الجزم به ثم تبينه ، والقوم كانوا جازمين بأن ما هم عليه صواب والندم عليه ربما وقع لهم في حال الشك فيه فقد تأخر تبين الضلال عنه انتهى ، فافهم ولا تغفل قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا بإنزال التوبة المكفرة وَيَغْفِرْ لَنا بالتجاوز عن خطيئتنا ، وتقديم الرحمة على المغفرة مع أن التخلية حقها أن تقدم على التحلية قيل : إما للمسارعة إلى ما هو المقصود الأصلي وإما لأن المراد بالرحمة مطلق إرادة الخير بهم وهو مبدأ لإنزال التوبة المكفرة لذنوبهم ، واللام في لَئِنْ موطئة للقسم أي واللّه لئن إلخ ، وفي قوله سبحانه : لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ لجواب القسم كما هو المشهور.
وقرأ حمزة والكسائي «ترحمنا وتغفر لنا» بالتاء الفوقية و«ربنا» بالنصب على النداء ، وما حكي عنهم من الندامة والرؤية والقول كان بعد رجوع موسى عليه السلام من الميقات كما ينطق به ما سيأتي إن شاء اللّه تعالى في طه ، وقدم ليتصل ما قالوه بما فعلوه وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ مما حدث منهم أَسِفاً أي شديد الغضب كما قال أبو الدرداء ومحمد القرظي وعطاء والزجاج أو حزينا على ما روي عن ابن عباس والحسن وقتادة رضي اللّه تعالى عنهم ، وقال أبو مسلم : الغضب والأسف بمعنى والتكرير للتأكيد.
وقال الواحدي : هما متقاربان فإذا جاءك ما تكره ممن هو دونك غضبت وإذا جاءك ممن فوقك حزنت ، فعلى هذا كان موسى عليه السلام غضبان على قومه باتخاذهم العجل حزينا لأن اللّه تعالى فتنهم ، وقد أخبره سبحانه بذلك قبل رجوعه ، ونصب الوصفين على أنهما حالان مترادفان أو متداخلان بأن يكون الثاني حالا من الضمير المستتر في الأول ، وجوّز أبو البقاء أن يكون بدلا من الحال الأولى وهو بدل كل لا بعض كما توهم.
قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي خطاب إما لعبدة العجل وإما لهارون عليه السلام ومن معه من المؤمنين أي بئسما فعلتم بعد غيبتي حيث عبدتم العجل بعد ما رأيتم مني من توحيد اللّه تعالى ونفي الشركاء عنه سبحانه واخلاص العبادة له جل جلاله ، أو بئسما قمتم مقامي حيث لم تراعوا عهدي ولم تكفوا العبدة عما فعلوا بعد ما رأيتم مني من

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 63
حملهم على التوحيد وكفهم عما طمحت نحوه أبصارهم من عبادة البقر حين قالوا اجعل لنا إلها كما لهم آلهة.
وجوز أن يكون على الخطاب للفريقين على أن المراد بالخلافة الخلافة فيما يعم الأمرين اللذين أشير إليهما ولا تكرار في ذكر مِنْ بَعْدِي بعد خَلَفْتُمُونِي لأن المراد من بعد ولايتي وقيامي بما كنت أقوم إذ بعديته على الحقيقة إنما تكون على ما قيل بعد فراقه الدنيا ، وقيل : إن مِنْ بَعْدِي تأكيد من باب رأيته بعيني وفائدته تصوير نيابة المستخلف ومزاولة سيرته كما أن هنالك تصوير الرؤية وما يتصل به ، وما نكرة موصوفة مفسرة لفاعل بئس المستكن فيه والمخصوص بالذم محذوف أي بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم ، والذم فيما إذا كان الخطاب لهارون عليه السلام ومن معه من المؤمنين ليس للخلافة نفسها بل لعدم الجري على مقتضاها ، وأما إذا كان للسامري وأشياعه فالأمر ظاهر أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ أي أعجلتم عما أمركم به ربكم وهو انتظار موسى عليه السلام حال كونهم حافظين لعهده وما وصاهم به فبنيتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره ولم أرجع إليكم فحدثتم أنفسكم بموتي فغيرتم. روي أن السامري قال لهم حين أخرج لهم العجل ، وقال : إن هذا إلهكم وإله موسى إن موسى لن يرجع وإنه قد مات. وروي أنهم عدوا عشرين يوما بلياليها فجعلوها أربعين ثم أحدثوا ما أحدثوا. والمعروف تعدي «عجل» بعن لا بنفسه فيقال : عجل عن الأمر إذا تركه غير تام ونقيضه تم عليه وأعجله عنه غير وضمنوه هنا معنى السبق وهو كناية عن الترك فتعدى تعديته ولم يضمن ابتداء. معنى الترك لخفاء المناسبة بينهما وعدم حسنها. وذهب يعقوب إلى أن السبق معنى حقيقي له من غير تضمين ، والأمر واحد الأوامر.
وعن الحسن أن المعنى أعجلتم وعد ربكم الذي وعدكم من الأربعين فالأمر عليه واحد الأمور والمراد بهذه الأربعين على ما ذكره الطيبي غير الأربعين التي أشار اللّه إليها بقوله سبحانه : فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الأعراف : 142] وسيأتي تتمة الكلام في ذلك قريبا إن شاء اللّه تعالى.
وَأَلْقَى الْأَلْواحَ أي وضعها على الأرض كالطارح لها ليأخذ برأس أخيه مما عراه من فرط الغيرة الدينية وكان عليه السلام شديد الغضب للّه سبحانه. فقد أخرج أبو الشيخ عن زيد بن أسلم أنه عليه السلام كان إذا غضب اشتعلت قلنسوته نارا. وقال القاضي ناصر الدين : أي طرحها من شدة الغضب وفرط الضجرة حمية للدين ، ثم نقل أنه انكسر بعضها حين ألقاها ، واعترض عليه أفضل المتأخرين شيخ مشايخنا صبغة اللّه أفندي الحيدري بأن الحمية للدين إنما تقتضي احترام كتاب اللّه تعالى وحمايته أن يلحق به نقص أو هوان بحيث تنكسر ألواحه ثم قال : والصواب أن يقال : إنه عليه السلام لفرط حميته الدينية وشدة غضبه للّه تعالى لم يتمالك ولم يتماسك إن وقعت الألواح من يده بدون اختيار فنزل ترك التحفظ منزلة الإلقاء الاختياري فعبر به تغليظا عليه عليه السلام فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين انتهى.
وتعقبه العلامة صالح أفندي الموصلي عليه الرحمة بأنه لا يخفى أن هذا الإيراد إنما نشأ من جعل قول القاضي حمية للدين مفعولا له لطراحها وهو غير صحيح ، فقد صرح في أوائل تفسيره لسورة طه بأن الفعل الواحد لا يتعدى لعلتين وإنما هو مفعول له لشدة الغضب وفرط الضجرة على سبيل التنازع ، والتوجيه الذي ذكر للآية هو ما أراده القاضي وتفسيره الإلقاء بالطرح لا ينافي ذلك على ما لا يخفى ا ه ، وأقول أنت تعلم أن كون هذا التوجيه هو ما أراده القاضي غير بيّن ولا مبين على أن حديث كون التعبير بالإلقاء تغليظا عليه السلام منحط عن درجة القبول جدا إذ ليس في السباق ولا في السياق ما يقضي بكون المقام عتاب موسى عليه السلام ليفتي بهذا التغليظ نظرا إلى مقامه صلّى اللّه عليه وسلّم بل المقام ظاهر في الحط على قومه كما لا يخفى على من له أدنى حظ من رفيع النظر ، والذي يراه هذا الفقير ما أشرنا إليه أولا. وحاصله أن موسى عليه السلام لما رأى من قومه ما رأى غضب غضبا شديدا حمية للدين وغيرة من الشرك برب العالمين فعجل في وضع الألواح لتفرغ يده فيأخذ برأس أخيه فعبر عن ذلك الوضع بالإلقاء تفظيعا لفعل قومه حيث كانت معاينته سببا

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 64
لذلك وداعيا إليه مع ما فيه من الإشارة إلى شدة غيرته وفرط حميته وليس في ذلك ما يتوهم منه نوع إهانة لكتاب اللّه تعالى بوجه من الوجوه ، وانكسار بعض الألواح حصل من فعل مأذون فيه ولم يكن غرض موسى عليه السلام ولا مر بباله ولا ظن ترتبه على ما فعل ، وليس هناك إلا العجلة في الوضع الناشئة من الغيرة للّه تعالى ، ولعل ذلك من باب وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى [طه : 84] واختلفت الروايات في مقدار ما تكسر ورفع ، وبعضهم أنكر ذلك حيث إن ظاهر القرآن خلافه. نعم
أخرج أحمد وغيره وعبد بن حميد والبزار وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني وغيرهم عن ابن عباس قال :
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم «يرحم اللّه تعالى موسى ليس المعاين كالمخبر أخبره ربه تبارك وتعالى أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح فتكسر منها ما تكسر»
فتأمل ولا تغفل ، وما روي عن ابن عباس أن موسى عليه السلام لما ألقى الألواح رفع منها ستة أسباع وبقي سبع ، وكذا ما روي عن غيره نحوه مناف لما
روي فيما تقدم من أن التوراة نزلت سبعين وقرأ يقرأ الجزء منه في سنة لم يقرأها إلا أربعة نفر : موسى ويوشع وعزير وعيسى عليهم السلام.
وكذا لما يذكر بعد من قوله تعالى : أَخَذَ الْأَلْواحَ فإن الظاهر منه العهد. والجواب بأن الرفع لما فيها من الخط دون الألواح خلاف الظاهر واللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ أي بشعر رأس هارون عليه السلام لأنه الذي يؤخذ ويمسك عادة ولا ينافي أخذه بلحيته كما وقع في سورة طه أو أدخل فيه تغليبا يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ظنا منه عليه السلام أنه قصر في كفهم ولم يتمالك لشدة غضبه وفرط غيظه أن فعل ذلك وكان هارون أكبر من موسى عليهما السلام بثلاث سنين إلا أن موسى أكبر منه مرتبة وله الرسالة والرياسة استقلالا وكان هارون وزيرا له وكان عليه السلام حمولا لينا جدا ولم يقصد موسى بهذا الأخذ إهانته والاستخفاف به بل اللوم الفعلي على التقصير المظنون بحكم الرياسة وفرط الحمية ، والقول بأنه عليه السلام إنما أخذ رأس أخيه ليسارّه ويستشكف منه كيفية الواقعة مما يأباه الذوق كما لا يخفى على ذويه ، ومثله القول بأن إنما كان لتسكين هارون لما رأى به من الجزع والقلق ، وقال أبو علي الجبائي : إن موسى عليه السلام أجرى أخاه مجرى نفسه فصنع به ما يصنع الإنسان به عند شدة الغضب ، وقال الشيخ المفيد من الشيعة : إن ذلك للتألم من ضلال قومه وإعلامهم على أبلغ وجه عظم ما فعلوه لينزجروا عن مثله ولا يخفى أن الأمر على هذا من قبيل :
غيري جنى وأنا المعاقب فيكم فكأنني سبابة المتندم
ولعل ما أشرنا إليه هو الأولى. وجملة يَجُرُّهُ في موضع الحال من ضمير موسى أو من رأس أو من أخيه لأن المضاف جزء منه وهو أحد ما يجوز فيه ذلك ، وضعفه أبو البقاء قالَ أي هارون مخاطبا لموسى عليه السلام إزاحة لظنه ابْنَ أُمَّ بحذف حرف النداء لضيق المقام وتخصيص الأم بالذكر مع كونهما شقيقين على الأصح للترقيق ، وقيل :
لأنها قامت بتربيته وقاست في تخليصه المخاوف والشدائد ، وقيل : إن هارون عليه السلام كانت آثار الجمال والرحمة فيه ظاهرة كما ينبىء عنه قوله تعالى : وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا [مريم : 53] وكان مورده ومصدره ذلك ، ولذا كان يلهج بذكر ما يدل على الرحمة ، ألا ترى كيف تلطف بالقوم لما قدموا على ما قدموا فقال : يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ [طه : 90] ومن هنا ذكر الأم ونسب إليها لأن الرحمة فيها أتم ولولاها ما قدرت على تربية الولد وتحمل المشاق فيها وهو منزع صوفي كما لا يخفى ، واختلف في اسم أمهما عليهما السلام فقيل : محيانة بنت يصهر بن لاوى ، وقيل : يوحانذ ، وقيل : يارخا ، وقيل : يازخت ، وقيل : غير ذلك ، ومن الناس من زعم أن لاسمها رضي اللّه تعالى عنها خاصية في فتح الأقفال وله رياضة مخصوصة عند أرباب الطلاسم والحروف وما هي إلا رهبانية ابتدعوها ما أنزل اللّه تعالى بها من كتاب.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبوبكر عن عاصم هنا وفي [طه : 94] ابْنَ أُمَّ بالكسر وأصله ابن أمي فحذفت الياء اكتفاء بالكسرة تخفيفا كالمنادى المضاف إلى الياء.

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 65
وقرأ الباقون بالفتح زيادة في التخفيف أو تشبيها بخمسة عشر إِنَّ الْقَوْمَ الذين فعلوا ما فعلوا اسْتَضْعَفُونِي أي استذلوني وقهروني ولم يبالوا بي لقلة أنصاري وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي وقاربوا قتلي حين نهيتهم عن ذلك والمراد أني بذلت وسعي في كفهم ولم آل جهدا في منعهم فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ أي فلا تفعل ما يشمتون بي لأجله فإنهم لا يعلمون سر فعلك ، والشماتة سرور العدو بما يصيب المرء من مكروه.
وقرىء «فلا تشمت بي الأعداء» بفتح حرف المضارعة وضم الميم ورفع الأعداء - حطهم اللّه تعالى - وهو كناية عن ذلك المعنى أيضا على حد لا أرينك هاهنا. والمراد من الأعداء القوم المذكورون إلا أنه أقيم الظاهر مقام ضميرهم ولا يخفى سره وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي لا تجعلني معدودا في عدادهم ولا تسلك بي سلوكهم بهم في المعاتبة ، أو لا تعتقدني واحدا من الظالمين مع براءتي منهم ومن ظلمهم ، فالجعل مثله في قوله تعالى :
وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف : 19] قالَ استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية الاعتذار كأنه قيل فماذا قال موسى عليه السلام عند اعتذار أخيه؟ فقيل : قال رَبِّ اغْفِرْ لِي ما فعلت بأخي قبل جلية الحال وحسنات الأبرار سيئات المقربين وَلِأَخِي إن كان اتصف بما يعد ذنبا بالنسبة إليه في أمر أولئك الظالمين ، وفي هذا الضم ترضية له عليه السلام ورفع للشماتة عنه ، والقول بأنه عليه السلام استغفر لنفسه ليرضى أخاه ويظهر للشامتين رضاه لئلا تتم شماتتهم به ولأخيه للايذان بأنه محتاج إلى الاستغفار حيث كان يجب عليه أن يقاتلهم لي فيه توقف لا يخفى وجهه. وَأَدْخِلْنا جميعا.
فِي رَحْمَتِكَ الواسعة بمزيد الإنعام علينا ، وهذا ما يقتضيه المقابلة بالمغفرة ، والعدول عن ارحمنا إلى ما ذكر وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فلا غرو في انتظامنا في سلك رحمتك الواسعة في الدنيا والآخرة ، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله ، وادعى بعضهم أن فيه إشارة إلى أنه سبحانه استجاب دعاءه وفيه خفاء إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ أي بقوا على اتخاذه واستمروا عليه كالسامري وأشياعه كما يفصح عنه كون الموصول الثاني عبارة عن التائبين فإن ذلك صريح في أن الموصول الأول عبارة عن المصرين سَيَنالُهُمْ أي سيلحقهم ويصيبهم في الآخرة جزاء ذلك غَضَبٌ عظيم لا يقادر قدره مستتبع لفنون العقوبات لعظم جريمتهم وقبح جريرتهم مِنْ رَبِّهِمْ أي مالكهم ، والجار والمجرور متعلق بينالهم ، أو بمحذوف وقع نعتا لغضب مؤكدا لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي كائن من ربهم وَذِلَّةٌ عظيمة فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وهي على ما أقول : الذلة التي عرتهم عند تحريق إلههم ونسفه في اليم نسفا مع عدم القدرة على دفع ذلك عنه ، وقيل : هي ذلة الاغتراب التي تضرب بها الأمثال والمسكنة المنتظمة لهم ولأولادهم جميعا ، والذلة التي اختص بها السامري من الانفراد عن الناس والابتلاء بلا مساس ، وروي أن بقاياهم اليوم يقولون ذلك وإذا مس أحدهم أحد غيرهم حمّا جميعا في الوقت ، ولعل ما ذكرناه أولى والرواية لم نر لها أثرا ، وإيراد ما نالهم بالسين للتغليب ، وقيل : وإليه يشير كلام أبي العالية المراد بهم التائبون ، وبالغضب ما أمروا به من قتل أنفسهم ، وبالذلة إسلامهم أنفسهم لذلك واعترافهم بالضلال ، واعتذر عن السين بأن ذلك حكاية عما أخبر اللّه تعالى به موسى عليه السلام حين أخبره بافتتان قومه واتخاذهم العجل فإنه قال له : سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ إلخ فيكون سابقا على الغضب ، وجعل الكلام جواب سؤال مقدر وذلك أنه
تعالى لما بين أن القوم ندموا على عبادتهم العجل بقوله سبحانه : وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا والندم توبة ولذلك عقبوه بقولهم : لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا وذكر عتاب موسى لأخيه عليهما السلام ثم استغفاره اتجه لسائل أن يقول : يا رب إلى ماذا يصير أمر القوم وتوبتهم واستغفار نبي اللّه تعالى وهل قبل اللّه تعالى توبتهم؟ فأجاب إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 66
أي نقم قبل توبة موسى وأخيه وغفر لهما خاصة وكان من تمام توبة القوم أن اللّه سبحانه أمرهم بقتل أنفسهم فسلموها للقتل ، فوضع الذين اتخذوا العجل موضع القوم اشعارا بالعلية. وتعقب بأن سياق النظم الكريم وكذا سباقه ناب عن ذلك نبوا ظاهرا كيف لا وقوله تعالى : وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ينادي على خلافه فإنهم شهداء تائبون فكيف يمكن وصفهم بعد ذلك بالافتراء وأيضا ليس يجزي اللّه تعالى كل المفترين بهذا الجزاء الذي ظاهره قهر وباطنه لطف ورحمة إلا أن يقال : يكفي في صحة التشبيه وجود وجه الشبه في الجملة ولا بد من التزام ذلك على الوجه الذي ذكرناه أيضا وما ذكر في تحرير السؤال والجواب مما تمجه أسماع ذوي الألباب.
وقال عطية العوفي : المراد سينال أولاد الذين تعبدوا العجل وهم الذين كانوا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وأريد بالغضب والذلة ما أصاب بني النضير وقريظة من القتل والجلاء ، أو ما أصابهم من ذلك ومن ضرب الجزية عليهم ، وفي الكلام على هذا حذف مضاف وهو الأولاد ، ويحتمل أن يكون هناك وهو من تعيير الأبناء بما فعل الآباء ، ومثله في القرآن كثيرة. وقيل : المراد بالموصول المتخذون حقيقة وبالضمير في ينالهم أخلافهم وبالغضب الغضب الأخروي وبالذلة الجزية التي وضعها الإسلام عليهم أو الأعم منها ليشمل ما ضربه بختنصر عليهم. وتعقب ذلك أيضا بأنه لا ريب في أن توسيط حال هؤلاء في تضاعيف بيان حال المتخذين من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه ، والمراد بالمفترين المفترون على اللّه تعالى ، وافتراء أولئك عليه سبحانه قول السامري في العجل هذا إلهكم وإله موسى ورضاهم به ولا أعظم من هذه الفرية ولعله لم يفتر مثلها أحد قبلهم ولا بعدهم. وعن سفيان بن عيينة أنه قال : كل صاحب بدعة ذليل وتلا هذه الآية.
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ أي سيئة كانت لعموم المغفرة ولأنه لا داعي للتخصيص ثُمَّ تابُوا عنها مِنْ بَعْدِها أي من بعد عملها وهو تصريح بما تقتضيه ثم وَآمَنُوا أي واشتغلوا بالإيمان وما هو مقتضاه وبه تمامه من الأعمال الصالحة ولم يصروا على ما فعلوا كالطائفة الأولى ، وهو عطف على تابوا ، ويحتمل أن يكون حالا بتقدير قد ، وأيّا ما كان فهو على ما قيل : من ذكر الخاص بعدم العام للاعتناء به لأن التوبة عن الكفر هي الإيمان فلا يقال : التوبة بعد الإيمان كيف جاءت قبله.
قيل : حيث كان المراد بالإيمان ما تدخل فيه الأعمال يكون بعد التوبة. وقيل : المراد به هنا التصديق بأن اللّه تعالى يغفر للتائب أي ثم تابوا وصدقوا بأن اللّه تعالى يغفر لمن تاب إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها أي من بعد التوبة المقرونة بما لا تقبل بدونه وهو الإيمان ، ولم يجعل الضمير للسيئات لأنه كما قال بعض المحققين لا حاجة له بعد قوله سبحانه :
ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها لا لأنه يحتاج إلى حذف مضاف ومعطوف من عملها والتوبة عنها لأنه لا معنى لكونه بعدها إلا ذلك لَغَفُورٌ لذنوبهم وإن عظمت وكثرت رَحِيمٌ مبالغ في إفاضة فنون الرحمة عليهم ، والموصول مبتدأ وجملة إِنَّ رَبَّكَ إلخ خبر والعائد محذوف ، والتقدير - عند أبي البقاء - لغفور لهم رحيم بهم ، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة لضميره عليه الصلاة والسلام للتشريف ، وقيل : الخطاب للتائب ، ولا يخفى لطف ذلك أيضا ، وفي الآية إعلام بأن الذنوب وإن جلّت وعظمت فإن عفو اللّه تعالى وكرمه أعظم وأجل ، وما ألطف قول أبي نواس غفر اللّه تعالى له :
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن فبمن يلوذ ويستجير المجرم
ومما ينسب للإمام الشافعي رضي اللّه تعالى عنه :
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا ربي لعفوك سلما

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 67
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما
ويعجبني قول بعضهم : وما أولى هذا المذنب به :
أنا مذنب أنا مخطئ أنا عاصي هو غافر هو راحم هو عافي
قابلتهن ثلاثة بثلاثة وستغلبن أوصافه أوصافي
[سورة الأعراف (7) : الآيات 154 إلى 168]
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)
وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163)
وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 68
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ شروع في بيان بقية الحكاية أثر ما بين تحزب القوم إلى مصر وتائب ، والإشارة إلى ما لكل منهما إجمالا ، أي ولما سكت عنه الغضب باعتذار أخيه وتوبة القوم ، وهذا صريح في أن ما حكي عنه من الندم وما يتفرع عليه كان بعد مجيء موسى عليه السلام ، وقيل : المراد ولما كسرت سورة غضبه عليه السلام وقل غيظه باعتذار أخيه فقط لأنه زال غضبه بالكلية لأن توبة القوم ما كانت خالصة بعد ، وأصل السكوت قطع الكلام ، وفي الكلام استعارة مكنية حيث شبه الغضب بشخص ناه آمر وأثبت له السكوت على طريق التخييل ، وقال السكاني : إن فيه استعارة تبعية حيث شبه سكون الغضب وذهاب حدته بسكون الآمر الناهي والغضب قرينتها ، وقيل : الغضب استعارة بالكناية عن الشخص الناطق والسكوت استعارة تصريحية لسكون هيجانه وغليانه فيكون في الكلام مكنية قرينتها تصريحية لا تخييلية ، وأيا ما كان ففي الكلام مبالغة وبلاغة لا يخفى علو شأنهما ، وقال الزجاج : مصدر سكت الغضب السكتة ومصدر سكت الرجل السكوت وهو يقتضي أن يكون سكت الغضب فعلا على حدة وقيل ونسب إلى عكرمة : إن هذا من القلب وتقديره ولما سكت موسى عن الغضب ، ولا يخفى أن السكوت كان أجمل بهذا القائل إذ لا وجه لما ذكره.
وقرأ معاوية بن قرة «سكن» والمعنى على ذلك ظاهر إلا أنه على قراءة الجمهور أعلى كعبا عند كل ذي طبع سليم وذوق صحيح ، وقرىء «سكت» بالبناء لما لم يسم فاعله والتشديد للتعدية. و«أسكت» بالبناء لذلك أيضا على أن المسكت هو اللّه تعالى أو أخوه أو التائبون أَخَذَ الْأَلْواحَ التي ألقاها وَفِي نُسْخَتِها أي فيما نسخ فيها وكتب ، ففعلة بمعنى مفعول كالخطبة ، والنسخ الكتابة ، والإضافة بيانية أو بمعنى في ، وإلى هذا ذهب الجبائي وأبو مسلم وغيرهما ، وقيل : معنى منسوخة ما نسخ فيها من اللوح المحفوظ ، وقيل : النسخ هنا بمعنى النقل ، والمعنى فيما نقل من الألواح المنكسرة. وروي عن ابن عباس وعمرو بن دينار أن موسى عليه السلام لما ألقى الألواح فتكسر منها ما تكسر صام أربعين يوما فرد عليه ما ذهب في لوحين وفيهما ما في الأول بعينه فكأنه نسخ من الأول هُدىً أي بيان للحق عظيم وَرَحْمَةٌ جليلة بالإرشاد إلى ما فيه الخير والصلاح لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ أي يخافون أشد الخوف ، واللام الأولى متعلقة بمحذوف وقع صفة لما قبله أو هي لام الأجل أي هدى ورحمة لأجلهم ، والثانية لتقوية عمل الفعل المؤخر كما في قوله سبحانه : إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ [يوسف : 43] أو هي لام العلة والمفعول محذوف أي يرهبون المعاصي لأجل ربهم لا للرياء والسمعة ، واحتمال تعلقها بمحذوف أي يخشون لربهم كما ذهب إليه أبو البقاء بعيد وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ تتمة لشرح أحوال بني إسرائيل ، وقال البعض : إنه شروع في بيان كيفية استدعاء التوبة وكيفية وقوعها

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 69
وَاخْتارَ يتعدى إلى اثنين ثانيهما مجرور بمن وقد حذفت هنا وأوصل الفعل والأصل من قومه ، ونحوه قول الفرزدق :
منا الذي اختير الرجال سماحة وجودا إذا هب الرياح الزعازع
وقوله الآخر :
فقلت له : اخترها قلوصا سمينة ونابا علا بأمثل نابك في الحيا
قوله سبحانه : سَبْعِينَ رَجُلًا مفعول أول لاختار على المختار وأخر عن الثاني لما مر مرارا ، وقيل : بدل بعض من كل ، ومنعه الأكثرون بناء على أن البدل منه في نية الطرح والاختيار لا بد له من مختار ومختار منه وبالطرح يسقط الثاني ، وجوزه أبو البقاء على ضعف ويكون التقدير سبعين منهم ، وقيل : هو عطف بيان لِمِيقاتِنا ذهب أبو علي. وأبو مسلم وغيرهما من مفسري السنة والشيعة إلى أنه الميقات الأول وهو الميقات الكلامي قالوا : إنه عليه السلام اختار لذلك من اثني عشر سبطا من كل سبط ستة حتى تتاموا اثنين وسبعين فقال عليه السلام : ليتخلف منكم رجلان فتشاحوا فقال :
لمن قعد منكم مثل أجر من خرج فقعد كالب ويوشع ، وروي أنه لم يصب إلا ستين شيخا فأوحى اللّه تعالى أن يختار من الشبان عشرة فاختارهم فأصبحوا شيوخا ، وقيل : كانوا أبناء ما عدا العشرين ولم يتجاوزوا الأربعين فذهب عنهم الجهل والصبا فأمرهم موسى عليه السلام أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم ثم خرج بهم إلى طور سيناء فلما دنا من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله ودنا موسى ودخل فيه ، وقال للقوم : ادنوا فدنوا حتى إذا دخلوا الغمام وقعوا سجدا فسمعوه وهو سبحانه يكلم موسى يأمره وينهاه افعل ولا تفعل ثم انكشف الغمام فأقبلوا إليه فطلبوا الرؤية فوعظهم وكان ما كان ، وذهب آخرون وهو المروي عن الحسن إلى أنه غير الميقات الأول قالوا : إن اللّه سبحانه أمر موسى عليه السلام أن يأتيه في أناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل فاختار من اختاره فلما أتوا الطور قالوا ما قالوا ، وروي ذلك عن السدي ، وعن ابن إسحاق أنه عليه السلام إنما اختارهم ليتوبوا إلى اللّه تعالى ويسألوه التوبة على من تركوا وراءهم من قومهم. ورجح ذلك الطيبي مدعيا أن الأول خلاف نظم الآيات وأقوال المفسرين.
أما الأول فلما قال الإمام : إنه تعالى ذكر قصة ميقات الكلام وطلب الرؤية ثم أتبعها بقصة العجل وما يتصل بها فظاهر الحال أن تكون هذه القصة مغايرة للمتقدمة إذ لا يليق بالفصاحة ذكر بعض القصة ثم النقل إلى أخرى ثم الرجوع إلى الأولى وإنه اضطراب يصان عنه كلامه تعالى ، وأيضا ذكر في الأولى خرور موسى عليه السلام صعقا ، وفي الثانية قوله بعد أخذ الرجفة : لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ ، وأيضا لو كانت الرجفة بسبب طلب الرؤية لقيل : أتهلكنا بما قال السفهاء وضم إليه الطيبي أنه تعالى حيث ذكر صاعقتهم لم يذكر صعق موسى عليه السلام وبالعكس فدل على التغاير ، وأما الثاني فلما نقل عن السدي مما ذكرناه آنفا ، وتعقب ما ذكر في الترجيح أولا صاحب الكشف بأن الانصاف أن المجموع قصة واحدة في شأن ما من على بني إسرائيل بعد إنجائهم من تحقيق وعد إيتاء الكتاب وضرب ميقاته وعبادة العجل وطلب الرؤية كان في تلك الأيام ، وفي ذلك الشأن فالبعض مربوط بالبعض بقي إيثار هذا الأسلوب وهو بين لأن الأول في شأن الامتنان عليهم وتفضيلهم كيف وقد عطف واعَدْنا على أَنْجَيْناكُمْ وقد بين أنه تبيين للتفضيل ، وتعقيب حديث الرؤية مستطرد للفرق بين الطلبين عندنا وليلقمهم الحجر عند المعتزلي.
والثاني في شأن جنايتهم بعد ذلك الإحسان البالغ باتخاذ العجل والملاحة والافتراق من لوازم النظم ، وتعقب ما ذكر فيه ثانيا بأن قول السدي وحده لا يصلح ردا كيف وهذا يخالف ما نقله محيي السنة في قوله سبحانه : لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ إنهم كانوا له وزراء مطيعين فاشتد عليه عليه السلام فقدهم فرحمهم وخاف عليهم الفوت وأين لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ من الطاعة وحسن الاستئزار قال : ثم الظاهر من قوله تعالى : فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ [النساء : 153] إن

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 70
اتخاذ العجل متأخر عن مقالتهم تلك خلاف ما نقل عن السدي والحمل على تراخي الرتبة لا بد له من سند كيف ولا ينافي التراخي الزماني فلا بد من دليل يخصه به ، هذا وقد اعترف المفسرون في سورة طه بأنه اختار سبعين لميقات الكلام ذكروه في قوله تعالى : وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى [طه : 83] وما اعتذر عنه الطيبي بأنه اختيار السبعين كان مرتين وليس في النقل أنهم كانوا معه عند المكالمة وطلب الرؤية فظاهر للمنصف سقوطه انتهى.
وذكر القطب في توهين ما نقل عن السدي بأن الخروج للاعتذار إن كان بعد قتل أنفسهم ونزول التوبة فلا معنى للاعتذار ، وإن كان قبل قتلهم فالعجب من اعتذار ثمرته قتل الأنفس ، ثم قال : ولا ريب أن قصة واحدة تتكرر في القرآن يذكر في سورة بعضها ، وفي أخرى بعض أخر وليس ذلك إلا لتكرار اعتبار المعتبرين بشيء من تلك القصة فإذا جاز ذكر قصة في سور متعددة في كل سورة شيء منها فلم لا يجوز ذلك في مواضع من سورة واحدة لتكرر الاعتبار ا ه ، وهو ظاهر في ترجيح ما ذهب إليه الأولون ، وأنا أقول : إن القول بأن هذا الميقات هو الميقات الأول ليس بعاطل من القول وبه قال جمع كما أشرنا إليه ، وكلامنا في البقرة ظاهر فيه إلا أن الانصاف أن ظاهر النظم هنا يقتضي أنه غيره وما ذكره صاحب الكشف لا يقتضي أنه ظاهر في خلافه ، وإلى القول بالغيرية ذهب جل من المفسرين.
فقد أخرج عبد بن حميد من طريق أبي سعد عن مجاهد أن موسى عليه السلام خرج بالسبعين من قومه يدعون اللّه تعالى ويسألونه أن يكشف عنهم البلاء فلم يستجب لهم فعل موسى أنهم أصابوا من المعصية ما أصاب قومهم ،
قال أبو سعد : فحدثني محمد بن كعب القرظي أنه لم يستجب لهم من أجل أنهم لم ينهوهم عن المنكر ولم يأمروهم بالمعروف.
وأخرج عبد بن حميد عن الفضل بن عيسى ابن أخي الرقاشي أن بني إسرائيل قالوا ذات يوم لموسى عليه السلام ألست ابن عمنا ومنا وتزعم أنك كلمت رب العزة؟ فإنا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة : 55] فلما أبوا إلا ذلك أوحى اللّه تعالى إلى موسى أن اختر من قومك سبعين رجلا فاختار سبعين خيرة ثم قال لهم : اخرجوا فلما برزوا جاءهم ما لا قبل لهم به الخبر.
وهو ظاهر في أن هذا الميقات ليس هو الأول. نعم إنه مخالف لما روي عن السدي لكنهما متفقان على القول بالغيرية ويوافق السدي في ذلك الحسن أيضا فليس هو متفردا بذلك كما ظنه صاحب الكشف ، وما ذكره من مخالفة كلام السدي لما نقله محيي السنة في حيز المنع ، وقوله فإنا لن نؤمن لك إلخ يظهر جوابه مما ذكرناه في البقرة عند هذه الآية من الاحتمالات ، والقول بأن الاختيار كان مرتين غير بعيد وبه قال بعضهم ، وما ذكره القطب من الترديد في الخروج للاعتذار ظاهر بعض الروايات عن السدي يقتضي تعين الشق الأول منه.
فقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال : انطلق موسى إلى ربه فكلمه فلما كلمه قال : ما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى فأجابه موسى بما أجابه فقال سبحانه : فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ [طه : 85] الآية فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا فأبى اللّه تعالى أن يقبل توبتهم إلا بالحال التي كرهوا ففعلوا ثم إن اللّه تعالى أمر موسى عليه السلام أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون من عبادة العجل فوعدهم موعدا فاختار موسى سبعين رجلا إلخ وهو كما ترى ظاهر فيما قلناه ، والقول بأنه لا معنى للاعتذار بعد قتل أنفسهم ونزول التوبة أجيب عنه بأن المعنى يحتمل أن يكون طلبا لزيادة الرضى واستنزال مزيد الرحمة ، ويحتمل أن يكونوا أمروا بذلك تأكيدا للايذان بعظم الجناية وزيادة فيه وإشارة إلى أنه بلغ مبلغا في السوء لا يكفي في العفو عنه قتل الأنفس بل لا بد فيه مع ذلك الاعتذار ، ويمكن أن يقال إنه كان قبل قتلهم أنفسهم : والسر في أنهم أمروا به أن يعلموا أيضا عظم الجناية على أتم وجه بعدم قبوله واللّه تعالى أعلم فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي الصاعقة أو رجفة الجبل فصعقوا منها والكثير على أنهم ماتوا جميعا ثم أحياهم اللّه تعالى ، وقيل : غشي عليهم ثم أفاقوا وذلك لأنهم قالوا : لن نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة على ما في بعض الروايات أو ليتحقق عند القائلين ذلك من قومهم

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 71
مزيد عظمته سبحانه على ما في البعض الآخر منها ، أو لمجرد التأديب على ما في خبر القرظي ، والظاهر أن قولهم : لن نؤمن إلخ صدر منهم في ذلك المكان لا بعد الرجوع كما قيل : ونقلناه في البقرة وحينئذ يبعد على ما قيل القول بأن هذا الميقات هو الميقات الأول لأن فيه طلب موسى عليه السلام الرؤية بعد كلام اللّه تعالى له من غير فصل على ما هو الظاهر فيكون هذا الطلب بعده ، وبعيد أن يطلبوا ذلك بعد أن رأوا ما وقع لموسى عليه السلام. وما
أخرجه ابن أبي الدنيا وابن جرير وغيرهما عن علي كرم اللّه تعالى وجهه أنه قال : لما حضر أجل هارون أوحى اللّه تعالى إلى موسى عليه السلام أن انطلق أنت وهارون وابنه إلى غار في الجبل فإنا قابضو روحه فانطلقوا جميعا فدخلوا الغار فإذا سرير فاضطجع عليه موسى ثم قام عنه فقال : ما أحسن هذا المكان يا هارون فاضطجع عليه هارون فقبض روحه فرجع موسى وابن أخيه إلى بني إسرائيل حزينين فقالوا له : أين هارون قال : مات؟ قالوا : بل قتلته كنت تعلم أنّا نحبه فقال لهم ويلكم أقتل أخي وقد سألته اللّه تعالى وزيرا ولو أني أردت قتله أكان ابنه يدعني. قالوا : بلى قتلته حسدا ، قال : فاختاروا سبعين رجلا فانطلق بهم فمرض رجلان في الطريق فخط عليهما خطا فانطلق هو وابن هارون وبنو إسرائيل حتى انتهوا إلى هارون فقال : يا هارون من قتلك؟ قال : لم يقتلني أحد ولكني مت قالوا : ما تعصى يا موسى ادع لنا ربك يجعلنا أنبياء فأخذتهم الرجفة فصعقوا وصعق الرجلان اللذان خلفوا وقام موسى عليه السلام يدعو ربه فأحياهم اللّه تعالى فرجعوا إلى قومهم أنبياء
لا يكاد يصح فيما أرى لتظافر الآثار بخلافه وإباء ظواهر الآيات عنه.
قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ عرض للعفو السابق لاستجلاب العفو اللاحق يعني أنك قدرت على إهلاكهم قبل ذلك بحمل فرعون على إهلاكهم وبإغراقهم في البحر وغيرهما فترحمت عليهم ولم تهلكهم فارحمهم الآن كما رحمتهم من قبل جريا على مقتضى كرمك وإنما قال : وَإِيَّايَ تسليما منه وتواضعا ، وقيل : أراد بقوله مِنْ قَبْلُ حين فرطوا في النهي عن عبادة العجل وما فارقوا عبدته حين شاهدوا إصرارهم عليها أي لو شئت إهلاكهم بذنوبهم إذ ذاك وإياي أيضا حين طلبت منك الرؤية ، وقيل : حين قتل القبطي لأهلكتنا ، وقيل : هو تمن منه عليه السلام للاهلاك جميعا بسبب محبته أن لا يرى ما يرى من مخالفتهم له مثلا أو بسبب آخر وفيه دغدغة أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا من العناد وسوء الأدب أو من عبادة العجل ، والهمزة إما لإنكار وقوع الإهلاك ثقة بلطف اللّه عزّ وجلّ كما قال ابن الأنباري أو للاستعطاف كما قال المبرد أي لا تهلكنا ، وأيا ما كان فهو من مقول موسى عليه السلام كالذي قبله ، وقول بعضهم : كان ذلك قاله بعضهم غير ظاهر ولا داعي إليه ، والقول بأن الداعي ما فيه من التضجر الذي لا يليق بمقام النبوة لا يخفى ما فيه ، ولعل مراد القائل بذلك أن هذا القول من موسى عليه السلام يشبه قول أحد السبعين فكأنه قاله على لسانهم لأنهم الذين أصيبوا بما أصيبوا به دونه فافهم إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ استئناف مقرر لما قبله واعتذار عما وقع منهم وإن نافية وهي للفتنة المعلومة للسياق أي ما الفتنة إلا فتنتك أي محنتك وابتلاؤك حيث أسمعتهم كلامك فطمعوا في رؤيتك واتبعوا القياس في غير محله أو أوجدت في العجل خوارا فزاغوا به.
أخرج ابن أبي حاتم عن راشد بن سعد أن اللّه تعالى لما قال لموسى عليه السلام : إن قومك اتخذوا عجلا جسدا له خوار قال : يا رب فمن جعل فيه الروح؟ قال : أنا قال : فأنت أضللتهم يا رب قال : يا رأس النبيين يا أبا الحكماء إني رأيت ذلك في قلوبهم فيسرته لهم ،
ولعل هذا إشارة إلى الاستعداد الأزلي الغير المجعول. وقيل : الضمير راجع على الرجفة أي ما هي إلا تشديدك التعبد والتكلف علينا بالصبر على ما أنزلته بنا ، وروي هذا عن الربيع وابن جبير وأبي العالية ، وقيل :
الضمير لمسألة الإراءة وإن لم تذكر.

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 72
تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ استئناف مبين لحكم الفتنة ، وقيل : حال من المضاف إليه أو المضاف أي تضل بسببها من تشاء إضلاله بالتجاوز عن الحد أو باتباع المخايل أو بنحو ذلك وتهدي من تشاء هداه فيقوى بها إيمانه ، وقيل : المعنى تصيب بهذه الرجفة من تشاء وتصرفها عمن تشاء ، وقيل : تضل بترك الصبر على فتنتك وترك الرضا بها من تشاء عن نيل ثوابك ودخول جنتك وتهدي بالرضا لها والصبر عليها من تشاء وهو كما ترى أَنْتَ وَلِيُّنا أي أنت القائم بأمورنا الدنيوية والأخروية لا غيرك فَاغْفِرْ لَنا ما يترتب عليه مؤاخذتك وَارْحَمْنا بإفاضة آثار الرحمة الدنيوية والأخروية علينا. والفاء لترتيب الدعاء على ما قبله من الولاية لأن من شأن من يلي الأمور ويقوم بها دفع الضر وجلب النفع ، وقدم طلب المغفرة على طلب الرحمة لأن التخلية أهم من التحلية ، وسؤال المغفرة لنفسه عليه السلام في ضمن سؤالها لمن سألها له مما لا ضير فيه وإن لم يصدر منه نحو ما صدر منه كما لا يخفى ، والقول بأن إقدامه عليه السلام على أن يقول : إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ جرأة عظيمة فطلب من اللّه تعالى غفرانها والتجاوز عنها مما يأباه السوق عند أرباب الذوق ، ولا أظن أن اللّه تعالى عدد ذلك ذنبا منه ليستغفره عنه ، وفي ندائه السابق ما يؤيد ذلك وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ إذ كل غافر سواك إنما يغفر لغرض نفساني كحب الثناء ودفع الضرر وأنت تغفر لا لطلب عوض ولا غرض بل لمحض الفضل والكرم ، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبل ، وتخصيص المغفرة بالذكر لأنها الأهم.
وفسر بعضهم ما ذكر بغفران السيئة وتبديلها بالحسنة ليكون تذييلا لاغفر وارحم معا وَاكْتُبْ لَنا أي أثبت واقسم لنا فِي هذِهِ الدُّنْيا التي عرانا فيها ما عرانا حَسَنَةً حياة طيبة وتوفيقا للطاعة.
وقيل : ثناء جميلا وليس بجميل ، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن المراد اقبل وفادتنا وردنا بالمغفرة والرحمة وَفِي الْآخِرَةِ أي واكتب لنا أيضا في الآخرة حسنة وهي المثوبة الحسنى والجنة.
قيل : إن هذا كالتأكيد لقوله : اغفر وارحم إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ أي تبنا إليك من هاد يهود إذا رجع وتاب كما قال :
إني امرؤ مما جنيت هائد ومن كلام بعضهم :
يا راكب الذنب هدهد واسجد كأنك هدهد
وقيل : معناه مال ، وقرأ زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما «هدنا» بكسر الهاء من هاد يهيد إذا حرك ، وأخرج ابن المنذر. وغيره عن أبي وجرة السعدي أنه أنكر الضم وقال : واللّه لا أعلمه في كلام أحد من العرب وإنما هو هدنا بالكسر أي ملنا وهو محجوج بالتواتر ، وجوز على هذه القراءة أن يكون الفعل مبنيا للفاعل والمفعول بمعنى حركنا أنفسنا أو حركنا غيرنا ، وكذا على قراءة الجماعة ، والبناء للمفعول عليها على لغة من يقول : عود المريض ، ولا بأس بذلك إذا كان الهود بمعنى الميل سوى أن تلك لغة ضعيفة ، وممن جوز الأمرين على القراءتين الزمخشري. وتعقبه السمين بأنه متى حصل الالتباس وجب أن يؤتى بحركة تزيله فيقال : عقت إذا عاقك غيرك بالكسر فقط أو الإشمام إلا أن سيبويه جوز في نحو قيل الأوجه الثلاثة من غير احتراز ، والجملة تعليل لطلب المغفرة والرحمة ، وتصديرها بحرف التحقيق لإظهار كمال النشاط والرغبة في مضمونها قالَ استئناف بياني كأنه قيل : فماذا قال اللّه تعالى له بعد دعائه؟ فقيل : قال عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ أي شأني أصيب بعذابي من أشاء تعذيبه من غير دخل لغيري فيه.
وقرأ الحسن وعمرو الأسود «من أساء» بالسين المهملة ونسبت إلى زيد بن علي رضي اللّه تعالى عنهما وأنكر بعضهم صحتها وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ أي شأنها أنها واسعة تبلغ كل شيء ما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا وهو متقلب في الدنيا بنعمتي ، وفي نسبة الإصابة إلى العذاب بصيغة المضارع ونسبة السعة إلى الرحمة

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 73
بصيغة الماضي إيذان بأن الرحمة مقتضى الذات وأما العذاب فمقتضى معاصي العباد ، والمشيئة معتبرة في جانب الرحمة أيضا ، وعدم التصريح بها قيل : تعظيما لأمر الرحمة ، وقيل : للاشعار بغاية الظهور ، ألا ترى إلى قوله تعالى : فَسَأَكْتُبُها فإنه متفرع على اعتبار المشيئة كما لا يخفى ، كأنه قيل : فإذا كان الأمر كذلك أي كما ذكر من إصابة عذابي وسعة رحمتي لكل من أشاء فسأثبتها إثباتا خاصا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أي الكفر والمعاصي إما ابتداء أو بعد الملابسة وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ المفروضة عليهم في أموالهم وقيل المعنى يطيعون اللّه ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم والظاهر خلافه ، وتخصيص إيتاء الزكاة بالذكر مع اقتضاء التقوى له للتعريض بقوم موسى عليه السلام لأن ذلك كان شاقا عليهم لمزيد حبهم للدنيا ، ولعل الصلاة إنما لم تذكر مع إنافتها على سائر العبادات وكونها عماد الدين اكتفاء منها بالاتقاء الذي هو عبارة عن فعل الواجبات بأسرها وترك المنهيات عن آخرها وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا كلها كما يفيده الجمع المضاف يُؤْمِنُونَ إيمانا مستمرا من غير إخلال بشيء منها ، وتكرير الموصول مع أن المراد به عين ما أريد بالموصول الأول دون أن يقال ويؤمنون بآياتنا عطفا على ما قبله كما سلك في سابقه قيل : لما أشير إليه من القصر بتقديم الجار والمجرور أي هم بجميع آياتنا يؤمنون لا ببعضها دون بعض ، وفيه تعريض بمن آمن ببعض وكفر ببعض كقوم موسى عليه السلام.
واختلف في توجيه هذا الجواب فقال شيخ الإسلام : لعل اللّه تعالى حين جعل توبة عبدة العجل بقتلهم أنفسهم وكان الكلام الذي أطمع السبعين في الرؤية في ذلك ضمن موسى عليه السلام دعاءه التخفيف والتيسير حيث قال :
وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً أي خصلة حسنة عارية عن المشقة والشدة فإن في القتل من العذاب الشديد ما لا يخفى فأجابه سبحانه بأن عذابي أصيب به من أشاء وقومك ممن تناولته مشيئتي ولذلك جعلت توبتهم مشوبة بالعذاب الدنيوي ورحمتي وسعت كل شيء وقد نال قومك نصيب منها في ضمن العذاب الدنيوي وسأكتب الرحمة خالصة غير مشوبة بالعذاب الدنيوي كما دعوت لمن صفتهم كيت وكيت لا لقومك لأنهم ليسوا كذلك فيكفيهم ما قدر لهم من الرحمة وإن كانت مقارنة العذاب ، وعلى هذا فموسى عليه السلام لم يستجب له سؤاله في قومه ومن اللّه تعالى بما سأله على من آمن بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم.
وفي بعض الآثار أنه عليه السلام لما أجيب بما ذكر قال : أتيتك يا رب بوفد من بني إسرائيل فكانت وفادتنا لغيرنا.
وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما دعاء موسى ربه سبحانه فجعل دعاءه لمن آمن بمحمد عليه الصلاة والسلام واتبعه ،
وفي رواية أخرى رواها جمع عنه سأل موسى ربه مسألة فأعطاه محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم وتلا الآية ،
لكن لا يخفى أن ما قرره هذا الشيخ بعيد. وقال صاحب الكشف في ذلك : كأنه لما سأل موسى عليه السلام لنفسه ولقومه خير الدارين أجيب بأن عذابي لغير التائبين إن شئت ورحمتي الدنيوية تعم التائب وغيره وأما الجمع بين الرحمتين فهو للمستعدين فإن تاب من دعوت لهم وثبتوا كأعقابهم نالتهم الرحمة الخاصة الجامعة وأثر فيهم دعاؤك وإن داوموا على ما هم فيه بعدوا عن القبول ، والغرض ترغيبهم على الثبات على التوبة والعمل الصالح وتحذيرهم عن المعاودة عما فرط منهم مع التخلص إلى ذكر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم والحث على اتباعه أحسن تخلص وحث يحير الألباب ويبدي للمتأمل فيه العجب العجاب ، وإلى بعض هذا يشير كلام الزمخشري.
وقال العلامة الطيبي في توجيهه : إن هذا الجواب وارد على الأسلوب الحكيم ، وقوله سبحانه : عَذابِي إلخ كالتمهيد للجواب ، والجواب فَسَأَكْتُبُها إلخ ، وذلك أن موسى عليه السلام طلب الغفران والرحمة والحسنة في الدارين لنفسه ولأمته خاصة بقوله : وَاكْتُبْ لَنا وعلله بقوله : إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ فأجابه الرب سبحانه بأن تقييدك المطلق ليس من الحكمة فإن عذابي من شأنه أنه تابع لمشيئتي فأمتك لو تعرضوا لما اقتضت الحكمة تعذيب من باشره لا

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 74
ينفعهم دعاؤك لهم وان رحمتي من شأنها أن تعم في الدنيا الخلق صالحهم وطالحهم مؤمنهم وكافرهم فالحسنة الدنيوية عامة فلا تختص بأمتك فتخصيصها تحجير للواسع وأما الحسنة الأخروية فهي للموصوفين بكذا وكذا ، وجعل فَسَأَكْتُبُها كالقول بالموجب لأنه عليه السلام طلب ما طلب وجعل العلة ما جعل فضم اللّه تعالى ما ضم ، يعني أن الذي يوجب اختصاص الحسنتين معا هذه الصفات المتعددة لا التوبة المجردة ، ثم ذكر أن ترتيب هذا على ما قبله بالفاء على منوال قوله تعالى جوابا عن قول إبراهيم عليه السلام : وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة :
124] وأيد هذا التقرير بما روي عن الحسن وقتادة وسعت رحمته في الدنيا البر والفاجر وهي يوم القيامة للمتقين خاصة ا ه ما أريد منه ، وما ذكره من حديث التحجر في القلب منه شيء فإن الظاهر أن ما في دعاء موسى عليه السلام ليس منه وإنما التحجر في مثل ما
أخرجه أحمد. وأبو داود عن جندب عن عبد اللّه البجلي قال : «جاء أعرابي فأناخ راحلته ثم عقلها وصلى خلف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثم نادى اللهم ارحمني ومحمدا ولا تشرك في رحمتنا أحدا فقال رسول اللّه عليه الصلاة والسلام : لقد حظرت رحمة واسعة إن اللّه خلق مائة رحمة فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق جنها وأنسها وبهائمها وعنده تسعة وتسعون».
وأنا أقول : قد يقال : إن موسى عليه السلام إنما طلب على أبلغ وجه المغفرة والرحمة الدنيوية والأخروية له ولقومه وتعليل ذلك بالتوبة مما لا شك في صحته ، ولا يفهم من كلامه عليه السلام أنه طلب للقوم كيف كانوا وفي أي حالة وجدوا وعلى أي طريقة سلكوا فإن ذلك مما لا يكاد يقع ممن له أدنى معرفة بربه فضلا عن مثله عليه السلام ، وإنما هذا الطلب لهم من حيث إنهم تائبون راجعون إليه عز شأنه ، ولا يبعد أن يقال باستجابة دعائه بذلك بل هي أمر مقطوع به بالنسبة إليه صلّى اللّه عليه وسلّم وكيف يشك في أنه غفر له ورحم وأوتي خير الدارين وهو - هو - وأما بالنسبة إلى قومه فالظاهر أن التائب منهم أوتي خير الآخرة لأن هذه التوبة إن كانت هي التوبة بالقتل فقد جاء عن الزهري أن اللّه تعالى أوحى إلى موسى بعد أن كان ما كان ما يحزنك؟ أما من قتل منكم فحي يرزق عندي وأما من بقي فقد قبلت توبته فسر بذلك موسى وبنو إسرائيل ، وإن كانت غيرها فمن المعلوم أن التوبة تقبل بمقتضى الوعد المحتوم ، وخير من قبلت توبته في الآخرة كثير ، وأما خير الدنيا فقد نطقت الآيات بأن القوم غرقى فيه ، ويكفي في ذلك قوله تعالى : يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [البقرة : 47 ، 122].
وحينئذ فيمكن أن يقال في توجيه الجواب : أنه سبحانه لما رأى من موسى عليه السلام شدة القلق والاضطراب ولهذا بالغ في الدعاء خشية من طول غضبه تعالى على من يشفق عليه من ذلك سكن جل شأنه روعته وأجاب طلبته بأسلوب عجيب ، وطريق بديع غريب فقال سبحانه له : عَذابِي أي الذي تخشى أن تصيب بعض نباله التي أرميها بيد جلالي عن قسي إرادتي من دعوت له أصيب به من أشاء فلا يتعين قومك الذين تخشى عليهم ما تخشى لأن يكون غرضا له بعد أن تابوا من الذنب وتركوا فعله وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ إنسانا كان أو غيره مطيعا كان أو غيره فما من شيء إلا وهو داخل فيها سابح في تيارها أو سايح في فيافيها بل ما من معذب إلا ويرشح عليه ما يرشح منها ولا أقل من أدنى لم أعذبه بأشد مما هو فيه مع قدرتي عليه فطب نفسا وقرّ عينا فدخول قومك في رحمة وسعت كل شيء ولم تضق عن شيء أمر لا شك فيه ولا شبهة تعتريه كيف وقد هادوا إلي ووفدوا عليّ أفترى أني أضيق الواسع عليهم وأوجه نبال الخيبة إليهم وأردهم بخفّي حنين فيرجع كل منهم صفر الكفين؟ لا أراني أفعل بل إني سأرحمهم وأذهب عنهم ما أهمهم وأكتب الحظ الأوفر من رحمتي لأخلافهم الذين يأتون آخر الزمان ويتصفون بما يرضيني ويقومون بأعباء ما يراد منهم ، وإلى ذلك الإشارة بقوله سبحانه : فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ إلخ ، ولعل تقديم وصف العذاب دون وصف الرحمة ليفرغ ذهنه عليه السلام مما يخاف منه مع أن في عكس هذا الترتيب ما يوجب انتشار

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 75
النظم الكريم ووصف أخلاقهم بما وصفوا به لاستنهاض همهم إلى الاتصاف بما يمكن اتصافهم به منه أو إلى الثبات عليه ، ولم يصرح في الجواب بحصول السؤال بأن يقال : قد أوتيت سؤلك يا موسى مثلا اختيارا لما هو أبلغ فيه ، وهذا الذي ذكرناه وإن كان لا يخلو عن شيء إلا أنه أولى من كثير مما وقفنا عليه من كلام المفسرين وقد تقدم بعضه ، وأقول بعد هذا كله : خير الاحتمالات ما تشهد له الآثار وإذا صح الحديث فهو مذهبي فتأمل. والسين في فَسَأَكْتُبُها يحتمل أن تكون للتأكيد ، ويحتمل أن تكون للاستقبال كما لا يخفى وجهه على ذوي الكمال الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ الذي أرسله اللّه تعالى لتبليغ الأحكام النَّبِيَّ أي الذي أنبأ الخلق عن اللّه تعالى فالأول تعتبر فيه الإضافة إلى اللّه تعالى والثاني تعتبر فيه الإضافة إلى الخلق ، وقدم الأول عليه لشرفه وتقدم إرسال اللّه تعالى له على تبليغه ، وإلى هذا ذهب بعضهم ، وجعلوا إشارة إلى أن الرسول والنبي هنا مراد بهما معناهما اللغوي لإجرائهما على ذات واحدة كما أنهما كذلك في قوله تعالى : وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم : 51 ، 54] ، وفسر في الكشاف الرسول بالذي يوحى إليه كتاب والنبي بالذي له معجزة ، ويشير إلى الفرق بين الرسول والنبي بأن الرسول من له كتاب خاص والنبي أعم. وتعقبه في الكشف بأن أكثر الرسل لم يكونوا أصحاب كتاب مستقل كإسماعيل ولوط والياس عليهم السلام وكم وكم وكم ثم قال : والتحقيق أن النبي هو الذي ينبىء عن ذاته تعالى وصفاته وما لا تستقل العقول بدرايته ابتداء بلا واسطة بشر ، والرسول هو المأمور مع ذلك بإصلاح النوع ، فالنبوة نظر فيها إلى الإنباء عن اللّه تعالى والرسالة إلى المبعوث إليهم ، والثاني وإن كان أخص وجودا إلا أنهما مفهومان مفترقان ولهذا لم يكن رسولا نبيا مثل إنسان حيوان ا ه.
وفيه مخالفة بينة لما ذكر أولا ، ولا حجر في الاعتبار. نعم ما ذكروه مدفوع بأن الفرق المذكور مع تغاير المفهومين على كل حال من عرف الشرع والاستعمال ، وأما في الوضع والحقيقة اللغوية فهما عامان. وقد ورد في القرآن بالاستعمالين فلا تعارض بينهما.
ولا يرد أن ذكر النبي العام بعد الخاص لا يفيد والمعروف في مثل ذلك العكس ، ولا يخفى أن المراد بهذا الرسول النبي نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم الْأُمِّيَّ أي الذي لا يكتب ولا يقرأ ، وهو على ما قال الزجاج نسبة إلى أمة العرب لأن الغالب عليهم ذلك. وروى الشيخان وغيرهما عن ابن عمر قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب»
أو
إلى أم القرى لأن أهلها كانوا كذلك ، ونسب ذلك إلى الباقر رضي اللّه تعالى عنه
أو إلى أمه كأنه على الحالة التي ولدته أمه عليها ، ووصف عليه الصلاة والسلام بذلك تنبيها على أن كمال علمه مع حاله إحدى معجزاته صلّى اللّه عليه وسلّم فهو بالنسبة إليه - بأبي هو وأمي - عليه الصلاة والسلام صفة مدح ، وأما بالنسبة إلى غيره فلا ، وذلك كصفة التكبر فإنها صفة مدح للّه عزّ وجلّ وصفة ذم لغيره.
واختلف في أنه عليه الصلاة والسلام هل صدر عنه الكتابة في وقت أم لا؟ فقيل : نعم صدرت عنه عام الحديبية فكتب الصلح وهي معجزة أيضا له صلّى اللّه عليه وسلّم وظاهر الحديث يقتضيه ، وقيل : لم يصدر عنه أصلا وإنما أسندت إليه في الحديث مجازا. وجاء عن بعض أهل البيت رضي اللّه عنهم أنه صلّى اللّه عليه وسلّم كان تنطق له الحروف المكتوبة إذا نظر فيها ،
ولم أر لذلك سندا يعول عليه ، وهو صلّى اللّه عليه وسلّم فوق ذلك. نعم
أخرج أبو الشيخ من طريق مجاهد قال حدثني عون بن عبد اللّه بن عتبة عن أبيه قال : «ما مات النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حتى قرأ وكتب
فذكرت هذا الحديث للشعبي فقال : صدق سمعت أصحابنا يقولون ذلك» وقيل : الأمي نسبة إلى الأم بفتح الهمزة بمعنى القصد لأنه المقصود وضم الهمزة من تغيير النسب ، ويؤيده قراءة يعقوب «الأمّي» بالفتح وإن احتملت أن تكون من تغيير النسب أيضا ، والموصول في محل جر بدل من الموصول الأول ، هو إما بدل كل على أن المراد منه هؤلاء المعهودين أو بعض على أنه عام ويقدر حينئذ منهم ، وجوز أن يكون

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 76
نعتا له ، ويحتمل أن يكون في محل نصب على القطع وإضمار ناصب له ، وأن يكون في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وقيل : على أنه مبتدأ خبره جملة يَأْمُرُهُمْ أو أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وكلاهما خلاف المتبادر من النظم الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً باسمه ونعوته الشريفة بحيث لا يشكون أنه هو ، ولذلك عدل عن أن يقال : يجدون اسمه أو وصفه مكتوبا عِنْدَهُمْ ظرف لمكتوبا الواقع حالا أو ليجدون ، وذكر لزيادة التقرير وأن شأنه عليه الصلاة والسلام حاضرة عندهم لا يغيب عنهم أصلا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ اللذين يعتد بهما بنو إسرائيل سابقا ولا حقا ، وكأنه لهذا المعنى اقتصر عليهما وإلا فهو صلّى اللّه عليه وسلّم مكتوب في الزبور أيضا ،
أخرج ابن سعد. والدارمي في مسنده. والبيهقي في الدلائل. وابن عساكر عن عبد اللّه بن سلام قال : «صفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في التوراة يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة ولكن يعفو ويصفح ولن يقبضه اللّه تعالى حتى يقيم به الملة العوجاء حتى يقولوا لا إله إلا اللّه ويفتح أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا» ، ومثله من رواية البخاري وغيره عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص ،
وجاء من حديث أخرجه ابن سعد. وابن عساكر من طريق موسى بن يعقوب الربعي عن سهل مولى خيثمة قال : «قرأت في الإنجيل نعت محمد صلّى اللّه عليه وسلّم أنه لا قصير ولا طويل أبيض ذو ضفيرتين بين كتفيه خاتم لا يقبل الصدقة ويركب الحمار. والبعير ويحلب الشاة ويلبس قميصا مرقوعا ومن فعل ذلك فقد برىء من الكبر وهو يفعل ذلك وهو من ذرية إسماعيل اسمه أحمد».
وجاء من خبر أخرجه البيهقي في الدلائل عن وهب بن منبه قال : «إن اللّه تعالى أوحى في الزبور يا داود إنه سيأتي من بعدك نبي اسمه أحمد ومحمد لا أغضب عليه أبدا ولا يعصيني أبدا وقد غفرت له قبل أن يعصيني ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأمته مرحومة أعطيتهم من النوافل مثل ما أعطيت الأنبياء وافترضت عليهم الفرائض التي افترضت على الأنبياء والرسل حتى يأتوني يوم القيامة ونورهم مثل نور الأنبياء وذلك أني افترضت عليهم أن يتطهروا إلى كل صلاة كما افترضت على الأنبياء قبلهم وأمرتهم بالغسل من الجنابة كما أمرت الأنبياء قبلهم وأمرتهم بالحج كما أمرت الأنبياء قبلهم وأمرتهم بالجهاد كما أمرت الرسل قبلهم يا داود إني فضلت محمدا وأمته على الأمم كلهم ، أعطيتهم ست خصال لم أعطها غيرهم من الأمم ، لا أؤاخذهم بالخطأ والنسيان وكل ذنب ركبوه على غيره عمد إذا استغفروني منه غفرته وما قدموا لآخرتهم من شيء طيبة به أنفسهم عجلته لهم أضعافا مضاعفة ولهم عندي أضعاف مضاعفة وأفضل من ذلك ، وأعطيتهم على المصائب إذا صبروا وقالوا : إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [البقرة : 156] الصلاة والرحمة والهدى إلى جنات النعيم ، فإن دعوتي استجبت لهم فإما أن يروه عاجلا وإما أن أصرف عنهم سوءا وإما أن أدخره لهم في الآخرة ، يا داود من لقيني من أمة محمد يشهد أن لا إله إلا اللّه وحدي لا شريك لي صادقا بها فهو معي في جنتي وكرامتي ومن لقيني وقد كذب محمدا وكذب بما جاء به واستهزأ بكتابي صببت عليه من قبره العذاب صبا وضربت الملائكة وجهه ودبره عند منشره في قبره ثم أدخله في الدرك الأسفل من النار»
إلى غير ذلك من الأخبار الناطقة بأنه صلّى اللّه عليه وسلّم مكتوب في الكتب الإلهية. والظرفان متعلقان بيجدونه أو بمكتوبا. وذكر الإنجيل قبل نزوله من قبيل ما نحن فيه من ذكر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم والقرآن الكريم قبل مجيئهما.
يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ كلام مستأنف ، وهو على ما قيل متضمن لتفصيل بعض أحكام الرحمة التي وعد فيما سبق بكتبها إجمالا إذ ما أشارت إليه المتعاطفات من آثار الرحمة الواسعة وجوز كونه في محل نصب على أنه حال مقدرة من مفعول يجدونه أو من المستكن في مكتوبا ، وقيل : هو مفسر لمكتوبا أي لما كتب ، والمراد بالمعروف قيل الإيمان ، وقيل : ما عرف في الشريعة. والمراد بالمنكر ضد ذلك وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 77
عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ فسر الأول بالأشياء التي يستطيبها الطبع كالشحوم ، والثاني بالأشياء التي يستخبثها كالدم ، فتكون الآية دالة على أن الأصل في كل ما تستطيبه النفس ويستلذه الطبع الحل وفي كل ما تستخبثه النفس ويكرهه الطبع الحرمة إلا لدليل منفصل ، وفسر بعضهم الطيب بما طاب في حكم الشرع والخبيث بما خبث فيه كالربا والرشوة.
وتعقب بأن الكلام حينئذ يحل ما يحكم بحله ويحرم ما يحكم بحرمته ولا فائدة فيه. وردوه بأنه يفيد فائدة وأي فائدة لأن معناه أن الحل والحرمة بحكم الشرع لا بالعقل والرأي ، وجوز بعضهم كون الخبيث بمعنى ما يستخبث طبعا أو ما خبث شرعا وقال كالدم أو الربا ومثل للطيب بالشحم وجعل ذلك مبنيا على اقتضاء التحليل سبق التحريم والشحم كان محرما عند بني إسرائيل ، وعلى اقتضاء التحريم سبق التحليل وجعل الدم وأخيه مما حرم على هذا لأن الأصل في الأشياء الحل ، ولا يرد أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا [البقرة : 275] لأنه لرد قولهم إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا [البقرة :
275] أو لأن المراد ابقاؤه على حله لمقابلته بتحريم الربا. ودفع بهذا ما توهم من عدم الفائدة وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ أي يخفف عنهم ما كلفوه من التكاليف الشاقة كقطع موضع النجاسة من الثوب أو منه ومن البدن ، وإحراق الغنائم ، وتحريم السبت ، وقطع الأعضاء الخاطئة ، وتعين القصاص في العمد والخطأ من غير شرع الدية فإنه وإن لم يكن مأمورا به في الألواح إلا أنه شرع بعد تشديدا عليهم على ما قيل ، وأصل الأصر الثقل الذي يأصر صاحبه عن الحراك ، والاغلال جمع غل بضم الغين وهي في الأصل كما قال ابن الأثير الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى عنقه ويقال لها جامعة أيضا ، ولعل غير الحديد إذا جمع به يد إلى عنق يقال له ذلك أيضا ، والمراد منهما هنا ما علمت وهو المأثور عن كثير من السلف ، ولا يخفى ما في الآية من الاستعارة.
وجوز أن يكون هناك تمثيل ، وعن عطاء كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلي لبسوا المسوح وغلوا أيديهم إلى أعناقهم وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها على السارية يحبس نفسه على العبادة وعلى هذا فالأغلال يمكن أن يراد حقيقته ، وقرأ ابن عامر «آصارهم» على الجمع وقرأ «آصرهم» بالفتح على المصدر وبالضم على الجمع أيضا فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ أي صدقوا برسالته ونبوته وَعَزَّرُوهُ أي عظموه ووقروه كما قال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وقال الراغب : التعزير النصرة مع التعظيم ، والتعزير الذي هو دون الحد يرجع إليه لأنه تأديب والتأديب نصرة لأن أخلاق السوء أعداء ولذا
قال في الحديث : «انصر أخاك ظالما أو مظلوما فقيل كيف أنصره ظالما؟ فقال عليه الصلاة والسلام : تكفه عن الظلم»
وأصله عند غير واحد المنع والمراد منعه حتى لا يقوى عليه عدو ، وقرىء «عزروه» بالتخفيف وَنَصَرُوهُ على أعدائه في الدين وعطف هذا على ما قبله ظاهر على ما روي عن الحبر وكذا على ما قاله الجمع إذ الأول عليه من قبيل درء المفاسد وهذا من قبيل جلب المصالح ، ومن فسر الأول بالتعظيم مع التقوية أخذا من كلام الراغب قال هنا نصروه لي أي قصدوا بنصره وجه اللّه تعالى وإعلاء كلمته فلا تكرار خلافا لمن توهمه وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ وهو القرآن وعبر عنه بالنور لظهوره في نفسه بإعجازه وإظهاره لغيره من الأحكام وصدق الدعوى فهو أشبه شيء بالنور الظاهر بنفسه والمظهر لغيره بل هو نور على نور ، والظرف اما متعلق بأنزل والكلام على حذف مضاف أي مع نبوته أو إرساله عليه السلام لأنه لم ينزل معه وإنما نزل مع جبريل عليه السلام.
نعم استباؤه أو إرساله كان مصحوبا بالقرآن مشفوعا به وإما متعلق باتبعوا على معنى شاركوه في اتباعه وحينئذ لم يحتج إلى تقدير ، وقد يعلق به على معنى اتبعوا القرآن مع اتباعهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إشارة إلى العمل بالكتاب والسنة ، وجوز أن يكون في موضع الحال من ضمير اتبعوا أي اتبعوا النور مصاحبين له في اتباعه وحاصله ما ذكر في الاحتمال الثاني ، وأن يكون حالا مقدرة من نائب فاعل أنزل. وفي مجمع البيان أن مع بمعنى على وهو متعلق بأنزل ولم يشتهر وروي

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 78
ذلك ، وقال بعضهم : هي هنا مرادفة لعند وهو أحد معانيها المشهورة إلا أنه لا يخفى بعده وإن قيل حاصل المعنى حينئذ أنزل عليه أُولئِكَ أي المنعوتون بتلك النعوت الجليلة هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي هم الفائزون بالمطلوب لا المتصفون بأضداد صفاتهم ، وفي الإشارة إشارة إلى علية تلك الصفات للحكم ، وكاف البعد للإيذان ببعد المنزلة وعلو الدرجة في الفضل والشرف ، والمراد من الموصول المخبر عنه بهذه الجملة عند ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه اليهود الذين آمنوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وقيل : ما يعمهم وغيرهم من أمته عليه الصلاة والسلام المتصفين بعنوان الصلة إلى يوم القيامة والاتصاف بذلك لا يتوقف على إدراكه صلّى اللّه عليه وسلّم كما لا يخفى وهو الأولى عندي.
وادعى بعضهم أن المراد من الموصول في قوله تعالى : فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ المعنى الأعم أيضا وجعله ابن الخازن قول جمهور المفسرين ، وفيه ما فيه ومما يقضي منه العجب كون المراد منه اليهود الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام ، والجملة متفرعة على ما تقدم من نعوته صلّى اللّه عليه وسلّم الجليلة الشأن ، وقيل : على كتب الرحمة لمن مر ، وذكر شيخ الإسلام أنها تعليم لكيفية اتباعه عليه السلام وبيان علو رتبة متبعيه واغتنامهم مغانم الرحمة الواسعة في الدارين إثر بيان نعوته الجليلة والإشارة إلى إرشاده عليه الصلاة والسلام وإياهم بما في ضمن يَأْمُرُهُمْ إلخ ، وجعل الحصر المدلول عليه بقوله سبحانه : أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ بالنسبة إلى غيرهم من الأمم ثم قال : فيدخل فيهم قوم موسى عليه السلام دخولا أوليا حيث لم ينجوا عما في توبتهم من المشقة الهائلة ، وهو مبني على ما سلكه في تفسير الآيات من أول الأمر ولا يصفو عن كدر قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً لما حكى ما في الكتابين من نعوته صلّى اللّه عليه وسلّم وشرف من يتبعه على ما عرفت ، أمر عليه الصلاة والسلام بأن يصدع بما فيه تبكيت لليهود الذين حرموا أتباعه وتنبيه لسائر الناس على افتراء من زعم منهم أنه صلّى اللّه عليه وسلّم مرسل إلى العرب خاصة ، وقيل : إنه أمر له عليه الصلاة والسلام ببيان أن سعادة الدارين المشار إليهما فيما تقدم غير مختصة بمن اتبعه من أهل الكتابين بل شاملة لكل من يتبعه كائنا من كان وذلك ببيان عموم رسالته صلّى اللّه عليه وسلّم وهي عامة للثقلين كما نطقت به النصوص حتى صرحوا بكفر منكره وما هنا لا يأبى ذلك ، والمفهوم فيه غير معتبر عند القائل به لفقد شرطه وهو ظاهر الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ في موضع نصب بإضمار أعني أو نحوه أو رفع على إضمار هو.
وجوز أن يكون في موضع جر على أنه صفة للاسم الجليل أو بدل منه ، واستبعد ذلك أبو البقاء لما فيه من الفصل بينهما ، وأجيب بأنه مما ليس بأجنبي وفي حكم ما لا يكون فيه فصل ورجح الأول بالفخامة إذ يكون عليه جملة مستقلة مؤذنة بأن المذكور علم في ذلك أي اذكر من لا يخفى شأنه عند الموافق والمخالف ، وقيل : هو مبتدأ خبره لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وهو على الوجوه الأول بيان لما قبله وجعله الزمخشري مع ذلك بدلا من الصلة وقد نص على جواز هذا النحو سيبويه وذكر العلامة أن سوق كلامه يشعر بأنه بدل استعمال ، ووجه البيان أن من ملك العالم علويه وسفليه هو الإله فبينهما تلازم يصحح جعل الثاني مبينا للأول وليس المراد بالبيان الإثبات بالدليل حتى يقال الظاهر العكس لأن الدليل على تفرده سبحانه بالألوهية ملكه للعالم بأسره مع أنه يصح أن يجعل دليلا عليه أيضا فيقال الدليل على أنه جل شأنه المالك المتصرف في ذلك انحصار الألوهية فيه إذ لو كان إله غيره لكان له ذلك ، واعترض أبو حيان القول بالبدلية بأن إبدال الجمل من الجمل غير المشتركة في عامل لا يعرف ، وتعقب بأن أهل المعاني ذكروه وتعريف التابع بكل ثان أعرب بإعراب سابقه ليس بكلي ، وقوله سبحانه : يُحيِي وَيُمِيتُ لزيادة تقرير إلهيته سبحانه ، وقيل :
لزيادة اختصاصه تعالى بذلك وله وجه وجيه والفاء في قوله عز شأنه : فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ لتفريع الأمر على ما تقرر من رسالته صلّى اللّه عليه وسلّم وإيراد نفسه الكريمة عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة على طريق الالتفات إلى الغيبة للمبالغة في

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 79
إيجاب الامتثال ووصف الرسول بقوله تعالى : النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ لمدحه ولزيادة تقرير أمره وتحقيق أنه المكتوب في الكتابين الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ ما أنزل عليه وعلى سائر الرسل عليهم السلام من كتبه ووحيه ، وقرىء «وكلمته» على إرادة الجنس أو القرآن أو عيسى عليه السلام كما روي ذلك عن مجاهد تعريضا لليهود تنبيها على أن من لم يؤمن به عليه السلام لم يعتبر إيمانه ، والإتيان بهذا الوصف بحمل أهل الكتابين على الامتثال بما أمروا به والتصريح بالإيمان باللّه تعالى للتنبيه على أن الإيمان به سبحانه لا ينفك عن الإيمان بكلماته ولا يتحقق إلا به ولا يخفى ما في هذه الآية من إظهار النصفة والتفادي عن العصبية للنفس وجعلوا ذلك نكتة للالتفات وإجراء هاتيك الصفات وَاتَّبِعُوهُ أي في كل ما يأتي وما يذر من أمور الدين.
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ علة للفعلين أو حال من فاعليهما أي رجاء لاهتدائكم إلى المطلوب أو راجين له. وفي تعليقه بهما إيذان بأن من صدقه ولم يتبعه بالتزام شرعه فهو بعد في مهامه الضلال وَمِنْ قَوْمِ مُوسى يعني بني إسرائيل أُمَّةٌ جماعة عظيمة يَهْدُونَ الناس بِالْحَقِّ أي محقين على أن الباء للملابسة ، والجار والمجرور في موضع الحال أو بكلمة الحق على أن الباء للآلة والجار لغو وَبِهِ أي بالحق يَعْدِلُونَ في الأحكام الجارية فيما بينهم ، وصيغة المضارع في الفعلين للايذان بالاستمرار التجددي ، واختلف في المراد منهم فقيل أناس كانوا كذلك على عهد موسى صلّى اللّه عليه وسلّم والكلام مسوق لدفع ما عسى يوهمه تخصيص كتب الرحمة والتقوى والإيمان بالآيات بمتبعي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من حرمان أسلاف قوم موسى عليه السلام من كل خير وبيان أن كلهم ليسوا كما حكيت أحوالهم بل منهم الموصوفون بكيت وكيت ، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية.
واختار هذا شيخ الإسلام ولا يبعد عندي أن يكون ذلك بيانا لقسم آخر من القوم مقابل لما ذكره موسى عليه السلام في قوله : أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا فيه تنصيص على أن من القوم من لم يفعل ، وقيل : أناس وجدوا على عهد نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم موصوفون بذلك كعبد اللّه بن سلام وأضرابه ورجحه الطيبي بأنه أقرب الوجوه ، وذلك أنه تعالى لما أجاب عن دعاء موسى عليه السلام بقوله تعالى : فَسَأَكْتُبُها إلى قوله سبحانه : الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ إلخ ثم أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يصدع بما فيه تبكيت لليهود وتنبيه على افترائهم فيما يزعمونه في شأنه عليه السلام مع إظهار النصفة وذلك بقوله تعالى : قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إلخ وقوله سبحانه : فَآمِنُوا إلخ عقب ذلك بقوله عزّ شأنه : وَمِنْ قَوْمِ مُوسى إلخ ، والمعنى أن بعض هؤلاء الذين حكينا عنهم ما حكينا آمنوا وأنصفوا من أنفسهم يهدون الناس إلى أنه عليه الصلاة والسلام الرسول الموعود ويقولون لهم : هذا الرسول النبي الأمي الذي نجده مكتوبا عندنا في التوراة والإنجيل ويعدلون في الحكم لا يجورون ولكن أكثرهم ما أنصفوا ولبسوا الحق بالباطل وكتموه وجاروا في الأحكام فيكون ذكر هذه الفرقة تعريضا بالأكثر.
واعترض بأن الذين آمنوا من قوم موسى على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كانوا قليلين ولفظ أمته يدل على الكثرة ، وأيضا إن هؤلاء قد مر ذكرهم فيما سلف ، وأجيب بأن لفظ الأمة قد يطلق على القليل لا سيما إذا كان له شأن بل قد يطلق على الواحد إذا كان كذلك كما في قوله تعالى : إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل : 120] وبأن ذكرهم هنا لما أشير إليه من النكتة لا يأبى ذكرهم فيما سلف لغير تلك النكتة وتكرار الشيء الواحد لاختلاف الأغراض سنة مشهورة في الكتاب على أنه قد قيل : إنهم فيما تقدم قد وصفوا بما هو ظاهر في أنهم مهتدون وهنا قد وصفوا بما هو ظاهر في أنهم هادون فيحصل من الذكرين أنهم موصوفون بالوصفين. نعم يبقى الكلام في نكتة الفصل ولعلها لا تخفى على المتدبر ، وقيل هم قوم من بني إسرائيل وجدوا بين موسى ونبينا محمد عليهما الصلاة والسلام وهم الآن موجودون

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 80
أيضا ، فقد أخرج ابن جرير وغيره عن ابن جريج أنه قال : بلغني أن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا اثني عشر سبطا تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا وسألوا اللّه أن يفرق بينهم وبينهم ففتح اللّه تعالى لهم نفقا في الأرض فساروا فيه حتى خرجوا من وراء الصين فهم هنالك حنفاء يستقبلون قبلتنا ، وإليهم الإشارة كما قال ابن عباس بقوله تعالى : وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً [الإسراء : 104] وفسر وعد الآخرة بنزول عيسى عليه السلام وقال : إنهم ساروا في السرب سنة ونصفا.
وذكر مقاتل كما روى أبو الشيخ أن اللّه تعالى أجرى معهم نهرا وجعل لهم مصباحا من نور بين أيديهم وأن أرضهم التي خرجوا إليها تجتمع فيها الهوام والبهائم والسباع مختلطين وأن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أتاهم ليلة المعراج ومعه جبرئيل عليه السلام فآمنوا به وعلمهم الصلاة ،
وعن الكلبي والضحاك والربيع أنه عليه الصلاة والسلام علمهم الزكاة وعشر سور من القرآن نزلت بمكة وأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبت وأقرأه سلام موسى عليه السلام فرد النبي عليه الصلاة والسلام ، السلام.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال بينكم وبينهم نهر من رمل يجري ، وضعف هذه الحكاية ابن الخازن وأنا لا أراها شيئا ولا أظنك تجد لها سندا يعول عليه ولو ابتغيت نفقا في الأرض أو سلما في السماء.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي دون رؤيتي على ما يقوله نفاة الرؤية فَخُذْ ما آتَيْتُكَ بالتمكين وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ بالاستقامة في القيام بحق العبودية التي لا مقام أعلى منها لا تدعني إلا بيا عبدها. فإنه أشرف أسمائي ، وبالشكر تزداد النعم كما نطق بذلك الكتاب وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ أي أظهرنا نقوش استعداده في ألواح تفاصيل وجوده من الروح والقلب والعقل والفكر والخيال فظهر فيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ أي بعزم لتكون من ذويه وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها أي أكثرها نفعا وهي العزائم سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ أي عاقبة الذين لا يأخذون بذلك سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وهم الذين في مقام النفس فيكون تكبرهم حجابا لهم عن آيات اللّه تعالى وأما المتكبرون بالحق وهم الذين فنيت صفاتهم وظهرت عليهم صفات مولاهم فليسوا بمحجوبين ولا يعد تكبرهم مذموما لأنه ليس تكبرهم حقيقة وإنما حظهم منه كونهم مظهرا له الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حيث حجبوا بصفاتهم وأفعالهم حبطت أعمالهم فلا تقربهم شيئا وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا صنعه لهم السامري وكان من قوم يعبدون العجل أو ممن رآهم فوقع في قلبه لسوء استعداده حبه وأضمر عبادته واختار صياغته من حليهم ليكون ميلهم إليه أتم لأن قلب الإنسان يميل حيث ماله سيّما إذا كان ذهبا أو فضة ، وكثير من الناس اليوم عبيد الدرهم والدينار وهما العجل المعنوي لهم وإن لم يسجدوا له وأكثر الأقوال أن ذلك العجل صار ذا لحم ودم إليه الإشارة بقوله تعالى : جَسَداً لَهُ خُوارٌ وفي كلام الشيخ الأكبر قدس سره أنه صار
ذا روح بواسطة الترب الذي وطئه الروح الأمين ولم يصرح بكونه ذا لحم ودم وَأَلْقَى الْأَلْواحَ أي ذهل من شدة الغضب عنها وتجافى عن حكم ما فيها ونسيان ما يستحسن من الحلم مثلا عند الغضب مما يجده كل أحد من نفسه وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يجره إليه ظنا أنه قصر في كفهم.
قالَ ابْنَ أُمَّ ناداه بذلك لغلبة الرحمة عليه ، وتأويل ذلك في الأنفس على ما قاله بعض المؤولين أن سامري الهوى بعد توجه موسى عليه السلام الروح لميقات مكالمة الحق اتخذ من حلي زينة الدنيا ورعونات البشرية التي استعارها بنو إسرائيل صفات القلب من قبط صفات النفس معبودا يتعجلون إليه له خوار يدعون الخلق به إلى نفسه أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ بما ينفعهم ولا يهديهم سبيلا إلى الحق اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ حيث عدلوا عن

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 81
عبادة الحق إلى عبادة غيره في نظرهم وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ أي ندموا عند رجوع موسى الروح قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا بجذبات العناية وَيَغْفِرْ لَنا بأن يستر صفاتنا بصفاته سبحانه وتعالى لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ رأس مال هذه النشأة وهو الاستعداد وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ وهم الأوصاف الإنسانية غَضْبانَ مما عبدت صفات القلب عجل الدنيا أَسِفاً على ما فات لها من عبادة الحق قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي حيث لم تسيروا سيري أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ بالرجوع إلى الفاني من غير أمره تعالى وَأَلْقَى الْأَلْواحَ أي ما لاح له من اللوائح الربانية عند استيلاء الغضب الطبيعي وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ وهو القلب يجره إليه قسرا ، قالَ ابْنَ أُمَّ ناداه بذلك مع أنه أخوه من أبيه وهو عالم الأمر وأمه وهو عالم الخالق لأنهما في عالم الخلق إِنَّ الْقَوْمَ أي أوصاف البشرية اسْتَضْعَفُونِي عند غيبتك وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي يزيلون مني حياة استعدادي بالكلية فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وهم - هم. ،
وهذا ما يقتضيه مقام الفرق ، قال : رب اغفر لي ولأخي استر صفاتنا وأدخلنا في رحمتك بإفاضة الصفات الحقة علينا وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ لأن كل رحمة فهو شعاع نور ورحمتك إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ أي عجل الدنيا إلها سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وهو عذاب الحجاب وذلة في الحياة الدنيا باستعباد هذا الفاني المدني لهم وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ الذين يفترون على اللّه تعالى فيثبتون وجود لما سواه ، وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا رجعوا إليه سبحانه وتعالى بمجاهدة نفوسهم وإفنائهم إن ربك من بعدها لغفور فيستر صفاتهم رحيم فيفيض عليهم من صفاتهم ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح الربانية ، وفي نسختها هدى إرشاد إلى الحق وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ يخافون لحسن استعدادهم ، ويقال في قوله سبحانه وتعالى :
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا إن موسى عليه السلام اختار سبعين رجلا من أشراف قومه ونجبائهم أهل الاستعداد والصفاء والإرادة والطلب والسلوك فلما أخذتهم الرجفة أي رجفة البدن التي هي من مبادي صعقة الفناء عند طريان بوارق الأنوار وظهور طوالع تجليات الصفات من اقشعرار الجسد وارتعاده وكثيرا ما تعرض هذه الحركة للسالكين عند الذكر أو سماع القرآن أو ما يتأثرون به حتى تكاد تتفرق أعضاؤهم ، وقد شاهدنا ذلك في الخالدين من أهل الطريقة النقشبندية ، وربما يعتريهم في صلاتهم صياح معه فمنهم من يستأنف صلاته لذلك ومنهم من لا يستأنف ، وقد كثر الإنكار عليهم وسمعت بعض المنكرين يقولون : إن كانت هذه الحالة مع الشعور والعقل فهي سوء أدب ومبطلة للصلاة قطعا وإن كانت مع عدم شعور وزوال عقل فهي ناقضة للوضوء ونراهم لا يتوضؤون ، وأجيب بأنها غير اختيارية مع وجود العقل والشعور ، وهي كالعطاس والسعال ومن هنا لا ينتقض الوضوء بل ولا تبطل الصلاة ، وقد نص بعض الشافعية أن المصلي لو غلبه الضحك في الصلاة لا تبطل صلاته ويعذر بذلك فلا يبعد أن يلحق ما يحصل من آثار التجليات الغير الاختيارية بما ذكر ولا يلزم من كونه غير اختياري كونه صادرا من غير شعور فإن حركة المرتعش غير اختيارية مع الشعور بها ، وهو ظاهر فلا معنى للإنكار. نعم كان حضرة مولانا الشيخ خالد قدس سره يأمره من يعتريه ذلك من المريدين بالوضوء واستئناف الصلاة سدا لباب الإنكار ، والحق أن ما يعتري هذه الطائفة غير ناقض الوضوء لعدم زوال العقل معه لكنه مبطل للصلاة لما فيه من الصياح الذي يظهر به حرفان مع أمور تأباها الصلاة ولا عذر لمن يعتريه ذلك إلا إذا ابتلي به بحيث لم يخل زمن من الوقت يسع الصلاة بدونه فإنه يعذر حينئذ ولا قضاء عليه إذا ذهب منه ذلك الحال كمن به حكّة لا يصبر معها على عدم الحك.
وقد نص الجد عليه الرحمة في حواشيه على شرح الحضرمية للعلامة ابن حجر في صورة ابتلي بسعال مزمن على نحو ذلك ، ثم قال : فرع لو ابتلي بذلك وعلم من عادته أن الحمام يسكنه عنه مدة تسع الصلاة وجب عليه دخوله

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 82
حيث وجد أجرة الحمام فاضلة عما يعتبر في الفطرة وإن فاتته الجماعة وفضيلة أول الوقت انتهى. نعم ذكر عليه رحمة اللّه تعالى في الفعل الكثير المبطل للصلاة وهو ثلاثة أفعال أنه لو ابتلي بحركة اضطرارية نشأ عنها عمل كثير فمعذور ، وقال أيضا : إنه لا يضر الصوت الغير المشتمل على النطق بحرفين متواليين من أنف أو فم وإن اقترنت به همهمة شفتي الأخرس ولو لغير حاجة وإن فهم الفطن كلاما أو قصد محاكاة بعض أصوات الحيوانات إن لم يقصد التلاعب وإلا بطلت ، وينبغي التحري في هؤلاء القوم فإن حالهم في ذلك متفاوت لكن أكثر ما شاهدناه على الطرز الذي ذكرناه ، وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من الكتب الفقهية. قال موسى : رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ وذلك من شدة غلبة الشوق ، ولَوْ هذه للتمني ، أتهلكنا بعذاب الحجاب والحرمان بما فعل السفهاء من عبادة العجل إن هي إلا فتنتك لا مدخل فيها لغيرك ، وهذا مقتضى مقام تجلي الأفعال ، فاغفر لنا ذنوب صفاتنا وذواتنا كما غفرت ذنوب أفعالنا ، وارحمنا بإفاضة أنوار شهودك ورفع حجاب الآنية بوجودك ، واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وهي حسنة الاستقامة بالبقاء بعد الفناء ، وفي الآخرة حسنة المشاهدة ، والكلام في بقية الكلام لا يخفى على من له أدنى ذوق.
خلا أن بعضهم أول العذاب في قوله سبحانه وتعالى : عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ بعذاب الشوق المخصوص الذي يصيب أهل العناية من الخواص وهو الرحمة التي لا يكتنه كنهها ولا يقدر قدرها وإنها لأعز من الكبريت الأحمر ، وأهل الظاهر يرونه بعيدا والقوم يقولون نراه قريبا ، وقالوا : الأمي نسبة إلى الأم لكن على حد أحمري ، وقيل : للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ذلك لأنه أم الموجودات وأصل المكنونات ، واختبر هذا اللفظ لما فيه من الإشارة إلى الرحمة والشفقة وهو الذي جاء رحمة للعالمين وإنه عليه الصلاة والسلام لأشفق على الخلق من الأم بولدها إذ له صلّى اللّه عليه وسلّم الحظ الأوفر من التخلق بأخلاق اللّه تعالى وهو سبحانه أرحم الراحمين ، وذكروا أن أتباعه من حيث النبوة الخواص ومن حيث الأمية خواص الخواص ومن حيث الرسالة هؤلاء المذكورون كلهم والعوام نسأل اللّه تعالى أن يوفقنا لاتباعه صلّى اللّه عليه وسلّم في سائر شؤونه.
وَقَطَّعْناهُمُ أي قوم موسى عليه السلام لا الأمة المذكورة كما يوهمه القرب «وقطع» يقرأ مشددا ومخففا والأول هو المتواتر ويتعدى لواحد وقد يضمن معنى صير فيتعدى لاثنين فقوله تعالى : اثْنَتَيْ عَشْرَةَ حال أو مفعول ثاني ، أي فرقناهم معدودين بهذا العدد أو صيرناهم اثنتي عشرة أمة يتميز بعضها عن بعض ، وقوله سبحانه وتعالى :
أَسْباطاً كما قال ابن الحاجب في شرح المفصل بدل من العدد لا تمييز له وإلا لكانوا ستة وثلاثين ، وعليه فالتمييز محذوف أي فرقة أو نحوه ، قال الحوفي : إن صفة التمييز أقيمت مقامه والأصل فرقة أسباطا ، وجوز أن يكون تمييزا لأنه مفرد تأويلا ، فقد ذكروا أن السبط مفردا ولد الولد أو ولد البنت أو الولد أو القطعة من الشيء أقوال ذكرها ابن الأثير ، ثم استعمل في كل جماعة من بني إسرائيل كالقبيلة في العرب ، ولعله تسمية لهم باسم أصلهم كتميم ، وقد يطلق على كل قبيلة منهم أسباط أيضا كما غلب الأنصار على جمع مخصوص فهو حينئذ بمعنى الحي والقبيلة فلهذا وقع موقع المفرد في التمييز وهذا كما ثنى الجمع في قول أبي النجم يصف رمكة تعودت الحرب :
تبقلت في أول التبقل بين رماحي مالك ونهشل
وتأنيث اثنتي مع أن المعدود مذكر وما قبل الثلاثة يجري على أصل التأنيث والتذكير لتأويل ذلك بمؤنث وهو ظاهر مما قررنا ، وقرأ الأعمش وغيره «عشرة» بكسر الشين وروي عنه فتحها أيضا والكسر لغة تميم والسكون لغة الحجاز ، وقوله سبحانه : أُمَماً بدل بعد بدل من اثنتي عشرة لا من أسباط على تقدير أن يكون بدلا لأنه لا يبدل من البدل ، وجوز كونه بدلا منه إذا لم يكن بدلا ونعتا إن كان كذلك أو لم يكن وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ حين استولى عليه العطش في التيه أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ تفسير لفعل الإيحاء «فإن» بمعنى أي ، وجوز

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 83
أبو البقاء كونها مصدرية فَانْبَجَسَتْ أي انفجرت كما قال ابن عباس وزعم الطبرسي أن الانبجاس خروج الماء بقلة والانفجار خروجه بكثرة ، والتعبير بهذا تارة وبالأخرى أخرى باعتبار أول الخروج وما انتهى إليه ، والعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي فضرب فانبجست وحذف المعطوف عليه لعدم الإلباس وللإشارة إلى سرعة الامتثال حتى كأن الإيحاء وضربه أمر واحد وأن الانبجاس بأمر اللّه تعالى حتى كأن فعل موسى عليه السلام لا دخل فيه.
وذكر بعض المحققين أن هذه الفاء على ما قرر فصيحة وبعضهم يقدر شرطا في الكلام فإذا ضربت فقد انبجست مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً وهو غير لائق بالنظم الجليل قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ أي سبط ، والتعبير عنهم بذلك للإيذان بكثرة كل واحد من الأسباط ، وأناس إما جمع أو اسم جمع ، وذكر السعد أن أهل اللغة يسمون اسم الجمع جمعا ، وعَلِمَ بمعنى عرف الناصب مفعولا واحد أي قد عرف مَشْرَبَهُمْ أي عينهم الخاصة بهم ، ووجه الجمع ظاهر وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ أي جعلنا ذلك بحيث يلقي عليهم ظله ليقيهم من حر الشمس وكان يسير بسيرهم ويسكن بإقامتهم وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى أي الترنجبين والسماني فكان الواحد منهم يأخذ ما يكفيه من ذلك كُلُوا أي قلنا أو قائلين لهم كلوا.
مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ أي مستلذاته ، وما موصولة كانت أو موصوفة عبارة عن المن والسلوى وَما ظَلَمُونا عطف على محذوف للايجاز والإشعار بأنه أمر محقق غني عن التصريح أي فظلموا بأن كفروا بهذه النعم الجليلة وما ظلمونا بذلك وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالكفر إذ لا يتخطاهم ضرره ، وتقديم المفعول لإفادة القصر الذي يقتضيه النفي السابق ، وفي الكلام من التهكم والإشارة إلى تماديهم على ما فيهم ما لا يخفى وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ معمول لا ذكر ، وإيراد الفعل هنا مبنيا للمفعول جريا على سنن الكبرياء مع الإيذان بأن الفاعل غني عن التصريح أي اذكر لهم وقت قولنا لأسلافهم اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ القريبة منكم وهي بيت المقدس أو أريحا ، والنصب مبني على المفعولية كسكنت الدار أو على الظرفية اتساعا والتعبير بالسكنى هنا للايذان بأن المأمور به في البقرة الدخول بقصد الإقامة أي أقيموا في هذه القرية وَكُلُوا مِنْها أي مطاعمها وثمارها أو منها نفسها على أن من تبعيضية أو ابتدائية حَيْثُ شِئْتُمْ أي من نواحيها من غير أن يزاحمكم أحد وجيء بالواو هنا وبالفاء في البقرة لأنه قيل هناك ادخلوا فحسن ذكر التعقيب معه وهنا اسكنوا والسكنى أمر ممتد والأكل معه لا بعده ، وقيل : إنه إذا تفرع المسبب عن السبب اجتمعا في الوجود فيصح الإتيان بالواو والفاء ، وفيه أن هذا إنما يدل على صحة العبارتين وليس السؤال عن ذلك ، وذكر رَغَداً [البقرة : 35 ، 58] هناك لأن الأكل في أول الدخول يكون ألذ وبعد السكنى واعتباره لا يكون كذلك وقيل : إنه اكتفى بالتعبير باسكنوا عن ذكره لأن الأكل المستمر من غير مزاحم لا يكون إلا رغدا واسعا ، وإلى الأول ذهب صاحب اللباب ، ويرد على القولين أنه ذكر رَغَداً مع الأمر بالسكنى في قصة آدم عليه السلام ، ولعل الأمر في ذلك سهل وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً مر الكلام فيه
في البقرة غير أن ما فيها عكس ما هنا في التقديم والتأخير ولا ضير في ذلك لأن المأمور به هو الجمع بين الأمرين من غير اعتبار الترتيب بينهما ، وقال القطب :
فائدة الاختلاف التنبيه على حسن تقديم كل من المذكورين على الآخر لأنه لما كان المقصود منهما تعظيم اللّه تعالى وإظهار الخشوع والخضوع لم يتفاوت الحال في التقديم والتأخير نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ جزم في جواب الأمر. وقرأ نافع وابن عامر ويعقوب «تغفر» بالتاء والبناء للمفعول وخَطِيئاتِكُمْ بالرفع والجمع غير ابن عامر فإنه وحد ، وقرأ أبو عمرو «خطاياكم» كما في سورة البقرة ، وبين القطب فائدة الاختلاف بين ما هناك وبين ما هنا على القراءة المشهورة بأنها الإشارة إلى أن هذه الذنوب سواء كانت قليلة أو كثيرة فهي مغفورة بعد الإتيان بالمأمور به ، وطرح الواو هنا من قوله

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 84
سبحانه وتعالى : سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ إشارة إلى أن هذه الزيادة تفضل محض ليس في مقابلة ما أمروا به كما قيل.
والمراد أن امتثالهم جازاه اللّه تعالى بالغفران وزاد عليه وتلك الزيادة فضل محض منه تعالى فقد يدخل في الجزاء صورة لترتبته على فعلهم وقد يخرج عنه لأنه زيادة على ما استحقوه ، ولذا قرن بالسين الدالة على أنه وعد وتفضل ، ومفعول نزيد محذوف أي ثوابا وزيادة منهم في قوله تعالى شأنه : فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ لزيادة البيان أي بدل الذي ظلموا من هؤلاء بما أمروا به من التوبة والاستغفار حيث أعرضوا عنه ووضعوا موضعه قَوْلًا آخر مما لا خير فيه غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ وأمروا بقوله وغَيْرَ نعت للقول وصرح بالمغايرة مع دلالة التبديل عليها تحقيقا للمخالفة وتنصيصا على المغايرة من كل وجه فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ أثر ما فعلوا ما فعلوا من غير تأخير رِجْزاً مِنَ السَّماءِ عذابا كائنا منها وهو الطاعون في رواية.
بِما كانُوا يَظْلِمُونَ أي بسبب ظلمهم المستمر السابق واللاحق ، وهذا بمعنى ما في البقرة لأن ضمير عليهم للذين ظلموا والإرسال من فوق إنزال ، والتصريح بهذا التعليل لما أن الحكم هاهنا مرتب على المضمر دون الموصول بالظلم كما في البقرة ، وأما التعليل بالفسق بعد الإشعار بعلية الظلم هناك فللإيذان بأن ذلك فسق وخروج عن الطاعة وغلو في الظلم وأن تعذيبهم بجميع ما ارتكبوا من القبائح كما قيل.
وقال القطب في وجه المغايرة : إن الإرسال مشعر بالكثرة بخلاف الإنزال فكأنه أنزل العذاب القليل ثم جعل كثيرا وإن الفائدة في ذكر الظلم والفسق في الموضعين الدلالة على حصولهما فيهم معا ، وقد تقدم لك في وجوه المغايرة بين آية البقرة وهذه الآية ما ينفعك تذكره فتذكر وَسْئَلْهُمْ عطف على اذكر المشار إليه فيما تقدم آنفا ، والخطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، وضمير الغيبة لمن بحضرته عليه الصلاة والسلام من نسل اليهود أي واسأل اليهود المعاصرين لك سؤال تقريع وتقرير بتقدم تجاوزهم لحدود اللّه تعالى ، والمراد اعلامهم بذلك لأنهم كانوا يخفونه ، وفي الاطلاع عليه مع كونه عليه الصلاة والسلام ليس ممن مارس كتبهم أو تعلمه من علمائهم ما يقضي بأن ذلك عن وحي فيكون معجزة شاهدة عليهم عَنِ الْقَرْيَةِ أي عن خبرها وحالها وما وقع بأهلها من ثالثة الأثافي ، والمراد بالسؤال عن ذلك ما يعم السؤال عن النفس وعن الأهل أو الكلام على تقدير مضاف ، والمراد عن حال أهل القرية ، وجوز التجوز فيها ، وهي عند ابن عباس وابن جبير - أيلة - قرية بين مدين والطور.
وعن ابن شهاب هي طبرية ، وقيل : مدين وهي رواية عن الحبر ، وعن ابن زيد أنها مقتا بين مدين وعينونا الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ أي قريبة منه مشرفة على شاطئه إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ أي يظلمون ويتجاوزون حدود اللّه تعالى بالصيد يوم السبت أو بتعظيمه ، وإذ بدل من المسئول عنه بدل اشتمال أو ظرف للمضاف المصدر ، قيل :
واحتمال كونه ظرفا لكانت أو حاضرة ليس بشيء إذ لا فائدة بتقييد الركون أو الحضور بوقت العدوان وضمير يعدون للأهل المقدر أو المعلوم من الكلام ، وقيل : إلى القرية على سبيل الاستخدام ، وقرىء «يعدون» بمعنى يعتدون أدغمت التاء في الداء ونقلت حركتها إلى العين ويَعْدُونَ من الإعداد حيث كانوا يعدون آلات الصيد يوم السبت وهم منهيون عن الاشتغال فيه بغير العبادة إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ ظرف ليعدون أو بدل بعد بدل ، وإلى الأول ذهب أكثر المعربين ، وهو الأولى لأن السؤال عن عدوانهم أبلغ في التقريع ، وحيتان جمع حوت أبدلت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها كنون ونينات لفظا ومعنى وإضافتها إليهم باعتبار أن المراد الحيتان الكائنة في تلك الناحية التي هم فيها ، وقيل : للإشعار باختصاصها بهم لاستقلالها بما لا يكاد يوجد في سائر أفراد الجنس من الخواص الخارقة للعادة ، ولا يخفى بعده يَوْمَ سَبْتِهِمْ ظرف لتأتيهم أي تأتيهم يوم تعظيمهم لأمر السبت ، وهو مصدر سبتت اليهود إذا عظمت

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 85
يوم السبت بترك العمل والتفرغ للعبادة فيه ، وقيل : اسم لليوم والإضافة لاختصاصهم بأحكام فيه ، ويؤيد الأول قراءة عمرو بن عبد العزيز «يوم اسباتهم» ، وكذا النفي الآتي شُرَّعاً أي ظاهرة على وجه الماء كما قال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قريبة من الساحل ، وهو جمع شارع من شرع عليه إذا دنا وأشرف ، وفي الشرع معنى الإظهار والتبيين ، وقيل : حيتان شرع رافعة رؤوسها كأنه جعل ذلك إظهارا وتبيينا ، وقيل : المعنى متتابعة ونسب إلى الضحاك ، والظاهر أنها ظاهرة وهو نصب على الحال من الحيتان ووَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ أي لا يراعون أمر السبت وهو على حد قوله :
«على لاحب لا يهتدى بمناره» إذ المقصود انتفاء السبت والمراعاة وقرأ علي كرم اللّه تعالى وجهه لا يَسْبِتُونَ
بضم حرف المضارعة من أسبت إذا دخل في السبت كأصبح إذا دخل في الصباح ، وعن الحسن أنه قرأ لا يسبتون على البناء للمفعول بمعنى لا يدخلون في السبت ولا يؤمرون فيه بما أمروا به يوم السبت ، وقرىء «لا يسبتون» بضم الباء والظرف متعلق بقوله سبحانه : لا تَأْتِيهِمْ أي لا تأتيهم يوم لا يسبتون كما كانت تأتيهم يوم السبت حذرا من صيدهم لاعتيادها أحوالهم وأن ذلك لمحض تقدير العزيز العليم ، وتغيير السبك حيث قدم الظرف على الفعل ولم يعكس لما أن الإتيان يوم سبتهم مظنة كما قيل : لأن يقال فماذا حالها يوم لا يسبتون؟ فقيل : يوم لا يسبتون لا تأتيهم كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ أي نعاملهم معاملة المختبرين لهم ليظهر منهم ما يظهر فنؤاخذهم به ، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية لاستحضار صورتها والتعجيب منها ، والإشارة اما إلى الابتلاء السابق أو إلى الابتلاء المذكور بعد كما مر غير مرة وقيل : الإشارة إلى الإتيان يوم السبت وهي متصلة بما قبل أي لا تأتيهم كذلك الإتيان يوم السبت ، والكاف في موضع نصب على الحال عند الطبرسي ، وجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع صفة لمصدر مقدر أي اتيانا كائنا كذلك ، وجملة نبلوهم استئناف مبني على السؤال عن حكمة اختلاف حال الحيتان بالإتيان تارة وعدمه أخرى بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي بسبب فسقهم المستمر في كل ما يأتون ويذرون ، وهو متعلق بما عنده ، وتعلق إذ يعدون بنبلوهم وبما يبعدون على معنى نبلوهم وقت العدوان بالفسق مما لا ينبغي تخريج كتاب اللّه تعالى الجليل عليه وَإِذْ قالَتْ عطف على إذ يعدون مسوق لبيان تماديهم في العدوان وعدم انزجارهم عنه بعد العظات والإنذارات.
قال العلامتان الطيبي والتفتازاني : ولا يجوز أن يكون معطوفا على إذ تأتيهم وإن كان أقرب لفظا لأنه إما بدل أو ظرف فيلزم أن يدخل هؤلاء القائلون في حكم أهل العدوان وليس كذلك ، وهذا على ما قيل على تقدير الظرفية ظاهر ، وأما على تقدير الإبدال فلأن البدل أقرب إلى الاستقلال ، واستظهر في بيان وجه ذلك أن زمان القول بعد زمان العدوان ومغاير له واعتبار كونه ممتدا كسنة مثلا يقع فيه ذلك كله تكلف من غير مقتض ، والقول بأن العطف على ذاك يشعر أو يوهم أن القائلين من العادين في السبت لا من مطلق أهل القرية فيه ما فيه أُمَّةٌ مِنْهُمْ أي جماعة من صلحائهم الذين لم يألوا جهدا في عظتهم حين يئسوا من احتمال القبول لآخرين لم يقلعوا عن التذكير رجاء النفع والتأثير لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أي مستأصلهم بالكلية ومطهر وجه الأرض منهم أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً دون الاستئصال بالمرة ، وقيل مهلكهم في الدنيا أو معذبهم في الآخرة لعدم إقلاعهم عما هم عليه من الفسق والترديد لمنع الخلو على هذا ، وإيثار صيغة اسم الفاعل في الشقين للدلالة على تحقق كل من الإهلاك والتعذيب وتقررهما البتة كأنهما واقعان ، وإنما قالوا ذلك مبالغة في أن الوعظ لا ينجع فيهم إذ المقصود لا تعظوا أو أتعظون فعدل عنه إلى السؤال عن السبب لاستغرابه لأن الأمر العجيب لا يدرى سببه أو سؤالا عن حكمة الوعظ ونفعه ، وقيل : إن هذا تقاول وقع بين الصلحاء الواعظين كأنه قال بعضهم لبعض : لم نشتغل بما لا يفيد ، ويحتمل على كلا القولين أن ذلك صدر من القائل

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 86
بمحصر من القوم فيكون متضمنا لحثهم على الاتعاظ فإن بت القول بهلاكهم أو عذابهم مما يلقي في قلوبهم الخوف والخشية ، وقيل قائلو ذلك المعتدون في السبت قالوا : تهكما بالناصحين المخوفين لهم بالهلاك والعذاب ، وفيه بعد كما ستقف عليه قريبا إن شاء اللّه تعالى قالُوا أي المقول لهم ذلك مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ أي نعظهم معذرة إليه تعالى على أنه مفعول وهو الأنسب بظاهر قولهم : لم تعظون أو نعتذر معذرة على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف ، وقيل : هو مفعول به للقول وهو إن كان مفردا في معنى الجملة لأنه الكلام الذي يعتذر به. والمعذرة في الأصل بمعنى العذر وهو التنصل من الذنب ، وقال الأزهري : إنه بمعنى الاعتذار ، وعداه بإلى لتضمنه معنى الإنهاء والإبلاغ ، وفي إضافة الرب إلى ضمير المخاطبين نوع تعريض بالسائلين ، وهذا الجواب على القولين الأولين ظاهر وعلى الأخير قيل إنه من تلقى السائل بغير ما يترقب فهو من الأسلوب الحكيم ، وقرأ من عدا حفص. والمفضل «معذرة» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي موعظتنا معذرة إليه تعالى حتى لا ننسب إلى نوع تفريط في النهي عن المنكر وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ عطف على معذرة أي ورجاء أن يتقوا بعض التقاة فإن اليأس المحقق لا يحصل إلا بالهلاك ، قال شيخ الإسلام : وهذا صريح في أن القائلين لم تعظون إلخ ليسوا من الفرقة الهالكة وإلا لوجب الخطاب ا ه.
وقد يوجه ذلك على ذلك القول بأنه التفات أو مشاكلة لتعبيرهم عن أنفسهم في السؤال بقوم وإما لجعله باعتبار غير الطائفة القائلين إلا أن كل ذلك خلاف الظاهر فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أي تركوا ما ذكرهم به صلحاؤهم ترك الناسي للشيء وأعرضوا عنه إعراضا كليا ، فما موصولة وجوز أن تكون مصدرية ، وهو خلاف الظاهر.
والنسيان مجاز عن الترك ، واستظهر أنه استعارة حيث شبه الترك بالنسيان بجامع عدم المبالاة ، وجوز أن يكون مجازا مرسلا لعلاقة السببية ، ولم يحمل على ظاهره كما قال بعض المحققين لأنه غير واقع ولأنه لا يؤاخذ بالنسيان ولأن الترك عن عمد هو الذي يترتب عليه إنجاء الناهين في قوله سبحانه وتعالى :
أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ إذ لم يمتثلوا أمرهم بخلاف ما لو نسوه فإنه كان يلزمهم تذكيرهم وظاهر الآية ترتب الإنجاء على النسيان وهو في الحقيقة مرتب على النسيان والتذكير ، وما في حيز الشرط مشير إليهما فكأنه قيل : فلما ذكر المذكرون ولم يتذكر المعتدون وأعرضوا عما ذكروا به أنجينا الأولين وأخذنا الآخرين ، وعنوان النهي عن السوء شامل للذين قالوا لم تعظون إلخ وللمقول لهم ذلك ، أما شموله للمقول لهم فواضح وأما شموله للقائلين فلأنهم نهوا أيضا إلا أنهم رأوا عدم النفع فكفوا وذلك لا يضرهم فقد نصوا على أنه إذا علم الناهي حال المنهي وأن النهي لا يؤثر فيه سقط عنه النهي وربما وجب الترك على ما قال الزمخشري لدخوله في باب العبث ، ألا ترى أنك لو ذهبت إلى المكاسين القاعدين على الطريق لأخذ أموال الفقراء وغيرهم بغير حق لتعظهم وتكفهم عما هم عليه كان ذلك عبثا منك ولم يكن إلا سببا للتلهي بك ، ولم يعرض أولئك كما أعرض هؤلاء لعدم بلوغهم في اليأس كما بلغ إخوانهم أو لفرط حرصهم وجدهم في أمرهم كما وصف اللّه تعالى رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم بقوله تعالى : فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ [الكهف : 6].
وروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : لا أدري ما فعلت الفرقة الساكتة وعنى بهم القائلين ومنشأ قوله هذا كما نطقت به بعض الروايات أنه سمع قوله سبحانه : أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وقوله جلّ وعلا :
وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا أي بالاعتداء ومخالفة الأمر ولم يغص رضي اللّه تعالى عنه مع أنه الغواص فقال له عكرمة :
جعلني اللّه فداك ألا تراهم كيف أنكروا وكرهوا ما القوم عليه وقالوا ما قالوا وإن لم يقل اللّه سبحانه أنجيتهم لم يقل أهلكتهم فأعجبه قوله وأمر له ببردين وقال : نجت الساكتة ، ونسب الطبرسي إليه رضي اللّه تعالى عنه قولين آخرين في الساكتة أحدهما القول بالتوقف وثانيهما القول بالهلاك وبه قال ابن زيد ، وروي عن أبي عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنه

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 87
فالمأخوذ حينئذ الساكتون والظالمون
بِعَذابٍ بَئِيسٍ أي شديد وفسره الحبر بما لا رحمة فيه ويرجع إلى ما ذكره ، وهو فعيل إما وصف أو مصدر كالنكير وصف به مبالغة ، والأكثرون على كونه وصفا من بؤس يبؤس بأسا إذا اشتد.
وقال الراغب : البؤس والبأس والبأساء الشدة والمكروه إلا أن البؤس في الفقر والحرب أكثر والبأس والبأساء في النكاية ، وقرأ أبوبكر «بيئس» على فيعل كضيغم وهو من الأوزان التي تكون في الصفات والأسماء ، والياء إذا زيدت في المصدر هكذا تصيره اسما أو صفة كصقل وصيقل وعينه مفتوحة في الصحيح مكسورة في المعتل كسيد ، ومن هنا قيل في قراءة عاصم في رواية عنه «بيئس» بكسر الهمزة إنها ضعيفة رواية ودراية ويخففها أن المهموز أخو المعتل ، وقرأ ابن عامر «بئس» بكسر الباء وسكون الهمزة على أن أصله بئس بباء مفتوحة وهمزة مكسورة كحذر فسكن للتخفيف كما قالوا في كبد كبد وفي كلمة كلمة ، وقرأ نافع «بيس» على قلب الهمزة ياء كما قلبت في ذيب لسكونها وانكسار ما قبلها ، وقيل : إن هاتين القراءتين مخرجتان على أن أصل الكلمة بئس التي هي فعل ذم جعلت اسما كما في قيل وقال ، والمعنى بعذاب مذموم مكروه ، وقرىء «بيس» كريس وكيس على قلب الهمزة ياء ثم ادغامها في الياء ، وقيل : على أنه من البؤس بالواو وأصله بيوس كميوت فأعل إعلاله و«بيس» على التخفيف كهين و«بائس» بزنة اسم الفاعل أي ذو بأس وشدة ، وقرىء غير ذلك ، وأوصل بعضهم ما فيه من القراءات إلى ست وعشرين ، وتنكير العذاب للتفخيم والتهويل بِما كانُوا يَفْسُقُونَ متعلق بأخذنا كالباء الأولى ولا ضير فيه لاختلافهما معنى أي أخذناهم بما ذكر من العذاب بسبب فسقهم المستمر ، ولا مانع من أن يكون ذلك سببا للأخذ كما كان سببا للابتداء وكذا لا مانع من تعليله بما ذكر بعد تعليله بالظلم الذي في حيز الصلة لأن ذلك ظلم أيضا ، ولم يكتف بالأول لما لا يخفى فَلَمَّا عَتَوْا أي تكبروا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ أي عن ترك ذلك ففي الكلام تقدير مضاف إذ التكبر والإباء عن المنهي عنه لا يذم قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ صاغرين أذلاء مبعدين عن كل خير والأمر تكويني لا تكليفي لأنه ليس
في وسعهم حتى يكلفوا به ، وهذا كقوله تعالى : إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل : 40] في أنه يحتمل أن يكون هناك قول وأن يكون الغرض مجرد التمثيل ، والظاهر أن اللّه تعالى أوقع بهم نكالا في الدنيا غير المسخ فلم يقلعوا عما كانوا عليه فمسخهم قردة.
وجوز أن يكون المراد بالعذاب البئيس هو المسخ وتكون هذه الآية تفصيلا لما قبلها. روي عن ابن عباس أن اليهود إنما افترض عليهم اليوم الذي افترض عليكم وهو يوم الجمعة فخالفوا إلى يوم السبت واختاروه فحرم عليهم الصيد فيه وابتلوا به فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعا بيضا سمانا حتى لا يرى الماء من كثرتها فمكثوا ما شاء تعالى لا يصيدون ثم أتاهم الشيطان فقال : إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت فاتخذوا الحياض والشبكات فكانوا يسوقون الحيتان إليها فيه ثم يأخذونها يوم الأحد ، وفي رواية أن رجلا منهم أخذ حوتا فحزمه بخيط ثم ضرب له وتدا في الساحل وربطه فيه وتركه في الماء فلما كان الغد جاء فأخذه وأكله فلاموه على ذلك فلما لم يأته العذاب أخذ في السبت القابل حوتين وفعل ما فعل ولم يصبه شيء فلما رأوا أن العذاب لا يعاجلهم تجاسروا فأخذوا وملحوا وباعوا وكانوا نحوا من اثني عشر ألفا أو من سبعين ألفا فصار أهل القرية أثلاثا كما قص اللّه تعالى فقال المسلمون للمعتدين نحن لا نساكنكم فقسموا القرية بجدار للمسلمين باب وللمعتدين باب وكانت القصة في زمن داود عليه السلام فلعنهم فأصبح المسلمون ذات يوم ولم يخرج من المعتدين أحد فقالوا : إن لهؤلاء لشأنا لعل الخمر غلبتهم فعلوا على الجدار فإذا القوم قردة ففتحوا الباب ودخلوا عليهم فعرفت القردة أنسابها من الإنس ولم تعرف الإنس أنسابهم منها فجعلت تأتي إلى نسيبها فتشم ثيابه وتبكي فيقول : ألم ننهكم فتقول القردة برأسها نعم ثم ماتوا بعد ثلاثة. وعن قتادة أن الشبان صاروا قردة والشيوخ خنازير ،

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 88
وعن مجاهد أنه مسخت قلوبهم فلم يوفقوا لفهم الحق. وأخرج ابن جرير وغيره عن الحسن قال : كان حوتا حرمه اللّه عليهم في يوم وأحله لهم فيما سوى ذلك فكان يأتيهم في اليوم الذي حرمه اللّه تعالى عليهم كأنه المخاض ما يمتنع من أحد فجعلوا يهمون ويمسكون وقلما رأيت أحدا أكثر الاهتمام بالذنب إلا واقعه حتى أخذوه فأكلوا واللّه أوخم أكلة أكلها قوم أثقلها خزيا في الدنيا وأطولها عذابا في الآخرة وايم اللّه تعالى ما حوت أخذه قوم فأكلوه أعظم عند اللّه تعالى من قتل رجل مؤمن وللمؤمن أعظم حرمة عند اللّه سبحانه من حوت ولكن اللّه عزّ وجلّ جعل موعد قوم الساعة والساعة أدهى وأمر.
وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة أنه كان على شاطىء البحر الذي هم عنده صنمان من حجارة مستقبلان الماء يقال لأحدهما لقيم وللآخر لقمانة فأوحى اللّه تعالى إلى السمك أن حج يوم السبت إلى الصنمين وأوحى إلى أهل القرية إني قد أمرت السمك أن يحجوا إلى الصنمين يوم السبت فلا تتعرضوا فيه فإذا ذهب فشأنكم به فصيدوه فابتلي القوم ووقع منهم ما مسخوا به قردة وفي القلب من صحة هذا الأثر شيء ولعله لا صحة له كما لا يخفى على من يعرف معنى الحج من المصلين ، ويشبه هذين الصنمين عين حق لان «1» قرب جزيرة الحديثة من العراق وهي قريبة من شاطىء الفرات فإن السمك يزورها في أيام مخصوصة من السنة حتى يخيل أنه لم يبق في بطن الفرات حوت إلا قذف إليها فيصيد أهل ذلك الصقع منه ما شاء اللّه تعالى وينقلونه إلى الجزائر والقرى القريبة منهم كألوس وحبة وعانات وهيت ثم ينقطع فلا ترى سمكة في العين بعد تلك الأيام إلى مثلها من قابل وسبحان الفعال لما يريد ، واستدل بعض أهل العلم بقصة هؤلاء المعتدين على حرمة الحيل في الدين ، وأيد ذلك بما
أخرجه ابن بطة عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم «قال لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم اللّه تعالى بأدنى الحيل»
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ منصوب بمضمر معطوف على قوله سبحانه : وَسْئَلْهُمْ وتأذن تفعل من الإذن وهو بمعنى آذن أي اعلم والتفعل يجيء بمعنى الأفعال كالتوعد والإيعاد ، وإلى هذا يؤول ما روي عن ابن عباس من أن المعنى قال ربك ، وفسره بعضهم بعزم وهو كناية عنه أو مجاز لأن العازم على الأمر يشاور نفسه في الفعل والترك ثم يجزم فهو يطلب من النفس الإذن فيه ، وفي الكشف لو جعل بمعنى الاستئذان دون الإيذان كأنه يطلب الإذن من نفسه لكان وجها ، وحيث جعل بمعنى عزم وكان العازم جازما فسر عزم بجزم وقضى فأفاد التأكيد فلذا أجري مجرى القسم ، وأجيب بما يجاب به وهو هنا لَيَبْعَثَنَّ وجاء عزمت عليك لتفعلن ، ولا يرد على هذا أنه مقتضى لجواز نسبة العزم إليه تعالى وقد صرح بمنع ذلك لأن المنع مدفوع فقد ورد عزمة من عزمات اللّه تعالى عَلَيْهِمْ أي اليهود لا المعتدين الذين مسخوا قردة إذ لم يبقوا كما علمت ، ويحتملعود الضمير عليهم بناء على ما روي عن الحسن. والمراد حينئذهم وأخلاقهم ، وعوده إلى اليهود والنصارى ليس بشيء وإن روي عن مجاهد ، والجار متعلق بيبعثن على معنى يسلط عليهم البتة إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي إلى انتهاء الدنيا وهو متعلق بيبعث ، وقيل :
بتأذن وليس بالوجه ولا يصح كما لا يخفى تعلقه بالصلة في قوله سبحانه : مَنْ يَسُومُهُمْ يذيقهم ويوليهم سُوءَ الْعَذابِ كالإذلال. وضرب الجزية. وعدم وجود منعة لهم. وجعلهم تحت الأيدي وغير ذلك من فنون العذاب ، وقد بعث اللّه تعالى عليهم بعد سليمان عليه الصلاة والسلام بخت نصرّ فخرب ديارهم وقتل مقاتلتهم وسبى نساءهم وذراريهم وضرب الجزية على من بقي منهم وكانوا يؤدونها إلى المجوس حتى بعث النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ففعل ما فعل ثم ضرب الجزية عليهم فلا تزال مضروبة إلى آخر الدهر.
___________
(1) قوله عين حق لان إلخ كذا بالأصل والنص في مسودة المؤلف مطموسة لا يعلم هل هي حقلان أو عفلان أو لا فحرر ا ه .. [.....]

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 89
ولا ينافي ذلك رفعها عند نزول عيسى عليه الصلاة والسلام لأن ذلك الوقت ملحق بالآخرة لقربه منها أو لأن معنى رفعه عليه السلام إياها عنهم أنه لا يقبل منهم إلا الإسلام ويخيرهم بينه وبين السيف فالقوم حينئذ إما مسلمون أو طعمة لسيوفهم فلا إشكال ، وما يحصل لهم زمن الدجال مع كونه ذلا في نفسه غمامة صيف على أنهم ليسوا يهود حين التبعية إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ لما شاء سبحانه أن يعاقبه في الدنيا ومنهم هؤلاء ، وقيل : في الآخرة ، وقيل :
فيهما وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لمن تاب وآمن وَقَطَّعْناهُمْ أي فرقنا بني إسرائيل أو صيرناهم فِي الْأَرْضِ وجعلنا كل فرقة منهم في قطر من أقطارها بحيث لا يكاد يخلو قطر منهم تكملة لأدبارهم حتى لا يكون لهم شوكة وهذا من مغيبات القرآن كالذي تضمنته الآية قبل ، وقوله سبحانه : أُمَماً إما مفعول ثان لقطعنا وإما حال من مفعوله مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وهم كما قال الطبري من آمن باللّه تعالى ورسوله وثبت على دينه قبل بعث عيسى عليه الصلاة والسلام وقيل هم الذي أدركوا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وآمنوا به ونسب ذلك إلى ابن عباس.
ومجاهد ، وقيل : هم الذي وراء الصين وهو عندي وراء الصين ، والجار متعلق بمحذوف خبر مقدم والصالحون مبتدأ ، وجوز أن يكون فاعلا للظرف والجملة في موضع النصب صفة لأمم على الاحتمالين ، وجوز أن تكون في موضع الحال وهي بدل من أمم على الاحتمال الثاني وأن تكون صفة موصوف مقدر هو البدل على الأول أي قوما منهم الصالحون وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ أي منحطون عن أولئك الصالحين غير بالغين منزلتهم في الصلاح وهم الذين امتثلوا بعض الأوامر وخالفوا بعضا مع كونهم مؤمنين ، وقيل : هم الكفرة منهم بناء على أن المراد بالصلاح الإيمان ، وقيل : المراد بهم ما يشمل الكفرة والفسقة ، والجار متعلق بمحذوف خبر مقدم ودُونَ على ما ذكره الطبرسي مبتدأ إلا أنه بقي مفتوحا لتمكنه في الظرفية مع إضافته إلى المبني ومثله على قول أبي الحسن بَيْنَكُمْ في قوله سبحانه : لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الأنعام : 94] أو المبتدأ محذوف والظرف صفته أي ومنهم أناس أو فرقة دون ذلك ، ومن المشهور عند النحاة أن الموصوف بظرف أو جملة يطرد حذفه إذا كان بعض اسم مجرور بمن أو في مقدم عليه كما في منا أقام ومنا ظعن ، ومحط الفائدة الانقسام إلى أن هؤلاء منقسمون إلى قسمين ، ومن الناس من تكلف في مثل هذا التركيب لجعل الظرف الأول صفة مبتدأ محذوف ، وجعل الظرف الثاني خبرا لما ظنه داعيا لذلك ، وليس بشيء ، والإشارة للصالحين ، وقد ذكروا أن اسم الإشارة المفرد قد يستعمل للمثنى والمجموع وقد مرت الإشارة إليه ، وقيل : أشير به إلى الصلاح كما يقتضيه ظاهر الأفراد ويقدر حينئذ مضاف وهو أهل مثلا وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ الخصب والعافية وَالسَّيِّئاتِ الجدب والشدة لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي يتوبون عما كانوا عليه مما نهوا عنه.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 169 إلى 177]
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)
وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177)

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 90
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي المذكورين ، وقيل : الصالحين فَخَلَفَ أي بدل سوء مصدر نعت به ولذلك يقع على الواحد والجمع ، وقيل : هو اسم جمع وهو مراد من قال : إنه جمع وهو شائع في الشر ، ومنه سكت ألفا ونطق خلفا والخلف بفتح اللام في الخير وادعى بعضهم الوضع لذلك ، وقيل : هما بمعنى وهو من يخلف غيره صالحا كان أو طالحا ، ومن مجيء الساكن في المدح قول حسان :
لنا القدم الأولى إليك وخلفنا لا ولنا في طاعة اللّه تابع
ومن مجيء المتحرك في الذم قول لبيد :
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
وعن البصريين أنه يجوز التحريك والسكون في الردي وأما الجيد فبالتحريك فقط ووافقهم أهل اللغة إلا الفراء وأبا عبيدة واشتقاقه إما من الخلافة أو من الخلوف وهو الفساد والتغير ومنه خلوف فم الصائم ، وقال أبو حاتم : الخلف بالسكون الأولاد الواحد والجمع فيه سواء والخلف بالفتح البدل ولدا كان أو غريبا والأكثرون على أن المراد بهؤلاء الخلف الذين كانوا في عصر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وحينئذ لا يصح تفسير الصالحين بمن آمن به عليه الصلاة والسلام ، والظاهر أنهم من اليهود وعن مجاهد أنهم النصارى وليس بذاك وَرِثُوا الْكِتابَ أي التوراة والوراثة مجاز عن كونها في أيديهم وكونهم واقفين على ما فيها بعد أسلافهم.
وقرأ الحسن «ورّثوا» بالضم والتشديد مبنيا لما لم يسم فاعله والجملة على القراءتين في موضع الصفة لخلف وقوله سبحانه : يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى استئناف مسوق لبيان ما يصنعون بالكتاب بعد وراثتهم إياه. وقال أبو البقاء :
حال من الضمير في ورثوا واستظهره بعضهم ويكفي مقارنته لبعض زمان الوراثة لامتداده ، والعرض ما لا ثبات له ومنه استعار المتكلمون العرض لمقابل الجوهر. وفي النهاية العرض بالفتح متاع الدنيا وحطامها ، وقال أبو عبيدة : هو غير النقدين من متاعها وبالسكون المال والقيم ، والْأَدْنى صفة لمحذوف أي الشيء الأدنى والمراد به الدنيا وهو من الدنو للقرب بالنسبة إلى الآخرة ، وكونها من الدناءة خلاف الظاهر وإن كان ذلك ظاهرا فيها لأنه مهموز ، والمراد بهذا العرض ما يأخذونه من الرشا في الحكومات وعلى تحريف الكلام وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا ولا يؤاخذنا اللّه تعالى بذلك ويتجاوز عنا ، والجملة عطف على ما قبلها واحتمال الحالية يحتاج إلى تقدير مبتدأ من غير حاجة ظاهرة والفعل مسند إلى الجار والمجرور وجوز أن يكون مسندا إلى ضمير يأخذون : وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ في موضع الحال قيل من ضمير يقولون ، والقول بمعنى الاعتقاد أي يرجون المغفرة وهم مصرون على الذنب عائدون إلى مثله غير تائبين عنه ، وقيل :

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 91
من ضمير لنا والمعنى على ذلك والأول أظهر ، والقول بأن تقييد القول بذلك لا يستلزم تقييد المغفرة به والمطلوب الثاني والثاني متكفل به لا يخلو عن نظر.
واختار الحلبي والسفاقسي أن الجملة مستأنفة لا لأن الجملة الشرطية لا تقع حالا إذ وقوعها مما لا شك في صحته بل لأن في القول بالحالية نزغة اعتزالية ولا يخفى أن الأمر وإن كان كذلك إلا أن الحالية أبلغ لأن رجاءهم المغفرة في حال يضادها أوفق بالإنكار عليهم فافهم أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أي الميثاق المذكور في التوراة فالإضافة على معنى في. ويجوز أن تكون اختصاصية على معنى اللام ويؤول المعنى إلى ما ذكره ، وال في الكتاب للعهد ، وقوله سبحانه : أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ عطف بيان للميثاق ، وقيل : بدل منه ، وقيل : إنه مفعول لأجله ، وقيل : إنه متعلق بميثاق بتقدير حرف الجر أي بأن لا يقولوا ، وجوز في إِنْ أن تكون مصدرية وأن تكون مفسرة لميثاق لأنه بمعنى القول ، وفي لا أن تكون ناهية وأن تكون نافية واعتبار كل مع ما يصح معه مفوض إلى ذهنك ، والمراد من الآية توبيخ أولئك الورثة على بتّهم القول بالمغفرة مع إصرارهم على ما هم عليه.
وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنهم وبخوا على إيجابهم على اللّه تعالى غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون إليها ولا يتوبون منها ، وجاء البت من السين فإنها للتأكيد كما نص عليه المحققون ، وقد عرض الزمخشري عامله اللّه تعالى بعدله في تفسير هذه الآية بأهل السنة ، وزعم أن مذهبهم هو مذهب اليهود بعينه حيث جوزوا غفران الذنب من غير توبة ، ونقل عن التوراة من ارتكب ذنبا عظيما فإنه لا يغفر له بالتوبة ، وأنت تعلم أن اليهود أكدوا القول بالغفران وأهل السنة لا يجزمون في المطيع بالغفران فضلا عن العاصي بما هو حق اللّه تعالى فضلا عمن عصاه سبحانه فيما هو من حقوق العباد فالموجبون على اللّه تعالى وإن كان بالنسبة إلى التائب أقرب إليهم فهل ما ادعاه إلا من قبيل ما جاء في المثل - رمتني بدائها وانسلت - وما نقله عن التوراة إن كان استنباطا من الآية فلا تدل على ما في الكشف إلا على تحريفهم ما في التوراة من نعت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وآية الرجم ونحو ذلك من تسهيلاتهم على الخاصة وتخفيفاتهم على العامة يأخذون الرشا بذلك والتقول على اللّه عظيمة وإن كان قد قرأ التوراة التي لم تحرف وأنها هي تعين الحمل على الشرك بقواطع من كتاب اللّه تعالى الكريم أو يكون ذلك لهم وهذا لهذه الأمة المرحومة خاصة ، وقد سلم هو نحوا منه في قوله سبحانه : يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ [الأحقاف : 31] وقد أطبق أهل السنة على ذم المتمني على اللّه ، ورووا عن شداد ابن أوس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على اللّه سبحانه» ،
ومن هنا قيل : إن القوم ذموا بأكلهم أموال الناس بالباطل واتباع أنفسهم هواها وتمنيهم على اللّه سبحانه ووبخوا على افترائهم على اللّه في الأحكام التي غيروها وأخذوا عرض هذا الأدنى على تغييرها فكأنه قيل : ألم يؤخذ عليهم الميثاق المذكور في كتابهم أن لا يقولوا على اللّه تعالى في وقت من الأوقات إلا الحق الذي تضمنه الكتاب فلم حكموا بخلافه وقالوا : هو من عند اللّه وما هو من عند اللّه ليشتروا به ثمنا قليلا؟ وفيه مع مخالفته لما روي عن الحبر مخالفة للظاهر. وقرأ الجحدري «أن لا تقولوا» بالخطاب على الالتفات وَدَرَسُوا ما فِيهِ أي قرؤوه فهم ذاكرون لذلك ، وهو عطف على أَلَمْ يُؤْخَذْ من حيث المعنى وان اختلفا خبرا وإنشاء إذ المعنى أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا إلخ ، وجوز كونه عطفا على لَمْ يُؤْخَذْ والاستفهام التقريري داخل عليهما وهو خلاف الظاهر أو على ورثوا وتكون جملة أَلَمْ يُؤْخَذْ معترضة وما قبلها حالية أو يكون المجموع اعتراضا كما قيل ولا مانع منه خلا أن الطبرسي نقل عن بعضهم تفسير درسوا على هذا الوجه من العطف بتركوا وضيعوا وفيه بعد.
وقيل : إن الجملة في موضع الحال من ضمير يقولوا بإضمار قد أي أخذ عليهم الميثاق بأن لا يقولوا على اللّه إلا

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 92
الحق الذي تضمنه كتابهم في حال دراستهم ما فيه وتذكرهم له وهو كما ترى. وقرأ السلمي ادّارسوا بتشديد الدال وألف بعدها وأصله تدارسوا فادغمت التاء في الدال واجتلبت لها همزة الوصل.
وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ اللّه تعالى ويخافون عقابه فلا يفعلون ما فعل هؤلاء أَفَلا تَعْقِلُونَ فتعلموا ذلك ولا تستبدلوا الأدنى المؤدي إلى العذاب بالنعيم المقيم ، وهو خطاب لأولئك المأخوذ عليهم الميثاق الآخذين لعرض هذا الأدنى وفي الالتفات تشديد للتوبيخ ، وقيل : هو خطاب للمؤمنين ولا التفات فيه.
وقرأ جمع بالياء على الغيبة وبالتاء وقرأ نافع وابن عامر وابن ذكوان وأبو جعفر وسهل ويعقوب وحفص. وهذه الآية ظاهرة في التوبيخ على الأخذ ، وجعل بعضهم قوله سبحانه : أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ إلخ توبيخا على ذلك القول في الآية ما هو من قبيل ما فيه اللف والنشر وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ أي يتمسكون به في أمور دينهم يقال :
مسك بالشيء وتمسك به بمعنى ، قال مجاهد. وابن زيد : هم الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد اللّه بن سلام وأصحابه تمسكوا بالكتاب الذي جاء به موسى عليه السلام فلم يحرفوه ولم يكتموه ولم يتخذوه مأكلة وقال عطاء : هم أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم والمراد من الكتاب القرآن الجليل الشأن ، وقرأ أبو بكر. وحماد «يمسكون» بالتخفيف من الإمساك ، وابن مسعود «استمسكوا» ، وأبي «مسكوا» وفي ذلك موافقة لقوله تعالى : وَأَقامُوا الصَّلاةَ ولعل التغيير في المشهور للدلالة على أن التمسك أمر مستمر في جميع الأزمنة بخلاف الإقامة فإنها مختصة بالأوقات المخصوصة ، وتخصيصها بالذكر من بين سائر العبادات مع دخولها بالتمسك بالكتاب لا ناقتها عليها لأنها عماد الدين ، ومحل الموصول إما الجر عطفا على الذين يتقون ، وقوله تعالى : أَفَلا تَعْقِلُونَ اعتراض مقرر لما قبله ، والاعتراض قد يقرن بالفاء كقوله :
فاعلم فعلم المرء ينفعه أن سوف يأتي كل ما قدرا
وإما الرفع على الابتداء والخبر قوله سبحانه : إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ والرابط إما الضمير المحذوف كما هو رأي جمهور البصريين أي أجر المصلحين منهم وإما الألف واللام كما هو رأي الكوفيين فإنها كالعوض عن الضمير فكأنه قيل مصلحيهم ، وأما العموم في المصلحين فإنه على المشهور من الروابط ومنه نعم الرجل زيد على أحد الأوجه أو وضع الظاهر موضع المضمر بناء على أن الأصل لا نضيع أجرهم إلا أنه غير لما ذكر تنبيها على أن الصلاح كالمانع من التضييع لأن التعليق بالمشتق يفيد علية مأخذ الاشتقاق فكأنه قيل : لا نضيع أجرهم لصلاحهم.
وقيل : الخبر محذوف والتقدير والذين يمسكون بالكتاب مأجورون أو مثابون ، وقوله سبحانه : إِنَّا لا نُضِيعُ إلخ حينئذ اعتراض مقرر لما قبله وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ عطف على ما قبل بتقدير اذكر والنتق الرفع كما روي عن ابن عباس. وإليه ذهب ابن الأعرابي ، وعن مسلم أنه الجذب ، ومنه نتقت الغرب من البئر ، وعن أبي عبيدة أنه القلع وما روي عن الحبر أوفق بقوله سبحانه : وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ [النساء : 154] وعلى القولين الأخيرين يضمن معنى الرفع ليتطابق الآيتان ، والمراد بالجبل الطور أو جبل غيره وكان فرسخا في فرسخ كمعسكر القوم فأمر اللّه تعالى جبريل عليه السلام لما توقفوا عن أخذ التوراة وقبولها إذ جاءتهم جملة مشتملة على ما يستثقلونه فقلعه من أصله ورفعه عليهم كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ أي غمامة أو سقيفة وفسرت بذلك مع أنها كل ما علا وأظل لأجل حرف التشبيه إذ لولاه لم يكن لدخوله وجه و«فوق» ظرف لنتقنا أو حال من الجبل مخصصة على ما قيل للرفع ببعض جهات العلو ، والجملة الاسمية بعد في موضع الحال أيضا أي مشابها ذلك وَظَنُّوا أي تيقنوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ أي ساقط عليهم إن لم يقبلوا فانهم كانوا يوعدون بذلك بهذا الشرط والصادق لا يتخلف ما أخبر به لكن لما لم يكن المفعول واقعا لعدم شرطه أشبه المظنون الذي قد يتخلف فلهذا سمي ذلك ظنا.

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 93
وقيل : تيقنوا ذلك لأن الجبل لا يثبت في الجو ، واعترض بأن عدم ثبوته فيه لا يقتضي التيقن لأنه على جري العادة وأما على خرقها فالثابت الثبوت والواقع عدم الوقوع ويكون ذلك كرفعه فوقهم ووقوفه هناك حتى كان ما كان منهم ، والحق أن المتيقن لهم الوقوع إن لم يقبلوا لكونه المعلق عليه ، ففي الأثر أن بني إسرائيل أبوا أن يقبلوا التوراة فرفع الجبل فوقهم ، وقيل : إن قبلتم وإلا ليقعن عليكم فوقع كل منهم ساجدا على حاجبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقا من سقوطه فلذلك لا ترى يهوديا يسجد إلا على حاجبه الأيسر ويقولون : هي السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة وامتثلوا ما أمروا به ولا يقدح في ذلك احتمال الثبوت على خرق العادة كما لا يقدح فيه عدم الوقوع إذا قبلوا ، ألا ترى إلى أنه يتيقن احتراق ما وقع في النار مع إمكان عدمه كما في قصة الخليل عليه الصلاة والسلام ، وذهب الرماني.
والجبائي إلى أن الظن على بابه ، والمراد قوي في نفوسهم أنه واقع ، واختاره بعض المحققين ، والجملة مستأنفة ، وجوز أن تكون معطوفة على نتقنا أو حالا بتقدير قد كما قال أبو البقاء خُذُوا أي وقلنا خذوا أو قائلين خذوا ما آتَيْناكُمْ من الكتاب بِقُوَّةٍ أي بجد وعزم على تحمل مشاقه ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من الواو ، والمراد خذوا ذلك مجدين وَاذْكُرُوا ما فِيهِ أي اعملوا به ولا تتركوه كالمنسي وهو كناية عن ذلك أو مجاز.
وقرأ ابن مسعود «وتذكروا» وقرىء واذكروا بمعنى وتذكروا لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ بذلك قبائح الأعمال ورذائل الأخلاق أو راجين أن تنتظموا في سلك المتقين.
وجوز أن يراد بما آتيناكم الآية العظيمة أعني نتق الجبل أي خذوا ذلك إن كنتم تطيفونه كقوله تعالى : إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا [الرحمن : 33] واذكروا ما فيه من القدرة الباهرة والإنذار ، وعلى هذا فالمراد من نتق الجبل إظهار العجز لا غير ، والكلام نظير قولك لمن يدعي الصرعة والقوة بعد ما غلبته : خذه مني ، وحاصله إن كنتم تطلبون آية قاهرة وتقترحونها فخذوا ما آتيناكم إن كنتم تطيقونه ، ولا يخفى أن ذلك خلاف الظاهر والآثار على خلافه وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ منصوب بمضمر على طرز ما سلف في نظائره وهو معطوف على ما قبل مسوق لإلزام اليهود بمقتضى الميثاق العام فإن منهم من أشرك فقال : عزير ابن اللّه عز اسمه بعد إلزامهم بالميثاق المخصوص بهم والاحتجاج عليهم بالحجج السمعية والعقلية ومنعهم عن التقليد ، وبعضهم جوز أن يكون تذييلا تعميما بعد التخصيص وإظهارا لتمادي هؤلاء اليهود في الغي بعد أخذ الميثاق الخاص المدلول عليه بقوله سبحانه :
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ لقوله جل وعلا : وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ في سورة [البقرة : 63 ، 93] ، وعليه فلا عطف وهو أظهر من التذييل نظرا إلى ظاهر اللفظ وأولى منه إذا خص العام بالمشركين كما قيل ، وقد يقال :
إن الآية مسوقة لبيان أخذ ميثاق سابق من جميع الخلق مؤمنهم وكافرهم قبل هذه النشأة بما هو أهم الأمور والأصل الأصيل لجميع التكليفات على وجه خال مما يشبه الإكراه متضمن لالزام المشركين المعاصرين له صلّى اللّه عليه وسلّم ورفع احتجاجهم ما كانوا بعد الإشارة إلى أخذ ميثاق من قوم مخصوصين في هذه النشأة على وجه هو أشبه الأشياء بالإكراه بما الظاهر فيه أنه من الأعمال لأن القوم إذ ذاك كانوا مقرين بالربوبية بل بها وبرسالة موسى عليه السلام فلم يكن حاجة إلى نتق الجبل فوقهم لذلك ولو قال قائل : إن ذكر ذلك خلال الآيات المتعلقة باليهود من باب الاستطراد والمناسبة فيه ظاهرة لم يبعد لكن الأول وهو الذي جرى عليه أكثر متأخري المفسرين أي واذكر لهم أو للناس إذ أخذ ربك مِنْ بَنِي آدَمَ المراد بهم الذين ولد لهم مؤمنين كانوا أو كفارا نسلا بعد نسل سوى من لم يولد له بسبب من الأسباب وتخصيصهم بأسلاف اليهود الذين أشركوا باللّه تعالى حيث قالوا مما لا يكاد يلتفت إليه.
وإيثار الأخذ على الإخراج للإيذان بشأن المأخوذ إذ ذاك لما فيه من الإنباء عن الاجتباء والاصطفاء وهو السبب في

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 94
إسناده إلى اسم الرب بطريق الالتفات مع ما فيه من التمهيد للاستفهام الآتي ، وإضافته إلى ضميره عليه الصلاة والسلام للتشريف ، وقيل : إن إيثار الأخذ على الإخراج لمناسبة ما تضمنته الآية من الميثاق فإن الذي يناسبه هو الأخذ دون الإخراج ، والتعير بالرب لما أن ذلك الأخذ باعتبار ما يتبعه من آثار الربوبية ، واستأنس بعضهم بمغايرة أسلوب هذا الكلام بما فيه من الالتفات لما قبله من قوله سبحانه وتعالى : وَإِذْ نَتَقْنَا ولما بعده من قوله تعالى : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا لكونه استطراديا ، وقوله تعالى : مِنْ ظُهُورِهِمْ بدل من بني آدم بدل البعض من الكل بتكرير الجار كما في قوله سبحانه وتعالى : لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ وقيل : بدل اشتمال وإليه ذهب أبو البقاء ، وبينه بعضهم بأن بدل الاشتمال ما يكون بينه وبين المبدل منه ملابسة بحيث توجب النسبة إلى المتبوع إلى التابع اجمالا نحو أعجبني زيد علمه فإنه يعلم ابتداء أن زيدا معجب باعتبار صفاته لا باعتبار ذاته وتتضمن نسبة الاعجاب إليه نسبته إلى صفة من صفاته إجمالا ، ونسبة الأخذ الذي هو بمعنى الإخراج هنا إلى بني آدم نسبة إلى ظهورهم اجمالا لأنه يعلم ابتداء أن بني آدم ليسوا مأخوذين باعتبار ذواتهم بل باعتبار أجسادهم وأعضائهم وتتضمن الأخذ إليهم نسبته إلى أعضائهم اجمالا ، وادعى أن القول به أولى من القول ببدل البعض لأن النسبة إلى المبدل منه الكل تكون تامة وتحصل بها الفائدة بدون ذكر البدل نحو أكلت الرغيف نصفه فإن النسبة تامة لو لم يذكر النصف ولا شك أن النسبة هنا ليست تامة بدون ذكر البدل.
وأيضا أن الظهور ليس بعض بني آدم حقيقة بل بعض أعضائهم ولا يخفى ما في ذلك من النظر. ومِنْ في الموضعين ابتدائية ، وفيه مزيد تقرير لابتنائه على البيان بعد الإبهام والتفصيل غب الإجمال ، قيل : وتنبيه على أن الميثاق قد أخذ منهم وهم في أصلاب الآباء ولم يستودعوا في أرحام الأمهات وقوله تعالى : ذُرِّيَّتَهُمْ مفعول أَخَذَ أخر عن المفعول بواسطة الجار لاشتماله على ضمير راجع إليه فيلزم بالتقديم رجوع الضمير إلى متأخر لفظا ورتبة وهو لا يجوز إلا في مواضع ليس هذا منها ولمراعاة أصالته ومنشئيته ولما مر غير مرة من التشويق إلى المؤخر. وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب «ذرياتهم» والمراد أولادهم على العموم ، ومن خص بني آدم بأسلاف اليهود على ما مر خص هذا بأخلافهم وفيه ما فيه ، والاشكال المشهور وهو أن كل الناس يصدق عليه بنو آدم وذريته فيتحد المخرج والمخزج منه مدفوع بظهور أن المراد إخراج الفروع من الأصول حسب ترتب الولادة ولا يتوقف التخلص عنه على القول بذلك التخصيص.
وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أي أشهد كل واحد من أولئك الذرية المأخوذين من ظهور آبائهم على أنفسهم لا على غيرهم تقريرا لهم بربوبيته سبحانه وتعالى التامة قائلا لهم : أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ أي مالك أمركم ومربيكم على الإطلاق من غير أن يكون لأحد مدخل في شأن من شؤونكم قالُوا في جوابه سبحانه وتعالى بَلى شَهِدْنا أي على أنفسنا بأنك ربنا لا رب لنا غيرك والمراد أقررنا بذلك. وجاء أن القاضي شريح قال لمقر عنده شهد عليك ابن أخت خالتك ، ومن هناك قال الجلال السيوطي : إن هذه الآية أصل في الإقرار وبَلى حرف جواب وألفها أصلية عند الجمهور ، وقال جمع : الأصل بل والألف زائدة وبعض أولئك يقول : إنها لتأنيث الكلمة كالتاء في ثمت وربت لأنها أميلت ولو لم تكن للتأنيث لكانت زائدة لمجرد التكثير كألف قبعثرى وتلك لا تمال ، وتختص بالنفي فلا تقع إلا في جوابه فتفيد ابطاله سواء كان مجردا أو مقرونا بالاستفهام حقيقيا كان أو تقريريا ، وقد أجروا النفي مع التقرير مجرى النفي المجرد في رده ببلى كما في هذه الآية ، ولذلك قال ابن عباس وغيره لو قالوا نعم لكفروا. ووجهه أن نعم تصديق للمخبر بنفي أو إيجاب ، ولذلك قال جماعة من الفقهاء : لو قال أليس لي عليك ألف؟ فقال : بلى لزمته ونعم لا. وقال آخرون : تلزمه فيهما وجروا فيه على مقتضى العرف لا اللغة.

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 95
ونازع السهيلي وجماعة في المحكي عن الحبر وغيره متمسكين بأن الاستفهام التقريري موجب ولذلك امتنع سيبويه من جعل أَمْ متصلة على ما قيل في قوله تعالى : أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ [الزخرف : 51 ، 52] فإنها لا تقع بعد الإيجاب وإذا ثبت أنه إيجاب فنعم بعد الإيجاب تصديق له ، قال ابن هشام : ويشكل عليهم أن بلى لا يجاب بها الإيجاب وذلك متفق عليه وبَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي [الزمر : 59] متقدم فيه ما يدل على النفي لكن وقع في الحديث ما يقتضي أنها يجاب بها الاستفهام المجرد
ففي صحيح البخاري أنه صلّى اللّه عليه وسلّم قال لأصحابه : «أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قالوا : بلى»
وفي صحيح مسلم أنه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «أنت الذي لقيتني بمكة فقال له المجيب : بلى»
وليس لهؤلاء أن يحتجوا بذلك لأنه قليل فلا يتخرج عليه التنزيل انتهى. وأجاب البدر الدماميني بأنه لا إشكال في الحقيقة فإن هؤلاء راعوا صورة النفي المنطوق به فيجاب ببلى حيث يراد إبطال النفي الواقع بعد الهمزة وجوزوا الجواب بنعم على أنه تصديق لمضمون الكلام جميعه الهمزة ومدخولها وهو إيجاب كما سلف ودعواه الاتفاق مناقش فيها أما إن أراد الإيجاب المجرد من النفي بالمرة فقد حكى الرضى الخلاف فيه ، وذكر أن بعضهم أجاز استعمالها بعده تمسكا بقوله :
وقد بعدت بالوصل بيني وبينها بل ان من زار القبور ليبعدا
وإن أراد ما هو الأعم حتى يشمل التقرير المصاحب للنفي فالخلاف فيه موجود مشهور ذكره هو في حرف النون انتهى ، ولا يخفى أن البيت شاذ كما صرح به الرضى ، والمذكور في بحث النون أن جماعة من المتقدمين والمتأخرين منهم الشلوبين قالوا : إنه إذا كان قبل النفي استفهام فإن كان على حقيقته فجوابه كجواب النفي المجرد وإن كان مرادا به التقرير فالأكثر أن يجاب بما يجاب به النفي رعيا للفظه ، ويجوز عند أمن اللبس أن يجاب بما يجاب به الإيجاب رعيا لمعناه وعلى ذلك قول الأنصار للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم نعم وقد قال لهم : ألستم ترون لهم ذلك وقول جحدر :
أليس الليل يجمع أم عمرو وإيانا فذاك بنا تداني
نعم وأرى الهلال كما تراه ويعلوها النهار كما علاني
وعلى ذلك جرى كلام سيبويه ، وقال ابن عصفور : أجرت العرب التقرير في الجواب مجرى النفي المحض وإن كان إيجابا في المعنى فإذا قيل : ألم أعطك درهما قيل في تصديقه : نعم وفي تكذيبه بلى ، وذلك لأن المقرر قد يوافقك فيما تدعيه وقد يخالفك فإذا قال : نعم لم يعلم هل أراد نعم لم تعطني على اللفظ أو نعم أعطيتني على المعنى فلذلك أجابوه على اللفظ ولم يلتفتوا إلى المعنى. وأما نعم في بيت جحدر فجواب لغير مذكور وهو ما قدره اعتقاده من أن الليل يجمعه وأم عمرو وجاز ذلك لأمن اللبس لعلمه أن كل أحد يعلم أن الليل يجمعه مع أم عمرو ، أو هو جواب لقوله : وأرى الهلال قدم عليه وأما قول الأنصار : فجاز لأمن اللبس لأنه قد علم أنهم يريدون نعم يعرف لهم ذلك ، وعلى هذا يحمل استعمال سيبويه لها بعد التقرير انتهى.
والأحسن أن تكون نعم في البيت جوابا لقوله : فذاك بنا تدانى ، ثم قال ابن هشام : ويتحرر على هذا أنه لو أجيب أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ بنعم لم يكف في الإقرار لأنه سبحانه وتعالى أوجب في الإقرار بما يتعلق بالربوبية ما لا يحتمل غير المعنى المراد من المقر ، ولهذا لا يدخل في الإسلام بقوله لا إله إلا اللّه برفع إله لاحتماله لنفي الوحدة ، ولعل ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما إنما قال : إنهم لو قالوا : نعم لم يكن إقرارا وافيا ، وجوز الشلوبين أن يكون مراده رضي اللّه تعالى عنه أنهم لو قالوا نعم جوابا للملفوظ على ما هو الأفصح لكان كفرا إذ الأصل تطابق السؤال والجواب لفظا ، وفيه نظر لأن التكفير لا يكون بالاحتمال ، والكلام عند جمع تمثيل لخلقه تعالى الخلق جميعا في مبدأ الفطرة مستعدين للاستدلال بالأدلة الآفاقية والأنفسية المؤدية إلى التوحيد كما نطق به
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «كل مولود يولد على الفطرة»

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 96
الحديث
مبني على تشبيه الهيئة المنتزعة من تعريضه سبحانه وتعالى إياهم لمعرفة ربويته ووحدانيته بعد تمكينهم منها بما ركز فيهم من العقول والبصائر ونصب لهم في الآفاق والأنفس من الدلائل تمكينا تاما ومن تمكنهم منها تمكنا كاملا وتعرضهم لها تعرضا قويا بهيئة منتزعة من حمله تعالى إياهم على الاعتراف بها بطريق الأمر ومن مسارعتهم إلى ذلك من غير تلعثم أصلا من غير أن يكون هناك أخذ وإشهاد وسؤال وجواب ، ونظير ذلك في قول ما في قوله سبحانه وتعالى : فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ومن ذلك سائر ما يحكى عن الحيوان والجماد كقوله :
شكا إليّ جملي طول السرى مهلا رويدا فكلانا مبتلى
(و قوله)
امتلأ الحوض وقال قطني مهلا رويدا قد ملأت بطني
وجعلوا قوله سبحانه وتعالى : أَنْ تَقُولُوا من تلوين الخطاب وصرفه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى معاصريه من اليهود تشديدا في الإلزام أو إليهم وإلى متقدميهم بطريق التغليب وهو مفعول له لما قبله من الأخذ والاشهاد أو لمقدر يدل عليه ذلك ، والمعنى على ما يقول البصريون : فعلنا ما فعلنا كراهة أن تقولوا وعلى ما يقول الكوفيون : لئلا تقولوا يَوْمَ الْقِيامَةِ عند ظهور الأمر وإحاطة العذاب بمن أشرك إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا أي وحدانية الربوبية غافِلِينَ لم ننبه عليه ، وإنما لم يسعهم هذا الاعتذار حينئذ على ما قيل لأنهم نبهوا بنصب الأدلة وجعلوا متهيئين تهيؤا تاما لتحقيق الحق وإنكار ذلك مكابرة فكيف يمكنهم أن يقولوا ذلك أَوْ تَقُولُوا في ذلك اليوم إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ أي إن آباءنا هم اخترعوا الإشراك وهم سنّوه من قبل زماننا وَكُنَّا نحن ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ لا نهتدي إلى سبيل التوحيد أَفَتُهْلِكُنا أي أتؤاخذنا فتهلكنا اليوم بالعذاب بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ من آبائنا المضلين لا نراك تفعل. وأَوْ لمنع الخلو دون الجمع ، وفعل القول عطف على نظيره وقرأهما أبو عمرو بالياء على الغيبة لأن صدر الكلام عليها ، ووجه قراءة الخطاب ما علمت. وقال البعض : إن ذاك لقول الرب تعالى ربكم وإنما لم يسع القوم هذا القول لأن ما ذكر من استعدادهم يضيق عليهم المسالك إليه إذ التقليد عند قيام الدلائل والقدرة على الاستدلال بها مما لا مساغ إليه أصلا. هذا والذي عليه المحدثون والصوفية قاطبة أن اللّه تعالى أخذ من العباد بأسرهم ميثاقا قاليا قبل أن يظهروا بهذه البنية المخصوصة وأن الإخراج من الظهور كان قبل أيضا.
فقد أخرج أحمد والنسائي وابن جرير وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «إن اللّه تعالى أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان يوم عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذراها فنشرها بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلا ألست بربكم؟ قالوا : بلى شهدنا».
وأخرج مالك في الموطأ وأحمد وعبد بن حميد والبخاري في التاريخ وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن جرير وخلق كثير عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه سئل عن هذه الآية وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ إلخ فقال : «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سئل عنها فقال : إن اللّه تعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال الرجل : يا رسول اللّه ففيم العمل؟ فقال : إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله اللّه الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار
فيدخله حديث عمر رضي اللّه تعالى عنه لا يساعد ذلك ولا ظاهر الآية لأنه سبحانه

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 97
وتعالى لو أراد أن يذكر أنه استخرج الذرية من صلب آدم دفعة واحدة لا على توليد بعضهم من بعض على مر الزمان لقال : وإذا أخذ ربك من ظهر آدم ذريته ، والتوفيق بينهما أن يقال : المراد من بني آدم في الآية آدم وأولاده وكأنه صار اسما للنوع كالإنسان والبشر ، والمراد بالإخراج توليد بعضهم من بعض على مر الزمان واقتصر في الحديث على ذكر آدم اكتفاء بذكر الأصل عن ذكر الفرع ، وقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث «مسح ظهر آدم»
يحتمل أن يكون الماسح الملك الموكل على تصوير الأجنة وتخليقها وجمع موادها وأسند إلى اللّه تعالى لأنه الآمر كما أسند التوفي إليه في قوله تعالى : يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [الزمر : 42] والمتوفى لها هو الملك لقوله تعالى : تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ [النحل : 28 ، 32] ويحتمل أن يكون الماسح هو اللّه تعالى ويكون المسح من باب التمثيل ، وقيل : هو من المساحة بمعنى التقدير كأنه قال : قدر ما في ظهره من الذرية انتهى كلامه. وقال بعضهم : ليس المعنى في الحديث أنه تعالى أخرج الكل من ظهر آدم عليه السلام بالذات بل أخرج من ظهره أبناءه الصلبية ومن ظهورهم أبناءهم الصلبية وهكذا إلى آخر السلسلة لكن لما كان المظهر الأصلي ظهره عليه الصلاة والسلام وكان مساق الحديث بيان حال الفريقين إجمالا من غير أن يتعلق بذكر الوسائط غرض على نسب إخراج الكل إليه ، وأما الآية الكريمة فحيث كانت مسوقة للاحتجاج على الكفرة المعاصرين لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وبيان عدم إفادة الاعتذار بإسناد الإشراك إلى آبائهم اقتضى الحال نسبة إخراج كل واحد منهم إلى ظهر أبيه من غير تعرض لاخراج الأبناء الصلبية لآدم عليه السلام من ظهره قطعا ، وعدم بيان الميثاق في الخبر العمري ليس بيانا لعدمه ولا مستلزما له ا ه.
وأنت تعلم أن التأويل الذي ذكره البيضاوي يأبى عنه كل الإباء حديث ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وأن ما ذكره البعض من أن مساق الحديث بيان حال الفريقين إجمالا يأباه ظهور عدم كون السؤال عن حالهما ليساق الحديث لبيانه فإن الظاهر أن الصحابي إنما سأله عليه الصلاة والسلام عما أشكل عليه من معنى الآية أن الإشهاد هل هو حقيقة أم على الاستعارة؟ فلما أجابه صلّى اللّه عليه وسلّم بما عرف منه ما أراده لأنه كان بليغا ولو أشكل عليه من جهة أخرى لكان الواجب بيان تلك الجهة وكذا فهم الفاروق رضي اللّه تعالى عنه.
ومن هنا يعلم أن قول الإمام ان ظاهر الآية يدل على إخراج الذرية من ظهر بني آدم ، وليس فيها ما يدل على أنهم أخرجوا من صلب آدم ولا ما يدل عليه نفيه إلا أن الخبر دل عليه فيثبت خروجهم من آدم بالحديث ومن بنيه بالآية لا يطابق سباق الحديث كما لا يخفى ، وقال الشيخ شهاب الدين التوربشتي : إنما جد كثير من أهل العلم في الهرب عن القول في معنى الآية بما يقتضيه ظاهر خبر الحبر لمكان قوله سبحانه : أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ فقالوا : إن كان هذا الإقرار عن اضطرار حيث كوشفوا بحقيقة الأمر وشاهدوه عين اليقين فلهم ذلك اليوم أن يقولوا : شهدنا يومئذ فلما زال عنا علم الضرورة ووكلنا إلى آرائنا كان منا من أصاب ومنا من أخطأ وإن كان عن استدلال ولكنهم عصموا عنده من الخطأ فلهم أيضا أن يقولوا : أيدنا يوم الإقرار بتوفيق وعصمة وحرناهما من بعد ولو امددنا بهما أبدا لكانت شهادتنا في كل حين كشهادتنا في اليوم الأول فيتعين حينئذ أن يراد بالميثاق ما ركب اللّه تعالى فيهم من العقول وآتاهم من البصائر لأنها هي الحجة البالغة والمانعة عن قولهم إنا كنا إلخ لأن اللّه تعالى جعل الإقرار والتمكن من معرفة ربوبيته ووحدانيته سبحانه حجة عليهم في الإشراك كما جعل بعث الرسول حجة عليهم في الإيمان بما أخبر عنه من الغيوب انتهى.
وحاصله أن لو لم تؤول الآية بما ذكر يلزم أن لا يكونوا محجوجين يوم القيامة ، وقد أجيب عنه باختيار كل من الشقين ورفع محذوره. أما الأول فبأن يقال : إذا قالوا شهدنا يومئذ فلما زال علم الضرورة ووكلنا إلى آرائنا كان كذا أيها الكذابون متى وكلتم إلى آرائكم ألم نرسل رسلنا تترى ليوقظوكم عن سنة الغفلة؟ وأما الثاني فبأن يقال : إن هذا

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 98
مشترك الإلزام فإنه إذا قيل لهم : ألم نمنحكم العقول والبصائر : فلهم أن يقولوا؟ فإذا حرمنا اللطف والتوفيق فأي منفعة لنا في العقل والبصيرة؟ وذكر محيي السنة في جواب أنه كيف تلزم الحجة ولا أحد يذكر ذلك الميثاق أن اللّه تعالى قد أوضح الدلائل على وحدانيته وصدق رسله فيما أخبروا به فمن أنكره كان معاندا ناقضا للعهد ولزمته الحجة ونسيانه وعدم حفظه لا يسقط الاحتجاج بعد أخبار المخبر الصادق. ولا يخفى ما فيه ، ولهذا أجاب بعضهم بأن قوله تعالى :
أَنْ تَقُولُوا ليس مفعولا لا لقوله تعالى : وَأَشْهَدَهُمْ وما يتفرع عليه من قولهم بَلى شَهِدْنا حتى يجب كون ذلك الإشهاد والشهادة محفوظا لهم في إلزامهم بل لفعل مضمر ينسحب عليه الكلام ، والمعنى فعلنا ما فعلنا من الأمر الميثاق وبيانه كراهة أن تقولوا أو لئلا تقولوا أيها الكفرة يوم القيامة إنا كنا غافلين عن ذلك الميثاق لم ننبه عليه في دار التكليف وإلا لعملنا بموجبه ، هذا على قراءة الجمهور ، أما على القراءة الأخرى فهو مفعول له لنفس الأمر المضمر العامل في إِذْ أَخَذَ والمعنى اذكر لهم الميثاق المأخوذ منهم فيما مضى لئلا يعتذروا يوم القيامة بالغفلة عنه أو بتقليد الآباء ، ثم قال : هذا على تقدير كون شهدنا من كلام الذرية وهو الظاهر فأما على تقدير كونه من كلام اللّه تعالى فهو العامل في أَنْ تَقُولُوا ولا محذور أصلا والمعنى شهدنا قولكم هذا لئلا تقولوا يوم القيامة إلخ لأنا نردكم ونكذبكم حينئذ انتهى.
ولا يخفى أن ما ذكره أولا من تعلق أَنْ وما بعدها بفعل مضمر ينسحب عليه الكلام أو بنفس الفعل المضمر العامل في إِذْ واضح في دفع السؤال الذي أشرنا إليه ، وإنه لعمري في غاية الحسن إلا أن الظاهر تعلقه بالإشهاد وما يتفرع عليه ، وأرى الجواب مع عدم العدول عنه لا يخلو عن العدول عنه ، ويؤيد ما ذكره ثانيا من كون شَهِدْنا من كلام اللّه تعالى وكونه العامل ما
أخرجه ابن عبد البر في التمهيد من طريق السدي عن أبي مالك. وعن أبي طالب عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما. وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وناس من الصحابة أنهم قالوا في الآية : لما أخرج اللّه تعالى آدم من الجنة قبل تهبيطه من السماء مسح صفحة ظهره اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر فقال لهم : ادخلوا الجنة برحمتي ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر فقال : ادخلوا النار ولا أبالي فذلك قوله تعالى : أَصْحابُ الْيَمِينِ [الواقعة : 27] وَأَصْحابُ الشِّمالِ [الواقعة :
41] ثم أخذ منهم الميثاق فقال : ألست بربكم؟ قالوا : بلى. فأعطاه طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجه التقية فقال : هو والملائكة شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ الحديث ،
وفيه مخالفة لما روي عن الحبر أولا من أن الأخذ كان بنعمان إذ هو ظاهر في كون ذلك بعد الهبوط وهذا ظاهر في كونه كان قبل ، وفي بعض الأخبار ما يقتضي أنه كان إذ كان عرشه سبحانه على الماء ،
فقد أخرج عبد بن حميد. والحكيم الترمذي في نوادر الأصول والطبراني وأبو الشيخ في العظمة. وابن مردويه عن أبي أمامة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «خلق اللّه تعالى الخلق وقضى القضية وأخذ ميثاق النبيين وعرشه على الماء فأخذ أهل اليمين بيمينه وأخذ أهل الشمال بيده الأخرى وكلتا يدي الرحمن يمين فقال :
يا أصحاب اليمين فاستجابوا له فقالوا له : لبيك ربنا وسعديك قال : ألست بربكم؟ قالوا : بلى. قال : يا أصحاب الشمال فاستجابوا له فقالوا له : لبيك ربنا وسعديك قال : ألست بربكم؟ قالوا : بلى»
فخلط بعضهم ببعض الخبر ، وذكر بعضهم أنه كان بالهند حيث هبط آدم عليه السلام ، وآخرون أنه كان في موضع الكعبة وأن الذرية المخرجة من ظهر آدم عليه السلام كالذر أحاطت به ، وجعل المحل الذي شغلته إذ ذاك حرما ، وليس لهذا سند يعول عليه ، والتوفيق بين هذه الروايات مشكل إلا أن يقال بتعدد أخذ الميثاق ، وإليه ذهب السادة الصوفية قدس اللّه تعالى أسرارهم ، لكن يشعر كلامهم باختلاف النوع ، فقد قال بعضهم : رأيت من يستحضر قبل ميثاق أَلَسْتُ ستة مواطن أخرى ميثاقية

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 99
فذكرت ذلك لشيخنا رضي اللّه تعالى عنه فقال : إن قصد القائل بالحضرات الستة التي عرفها قبل ميثاق أَلَسْتُ الكليات فمسلم ، وأما إن أراد جملة الحضرات الميثاقية التي قبل أَلَسْتُ فهي أكثر من ذلك ، ويعلم من هذا ما في قولهم : لا أحد يذكر ذلك الميثاق على وجه السلب الكلي من المنع ، وقد روي عن ذي النون أيضا وقد سئل عن ذلك هل تذكره أنه قال : كأنه الآن في أذني. وقال بعضهم مستقربا له : إن هذا الميثاق بالأمس كان وأشار فيه أيضا إلى مواثيق أخر كانت قبل ، ويمكن أن يقال مرادهم من تلك السالبة لا أحد من المشركين يذكر ذلك الميثاق لا لا أحد مطلقا.
وذكر قطب الحق والدين العلامة الشيرازي في التوفيق بين الآية والخبر العمري كلاما ارتضاه الفحول وتلقوه بالقبول وحاصله : أن جواب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إذ سئل عن الآية من قبيل أسلوب الحكيم وذلك أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن بيان الميثاق الحالي فأجاب ببيان الميثاق المقالي على ألطف وجه.
وبيانه أن سبحانه كان له ميثاقان مع بني آدم. أحدهما تهتدي إليه العقول من نصب الأدلة الباعثة على الاعتراف الحالي. وثانيهما المقالي الذي لا يهتدي إليه العقل بل يتوقف على توقيف واقف على أحوال العباد من الأزل إلى الأبد كالأنبياء عليهم السلام فأراد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن يعلم الأمة ويخبرهم عن أن وراء الميثاق الذي يهتدون إليه بعقولهم ميثاقا آخر أزليا فقال ما قال من مسح ظهر آدم عليه السلام في الأزل وإخراج الذرية ليعرف منه أن هذا النسل الذي يخرج في لا يزال من أصلاب بني آدم هو الذر الذي أخرج في الأزل من صلب آدم وأخذ منه الميثاق المقالي الأزلي كما أخذ منهم في لا يزال بالتدريج حين أخرجوا الميثاق الحالي اللايزالي ا ه وهو حسن كما قالوا ، لكن ينبغي أن يحمل الأزل فيه ولا يزال على المجاز لأن خروج النسل محدود بيوم القيامة وعلى القول بعدم انقطاعه بعده هو خاص بالسعداء على وجه خاص كما علم في محله والأمر حادث لا أزلي وإلا لزم خرق إجماع المسلمين والتدافع بين الآية وكان اللّه تعالى ولم يكن معه شيء ، ونقل عن الخلخالي أنه شمر عن ساقه في دفع ذلك فقال : المخاطبون هم الصور العلمية القديمة التي هي ماهيات الأشياء وحقائقها ويسمونها الأعيان الثابتة وليست تلك الصور موجودة في الخارج فلا يتعلق بها بحسب ذلك الثبوت جعل بل هي في ذواتها غير محتاجة إلى ما يجعلها تلك الصور وهي صادرة عنه تعالى بالفيض الأقدس وقد صرحوا بأنها شؤونات واعتبارات للذات الاحدي وجوابهم بقولهم : بل إنما هو بألسنة استعدادتهم الأزلية لا بالألسنة التي هي بعد تحققها في الخارج انتهى.
وهو مبني على الفرق بين الثبوت والوجود وفيه نزاع طويل لكنا ممن يقول به واللّه لا يستحي من الحق ، ومن هنا انقدح لبعض الأفاضل وجه آخر في التوفيق بين الآية والحديث وهو أن المراد بالذرية المستخرجة من صلب آدم عليه السلام وبنيه هو الصور العلمية والأعيان الثابتة وأن المراد باستخراجها هو تجلي الذات الاحدي وظهوره فيها وأن نسبة الإخراج إلى ظهورهم باعتبار أن تلك الصور إذا وجدت في الأعيان كانت عينهم وأن تلك المقاولة حالية استعدادية أزلية لا قالية لا يزالية حادثة وهذا هو المراد بما نقل الشيخ العارف أبو عبد الرحمن السلمي في الحقائق عن بنان حيث قال : أوجدهم لديه في كون الأزل ثم دعاهم «1» فأجابهم سراعا وعرفهم نفسه حين لم يكونوا في الصورة الانسية ثم أخرجهم بمشيئته خلقا وأودعهم في صلب آدم فقال سبحانه :
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ إلخ ... فاخبر أنه خاطبهم وهم غير موجودين إلا بوجوده لهم إذ كانوا واجدين للحق في غير وجودهم لأنفسهم وكان الحق بالحق في ذلك موجودا ثم أنشد السلمي لبعضهم :
___________
(1) قوله فأجابهم سراعا كذا بخطه والأولى فأجابوا إلخ ا ه

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 100
لو يسمعون كما سمعت كلامها خروا لعزة ركعا وسجودا
ولا يخفى أن هذا التوفيق بعيد بمراحل عن ذوق أرباب الظاهر لمخالفته لظواهر الأخبار والمتبادر من الآثار ، وما نقل عن بنان فيه وهو أول كلامه انتخبهم للولاية واستخلصهم للكرامة ، وجعل لهم فسوحا في غوامض غيب الملكوت وبعده ما ذكره ، وشموله لسائر الخلق سعيدهم وشقيهم لا يخلو عن بعد ، وذكر الشيخ الأكبر قدس سره أن اللّه تعالى أبدع المبدعات وتجلى بلسان الأحدية في الربوبية فقال : ألست بربكم؟ والمخاطب في غاية الصغاء فقالوا :
بلى. فكان كمثل الصدى فإنهم أجابوه به فإن الوجود المحدث خيال منصوب وهذا الاشهاد كان إشهاد رحمة لأنه سبحانه ما قال لهم وحدي إبقاء عليهم لما علم أنهم يشركون به تعالى عن ذلك علوا كبيرا بما فيهم من الحظ الطبيعي وبما فيهم من قبول الاقتدار الإلهي وما يعلمه إلا قليل وأنت تعلم أن محققي المفسرين اعتبروا الوحدانية في الإشهاد وكذا في الشهادة كما مرت الإشارة إليه ونطقت الآثار به ، ومن ذلك ما أخرجه عبد اللّه بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند والبيهقي وابن عساكر وجماعة عن أبي بن كعب أنه قال في الآية : جمعهم جميعا فجعلهم أرواحا في صورهم ثم استنطقهم فتكلموا ثم أخذ عليهم العهد والميثاق وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا : بلى. قال : فإني أشهد عليكم السموات السبع وأشهد عليكم إياكم آدم أن تقولوا يوم القيامة إنا لم نعلم بهذا اعلموا أنه لا إله غيري ولا رب غيري ولا تشركوا بي شيئا إني سأرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي وأنزل عليكم كتبي قالوا : شهدنا بأنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك ولا إله لنا غيرك فأقروا ورفع عليهم آدم ينظر إليهم فرأى الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك فقال : يا رب لولا سويت بين عبادك قال : إني أحببت أن أشكر.
وبهذا يندفع ما يقال : إن إقرار الذراري بربوبيته سبحانه لا ينافي الشرك لأن المشركين قائلون بربوبيته سبحانه كما يدل عليه قوله تعالى : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف : 87] والمعتزلة ينكرون أخذ الميثاق القالي المشار إليه في الأخبار ويقولون : إنها من جملة الآحاد فلا يلزمنا أن نترك لها ظاهر الكتاب وطعنوا في صحتها بمقدمات عقلية مبنية على قواعد فلسفية على ما هو دأبهم في أمثال هذه المطالب ، قالوا أولا : إن أخذ الميثاق لا يمكن إلا من العاقل فوجب أن يتذكر الإنسان في هذا العالم ذلك الميثاق إذ لا يجوز للعاقل أن ينسى مثل هذه الواقعة العظيمة نسيا كليا فحيث نسي كذلك دل على عدم وقوعها ، وبنحو هذا الدليل بطل التناسخ. وأجيب بأن العلم إنما هو بخلق اللّه تعالى فجاز أن لا يخلقه لحكمة علمها ، ودليل بطلان التناسخ ليس منحصرا بما ذكر ، فقد استدلوا أيضا على بطلانه بلزوم أن يكون للبدن نفسان كما بينه الإمام في المباحث الشرقية وأن يكون عدد الهالكين مساويا لعدد الكائنين والطوفات العامة تأبى هذا التساوي ، على أنه يمكن أن يجاب بالفرق بين التناسخ وبين ما نحن فيه ، وذلك أنا إذا كنا في أبدان أخرى وبقينا فيها سنين امتنع في مجرى العادة نسيان أحوالها ، وأما أخذ الميثاق فإنما حصل في أسرع زمان فلم يبعد حصول النسيان فيه. وبعضهم أجاب بأن النسيان وعدم التذكر هنا لبعد الزمان.
واعترض بأن أهل الآخرة يعرفون كثيرا من أحوال الدنيا كما نطقت بذلك الآيات والأخبار اللهم إلا أن يقال : إن ذلك خصوصية الدار ، وقالوا ثانيا : إن تلك الذرية المأخوذة من ظهر آدم عليه السلام لا بد أن يكون لكل واحد منها قدر من البنية حتى يحصل فيه العلم والفهم فمجموعها لا تحويه عرصة الدنيا فيمتنع حصوله في ظهر آدم ليؤخذ ثم يرد ، وأجيب بأنه مبني على كون الحياة مشروطة بالبنية المخصوصة كما هو مذهب الخصوم ، والبرهان قائم على بطلانه كما تقرر في الكلام ، فيجوز أن يخلق اللّه تعالى الحياة في جوهر فرد ، وتلك الذرية المخرجة كانت كالذر وهو قريب من الجوهر ، وكون المجموع لا تحويه عرصة الدنيا غير مسلم ، وإن كان الأخذ في السماء قبل هبوط آدم عليه السلام فالدائرة واسعة ، وإن كان إذ كان العرش على الماء فالدائرة أوسع ، ولا مانع إذا كان في الأرض أن يكون اجتماع الذر متراكما بينها وبين السماء وإنه لفضاء عظيم وإن صغرت قاعدته ، وإن اعتبر

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 101
أن الإنسان عبارة عن النفس الناطقة وأنها جوهر غير متحيز ولا حال فيه لم يحتج إلى الفضاء إلا أن فيه ما فيه ، وقالوا ثالثا : إنه لا فائدة في أخذ الميثاق لأنهم لا يصيرون بسببه مستحقين للثواب والعقاب على أنهم أدون حالا من الأطفال والطفل لا يتوجه عليه التكليف فكيف يتوجه على الذر. وأجيب بأن فائدة الأخذ غير منحصرة في الاستحقاق المذكور بل يجوز أن تكون إظهار كمال القدرة لمن حضر من الملائكة وإقامة الحجة يوم القيامة كما يقتضيه قول البعض في الآية ، وكونهم
إذ ذاك أدون حالا من الأطفال في حيز البطلان كما لا يخفى على من هو أدون حالا من الأطفال ، وقالوا رابعا : إنه سبحانه وتعالى قال : وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون : 12] : وقال جل وعلا : فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ [الطارق : 5 ، 6] وكون أولئك الذر أناسي ينافي كون الإنسان مخلوقا مما ذكر.
وأجيب بأن الإنسان في هذه النشأة مخلوق من ذلك ولا يلزم منه أن يكون في تلك النشأة كذلك على أن اللّه تعالى لا يعجزه شيء ، وبالجملة ينبغي للمؤمن أن يصدق بذلك الأخذ فقد نطقت به الأخبار الصادرة من منبع الرسالة ، ولا يلتفت إلى قول من قال : إنها متروكة العمل لكونها من الآحاد فإن ذلك يؤدي إلى سد باب كبير من الفتوحات الغيبية ويحرم قائله من عظيم المنح الإلهية. وقد روى البيهقي في المدخل عن الشافعي رضي اللّه تعالى عنه أنه قال :
الذين لقيناهم كلهم يثبتون خبر واحد عن واحد عن واحد عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ويجعلونه سنة حمد من تبعها وعيب من خالفها ، وقال :
من خالف هذا المذهب كان عندنا مفارقا لسبيل أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأهل العلم بعدهم وكان من أهل الجهالة ، وفي جامع الأصول عن رزين عن أبي رافع أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «لأعرفن الرجل منكم يأتيه الأمر من أمري أنا أمرت به أو نهيت عنه وهو متكىء في أريكته فيقول : ما ندري ما هذا عندنا كتاب اللّه تعالى وليس هذا فيه» الحديث ،
ولا ينبغي البحث عن كيفية ذلك فإنه من العلوم المسكوت عنها المحتاجة إلى كشف الغطاء وفيض العطاء.
ومن ذلك ما
أخرجه الجندي في فضائل مكة وأبو الحسن القطان والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان وضعفه عن أبي سعيد الخدري قال : حججنا مع عمر رضي اللّه تعالى عنه فلما دخل الطواف استقبل الحجر فقال : إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قبلك ما قبلتك ثم قبله فقال له علي كرم اللّه تعالى وجهه :
يا أمير المؤمنين إنه يضر وينفع قال : بم؟ قال : بكتاب اللّه عزّ وجلّ قال : وأين ذلك من كتاب اللّه تعالى قال : قال اللّه تعالى وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ الآية إلى قوله سبحانه : بَلى وذلك أن اللّه عزّ شأنه خلق آدم عليه السلام ومسح على ظهره فأخرج ذريته فقررهم بأنه الرب وأنهم العبيد وأخذ عهودهم ومواثيقهم وكتب ذلك في رق وكان لهذا الحجر عينان ولسان فقال له : افتح فاك ففتح فاه فألقمه ذلك الرق فقال : اشهد لمن وأفاك بالموافاة يوم القيامة وإني أشهد لسمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : «يؤتى يوم القيامة بالحجر الأسود وله لسان ذلق ليشهد لمن يستلمه بالتوحيد» فهو يا أمير المؤمنين يضر وينفع. فقال عمر رضي اللّه تعالى عنه أعوذ باللّه تعالى أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن.
قيل : ومن هنا يعلم
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «الحجر يمين اللّه تعالى في أرضه»
والكلام في ذلك شهير ، هذا ومن الناس من ذكر أن الناس بعد أن قالوا : بلى منهم من سجد سجدتين ومنهم من لم يسجد أصلا ومنهم من سجد مع الأولين السجدة الأولى ولم يسجد الثانية ومنهم من عكس ، فالصنف الأول هم الذين يعيشون مؤمنين ويموتون كذلك ، والثاني هم الذين يعيشون كفارا أو يموتون كذلك. والثالث هم الذين يعيشون مؤمنين ويموتون كفارا والرابع هم الذين يعيشون كفارا أو يموتون مؤمنين انتهى. وهو كلام لم يشهد له كتاب ولا سنة فلا يعول عليه ، ومثله القول بأن بعضا من القائلين بلى قد مكر منهم إذ ذاك حيث أظهر لهم إبليس في ذلك الجمع وظنوا أنه القائل : ألست بربكم؟ فعنوه بالجواب

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 102
وأولئك هم الأشقياء ، وبعضا تجلى لهم الرب سبحانه فعرفوه وأجابوه وأولئك هم السعداء ، وهذا عندي من البطلان بمكان ، والذي ينبغي اعتقاده أنهم كلهم وجهلوا الجواب لرب الأرباب. نعم ذهب البعض إلى أن البعض أجاب كرها واستدلوا له ببعض الآثار السالفة ، وذهب أهل هذا القول إلى أن أطفال المشركين في النار ، ومن قال : إنهم في الجنة ذهب إلى أنهم أقروا عند أخذ الميثاق اختيارا فيدخلون الجنة بذلك الإقرار واللّه سبحانه أرحم الراحمين وإسناد القول في الآية على بعض الأقوال إلى ضمير الجمع إنما هو باعتبار وقوعه من البعض فإن وقوعه من الكل باطل بداهة ، ومثل هذا واقع في الآيات كثيرا وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي ذلك التفصيل البليغ المستتبع للمنافع الجليلة نفصلها لا غير ذلك.
وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عما هم عليه من الإصرار على الباطل نفعل التفصيل المذكور ، وقيل : المعنى ولعلهم يرجعون إلى الميثاق الأول فيذكرونه ويعملون بمقتضاه نفعل ذلك ، وأيّا ما كان فالواو ابتدائية كالتي قبلها ، وجوز أن تكون عاطفة على مقدر أي ليقفوا على ما فيها من المرغبات والزواجر ، أو ليظهر الحق ولعلهم يرجعون ، وقيل : إنها سيف خطيب.
هذا ومن باب الإشارة قالوا : وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ أي عن أهل قرية الجسد وهم الروح والقلب والنفس الأمارة وتوابعها الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ أي مشرفة على شاطىء بحر البشرية إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ يتجاوزون حدود اللّه تعالى يوم يحرم عليهم تناول بعض الملاذ النفسانية والعادي من أولئك الأهل إنما هو النفس الأمارة فإنها في مواسم الطاعات والكف عن الشهوات كشهر رمضان مثلا حريصة على تناول ما نهيت عنه والمرء. حريص على ما منع إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ وهي الأمور التي نهوا عن تناولها يَوْمَ سَبْتِهِمْ الذي أمروا بتعظيمه شرعا قريبة المأخذ وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ بأن لا يتهيأ لهم ما يريدونه كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ نعاملهم معاملة من يختبرهم بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي بسبب فسقهم المستمر طبعا.
قال بعضهم : ما كان ما قص اللّه تعالى إلا كحال الإسلاميين من أهل زماننا في اجتماع أنواع الحظوظ النفسانية من المطاعم والمشارب والملاهي والمناكح ظاهرة في الأسواق والمحافل في الأيام المعظمة كالأعياد والأوقات المباركة كأوقات زيارة مشاهد الصالحين المعلومة المشهورة بين الناس وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ وهي القلب وأتباعه للأمة الواعظة وهي الروح وأتباعها لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً وهم النفس الأمارة وقواها اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً على فعلهم قالُوا مَعْذِرَةً إلى ربكم أي نعظهم معذرة إليه تعالى وذلك أنا خلقنا آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر فنريد أن نقضي ما علينا ليظهر أنا ما تغيرنا عن أوصافنا ولعلهم يتقون لأنهم قابلون لذلك بحسب الفطرة فلا نيأس من تقواهم فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ لغلبة الشقوة عليهم أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وهم الروح والقلب وأتباعهما فإنهم كلهم نهوا عن ذلك إلا أن بعضهم مل وبعضهم لم يمل وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ أي شديد وهو عذاب حرمان قبول الفيض بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي بسبب تماديهم على الخروج عن الطاعة فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ أي أبوا أن يتركوا ذلك قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ أي جعلنا طباعهم كطباعهم وذلك فوق حرمان قبول الفيض وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ أي اقسم لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي قيامتهم مَنْ يَسُومُهُمْ وهو التجلي الجلالي سُوءَ الْعَذابِ وهو عذاب القهر وذل اتباع الشهوات وَقَطَّعْناهُمْ أي فرقنا بني إسرائيل الروح فِي الْأَرْضِ أي أرض البدن أُمَماً جماعات مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ أي الكاملون في الصلاح كالعقل وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ فيه كالقلب ومن جعل القلب أكمل من العقل عكس الأمر وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ
وَالسَّيِّئاتِ

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 103
تجليات الجمال والجلال لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ بالفناء إلينا فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وهي النفس وقواها وَرِثُوا الْكِتابَ وهو ما ألهم اللّه تعالى العقل والقلب يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وهي الشهوات الدنية واللذات الفانية ويجعلون ما ورثوه ذريعة إلى أخذ ذلك وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا ولا بد لأنا واصلون كاملون وهذا حال كثير من متصوفة زماننا فانهم يتهافتون على الشهوات تهافت الفراش على النار ويقولون : إن ذلك لا يضرنا لأنا واصلون.
وحكي عن بعضهم أنه يأكل الحرام الصرف ويقول : إن النفي والإثبات يدفع ضرره وهو خطأ فاحش وضلال بيّن أعاذنا اللّه تعالى وإياكم من ذلك. وأعظم منه اعتقاد حل أكل مثل الميتة من غير عذر شرعي لأحدهم ويقول : كل منا بحر والبحر لا ينجس ولا يدري هذا الضال أن من يعتقد ذلك أنجس من الكلب والخنزير. ومنهم يحكي عن بعض الكاملين المكملين من أهل اللّه تعالى ما يؤيد به دعواه وهو كذا لا أصل له وحاشا ذلك الكامل مما نسب إليه حاشا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أي إنهم مصرون على هذا الفعل القبيح أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ الوارد فيما ألهمه اللّه تعالى العقل والقلب أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ فكيف عدلوا عنه وَدَرَسُوا ما فِيهِ مما فيه رشادهم وَالدَّارُ الْآخِرَةُ المشتملة على اللذات الروحانية خير للذين يتقون عرض هذا الأدنى وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ أي يتمسكون بما ألهمه اللّه تعالى العقل والقلب من الحكم والمعارف وَأَقامُوا الصَّلاةَ ولم يألوا جهدا في الطاعة إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ منهم وأجرهم متفاوت حسب تفاوت الصلاح حتى إنه ليصل إلى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ وهو جبل الأمر الرباني والقهر الإلهي كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ غمامة عظيمة وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ إن لم يقبلوا أحكام اللّه سبحانه خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ بجد وعزيمة وَاذْكُرُوا ما فِيهِ من الأسرار لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ تنتظمون في سلك المتقين على اختلاف مراتب تقواهم.
والكلام على قوله سبحانه : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ إلخ من هذا الباب يغني عنه ما ذكرناه خلال تفسيره من كلام أهل اللّه تعالى قدس اللّه تعالى أسرارهم خلا أنه ذكر بعضهم أن أول ذرة أجابت ببلى ذرة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وكذا هي أول مجيب من الأرض لما خاطب اللّه سبحانه السموات والأرض بقوله جل وعلا : ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت : 11] وكانت من تربة الكعبة وهي أول ما خلق من الأرض ومنها دحيت كما جاء عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وكان يقتضي ذلك أن يكون مدفنه صلّى اللّه عليه وسلّم بمكة حيث كانت تربته الشريفة منها ، وقد رووا أن المرء يدفن حيث كانت تربته ،
ولكن قيل : إن الماء لما تموج رمى الزبد إلى النواحي فوقعت ذرة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إلى ما يحاذي مدفنه الكريم بالمدينة ، ويستفاد من هذا الكلام أنه عليه الصلاة والسلام هو الأصل في التكوين والكائنات تبع له صلّى اللّه عليه وسلّم قيل :
ولكون ذرته أم الخليقة سمي أميا ، وذكر بعضهم أن الباء لكونه أول حرف فتحت الذرة به فمها حين تكلمت لم تزل الأطفال في هذه النشأة ينطقون به في أول أمرهم ولا بدع فكل مولود يولد على الفطرة ، قيل : ولعظم ما أودع اللّه سبحانه وتعالى في الباء من الأسرار افتتح اللّه تعالى به كتابه بل افتتح كل سورة به لتقدم البسملة المفتتحة به على كل سورة ما عدا التوبة وافتتاحها ببراءة وأول هذه اللفظة الباء أيضا ، ولكون الهمزة وتسمى ألفا أول حرف قرع أسماعهم في ذلك المشهد كان أول الحروف لكنه لم يظهر في البسملة لسر أشرنا إليه أول الكتاب واللّه تعالى الهادي إلى صوب الصواب وَاتْلُ عَلَيْهِمْ عطف على المضمر العامل في إِذْ أَخَذَ وارد على نمط الإنباء عن الحور بعد الكور ، أي واقرأ على اليهود أو على قومك كما في الخازن نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا أي خبره الذي له شأن وخطر ، وهو كما روى ابن مردويه وغيره من طرق عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما بلعم بن باعوراء وفي لفظ بلعام بن باعر وكان من

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 104
الكنعانيين ، وفي رواية عنه. وعن أبي طلحة أنه من بني إسرائيل ، وأخرج ابن عساكر عن ابن شهاب أنه أمية بن أبي الصلت.
وأخرج أبو الشيخ عن الحبر أنه رجل من بني إسرائيل له زوجة تدعى البسوس ، وفي رواية أخرى أخرجها ابن حاتم عنه أنه النعمان بن صيفي الراهب ، وكونه إسرائيليا أنسب بالمقام كما لا يخفى ، والأشهر أنه بلعام أو بلعم وكان قد أوتي علما ببعض كتب اللّه تعالى ، ودون ذلك في الشهرة أنه أمية وكان قد قرأ بعض الكتب فَانْسَلَخَ مِنْها أي من تلك الآيات انسلاخ الجلد من الشاة ، والمراد أنه خرج منها بالكلية بأن كفر بها ونبذها وراء ظهره ، وحقيقة السلخ كشط الجلد وإزالته بالكلية عن المسلوخ عنه ، ويقال لكل شيء فارق شيئا على أتم وجه انسلخ منه ، وفي التعبير به ما لا يخفى من المبالغة ، واستأنس بعضهم بهذه الآية لأن العلم لا ينزع من الرجال حيث قال سبحانه وتعالى : فَانْسَلَخَ مِنْها ولم يقل عز شأنه فانسلخت منه فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ أي لحقه وأدركه كما قال الراغب بعد أن لم يكن مدركا له لسبقه بالإيمان والطاعة ، وقال الجوهري يقال : أتبعت القوم إذا سبقوك فلحقتهم وكأن المعنى جعلتهم تابعين لي بعد ما كنت تابعا لهم ، وفيه حينئذ مبالغة في اللحوق إذ جعل كأنه إمام للشيطان والشيطان يتبعه وهو من الذم بمكان ، ونظيره في ذلك قوله :
وكان فتى من جند إبليس فارتقى به الحال حتى صار إبليس من جنده
وصرح بعضهم بأن معناه استتبعه أي جعله تابعا له ، وهو على ما قيل متعد لمفعولين حذف ثانيهما أي أتبعه خطواته. وقرىء «فاتبعه» من الافتعال فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ فصار من زمرة الضالين الراسخين في الغواية بعد أن كان مهتديا ، وكيفية ذلك على القول بأنه بلعام أن موسى عليه السلام لما قصد حرب الجبارين أتى قوم بلعام إليه وكان عنده اسم اللّه تعالى الأعظم فقالوا له : إن موسى عليه والسلام رجل حديد وإن معه جنودا كثيرة وإنه قد جاء ليخرجنا من أرضنا فادع اللّه تعالى أن يرده عنا ، فقال : ويلكم نبي اللّه تعالى ومعه الملائكة والمؤمنون فكيف أدعو عليهم وأنا أعلم من اللّه تعالى ما أعلم وإني إن فعلت ذهبت دنياي وآخرتي فألحوا عليه ، فقال : حتى أؤامر ربي فأتى في المنام وقيل له : لا تفعل فأخبر قومه فأهدوا له هدية فقبلها ولم يزالوا يتضرعون إليه حتى فتنوه فجعل يدعو موسى عليه الصلاة والسلام وقومه أن اللّه تعالى جعل يصرف لسانه إلى الدعاء على قومه نفسه ، فقالوا يا بلعام أتدري ما تصنع إنك تدعو علينا ، فقال : هذا أمر غلب اللّه تعالى عليه فاندلع لسانه ووقع على صدره ، فقال : يا قوم قد ذهبت مني الدنيا والآخرة ولم يبق إلا المكر والحيلة جملوا النساء وأرسلوهن وأمروهن أن لا يمنعن أنفسهن فإن القوم سفر وإن اللّه سبحانه وتعالى يبغض الزنا وإن هم وقعوا فيه هلكوا ففعلوا ذلك فافتتن زمرى بن شلوم رأس سبط شمعون ابن يعقون بامرأة منهن تسمى كستى بنت صور فنهاه موسى عليه السلام عن الفاحشة فأبى وأدخلها قبته وزنا بها فوقع فيهم الطاعون حتى هلك منهم سبعون ألفا ولم يرتفع حتى قتلهما فنحاص بن العيزار بن هارون وكان غائبا أول الأمر وعن مقاتل أن ملك البلقاء قال له : ادع اللّه تعالى على موسى عليه السلام ، فقال : إنه من أهل ديني ولا أدعو عليه فنصب له خشبة ليصلبه عليها فدعا بالاسم الأعظم أن لا يدخل اللّه تعالى موسى عليه السلام
المدينة فاستجيب له ووقع بنو إسرائيل في التيه ، فقال موسى : يا رب بأي ذنب هذا؟ فقال سبحانه وتعالى : بدعاء بلعام ، فقال : رب كما سمعت دعاؤه عليّ فاسمع دعائي عليه فدعا اللّه جل شأنه أن ينزع عنه الاسم الأعظم والإيمان فنزع اللّه تعالى عنه المعرفة وسلخه منها فخرجت من صدره كحمامة بيضاء ورد هذا بأن التيه كان روحا وراحة لموسى عليه السلام وإنما عذب به بنو إسرائيل وقد كان ذلك بدعائه عليه السلام ، على أن في الدعاء بسلب الإيمان مقالا ، وأنا أعجب لم لم يدع هذا الشقي بالاسم

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 105
الأعظم الذي كان يعلمه على ملك البلقاء ليخلص من شره؟ ودعا على موسى عليه السلام ما هي إلا جهالة سوداء ، وجاء في كلام أبي المعتمر أنه كان قد أوتي النبوة ، ويرده أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يجوز عليهم الكفر عند أحد من العقلاء وكأن مراده من النبوة ما أوتيه من الآيات ، وذلك
كقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «من حفظ القرآن فقد طوى النبوة بين جنبيه».
وأخرج ابن المنذر عن مالك بن دينار أنه كان من علماء بني إسرائيل وكان موسى عليه السلام يقدمه في الشدائد ويكرهه وينعم عليه فبعثه إلى ملك مدين يدعوهم إلى اللّه تعالى وكان مجاب الدعوة فترك دين موسى عليه السلام واتبع دين الملك ، وهذه الرواية عندي أولى مما تقدم بالقبول ، وأما على القول بأنه أمية
فهو أنه كان قد قرأ الكتب القديمة وعلم أن اللّه تعالى مرسل رسولا فرجا أن يكون هو ذلك الرسول ، فاتفق أن خرج إلى البحرين وتنبأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأقام هناك ثماني سنين ثم قدم فلقي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في جماعة من أصحابه فدعاه إلى الإسلام ، وقرأ عليه سورة يس حتى إذا فرغ منها وثب أمية يجر رجليه فتبعته قريش تقول : ما تقول يا أمية؟ فقال : أشهد أنه على الحق قالوا : فهل نتبعه؟ حتى أنظر في أمره فخرج إلى الشام وقدم بعد وقعة بدر يريد أن يسلم فلما أخبر بها ترك الإسلام وقال : لو كان نبيا ما قتل ذوي قرابته فذهب إلى الطائف ومات به فأتت أخته الفارعة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فسألها عن وفاته فذكرت له أنه أنشد عند موته :
كل عيش وإن تطاول دهرا صائر مرة إلى أن يزولا
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي في قلال الجبال أرعى الوعولا
إن يوم الحساب يوم عظيم شاب فيه الصغير يوما ثقيلا
ثم قال لها عليه الصلاة والسلام : أنشديني من شعر أخيك فأنشدته :
لك الحمد والنعماء والفضل ربنا ولا شيء أعلى منك جدا وأمجد
مليك على عرش السماء مهيمن لعزته تعنو الوجوه وتسجد
من قصيدة طويلة أتت على آخرها ، ثم أنشدته قصيدته التي يقول فيها :
وقف الناس للحساب جميعا فشقيّ معذب وسعيد
والتي فيها
عند ذي العرش يعرضون عليه يعلم الجهر والسرار الخفيا
يوم يأتي الرحمن وهو رحيم إنه كان وعده مأتيا
رب إن تعف فالمعافاة ظني أو تعاقب فلم تعاقب بريا
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : إن أخاك آمن شعره وكفر قلبه ، وأنزل اللّه تعالى الآية. وأما على القول بأنه النعمان فهو أنه كان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح فقدم المدينة فقال للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم : ما هذا الذي جئت به؟ فقال عليه الصلاة والسلام : الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام. قال : فأنا عليها. فقال عليه الصلاة والسلام : لست عليها ولكنك أدخلت فيها ما ليس منها. فقال : أمات اللّه تعالى الكاذب منا طريدا وحيدا ، ثم خرج إلى الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا السلاح ، ثم أتى قيصر وطلب منه جندا ليخرج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من المدينة فمات بالشام طريدا وحيدا.
وأما على القول بأنه زوج البسوس ، فقد أخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه رجل أعطي ثلاث دعوات مستجابات ، وكانت له امرأة تدعى البسوس له منها ولد فقالت : اجعل لي منها واحدة. قال :

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 106
فما الذي تريدين؟ قالت ادع اللّه تعالى أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل فدعا اللّه تعالى فجعلها أجمل امرأة فيهم ، فلما علمت أن ليس فيهم مثلها رغبت عنه وأرادت شيئا آخر فدعا اللّه تعالى أن يجعلها كلبة فصارت كلبة فذهبت دعوتان ، فجاء بنوها فقالوا : ليس بنا على هذا قرار قد صارت أمنا كلبة يعيرنا الناس بها فادع اللّه أن يردها إلى الحال التي كانت عليها فدعا فعادت كما كانت فذهبت الدعوات الثلاث فيها ، ومن هنا يقال : أشأم من البسوس اسم لذلك الرجل ، وليس بشيء ، وهذه الرواية لا يساعد عليها نظام القرآن الكريم كما لا يخفى ، والذي نعرفه أن البسوس التي يضرب بها المثل هي بنت منقذ التميمية خالة جساس بن مرة بن ذهل الشيباني قاتل كليب ، وفي قصتها طول وقد ذكرها الميداني وغيره.
وعن الحسن وابن كيسان أن المراد بهذا الذي أوتي الآيات فانسلخ منها منافقو أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كما يعرفون أبناءهم ولم يؤمنوا به صلّى اللّه عليه وسلّم إيمانا صحيحا ، ويبعد ذلك إفراد الموصول وعن قتادة أن هذا مثل لمن عرض عليه الهدى واستعد له فأعرض عنه وأبى أن يقبله ، وفيه مخالفات للروايات المشهورة ، وأوهن الأقوال عندي قول أبي مسلم : إن المراد به فرعون والمراد بالآيات الحجج والمعجزات الدالة على صدق موسى عليه السلام ، وكأنه قيل : واتل عليهم نبأ فرعون إذ آتيناه الحجج الدالة على صدق موسى عليه السلام فلم يقبلها وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها كلام مستأنف مسوق لبيان ما ذكر من الانسلاخ وما يتبعه ، وضمير لَرَفَعْناهُ للذي وضمير بِها للآيات ، والباء سببيه ، ومفعول المشيئة محذوف هو مضمون الجزاء كما هو القاعدة المستمرة ، أي لو شئنا رفعه لرفعناه إلى منازل الأبرار بسبب تلك الآيات والعمل بما فيها ، وقيل : الضمير المنصوب للكفر المفهوم من الكلام السابق ، أي لو شئنا لأزلنا الكفر بالآيات ، فالرفع من قولهم : رفع الظلم عنا وهو خلاف الظاهر جدا وإن روي عن مجاهد ، ومثله بل أبعد وأبعد ما نقل عن البلخي. والزجاج من إرجاع ضمير بها للمعصية. وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ أي ركن إلى الدنيا ومال إليها ، وبذلك فسره السدي وابن جبير وأصل الإخلاد اللزوم للمكان من الخلود ، ولما في ذلك من الميل فسر به ، وتفسير الأرض بالدنيا لأنها حاوية لملاذها وما يطلب منها.
وقال الراغب : المعنى ركن إلى الأرض ظانا أنه مخلد فيها ، وفسر غير واحد الأرض بالسفالة وَاتَّبَعَ هَواهُ في إيثار الدنيا وأعرض عن مقتضى تلك الآيات الجليلة ، وفي تعليق الرفع بالمشيئة ثم الاستدراك عنه بفعل العبد تنبيه كما قال ناصر الدين : على أن المشيئة سبب لفعله المؤدي إلى رفعه وأن عدمه دليل عدمها دلالة انتفاء المسبب على انتفاء سببه ، وأن السبب الحقيقي هو المشيئة ، وأن ما نشاهده من الأسباب وسائط معتبرة في حصول المسبب من حيث إن المشيئة تعلقت به كذلك ، وكان من حقه كما قال أن يقول : ولكنه أعرض عنها ، فأوقع موقعه ما ذكر مبالغة لأنه كناية أبلغ من التصريح ، وتنبيها على ما حمله عليه وأن حب الدنيا رأس كل خطيئة ، وما ألطف نسبة إتيان الآيات والرفع إليه تعالى ونسبة الانسلاخ والإخلاد إلى العبد مع أن الكل من اللّه تعالى إذ فيه من تعليم العباد حسن الأدب ما فيه ، ومن هنا
قال صلّى اللّه عليه وسلّم : اللهم إن الخير بيديك والشر ليس إليك.
والزمخشري لما رأى أن ظاهر الآية مخالف لمذهبه دال على وقوع الكائنات بمشيئة اللّه تعالى إلى التأويل ، فجعل المشيئة مجازا عن سببها وهو لزوم العمل بالآيات بقرينة الاستدراك بما هو فعل العبد المقابل للزوم الآيات وهو الإخلاد إلى الأرض ، أي ولو لزمها لرفعناه وهو من قبيل نزع الخف قبل الوصول إلى الماء والمصير إلى المجاز قبل أوانه لجواز أن يكون لَوْ شِئْنا باقيا على حقيقته وأَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ مجازا عن سببه الذي هو عدم مشيئة الرفع بل الإخلاد ، ولم يعتمد على عكازته لفوت المقابلة حينئذ ، وفي الكشف أن حمل المشيئة على ما هي مسببة عنه في زعمه ليس أولى من حمل الإخلاد على ما هو مسبب عنه

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 107
في زعمنا كيف وقوله سبحانه وتعالى : وَلَوْ شِئْنا استدراك لقوله : فَانْسَلَخَ مِنْها على أن الإخلاد هو الميل ، والإرادة والميل ونحوهما من المعاني ليست من أفعال العباد بالاتفاق نعم الجزم المقارن من فعل القلب فعل القلب عندهم ، ثم قوله سبحانه وتعالى : مَنْ يَهْدِ اللَّهُ وقوله تعالى : وَلَقَدْ ذَرَأْنا يؤكدان ما عليه أهل السنة أبلغ تأكيد ولكن الزمخشري لا يعبأ بذلك «1» فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ وهو الحيوان المعروف وجمعه أكلب وكلاب وكلابات كما قال ابن سيده وكليب كعبيد وهو قليل ويجمع أكلب على أكالب ، وبه يضرب المثل في الخساسة لأنه يأكل العذرة ويرجع في قيئة والجيفة أحب إليه من اللحم الغريض «2» نعم وهو أحسن من الرجل السوء ، ومما ينسب إلى الشافعي رضي اللّه تعالى عنه :
ليت الكلاب لنا كانت مجاورة وليتنا ما نرى ممن نرى أحدا
إن الكلاب لتهدا في مرابضها والناس ليس بهاد شرهم أبدا
وفي شعب الإيمان للبيهقي عن الفقيه منصور أنه كان ينشد لنفسه :
الكلب أحسن عشرة وهو النهاية في الخساسة
ممن ينازع في الريا سة قبل أوقات الرياسة
والمثل بمعنى الصفة كما قال غير واحد فصفته كصفة الكلب ، وقيل المراد أنه كالكلب في الخسة إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ أي شددت عليه وطردته يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ على حاله يَلْهَثْ أي إنه دائم اللهث على كل حال ، واللهث إدلاع اللسان بالنفس الشديد وذلك طبع في الكلب لا يقدر على نغص الهواء المتسخن وجلب الهواء البارد بسهولة لضعف قلبه وانقطاع فؤاده بخلاف سائر الحيوانات فإنها لا تحتاج إلى النفس الشديد ولا يلحقها الكرب والمضايقة إلا عند التعب والإعياء ، وإيثار الجملة الاسمية على الفعلية بأن يقال : فصار مثله كمثل إلخ للإيذان بدوام اتصافه بتلك الحالة الخسيسة وكمال استمراره عليها ، والخطاب في فعلي الشرط لكل أحد ممن له حظ من الخطاب فإنه أدخل في إشاعة فظاعة حاله ، والجملتان الشرطيتان قيل لا محل لهما من الإعراب لأنهما تفصيل لما أجمل في المثال وتفسير لما أبهم فيه بيان وجه الشبه على منهاج قوله تعالى : خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران : 59] أثر قوله سبحانه وتعالى : إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [آل عمران : 59] وقيل : إنهما في محل النصب على الحالية من الكلب بناء على تحولهما إلى معنى التسوية كما تحول الاستفهام إلى ذلك في قوله تعالى :
سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ [البقرة : 6] كأنه قيل لاهثا في الحالين ، والجملة الشرطية كما قدمنا تقع حالا مطلقا ، وقال صاحب الضوء : إنها لا تكاد تقع كذلك بتمامها بل إذا أريد وقوعها حالا جعلت خبرا عن ذي الحال نحو جاءني زيد وهو إن تسأله يعطك فتجعل جملة اسمية مع الواو لأن الشرط لصدارته لا يكاد يرتبط بما قبله إلا أن يكون هناك فضل قوة. نعم يجوز إذا أخرجتها عن حقيقتها سواء عطف عليها النقيض وحينئذ يجب ترك الواو كما فيما نحن فيه أو لم يعطف وحينئذ يجب الواو لئلا يحصل الالتباس بالشرط الحقيقي نحو آتيك وإن لم تأتني ، والتشبيه قيل من تشبيه المفرد بالمفرد ، وقيل وعليه كثير من المحققين إنه تشبيه للهيئة المنتزعة مما عراه بعد الانسلاخ من سوء الحال واضطرام القلب ودوام القلق والاضطراب وعدم الاستراحة بحال من الأحوال بالهيئة المنتزعة مما ذكر في
___________
(1) لطافته لا تخفى على إنسان ا ه منه
(2) هو بالغين المعجمة مالان من اللحم أي الطري

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 108
حال الكلب ، وجاء وقد أشرنا إليه سابقا أن بلعام لما دعا موسى عليه السلام خرج لسانه فتدلى على صدره وجعل يلهث كالكلب إلى أن هلك فوجه الشبه إما عقلي أو حسي ذلِكَ إشارة إلى وصف الكلب أو المنسلخ من الآيات وما فيه من الإيذان بالبعد لما مر غير مرة.
مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يريد كما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أهل مكة كانوا يتمنون هاديا يهديهم وداعيا يدعوهم إلى طاعة اللّه تعالى ثم لما جاءهم من لا يشكون في صدقه وأمانته كذبوه وأعرضوا عن الآيات ولم يؤمنوا بها أو اليهود كما قال غير واحد حيث قرؤوا نعت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في التوراة وذكر القرآن المعجز وما فيه فصدقوه وبشروا الناس باقتراب مبعثه وكانوا يستفتحون به فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فانسلخوا من حكم التوراة أو الأعم من هؤلاء وهؤلاء من كل من اتصف بهذا العنوان كما في الخازن وبه أقول ، ويدخل اليهود ، في ذلك أوليا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ القصص مصدر سمي به المفعول كالسلب ، واللام فيه للعهد ، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي إذا تحقق أن المثل المذكور مثل هؤلاء المكذبين فاقصص ذلك عليهم لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فينزجرون عما هم عليه من الكفر والضلال ، والجملة في موضع الحال من ضمير المخاطب أو في موضع المفعول له أي فاقصص راجيا لتفكرهم أو رجاء لتفكرهم ساءَ مَثَلًا استئناف مسوق لبيان كمال قبح المكذبين بعد البيان السابق ، وساء بمعنى بئس وفاعلها مضمر ومثلا تمييز مفسر له ، ويستغنى بتذكير التمييز وجمعه وغيرهما عن فعل ذلك بالضمير ، وأصلها التعدي لواحد ، والمخصوص بالذم قوله سبحانه وتعالى : الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وحيث وجب صدق الفاعل والتمييز والمخصوص على شيء واحد والمثل مغاير للقوم لزم تقدير محذوف من المخصوص وهو الظاهر أو التمييز أي ساء مثلا مثل القوم أو ساء أهل مثل القوم.
وفي الحواشي الشهابية أنه قرىء بإضافة «مثل» بفتحتين و«مثل» بكسر فسكون للقوم ورفعه فساء للتعجب وتقديرها على فعل بالضم كقضو الرجل و«مثل القوم» فاعل أي ما أسوأهم ، والموصول في محل جر صفة للقوم أو هي بمعنى بئس «ومثل» فاعل والموصول هو المخصوص في محل رفع بتقدير مضاف أي مثل الذين إلخ.
وقدر أبو حيان في هذه القراءة تمييزا ، ورده السمين بأنه لا يحتاج إلى التمييز إذا كان الفاعل ظاهرا حتى جعلوا الجمع بينهما ضرورة ، وفيه ثلاثة مذاهب المنع مطلقا والجواز كذلك والتفصيل فإن كان مغايرا جاز نحو نعم الرجل شجاعا زيد وإلا امتنع ، وبعضهم يجعل المخصوص محذوفا وفي كونه ما هو خلاف وإعادة القوم موصوفا بالموصول مع كفاية الضمير بأن يقال ساء مثلا مثلهم للإيذان بأن مدار السوء ما في حيز الصلة وليربط قوله سبحانه وتعالى :
وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ به فإنه إما معطوف على كذبوا داخل معه في حكم الصلة بمعنى جمعوا بين أمرين قبيحين التكذيب وظلمهم أنفسهم خاصة أو منقطع عنه بمعنى وما ظلموا إلا أنفسهم فإن وبالها لا يتخطاها ، وأيا ما كان ففي ذلك لمح إلى أن تكذيبهم بالآيات متضمن للظلم بها وأن ذلك أيضا معتبر في القصر المستفاد من التقديم ، وصرح الطيبي والقطب وغيرهما أن الجملة على تقدير الانقطاع تذييل وتأكيد للجملة التي قبلها ، ويشعر كلام بعضهم أن تقديم المفعول على الوجه الأول لرعاية الفاصلة وعلى الوجه الثاني للإشارة إلى التخصيص وأن سبب ظلمهم أنفسهم هو التكذيب ، وفيه خفاء كما لا يخفى ، هذا ثم إن هذه الآيات مما ترمي علماء السوء بثالثة الأثافي ، وقد ذكر مولانا الطيبي طيب اللّه ثراه أن من تفكر في هذا المثل وسائر الأمثال المضروبة في التنزيل في حق المشركين والأصنام من بيت العنكبوت والذباب تحقق له أن علماء السوء أسوأ وأقبح من ذلك فما أنعاه من مثل عليهم وما هم فيه من التهالك في الدنيا مالها وجاهها والركون إلى لذاتها وشهواتها من متابعة النفس الأمارة وإرخاء زمامها في مرامها عافانا اللّه تعالى والمسلمين من ذلك.

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 109
ونقل عن مولانا شيخ الإسلام شهاب الدين السهروردي أنه كتب إلى الإمام فخر الدين الرازي تغمدهما اللّه تعالى برضوانه من تعين في الزمان لنشر العلم عظمت نعمة اللّه تعالى عليه فينبغي للمتيقظين الحذاق من أرباب الديانات أن يمدوه بالدعاء الصالح ليصفي اللّه تعالى مورد علمه بحقائق التقوى ومصدره من شوائب الهوى إذ قطرة من الهوى تكدر بحرا من العلم ونوازع الهوى المركوز في النفوس المستصحبة إياه من محتدها من العالم السفلي إذا شابت العلم حطته من أوجه وإذا صفت مصادر العلم وموارده من الهوى أمدته كلمات اللّه تعالى التي ينفد البحر دون نفادها ويبقى العلم على كمال قوته ، وهذه رتبة الراسخين في العلم لا المترسمين به وهم ورثة الأنبياء عليهم السلام كر عملهم على علمهم وتناوب العلم والعمل فيهم حتى صفت أعمالهم ولطفت وصارت مسامرات سرية ومحاورات روحية وتشكلت الأعمال بالعلوم لمكان لطافتها وتشكلت العلوم بالأعمال لقوة فعلها وسرايتها إلى الاستعدادات ، وفي اتباع الهوى إخلاد إلى الأرض قال تعالى : وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فتطهير نور الفكرة عن رذائل التخيلات والارتهان بالموهومات التي أورثت العقول الصغار والمداهنة للنفوس القاصرة هو من شأن البالغين من الرجال فتصحب نفوسهم الطاهرة الملأ الأعلى فتسرح في ميادين القدس ، فالنزاهة من محنة حطام الدنيا والفرار من استحلاء نظر الخلق وعقائدهم فتلك مصارع الأدوان ، وطالب الرفيق الأعلى مكلم محدث ، والتعريفات الإلهية واردة عليه لمكان علمه بصورة الابتلاء واستئصاله شأفة الابتلاء بصدق الالتجاء وكثرة ولوجه في حريم القرب الإلهي وانغماسه مع الأنفاس في بحار عين اليقين وغسله نفث دلائل البرهان بنور العيان فالبرهان للأفكار لا للأسرار إلى آخر ما قال ، ويا لها من موعظة حكيم ونصيحة حميم نسأل اللّه تعالى أن
يهدينا لما أشارت إليه.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 178 إلى 188]
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179) وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182)
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187)
قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 110
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ تذييل وتأكيد لما تضمنته القصة السابقة على ما يشير إليه كلام بعضهم. وقال آخر : إنه تعالى لما أمر نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم بأن يقص على أولئك الضالين قصص أخيهم ليتفكروا ويتركوا ما هم عليه عقب ذلك بتحقيق أن الهداية والضلالة من جهته سبحانه وتعالى وإنما العظة والتذكير من قبيل الوسائط العادية في حصول الاهتداء لكونها دواعي إلى صرف المكلف اختياره نحو تحصيله حسبما نيط به خلق اللّه تعالى إياه ، والمراد بهذه الهداية ما يوجب الاهتداء قطعا لا لأن حقيقتها الدلالة الموصلة إلى البغية كما يوهمه كلام بعض الأصحاب بل لأنها الفرد الكامل من حقيقة الهداية التي هي الدلالة إلى ما يوصل لإسنادها إلى اللّه تعالى وتفريع الاهتداء عليها ومقابلتها بالضلال وما معه ولا يخفى أن الهداية بهذا المعنى يلزمها الاهتداء فيكون الإخبار باهتداء من هداه اللّه تعالى على ما قيل على حد الأخبار في - شعري شعري - وهو يفيد تعظيم شأن الاهتداء وأنه في نفسه كمال جسيم ونفع عظيم وأنه كاف في نيل كل شرف في الأولى والعقبى.
واختار بعض المحققين أنه ليس المقصود مجرد الإخبار بما ذكر ليتوهم عدم الإفادة بحسب الظاهر ويصار إلى توجيهه بذلك بل هو قصر الاهتداء على من هداه اللّه تعالى حسبما يقضي به تعريف الخبر ، فالمعنى من يخلق فيه الاهتداء فهو المهتدي لا غير كائنا من كان ولا يخلو عن حسن إلا أنه قد يقال : إن الأول أوفق بالمقابل ، وإفراد المهتدي رعاية للفظ «من» ، وجمع الخاسرين رعاية لمعناها للإيذان بأن الحق واحد وطرق الضلال متشعبة ، وفي الآية تصريح بأن الهدى والضلال من اللّه تعالى فسبحان من أضل المعتزلة وَلَقَدْ ذَرَأْنا كلام مستأنف مقرر لمضمون ما قبله بطريق التذييل ، والذرأ بالهمزة الخلق وبذلك فسره ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وغيره أي واللّه تعالى لقد خلقنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وهم المصرون على الكفر في علمه سبحانه وتعالى ، واللام للعاقبة عند الكثير كما في قوله تعالى : رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ [يونس : 88] وقول الشاعر :
له الملك ينادي كل يوم لدوا للموت وابنوا للخراب
وفي الكشاف أنهم جعلوا لإغراقهم في الكفر وشدة شكائمهم فيه وأنه لا يتأتى منهم إلا أفعال أهل النار مخلوقين للنار دلالة على توغلهم في الموجبات وتمكنهم فيما يؤهلهم لدخولها ، وأشار إلى أن ذلك تذييل لقصة اليهود بعد ما عد من قبائحهم تسلية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كأنه قيل : من الذين لا ينجع فيهم الإنذار فدعهم واشتغل بأمر نفسك ومن هو على دينك في لزوم التوحيد ، والآية على ما قال من باب الكناية الإيمائية عند القطب قدس سره ويفهم كلامه أن الذي دعا الزمخشري إلى ذلك لزوم كون الكفر مراد اللّه تعالى إذا أريد الظاهر وهو خلاف مذهبه ، وأنت تعلم أن الكثير من أهل السنة تأولوا الآية بحمل اللام على ما عملت لقوله تعالى : وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات : 56] فإن تعليل الخلق بالعباد يأبى تعليله بجهنم ودخولها ، نعم ذهب ابن عطية منا إلى الحمل على الظاهر وكون اللام للتعليل ، وادعى أناس أن التأويل مخالف للأحاديث الواردة في الباب كبعض الأحاديث السابقة في آية أخذ الميثاق ، وما
أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن عبد الرحمن بن قتادة قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : «إن اللّه تعالى خلق آدم عليه السلام ثم أخذ الخلق من ظهره فقال هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي قال قائل : فعلى ماذا العمل؟ قال : على موافقة القدر»
وما
أخرجه محيي السنة عن عائشة أم المؤمنين رضي اللّه تعالى عنها قالت : أدرك النبي صلّى اللّه عليه وسلّم جنازة صبي من صبيان الأنصار فقلت : يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم طوبى له عصفور من عصافير الجنة

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 111
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «وما يدريك إن اللّه تعالى خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم وخلق النار وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم»
إلى غير ذلك.
وإلى هذا ذهب الطيبي وأيده بما أيده وادعى أن فائدة القسم التنبيه على قلع شبه من عسى أن يتصدى لتأويل الآية وتحريف النص القاطع ، ونقل عن الإمام أن الآية حجة لصحة مذهب أهل السنة في مسألة خلق الأعمال وإرادة الكائنات لأنه سبحانه وتعالى صرح بأنه جل وعلا خلق كثيرا من الجن والإنس لجهنم ولا مزيد لبيان اللّه تعالى ، ولا يخفى أن الحمل على الظاهر مخالف لظاهر الآية التي ذكرناها ، وفي الكتاب الكريم كثير مما يوافقها على أن التعليل الحقيقي لأفعاله تعالى يمنع عنه في المشهور الإمام الأشعري وأصحابه.
وقال بعض الجلة : المراد بالكثير الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة ولكن لا بطريق الجبر من غير أن يكون من قبلهم ما يؤدي إلى ذلك بل لعله سبحانه وتعالى : بأنهم لا يصرفون اختيارهم نحو الحق أبدا بل يصرون على الباطل من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم من الآيات والنذر ، فبهذا الاعتبار جعل خلقهم مغيا بجهنم كما أن جمع الفريقين باعتبار استعدادهم الكامل الفطري للعبادة وتمكنهم التام منها جعل خلقهم مغيا بها كما نطق به قوله سبحانه وتعالى : وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات : 56] انتهى ، وعندي أنه لا محيص من التأويل في هذا المقام فتدبر ولا تغفل ، ثم إن الجار الأول متعلق بما عنده وتقديمه على المفعول الصريح لما في توابعه من نوع طول يؤدي توسيطه بما بينهما وتأخيره عنهما إلى الإخلال بجزالة النظم الجليل ، والجار الثاني متعلق بمحذوف وقع صفة لكثير ، وتقديم الجن لأنهم أعرف من الإنس في الاتصاف بما ذكر من الصفات وأكثر عددا وأقدم خلقا ولا يشكل أنهم خلقوا من النار فلا يشق عليهم دخولها ولا يضرهم شيئا لأنا نقول في دفع ذلك على علاته خلقهم من النار بمعنى أن الغالب عليهم الجزء الناري لا يأبى تضررهم بها فإن الإنس خلقوا من الطين ويتضررون به ، ويوضح ذلك أن حقيقة النار لم تبق فيهم على ما هي عليه قبل خلقهم منها كما أن حقيقة الطين لم تبق في الإنس على ما هي عليه قبل خلقهم منها على أن المخلوق من نار هو البدن والمعذب هو الروح وليست مخلوقة منها وعذاب الروح في قالب ناري معقول كعذابها في قالب طيني ، وقوله تعالى : لَهُمْ قُلُوبٌ في محل النصب على أنه صفة أخرى لكثير ، وقوله سبحانه وتعالى : لا يَفْقَهُونَ بِها في محل الرفع على أنه صفة لقلوب مبينة لكونها غير معهودة مخالفة لسائر أفراد الجنس فاقدة لما ينبغي أن يكون أو هي مؤكدة لما يفيده تنكيرها وإبهامها من كونها كذلك ، وأريد بالقلب اللطيفة الإنسانية ، وبالفقه الفهم وهو المعنى اللغوي له ، يقال : فقه بالكسر أي فهم وفقه بالضم إذا صار فقيها أي فهما أو عالما بالفقه بالمعنى العرفي المبين في كتب الأصول ، والفعل هنا متعد إلا أنه حذف مفعوله للتعميم أي لهم قلوب ليس من شأنها أن يفهموا بها شيئا مما شأنه أن يفهم فيدخل فيه ما يليق بالمقام من الحق ودلائله دخولا أوليا ، وكذا الكلام في قوله جل وعلا : وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها فيقال : المراد لا يبصرون بها شيئا من المبصرات فيندرج فيه الشواهد التكوينية الدالة على الحق اندراجا أوليا ، وكذا يقال في قوله تبارك وتعالى : وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها حيث يراد لا يسمعون بها شيئا من المسموعات فيتناول الآيات التنزيلية على طرز ما سلف ، وأمر الوصيفة في الأخيرين مثله في الأول ، والمراد بالإبصار والسماع المنفيين ما يختص بالعقلاء من الإدراك على ما هو وظيفة الثقلين لا ما يتناول مجرد الإحساس بالشبح والصوت كما هو وظيفة الأنعام ، وجاء في كلامهم نحو فلان لا يسمع الخنا أي لا يعتني به ولا يصرف سمعه إليه ولا يقبله ، ومن ذلك قول الشاعر :
وعوراء الكلام صممت عنها وإني لو أشاء لها سميع

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 112
وفي إعادة الخبر في الجملتين المعطوفتين مع انتظام الكلام بدون ذلك بأن يقال : وأعين لا يبصرون بها وآذان لا يسمعون بها ما لا يخفى من تقرير سوء حالهم ، وكذا في إثبات المشاعر الثلاثة لهم ثم وصف كل بما وصف به دون سلبها عنهم ابتداء بأن يقال : ليس لهم في قلوب يفقهون بها ولا أعين يبصرون بها ولا آذان يسمعون بها ما لا يخفى على ما قيل من الشهادة بكمال رسوخهم في الجهل والغواية ، وتفسير الآية على هذا الوجه واعتبار حذف المفعول لما ذكرنا من الأفعال الثلاثة هو الذي اختاره بعض المحققين لما فيه من الإفصاح بكنه حالهم على ما أشار إليه ، واختار بعضهم التخصيص أي لا يفقهون الحق ودلائله ولا يبصرون ما خلق اللّه تعالى إبصار اعتبار ولا يسمعون الآيات والمواعظ سماع تأمل وتفكر ، وأيّا ما كان فالمراد أنهم لم يصرفوا ما خلق لهم لما له فكأنهم خلقوا كذلك ، ولو أريدت الحقيقة لم يتوجه الذم ولم تقم الحجة ، ومن ادعاها قال : إن ذلك بسبب إفاضة الحكيم حسب الاستعداد الأزلي الغير المجعول فالذم بذلك لدلالته على سوء الاستعداد لأنه كالأثر له ، وبالجملة لا تقوم الآية دليلا للجبر الصرف ولو ضم إليها ما قبل ، والجبر المتوسط مما قال به أهل الحق وهو لبن خالص أخرج من بين فرث ودم ، وحاصله عند بعض المشايخ أن العبد مختار مجبور باختياره ، ولعل كلام حجة الإسلام الغزالي حيث قال من كلام طويل : فان قلت : إني أجد في نفسي أني إن شئت الفعل فعلت وإن شئت الترك تركت فيكون فعلي حاصلا بي لا بغيري ، أجبنا وقلنا : هب أنك وجدت من نفسك ذلك إلا أنا نقول : وهل تجد من نفسك أنك إن شئت أن تشاء شئت وإن شئت أن لا تشأ لم تشأ؟ ما أظنك تقول ذلك وإلا لذهب الأمر فيه إلى ما لا نهاية له فلا مشيئتك بك ولا حصول فعلك بعد حصول مشيئتك بك وإنما أنت مضطر في صورة مختار انتهى.
يرجع إلى ما ذكرنا ، وقد استوفينا الكلام في هذا البحث في كتابنا الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية وهو لعمري من مشكلات المباحث التي سأل عنها الإيرانيون.
أُولئِكَ أي الموصوفون بالأوصاف المذكورة كَالْأَنْعامِ أي في انتفاء الشعور على الوجه المذكور ، وقيل في أن مشاعرهم متوجهة إلى أسباب التعيش مقصورة عليها وكأن وجه الشبه مدرك مما قبل فتكون الجملة كالتأكيد له فلذا فصلت عنه بَلْ هُمْ أَضَلُّ من الأنعام لأنها تدرك ما من شأنها أن تدركه من المنافع والمضار فتجهد في جلبها وسلبها غاية ما يمكنها وهؤلاء ليسوا كذلك حيث لم يميزوا بين المنافع والمضار بل يعكسون الأمر فيتركون النعيم ويقدمون على العذاب الأليم ، وقيل : لأنها إذا زجزت انزجرت وإذا أرشدت إلى طريق اهتدت وهؤلاء لا يهتدون إلى شيء من الخيرات. وقيل : لأنها لم تعط قدرة على تحصيل الفضائل وهؤلاء أعطوا ولم ينتفعوا بما أعطوا ، ولأنها وإن لم تكن مطيعة لم تكن عاصية وهؤلاء لا يعرفون ربهم ولا يذكرونه ولا يطيعونه ، وبالجملة كون هؤلاء أضل مما لا شك فيه ووجوه ذلك كثيرة ولا تنافي بين الخبرين كما لا يخفى.
أُولئِكَ أي المنعوتون بما ذكر من مثلية الأنعام والشرية منها هُمُ الْغافِلُونَ أي الكاملون في الغفلة عما فيه صلاحهم. وقال عطاء : عما أعد اللّه تعالى لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب ، وجعل بعضهم هذه الجملة كالبيان للجملة قبلها فلذا فصلت عنها وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى قيل : تنبيه للمؤمنين على كيفية ذكره تعالى وكيفية المعاملة مع المخلين بذلك الغافلين عنه سبحانه وتعالى وعما يليق بشأنه عز شأنه أثر بيان غفلتهم التامة وضلالتهم التامة ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى وجه آخر لذكر ذلك.
والمراد بالأسماء كما قال حجة الإسلام الغزالي وغيره الألفاظ المصوغة الدالة على المعاني المختلفة ، والحسنى تأنيث الأحسن أفعل تفضيل ، ومعنى ذلك أنها أحسن الأسماء وأجلها لإنبائها عن أحسن المعاني وأشرفها :

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 113
وقيل : المراد بالأسماء الصفات ويكون من قولهم طار اسمه في البلاد أي صيته ونعته ، والجمهور على الأول لقوله عزّ اسمه : فَادْعُوهُ بِها لأنه اما من الدعوة بمعنى التسمية كقولهم : دعوته زيدا أو بزيد أي سميته أو من الدعاء بمعنى النداء كقولهم : دعوت زيدا أي ناديته ، وعلى التقديرين إنما يلائم ظاهر المعنى الأول على ما قيل.
وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ أي يميلون وينحرفون فيها عن الحق إلى الباطل يقال : ألحد إذا مال عن القصد والاستقامة ، ومنه لحد القبر لكونه في جانبه بخلاف الضريح فإنه في وسطه ، وقرأ حمزة هنا وفي [فصلت :
40] «يلحدون» بالفتح من الثلاثي والمعنى واحد ، وروى أبو عبيدة عن الأحمر أن ألحد بمعنى مارى وجادل ، ولحد بمعنى مال وانحرف ، واختار الواحدي قراءة الجمهور قال : ولا يكاد يسمع لأحد بمعنى ملحد ، والإلحاد في أسمائه سبحانه أن يسمى بما لا توقيف فيه أو بما يوهم معنى فاسدا كما في قول أهل البدو يا أبا المكارم ، يا أبيض الوجه يا سخي ونحو ذلك ، فالمراد بالترك المأمور به الاجتناب عن ذلك ، وبأسمائه ما أطلقوه عليه تعالى وسموه به على زعمهم لا أسماؤه تعالى حقيقة ، وعلى ذلك يحمل ترك الإضمار بأن يقال : يلحدون بها ، وما قيل : إنه أريد بالأسماء التسميات فلذا ترك الإضمار ليس بشيء ، ومن فسر الإلحاد في الأسماء بما ذكر ذهب إلى أن أسماء اللّه تعالى توقيفية يراعى فيها الكتاب والسنة والإجماع فكل اسم ورد في هذه الأصول جاز إطلاقه عليه جل شأنه وما لم يرد فيها لا يجوز إطلاقه وإن صح معناه ، وبهذا صرح أبو القاسم القشيري في مفاتيح الحجج ومصابيح النهج ، وفي أبكار الأفكار للآمدي ليس مأخذ جواز تسميات الأسماء الحسنى دليلا عقليا ولا قياسا لفظيا وإلا لكان تسمية الرب تعالى فقيها عاقلا مع صحة معاني هذه التسميات في حقه وهي العلم والفقه أولى من تسميته سبحانه وتعالى بكثير مما يشكل ظاهره بل مأخذ ذلك إنما هو الإطلاق والإذن من الشارع فكل ما ورد الإذن به منه جوزناه وما ورد المنع منه منعناه وما لم يوجد فيه إطلاق ولا منع فقد قال بعض أصحابنا بالمنع منه وليس القول بالمنع مع عدم وروده أولى من القول بالجواز مع عدم وروده إذ المنع والجواز حكمان ، وليس إثبات أحدهما مع عدم الدليل أولى من الآخر بل الحق في ذلك هو الوقف وهو أنا لا نحكم بجواز ولا منع والمتبع في ذلك كله الظواهر الشرعية كما هو المتبع في سائر الأحكام وهو أن يكون ظاهرا في دلالته وفي صحته ولا يشترط فيه القطع كما ذهب إليه بعض الأصحاب لكون المنع والجواز
من الأحكام الشرعية ، والتفرقة بين حكم وحكم في اشتراط القطع في أحدهما دون الآخر تحكم لا دليل عليه انتهى ، وأنت تعلم أن المشهور التفرقة بين الأحكام الأصولية الاعتقادية والأحكام الفرعية العملية كما سنشير إليه إن شاء اللّه تعالى قريبا ، وخلاصة الكلام في هذا المقام أن علماء الإسلام اتفقوا على جواز إطلاق الأسماء والصفات على الباري تعالى إذا ورد بها الإذن من الشارع وعلى امتناعه إذا ورد المنع عنه ، واختلفوا حيث لا إذن ولا منع في جواز إطلاق ما كان سبحانه وتعالى متصفا بمعناه ولم يكن من الأسماء الاعلام الموضوعة في سائر اللغات إذ ليس جواز إطلاقها عليه تعالى محل نزاع لأحد ، ولم يكن إطلاقه موهما نقصا بل كان مشعرا بالمدح فمنعه جمهور أهل الحق مطلقا للخطر ، وجوزه المعتزلة مطلقا ، ومال إليه القاضي أبو بكر لشيوع إطلاق نحو خدا وتكرى من غير نكير فكان إجماعا ، وردّ بأن الإجماع كاف في الإذن الشرعي إذا ثبت.
واعترضه أيضا إمام الحرمين بأنه قول بالقياس وهو حجة في العمليات والأسماء والصفات من العمليات ، وروى بعضهم عنه التوقف ، وذكر في شرح المواقف أن القاضي أبا بكر ذهب إلى أن كل لفظ دل على معنى ثابت للّه تعالى جاز إطلاقه عليه إذا لم يكن موهما لما لا يليق بذاته تعالى ، ثم قال : وقد يقال : لا بد مع نفي ذلك الإيهام من الإشعار بالتعظيم حتى يصح الإطلاق بلا توقف وجعل مذهب المعتزلة غير مذهبه والمشهور ما ذكرناه.

روح المعاني ، ج 5 ، ص : 114
وفصل الغزالي قدس سره فجوز إطلاق الصفة وهو ما دل على معنى زائد على الذات ومنع إطلاق الاسم وهو ما يدل على نفس الذات محتجا بإباحة الصدق واستحبابه والصفة لتضمنها النسبة الخبرية راجعة إليه وهي لا تتوقف إلا على تحقق معناها بخلاف الاسم فإنه لا يتضمن النسبة الخبرية وأنه ليس إلا للأبوين أو من يجري مجراهما. وأجيب بأن ذلك حيث مانع من استعمال اللفظ الدال على تلك النسبة والخطر قائم ، وأين التراب من رب الأرباب؟.
واختار جمع من المتأخرين مذهب الجمهور قالوا : فيطلق ما سمع على الوجه الذي سمع ولا يتجاوز ذلك إلا في التعريف والتنكير سواء أوهم كالصبور والشكور والجبار والرحيم أو لم يوهم كالقادر والعالم ، والمراد بالسمعي ما ورد به كتاب أو سنة صحيحة أو إجماع لأنه غير خارج عنهما في التحقيق بخلاف الضعيفة والقياس أيضا إن قلنا : إن المسألة من العمليات أما إن قلنا : إنها من العمليات فالسنة الضعيفة كالحسنة الواهية جدا ، والقياس كالإجماع ، وأطلق بعضهم المنع في القياس وهو الظاهر لاحتمال إيهام أحد المترادفين دون الآخر.
وجعل بعضهم من الثابت بالقياس المترادفات من لغة أو لغات ، وليس بذاك ، ومن الثابت بالإجماع الصانع والموجود والواجب القديم ، قيل : والعلة ، وقيل : الصانع والقديم مسموعان كالحنان والمنان ، ونص بعض المحققين على أنه يمنع إطلاق غير المضاف إذا كان مرادفا للمضاف المسموع قياسا كما يمنع إطلاق ما ورد على وجه المشاكلة والمجاز ، وأنه لا يكفي ورود الفعل والمصدر ونحوهما في صحة إطلاق الوصف فلا يطلق الحارث والزارع والرامي والمستهزئ والمنزل والماكر عليه سبحانه وتعالى وإن جاءت آيات تشعر بذلك.
هذا ومن الناس من قال : إن الألفاظ على الصفات ثلاثة أقسام : الأول ما يدل على صفات واجبة وهو أصناف :
منها ما يصح إطلاقه مفردا لا مضافا نحو الموجود والأزلي والقديم وغيرها ، ومنها ما يصح إطلاقه مفردا ومضافا إلى ما لا هجنة فيه نحو الملك والمولى والرب والخالق. ومنها ما يصح مضافا غير مفرد نحو يا منشىء الرفات ومقيل العثرات ، والثاني ما يدل على صفات ممتنعة نحو اليد والوجه والنزول والمجيء فلا يصح إطلاقه البتة ، وإن ورد به السمع كان التأويل من اللوازم. والثالث ما لا يدل على صفات واجبة ولا ممتنعة بل يدل على معان ثابتة نحو المكر والخداع وأمثالهما فلا يصح إطلاقه إلا إذا ورد التوقيف ، ولا يقال : يا مكار يا خداع البتة وإن كان مذكورا ما يدل عليه كقوله تعالى : وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران : 54] انتهى ، ولا يخفى ما فيه. وذكر الطيبي أن الحق الاعتماد في الإطلاق على الإطلاق على التوقيف ، وأن كل ما أذن الشارع أن يدعى به اللّه عزّ وجلّ سواء كان مشتقا أو غير مشتق فهو اسم ، وكل ما نسب إليه سبحانه وتعالى من غير ذلك الوجه سواء كان مؤولا أو غير مؤول فهو وصف وجعل الحي وصفا والكريم اسما وادعى أنه يقال يا كريم ولا يقال يا حي مع ورود اللفظين فيه سبحانه وتعالى فيما
أخرجه أبو داود والترمذي من حديث سلمان رضي اللّه تعالى عنه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : «اللّه تعالى حيي كريم يستحيي إذا رفع العبد يده أن يردها صفرا حتى يضع فيها خيرا» ،
وذكر أن التعريف في الأسماء للعهد وأنه لا بد من المعهود لأنه سبحانه وتعالى أمر بالدعاء بها ونهى عن الدعاء بغيرها وأوعد على ذلك. وروى الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة أنه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «إن للّه تعالى تسعة وتسعين اسما من حفظها دخل الجنة» وفي رواية أحصاها ، وفي أخرى «إن للّه تعالى تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا»»
وأوتي فيه بالفذلكة والتأكيد لئلا يزاد على ما ورد. وجاءت معدودة في بعض الروايات
بقوله عليه الصلاة والسلام «هو اللّه لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مقدمة ابن الصلاح تقي الدين عثمان بن عبدالرحمن المعروف بابن الصلاح

     مقدمة ابن الصلاح  تقي الدين عثمان بن عبدالرحمن المعروف بابن الصلاح  يعد هذا الكتاب أشهر كتاب في علم مصطلح الحديث على الإطلاق ذكر في...